حوار في التسامح والعنف

حوار في التسامح والعنف0%

حوار في التسامح والعنف مؤلف:
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 136

حوار في التسامح والعنف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
تصنيف: الصفحات: 136
المشاهدات: 55500
تحميل: 6956

توضيحات:

حوار في التسامح والعنف
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 136 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55500 / تحميل: 6956
الحجم الحجم الحجم
حوار في التسامح والعنف

حوار في التسامح والعنف

مؤلف:
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بينهم قالوا : بل نُحاكمهم إلى كعب، فذلك قوله :( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) .

الكُفر بالطاغوت :

ومعنى الكفر بالطاغوت التَبرِّي من الطاغوت ورفضه وجحوده. يقول الراغب الأصفهاني في ( المفردات ) : وقد يعبَّر عن التبرِّي بالكفر نحو :( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ) (٢) ، وقوله تعالى :( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي ) (٣) ، ويُقال : كفر فلان بالشيطان، إذا آمن وخالف الشيطان، كقوله تعالى :( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ) (٤) ، والكفر في هذه الآية لا يتمُّ بعقد القلب فقط، وإنَّما بالمجابهة ومواجهة الطاغوت، كما يقول السيد الطباطبائيرحمه‌الله في تفسير ( الميزان ).

وقد ورد التعبير عن هذه الحالة في سورة النحل، في الآية السادسة والثلاثين باجتناب الطاغوت، يقول تعالى :

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (٥) ،

____________________

(١) السيوطي، الدرُّ المنثور، ج٢، ص١٧٩.

(٢) سورة العنكبوت : الآية ٢٥.

(٣) سورة إبراهيم : الآية ٢٢.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٥٦.

(٥) سورة النحل : الآية ٣٦.

٦١

والاجتناب أن يعزل المسلم موقعه وحسابه عن موقع الطاغوت وصفّه ونظامه ونفوذه، ويُعلن انفصاله عن الطاغوت وبراءته عنه.

عبادة الطاغوت :

وفي مقابل ( الكفر ) بالطاغوت والتبرِّي عنه و( اجتنابه ) يأتي مفهوم ( عبادة ) الطاغوت، وعبادته هو طاعته، يقول تعالى :( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى ) (١) .

وعبادة الطاغوت : طاعته والانقياد إليه.

وقد ورد في ( تفسير علي بن إبراهيم ) : ( مَن أطاع جبَّاراً فقد عبده )(٢) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : ( مرَّ عيسى بن مريم على قرية قد مات أهلها فأحيى أحدهم، وقال له : ويْحَكُمْ ! ما كانت أعمالكم ؟ قال : عبادة الطاغوت، وحبُّ الدنيا. قال : كيف كانت عبادتكم للطاغوت ؟ قال : الطاعة لأهل المعاصي )(٣) .

إذاً؛ قد حرَّم الله تعالى على عباده قبول التحاكم إلى الطاغوت والركون إليه، وأمر بالتبرِّي منه واجتنابه، في حق أو باطل، فإنَّ الركون إليه طاعته حتى في غير معصية الله إسناد ودعم له، وتمكين له من رقاب المسلمين.

____________________

(١) سورة الزمر : الآية ١٧.

(٢) نور الثقلين، ج٤، ص٤٨١.

(٣) نور الثقلين، ج٥، ص٥٣١، ميزان الحكمة، ج٥، ص٥٤٣.

٦٢

وقد ورد في مقبولة عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلُّ ذلك ؟ قال : ( مَن تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنَّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يُحكم له، فإنَّما يأخذ سُحتاً، وإن كان حقَّاً ثابتاً له؛ لأنَّه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به، قال تعالى :( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) )(١) .

آية النهي عن الركون إلى الظالمين :

يقول تعالى :( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٢) . والركون - كما يقول أئمة اللغة - : هو ( الإدِّهان(٣) ، الحبّ، المودّة، الطاعة، الرضا، الميل، الاستعانة، الدنو ).

