استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 243777
تحميل: 6837


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243777 / تحميل: 6837
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

 ( قال ) : وتعبيره بـ ( أُصيحابي أُصيحابي ) ثمّ تلاوته الآية المباركة ، يتضمّن معنى الشّفاعة لأصحابه .

( قال ) : واللّفظ المذكور وارد مِن طرق الإماميّة أيضاً ، فهم مُلْزَمون بذلك .

ويردّه :

أوّلاً : هذا اللفظ غير واردٍ في طرق أصحابنا الإماميّة أصلاً .

وثانياً : إنّ الاستدلال إنّما هو بما جاء في صحاح القوم خالياً مِن ذكر تلك الآية المباركة .

وثالثاً : إنّه لو فُرض وجود الآية المباركة في رواية أصحابنا ، فالآية غير مفيدة لمطلوب القوم ، ولا يتمّ لهم إلزامنا ، لِما ذكره علماؤنا في تفسيرها :

قال أبو عليّ الطبرسي :

( في هذا تسليم الأمر إلى مالكه وتفويضه إلى مدبّره وتبرٍّ مِن أن يكون إليه شيء مِن أمور قومه ، كما يقول الواحد منّا إذا تبرّء مِن تدبير أمر مِن الأمور ويريد تفويضه إلى غيره : هذا الأمر لا مدخل لي فيه ، فإنْ شئت فافعله وإنْ شئت فاتركه ، مع علمه وقطعه على أنّ أحد الأمرين لا يكون مِنه )(١) .

وقال السيّد المرتضى عَلَم الهدى :

(مسألة : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى حاكياً عن عيسىعليه‌السلام ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ؟ وكيف يجو هذا القول مع علمهعليه‌السلام بأنّه لا يغفر للكفّار ؟

الجواب : قلنا المعني بهذا الكلام تفويض الأمر إلى مالكه وتسليمه إلى مدبّره والتبرّي مِن أن يكون إليه شيء مِن أمور قومه، وعلى هذا يقول أحدنا إذا أراد أن يتبرّء مِن تدبير أمر مِن الأُمور ويسلم مِنه ويفوّض أمره إلى غيره : هذا الأمر لا مدخل لي فيه، فإنْ شئت أن تفعله وإن شئت أن تتركه ، مع علمه وقطعه على أن أحد الأمرين لا بدّ أن يكون مِنه ، وإنّما حسن مِنه ذلك لما

_______________________

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن ٣ : ٥٣٩ .

٣٨١

أخرج كلامه مخرج التفويض والتسليم )(١) .

وعلى الجملة ، فإنّ أصحابنا يستدلّون بهذه الأحاديث على ارتداد الصّحابة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعنى العام ، وأنّهم في الآخرة مِن أصحاب النار وبئس المصير ، فهي تدلّ على بطلان ما أسّسه القوم مِن عدالة الصحابة أجمعين... ومِن هنا ، فقد ذكرها العلاّمة تحت عنوان ( ما رواه الجمهور في حقّ الصّحابة ) كما تقدّم .

وروى الشيخ محمّد باقر المجلسي رحمه الله في كتاب ( بحار الأنوار ) عن كتاب الكافي :

(عن أبان عن الفُضَيْل عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال :إنّ الناس لمّا صنعوا ما صنعوا ، إذ بايعوا أبا بكر، لم يمنع أمير المؤمِنين مِن أن يدعو إلى نفسه إلاّ نظراً للناس وتخوّفاً عليهم أن يرتدّوا عن الإسلام ، فيعبدوا الأوثان ولا يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وكان الأحبّ إليه أن يُقرّهم على ما صنعوا مِن أن يرتدّوا عن الإسلام ، وإنّما هلك الذين ركِبوا ما ركِبوا ، فأمّا مَن لم يصنع ذلك ودخل فيما دخل فيه الناس على غير علم ولا عداوة لأمير المؤمِنين ، فإنّ ذلك لا يُكَفِّره ولا يخرجه مِن الإسلام ، فلذلك كتم على أمره وبايع مُكْرَهاً حيث لم يجد أعوان ) (٢) .

ثمّ قال :

(بيان ـ قولهعليه‌السلام : مِن أن يرتدّوا عن الإسلام أي عن ظاهره والتكلّم بالشهادتين ، فإبقاؤهم على ظاهر الإسلام كان صلاحاً للأُمّة ، ليكون أو

_______________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٠٤ .

(٢) الكافي ٨ : ٢٩٥ / ٤٥٤ .

٣٨٢

لأولادهم طريق إلى قبول الحقّ وإلى الدخول في الإيمان في كرور الأزمان ، وهذا لا ينافي ما مرّ وسيأتي أنّ الناس ارتدّوا إلاّ ثلاثة ؛ لأنّ المراد فيها ارتدادهم عن الدين واقعاً ، وهذا محمول على بقائهم على صورة الإسلام وظاهره ، وإن كانوا في أكثر الأحكام الواقعيّة في حكم الكفّار .

وخصّ هذا بمَن لم يسمع النصّ على أمير المؤمِنينعليه‌السلام ولم يُبْغضْه ولم يُعادِه ، فإن مَن فعل شيئاً مِن ذلك فقد أنكر قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفر ظاهراً أيضاً ، ولم يبق له شيء مِن أحكام الإسلام ووجب قتله )(١) .

