الذات الإلهية وفق المفهوم الفلسفي

الذات الإلهية  وفق المفهوم الفلسفي75%

الذات الإلهية  وفق المفهوم الفلسفي مؤلف:
تصنيف: كتب
الصفحات: 62

الذات الإلهية وفق المفهوم الفلسفي
  • البداية
  • السابق
  • 62 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34373 / تحميل: 22031
الحجم الحجم الحجم
الذات الإلهية  وفق المفهوم الفلسفي

الذات الإلهية وفق المفهوم الفلسفي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الذات الإلهية

وفق المفهوم الفلسفي

إعداد

مالك مهدي خلصان

١

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدِّمة:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أمَّا بعد، فلم يكن هذا الكتاب بحثاً عن الصفات الإلهية، سواء الثبوتية منها أم السلبية فحسب، ولا إحاطة بالإلوهية وما يتعلق بها، وما يشكل عليها مِن الدور والتسلسل؛ لأنَّنا لسنا بصدى تفصيل العقيدة الإسلامية، ولا بخصوص دين معيَّن، بل ندخل بعمق إلى خواص وماهية الذات الإلهية دون التعرض لكُنهها، وفقاً لما تصدَّت له الفلسفة الإسلامية لأهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم أجمعين).

٢

الخطبة الأولى مِن نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام):

(الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادُّون، ولا يؤدِّي حقَّه المجتهدون. الذي لا يُدركه بُعْد الهمم، ولا يناله غوص الفطن. الذي ليس لصفته حدٌّ محدود ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتّد بالصخور ميدان أرضه.

أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلِّ صفة أنَّها غير الموصوف، وشهادة كلِّ موصوف أنَّه غير الصفة، فمَن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومَن قرنه فقد ثنَّاه، ومَن ثنَّاه فقد جزَّأه، ومَن جزأه فقد جهله، ومَن جهله فقد أشار إليه، ومَن أشار إليه فقد حدَّه، ومَن حدَّه فقد عدّه. ومَن قال: فيم؟ فقد ضمنّه، ومَن قال: علام؟ فقد أخلى منه.

كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كلِّ شيء لا بمقارنة، وغير كلِّ شيء لا بمزايلة. فاعل لا بمعنى الحركات والآلة. بصير إذ لا منظور إليه مِن خلقه. متوحِّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده. أنشأ الخلق إنشاءً، وابتدأه ابتداءً، بلا روية أحالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها.

أحال الأشياء لأوقاتها، ولاءم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائنها وأحنانها).

٣

الفصل الأول

المعرفة الممكنة والمعرفة المستحيلة

إنَّ الإنسان لا يستطيع الإحاطة بحقيقة الله والوقوف على كنهه؛ لأنَّ تصوُّره مستحيل، لكون الذات الإلهية لا يحاط بها ولا يعرف كنهها، لا في الذهن ولا في الخارج؛ لأنَّه مطلق وما يرد في ذهن الإنسان محدود، حيث لا يمكن لللا متناهي أنْ يحيط به محدود أو محاط؛ لقوله تعالى:( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) (طه: ١١٠). وقال أيضاً( ... وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ... ) (آل عمران: ٠٣)؛ إذ لا يمكن لأحد بلوغ تلك المعرفة لاكتناه الذات، لأنَّها مغلقة أمام الإنسان. قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (لم يُطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته) (الخطبة ٤٩).

لكنْ ذهب المعطِّلة إلى عدم معرفة ذات الله والتوصُّل إلى كنهه بواسطة العقل، وربَّما نجد بعض الأحاديث تقارب ما يدعون إليه، إذا لم نفهم المراد منها، كقول الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام): قال: (إيَّاكم والتفكر في الله! ولكنْ إذا أردتم أنْ تنظروا إلى عظمة الله فانظروا إلى عِظم خلقه)(١) .

وعن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، قال: (تكلَّموا في خلق الله، ولا تكلَّموا في الله؛ فإنَّ الكلام في الله لا يزيد إلاَّ تحيُّراً)(٢) .

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (إنَّ الله يقول:( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) [ النجم: ٤٢ ] قال: (إذا انتهى الكلام إلى الله عز وجل، فامسكوا)(٣) .

وعن أبو عبد الله (عليه السلام): (مَن نظر في الله كيف هو هلك)(٤) .

____________________

(١) الكافي كتاب التوحيد – في النهي عن الكلام عن الكيفية.

(٢) توحيد الصدوق ص ٤٥٤، ٦٧ – باب النهي في الكلام والمراء في الله عز وجل.

(٣) توحيد الصدوق ص ٤٥٦ – ٩ – باب.

(٤) حق اليقين ص ٤٦.

٤

وقول الإمام علي (عليه السلام): (الذي لا يُدركه بُعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن) الخُطبة الأُولى.

وقوله أيضاً: (وإنَّك أنت الله الذي لم يتناه في العقول، فتكون في مهبِّ فكرها مكيَّفاً، ولا في رويات خواطرها فتكون محدوداً مصرفاً) الخطبة ٨٩.

وبذات الوقت يقول الإمام علي (عليه السلام) - بما يسدُّ الطريق على المعطِّلة قوله الآنف الذكر -: (لم يُطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته) الخطبة ٤٩.

فإذا كانت عقولنا قاصرة عن كنه ذات الله، فهناك مقدار واجب مِن المعرفة الممكنة لابدَّ منه.

أمَّا تصوُّرنا لله المطلق، فمِن الواضح أنَّه لا يتمُّ حسب إدراكنا العادي؛ لأنَّنا مُحاطون بظواهر جسمانية وقيود زمانية ومكانية، وأفكارنا محصورة بنوع مِن التفكير، يستحيل علينا إدراك موجود خال مِن قيد أو شرط.

فالمعرفة ممكنة والاكتناه محال، فباب المعرفة مفتوح أيْ معرفة الله بوجه، لا مِن جميع الوجوه؛ لأنَّها إذا كانت مِن جميع الوجوه صارت اكتناهية، وهي ممتنعة، فلا يمكن أنْ نقف على ذاته وكنهه وحقيقته(يا مَن لا يعرف ما هو إلاَّ هو) ، كما نذكر لكم ما ينسب إلى أفلاطون قوله:

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلا

أنت حيَّرت ذوي اللب وبلبلت العقولا

كلَّما قدم فكري فيك شبراً فرَّ ميلا

ناكصاً يخبط في عمياء لا يهدي سبيلا

٥

الفصل الثاني

إثبات واجب الوجود لذاته

كلُّ معقول إمَّا أنْ يكون واجب الوجود في الخارج لذاته، وإمَّا ممكن الوجود لذاته، وإمَّا ممتنع الوجود لذاته.

تقريرها: إنَّ كلَّ معقول - وهو الصورة الحاصلة في العقل - إذا نسبنا إليه الوجود الخارجي، فإمَّا أنْ يصحُّ اتِّصافه به لذاته أو لا، فإنْ لم يصحَّ اتِّصافه به لذاته فهو ممتنع الوجود لذاته، كشريك الباري، فإنْ صحَّ اتَّصافه به، فإمَّا أنْ يجب اتَّصافه به لذاته أو لا.

الأول: هو الواجب الوجود لذاته، وهو الله تعالى لا غير.

الثاني: هو ممكن الوجود لذاته، وهو ما عدا الواجب مِن الموجودات، وإنَّما قيَّدنا الممتنع أيضاً بكونه لذاته احترازاً مِن الممتنع لغيره، كامتناع وجود المعلول عند عدم علَّته، كامتناع النار عند عدم وجود الوقود أو أسباب الاحتراق، وهذان القسمان داخلان في قسم الممكن. وإمَّا الممكن، فلا يكون وجوده لغيره، فلا فايدة في تقييده لذاته، إلاَّ لبيان أنَّه لا يكون إلاَّ كذلك، وللاحتراز عن غيره.

العدم المطلق: وهو المقابل للوجود المطلق.

العدم المقيَّد: هو الذي يكون بعد الوجود وبينه.

معنى الوجوب: أنْ يكون الوجود له ضرورياً.

معنى الامتناع: أنْ يكون العدم له ضرورياً.

معنى الإمكان: أنْ لا يكون الوجود له ضرورياً، ولا العدم له ضرورياً.

٦

في إثبات واجب الوجود لذاته

قال السبزواري - في منظومة الحكمة ١٨ - غرر في المواد الثلاثة:

إنَّ الوجود رابط ورابطي ثمَّت نفسيٌّ فهاك واضبط

لأنَّه في نفسه ولاوم في نفسه إمَّا لنفسه سم

وغيره والحق نحو أيسه في نفسه لنفسه بنفسه

قد كان ذا الجهات في الأذهان وجوب امتناع وإمكان

وهي غنيَّة عن الحدود ذات تأسى فيه بالوجود

(انَّ الوجود رابط) أيْ ثبوت الشيء مشيئاً (ورابطي ثمَّت نفسي)، قد يلحق التاء المتحركة بثمَّ العاطفة، ومنه قوله: فمضيت ثمَّت قلت: لا يعنيني. والمعنى: المشترك بين الرابطي والنفسي ثبوت الشيء (فهاك) أيْ خذ (واضبط لأنَّه) أيْ الوجود مطلقاً، أمَّا أنْ يكون وجوداً (في نفسه) ويقال له: الوجود المحمولي، وهو مفاد كان التامة المتحقِّق في الهلِّيات البسيطة، (أو) يكون وجوداً (لا) في نفسه، وهو مفاد كان الناقصة المتحقِّق في الهلِّيات المركبة، ويقال له في المشهور: الوجود الرابطي.

والأولى على ما في المتن أنْ يسمَّى بالوجود الرابط، على ما اصطلح عليه السيد المحقِّق الداماد في الأفق المبين، وصدر المتألهين (قدس سره) في الأسفار؛ ليفرَّق بينه وبين وجود الأعراض؛ حيث أطلقوا عليه الوجود الرابطي، وقول المحقِّق اللاهيجي في بعض تأليفاته: إنَّ وجود العرض مفاد كان الناقصة وهْمٌ؛ لأنَّه محمولي، يقع في الهلِّية البسيطة، كقولك: البياض موجود. بخلاف مفاد كان الناقصة، أعني: الرابط؛ فإنَّه دائماً ربط بين الشيئين لا ينسلخ عن هذا الشأن.

(وما) أيْ وجود (في نفسه إمَّا لنفسه)، كوجود الجواهر (سما) إمَّا مؤكَّد بالنون الخفيفة وماضٍ بمعنى علا.

(وغيره)، يعني: ووجود في نفسه لغيره كوجود العرض؛ حيث يقال: وجود العرض في نفسه عين وجوده لغيره. فله وجود في نفسه، لكونه محمولاً وله ماهية تامَّة ملحوظة بالذات في العقل، ولكنْ ذلك الوجود في غيره لأنَّه في الخارج نعت للموضوع.

ثمَّ النفسي قسمان؛ لأنّ الوجود في نفسه لنفسه، إمَّا بغيره كوجود الجوهر؛ فإنَّه ممكن معلول، وإمَّا بنفسه وهو وجود الحق تعالى كما قلنا. (والحق) جلّ شأنه (نحو أيسه) أيْ وجوده (في نفسه) لا كالرابط؛ حيث إنَّه وجود لا في نفسه (لنفسه)، لا كالرابطي؛ فإنَّه

٧

في نفسه لغيره (بنفسه)، لا كوجود الجوهر؛ فإنَّه وإنْ كان لنفسه لكنْ ليس بنفسه.

