الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ0%

الشيعة في التاريخ مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 216

الشيعة في التاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد حسين الزين
تصنيف: الصفحات: 216
المشاهدات: 62377
تحميل: 7092

توضيحات:

الشيعة في التاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62377 / تحميل: 7092
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشيعة في التاريخ

محمد حسين الزين

١

بسم الله الرحمن الرحيم

المقَدِّمَة:

وله الحمد على ما هدانا لتوحيده، والإيمان برسله وأَنبيائه، والتمسّك بالثقلين؛ الكتاب الكريم والعترة الطاهرة، والاحترام للصحابة المهتدين والتابعين لهم بإِحسان، والصَّلاة والسَّلام على خاتم رسله محمّد وعلى آله الميامين وصحبه الأبرار.

وبعد.. فإنّ طائفة من كتب التاريخ والمِلل غير الشيعية، قد صوَّرت عقائد الشيعة بصور باهتة فظيعة، وتهجّمت على أئمّتهم وعلمائهم، غير مستنِدة في ذلك إلى مصدر وثيق، بريء من الأغراض السياسيّة والتعصّبات المذهبيّة، التي تمكّنت - في القرون الغابرة - من نفوس الأكثريّة السّاحقة من الناس.

وكان يجمُل بمؤلِّفِي تلك الكتب أن يستندوا، فيما يكتبونه عن الشيعة، إلى مؤلَّفات الشيعة الكثيرة في العقائد والأحكام، وأن يعلموا ما يقوله علماء الشيعة في أصول الدين وفروعه؛ ليحكموا عليهم بمقتضى تلك الأقوال. وإلاّ، فمن الجور في الحكم أن يحكم الإنسان على أخيه بما يتلقَّاه من أفواه خصومه، أو يراه في كتب أولئك الخصوم، بالأخص إذا كان ذلك المحكوم عليه في عالم الوجود معاصراً لأولئك المؤلِّفين، مجاهراً بعقيدته ومذهبه، ومثبِّتاً لهما في بطون الكتب المنتشِرة في المعمور.

ولنفرض أنّ وجود الشيعة إنّما كان في العصور الحجرية البائدة، لكن أَليست آثارهم العلمية الثمينة قد بقيت إلى عصر هؤلاء المؤلِّفين، ولم تزل زينة المكتبات إلى اليوم؟!. فكان على أولئك المؤلِّفين أن يروها ويستندوا إليها

٢

كما يستند الكتّاب الباحثون اليوم - مثلاً - عن الإغريق أو عن الفينيقيّين أو البابليّين إلى آثارهم الظاهرة، ويفتِّشون في بطون الأرض عن الآثار الخفيّة. أليس من المؤسِف كثيراً أن لا تَرى أحداً ممّن كتب من غير الشيعة عن الشيعة، قديماً أو حديثاً، يستند في الغالب إلى مؤلَّف شيعي.

وكيف يستندون إلى مؤلَّفات الشيعة الطافحة بالبراهين الساطعة على إثبات التوحيد والنبوّة وغيرهما من أَركان الدين الإِسلامي وأصوله؟!، وهم يريدون أن يحكموا جزافاً؛ كما حكم ابن حزم: (إنّ الروافض ليسوا من المسلمين؛ وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى)(١) . ولفظ الروافض كان عنده وعند أمثاله، نبزاً لعموم الشيعة، حتّى الاثني عشرية، كما يظهر جليَّاً لمـَن راجع (الفصل)، و(الخطط)، و(منهاج السنّة)، و(الصواعق)، وغيرها.

ويقول المقريزي:(إنّ الرافضة بلغت فِرقهم ثلاثمائة فِرقة(؟)، والمشهور منها: عشرون. الأولى: الإمامية، الثانية - من فِرق الروافض -: الكيسانية، الثالثة: الخطّابية، الرابعة: الزَّيديَّة،..... إلخ(٢) . وقد نسَب بعض العقائد الفاسدة إلى بعض أعلام الشيعة الإمامية، وجعل لهم، من عنده، أتباعاً وأسماءً؛ فقال: (والزُّرارية أَتباع زرارة بن أَعين؛ أحد الغلاة في الرَّفض، والهشامية أتباع هشام بن الحكم، واليُونسية أتباع يونس بن عبد الرحمن)(٣) . إلى غير ذلك من الفِرق التي اخترعها ولم يكن لها أثر ولا عين في الوجود.

ويقول ابن تيميَّة: ( إنَّ الرافضة لا يعرفون إمام زمانهم؛ فإنّهم يدَّعون أنّه الغائب المنتظر

محمّد بن الحسن)(٤) . ويقول أيضاً: (إنّ شيوخ الرافضة؛ كالمفيد والموسوي والطوسي وغيرهم، أخذوا ذلك (القول بالعدل) من المعتزلة)(٥) . وقال في مكان آخر: (الرافضة تجعل الأئمّة الاثني عشر أفضل من

____________________

(١) ج٢، ص٧٨ من فصله.

(٢) ج٤، ص١٧٣ من خططه.

(٣) ص١٧٦ منها.

(٤) منهاج السنّة، ص٢٧.

(٥) ص٣١ من منهاجه.

٣

السابقين الأوّلين).