فكلامه ـ رحمه الله ـ صريحٌ في دلالة الحديث على ارتداد عموم الصحابة بالمعنى العام للارتداد كما تقدَّم ،...

* ثمّ إنّ بعض المتعصّبين مِن القوم ذكر وجوهاً حاول بها تنزيل حديث الحوض على الصحابة الذين هم شيعة أمير المؤمِنينعليه‌السلام ، أعني : المقداد بن الأسود الكندي ، وأبي ذرّ الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وأمثالهم... ولمّا كانت هذه الدعوى في غاية الغرابة والسخافة ، كان مِن اللاّزم إيراد تلك الوجوه والنظر فيها بالتفصيل :

الوجه الأوّل

عن كتاب سُلَيم بن قيس الهلالي ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( ليجيئنّ قوم مِن أصحابي... ) (٢) وهذا اللفظ آبٍ عن التطبيق على أهل الردّة ؛ لأنّ المراد مِن ( الأصحاب ) إمّا المعنى اللغوي ، المفهوم عند العُرف العام

_______________________

(١) بحار الأنوار ٢٨ : ٢٥٥ .

(٢) كتاب سُلَيم بن قيس : ١٦٣ .

٣٨٣

وهو المصاحب الملازم ، أو المعنى الشرعي المشروط بالموت على الإسلام .

أمّا بالمعنى الأوّل فلا يصحّ إطلاقه على أهل الردّة ؛ لأنّهم كانوا مِن أهل الخلاف والشقاق ومِن أرباب العداوة والنفاق ، وما كانوا يجالسون رسول الله فضلاً عن أن يصاحبوه ، بل كانوا يكيدون له المكائد ، وقد قصدوا قتله غير مرّة ، كما في مفتريات الإماميّة ، ففي تفسير العيّاشي عن عبد الصمد بن بشير عن الصادقعليه‌السلام : ( قال :تدرون مات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو قتل ؟ إنّ الله يقول ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) فسُمَّ قبل الموت ، أنّهما سَقَتاه قبل الموت .

فقلنا : إنّهما وأبوهما شرّ مَن خَلَق الله .

وعن الحسين بن المنذر ، قال :

( سألتُ أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) القتل أم الموت ؟ فقال :يعني أصحابه الذين فعلوا ما فعلوا ) (١) .

وكما يروُونه في قضيّة العَقَبة عند عودتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن تبوك ، كرواية الطبرسي إذ قال :

( وفي كتاب دلائل النبوّة للشيخ أبي بكر أحمد البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ـ وذكر الإسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود ـ عن عروة قال : لمّا رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قافلاً مِن تبوك إلى المدينة ، حتى إذا كان ببعض الطريق ، مكر به ناس مِن أصحابه ، فتآمروا أن يطرحوه مِن عقبة في الطريق أرادوا أنْ يسلكوها معه ، فأُخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبرهم فقال :مَن شاء مِنكم أنّ يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم .

_______________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٢٠٠ .

٣٨٤

فأخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العقَبَة ، وأخذ الناس بطن الوادي ، إلاّ النفر الذين أرادوا المكر به ، استعدّوا وتلَثّموا ، وأمر رسول الله حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر ، فمشيا معه مشياً ، وأمر عمّاراً أنْ يأخذ بزمام الناقة وأخذ حذيفة يسوقها ، فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ركزة القوم مِن ورائهم قد غَشَوْه ، فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمر حذيفة أنْ يردّهم ، فرجع ومعه مِحْجَن ، فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها ضَرْباً بالمِحْجَن ، وأبصر القوم وهم متلثّمون ، فرعّبهم الله حين أبصروا حذيفة ، وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه ، فأسرعوا حتى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله ، فلمّا أدركه قال :اضرب الراحلة يا حذيفة ، وامش أنت يا عمّار .

فأسرعوا وخرجوا مِن العقَبَة ينتظرون الناس ، فقال النبيّ :يا حذيفة ، هل عرفت مِن هؤلاء الرهط ـ أو الركب ـ أحداً ؟ فقال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان ، وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :هل علمتم ما شأن الركب وما أرادوا ؟ فقالا : لا يا رسول الله قال :فإنّهم مكروا ليسيروا معي ، حتّى إذا أظلمّت بي العقبة طرحوني مِنها. قالا: أفلا تأمر بهم ـ يا رسول الله ـ إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم ؟ قال :أكره أنْ يتحدّث الناس ويقولون : إنّ محمداً قد وضع يده في أصحابه . فسمّاهم لهما وقال :أكتماهم .

وفي كتاب أبان بن عثمان : قال الأعمش : وكانوا اثني عشر ، سبعة مِن قريش )(١) .

_______________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٦٨ بتفسير الآية ٧٤ مِن سورة التوبة ، عن الزجّاج والواقدي والكلبي والقصّة مشروحة في كتاب الواقدي ، إعلام الورى بأعلام الهدى ١ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ط مؤسسة آل البيت ، دلائل النبوّة للبيهقي ٥ : ٢٥٩ ، البداية والنهاية ٥ : ٢٠ .

٣٨٥

ورواية شيخ مشايخهم الصدوق بالإسناد :

( عن حذيفة بن اليمان أنّه قال : الذين نفّروا برسول الله ناقته في منصرفه مِن تبوك أربعة عشر : أبو الشرور ، وأبو الدواهي ، وأبو المعازف ، وأبوه ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقّاص ، وأبو عبيدة ، وأبو الأعور ، والمغيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الرحمن بن عوف وهم الذين أنزل الله عزّ وجلّ فيهم( وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنالُوا ) )(١) .