وجَعْلُ العرض موجوداً في نفسه لغيره، والجوهر موجوداً في نفسه لنفسه بغيره، لا ينافي ما حقِّق في موضعه مِن أنَّ وجود ما سوى الواحد الأحد رابط محض؛ لأنَّ ما ذُكِر ها هنا إنَّما هو فيما بين الممكنات أنفسها، وإلاَّ فالكل روابط صرفه لا نفسية لها بالنسبة إليه. إنْ هي إلاَّ تمويهات وتماثيل وبأنفسها أعدام وأباطيل.

(قد كان) أيْ الوجود مطلقاً (ذا الجهات) أي صاحب الجهات، وهو خبر كان (في الأذهان) هذا إشارة إلى أنَّها في الخارج موادّ، وفي الأذهان جهات (وجوب) بالجر بدل مِن الجهات، لا بالرفع ليتوافق الرويان و(امتناع وإمكان) كلمة وللتنويع (وهي) أيْ الجهات (غنيَّة عن الحدود)؛ لكون معانيها ممَّا ترتسم في النفس ارتساماً أوَّلياً. فمن أراد أنْ يعرِّفها تعريفاً حقيقاً لا لفظياً لم يأت إلاَّ بتعريفات دوريَّة، مثل أنَّ الواجب: ما يلزم مِن فرض عدمه محال. والممكن: ما لا يلزم مِن فرض وجوده وعدمه محال. والممتنع: ما ليس بممكن وما يجب أنْ لا يكون غير ذلك. فهي (ذات تأسى فيه) أيْ صاحبة إقتداء في الغناء عن التحديد (بالوجود).

٨

الفصل الثالث

خصائص الواجب والممكن

خواص الواجب:

واجب الوجود له خصائص خمس:

١- أنْ لا يكون وجوده واجباً لذاته ولغيره معاً، وإلاَّ لكان وجوده مرتفعاً عند ارتفاع وجود ذلك الغير، فلا يكون واجباً لذاته، وهذا خلف.

أيْ لا يمكن أنْ يكون واجباً بالذات وواجباً بالغير؛ لأنَّ الواجب بالذات لا يمكن أنْ يكون واجباً بالغير؛ لأنَّه إذا ارتفع ذلك الغير ترتفع الذات، وإذا عُدمت العلَّة عُدم المعلول، وإذا فرضنا أنَّ الواجب بالذات واجباً بالغير أيْ يمكن عليه العدم، والواجب بالذات يمتنع عليه العدم، ولا يكون وجوبه واجباً لذاته ولغيره معاً؛ وإلاَّ لو كان واجب الوجود بالذات وواجباً بالغير أيضاً لكان وجوبه مرفوعاً عند ارتفاع ذلك الغير، فلا يصحُّ لأنَّه واجب بالذات ويستحيل عليه العدم.

٢- أنَّه لا يكون وجوده ووجوبه زايدين عليه؛ وإلاَّ لافتقر إليهما، فيكون ممكناً.

أي أنَّه عندما نقول: الله موجود. الله واجب. فهل أنَّ الوجود والوجوب زايدين على ذات الواجب؟ أو أنَّهما عين الواجب؟ الوجود والوجوب هذا ليس زائداً على ذات الواجب، كما أنَّ الوجود على ذات الممكن زائداً عليه. فلا يكونا زائدين عليه؛ وإلاَّ لزم أنَّ هذه الذات تكون مفتقرة إلى الوجود لكي توجد، ومفتقرة إلى الوجوب لكي تكون واجبة، والافتقار مِن صفات الممكن( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء ... ) ، والواجب لا يوجد فيه أيُّ مجال للفقر والاحتياج؛ كونه غنيَّاً( ... وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) . وحقيقة الماهية هي الوجوب خلافه بالممكن؛ حيث إنَّ وجوده زائد على ذاته.

٣- أنَّه لا يكون صادقاً عليه التركيب؛ لأنَّ المركَّب مفتقر إلى أجزائه المغايرة له، فيكون ممكناً، والممكن لا يكون واجباً لذاته. أيْ أنَّه ليس مركباً مِن أجزاء، فالماء مركب مِن عنصر الأوكسجين وعنصر الهيدروجين. أمَّا الواجب بسيط مِن كلِّ جهة، لا يوجد فيه أيُّ مجال للتركيب؛ لأنَّ كل مركب يحتاج إلى الأجزاء كي يتحقَّق ذلك المركب، فعدم وجود الأوكسجين لا يحقِّق وجود الماء.

٩

لو فرضنا أنَّ الواجب مركب ويفتقر إلى أجزائه، وقلنا: إنَّ الافتقار والاحتياج مِن خواص الممكن، فالواجب بسيط مِن كلِّ جهة، ولا يكون مركب بأيِّ نحو مِن الأنحاء التركيبية؛ لأنَّ المركب مفتقر بوجوده إلى وجود أجزاءه كي يتحقَّق، وهذه الأجزاء مغايرة للمركب، فالماء شيء والأوكسجين شيء آخر.

٤- أنَّه لا يكون جزءاً مِن غيره؛ وإلاَّ لكان منفعلاً عن ذلك الجزء فيكون ممكناً.

فإنَّه لا يكون جزءاً مِن غيره - أيْ مِن مركب آخر - لأنَّه يحتاج لذلك المركب. لكي يتحقَّق الماء، الأوكسجين يحتاج إلى الهيدروجين ليتركب معه لتكوين الماء، فيقع بينه وبين الجزء الآخر انفعال، والانفعال ينافي الوجوب بالذات، وإذا كان منفعلاً فيكون فيه قوة واستعداد مِن الفعل فيكون ممكناً.

٥- أنَّه لا يكون صادقاً على اثنين؛ لأنَّهما حينئذ يشتركان في وجوب الوجوب، لا يخلو إمَّا أنْ يتميَّزا أو لا، فإنْ لم يتميَّزا لم تحصل الاثنينية، وإنْ تميَّزا لزم تركيب الواحد منهما مَن به المشاركة ومَن به الممايزة، وكلُّ مركب ممكن وعليه لا يكون واجباً لذاته.

ولو كان معه شريك لزم فساد نظام الوجود وهو باطل. بيان ذلك: أنَّه لو تعلَّقت إرادة أحدهما بإيجاد جسم متحرك، فلا يخلو إمَّا أنْ يكون للآخر إرادة سكونه أولا، فإنْ أمكن فلا يخلو إمَّا أنْ يقع مرادهما؛ فيلزم اجتماع المتنافيين، أو لا يقع مرادهما؛ فيلزم خلوُّ الجسم عن الحركة والسكون، أو يقع مراد أحدهما ففيه فسادان:

أحدهما: الترجيح بلا مرجح.

وثانيهما: عجز الآخر.

وإنْ لم يكن للآخر إرادة سكونه فيلزم عجزه؛ إذ لا مانع إلاَّ تعلُّق إرادة ذلك الغير، لكنْ عجز الإله باطل والترجيح بلا مرجِّح مُحال؛ فيلزم فساد النظام وهو مُحال أيضاً.

١٠

خواص الممكن:

١- أنَّه لا يكون أحد الطرفين، أعني: الوجود والعدم أولى به مِن الآخر، بلْ هما معاً متساويان بالنسبة إليه، ككفتي الميزان، فإنْ ترجَّح أحدهما، فإنَّه إنَّما يكون بالسبب الخارجي عن ذاته؛ لأنَّه لو كان أحدهما أولى به مِن الآخر، فإمَّا أنْ يمكن وقوع الآخر أو لا، فإنْ كان الأول لم تكن الأولوية كافية، وإنْ كان الثاني كان المفروض أولى به واجباً له، فيصير الممكن إمَّا واجباً أو ممتنعاً، وهو مُحال.

إنَّ الممكن متساوي النسبة للوجود والعدم، لا الوجود أولى له ولا العدم أولى له، بل خارجان عن أولوية الممكن فيحتاج لمرجِّح، فلا يكون أحد الطرفين - سواء طرف الوجود أم طرف العدم - أولى بالممكن مِن الآخر، بل الوجود والعدم متساويان بالنسبة للممكن، فإنَّ ترجيح أحدهما الوجود ترجَّح للممكن فصار موجوداً، أو العدم ترجَّح للممكن فيصبح معدوماً، هذا يحتاج لعلة خارجية. فالترجيح لا يكون منشأه نفس الذات، فإنْ ترجَّح أحدهما بالسبب خارجي عن ذات الممكن لا بنفس ذات الممكن؛ لأنَّه إذا كان ذات الممكن هو السبب للوجود أو العدم، أو كان أحدهما أولى مِن الآخر، هذه الأولوية تجعل الطرف الآخر ممتنع التحقُّق أو وجوب التحقُّق، مع وجوب الأولوية يكون الممكن واجباً أو ممتنعاً، لأنَّ الإمكان هو تساوي النسبة للوجود والعدم. أمَّا إذا كانت هذه الأولوية كافية لوجود الأول وانعدام الآخر يوجب الوجوب أو الامتناع؛ فيصير الممكن إمَّا واجباً أو ممتنعاً.

٢- أنَّ الممكن محتاج إلى المؤثِّر؛ لأنَّه لمَّا استوى الطرفان - أعني الوجود والعدم - بالنسبة إلى ذاته استحال ترجيح أحدهما على الآخر إلاَّ لمرجِّح، والعلم به بديهي. وحيث إنَّ الذات لا يمكن احتياجها لمؤثِّر خارجي لاستواء طرفيّ الوجود والعدم، فيستحيل ترجيح أحدهما على الآخر؛ لاستحالة الترجيح بلا مرجِّح.

٣- أنَّ المَّمكن الباقي محتاج إلى المؤثِّر. وإنَّما قلنا ذلك، لأنَّ الإمكان لازم لماهية الممكن، ويستحيل رفعه عنه، وإلاَّ لزم انقلابه مِن الإمكان إلى الوجوب أو الامتناع. وقد ثبت أنَّ الاحتياج لازم للإمكان، والإمكان لازم لماهية الممكن، ولازم اللازم لازم، فيكون الاحتياج لازماً لماهية الممكن وهو المطلوب.

لمّا كان الممكن في حدوثه يحتاج إلى الواجب، كذا ببقائه يحتاج للواجب أيْ للمؤثِّر، وما له ماهية وجوده زائداً على ذاته كالإنسان. والله وجوده عين ذاته، لأنَّ ماهيته أنيَّته كما سنبيِّن لاحقاً.

١١

استحالة اتِّحاده بالغير:

(قال: (ولا يتَّحد بغيره لامتناع الإتحاد مطلقاً).

أقول: الاتِّحاد يقال على معنيين: مجازي، وحقيقي.

أمَّا المجازي: فهو صيرورة الشيء شيئاً آخر بالكون والفساد، أمَّا مِن غير إضافة شيء آخر كقولهم: صار الماء هواء، وصار الهواء ماء، أو مع إضافة شيء آخر كما يقال: صار التراب طيناً بانضياف الماء إليه.

وأمَّا الحقيقي: فهو صيرورة الشيئين الموجودين شيئاً واحداً موجوداً.

إذا تقرَّر هذا فاعلم: أنَّ الأول مستحيل عليه تعالى قطعاً؛ لاستحالة الكون والفساد عليه.

وأمَّا الثاني، فقد قال بعض النصارى: إنَّه اتَّحد بالمسيح، فإنَّهم قالوا: اتَّحدت لاهوتية الباري مع ناسوتية عيسى (عليه السلام).

وقالت النصيرية: إنَّه اتَّحد بعلي (عليه السلام).