ويقول ابن حجر الهيتمي: (وزعمت الرافضة، أنّ المهدي هو: الإمام محمد بن الحسن العسكري، ثاني عشر الأئمّة)(١) . فهذا القول أو الزعم - على زعم الهيتمي - لا يقوله غير الشيعة الاثني عشرية، فهم المقصودون إذن بهذا الخبر المفتعَل، الّذي ادّعى ابن جحر أنّ الذهبي أخرجه عن عليّ، وأنّ عليّاً(قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يظهر في أمّتي، في آخر الزمان، قوم يسمَّون: الرافضة، يرفضون الإسلام) (٢) ، وأنَّ الدارقطني أخرجه بزيادة أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لعليّ:(فإن أدركتهم فاقتلهم، فإِنّهم مشركون. قال قلت: ما العلامة فيهم؟، قال: يقرضونك بما ليس فيك، ويطعنون على السَّلف) ، وأنّ ظهور اسم الرافضة بعد عليّ بقليل، وثبوت الطعن على بعض السلف في حياة عليّ، وكون عليّ نفسه قد طعن على ذلك البعض. إنّ ذلك كله يدلُّ، بوضوح، على كذب هذا الخبر المحدِّد لظهور الرافضة في آخر الزمان، والأمر بقتلهم لخصوص الطعن على الخاطئين من السلف..

ومثله الأخبار المنسوبة إلى الشعبي، والمفنِّدة لعقائد الرافضة؛ لأنّ الشعبي قد توفّي سنة ١٠٥ هـ واسم الرافضة ظهر يوم نهض زيد بن عليّ سنة ١٢١ هـ؛ أي بعد وفاة الشعبي بسنين. ولكن ابن حجر تغافل عمّا في ذلك الخبر من علائم الكذب والوضع؛ فلأجله كرَّره في صواعقه وأخذ يصول به، كما كرَّر تلك الألفاظ البذيئة في حقِّ الشيعة البريئين.

وإنّا لنمرُّ عليها مرور الكرام، ولم نأت على ذكرها في كتابنا كُرْهاً بما تسبِّبه - على الأقل - من تباعد القلوب، الحريصين على تصافحها في مثل هذه الأيام الشديدة على الإِسلام والمسلمين. وإِنّما ذكرنا غيرها؛ من أقوال المقريزي وابن حزم وابن تيميَّة وابن حجر؛ لنستدلَّ بها على أنّ مرادهم بالرافضة - حينما يذكرونهم - عموم الشيعة؛ حتّى الاثني عشرية الّذين هم من الإسلام

____________________

(١) الصواعق، ص١٠٢.

(٢) الصواعق، ص٣.

٤

في الصميم؛ حيث تلقُّوا إِسلامهم، بأصوله وفروعه، من كتاب الله وسنّة رسوله؛ تلك الّتي رواها لهم العترة عن جدِّهم عن جبرائيل عن الباري، فلا (يجرون مجرى اليهود والنصارى)، ولا يقولون (بالتناسخ وغيره)، ممّا رماهم به المقريزي وغيره، ولا (يقرضون عليّاً بما ليس فيه)، فهم مسلمون لا مشركون، وإن جعلوا أئمّتهم أفضل من السابقين الأوّلين، أو طعنوا على بعض السلف المعاند لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قوله:(لا يؤمِن عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه، وتكون عترتي أحبّ إليه من نفسه. ولا يدخل الإِيمان قلب رجل حتّى يحبّوكم لله ولرسوله) (١) .

ومن الحمق أو الجهل أو الجمود، أن يُفرض على المسلمين موالاة من خالف قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):(من سبّ أهل بيتي فإنّما يرتدّ عن الإِسلام، ومن آذاني في عترتي فعليه لعنة الله، ومن آذاني فيهم فقد آذى الله. إنّ الله حرّم الجنّة على من ظلم أهل بيتي، أو قاتلهم، أو أعان عليهم، أو سبّهم) . وصحّ أيضاً أنّه قال:(والّذي نفسي بيده، لا يبغضنا أهل البيت أحد إلاّ أدخله الله النّار) (٢) .

وقد أثبت التاريخ الصحيح، وصحَّحت كتب الحديث المعتبَرة عند أهل السنة، أنّ بعض السلف قد سبَّ أهل البيت على منابرهم، وآذاهم وظلمهم، وقتل خيارهم وحاربهم، وأعان عليهم وأبغضهم. وسترى إثبات ذلك إن شاء الله.

أضف إلى ذلك، ما عدَّده أبو عثمان الجاحظ، من الآثام التي اقترفها بعض السلف طيّ رسالته في بني أميّة. منها قوله: (استوى معاوية على المـُلك، واستبد على بقية أهل الشورى، وعلى جماعة المسلمين، من المهاجرين والأنصار، في العام الذي سمّوه عام الجماعة. وما كان عام جماعة، بل عام فُرقة وقهر وجبريّة وغلبة، والعام الذي تحوّلت فيه الإِمامة مُلكاً كسروياً، والخلافة غصباً قيصرياً، ثُمَّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكيناه، وعلى منازل ما رتّبناه، حتّى ردّ قضية

____________________

(١) الصواعق، ص١٠٥.

(٢) الصواعق، ص١٤٠.