ويقول الزمخشري في تفسير هذه الآية : ( أركنه إذا أماله، والنهي يتناول الانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم، ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبُّه بهم والتزيِّي بزيِّهم ومدّ العين إليهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وحُكي أنَّ الموفق صلَّى خلف الإمام، فقرأ بهذه

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١٨، ص٩٨ - ٩٩.

(٢) سورة هود : الآية ١١٣.

(٣) الإدِّهان : المصانعة.

٦٣

الآية :( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ، فغشي عليه، فلمَّا أفاق قيل له، فقال : هذا في مَن ركن إلى مَن ظلم، فكيف بالظالم ؟! )(١) .

ويقول القرطبي - في تفسير الآية( وَلاَ تَرْكَنُوا ) - : الركون حقيقةً الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، قال قتادة : معناه : لا تودُّوهم ولا تُطيعوهم. ابن جريح : لا تميلوا إليهم. أبو العالية : لا ترضوا أعمالهم. وكلُّه متقارب. وقال ابن زيد : الركون هو الإدهان ( المصانعة ).

ويقول في تفسير( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) قيل : أهل الشرك. وقيل : عامّة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى :( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ) وقد تقدَّم. وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنَّها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم(٢) .

وقال ابن كثير في التفسير : في تفسير قوله تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) عن ابن عباس لا تُداهنوا قال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم. وقال ابن جرير عن ابن عباس : تميلوا إلى الذين ظلموا. وهذا القول حسن : أي لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنَّكم قد رضيتم بأعمالهم( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٣) .

ويقول السيد قطب - في تفسيره ( في ظلال القرآن ) في تفسير

____________________

(١) الزمخشري، الكشَّاف، ٤٣٣.

(٢) أبو عبد الله القرطبي، جامع البيان لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ج٩، ص١٠٨.

(٣) ابن كثير، ج٢، ص٤٦١.

٦٤

هذه الآية( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) - : لا تستندوا ولا تطمئنُّوا، إلى الذين ظلموا، إلى الجبَّارين الطغاة، الظالمين، أصحاب القوَّة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوَّتهم، ويعبّدونهم لغير الله من العبيد. لا تركنوا إليهم؛ فإنَّ ركونكم إليهم، يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم إثم(١) .

وهذا هو طرف من كلمات المفسِّرين في تفسير النهي عن الركون إلى الظالمين : لا تميلوا إليهم ولا تسكنوا إليهم، لا تستعينوا بهم، لا ترضوا بأفعالهم، لا تُصانعوهم، لا تودُّوهم لا تطيعوهم، لا ترضوا بهم، لا تقرُّوهم.

والظالمون هم العصاة فإذا كان كل ذلك حراماً بصريح كتاب الله : فكيف يجوز الإقرار بسيادتهم وولايتهم، وقبول حاكميتهم، والانتظام في جماعتهم ؟

ويقول تعالى :( وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ ) (٢) .

ويقول تعالى :( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) (٣) .

____________________

(١) سيد قطب : في ظلال القرآن، ج١٢، ص١٤٧.

(٢) سورة الشعراء : الآيتان ١٥١ - ١٥٢.

(٣) سور الإنسان : الآية ٢٤.

٦٥

وجوب جهاد الطغاة في الأحاديث :

والروايات بهذا المعنى كثيرة، نذكر طرفاً منها على سبيل الشاهد :

روى ثقة الإسلام الكليني، بسنده إلى جابر، عن أبي جعفرعليه‌السلام ( في حديث ) قال : ( فأنكِروا بقلوبكم وألفظوا بألسنتكم، وصكُّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم )، ثمَّ قال : ( فإن اتَّعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم،( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطان )(١) .

وعن يحيى الطويل، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : ( ما جعل الله بسط اللسان وكفّ اليد، ولكن جعلهما يُبْسَطَان معاً ويُكَفَّان معاً )(٢) .

وروى الشريف الرضي ( ره ) في نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال في صفِّين : ( أيّها المؤمنين، مَن رأى عدواناً يعمل به، ومنكراً يُدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومَن أنكره بلسانه فقد أجر، ومَن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السُّفلى، فذلك الذي أصاب الهُدى، وقام على الطريق، ونوَّر في قلبه اليقين )(٣) .