وقال المتصوفة: إنَّه اتَّحد بالعارفين. فإنْ عنوا غير ما ذكرناه فلا بدَّ مِن تصوُّره أولاً ثمَّ يُحكم عليه، وإنْ عنوا ما ذكرناه فهو باطل قطعاً؛ لأنَّ الاتِّحاد مستحيل في نفسه، فيستحيل إثباته لغيره.

أمَّا استحالته، فهو إنَّ المتَّحدين بعد إتحادهما إنْ بقيا موجودين فلا اتِّحاد؛ لأنَّهما اثنان لا واحد، وإنْ عُدما معاً، فلا اتِّحاد أيضاً بلْ وجِد ثالث، وإنْ عُدم أحدهما وبقي الآخر فلا اتِّحاد أيضاً؛ لأنَّ المعدوم لا يتَّحد بالموجود)(١) .

____________________

(١) الباب الحادي عشر للمقداد السيوري، صفحة ٥٦.

١٢

الفصل الرابع

في الموادِّ الثلاث

(إنَّ الأشياء تنقسم بحسب الحصر العقلي إلى ثلاثة أنواع: الوجود، الماهية، والعدم. وبعبارة أخرى: إلى النور، والظلِّ، والظلمة. وكلُّ ممكن الوجود فهو مركب مِن الماهية، وهي أمر لا يأبى الوجود ولا العدم، ومِن الوجود الذي لا يأبى بذاته العدم، وبعبارة أخرى: فكلُّ ممكن الوجود مركب مِن النور والظلمة، غير أنَّه يجب أنْ يكون مِن قبال هذا النور المحض، حيث لا ظلمة تعتريه وهو واجب الوجود الذي يأبى بذاته العدم، وكما قيل، فإنَّ (الحق ماهيَّته أنيَّته) أيْ أنَّ الخالق مَن به ماهية نفس وجوده؛ والسبب في ذلك أنَّ جهتي الوجود والعدم متساويتان بالنسبة إلى الممكن، وما لم يتدخل الأمر الخارجي، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، وحيث نشاهد الممكنات موجودة خارجة عن نقطة الاستواء بين الوجود والعدم، نعلم أنَّ أمراً خارجياً أعطاها الوجود، فإنْ كان ذلك الأمر الخارجي واجب الوجود فهو، وإلاَّ كان محتاجاً إلى علَّة، فإمَّا الدور أو التسلسل. وإمَّا أنْ تنتهي إلى واجب الوجود، وحيث ثبت في المنطق بطلان الدور والتسلسل تعيَّن الشقُّ الآخر، وهو ثبوت واجب الوجود.

ويكفي التعبير عن هذا النوع مِن الاستدلال، فإنَّه قابل للانحلال إلى العدم، ويمكن إسناد التغيُّر وفقدان الوجود منه، فالوجود بالنسبة إلى هذه الموجودات ليس ذاتياً بلْ اكتسابي؛ لذلك فهي تحتاج إلى علَّة تعطيها الوجود وتمنحه إيَّاها، فإنْ كان وجود العلة ذاتياً لها ثبت المطلوب، وهو واجب الوجود لذاته)(١) .

الماهيَّة والوجود

الماهيَّة:

كلمة (ماهية) مصدر صناعي مأخوذ مِن عبارة (ما هو؟) أو (ما هي؟)، التي تقال في السؤال عن حقيقة الشيء. ومِن هنا عرّفها الحكماء: بأنَّها (ما يقال في جواب ما هو)(٢) ، واستخلص الجرجاني مِن تعريف الحكماء المذكور تعريفاً آخر هو أنَّ ماهية الشيء: ما به الشيء هو هو)(٣) .

____________________

(١) أسرار الحكم ٢٦ للسبزراوي.

(٢) بداية الحكمة ٧٥.

(٣) التعريفات: مادَّة ماهية.

١٣

وتوضيح ذلك - بالمثال نقول -: إنَّنا عندما نسأل عن حقيقة الإنسان بقولنا: ما هو الإنسان؟ نجاب: الإنسان حيوان ناطق. فعبارة (حيوان ناطق) المقولة في جواب سؤالنا: ما هو الإنسان، هي ماهية الإنسان. وبتعبير آخر: إنَّ المعنى الذي تدلُّ عليه هذه العبارة هو ماهية الإنسان. فماهية الشيء حقيقته.

الوجود:

مفهوم الوجود هو أوضح وأجلى المفاهيم الموجودة في ذهن الإنسان؛ ولهذا لا يمكن تعريفه تعريفاً علمياً؛ لأنَّ شرط التعريف أنْ يكون أجلى وأوضح مِن المعرَّف، ولا أقل مِن مساواته له في الوضوح، وكلُّ ما ذكر ويذكر مِن تعريف للوجود هو أخفى منه؛ لأنَّ الوجود – كما أسلفت – لا شيء أعرف وأجلى منه؛ إذ لا يوجد معنى أعم منه؛ وعلى هذا فأيُّ تعريف للوجود لا يضيف لمعلوماتنا عنه معلومة جديدة؛ مضافاً إليه أنَّه لا جنس ولا فصل أو خاصة للوجود؛ لأنَّه بسيط، وهذه – كما هو معلوم منطقياً – عناصر التعريف ومقوماته، وعند عدمها لا نستطيع التعريف تعريفاً منطقياً؛ ومِن هنا يكون ترك تعريفه هو الصواب.

فمفهوم الوجود هو ما نفهمه وندركه مِن معنى لهذه الكلمة.

وبتعبير آخر: هو ما يتبادر إلى أذهاننا مِن معنى عند سماع كلمة (وجود).

العلاقة بين الماهية والوجود:

١- لا خلاف بينهم في أنَّ الوجود والماهية في الخارج هما شيء واحد وذات واحدة. وإنَّما الخلاف بينهم في نوعية العلاقة بينهما في عالم التصوُّر والتعقل الذهني، وهو على قولين هما:

أ- أنَّ العلاقة بين الماهية والوجود علاقة اتِّحاد.

ب- أنَّ العلاقة بينهما علاقة تغاير.

والقول الأول مذهب أبي الحسن الأشعري ومشايعيه، قال: (وجود كلِّ شيء عين ماهيته)(١) . وفسّر قوله هذا: بأنَّه يذهب إلى اتِّحاد الوجود والماهية، أيْ عدم زيادة

____________________

(١) التحقيق التام ٢٨.

١٤

الوجود على الماهية، واستدلَّ له بأنَّ الماهية – في واقعها – إمَّا موجودة أو معدومة. فإنْ كانت موجودة قبل عروض الوجود عليها، يكون الوجود العارض عليها قائماً في ماهية موجودة. وهذا يلزم منه اجتماع المثلين، وهما: المثل الأول، وجود الماهية المفروض قبل عروض الوجود عليها، والمثل الثاني، الوجود العارض عليها. واجتماع المثلين باطل؛ لأنَّه محال.

وعليه يبطل القول بزيادة الوجود على الماهية، ويثبت اتِّحادهما، ويكون وجود الماهية هو نفس الماهية. وإنْ كانت الماهية معدومة قبل عروض الوجود عليها، يكون الوجود العارض عليها قائماً في ماهية معدومة، فيجتمع النقيضان وهما عدم الماهية المفروض قبل عروض الوجود عليها، والوجود العارض عليها. واجتماع النقيضين باطل؛ لأنَّه محال؛ فيبطل القول بزيادة الوجود على الماهية، ويثبت اتِّحادهما فيكون وجود الماهية هو نفس الماهية، وردَّ هذا الاستدلال مِن قِبل أصحاب القول الثاني: بأنَّ الماهية مِن حيث هي وفي واقعها لا موجودة ولا معدومة. فعروض الوجود عليها إنَّما كان بما هي في واقعها، أيْ بما هي غير متَّصفة بالوجود أو العدم؛ وعليه لا يلزم مِن عروضه عليها اجتماع المثلين أو اجتماع النقيضين. والدليل على أنَّ الماهية مِن حيث هي لا موجودة ولا معدومة، أنَّ الماهية لمَّا كانت تقبل الاتِّصاف بأنَّها موجودة أو معدومة، أو واحدة أو كثيرة، أو كلية أو مفردة. وكذا سائر الصفات المتقابلة، كانت في حدِّ ذاتها مسلوبة عنها الصفات المتقابلة(١) .

وذهب الآخرون إلى القول الثاني. وفسِّر: بأنَّ الوجود زائد على الماهية عارض لها. ومقصودهم مِن هذا: بأنَّ العقل يستطيع (أنْ يجرِّد الماهية عن الوجود فيعتبرها وحدها فيعقلها، ثمَّ يصفها بالوجود وهو معنى العروض. فليس الوجود عيناً للماهية)(٢) ، والتغاير بين الماهية والوجود يتحقَّق في أنَّ كلاَّ ًمنهما له مفهوم غير مفهوم الآخر. واستدلَّ لهذا القول بأدلَّة منها:

أ - صحة الحمل:

وتقريره: إنَّا نحمل الوجود على الماهية، فنقول (الماهية موجودة)، فنستفيد منه فائدة معقولة، لم تكن حاصلة لنا قبل الحمل، وإنَّما تتحقَّق هذه الفائدة على تقدير المغايرة في المفهوم بين الماهية والوجود.

____________________

(١) بداية الحكمة ٧٥.

(٢) بداية الحكمة ١٣.

١٥

إذ لو كان الوجود نفس الماهية لكان قولنا: (الماهية موجودة) بمنزلة (الماهية ماهية) أو (الموجودة موجودة)؛ والتالي باطل فكذا المقدَّم(١).

ب - صحة السلب:

وتقريره: إنَّا قد نسلب الوجود عن الماهية فنقول: (الماهية معدومة) أو الماهية ليست موجودة، فلو كان الوجود نفس الماهية لزم التناقض، ولو كان جزء منها لزم التناقض أيضاً؛ لأنَّ تحقُّق الماهية يستدعي تحقُّق أجزائها التي مِن جملتها الوجود، فيستحيل سلبه عنها؛ وإلاَّ لزم اجتماع النقيضين، فتحقَّق انتفاء التناقض يدلُّ على الزيادة.

وصحة الحمل وكذلك صحة السلب دليل التغاير في المفهوم، كما هو مقرَّر في محلِّه، ويلخِّص صاحب المنظومة المسألة على القول الثاني ببيته:

إنَّ الوجود عارض الماهية تصوُّراً واتَّحدا هوية

ويقول: إنَّ عروض الوجود على الماهية هو في عالم التصوُّر والتعقُّل فقط، وهو ما عبَّرنا عنه بالتغاير في المفهوم. أمَّا في عالم الواقع الموضوعي، الذي عبِّر عنه بالهوية وهي حقيقة الشيء مِن حيث تميُّزه عن غيره، فهما متَّحدان، أيْ هما ذات واحدة.

الخلاصة:

ونلخِّص مِن كلِّ هذا إلى أنَّ الوجود والماهية، متغايران مفهوماً متَّحدان مصداقاً.

٢- ويُنسق على مسألتنا المتقدِّمة مسألة أخرى مِن مسائل العلاقة بين الوجود والماهية، هي مسألة الأصالة والاعتبارية. فبعد الفراغ مِن ثبوت تغاير الوجود والماهية مفهوماً، يتساءل أيُّهما الأصيل وأيُّهما الاعتباري؟ فهذه المسألة تقوم على ما تقدَّم مِن أنَّ العقل يستطيع أنْ ينتزع مِن الأشياء الموجودة في الواقع الموضوعي مفهومين متغايرين هما: مفهوم الوجود، ومفهوم الماهية. فمثلاً: الإنسان الموجود في الواقع الخارجي يقوى العقل على أنْ ينتزع منه: أنَّه إنسان، وأنَّه موجود. فالإنسانية هي الماهية. والموجودية هي الوجود.