٥

رسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ردَّاً مكشوفاً، وجحد حكمه جحداً ظاهراً، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار، وليس(١) قتل حجر بن عدي، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعة يزيد الخليع، والاستئثار بالفيء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جنس الأحكام المنصوصة، والشرائع المشهورة، والسنن المنصوبة، وسواءٌ جحْد الكتاب وردّ السنّة؛ إذا كانت في شهرة الكتاب وظهوره، إلاّ أنّ أحدهما أعظم، وعقاب الآخرة عليه أشدّ).

وقد أرْبَت(٢) نابِتة عصرنا ومبدِعة دهرنا فقالت: لا تسبّوه؛ فإنّ له صحبة، سبّ معاوية بدعة، ومن بغضه فقد خالف السنّة. فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحَد السنّة)(٣) .

ومن ذلك السلف، الذي يكون الطاعن عليه مشركاً بزعم ابن حجر، عمرو بن العاص؛ الذي ألّب على عثمان (رض) وسرّ بقتله، ثُمَّ اجتمع مع معاوية يطالب بدمه ممّن كان من أشدّ المدافعين عنه وأعطفهم عليه، يوم أمر طلحة بمنع الماء عنه وتعجيل قتله.

كلّ ذلك كان من ابن العاص حبّاً بخراج مصر لا بعثمان، ولا بمعاوية أيضاً. وقد حذّر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من اجتماعهما، وأمر بالتفريق بينهما، وصرَّح بأنّهما لا يجتمعان إلاّ على غدر(٤) . ومن السلف يزيد، خليفة معاوية، الذي (وُلّي ثلاث سنين (بعده)، فقتل في الأولى: الحسين (ع)، وفي الثانية: أخاف المدينة، وفي الثالثة: رمى الكعبة)(٥) ، وكفاه (حسنة) جهره بقوله:

____________________

(١) الظاهر: (أوليس)؛ كما يدلّ عليه سياق الكلام.

(٢) أَرْبَت؛ بمعنى: زادت. يقال: أربى على الخمسين؛ أي زاد عليها.

(٣) رسائل الجاحظ، ص٢٩٤، ط مصر.

(٤) انظر: العقد الفريد، ج٣، ص١١٣، وتطهير الجنان (المطبوع على هامش الصواعق)، ص١٠٢، وص١٣٥.

(٥) تذكرة سبط ابن الجوزي، ص٢٢٣، والفخري، ص١٠٣.

٦

لعبت هاشم بالمُلك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

ومثله مروان بن الحكم، الذي كان من أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت (ع)؛ بشهادة ابن حجر الذي يقول: (ومن أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت مروان بن الحكم. وكأنّ هذا سرّ الحديث الذي صحّحه الحاكم؛ أنّ عبد الرحمن بن عوف (رض) قال: كان لا يولد لأحد مولود إِلاّ أُتي به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيدعو له. فأُدخل عليه مروان بن الحكم، فقال: هذا الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون. واستأذن الحكم بن العاص على رسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فعرف صوته، فقال: ائذنوا له، فعليه لعنة الله، وعلى من يخرج من صلبه، إِلاّ المؤمن منهم، وقليل ما هم يترفّهون في الدنيا. ذوو مكر وخديعة، وما لهم في الآخرة من خلاق)(١) .

(وصحّ أيضاً أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأى ثلاثين منهم ينزون على منبره نزو القردة، فغاظه ذلك، وما ضحك بعده إلى أن توفّاه الله )(٢) .

وقس عليهم مثل: الوليد بن عقبة، شارب الخمور والزائد في الفريضة، وعبد الله بن أبي سرح الّذي أهدر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دمه.

هؤلاء هم السلف الّذين تطعن عليهم الشيعة عندما تقيسهم بمقياس الدين، وتزنهم بميزان الشرع، وتحكم عليهم بحكم الشارع الأقدس؛ الذي خبرهم وعرف سوء نيّاتهم، فلعنهم وحذّر منهم، وأهدر دم بعضهم، وأمر بقتل آخر؛ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا رأيتم معاوية بن أبي سفيان يخطب على منبري،

فاضربوا عنقه )(٣) .

ثُمَّ إنْ كان الطعن على مثل هذا البعض من السلف يوجب الحكم بالقتل والشرك، كما يشير إليه ذلك الخبر الموضوع، فلماذا لا يحكم بهما من طعن على خيرة السلف من أهل البيت ما يقرب من سبعين سنة على منابر الإسلام؟!

أليس تبرأة هؤلاء الطاعنين على أهل البيت، وتكفير الشيعة لطعنهم على

____________________

(١) الصواعق، ص١١١، وتطهير الجنان، ص١٥٥.

(٢) تطهير الجنان، ص١٢٩.

(٣) شرح النّهج للمعتزلي، ج١، ص٣٤٨.

٧

ذلك البعض من السلف بالخصوص، إِلاّ من التلاعب في الدين والحكم على حسب الهوى و الغرض؟!.

وإنْ كان الموجب للشرك هو الطعن على جميع السلف، فالشيعة تبرأ من ذلك أَشدّ براءة؛ لأنّها تقدّس الأكثرية الساحقة من السلف الصالح أعظم تقديس.

ولا شكّ أنّ ابن حجر وزملاءه يعلمون ذلك من الشيعة، ولكنّهم ستروا وجه الذي علموا، وراحوا يهوّلون الأمر على الناس ويلبسونه؛ ليبعدوهم عن أهل البيت وأشياعهم..