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١١، ص٤٠٣.

(٢) المصدر نفسه، ج١١، ص٤٠٤.

(٣) نهج البلاغة، مصدر سابق، ج٤، ص٨٩.

٦٦

والروايات بهذا المضمون كثيرة تبلغ حدّ التواتر؛ ولذلك لا نحتاج معها إلى مراجعة أسنادها، ومن طرق أهل السنّة روى الترمذي عن طارق بن شهاب، قال : أوّل مَن قدَّم الخطبة قبل الصلاة مروان، فقام رجل فقال له : خالفت السنّة ! فقال أبو سعيد : أمَّا هذا ، فقد قضى ما عليه سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( مَن رأى منكراً فلينكر بيده، ومَن لم يستطع فبلسانه، ومَن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ). قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح(١) .

ورواه أحمد في المسند في موضعين(٢) ، ورواه بلفظ قريب منه مسلم في الصحيح(٣) ، ورواه ابن ماجة في السنن(٤) ، والنسائي في السُّنن(٥) ، ولا نريد أن نستعرض الأحاديث الواردة بهذا المعنى، فهي كثيرة بالغة حدَّ التواتر المعنوي، ونختمها برواية السبط الشهيد الحسين بن عليعليه‌السلام عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك في منطقة البيضة، كما يقول المؤرخون؛ حيث خطب في كتيبة الحرِّ بن يزيد التميمي قائلاً : ( أيُّها الناس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مَن رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاَّ ً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً

____________________

(١) سنن الترمذي، ج٤، ص٤٦٩ - ٤٧٠، كتاب الفتن باب ما جاء في تغير المنكر باليد واللسان، الحديث ٢١٧٢.

(٢) مسند أحمد بن حنبل، ج٣، ص١٠، وج٣، ص٤٥.

(٣) صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت، ج١، ص٥٠.

(٤) سنن ابن ماجة، ج٢، ص١٣٣٠.

(٥) سنن النسائي بشرح السيوطي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج٨، ص١١١ - ١١٢.

٦٧

لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله )(١) .

وجوب جهاد الطغاة من سيرة أهل البيتعليهم‌السلام :

وأوضح شيء في ذلك سيرة الحسينعليه‌السلام تجاه طاغوت زمانه، حيث خرج -عليه‌السلام - وقاتله بنفسه وأولاده وأهل بيته والصفوة من أصحابهعليه‌السلام ، وخطب في كربلاء في الناس وفي أصحابه، فقالعليه‌السلام : ( ألا ترون إلى الحق لا يُعمَل به، وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقَّاً، فإنَّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً )(٢) .

ولمَّا طالب مروان الحسينعليه‌السلام بالبيعة ليزيد بعد هلاك معاوية، قال له الحسينعليه‌السلام : ( إنّا لله وإنَّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام، إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد. ولقد سمعت جدِّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان )(٣) .

وقال في كربلاء لما طالبوه بالبيعة ليزيد : ( لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد )(٤) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ج٤، ص٣٠٠، الكامل في التاريخ، ج٣، ص٢٨٠.

(٢) تاريخ الطبري، ج٤، ص٣٠١.

(٣) السيد محسن الأمين، المقتل الحسيني، ص٢٤.

(٤) تاريخ الطبري، ج٤، ص٣٣٠، والكامل في التاريخ، ج٣، ص٢٨٧.

٦٨

الرأي الآخر :

هذا الذي ذكرناه - في ما أعتقد - هو موقف الإسلام في هذه المسألة، وليس فيه لبس أو غموض ويتميّز بالوضوح والصراحة، من الكتاب والسنَّة والسيرة.

وهناك رأي آخر في مطاوعة الحكَّام الظلمة، والانقياد لهم ومتابعتهم، مهما بلغ ظلمهم وإفسادهم في الأرض، ومهما كان عبثهم بالإسلام وانتهاكهم لحدود الله وحرماته، ومهما كان إسرافهم في بيت المال، حتّى إن أعلنوا الشرب والسكر وسائر المنكرات إعلاناً، وقتلوا النفوس البريئة، وقتلوا الصالحين ما لم يظهروا كفراً بواحاً، وما لم يأمروا بالمعصية، يجب طاعتهم والانقياد لهم، ويحرم الخروج عليهم.