____________________

(١) كشف المراد.

١٦

فأيُّ هذين المفهومين هو الأصيل؟ وأيُّهما الاعتباري؟ وكما اختُلف في المسألة السابقة على قولين اختُلف في هذه المسألة على قولين أيضاً هما:

أ- الوجود هو الأصيل والماهية اعتبارية.

ب- الماهية هي الأصيلة والوجود اعتباري.

قال بالرأي الأول المشَّاؤون، ونسب القول الثاني إلى الإشراقيين.

واستُدلَّ للقول الأول بأدلَّة منها: أنَّ الماهية مِن حيث هي مستوية النسبة إلى الوجود والعدم، ولا تخرج مِن هذا الاستواء إلى مستوى الوجود إلاَّ بالوجود، وبواسطته تترتب عليها آثارها، التي هي قوام حقيقتها وكمال شيئيتها، نحو الجنس والفصل والخاصة كالحيوانية والناطقية والضاحكية للإنسان؛ ولأنَّ الوجود هو المخرج لها مِن حدِّ الاستواء المشار إليه كان هو الأصيل.

واستُدلَّ للقول الثاني: بأنَّ دعوى أصالة الوجود تستلزم أنْ يكون الوجود الموجود في الخارج موجوداً بوجود آخر؛ وعليه يلزم أنْ يكون لوجوده وجود، ولوجود وجوده وجود وهكذا. فتسلسل الوجودات إلى غير نهاية، وهو مُحال.

وعندما تبطل دعوى أصالة الوجود يتعيَّن القول باعتبارية وأصالة الماهية.

وردَّ: بأنَّ الوجود في الخارج موجود بنفس ذاته لا بوجود آخر، فلا تسلسل.

اعتبارات الماهية:

للماهية عند الاستعمال - وبلحاظ ما يقصده المستعمل منها - مِن حيث الإطلاق والتقييد ثلاثة أقسام، تسمَّى في الحكمة، اعتبارات الماهية. وذلك كالتالي:

تنقسم الماهية باعتبار ما أشرت إليه على قسمين: مطلقة، ومقيَّدة.

١- الماهية المطلقة:

وهي التي تُلحظ أثناء الاستقلال بذاتها، أيْ لا مع شيء زائد عليها. وبتعبير آخر: تؤخذ مطلقة مِن التقييد بشيء، سواء كان ذلك الشيء وجودياً أم عدميَّاً. واصطُلح عليها فلسفياً (الماهية لا بشرط)، أيْ غير المقيدة باشتراط شيء فيها، ولا باشتراط لا شيء فيها. مثل (اعتق رقبة) فالرقبة – وهي الماهية هنا – غير مقيدة لا بوصف وجودي ولا بوصف عدمي.

١٧

٢- الماهية المقيَّدة:

وهي التي تقيَّد أثناء الاستعمال بشيء.

ولأنَّ الشيء الذي نقيّد به قد يكون وجوديا وقد يكون عدمياً، قسمت على قمسين، هما:

أ- الماهية بشرط شيء:

وهي المقيدة بشيء وجودي مثل (اعتق رقبة مؤمنة)، فالرقبة هنا مقيدة بوصف وجودي وهو الإيمان.

ب - الماهية بشرط لا شيء:

وقد تنحصر تسميتها فيقال: (الماهية بشرط لا)، وهي المقيدة بشيء عدمي، مثل: (اعتق رقبة غير كافرة)، فالرقبة هنا مقيدة بوصف عدمي وهو عدم الكفر(١).

الخلاصة:

الوجود الذهني:

اتَّفقوا في أنَّ للماهيات وجوداً خارجياً، وعرَّفوه: بأنَّه الوجود الذي تترتَّب على الماهية فيه آثارها المقوِّمة لحقيقتها والمكملة لشيئيَّتها، ولكنْ اختلفوا في أنَّه هل هناك وجود آخر للماهية وراء الوجود الخارجي؟ أو أنَّه ليس للماهية إلاَّ هذا الوجود الخارجي؟

والمشهور بينهم أنَّ للماهية وجوداً آخر وراء هذا الوجود الخارجي، وهو الوجود الذهني، وعرّفوه: بأنَّه الوجود الذي لا تترتَّب فيه على الماهية آثارها. بمعنى أنَّ الموجود في الذهن ليس الماهية بلوازمها وأحكامها التي هي مترتِّبة عليها في الوجود الخارجي.

وإنَّما الموجود صورتها ومثالها المجردان عن حالها مِن آثار ولوازم، واحتجَّ المشهور على ما ذهبوا إليه مِن الوجود الذهني بوجوه:

الأول: إنَّا نحكم على المعدومات بأحكام إيجابية، كقولنا: (بحر مِن زئبق كذا) وقولنا: (اجتماع النقيضين غير اجتماع الضدين) إلى غير ذلك. والإيجاب إثبات، وإثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له؛ (إذن) فلهذه الموضوعات المعدومة وجود؛ إذ ليس في الخارج، ففي موطن آخر، ونسمِّيه الذهن.

____________________

(١) عدلت عن المجرَّدة ممثِّلاً بالمثال المذكور؛ لأنَّ المجرَّدة لا موطن لها إلاَّ الذهن، والقسمة – كما رأينا – قائمة على استعمال له واقع يعايشه الناس.

١٨

والثاني: إنَّا نتصوَّر أمور تتَّصف بالكلية والعموم كالإنسان الكلِّي، والحيوان الكلِّي. والتصوُّر إشارة عقلية لا تتحقَّق إلاَّ بمشار إليه موجود؛ وإذ لا وجود للكلِّي التلاقي كلي في الخارج فهي موجود في موطن آخر، ونسمِّيه الذهن.

الثالث: إنَّا نتصوَّر الصرف مِن كلِّ حقيقة، وهو الحقيقة محذوفاً عنها ما يكثرها بالخلط والانضمام، كالبياض المتصوَّر بحذف جميع الشوائب الأجنبية.

وصرف الشيء لا يتثنَّى ولا يتكرَّر، فهو واحد وحدة جامعة لكلِّ ما هو مِن سنخه، والحقيقة بهذا الوصف غير موجودة في الخارج، فهي موجودة في موطن آخر نسمِّية الذهن(١) انتهى ما قاله الفضلي.

____________________

(١) كتاب خلاصة علم الكلام – الدكتور عبد الهادي الفضلي.

١٩

الفصل الخامس

غرر في أنَّ الحق تعالى إنِّيَّته صرفة

والحق ماهيته أنيته إذ مقتضى المعروض معلولية

فسابق مع لاحق قد اتحد ولم تصل سلسلة الكون لحد

المنظومة (والحق) تعالى شأنه، قال المعلم الثاني: يقال: حق للقول المطابق للمخبر عنه إذا طابق القول.

ويقال: حق للموجود الحاصل بالفعل.

ويقال: حق للموجود الذي لا سبيل للبطلان إليه.

والأول تعالى حق مِن جهة المخبر عنه، حقٌّ مِن جهة الوجود، حقٌّ مِن جهة أنَّه لا سبيل للبطلان إليه، لكنَّا إذا قلنا: إنَّه حقٌّ؛ فلأنه الواجب الذي لا يخالطه بطلان، وبه يجب وجود كلِّ باطل (ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل) انتهى.

(ماهيته) أيْ ما به هو هو (إنِّيَّته) إضافة الإنِّيَّة إليه تعالى، إشارة إلى أنَّ المراد عينيَّة وجود الخاص الذي به موجوديته، لا الوجود المطلق المشترك فيه؛ لأنَّه زائد في الجميع عند الجميع، فهو صرف النور وبحت الوجود، الذي هو عين الوحدة الحقَّة والهوية الشخصية (إذ مقتضى العروض) لو كان وجوده عرضياً لماهيته، بأنْ يكون شيئاً ووجوداً كما أنَّ الممكن ماهية ووجود (معلوليته) أيْ معلولية الوجود العارض؛ لأنَّ كلَّ عرضي معلَّل، حتَّى إنَّه عرِّف الذاتي بما لا يعلَّل، والعرضي بما يعلَّل، فوجوده إمَّا معلول لمعروضه والعلَّة متقدِّمة بالوجود على المعلول، وذلك الوجود الذي هو ملاك التقدم إمَّا عين ذلك الوجود المعول (فسابق) هو وجود المعروض (مع لاحق) هو الوجود العارض (قد اتَّحد)؛ فيلزم تقدُّم الشيء على نفسه وأمَّا غير ذلك الوجود المعلول، فحينئذ ننقل الكلام إليه والفرض أنَّ الوجود عارض، وهو أيضاً معلول للمعروض وهكذا، وإليه أشرنا بقولنا: (أو لم تصل سلسلة الكون) أيْ الوجود (لحدٍّ) أيْ إلى حدِّ فيلزم التسلسل، وإمَّا معلول لغير المعروض فيلزم إمكانه؛ إذ المعلولية للغير ينافي الواجبية. وإنَّما لم نتعرَّض له لظهور بطلانه، ولك أنْ تدرجه في النظم؛ لأنَّ ذلك الغير إمَّا ممكن فيدور، ومفسدة الدور تقدُّم الشيء على نفسه، وإمَّا واجب آخر فيتسلسل؛ لأنَّ الكلام فيه كالكلام في الأول؛ حيث إنَّ عينية الوجود للذات مِن خواص الواجب.

٢٠

وسبىَ نسائهم، فكنَّ اوَّل مسلمات سبين في الإسلام، وقتل أحياءً من بني سعد « ثمَّ أخرج أبو عمرو باسناده من طريق رجلين عن أبي ذر » : انّه دعا وتعوّذ في صلاة صلّاها أطال قيامها وركوعها وسجودها قال: فسئلاه ممَّ تعوَّذتَ؟ وفيمَ دعوتَ؟ قال تعوَّذت بالله من يوم البلاء يدركني، ويوم العورة أن أدركه. فقالا: وما ذاك؟ فقال: أمّا يوم البلاء فتلقى فئتان من المسلمين فيقتل بعضهم بعضاً، وأمّا يوم العورة فإنّ نساءاً من المسلمات يسبين فيكشف عن سوقهنَّ فأيَّتهنّ كانت أعظم ساقاً اُشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان ولعلّكما تدركانه. فقُتل عثمان ثمَّ أرسل معاوية بُسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساءً مسلمات فأقمن في السّوق.

وفي تاريخ ابن عساكر ٣: ٢٢٠ - ٢٢٤: كان بُسر من شيعة معاوية بن أبي سفيان وشهد معه صفِّين، وكان معاوية وجَّهه إلى اليمن والحجاز في أوّل سنة أربعين، وأمره أن يستقرأ من كان في طاعة عليّ فيوقع بهم، ففعل بمكة والمدينة واليمن أفعالاً قبيحةً وقد ولي البحر لمعاوية. وقتل باليمن ابني عبيد الله بن العبّاس. وقال الدارقطني: انّ بُسراً كانت له صحبة ولم يكن له استقامة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( يعني: أنّه كان من أهل الردّة ).

قال: وروى البخاري في التاريخ: انّ معاوية بعث بُسراً سنة سبع وثلاثين فقدم المدينة فبايع ثمَّ انطلق إلى مكّة واليمن فقتل عبد الرَّحمن وقثم ابني عبيد الله بن عبّاس وفي رواية الزهري: أنَّ معاوية بعثه سنة تسع وثلاثين فقدم المدينة ليبلّغ الناس فأحرق دار زرارة(١) بن خيرون أخي بني عمرو بن عوف بالسوق، ودار رفاعة(٢) ابن رافع، ودار عبد الله(٣) بن سعد من بني الأشهل، ثمّ استمرَّ إلى مكّة واليمن فقتل عبد الرَّحمن بن عبيد، وعمرو(٤) بن امّ إدراكة الثقفي، وذلك انّ معاوية بعثه

____________________

١ - صحابىّ توجد ترجمته فى معاجم الصحابة.