ولقد بلغ التعصّب الذميم من ابن خلدون حدّاً قضى به للطعن على الأئمّة المطهَّرِين من الرجس بمثل قوله:(وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به. إلى أن قال: ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جالب الإنكار والقدح)(١) .

ولا يسعنا إِلاّ أنّ نقول: هذه مذاهب أهل البيت مدوَّنة في كتب العقائد، وهذا فقههم مبسوط في كتب شيعتهم المطبوعة المنتشِرة، فليطلبها المنصِفون وليطَّلعوا عليها؛ ليعلموا أنّ أهل البيت لم ينفردوا في فقههم إِلاّ في مسائل قليلة جداً. وأمّا غيرها؛ فقلَّ ما تجد مسألة يخالفون فيها بعض أئمّة أهل السنّة إِلاّ ويوافقهم غيره. مثلاً: تراهم يخالفون أبا حنيفة (الفارسي) في تجويزه الوضوء بالنبيذ(٢) ويوافقهم الشافعي على ذلك.... وهلمَّ جرّاً.

____________________

(١) ص٣١٣ من مقدّمته.

(٢) ذكر ابن خلِّكان: (إنّ من مذهب أبي حنيفة، تجويز الصلاة بجلد كلب مدبوغ ملطّخ ربعه بالنجاسة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر، والقراءة في الصلاة بالفارسيّة. وإنّ خروج الريح من دبر المصلّي لا يفسد وضوءه وصلاته. وإنّ السلطان محمود بن سبكتكين عدل؛ لذلك، عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي). انظر: وفيّات الأعيان، ج٢، ص٨٦. وذكر الخطيب البغدادي (في تاريخ بغداد، المجلّد ١٣) : (إنّ أبا حنيفة قال: لو أنّ رجلاً عبد نعلاً يتقرّب بها إلى الله، لم أر بذلك بأساً. وقال: إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وإنّ إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد. وإنّه كان مولعاً بالقياس، فلم يتركه حتّى مع الحجّام. إلى غير ذلك من المذاهب والمزاعم المبنيّة على الرأي والقياس). و[قال] في أهل القياس: (ورد متواتراً عن النبيّ (ص): ستفترق أمّتي بضع وسبعين فرقة، شرّ فرقة منها قوم يقيسون الدين بالرأي، فيحلّون به الحرام ويحرّمون الحلال ). تاريخ بغداد، ج١٣ ، ص٣٠٩.

٨

ولا يفوتنا أنّ نبارك لهذا الرجل على إسلاميّته الصحيحة؟، الّتي ترى مثل أهل بيت النبوّة وأركان الإِسلام وقرناء الكتاب، شاذِّين مبتدِعين، ومثل صاحبها من الهداة المحافظين على سنّة الرسول العربي دون عترته الميامين.

ولقد أطلنا الكلام في الجملة، وكدنا أن نخرج عمّا كنّا نتوخّاه؛ من الاقتصار على ذكر بعض كلماتهم للاستدلال فحسب. لأنّ القوم قد قدموا على الحكم العدل الّذي سيحشرهم - بلا شكّ - مع ذلك البعض من السلف؛ لأنّ (من أحبّ عمل قوم حُشر معهم). فكيف إذا والاهم وكفّر المسلمين لأجل الطعن عليهم بما ارتكبوه من الآثام؟!.

وسيلقون أيضاً جزاء ما صنعوا من التهجّم و الافتآت على أهل البيت وأشياعهم، ومن بثّ الفُرقة بين الأمّة الإسلاميّة بتلك الأضاليل والأراجيف، التي أودعوها في مؤلَّفاتهم، وبقيت مورداً فيّاضاً يرِده بعدهم من طُبع على طابعهم ووشجت عروقه على طريقتهم حتّى عصرنا هذا؛ عصر العلم وتحرير الأفكار كما يقولون، ويا بعد ما يقولون؛ لأنّنا نرى فيه، كلّ عام، فئة من المصريّين والفلسطينيّين والسوريّين والعراقيّين قد تلقّوا تلك الأقوال تلقّي الببغاء، معرضين عن كلّ ما صحّ في صحيحي مسلم والبخاري - وهما أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به من أهل السنّة(١) - إذا كان معارضاً لأقوال أولئك الشيوخ الغابرين. فكأنّهم - بنظرها - معصومون من الخطأ أو التعصّب المذهبي. وكأنّ أقوالهم - عندها – وحي موحى، لا يسوغ فيه التحليل والمحاكمة والعرض على المصادر الوثيقة في كتب الفريقين الأمر الّذي أدّى إلى إثارة حفائظ الشيعة، الّذين نسوا أو تناسوا تلك التهجمات القديمة، وهتفوا باسم الوحدة الإسلاميّة وباسم المصلحين، من علماء الفريقين وملوكهم وزعمائهم، الساعين إلى لمِّ الشعث وجمع الكلمة ليكون المسلمون جبهة واحدة متراصّة، واقفة سدّاً منيعاً في طريق

____________________

(١) الصواعق، ص٥.

٩

الهاجمين من الأغيار، وجادّة في سبيل الرقيّ الديني والسياسي، معرضة صفحاً عن الفوارق المذهبية ما دام الجميع يرتّلون كلمتي الشهادة في كلّ يوم خمس مرّات.