وما في تفسير الإمام الحسن العسكري وغيره مِن كتبهم ، ممّا أورده صاحب البحار ، وترجمه إلى الفارسيّة في كتابه حياة القلوب .

وعلى الجملة ، فإنّ الحديث المذكور لا يشمل هؤلاء ، بناءً على الأُصول الموضوعة عند الإماميّة .

وأمّا بالمعنى الثاني ، فمِن البديهي أيضاً أن لا يكون المقصود هم الأصحاب بالمعنى الثاني ، فإنّه غير صادق على المرتدّين الذين حرّقوا بيت بنت سيّد المرسلين ، وحرّقوا آيات القرآن المبين ، وبدّلوا شعائر الدين وسلكوا مسلك إبليس اللّعين .

وإذا كان ( الأصحاب ) في الحديث لا يراد مِنهم المعنى الأوّل ولا المعنى الثاني ، فلا محالة يكون المراد مِن ( الأصحاب ) الجماعة المتّصفون بالإحداث ، وهم المشهورون عند الإماميّة بالمناقب والمحامد ، مثل صدّيق الإماميّة أعني أبا ذر ، وأخوهم الأكبر أعني سلمان المحمّدي ، وعمّار ، وحذيفة ، وابن مسعود ، وخزيمة ذي الشهادتين ، وعامر بن واثلة ، وسعد بن عبادة ، والعبّاس

_______________________

(١) الخصال : ٤٧٠ ، باب الأربعة عشر .

٣٨٦

عمّ أشرف الناسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبنائه...

فهؤلاء هم المقصودون بالحديث ، لا الذين توهّم المجلسي وأمثاله .

نَقْد الوجه الأوّل

إنّ حصر مفهوم ( الأصحاب ) في المعنيَيْن المذكورين هو : إمّا على أُصول الإماميّة ، وإمّا على أُصول جمهور العامّة .

فإن كان على أُصول الإماميّة ، فما الدليل على قولهم بذلك ؟ إنّهم لا يقولون بانحصار معنى هذه الكلمة في المعنيَيْن ، بل إنّ كلمة ( الصاحب ) لا تدلّ إطلاقاً على مدح أبداً ، وهذا هو العمدة ، ولذا صحّ إطلاقها عندهم على أهل الردّة وسائر أهل النّار مِن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومِن هنا تراهم يناقشون في دلالة آية الغار على حُسْن حال أبي بكر مِن جهة وصفه بـ ( الصاحب ) ، وقد أخذوا ذلك مِن المعصومعليه‌السلام كما في بعض الأخبار(١) .

وإنْ كان دعوى حصر مفهوم ( الصاحب ) في المعنيَيْن بناءً على أُصول أهل السنّة ، فذِكْر مبناهم أمام الإماميّة في مقام الإلزام دليل على قلّة الفهم !! فإنّه إذا كانت الكلمة منحصرةً في المعنيَيْن ، ولا شيء مِنهما بصادقٍ على الشَيْخَيْن ، فما الملزم للإماميّة بأنْ لا يقولوا بانطباق الحديث عليهما ؟

وعلى الجملة ، فإنّ الإماميّة لا يرون انحصار معنى الكلمة في المعنيَيْن المزبورين ، فلا يكون حديث الحوض آبياً عن الانطباق على الخلفاء وعلى المرتدّين ، بل يصدق على هؤلاء وهؤلاء ويطابق أحوالهم جميعاً ، والمراد مِن

_______________________

(١) انظر : البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٧٧٧ ط مؤسّسة البعثة .

٣٨٧

( الأصحاب ) هنا مطلق المصاحبين ، ولا دلالة لمجرّد الصحبة على الشرف والفضيلة الدينيّة... فإنّ كلّ مَن كان يصاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجالسه في الظاهر يصدق عليه عنوان ( الصاحب ) ؛ كافراً كان أو مسلماً ، مؤمِناً كان أو منافقاً ، معادياً كان أو مخلصاً ، فلا منافاة بين( الصحبة ) و ( الرِدّة ) ، ولا منافاة بين( الصحبة ) و ( المكر والخديعة والدسيسة لقتل رسول الله ) في( العقبة ) وغيرها .

ثمّ إنّ ما زعمه مِن كون الأخبار في سعي القوم في قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولا سيّما قصّة( العقبة ) ـ أخباراً مفتريات ، فالأصل فيه قولهم بأنّ الخلفاء وأتباعهم كانوا مِن الصحابة المخلصين لرسول الله ، الواصلين إلى أقصى مدارج الإيمان والتقوى والعرفان ، ممّا هو أوّل الكلام عند الإماميّة ، ومِن الطبيعي أنْ لا يقول الخصم بصحّة ما يدلّ على بطلان مذهبه !!

الوجه الثاني

إنّ حديث الحوض يشتمل على قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا ربّ أصحابي ) مرّة أو مرّتين ، وهذا ظاهر في الشفاعة لهم ، ومِن الواضح أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوف لا يشفع في القيامة للظالمين والغاصبين والكفرة والمرتدّين ، فلا يعمّ حديث الحوض أهل السّقيفة وأتباعهم .