٢ - صحابىّ مترجم له فى المعاجم.

٣ - صحابىّ ترجم له اصحاب فهارس الصحابة.

٤ - صحابىّ مذكور في عدّ الصحابة.

٢١

على ما حكاه ابن سعد ليستعرض الناس فيقتل من كان في طاعة عليّ بن أبي طالب فأقام في المدينة شهراً فما قيل له في أحد: إنَّ هذا ممَّن أعان على عثمان إلّا قتله، وقتل قوماً من بني كعب على مائهم فيما بين مكّة والمدينة وألقاهم في البئر ومضى إلى اليمن.

وقتل من همدان بالجرف من كان مع عليّ بصفين فقتل أكثر من مأتين، وقتل من الأبناء كثيراً وهذا كلّه بعد قتل عليّ بن أبي طالب.

قال ابن يونس: كان عبيد الله بن العبّاس قد جعل ابنيه عبد الرَّحمن وقثم عند رجل من بني كنانة وكانا صغيرين فلمّا انتهى بُسر إلى بني كنانة بعث إليهما ليقتلهما، فلمّا رأى ذلك الكناني دخل بيته فأخذ السيف واشتدَّ عليهم بسيفه حاسراً وهو يقول:

ألليث من يمنع حافات الدار

ولا يزال مصلتاً دون الدار(١)

إلّا فتى أروع غير غدّار

فقال له بُسر: ثكلتك امّك والله ما أردنا قتلك فِلمَ عرضتَ نفسكَ للقتل؟ فقال: اُقتل دون جاري فعسى اُعذر عند الله وعند الناس. فضرب بسيفه حتّى قُتل، وقدّم بُسر الغلامين فذبحهما ذبحاً، فخرج نسوةٌ من بني كنانة فقالت قائلةٌ منهنَّ: يا هذا هؤلاء الرجال قتلت فعلامَ تقتل الولدان؟ والله ما كانوا يُقتلون في الجاهليّة ولا إسلام والله انّ سلطاناً لا يقوم إلّا بقتل الرضَّع الصغيرة والمدره الكبير، وبرفع الرَّحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء فقال لها بُسر: والله لقد هممت أن أضع فيكنَّ السيف. فقالت: تالله انَّها لاُخت التي صنعت، وما أنا بها منك بآمنة.

ثمَّ قالت للنساء اللواتي حولها: ويحكنَّ تفرَّقن.

وفي الإصابة ٣: ٩: عمرو بن عميس قتله بُسر بن ارطاة لمـّا أرسله معاوية للغارة على عمّال عليّ فقتل كثيراً من عمّاله من أهل الحجاز واليمن.

صورة مفصّلة

كان بُسر بن أرطاة(٢) قاسي القلب، فظّاً سفّاكاً للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة

____________________

١ - والصحيح: ولا يزال مصلتاً دون الجار.

٢ - ويقال؟: ابن ابى ارطاة.

٢٢

، فأمره معاوية أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكّة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة عليّ إلّا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنّهم لا نجاء لهم، وانّك محيطٌ بهم، ثمَّ اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي، فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة عليّ حيث كانوا.

وفي راوية إبراهيم الثقفي في ( الغارات ) في حوادث سنة اربعين: بعث معاوية بُسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف وقال: سر حتّى تمرّ بالمدينة فاطرد الناس، واخفَّ به مَن مررت به، وانهب اموال كلِّ من أصبت له مالاً ممّن لم يكن له دخلٌ في طاعتنا، فاذا دخلت المدينة فأرهم إنَّك تريد أنفسهم، وأخبرهم إنَّه لا براءة لهم عندك ولا عذر حتى إذا ظنّوا انّك موقع بهم فاكفف عنهم، ثمَّ سر حتى تدخل مكّة ولا تعرض فيها لأحد، وأرحب الناس عنك فيما بين المدينة ومكّة، واجعلها شرودات حتى تأتي صنعاء والجند، فإنَّ لنا بها شيعة وقد جاء في كتابهم.

فخرج بُسر في ذلك البعث مع جيشه وكانوا إذا وردوا ماءً أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر، فيردّون تلك الإبل ويركبون إبل هؤلاء، فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة، فاستقبلتهم قضاعة ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة، وعامل عليّعليه‌السلام عليها أبو أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج عنها هارباً ودخل بُسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم وتهدّدهم يومئذ وتوعّدهم وقال: شاهت الوجوه إنّ الله تعالى ضرب مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنّة يأتيها رزقها رغداً. وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله كان بلدكم مهاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنزله وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربّكم ولم ترعوا حقَّ نبيّكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل ومتربّص وشامت، إن كانت للمؤمنين قلتم: ألم نكن معكم؟ وإن كان للكافرين نصيب، قلتم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟ ثمَّ شتم الأنصار، فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبد الأشهل! أما والله لأوقعنَّ بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان، أما والله لأدعنَّكم

٢٣

أحاديث كالاُمم السّالفة، فتهدَّدهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلى حُويطب بن عبد العزَّى، ويقال: انّه زوج امّه فصعد إليه المنبر فناشده وقال: عترتك وأنصار رسول الله وليست بقتلة عثمان، فلم يزل به حتى سكن ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ونزل فأحرق دوراً كثيرة منها: دار زرارة بن حرون أحد بني عمرو بن عوف، ودار رفاعة بن رافع الزرقي، ودار أبي أيّوب الأنصاري، وفقد جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: مالي لا أرى جابراً يا بني سلمة؟ لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر. فعاذ جابر بامّ سلمة رضي الله عنها، فأرسلت إلى بُسر بن أرطاة فقال: لا أو منه حتى يبايع فقالت له امّ سلمة: اذهب فبايع، وقالت لابنها عمر: اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه.

وروى من طريق وهب بن كيسان قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لمـَّا خفت بُسراً وتواريت عنه قال لقومي: لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر فأتوني وقالوا: ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت فحقنت دمك ودماء قومك فانَّك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا وسبيت ذرارينا، فاستنظرتهم الليل فلمّا أمسيت دخلت على امّ سلمة فاخبرتها الخبر فقالت: يا بنيَّ انطلق فبايع احقن دمك ودماء قومك، فانّي قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع، وإنِّي لأعلم انّها بيعة ضلالة.

قال إبراهيم: فأقام بُسر بالمدينة أيّاماً ثمّ قال لهم: إنّي قد عفوت عنكم وإن لم تكونوا لذلك بأهل، ما قومٌ قتل امامهم بين ظهرانيهم بأهل أن يكفّ عنهم العذاب، ولئن نالكم العفو منيّ في الدّنيا انّي لأرجو أن لا تنالكم رحمة الله عزَّ وجلَّ في الآخرة، وقد استخلفت عليكم أبا هريرة فإيّاكم وخلافه. ثمَّ خرج إلى مكّة.

وروى الوليد بن هشام قال: أقبل بُسر فدخل المدينة فصعد منبر الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ قال: يا أهل المدينة خضبتم لحاكم وقتلتم عثمان مخضوباً، والله لا أدع في المسجد مخضوباً إلّا قتلته. ثمَّ قال لأصحابه: خذوا بأبواب المسجد وهو يريد أن يستعرضهم فقام إليه عبد الله بن الزبير وأبو قيس أحد بني عامر بن لويّ فطلبا إليه حتى كفّ عنهم وخرج إلى مكّة فلمّا قرب منها هرب قثم بن العباس وكان عامل عليعليه‌السلام

٢٤

ودخلها بُسر فشتم أهل مكّة وأنّبهم ثمَّ خرج عنها واستعمل عليها شيبة بن عثمان.

وروى عوانة عن الكلبي: انَّ بُسراً لمـّا خرج من المدينة إلى مكّة قتل في طريقه رجالاً، وأخذ أموالاً، وبلغ أهل مكّة خبره فتنحَّى عنها عامَّة أهلها، وتراضى الناس بشيبة بن عثمان أميراً لمـّا خرج قثم بن العبّاس عنها، وخرج إلى بُسر قومٌ من قريش فتلقّوه فشتمهم ثمَّ قال: أما والله لو تركت ورأيي فيكم لتركتكم وما فيها روحٌ تمشي على الأرض. فقالوا: ننشدك الله في أهلك وعترتك. فسكت ثمَّ دخل وطاف بالبيت وصلّى ركعتين ثمَّ خطبهم فقال: الحمد لله الذي أعزَّ دعوتنا، وجمع اُلفتنا، وأذلَّ عدوَّنا بالقتل والتشريد، هذا ابن ابي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق قد ابتلاه الله بخطيئته، وأسلمه بجريرته، فتفرَّق عنه أصحابه ناقمين عليه، وولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان، فبايعوا، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا. فبايعوا وفقد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده وأقام أيّاماً ثمَّ خطبهم فقال: يا أهل مكّة! انّي قد صفحت عنكم فإيّاكم والخلاف، فوالله إن فعلتم لأقصدنَّ منكم إلى التي تبير الأصل، وتحرب المال، وتخرب الديار، ثمَّ خرج إلى الطائف.

قال [ إبراهيم الثقفي ]: ووجّه رجلاً من قريش إلى نبالة وبها قومٌ من شيعة عليّعليه‌السلام وأمره بقتلهم فأخذهم وكلم فيهم وقيل له: هؤلاء قومك فكفَّ عنهم حتّى نأتيك بكتاب من بُسر بأمانهم فحبسهم وخرج منيع الباهلي من عندهم إلى بُسر وهو بالطائف يستشفع إليه فيهم، فتحمّل عليه بقوم من الطائف فكلّموه فيهم وسألوه الكتاب بإطلاقهم فوعدهم ومطلهم بالكتاب حتى ظنَّ انَّه قد قتلهم القرشيُّ المبعوث لقتلهم، وانَّ كتابه لا يصل إليهم حتّى يُقتلوا، ثمَّ كتب لهم فأتى منيع منزله وكان قد نزل على امرأة بالطائف ورحله عندها فلم يجدها في منزلها فوطئ على ناقته بردائه وركب فسار يوم الجمعة وليلة السبت لم ينزل عن راحلته قطّ فأتاهم ضحوة وقد اُخرج القوم ليُقتلوا واستبطئ كتاب بُسر فيهم فقدّم رجلٌ منهم فضربه رجل من أهل الشام فانقطع سيفه فقال الشاميون بعضهم لبعض: شمّسوا سيوفكم حتى تلين فهزّوها وتبصّر منيع الباهلي بريق السيوف، فألمع بثوبه فقال القوم: هذا راكبٌ عنده خبر

٢٥

فكفّوا وقام به بعيره، فنزل عنه وجاء على رجليه يشدُّ فدفع الكتاب اليهم فاُطلقوا، وكان الرّجل المقدَّم الذي ضُرب بالسيف فانكسر السيف أخاه.