حقّاً لولا وجود أولئك المصلحين، لاتسعت دوائر الفتن، التي تولّدت من تهجّمات الخضري على سيد شباب أهل الجنّة الحسين بن علي(ع)(١) ، وأحمد أمين بقوله: (والحق أنّ التشيّع كان مأوى يلجأ إليه كلّ من أراد هدم الإسلام...الخ)(٢) ، وبقوله: (كأنّ العقول كلّها أجدبت وأصيبت بالعقم إلاّ عقل عليّ بن أبي طالب وذرّيّته)(٣) .

ثُمَّ اقتفى أثر هؤلاء الحصان العراقي، فأظهر كتاباً أسماه: (العروبة في الميزان)، وزاد على زملائه بالطعن على أنساب القبائل العربيّة العراقيّة الشيعيّة بالخصوص، وحاول مراراً أن يحصر العروبة في بني أميّة وأشياعهم، قائلاً: (هل العروبة غير بني أميّة؟).

ثُمَّ لم تمض أيام قلائل حتّى قرأنا في مجلّة الرسالة المصرية، السنة الثانية/ عدد٣١، مقالاً للرحّالة محمد ثابت المصري - مدرّس الآداب بمدرسة فاروق الثانوية - تحت عنوان: (إلى خراسان). طعن فيه الشيعة أعظم طعن، ورماهم بالاستغناء عن الحجّ إلى مكّة المكرّمة بالحجّ إلى مشهد الرضا(ع). فكتبنا - وقتئذٍ - ردّاً عليه هادئاً، ونشرناه في مجلّة العرفان الغراء (م٢٥/ ص٩١)، بعد أن أرسلناه إلى مجلّة الرسالة؛ وبعد أن يئسنا من إنصاف صاحبها؛ الّذي أهمل حتّى الإشارة إلى ردّنا على رحّالة بلاده مصر، الأمر الذي يدلّ، وبوضوح، على

____________________

(١) يقول الخضري المصري (في ص٥١٧، المحاضرة ٣٤٥، من محاضراته): (وعلى الجملة، فإنّ الحسين أخطا خطأً عظيماً في خروجه هذا، الذي جرّ على الأمّة وبال الفرقة والاختلاف. وقد أكثر الناس الكتابة في هذه الحادثة.. وغاية الأمر أنّ الرجل طلب أمراً لم يتهيّأ له، ولم يعدَّ له عدّته، فحيل بينه وبين ما يشتهي). إلى أن قال: (وأمّا الحسين، فإنّه خالف على يزيد الّذي بايعه الناس ولم يظهر منه ذلك العسف والجور).

(٢) فجر الإسلام، ص٢٣٩.

(٣) فجر الإسلام، ص٣٣٨.

١٠

أنّ (الجماعة) لا يريدون إيضاح أخطائهم، أو أنّهم لا يريدون المناظرة وتصفية الحساب إلاّ مع من يشاؤون..

وعلى أيٍّ، فإِنّا قد ظننّا - يومئذٍ - أنّ الرحّالة قد اكتفى بما نشره في مجلّة صديقه الزَّيّات؛ ولكن سرعان ما رأيناه في تلك السنة - سنة ١٣٥٢هـ - يخرج كتاباً باسم: (جولة في ربوع الشرق الأدنى). مليئاً بالأخطاء التاريخيّة والتهجّمات الأثيمة على المذهب الشيعي وعلى علماء الشيعة وبلادهم المقدّسة(١) . مضافاً إلى ما دسّه - عند كلامه عن النجف - من الطوائف التي لم تكن في عالم الوجود، أو كانت ولم يبق لها أثر ولا عين على ظهر الأرض، بالأخص أرض النجف التي لم تضمّ غالباً - من يوم مصّرت إلى اليوم - سوى الشيعة الاثني عشريّة. فمن الخطأ الفادح ما قاله عنها: (وهي في زعم بعضهم مقرّ من كان أحقّ بالرسالة من النبيّ نفسه)(٢) ، وقوله عن مجتهديها وعلمائها: (ويقول العلماء هناك: إنّ المدافن عشرة آلاف، لا تزيد ولا تنقص؛ لأنّ سيدنا عليّاً يرسل

____________________

(١) وسرعان أن رأينا، بعد تأليف الكتاب، حضرةَ إسعاف النشاشيبي الفلسطيني (الّذي حُشر سنة ١٣٥١هـ مع أعضاء المؤتمر الإسلامي، وجُعل - لسوء حظّ الإسلام - في لجنة الدعاية والإرشاد إلى الإسلام) يُخرج كتاباً باسم: الإسلام الصحيح. وليس فيه سوى الهدم للإسلام الصحيح، وغير دعوة المسلمين - وياللأسف - إلى تجسيم الله تعالى، والاعتقاد بأنّ له يداً وعيناً وإذناً وغير ذلك، ممّا كان يعتقده الحنابلة في القرن الرابع ودعا إليه ابن تيميّة في القرن الثامن. وهناك غرض للنشاشيبي، قد يكون سياسيّاً، وقد يكون مذهبياً، يتجلّى طيّ كلماته الكثيرة الداعية ضدّ (الشرفاء)، منها، قوله ص٣٧: (فليس هناك طبقات، وليس هناك سادة وغير سادة، وليس هناك شُرفاء وغير شُرفاء، وليس هناك آل بيت نيت ليت. ليس هناك أنجاس، ظلّ النجس يداس، دع عنك المساس واللّماس) وقوله ص٨١: (كيف يقبل اليانون* الإسلام إذا قيل لهم إنّ في الإسلام فرقة تقول إنّا من أهل البيت أي بيت النبيّ). ولقد كفانا مؤنة الردّ عليه إخواننا من أهل السنّة، وفي مقدّمتهم الأستاذ محمد المجذوب - من كتّاب صيدا - حيث ألّف كتاباً في الردّ عليه اسمه: (القول الصريح). فليطلبه القرّاء من المؤلِّف، فإِنّ فيه براهين قويمة.