نَقْد هذا الوجه

ويرد

عليه بعد التسليم بدلالة ذلك على الشفاعة ، إنّ الشّفاعة الممنوعة في حقّ الظالمين والغاصبين والمرتدّين ، هي الشفاعة التي تُرتجى فيها الإجابة ، والغرض مِنها تخليص المشفوع له مِن العذاب وإنقاذه مِن الهلكة ، وهكذا شفاعة في حقّ أصحاب حديث الحوض غير ثابتة ، بل الشفاعة ـ المفروض صدورها مِنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ هؤلاء ـ الغرض مِنها تفضيحهم على رؤوس الأشهاد وإظهار شناعة حالهم لأهل القيامة والمعاد .

٣٨٨

إنّ مَن له أدنى إلمام بالأحاديث النبويّة وأقلّ تأمّل في الآيات القرآنيّة ، لَيعلم بأنّ الأنبياء والأوصياء قد تصدر مِنهم أُمور تُوهم عدم اطّلاعهم على الأُمور الواقعيّة والحقائق كما هي .

لكنّ الغرض مِن ذلك شيء آخر ، ويترتّب عليه مصلحة عظمى ، كما في سؤال موسىعليه‌السلام مِن الله أن ينظر إليه ، فإنّه كان يعلم باستحالة ذلك ، لكنّه أراد أن يُسمع الناس الاستحالة مِن الله ، كما قال السيّد المرتضى في كتاب ( تنزيه الأنبياء ) إذ جاء فيه الكلام على قوله تعالى :( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) قال :

( أولى ما أُجيب به عن هذه الآية أنْ يكون موسىعليه‌السلام لم يسأل الرؤية لنفسه وإنّما سألها لقومه ، فقد روي أن قومه طلبوا ذلك مِنه ، فأجابهم بأنّ الرؤية لا تجوز عليه تعالى ، فلجّوا به وألحّوا عليه في أن يسأل الله تعالى أن يريهم نفسه ، وغلب في ظنّه أنّ الجواب إذا ورد مِن جهته جلّت عظمته كانت أحسم للشبهة وأنفى لها ، واختار السبعين الذين حضروا الميقات ليكون المسألة بمحضر مِنهم فيعرفوا ما يرد مِن الجواب ، فسألهعليه‌السلام على ما نطق به القرآن ، وأُجيب بما يدلّ على أنّ الرؤية لا تجوز عليه عزّ وجلّ )(١) .

وكما في قول الله عزّ وجلّ لإبراهيمعليه‌السلام ـ لمّا طلب مِنه أن يُرِيَه كيف يُحْيي الموتى ـ :( أَوَلَمْ تُؤْمِن ) مع أنّهعليه‌السلام كان أفضل أهل

_______________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٧٥ .

٣٨٩

الإيمان ، والله أعلم بحاله ، لكنّ الغرض مِن طلبه ، ومِن سؤاله تعالى مِنه عن إيمانه ، شيء آخر أُريد بيانه للناس ، وقد نبّه على ذلك المفسّرون بتفسير الآية المباركة... قال البيضاوي :

( قال له ذلك وقد علم أنّه أعْرَق الناس في الإيمان ؛ ليجيب بما أجاب فيعلم السامعون غرضه )(١) .

هذا ، وإنّ بعض ألفاظ حديث الحوض ظاهر فيما ذكرناه ، ومِن ذلك : ما أخرجه مسلم :

( حدّثنا يونس بن عبد الأعلى الصّدفي : أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو ـ وهو ابن الحارث ـ أنّ بكيراً حدّثه عن القاسم بن عبّاس الهاشمي ، عن عبد الله بن رافع مولى أُمّ سَلَمة عن أُمّ سلمة زوج النبيّ أنّها قالت : كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك مِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا كان يوماً مِن ذلك والجارية تمشّطني ، فسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :أيّها الناس ، فقلت للجارية : استأخري عنّي ، قالت : إنّما دعا الرجال ولم يَدْعُ النساء، فقلت : إنّي مِن الناس ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّي لكم فُرْط على الحوض ، فإيّاي لا يأتينّ أحدكم فيُذبّ عنّي كما يُذبّ البعير الضالّ ، فأقول : فبِمَ هذا ؟ فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سُحْقاً ) (٢) .

فإنّ السؤال في هذا الحديث غير محمول على الاستفهام الحقيقي قطعاً ، وإنّما يُحمل على إظهار إحداث القوم مِن بعده ، وأنّ ذلك سبب ذَوْدِهم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك :

أوّلاً : لأنّ ذبَّ القوم عن رسول الله وسَوْقهم إلى جهنّم يكون بأمرٍ مِن الله تعالى ، فلا وجه لسؤاله عن السبب إلاّ تفضيح القوم وهتك أستارهم .

وثانياً : لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على عِلمٍ بسبب ذَودِ القوم عنه ، كما هو مفاد هذا الحديث أيضاً ، فلا يكون سؤاله عن السبب إلاّ لمصلحةٍ ، وإلاّ لزم اللّغو ، وتلك المصلحة ليست إلاّ إظهار ارتداد القوم وإحداثهم الموجب للدخول في النار .

_______________________

(١) تفسير البيضاوي ١ : ١٣٦ .

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١٧٩٥ / ٢٢٩٥ .

٣٩٠

وعلى هذا أيضاً يُحمل قوله ـ في بعض الألفاظ ـ ( أصحابي أصحابي ) .