قال ابراهيم: وروى علي بن مجاهد عن ابن اسحاق: انَّ اهل مكّة لمـّا بلغهم ما صنع بُسر خافوه وهربوا، فخرج ابنا عبيد الله بن العبّاس وهما: سليمان. وداود. وامّهما حوريّة ابنة خالد بن فارط الكنانيَّة وتكنّى امّ حكيم، وهم حلفاء بني زهرة وهما غلامان مع أهل مكّة فأضّلوهما عند بئر ميمون بن الحضرمي، وميمون هذا أخو العلاء بن الحضرمي، وهجم عليهما بُسر فأخذهما وذبحهما فقالت امّهما:

ها من أحسَّ بابنيّ اللذين هما

كالدرَّتين تشظّى عنهما الصدفُ(١)

وقد روي انَّ اسمهما: قثم وعبد الرّحمن، وروي: انّهما ضلّا في أخوالهما من بني كنانة، وروي: انّ بُسراً انَّما قتلهما باليمن وانّهما ذُبحا على درج صنعاء وروى عبد الملك بن نوفل عن أبيه: انّ بُسراً لمـّا دخل الطائف وقد كلّمه المغيرة قال له: لقد صدقتني ونصحتني فبات بها وخرج منها وشيّعه المغيرة ساعة ثمَّ ودّعه وانصرف عنه فخرج حتّى مرّ ببني كنانة وفيهم ابنا عبيد الله بن العبّاس وامّهما فلمّا انتهى بُسر إليهم طلبهما، فدخل رجلٌ من بني كنانة، وكان أبوهما أوصاه بهما، فأخذ السيف من بيته وخرج فقال له بُسر: ثكلتك امّك والله ما كنّا أردنا قتلك فِلم عرضت نفسك للقتل؟ قال: اُقتل دون جاري أعذر لي عند الله والناس. ثمّ شدَّ على أصحاب بُسر بالسيف حاسراً وهو يرتجز:

آليت لا يمنع حافات الدار

ولا يموت مصلتاً دون الجار

إلّا فتى أروع غير غدّار

فضارب بسيفه حتى قُتل، ثمَّ قدّم الغلامان فقتلا، فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهنّ: هذه الرجال يقتلها فما بال الولدان؟ والله ما كانوا يُقتلون في جاهليّة ولا اسلام، والله إنَّ سلطاناً لا يشتدّ إلّا بقتل الرضّع الضعيف، والشيخ الكبير ورفع الرّحمة، وقطع الأرحام، لسلطان سوء، فقال بُسر: والله لهممت أن أضع فيكنَّ

____________________

١ - الى آخر الابيات التي مرت في صفحة ١٧، ١٨.

٢٦

السيف، قالت: والله إنّه لأحبّ إليَّ إن فعلت.

قال إبراهيم: وخرج بُسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان وابنه مالكاً وكان عبد الله هذا صهراً لعبيد الله بن العبّاس ثمَّ جمعهم وقام فيهم، وقال: يا أهل نجران! يا معشر النصارى وإخوان القرود! أمّا والله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودنَّ عليكم بالتي تقطع النسل، وتهلك الحرث، وتخرب الديار، وتهدَّدهم طويلاً ثمَّ سار حتى دخل أرحب فقتل أبا كرب وكان يتشيَّع ويقال: إنَّه سيِّد من كان بالبادية من همدان فقدَّمه فقتله، وأتى صنعاء قد خرج عنها عبيد الله بن العبّاس وسعيد بن نمران، وقد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن اراكة الثقفي، فمنع بُسراً من دخولها وقاتله فقتله بُسر ودخل صنعاء فقتل منها قوماً، وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلّا رجلٌ واحدٌ ورجع إلى قومه فقال لهم: أنعي قتلانا، شيوخاً وشبّانا.

قال إبراهيم: وهذه الأبيات المشهورة لعبد بن اراكة الثقفي يرثي بها ابنه عمراً:

لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارساً

بصنعاء كالليث الهزبر أبي الأجرِ

تعزَّ فإن كان البكا ردَّ هالكاً

على أحد فاجهد بكاك على عمروِ

ولا تبك ميتاً بعد ميت أحبّة

عليّ وعبّاس وآل أبي بكرِ

قال: ثمَّ خرج بُسر من صنعاء فأتى أهل حبسان وهم شيعة لعليّعليه‌السلام فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم وقتّلهم قتلاً ذريعاً، ثمّ رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس لأنّ ابني عبيد الله بن العبّاس كانا مستترين في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج وكان الذي قتل بُسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفاً، وحرَّق قوماً بالنار، فقال يزيد بن مفرغ:

تعلّق من أسماء ما قد تعلّقا

ومثل الذي لاقى من الشوق أرّقا

سقى منفخ الاكناف منبعج الكلى

منازلها من مشرقات فشرَّقا

إلى الشَّرف الأعلى إلى رامهرمز

إلى قربات الشيخ من نهر اربقا

إلى دست مارين إلى الشطّ كله

إلى مجمع السّلّان من بطن دورقا

إلى حيث يرقى من دجيل سفينه

إلى مجمع النهرين حيث تفرّقا

٢٧

إلى حيث سار المرء بُسر بجيشه

فقتّل بُسرٌ ما استطاع وحرَّقا

قال: ودعا عليُّعليه‌السلام على بُسر فقال: أللّهم انَّ بسراً باع دينه بالدنيا، وانتهك محارمك، وكانت طاعة مخلوق فاجر، آثر عنده ممّا عندك، أللّهم فلا تمته حتى تسلبه عقله، ولا توجب له رحمتك، ولا ساعة من نهار، أللّهم العن بُسراً وعمراً ومعاوية، وليحلّ عليهم غضبك، ولتنزل بهم نقمتك، وليصبهم بأسك وزجرك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين. فلم يلبث بُسر بعد ذلك إلّا يسيراً حتّى وسوس وذهب عقله، فكان يهذي بالسيف ويقول: اعطوني سيفاً أقتل به. لا يزال يردِّد ذلك حتى اتّخذ له سيفٌ من خشب، وكانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه فلبث كذلك إلى أن مات(١) .

وفي شرح ابن أبي الحديد ٣: ١٥: روى أبو الحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدايني من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلِّ كورة وعلى كلِّ منبر يلعنون عليّاً ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدُّ الناس بلاءً حينئذ اهل الكوفة لكثرة مَن بها من شيعة عليّعليه‌السلام فاستعمل عليهم زياد بن سميّة وضمَّ إليه البصرة فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارفٌ لأنَّه كان منهم أيّام عليّعليه‌السلام فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرَّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروفٌ منهم وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق: أن لا يُجيروا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا مَن قبلكم من شيعة عثمان ومحبِّيه وأهل ولايته والّذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرِّبوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكلِّ ما يروي كلُّ رجل منهم واسمه واسم ابيه وعشيرته ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلِّ مصروتنا فسوا في المنازل والدّنيا، فليس يجيء أحدٌ

____________________

١ - شرح ابى الحديد ١: ١١٦ - ١٢١.

٢٨

مردودُ من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقرَّبه وشفَّعه فلبثوا بذلك حيناً، ثمَّ كتب إلى عمّاله: انَّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلِّ مصر وفي كلِّ وجه وناحية فإذا جائكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرِّواية في فضائل الصّحابة والخلفاء الأوّلين ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلّا وأتوني بمناقض له في الصّحابة مفتعلة، فإنَّ هذا أحبُّ إليَّ، وأقرُّ لعيني، وأدحض لحجَّة أبي تراب وشيعته، وأشدُّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

ثمَّ كتب إلى عمّاله نسخةً واحدةً إلى جميع البلدان: انظروا إلى مَن أقامت عليه البيّنة انَّه يحبُّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطائه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة اخرى: من اتَّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة حتَّى أنَّ الرجل من شيعة عليّعليه‌السلام ليأتيه مَن يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرَّه ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يُحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه، فظهر حديث كثيرٌ موضوعٌ وبهتانٌ منتشرٌ إلخ.

استخلف زياد على البصرة سمرة بن جندب لمـَّا كتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة فكان زيادٌ يقيم ستَّة أشهر بالكوفة وستَّة أشهر بالبصرة، وسمرة من الّذين أسرفوا في القتل على علم من معاوية بل بأمر منه، أخرج الطبري من طريق محمّد بن سليم قال: سألت أنس بن سيرين: هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يُحصى من قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس، فقال له معاوية: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت، أو كما قال. قال أبو سوار العدوي: قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن.

وروى باسناده عن عوف قال: أقبل سمرة من المدينة فلمَّا كان عند دور بني أسد خرج رجلٌ من أزقَّتهم ففجأ أوائل الخيل فحمل عليه رجلٌ من القوم فأوجره الحربة قال: ثمَّ مضت الخيل فأتى عليه سمرة بن جندب وهو متشحِّطٌ في دمه فقال: ما هذا

٢٩

؟ قيل: أصابته أوائل خيل الأمير. قال: إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتَّقوا أسنَّتنا(١) .

أعطى معاوية سمرة بن جندب من بيت المال أربعمائة الف درهم على أن يخطب في أهل الشام بأنَّ قوله تعالى: ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام، وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبُّ الفساد انَّها نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . وانّ قوله تعالى: ومن الناس من يَشري نفسه ابتغاء مرضات الله. نزل في ابن ملجم أشقى مراد(٢) .

وأخرج الطبري من طريق عمر بن شبَّه قال: مات زياد وعلى البصرة سمرة بن جندب خليفةً له، فأقر سمرة على البصرة ثمانية عشر شهراً. قال عمر: وبلغني عن جعفر الضبعي قال: أقرَّ معاوية سمرة بعد زياد ستَّة أشهر ثمَّ عزله فقال سمرة: لعن الله معاوية والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذَّبني أبدا.

وروى من طريق سليمان بن مسلم العجلي قال: سمعت أبي يقول: مررت بالمسجد فجاء رجلٌ إلى سمرة فأدّى زكاة ماله ثمَّ دخل فجعل يصلّي في المسجد فجاء رجلٌ فضرب عنقه فإذا رأسه في المسجد وبدنه ناحية، فمرّ أبو بكرة فقال: يقول الله سبحانه: قد أفلح من تزكىّ وذكر اسم ربِّه فصلّى. قال أبي: فشهدت ذلك فما مات سمرة حتّى أخذه الزمهرير فمات شرّ ميتة. قال: وشهدته واُتي بناس كثير واناسٌ بين يديه فيقول للرجل: ما دينك؟ فيقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانَّ محمّداً عبده ورسوله، وإنِّي بريٌ من الحروريَّة. فيقدَّم فيضرب عنقه حتى مرّ بضعة وعشرون. تاريخ الطبري ٦: ١٦٤.

وفي مقدَّم عمّال معاوية الحاملين عداء سيِّد العترة، المهاجمين على شيعة آل الله بكلِّ قوىً متيسِّرة زياد بن سميَّة، ومن الزائد جدّاً بحثنا عن جرائمه الوبيلة التي حفظها له التاريخ، وأسودَّت بها صفحات تاريخه، ولا بدع وهو وليد البغاء من الأدعياء المشهورين، ربيب حجر سميَّة البغيِّ، والإناء إنَّما يترشَّح بما فيه، والشوك

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٦: ١٣٢.

٢ - شرح ابن ابى الحديدا: ٣٦١.