*[ كذا في الكتاب، ولم يتسنَّى لنا معرفة معنى خاص لها].

(٢) ص١٤٢ من جولته.

١١

ما زاد من الجثث بعيداً، فلا يعرف أحد مقرّها.. وكم من جثث كانت تحملها السيّارات، وبعد الصلاة عليها تدفن، وتظلّ كذلك حتّى يتراءى لسيدنا عليّ أن يكشف عن مكنونها، فتختفي ويدفن مكانها غيرها.. وفي النجف فئتان من الأهلين متباغضتان، ولكلّ فئة أشياع، وكثيراً ما يقتتلون تحت إمرة مجتهديهم )(١) .

ويقول في موضع آخر عن الشيعة: (وقد بلغ بهم شكّهم بالغير أنّهم يُحتّمون غسل كلّ شيء دخل بيتهم ثلاث مرّات؛ خشية أن يكون لمسه غير شيعي )(٢) ، ويقول: (إنّ الحسين ورث العظمة الإِلهيّة بسبب أنّه تزوّج بشهربانو الفارسيّة)(٣) .

إلى كثير من أمثال هذه الافتئاتات، التي هزئ فيها بأخي النبيّ وسبطه الشهيد (عليهم السلام)، والتي تحطّ - بصراحة - من كرامة مجتهدي الشيعة النزيهين الأبرار ومواقفهم المشرّفة - في شتّى الظروف والأحوال - أكبر شاهد على ذلك.

من تلك المواقف موقفهم يوم فتنة (الحصان) على أعواد المنابر، يحثّون الشعب العراقي الهائج على السكون، ويمنحونه النصائح الكافية. ولقد كتب بعضهم إلى جلالة المغفور له الملك فيصل، يخبره عمّا قام به من الواجب الإصلاحي، ويذكر له نصائح جمّة تساعده على قمع الفتنة من جذورها، فأجابه الملك المصلِح بقوله:

حضرة حجّة الإِسلام الشيخ محمد الحسين(٤)

لقد تلقّيت كتابكم رفق الشيخ عبد الرسول. وكل ما شرحتم به علم. وقد اطَّلعت على ما قمتم به من نصائح، جعلكم الله ذخراً للأمّة. أمّا المطبوع الّذي صدر، فهو، لا شكّ، كما اطَّلعتم عليه، لا ينمّ إِلاّ عن عقلية مجنون، لا أكثر

____________________

(١) ص١٤٣، وص١٤٤ من جولته.

(٢) ص١٥٣ منها.

(٣) ص٢٧٨ منها.

(٤) هذا طبق الأصل المحفوظ لدى سماحة الشيخ (مُدَّ ظِلّه).

١٢

ولا أقلّ. إنّني حالما اطّلعت عليه - وذلك قبل بخمسة أيام - قمت بواجبي نحوه، وهاهو صاحبه رهن السجن، وسوف يلقى عقابه.

أملي عظيم أنّكم، وكلّ من فيه من الحميّة الدينيّة ما يجب، أن لا يترك مجالاً يجعلني - وأنا مسافر لقضاء مهمّة تعود للإسلام - مشغول الخاطر.

هذا كلّ ما أحبّ أن أقوله، وإنّني أنتظر دعاكم الصالح، والله يحفظكم.

١٢/ صفر/ سنة ١٣٥٢

فيصل

وإنّني لأعجب كيف خفي على الرحّالة موقف المجتهدين هذا، الذي لم يشر إليه في جولته، ولا بحرف واحد. مع أنّه يقول فيها (ص١٤٥): (وصادف أن كانت البلدة في هياج شديد يوم زرتها (٢٤ يونيه)، لِمَا شجر بين الشيعة والسنيّين على أثر كتاب أخرجه بعض السنيّين وأسماه (العروبة في الميزان) طعن فيه الشيعة...إلخ).

وعدم إشارته إلى موقف المجتهدين؛ إمّا لأنّه ينافي ما يريد من قوله: (وكثيراً ما يقتتلون تحت إمرة مجتهديهم)، وإمّا - وهو الأقرب - لأنّه لم يشاهد هياج النجف يومئذ؛ وإنّما سمع به بعد ذلك، وجعل السماع كالعيان، والغياب كالمشاهدة، فراح يدّعي أنّه شاهد هياج النجف يوم زارها (٢٤ يوليه – تمّوز). على الرغم من تقدّم تاريخ ذلك الهياج على زيارته هذه بشهر ونصف. لأنّ كتاب الحصان (العروبة في الميزان) إنّما دخل النجف في أوائل صفر سنة ١٣٥٢، وأوائل يونيو – حزيران سنة ١٩٣٤. أو على الفور حصل الهياج، ولكنّه لم يدم - بهمّة المجتهدين - سوى أيّام ثلاثة أو أربعة. يؤيّدنا نفس تاريخ الكتاب المتقدّم من جلالة الملك إلى سماحة كاشف الغطاء. وفي هذا الوقت لم يصل الرحّالة إلى دمشق، فضلاً عن النجف، وإنّما وصل دمشق في أوائل تمّوز، وفي ٥ منه حضر المولد النبوي هناك، كما في ص٤٨ من جولته، ثُمّ بعد مدّة سافر إلى تركيا، ومنها سافر إلى العراق.