وممّا يشهد بما ذكرناه ـ مِن عدم استحقاق القوم للشفاعة الحقيقيّة ، وأنّ قول رسول الله ذلك إنّما هو لتفضيحهم في يوم القيامة ـ أخبارٌ مرويّة في كتب أهل السنّة :

مِنها : ما رواه السمهودي في ( جواهر العقدَين ) قال :

( أخبرني الشيخ الإمام العلاّمة المحقّق شيخ المالكيّة في زمنها شهاب الدين أحمد بن يونس القسطنطيني المغربي ، نزيل الحرمين الشريفين ـ في مجاورته بالمدينة النبويّة سنة خمس وسبعين وثمانمأة ـ أنّ بعض مشائخه الأثبات ممّن يثق به أخبره : أنّ شخصاً مِن أعيان المغاربة عزم على التوجّه مِن بلاده إلى الحجّ قال : فأحضر إليه شخص مِن أهل الثروة مبلغاً ـ أظنّه قال إنّه مائة دينار ـ وقال له : إذا وصلت إلى المدينة النبويّة ، فاسأل عن شخص مِن الأشراف يكون صحيح النَسَب فتدفع إليه ذلك، عسى أن يكون لي بذلك وُصلة بجدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال : فلمّا رجع إليهم ذلك المغربي أخبر : أنّه قَدِم المدينة وسأل عن أشرافها .

فقيل : إنّ نَسَبَهم صحيح غير أنّهم مِن الشيعة الذين يسبّون .

قال : فكرهت دَفْع ذلك لأحدٍ مِنهم .

قال : ثمّ جلس إلى واحد مِنهم وقال : جلست إليه فسألت عن مذهبه .

فقال : شيعي .

فقلت له : لو كنتَ مِن أهل السنّة لدفعت إليك مبلغاً عندي .

قال : فشكى فاقةً وشدّة حاجة ، يسألني شيئاً مِنه .

فقلت له : لا سبيل إلى أن أعطيك شيئاً مِنه. فذهب عنّي .

قال : فلمّا نمت تلك الليلة ، رأيت أنّ القيامة قامت والناس يجوزون على الصراط ، فأردت أن أجوز ، فأمَرَتْ فاطمة رضي الله عنها بمنعي ، فصرت أستغيث فلا أجد مغيثاً ، حتّى أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستغثت به وقلت :

يا رسول الله ، فاطمة تمنعني الجواز على الصراط .

٣٩١

فالتفت إليهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : لم منعتِ هذا ؟

فقالت : لأنّه منع وَلَدي رزقه .

قال : فالتفت وقال : قد قالت إنّك منعتَ ولدها رزقه ؟

فقلت : والله يا رسول الله ، ما منعتُه إلاّ أنّه يسبّ الشَيْخَين رضي الله عنهما !

فالتفتت فاطمة رضي الله عنها إلى الشيخين وقالت لهما : أتؤاخذان ولدي بذلك ؟

فقالا : لا بل سامحناه بذلك .

قال : فالتفتت إليّ وقالت : فما أدخلك بين ولدي وبين الشيخين ؟

فانتبهت فزعاً ، فأخذت المبلغ وجئت به إلى ذلك الشريف فدفعت له... )(١) .

وذكر أبو العبّاس القرطبي في ( شرح صحيح مسلم ) بشرح حديث صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عبد الله بن أبي سلول : أنّ الاستغفار على قسمين ، فمِنه حقيقي ، ومِنه غير حقيقي وإنّما يكون لغرضٍ آخر ، قال :

( وقولهعليه‌السلام : إنّي خُيّرت ، مشكل ، مع قوله تعالى :( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى ) الآية ، نزلت بعد موت أبي طالب حين قالعليه‌السلام : والله لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك ، وهذا يفهم مِنه النهي عن الاستغفار لمَن مات كافراً ، وهو متقدّم على الآية التي فهم مِنها التخيير .

والجواب عن الإشكال : إنّ المنهي عنه في هذه الآية استغفار مرجوّ الإجابة ، حتّى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم كما فعل بأبي طالب ، فإنّه إنّما استغفر له كما استغفر إبراهيم لأبيه على جهة أن يجيبهما الله فيغفر للمدعوّ لهما ، وفي هذا الاستغفار استأذن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه في أن يأذن له فيه لأُمّه فلم يؤذن له فيه ، فهذا النوع هو الذي تناوله منْع الله تعالى ونهيه .

وأمّا الاستغفار لأولئك المنافقين الذين خُيّر فيه استغفار لساني ، عَلِم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لا يقع ولا ينفع وغايته لو وقع تطييب قلوب بعض الأحياء مِن قرابات المستغفر لهم ، فانفصل المنهي عنه مِن المخيّر فيه وارتفع الإشكال والحمد لله )(٢) .

_______________________

(١) جواهر العقْدَين ١ : ٢٦٩ / ق٢ .

(٢) المفهم ـ شرح صحيح مسلم ٢ : ٦٤١ .

٣٩٢

وقوله : إنّه لو كان أهل السقيفة وأتباعهم كفّاراً مخلَّدين في النّار ، فلا يشفعُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم ، لعدم جواز الشفاعة للكفّار ، لكنّه سيشفع لهم ، فليسوا بكفّار...