ومن هؤلاء يزيد بن معاوية، والحجَّاج بن يوسف، ووليد بن يزيد، الذي كان يكرع الخمر كرعاً.

وبناء على هذه الفتوى؛ يحرم الخروج على يزيد بن معاوية، وتحرم مخالفته في غير معصية الله إلخ.

هذا هو الرأي الآخر، وقد ظهر وبرز في العصر الأُموي، وامتدَّ إلى العصر العباسي، ونظَّر له علماء وفقهاء معروفون من أهل السنّة والجماعة، ودعوا إليه وادَّعوا أن خلافه بدعة في الإسلام، وامتد وتعمّق هذا الرأي، حتّى كاد أن يكون الرأي الفقهي الرسمي لفقهاء أهل السنّة، في العصر الأموي والعصر العباسي، ونحن نذكر نماذج من كلمات هؤلاء الفقهاء والمحدّثين في وجوب

٦٩

طاعة الحكَّام ما لم يعلنوا الكفر البواح، وما لم يأمروا بالمعصية، وتحريم الخروج عليهم، واعتبار الخروج عليهم من البدعة التي حرَّمها الله.

رأي عبد الله بن عمر :

روى مسلم عن زيد بن محمد عن نافع، قال جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع، حين كان من أمر ( الحرّة ) ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال [عبد الله بن مطيع ] اطرحوا لأبي عبد الرحمن وساده. فقال : إنّي لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدّثك حديثاً : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( مَن خلع يداً من طاعة لقي الله عز وجلّ يوم القيامة لا حجَّة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ) (١) .

رأي عبد الله بن عمرو العاص :

وإلى هذا الرأي يذهب عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان يعرف به، ويدعو إليه(٢) .

____________________

(١) صحيح مسلم، ج٦، ص٢٢.

(٢) راجع : مسند أحمد بن حنبل، ج٢، ص٣٤٤.

٧٠

رأي الحسن البصري :

ويُعرف هذا الرأي أيضاً عن الحسن البصري وعنه نقل : ( الأُمراء يلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله، ما يستقيم الدين إلاّ بهم، وإن جاروا وظلموا. والله، لمَا يصلح بهم أكثر ممَّا يفسدون ).

رأي سفيان الثوري :

وكان سفيان الثوري يصرُّ على هذا الرأي، ويراه من أعمدة الإيمان. يقول لشعيب أحد تلامذته : ( يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل برِّ وفاجر، والجهاد إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل ).

رأي علي بن المديني :

ويقول علي بن المديني :( ثمَّ السمع والطاعة للأئمة وأُمراء المؤمنين البرِّ والفاجر، ومَن ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم. لا يحلُّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ليله، إلاّ عليه إمام برّاً كان أم فاجراً، فهو أمير المؤمنين !! ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائز نافذ قد برئ مَن دفعها إليهم، وأجزأت عنه برَّاً كان أو فاجراً.

وصلاة الجمعة خلفه وخلف مَن ولاّه جائزة، قائمة ركعتان مَن أعادها فهو مبتدع، تارك للإيمان مخالف، وليس له من فضل الجمعة شيء، إذا لم يرَ الجمعة خلف الأئمة مَن كانوا، برُّهم وفاجرهم، والسنَّة أن يصلُّوا خلفهم، لا

٧١

يكون في صدورهم حرج من ذلك. ومَن خرج على إمام أئمة المسلمين، وقد اجتمع عليه الناس فأقرُّوا له بالخلافة، بأيِّ وجه كانت، برضى كانت أو بغلبة فهو شاقٌّ عليه العصا، وخالف الآثار عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن مات الخارج عليه مات ميتة الجاهلية، ولا يحلُّ قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمَن عمل ذلك، فهو مبتدع على غير السنّة ).