ولو أردنا تتبّع ما في جولته من أخطاء وتحامل، وتحريف وتبديل، لأتيناك

١٣

بالعجاب، ولاحتجنا إلى مجلّد كبير لا يسمح لنا الوقت الثمين بإكماله. ولذلك اجتزأنا بذكر أنموذج صغير يتناسب مع هذه المقدّمة المتواضعة المختصرة لمثل هذا الكتاب المختصر. ولا أُخفي أنّ أهمّ البواعث على تأليفه، ما رأيته في جولة الرحّالة من التحامل الشديد على طائفة إِسلاميّة كبيرة، خدمتْ الإِسلام وعلومه أكبر خدمة، وأخرجت من الكتب الثمينة ما زيّن المكتبة الإِسلامية، ومن العلماء مَن أحرزوا السبق في جميع فنون الإسلام(١) .

أضف إلى إنّنا لم نرَ أحداً من الفريقين تصدّى للردّ على الرجل، سوى الأستاذ عبد الوهّاب عزّام في مقال مختصر نشره في مجلّة الرسالة المصرية (عدد٥٩/ ص١٣٩٩) من السنة الثانية. وردّ عليه الأستاذ أمين الخولي يومئذ. لذلك رأيت من الواجب تلبية نداء الواجب، فرحت أغتنم العطلة الأسبوعيّة وغيرها من أيام الفراغ، لمراجعة المصادر التي حرصت أن يكون أكثرها من مؤلَّفات إخواننا أهل السنّة؛ لتكون أكبر حجّة للقارئ الكريم، وأبعد عن الاتهام والريب...

وقد توفّقنا – ولله الحمد والمنّة – لإتمام هذا الكتاب في أواخر المحرّم سنة ١٣٥٤ هـ، وأسميناه (الشيعة في التاريخ)؛ لبحثه غالباً عن مواقف الشيعة التاريخيّة، وعن الفِرق التي تشعّبت منهم، وأحوالها ونشأتها وعقائدها وأسباب تشعّبها، خصوصاً الغلاة الذين اتّخذهم أهل التمويه والتلبيس طريقاً موصلاً إلى الطعن على الشيعة الإمامية الاثني عشريّة. ولذا أثبتنا - بنوع خاص - براءة أئمّة الشيعة وعلمائهم من كلّ غال ومبدع. كما أثبتنا مجمل عقائد الاثني عشرية؛ ليميَّز بينها وبين غيرها من العقائد الملصَقة باسم الشيعة، ولتقابل بعقائد الغلاة ويعرف بُعد الصلة بينهما، إلى غير ذلك من المباحث المفيدة التي جُعلت تحت عناوين خاصّة مستقلّة خالية من قال الرحّالة وأقول، وإنّ كان الغرض من بعضها التفنيد

____________________

(١) انظر: كتاب (الشيعة وفنون الإسلام)، طبع صيدا، تتيقّن صوابنا.

١٤

الضمني لِمَا سطّره الرحّالة في جولته من الأقوال الخاطئة البعيدة عن الحقيقة التي لا يحسن السكوت عيها، والتغاضي عن إظهارها لكثير من النشوء المفتون بأقلام فئة خاصة من الكتّاب أمثال ثابت، خاشعاً لبهرجة ألفاظهم ومبتدعات آرائهم، يتلقّاها بالقبول، ويعتقدها كأنّها حقائق ثابتة ممحّصة..

ولولا ذلك لكنّا في غنى عن مناقشة الرحّالة وأمثاله الحساب، وفي غنى عن بحث الخلافة الذي حدانا إلى ذكره كلام الرحّالة عنها بما ينافي التاريخ الصحيح، ويثير الضغائن في مثل هذه الأوقات العصيبة، القاضية على كلّ مسلم بإهمال مثل هذه الأبحاث القديمة، وإقرار كلّ فرد على معتقده، ما دام لا ينافي جوهر الدين الحنيف؛ لأنّ في لوازم الحوار فيها والجدال حولها الجرح والتعديل في الرواة، ومسِّ بعض الشخصيّات في التخطئة على الأقل. وكلّنا يعلم ما لذلك من الأثر السيّئ عند السواد من الأمّتين. لذلك جمدنا على نقل الشواهد التاريخيّة الّتي تساعدنا على إبطال مدّعى الرحّالة في الخلافة فحسب، ولم نمس كرامة أحد بسلاح التحليل الفلسفي وغيره.

وبالختام، أرجو أن تكون نيّتي فيما كتبت خالصة لله الواحد الأحد المطَّلِع على النوايا، وأن يمُنّ عليّ بجزيل الثواب على ما أصبت، وجميل التجاوز عمّا أخطأت، ومن القرّاء الكرام بيان ما يعثرون عليه من الأخطاء والأغلاط، ولهم، سلفاً، جزيل الشكر وفائق الاحترام.