كلامٌ ساقط ، إذ قد عرفت أنّ الحديث لو دلَّ على الشفاعة فالغرض مِنها تفضيح القوم لا الشفاعة الواقعيّة .

على أنّ هذا الكلام يدلُّ على جهل هذا القائل بروايات قومه ، الصّريحة في شفاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للكفّار يوم القيامة ، إلاّ أنّها لا تُقبل :

( أخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن ميمون : أنّ كعباًرضي‌الله‌عنه دخل يوماً على عمر بن الخطّاب ، فقال له عمر : حدّثني إلى ما ينتهي شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة ، فقال كعبرضي‌الله‌عنه : قد أخبرك الله في القرآن إنّ الله يقول :( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) إلى قوله( الْمُصَلِّينَ ) قال كعبرضي‌الله‌عنه : فيشفع يومئذٍ حتّى يبلغ مَن لم يُصلّ صلاةً قط ، ولم يُطعِم مسكيناً قط ، ولم يؤمِن ببعث قط ، فإذا بلغت هؤلاء لم يبق أحد فيه خير )(١) .

وكذلك رَوَوا عن سائر الأنبياء... ففي البخاري :

( عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصِني ؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول : يا ربّ ، إنّك وعدتني أنْ لا تخزيني يوم يُبعَثون ؟ فأيّ خِزيٍ أخزى مِن أبي الأبعد ، فيقول الله : إنّي حرّمت

_______________________

(١) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور ٨ : ٣٣٧ .

٣٩٣

الجنّة على الكافرين )(١) .

وإذا كان القوم يرْوون في صحاحهم مثل هذا الحديث الدالّ على شفاعة النبيّ لكافرٍ حقيقي بزعمهم ، ولا بدّ وأن يكون لمصلحة ، فأيّ مانع مِن أن يشفع لأصحابه بقوله ( أصحابي أصحابي ) لمصلحةٍ تقتضي ذلك ؟

على أنّ غير واحدٍ مِن أعلام القوم قالوا ـ في مقام الجواب عن استدلال أصحابنا بحديث الحوض على سوء حال الصحابة في الآخرة ـ بأنّ حديث الحوض وارد بحقّ الكفّار والمرتدّين ، فإذا كان يدلّ على الشفاعة ، فستكون للكفّار والمرتدّين... فكيف يقال بأنّها محرّمة في حقّ الكفّار والمرتدّين؟

والحاصل : إنّ هذه الشفاعة إن كانت حقيقيّة فلا تكون للكفّار وأهل الردّة ، وإنْ كانت ظاهريّة ـ ولمصلحةٍ أُخرى ـ فلا يأبى حديث الحوض عن الشمول لأهل السقيفة وأنصارهم...

الوجه الثالث

إنّ تصغير لفظ ( أصحابي ) ـ كما ورد في كتاب سُلَيم وبعض كتب الإماميّة ـ لمّا لم يكن مِن أجل تقليل عدد الأصحاب يقيناً ، فالمراد مِنه الإشفاق والاستعطاف ، نظير قولهم : يا بُنيّ ، وأمثاله... فالشيخان وأحزابهما يقعون في القيامة موقع الاستعطاف... فكيف يروي الإماميّة مثل هذا الحديث ، ثمّ يقولون بخلود الشيخَين وأتباعهما في النار ؟

وإذا كانوا يَرْوون عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ شفاعته لا تنال مَن آذى أهل بيته وذرّيّته... فإنّ مقتضى اللّفظ المذكور في حديث الحوض أنّ

_______________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٢٧٧ .

٣٩٤

القوم لم يكونوا قد آذَوا أهل بيته ، فيبطل كلّ ما يَرْوونه ويزعمونه في باب إيذاء الصحابة لأهل بيت النبيّ .

نَقْد الوجه الثالث

إنّ أساس هذا الوجه ورود لفظ ( أُصيحابي ) في رواية أصحابنا الإماميّة ، وهذا افتراء محض ، فاللّفظ المذكور غير وارد في شيء مِن رواياتنا ، ودعوى وجوده في خبر كتاب سُلَيم كاذبة ، فنسخة كتاب سُلَيم الموجودة عندنا ـ وهي نسخة قديمة جدّاً ـ هي بلفظ ( أصحابي ) وكذا الخبر في كتاب ( البحار ) نقلاً عن كتاب سُلَيم لكنّ القوم مِن عادتهم الكذب والافتراء ، وقد تقدّم في الكتاب التنبيه على موارد مِن هذا القبيل كثيرة .

وعلى فرض وجود لفظ ( أُصيحابي ) في روايات أهل الحقّ ، فغاية ما يدّعى هو دلالة هذا اللّفظ على الشفقة والعطف مِن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى القوم ، فيكون مآل هذا الوجه إلى الوجه السابق ، وقد عرفت أنْ لا مانع مِن ذلك ؛ لكونه لمصلحة تفضيح القوم وظهور سوء حالهم وعدم شمول الشفاعة لهم .

هذا ، وقد تكرّر مِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفضيح المشايخ على رؤوس الأشهاد في الدنيا ، وكان ذلك مِنه في مواطن عديدة معهم ، مِن أشهرها قضيّة إبلاغ سورة براءة ، هذه القضيّة التي رواها أئمّة القوم وكبار حفّاظهم أمثال :

الترمذي ، وأحمد ، وعبد الله بن أحمد ، والطبري ، والبغوي ، والنيسابوري ، والنسائي ، والسهيلي ، والثعلبي ، والحاكم ، وابن مردويه ، وابن أبي شيبة ، وابن حبّان ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي عوانة ، والطبراني ، والدارقطني ، والبيهقي، وابن حجر العسقلاني ، والقسطلاني ، والعيني ، وابن كثير وغيرهم ...