٣٠

لا يثمر العنب، وقد صدَق النبيُّ الكريم في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السبطين ووالديهما: لا يحبّهم إلّا سعيد الجدِّ طيِّب المولد، ولا يبغضهم إلّا شقيّ الجدِّ رديّ المولد. وكان السَّلف يبور أولادهم بحبِّ عليّعليه‌السلام فمن كان لا يحبّه علموا انَّه لغير رشدة(١) . فلا تعجب من الدعيِّ ومن كتابه القارص إلى الإمام السبط الحسن الزكيّعليه‌السلام قد شفع إليه في رجل من شيعته. قال ابن عساكر: كان سعد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة عليّ بن أبي طالب، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه وطلبه زياد فأتي الحسن بن عليّ فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته وحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن عليّ إلى زياد. أمّا بعد: فإنَّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله وعياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره، واردد عليه عياله وماله، فإنّي قد أجرته فشفِّعني فيه. فكتب اليه زياد:

من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة: أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة كتبتَ إليَّ في فاسق لا يؤبه به، وشرٌّ من ذلك تولّيه أباك وإيّاك، وقد علمت أنَّك أدنيته إقامةً منك على سوء الرأي ورضي منك بذلك، وأيم الله لا تسبقني به، ولو كان بين جلدك ولحمك، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك، فإنَّ أحبَّ لحم إليَّ أن آكل منه أللحم الذي أنت منه، فسلّمه بجريرته إلى مَن هو أولى به منك، فإن عفوتُ عنه لم أكن شفَّعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلّا لحبّه أباك الفاسق، والسَّلام(٢) ، ولمـّا بلغ موته ابن عمر قال: يا ابن سميَّة! لا الآخرة أدركت ولا الدنيا بقيت عليك.

كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرِّضهم على لعن عليّعليه‌السلام - وفي لفظ البيهقي: يحرِّضهم على البرائة من عليّ كرَّم الله وجهه، فملأ منهم المسجد و

____________________

١ - مرت تلكم الاحاديث وستأتى فى مسند المناقب ومرسلها.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٥: ٤١٨، شرح ابن الحديد ٤: ٧، ٧٢.

٣١

الرحبة - فمن أبي ذلك عرضه على السيف. وعن المنتظم لابن الجوزي: انّ زياداً لمـّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم، وهمَّ أن يخرب دورهم، ويحمر نخلهم، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البرائة من عليعليه‌السلام وعلم أنّهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم. فذكر عبد الرَّحمن بن السائب قال: اُحضرت فصرت إلى الرحبة ومعي جماعة من الأنصار، فرأيت شيئاً في منامي وأنا جالسٌ في الجماعة وقد خفقت، وهو انّي رأيت شيئاً طويلاً قد أقبل فقلت: ما هذا؟ فقال: أنا النقّاد ذو الرقبة بُعثت إلى صاحب هذا القصر، فانتبهت فزعاً فما كان إلّا مقدار ساعة حتى خرج خارجٌ من القصر فقال: انصرفوا فإنَّ الأمير عنكم مشغولٌ، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء، وفي ذلك يقول عبد الله بن السائب:

ما كان منتهياً عمّا أراد بنا

حتى تأتّى له النقّاد ذو الرقبة

فاسقط الشقَّ منه ضربة ثبتت

لمـّا تناول ظلماً صاحب الرحبة(١)

قال الأميني: هلمَّ معي نقرأ هذه الصحائف السوداء المحشوَّة بالمخازي وشية العار، المملوَّة بالموبقات والبوائق، فننظر هل في الشريعة البيضاء، أو في نواميس البشريَّة، أو في طقوس العدل مساغُ لشيء منها؟ دع ذلك كلّه هل تجد في عادات الجاهليّة مبرِّراً لشيء من تلكم الهمجيَّة؟ وهل فعل اولئك الأشقياء الأشدّاء في أيّامهم المظلمة فعلاً يربو مخاريق ابن هند؟ لا. وإنّك لا تسمع عن أحد ممّن يحمل عاطفةً إنسانيّةً ولا أقول ممّن يعتنق الدين الحنيف فحسب يستبيح شيئاً من ذلك، أو يحبِّذ مخزاتاً من تلكم المخازي، وهل تجد معاوية وهذه جناياته من مصاديق قوله تعالى:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْکُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُکَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) الآية؟(٢) . فهل ترى ابن أبي سفيان خارجاً عنهم؟ فليس هو من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ممّن معه، ولا رحيماً بهم، أو أنَّ من ناواه وعاداه وسبّه وآذاه وقتله وهتكه خارجون عن ربقة الإسلام؟

____________________

١ - مروج الذهب ٢: ٦٩، المحاسن والمساوى للبيهقى ١: ٣٩، قال المسعودى والبيهقى: صاحب الرحبة هو على بن أبى طالب، شرح ابن ابى الحديد ١: ٢٨٦ نقلا عن ابن الجوزى.

٢ - سورة الفتح ٢٩.

٣٢

فهو شديدٌ عليهم وهم خيرةُ اُمّة محمّد المسلمة، تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا. فالحكم للنصفة لا غيرها.

كأنَّ هاهنا نسيت ثارات عثمان وعادت تبعة اولئك المضطهدين محض ولاء عليّ امير المؤمنينعليه‌السلام وقد قرن الله ولايته بولايته وولاية رسوله، وحبّهم لمن يحبّه الله ورسوله، وطاعتهم لمن فرض الله طاعته، وودّهم من جعل الله ودَّه أجر الرِّسالة. فلم يقصد معاوية وعمّاله أحداً بسوء إلّا هؤلاء، فطفق يرتكب منهم ما لا يُرتكب إلّا من أهل الردَّة والمحادَّة لله ولرسوله. فكان الطريد اللعين ابن الطريد اللعين مروان، وأزني ثقيف مغيرة بن شعبة، واُغيلمة قريش الفسقة في أمنٍ ودعة، وكان يولِّي لأعماله الزعانفة الفجرة أعداء أهل بيت الوحي: بُسر بن أرطاة، ومروان بن الحكم، ومغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، وعبد الله الفزاري، وسفيان بن عوف، والنعمان بن بشير، والضحاك بن قيس، وسمرة بن جندب، ونظرائهم، يستعملهم على عباد الله وهو يعرفهم حقَّ المعرفة ولا يبالي بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تولّى من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أنَّ فيهم من هو أولى بذلك وأعلم بكتاب الله وسنَّة رسوله فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين(١) . فكانوا يقترفون السيِّئات، ويجترحون المآثم بأمر منه ورغبة، ولم تكن عنده حريجة من الدين تزعه عن تلكم الجرائم، فأمر بالإغارة على مكّة المكرَّمة وقد جعلها الله بلداً آمناً يأمن من حلَّ بها وإن كان كافراً، ولأهلها وطيرها ووحشها ونباتها حرمات عند الله، وهي التي حقنت دم أبي سفيان ومن على شاكلته من حامل ألوية الكفر والإلحاد، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرعاها كلَّ الرعاية يوم الفتح وغيره، فما عامل أهلها هو وجيشه الفاتح إلّا بكلِّ جميل، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنَّ هذا بلد حرم الله يوم خلق السَّموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنّه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلّا ساعةً من نهار، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلّا من عرفها ولا يختلى خلاها(٢) .

____________________

١ - مجمع الزوائد ٥: ٢١١.

٢ - صحيح البخاري: باب لا يحل القتال بمكة ٣: ١٦٨، صحيح مسلم ٤: ١٠٩.

٣٣

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ مكّة حرَّمها الله ولم يحرِّمها الناس، فلا يحلُّ لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فان أحدٌ ترخّص لقتال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقولوا له: إنّ الله أذن لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يأذن لكم، وإنَّما أذن لي ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشاهد الغائب(١) .

وأمر ابن هند بالإستحواذ على مدينة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخافة أهلها والوقيعة فيهم واستقراء من يوجد فيها من شيعة عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه وللمدينة المنوَّرة في الإسلام حرمتها الثابتة، ولنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها قوله الصّادق: ألمدينة حرمٌ ما بين عائر إلى كذا، مَن أحدث فيها حدثاً(٢) أو آوى حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ، ذمَّة المسلمين واحدةٌ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يكيد أهل المدينة أحدٌ إلّا انماع كما ينماع الملح في الماء(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يريد أحدٌ أهل المدينة بسوء إلّا أذابه الله في النار ذوب الرّصاص أو ذوب الملح في الماء(٥) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أللهمَّ إنّ إبراهيم حرَّم مكّة فجعلها حرماً وإنِّي حرَّمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دمٌ، ولا يحمل فيها سلاحٌ لقتال، ولا تخبط فيها شجرةٌ إلّا لعلف(٦) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أهل هذه البلدة بسوء ( يعني المدينة ) أذابه الله كما

____________________

١ - صحيح البخارى: باب لا يعضد شجر الحرم ٣: ١٦٧.

٢ - قال القاضي عياض: معنى قوله: من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثا. الخ. من أتى فيها إثماً أو آوى من أتاه.

٣ - صحيح البخارى ٣: ١٧٩، صحيح مسلم ٤: ١١٤، ١١٥، ١١٦، مسند أحمد ١: ٨١، ١٢٦، ١٥١، ج ٢: ٤٥٠، سنن البيهقى ٥: ١٩٦، سنن أبى داود ١: ٣١٨.

٤ - صحيح البخارى ٣: ١٨١.

٥ - صحيح مسلم ٤: ١١٣.

٦ - صحيح مسلم ٤: ١١٧، سنن ابى داود ١: ٣١٨، واللفظ لمسلم.

٣٤

يذوب الملح في الماء. وفي لفظ سعد: من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله. الخ(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المدينة حرمٌ من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدثٌ، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما جبّار أراد المدينة بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء. وفي لفظ: من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه الطبراني برجال الصحيح: أللّهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أخاف اهل المدينة أخافه الله يوم القيامة، وغضب عليه، ولم يقبل منه صرفاً ولا عدلا(٥) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه النسائي: من أخاف اهل المدينة ظالماً لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله(٦) . وفي لفظ ابن النجار: من أخاف اهل المدينة ظلماً أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبيَّ. أخرجه أحمد في مسنده ٣: ٣٥٤ بالاسناد عن جابر بن عبد الله: إنَّ أميراً من اُمراء الفتنة قدم المدينة وكان قد ذهب بصر جابر فقيل لجابر: لو تنحّيت عنه فخرج يمشي بين ابنيه فنكب فقال: تعس من أخاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال ابناه أو أحدهما: يا أبت! وكيف أخاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مات؟ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من أخاف. الحديث.

____________________

١ - صحيح مسلم ٤: ١٢١، ١٢٢.

٢ - صحيح البخارى ٣: ١٧٨، سنن البيهقى ٥: ١٩٧.

٣ - وفاء الوفاء للسمهودى ١: ٣١.

٤ - وفاء الوفاء ١: ٣١ وصححه.

٥ - وفاء الوفاء ١: ٣١، فيض القدير ٦: ٤٠.

٦ - وفاء الوفاء ١: ٣١.

٣٥

قلت: الأمير المشار اليه هو بُسر بن أرطاة كما في وفاء الوفاء للسمهودي ١: ٣١ وصحّح الحديث.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه الطبراني في الكبير: من آذى أهل المدينة آذاه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل. وفاء الوفاء ١: ٣٢.

نعم: إنَّ بُسراً لم يلو إلى شيىء من ذلك وإنَّما اؤتمر بما سوَّل له معاوية من هتك الحرمات بقتل الرِّجال، وسبي النساء، وذبح الأطفال، وهدم الديار، وشتم الأعراض، وما رعي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاً ولا ذمَّةً في مجاوري حرم أمنه، وساكني حماه المنيع فخفر ذمَّته كما هتك حرمته، واستخفَّ بجواره، وآذاه باباحة حرمه حرم الله تعالى،( وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‌ ) (١) ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ ) (٢) فيالها من جرأة تقحمَّ صاحبها في المحادَّة لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه القويم.