اللالكائي ( المتوفَّى سنة ٨١٤ه- ) والبخاري :

وعقد الشيخ اللالكائي فصلاً في كتابه ( السنّة ) ذكر فيها من عقائد أهل السنّة( ومنها اعتقادهم وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور أبراراً كانوا أم فجّار ) .

ثمَّ ذكر اللالكائي قول البخاري قال :( لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز من مكّة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتهم كرَّات وأدركتهم، وهم متوافدون منذ أكثر من ستٍّ وأربعين سنة، كلُّهم يعتقدون هذه العقيدة ) .

النووي في شرحه على صحيح مسلم :

يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم :( وأمّا الخروج عليهم - يعني الخلفاء - وقتالهم، فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين وأجمع أهل السنّة [ على ] أنّه لا ينعزل السلطان بالفسق ) .

٧٢

ابن حجر في شرحه على ( صحيح البخاري ) :

ويقول ابن حجر في ( فتح الباري ) في شرح صحيح البخاري عن ابن بطال :( وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وإنَّ طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن للدماء وتسكين للدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلاَّ إذا وقع من السلطان الكفر الصريح ) !!

رأي أبي بكر الإسماعيلي :

يقول الشيخ أبو بكر الإسماعيلي في كتابه ( اعتقاد أهل الحديث ) :( ويرون الصلاة والجمعة وغيرها خلف إمام مسلم برّاً كان أو فاجراً، فإنَّ الله عزّ وجلّ فرض الجمعة وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً، مع علمه تعالى بأنّ القائمين بها يكون منهم الفاجر والفاسق، ولم يستثنِ وقتاً دون وقت، ويرون الجهاد معهم وإن كانوا جورة ) .

رأي الطحاوي وشارح الطحاوية :

يقول الشيخ الطحاوي في عقيدته :( ولا نرى الخروج على أئمّتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّ وجلّ فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة ).

قال شارح الطحاوية - بعد سقوه الأدلّة الدالّة على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور - :( فقد دلّ الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، ما لم

٧٣

يأمروا بمعصية، فتأمَّل قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ،كيف قال :( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ،ولم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأنّ أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون في ما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول للدلالة على أنّ مَن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فإنَّ الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلاّ في ما هو طاعة لله ورسوله، وأمَّا لزوم طاعتهم وإن جاروا؛ فلأنَّه يترتَّب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيِّئات، ومضاعفة الأجور، فإنَّ الله تعالى ما سلَّطهم علينا إلاّ لفساد أعمالنا والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد بالاستغفار والتوبة، وإصلاح العمل قال تعالى :( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَ-ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ) ،وقوله تعالى :( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) ،فإذا أراد الرعيَّة أن يتخلَّصوا من ظلم الأمير فليتركوا الظلم. وقال مالك بن دينار : إنّه جاء في بعض كتب الله: ( أنا الله مالك الملك، قلوب الملوك بيدي، فمَن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك، لكن توبوا أعطِّفهم عليكم) .

٧٤

الشيخ الصابوني ( المتوفَّى سنة ٩٩٤ ه- ) :

يقول الشيخ أبو عثمان الصابوني - المتوفَّى سنة ٩٩٤ ه- - في كتابه ( عقيدة أصحاب الحديث ) :( ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كلّ إمام مسلم برّاً كان أو فاجراً، ويرون الدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف ) .

رأي علماء الوهابية :

في رسالة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف : إنّ الشيخ قال :( وبهذه الأحاديث وأمثالها عمل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرفوا أنّ من الأصول التي لا يقوم الإسلام إلاَّ بها، وشاهدوا من يزيد بن معاوية والحجاج ومَن بعدهم - خلا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - أموراً ظاهرة ليست خفيّة، ونهوا عن الخروج عليهم والطعن فيهم، ورأوا أنَّ الخارج عليهم خارج عن دعوة المسلمين إلى طريقة الخوارج ).

ويقول جمع من مشايخ وعلماء آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - كالشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وآخرين في رسالة خاصة لهم بهذا الأمر - :( إذا فُهِم ما تقدَّم من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وكلام العلماء المحقِّقين في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته، فإن قصّر عن القيام

٧٥

ببعض الواجب، فليس لأحد من الرعيَّة أن يُنازعه الأمر من أجل ذلك، إلاَّ أن تروا كفراً بواحاً ).

وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف :( وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنَّة، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر حتى قال : ( اسمع وأطع، وإن أخذ مالك وضرب ظهرك )، فنحرِّم معصيته والاعتراض عليه ) .

وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري - في رسالة له، بعد سوقه الأدلة على وجوب السمع والطاعة، ونقل كلام بعض العلماء في ذلك - :( إذا فُهِم ما تقدَّم من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وكلام العلماء المحقِّقين، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته، والخروج عليه. وأمّا ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات، التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتِّباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس، واعتقاد أنَّ ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتَّب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نوّر الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح. هذا الذي نعتقده وندين الله به ونبرأ إلى الله ممَّن خالفه واتَّبع هواه ) .

ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز :( لا يجوز الخروج على الأئمة وإن عصوا، بل يجب السمع والطاعة بالمعروف، ولكن لا نُطيعهم في المعصية، ولا

٧٦

ننزعَنَّ يداً عن طاعة )

ثمّ ساق عدداً من الأحاديث الدالة على ذلك، ثمّ قال :( فالمقصود أنّ الواجب السمع والطاعة في المعروف لولاة الأمور، من الأُمراء والعلماء، فبهذا تصلح الأحوال، ويأمن الناس، ويُنصف المظلوم، ويُردع الظالم وتأمن السبل، ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور، وشقُّ العصا، إلاّ إذا وجِد منهم كفر بواح عند الخارجين فيه برهان من الله، وهم قادرون على ذلك على وجه لا يترتَّب عليه ما هو أنكر وأكثر فساداً ).

ويقول الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل - إمام وخطيب مسجد الحرام - :( إنّ مذهب أهل السنّة والجماعة الذي لا يجوز العدول عنه، وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وحكَّامهم وأمرائهم في غير معصية الله ورسوله، وإن ظهر منهم ما ظهر من الجور والظلم والفسق، ما لم يخرجوا عن دائرة الإسلام، ويحكم عليهم بالكفر الذي لا شبهة فيه، كما قال عليه‌السلام : ( إلاَّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان )، فإنَّ الصبر على جور الأئمة وظلمهم مع كونه هو الواجب شرعاً، فإنَّه أخفُّ من ضرر الخروج عليهم، ونزع الطاعة من أيديهم؛ لما ينتج عن الخروج عليهم من المفاسد العظيمة، فربّما كان الخروج سبب حدوث فتنة يدوم أثرها، ويستشري ضررها، ويقع بسببها سفك الدماء ).

الحياة الطيِّبة : ما الذي حمل هؤلاء الفقهاء على تبنِّي هذا الرأي؛ حيث لا يمكن للسياسة وحدها أن توحي برأي ما ؟! ألا تعتقدون وجود مستندات شرعية لهذا الرأي ؟

٧٧

الشيخ الآصفي : لقد استند هؤلاء الفقهاء إلى أمرين :

١ - التمسُّك بإطلاق الكتاب ومناقشته :

يقول أبو بكر الإسماعيلي في كتابه( اعتقاد أئمة أهل الحديث ) : ( فإنَّ الله عزّ وجلّ فرض الجمعة وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً، مع علمه تعالى بأنَّ القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق، ولم يستثنِ وقتاً دون وقت، ولا أمراً دون أمر ) .

وخلاصة الاستدلال : إنَّ الأمر بالطاعة لأولياء الأمور مطلق، كالأمر بالسعي إلى الجمعة، فتجب الطاعة إلاّ في الأمر بمعصية الله، ويحرم الخروج على الإمام، إلاَّ عند ما يُعلن الكفر بُواحاً.

المناقشة :

والتمسُّك بإطلاق الآية الكريمة من أغرب ما نعرف من الاحتجاج بالكتاب العزيز، وتوضيح ذلك :

أوّلاً : إنَّ الله تعالى لم يجعل للفاسق ولاية ولا إمامة على المسلمين، يقول تعالى - في جواب سؤال إبراهيمعليه‌السلام الإمامة لذريته - :( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، وتمام الآية :( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) ، ويقول تعالى :( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٢) .وإذا كان

____________________

(١) سور البقرة : الآية ١٢٤.