٣٩٥

وهذا أحد ألفاظه كما أخرجه النسائي قال :

( أخبرنا العبّاس بن محمّد الدوري ، قال : حدّثنا أبو نوح قراءةً ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن بثيع ، عن عليّرضي‌الله‌عنه : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث ببراءة إلى أهل مكّة مع أبي بكر ، ثمّ أتبعه بعليّ ، فقال له : خذ الكتاب فامض به إلى مكّة ، قال : فلحقته فأخذت الكتاب مِنه ، فانصرف أبو بكر ـ وهو كئيب ـ فقال : يا رسول الله ، أَنَزَل فيَّ شيء ؟ قال : لا ، إلاّ أنّي أُمرت أن أُبلّغه أنا أو رجل مِن أهل بيتي .

أخبرنا زكريّا بن يحيى قال : حدّثنا عبد الله بن عمر قال : حدّثنا أسباط ، عن فطر ، عن عبد الله بن شريك ، عن عبد الله بن رقيم ، عن سعد ، قال : بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر ببراءة ، حتّى إذا كان ببعض الطريق ، أرسل عليّاً فأخذها مِنه ، ثمّ سار بها ، فوجد أبو بكر في نفسه فقال : قال رسول الله : إنّه لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجل مِني )(١) .

وتلخَّص : أنْ لا منافاة بين إظهار الشفقة ، وطلب الرحمة ، لمصلحة الإعلان عن خسران القوم وخلودهم في العذاب الأليم... وما ذكره مِن أنّ الشفاعة لا تكون للمخلَّدين في الجحيم ، مردود بما جاء في شرح الحديث مِن كتب أصحابه ، فإنّهم لمّا ادّعوا أنّ المراد مِن حديث الحوض هم المرتدّون الذين حاربهم أبو بكر ، نصّوا عل موت هؤلاء المرتدّين على الكفر قال ابن حجر :

_______________________

(١) خصائص عليّ : ١١٤ / ٧٧ .

٣٩٦

( هم الذين ارتدّوا على عهد أبي بكر ، فقاتلهم أبو بكر حتّى قتلوا وماتوا على الكفر )(١) .

وقال الكرماني :( سحقاً ، أي بعداً ، وكرّر للتأكيد ، وهو نَصْبٌ على المصدر ، وهذا مشعر بأنّهم مرتدّون عن الدين ؛ لأنّه يشفع للعصاة ويهتمّ بأمرهم ولا يقول لهم مثل ذلك )(٢) .

الوجه الرابع

كلمة ( لا تدري ) ـ في حديث الحوض ـ نصٌّ في نفي علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإحداث الأصحاب في الدين مِن بعده ، ولا أحد مِن المسلمين يجوّز الكذب على الله ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، لكنّ عدم علم النبيّ ينافي ما ثبت بالضرورة مِن مذهب الإماميّة مِن أنّه كان عالماً بأحوال الغاصبين ـ الكليّة والجزئيّة ـ وأنّه قد أخبر أهل بيته الطاهرين بجميع تلك الحقائق .

فلو كان المراد مِن ( الأصحاب ) في ( حديث الحوض ) هم ( أهل السقيفة ) عاد المحذور ، واللاّزم باطل عند جميع المليّين، فالملزوم مثله .

والروايات الموضوعة في كتبهم لإثبات الدعوى المذكورة ، كثيرة جدّاً .

نَقْد هذه الوجه

أوّلاً : مذهب الإماميّة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم جميع ما في هذا العالم وأحوال أهله مطلقاً ، وفي كتب أهل السنّة أيضاً تصريحاتٌ

_______________________

(١) فتح الباري في شرح البخاري ١١ : ٣٢٤ ، كتاب الرقاق ، باب الحشر .

(٢) الكواكب الدراري في شرح البخاري ٢٣ : ٦٧ ، كتاب الرقاق ، باب الحوض .

٣٩٧

بهذا الاعتقاد .

ففي ( حاشية شرح عقائد العضدي ) للشيخ محسن الكشميري :

( واعلم أنّ المراد الرؤية في عالم التكليف ، فلا يشكل بما روي أنّهعليه‌السلام رأى ليلة المعراج جميع الأمّة في عالم الأرواح والمثال ، ولا بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبره حيّ يرى جميع الأُمّة )(١) .

وفي ( المواهب اللدنيّة ) :

( قد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيّب : ليس يوم إلاّ ويُعْرَض على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعمال أُمّته غُدْوةً وعشيّةً ، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم ، فلذلك يشهد عليهم )(٢) .

وفي ( جامع مسانيد أبي حنيفة ) بعد أنْ أورد ما حكاه الخطيب عن أحمد ابن الحسن الترمذي أنّه قال :

( رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فقلت له : يا رسول الله ، ما ترى ما فيه الناس مِن الاختلاف ؟ قال : في أيّ شيء ؟ قلت : فيما بين أبي حنيفة ومالك والشافعي فقال : أمّا أبو حنيفة فلا أعرفه ، وأما مالك فكتب العِلْم ، وأمّا الشافعي فمنّي وإليّ ) .