كما أنَّ يزيد كان يحذو حذو أبيه في جرائمه الوبيلة وشنِّ الغارة على أهل المدينة المشرَّفة، وبعث مسلم بن عقبة الهاتك الفاتك إلى هتك ذلك الجوار المقدَّس بوصيَّة من والده الآثم قال السمهودي في وفاء الوفاء ١: ٩١:

وأخرج ابن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بنت أسماء: سمعت أشياخ المدينة يتحدَّثون: انّ معاوية رضي الله عنه لمـّا احتضر دعا يزيد فقال له: إنَّ لك من أهل المدينة يوماً فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنّي عرفت نصيحته. فلمّا ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم فرجع فحرَّض الناس على يزيد وعابه و دعاهم إلى خلع يزيد فأجابوه فبلغ ذلك يزيد فجهَّز اليهم مسلم بن عقبة. الخ.

وأخرجه البلاذري في أنساب الأشراف ٥: ٤٣ بلفظ أبسط من لفظ السمهودي.

____________________

١ - سورة التوبة: ٦١.

٢ - سورة الاحزاب: ٥٧.

٣٦

معاوية

وحجر بن عدى واصحابه

إنّ معاوية استعمل مغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين فلمّا أمَّره عليها دعاه وقال له: أمّا بعد: فإنَّ لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. وقد قال المتلمس:

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا

وما علّم الإنسان إلّا ليعلما

وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت ايصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها إعتماداً على بصرك بما يرضيني، ويسعد سلطاني، ويصلح رعيَّتي، ولست تارك ايصاءك بخصلة: لا تقهم عن شتم عليّ وذمِّه. والترحّم على عثمان والإستغفار له، و العيب على أصحاب عليّ والإقصاء لهم، وترك الإستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه والإدناء لهم، والإستماع منهم. فقال المغيرة: قد جرَّبت وجُرِّبت و عملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي رفعٌ ولا وضعُ، فستبلو فتحمد أو تذمّ. ثمّ قال: بل نحمد إن شاء الله. فأقام المغيرة عاملاً على الكوفة سبع سنين وأشهراً وهو من أحسن شيء سيرة وأشدّه حبّاً للعافية، غير أنّه لا يدع شتم عليّ والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرَّحمة والإستغفار له والتزكية لأصحابه، فكان حُجر بن عديّ إذا سمع ذلك قال: بل ايّاكم فذمّ الله ولعن ثمَّ قام وقال: إنَّ الله عزّ وجلّ يقول: كونوا قوّامين بالقسط شهداء الله، وأنا أشهد أنَّ من تذمُّون وتعيرون لأحقُّ بالفضل، وأنَّ من تزكّون وتطرون أولى بالذمِّ. فيقول له المغيرة: يا حُجر! لقد رمي بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك، يا حُجر! ويحك اتّق السّلطان، اتّق غضبه وسطوته، فإنَّ غضب السّلطان أحيانا ممّا يُهلك أمثالك كثيراً، ثمّ يكفُّ عنه ويصفح، فلم يزل حتى كان في آخر إمارته قام المغيرة فقال في عليّ وعثمان كما كان يقول وكانت مقالته. اللّهمَّ ارحم عثمان بن عفان، وتجاوز عنه واجزه بأحسن عمله، فانّه عمل بكتابك واتّبع سنّة نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجمع كلمتنا، وحقن دمائنا، وقتل مظلوماً(١) ، اللّهم فارحم أنصاره وأوليائه ومحبّيه والطالبين

____________________

١ - هذه كلها تخالف ما هو الثابت المعلوم من سيرة عثمان كما فصلنا القول فيها فى الجزء الثامن والتاسع.

٣٧

بدمه. ونال من عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ولعنه ولعن شيعته، فوثب حُجر فنعر نعرةً أسمعت كلّ من كان في المسجد وخارجه وقال: إنّك لا تدري بمن تولع من هرمك أيّها الانسان! مُر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنّك قد حبستها عنّا ولم يكن ذلك لك، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك، وقد أصبحت مولعاً بذمِّ أمير المؤمنين، وتقريظ المجرمين. فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق والله حُجر وبرّ، مُر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنّا لا ننتفع بقولك هذا ولا يُجدي علينا شيئاً. وأكثروا في مثل هذا القول، فنزل المغيرة فدخل القصر فاستأذن عليه قومه فأذن لهم فقالوا: علامَ تترك هذا الرّجل يقول هذه المقالة و يجتري عليك في سلطانك هذه الجرأة؟ فيوهن سلطانك، ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية، وكان أشدُّهم له قولاً في أمر حُجر والتعظيم عليه عبد الله بن أبي عقيل الثقفي، فقال لهم المغيرة: إنِّي قد قتلته إنّه سيأتي أميرٌ بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أوَّل وهلة فيقتله شرَّ قتلة، انّه قد اقترب أجلي، وضعف عملي، ولا اُحبّ أن ابتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم، فيسعدوا بذلك و أشقى، ويعزّ في الدنيا معاوية، ويذلّ يوم القيامة المغيرة.

ثمَّ هلك المغيرة سنة ٥١ فجمعت الكوفة والبصرة لزياد ( ابن سميّة ) فأقبل زياد حتى دخل القصر بالكوفة ووجّه إلى حُجر فجاءه، وكان له قبل ذلك صديقاً فقال له: قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك وإنّي والله لا أحتملك على مثل ذلك أبدا، أرأيت ما كنت تعرفني به من حبّ عليّ وودّه، فإنّ الله قد سلخه من صدري فصيّره بغضاً وعداوة، وما كنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فإنّ الله قد سلخه من صدري وحوَّله حبّاً ومؤدّة، وانّي أخوك الذي تعهد، إذا أتيتني وأنا جالسٌ للناس فاجلس معي على مجلسي، وإذا أتيت ولم اجلس للناس فاجلس حتّى أخرج إليك، ولك عندي في كلِّ يوم حاجتان: حاجة غدوة، وحاجة عشيّة، انّك إن تستقم تسلم لك دنياك ودينك، وإن تأخذ يميناً وشمالاً تهلك نفسك، وتشطُّ عندي دمك، انّي لا اُحبُّ التنكيل قبل التقدمة، ولا آخذ بغير حجّة، اللّهمّ اشهد. فقال حُجر: لن يرى الإمير منّي إلّا ما يُحبّ وقد نصح وأنا قابلٌ نصيحته. ثمَّ خرج من عنده.

٣٨

ولمـّا ولي زياد جمع أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من عليّ(١) فقام في الناس وخطبهم ثمّ ترحَّم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه، فقام حُجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة، وكان زياد يقيم ستَّة أشهر في الكوفة وستَّة أشهر في البصرة فرجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث فبلغه انّ حُجراً يجتمع إليه شيعة عليّ ويظهرون لعن معاوية والبرائة منه، وانّهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها فأتى القصر فدخله ثمّ خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خزّ أخضر قد فرق شعره وحجرٌ جالسُ في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا فصعد المنبر وخطب وحذّر الناس وقال: أما بعد: فإنّ غبَّ البغي والغيِّ وخيمٌ، إنَّ هؤلاء جمّوا فأشروا، وامنوني فاجترؤا على الله لئن لم تستقيموا لاُداوينَّكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع باحة الكوفة من حُجر، وأدعه نكالاً لمن بعده، ويل امّك يا حجر! سقط العشاء بك على سرحان.

ثمّ قال لشدّاد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط: اذهب فأتني بحُجر فذهب إليه فدعاه فقال أصحابه: لا يأتيه ولا كرامة فسبّوا الشرط فرجعوا إلى زياد فأخبروه، فقال: يا أشراف أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون باُخرى؟ أبدانكم عندي وأهواءكم مع هذا الهجاجة المذبوب(٢) . وفي الكامل: أبدانكم معي وقلوبكم مع حُجر الأحمق. و الله ليظهرنَّ لي براءتكم أو لآتينّكم بقوم اقيم بهم أودكم وصعركم. فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأيٌ إلّا طاعتك وما فيه رضاك. قال: فليقم كلُّ رجل منكم فليدعُ من عند حُجر من عشيرته وأهله ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه، وقال زياد لصاحب شرطته: انطلق إلى حُجر فإن تبعك فأتني به وإلّا فشدّوا عليهم بالسيوف حتّى تأتوني به. فأتاه صاحب الشرطة يدعوه فمنعه أصحابه من إجابته فحمل عليهم فقال أبو العمرطة الكندي لحجر: انَّه ليس معك رجلُ معه سيفٌ غيري فما يغني سيفي؟ قم فألحق بأهلك يمنعك قومك. فقام وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر وغشيهم أصحاب زياد فضرب رجلٌ من

____________________

١ - تاريخ ابن عساكره: ٤٢١.

٢ - فى لفظ الطبرى: الهجهاجة الاحمق المذبوب.

٣٩

الحمراء يقال له: بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع وحمله رجلان من الأزد وأتيا به دار رجل يقال له: عبيد الله بن موعد الأزدي، وضرب بعض الشرطة يد عائذ بن حملة التميمي وكسر نابه، وأخذ عموداً من بعض الشرط فقاتل به وحمى حُجراً وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة.

مضى حُجر وأبو العمرطة إلى دار حُجر واجتمع إليهما ناسٌ كثيرٌ ولم يأته من كندة كثير أحد فأرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان إلى جبَّانة كندة وأمرهم أن يأتوه بحُجر، وأرسل سائر أهل اليمن إلى جبَّانة الصائدين وأمرهم أن يمضوا إلى صاحبهم حُجر فيأتوه به، ففعلوا فدخل مذحج وهمدان إلى جبّانة كندة فأخذوا كلَّ من وجدوا، فأثنى عليهم زياد فلمّا رأى حُجر قلّة من معه أمرهم بالانصراف وقال لهم: لا طاقة لكم بمن قد اجتمع عليكم وما اُحبّ أن تهلكوا، فخرجوا فأدركهم مذحج و همدان فقاتلوهم وأسروا قيس بن يزيد ونجا الباقون فأخذ حُجر طريقاً إلى بني حوت فدخل دار رجل منهم يقال: له سليم بن يزيد، وأدركه الطلب فأخذ سليم سيفه ليقاتل فبكى بناته فقال حُجر: بئسما أدخلت على بناتك إذا قال: والله لا تؤخذ من داري أسيراً ولا قتيلاً وأنا حي، فخرج حُجر من خوخة في داره فأتى النخع فنزل دار عبد الله بن الحرث أخي الأشتر فأحسن لقاءه فبينما هو عنده إذ قيل له: إنّ الشرط تسأل عنك في النخع. وسبب ذلك انَّ أمة سوداء لقيتهم فقالت: من تطلبون؟ فقالوا: حُجر بن عدي. فقالت: هو في النخع. فخرج حُجر من عنده فأتى الأزد فاختفى عند ربيعة بن ناجد فلمّا أعياهم طلبه دعا زياد محمّد بن الأشعث وقال له: والله لتأتيني به أو لأقطعنَّ كلَّ نخلة لك وأهدم دورك، ثمَّ لا تسلم منّي حتّى اُقطِّعك إرباً إربا. فاستمهله فأمهله ثلاثاً واُحضر قيس بن يزيد أسيراً فقال له زياد: لا بأس عليك قد عرفت رأيك في عثمان وبلاءك مع معاوية بصفّين وإنّك إنّما قاتلت مع حُجر حميَّة وقد غفرتها لك ولكنّي ائتني بأخيك عُمير. فاستأمن له منه على ماله ودمه فأمنه فأتاه به وهو جريحٌ فأثقله حديداً وأمر الرِّجال أن يرفعوه ويلقوه ففعلوا به ذلك مراراً فقال قيس بن يزيد لزياد: ألم تؤمنه؟ قال: بلى قد أمنته على دمه ولست اُهريق له دماً، ثمَّ ضمنه وخلّى سبيله.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62