(٢) سورة هود : الآية ١١٣.

٧٨

الركون إلى الظالم حراماً، فكيف يكون له ولاية وإمامة على المسلمين ؟! فالآية الكريمة ( ٥٩ من سورة النساء ) تأمر بطاعة أولي الأمر والظالم لا ولاية، ولا إمامة له على المسلمين، بصريح الآية ١٢٤ من سورة البقرة، والآية ١١٣، من سورة هود.

ولنِعْمَ ما يقول علماء الأصول - في ردِّ مثل هذه الاستدلالات غير العلمية - :( إنّ الحكم لا يثبت موضوعه ) ، وهذا الأمر بالطاعة لا يثبت أن المتسلَّط على الحكم بالبطش له ولاية وإمامة على المسلمين، هذا أوّلاً.

وثانياً : التفريق بين المخالفة والخروج - بأن نقول : إذا أمر الحاكم بالمعصية، فتجب المخالفة ويحرم الخروج عليه - أمر غير عملي؛ فإنّ الأمر بالمعصية والجهر بها إن كان حالة طارئة من ناحية الحاكم وتراجع عنها، فإنّ ولايته إذا كانت شرعية لا تُقطع بمعصية تاب عنها، ولكن إذا شطَّ الحاكم في الغيِّ، وتمادى في الظلم والضلال والإفساد في الأرض - مثل كثير من الحكَّام الذين حكموا المسلمين ويحكمونهم اليوم - فأين التفريق بين المخالفة والخروج ؟ فتجب المخالفة لما رُوِي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )(١) ، ولكن يحرم الخروج عليه.

أقول : هذا الرأي أقرب إلى الفرض منه إلى الحكم الشرعي، فإنَّ الحاكم الذي يتمادى في الغيِّ والضلال والبطش والإفساد، إذا عرف أن المسلمين يَتَحرَّجون من الخروج عليه، فإنَّه سوف يُجبرهم على طاعة ما يأمر به من معصية الله، كما حصل في تاريخنا المعاصر

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١١، ص٤٢٢.

٧٩

الكثير من هذه الحالات. ولا مخرج عن هذه المعاصي والمنكرات إلاّ بالخروج على الحاكم.

وثالثاً : إنَّ الله تعالى نهانا عن الركون إلى الظالمين، والركون إلى الظالم ليس بالطاعة فقط، وإنَّما بقبول إمامته أيضاً؛ فإنَّ قبول إمامته وقيادته وقبول الانضواء تحت حكمه وزعامته من أوضح مصاديق الركون.

يقول تعالى :( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ؛ فتكون هذه الآية مخصَّصة للآية ٥٩، من سورة النساء، على فرض إطلاقها وشمولها لمعصية الله، فتختص الولاية المشار إليها في سورة النساء الآية ٥٩، بما إذا استقام الحاكم على حدود الله تعالى وأحكامه وصراطه. فإذا انحرف وشطَّ، فلا تكون له إمامة ولا ولاية على المسلمين.

ورابعاً : كما تجب مخالفة الحاكم الظالم في معصية الله، كذلك تحرم طاعته في ما يأمر في غير معصية الله؛ لأنّ الدخول في طاعته هو من الركون إليه، وقد نهانا الله تعالى عن الركون إلى الظالمين.

ومن عجب أن يقول ابن تيمية في ( منهاج السنّة ) : ( الكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعته - ولا يسقط وجوبها - لأمر ذلك الفاسق بها، كما أنّه إذا تكلَّم بحقّ لم يجز تكذيبه، ولا يسقط وجوب اتِّباع الحقّ؛ لكونه قد قاله الفاسق ).

وهو كلام غريب، فإنّ اتَّباع الحقّ يختلف عن اتِّباع الفاسق في الحقّ وبينهما فرق، ونحن نتّبع الحقّ ولكن لا نتّبع الفاسق ولو في الحقّ؛ لأنّ الله

٨٠