قال الخوارزمي :

( صحّ في الحديث أنّه يُعْرَض على رسول الله أعمال أُمّته يوم الاثنين والخميس فكيف لا يعرفه ؟ وإنّهعليه‌السلام يعرف كلّ برٍّ وفاجر تُعْرَض

_______________________

(١) الحاشية على شرح العقائد ـ تعريف الصحابي .

(٢) شرح المواهب اللدنيّة بالمِنَح المحمّدية ٥ : ٣٣٧ ، القسم الرابع : ما اختصّ (ص) به مِن الفضائل والكرامات .

٣٩٨

أعماله عليه ، فكيف لا يعرف أبا حنيفة وأعمال أكثر أُمّته على مذهبه ؟... )(١) .

وثانياً : إنّ ما ذكره معارَض بأنّه إذا كان نفي عِلْم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتداد القوم ، دليلاً على عدم انطباق الحديث على أهل السقيفة وأصحابهم ، فإنّه يكون دليلاً كذلك على عدم انطباقه على سلمان وأبي ذر وعمّار وغيرهم أيضاً ؛ لأنّ أعمال هؤلاء أيضاً معروضة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو عالم بأحوالهم ، فيلزم الكذب في ( إنّك لا تدري ) .

بل إنّ مقتضى أحاديث عَرْض أعمال الأُمّة عليه ، عدم انطباق حديث الحوض على أحدٍ مِن أفرادها مطلقاً ، وإلاّ لزم الكذب في حديث الحوض...

وثالثاً : إنّ الصحيح رفع اليد عن ظهور ( لا تدري ) في نفي العلم ، وحمله على ظاهره غير صحيح قطعاً ، لدلالة نفس حديث الحوض على علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتداد القوم مِن بعده ؛ فلا يأخذ بظاهر كلمة ( لا تدري ) إلاّ الجاهل الغبي ، أو المتعصّب المفتري !

ورابعاً : إنّ المعاني المحتملة في لفظ ( لا تدري ) في ( حديث الحوض ) عديدة :

مِنها : أنْ يكون الاستفهام في ( إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) إنكاريّاً ، أي : ألا تعلم بارتداد هؤلاء وما أحدثوا في الدين مِن بعدك ؟ فهؤلاء لا يستحقّون الشفاعة مِنك ، بل هم في العذاب خالدون .

ومِنها : أنْ يكون المراد نفي درايته بحسب الظاهر ، أي : إنّ ظواهر الأحوال تقتضي أنْ لا تعلم بما كان مِنهم ، لخروجك مِن هذا العالم قبل وقوع تلك الأُمور .

_______________________

(١) جامع مسانيد أبي حنيفة ١ : ٦٤ .

٣٩٩

ومِنها : أنْ يكون المراد نفي الدراية بالإدراك الظاهري ، أي : إنّك لم تَرَ بعينك ما صنعوا ، وإنْ كنت عالماً به بإعلام الله تعالى .

ومِنها : أن يكون المراد سلب دراية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك بحسب مُعْتقَد بعض الحاضرين ، كما عليه جماعة أهل السنّة المنكِرين لعِلْم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأُمور تفصيلاً ، فيسلب دراية النبيّ بذلك حسب معتَقدهم تقبيحاً لهذا الاعتقاد .

ومِنها : حمْل سلْب الدراية ونفي العلم على المبالغة ، أي : إنّك تشفع لهؤلاء القوم وكأنّك لا تدري بأحوالهم مِن بعدك ؟

ومِنها : أنْ يكون المعنى : إنّك لا تدري كما ندري ، إذ لا ريب في أنّ علم الله تعالى أوسع وأفضل مِن علم مَن سِواه حتّى الأنبياء .

وبعد ورود هذه الاحتمالات كيف يكون الكلام نصّاً في جهل النبيّ ؟

وكيف يكون الحديث نصّاً في جهله بما سيكون مِن بعده وهو دليلٌ على علمه بذلك ؟

وإذا كان نصّاً في جهله مع ذلك ، لزوم تجويز الكذب على الله ، وهذا ما لا يتفوّه به مسلم كما قال ، فافهم !!

لكنّ أهل السنّة يجوّزون جميع القبائح على الله ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً... فيكون صدور الكذب جائزاً عليه...

مضافاً إلى تصريح بعضهم بجواز الكذب عليه... فقد جاء في ( شرح العقائد العضديّة ) للدواني ما نصّه :

( واعلم أنّ بعض العلماء ذهب إلى أنّ الخُلف في الوعيد جائز على الله تعالى ، وممّن صرّح به الواحدي في التفسير الوسيط في قوله تعالى في سورةالنساء : ( ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ) الآية حيث قال : والأصل في هذا أنّ الله تعالى يجوز أن يُخْلِف في الوعيد، وإن كان لا يجوز أن يُخْلِف في الوعد ، وبهذا أُوردت السنّة مِن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمّد الأصفهاني السنجري ، حدّثنا عبد الله بن محمّد الأصفهاني وزكريّا بن يحيى الساجي وأبو حفص جعفر السلمي وأبو يعلى الموصلي قالوا : حدّثنا هدية بنت خالد ، حدّثنا سهيل بن أبي حرم ، حدّثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مَن وعده الله تعالى على عمله ثواباً فهو منجز له ومَن أوعده على عمله عقاباً فهو بالخيار .

٤٠٠