كُتب في النجف الأشرف/ غرّة المحرّم/ سنة ١٣٥٥/ بيد مؤلِّفه:

محمد حسين الزَّين العاملي

١٥

الفصل الأوّل:

كلمة موجزة في الشِّيعة

١- معنى الشيعة في اللُّغة. ٢- قِدم تكوين الشيعة في الإسلام. ٣ - الّذين تشيّعوا في زمن النبيّ وثبتوا بعد وفاته. ٤ - متى أُهمل لفظ الشيعة؟، ومتى اشتهر؟. ٥ - مجمل عقائد الشيعة.

١- معنى الشيعة في اللّغة والكتاب الكريم:

غير خفي على من تصفّح موسوعات اللّغة العربية والقرآن العزيز، أنّ لفظ الشيعة قد ذكر كثيراً فيهما بمناسبات عديدة. وقد فسّر معناه؛ تارة بالأتباع والأنصار، وأخرى بالمشايعة؛ وهي المتابعة والمطاوعة. وإنّ هذا الاسم قد غلب على كلّ من يتولّى عليّاً وأهل بيته(ع)، حتّى صار اسما خاصّاً، فإذا قيل فلان من الشيعة، عُرف أنّه منهم.

ولتكون على يقين ممّا ذكرنا، نذكر لك نبذة صغيرة من أقوال علماء اللّغة، وآيات القرآن الكريم مع تفسيرها.

قال في (القاموس) (ج٣/ ص٤٧): ( وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، والفرقة على حدة، ويقع على الواحد والاثنين والجمع، والمذكّر والمؤنث. وقد غلب هذا الاسم على كلّ من يتولّى عليّاً وأهل بيته حتّى صار اسماً لهم خاصّاً، (ج) أشياع وشيع كعنب). وقال في (النهاية) لابن الأثير (ج٢/ ص٢٤٦): ( وأصل الشيعة الفرقة من الناس. وتقع على الواحد والاثنين والجمع، والمذكّر والمؤنث، بلفظ واحد ومعنى واحد. وقد غلب هذا الاسم على كلّ من يزعم (؟) أنّه يتولّى عليّاً (رضي الله عنه) وأهل بيته، حتّى صار لهم اسماً خاصّاً. فإذا قيل فلان من الشيعة: عرف أنّه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا: أي عندهم. وتجمع الشيعة على شيع وأصلها من المشايعة؛ وهي المتابعة والمطاوعة). وهكذا جاء في

١٦

(لسان العرب)، و(مصباح المنير)، و(الصحاح)، وغيرها. وجاء اسم الشيعة في الكتاب العزيز، في سورة القصص:(فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّه) . قال الزمخشري (الكشّاف/ ج٢/ ص٣٧٥) في تفسيرها: (أي ممّن شايعه على دينه من بني إسرائيل). وفي سورة الصافات:(وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) . قال الزمخشري أيضاً ( الكشّاف/ ج٢/ ص٤٨٣/): (أي ممَّن شايعه على أصول الدين، أو شايعه على التصلّب في دين الله ومصايرة الكذّابين). وجاء غيرها من الآيات.

٢- قِدم تكوّن الشيعة في الإسلام بأمر نبيّ الإسلام:

ذهب الكثيرون من المؤرّخين والكتّاب غير الشيعة، إلى أنّ بدء نشأة الشيعة وزمان تكوّنها كان بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ولكن الّذين ذهبوا هذا المذهب في تحديد الزمان، الذي حصل فيه التكوّن، قد اختلفت أقوالهم في التحديد.

فمنهم من يميل إلى أنّ تكوُّن الشيعة كان في يوم (السقيفة)، ذلك اليوم الذي صرّح به رهط من أعلام الصحابة (رض) بتقديم أمير المؤمنين عليّ(ع) على غيره في الإمامة، وأولويّته فيها، معتقدين ذلك متديّنين به(١) .

ومنهم من مال

____________________

(١) ممّن ذهب ومال إلى ذلك من كتّاب عصرنا الأستاذ محمد عبد الله عنان المصري في كتابه: (تاريخ الجمعيّات السرّيّة)؛ حيث يقول (صفحة ٢٦ منه): (ومن الخطأ أن يقال: إنّ الشيعة إنّما ظهروا لأوّل مرّة عند انشقاق الخوارج، وإنّهم إنّما سمّوا كذلك لبقائهم إلى جانب عليّ؛ فشيعة عليّ ظهروا منذ وفاة النبيّ (ص) كما قدّمنا). وقد وافقه الأستاذ أحمد أمين المصري (فجرالإسلام/ ص٣١٧)، ووافقهما الأستاذ إبراهيم حلمي العمر (مدير المطبوعات العراقيّة الحالي)؛ حيث يقول: (يرتقي عهد الفِرقة الشيعيّة إلى أوائل خلافة أبي بكر (رض)، فإنّ قوماً من الأنصار رسخ في أذهانهم وبسق في أدمغتهم شجر الحب لعليّ (كرّم الله وجهه)، وأنّه أولى الناس بالخلافة؛ لقرابته من رسول الله (ص)، ورسوخ قَدمه في الإسلام، وجهاده في سبيله. وكان القائلون بهذا الرأي ثلّة من صناديد قريش وفحول الأنصار. (من مقال نشره في مجلّة العرفان/ مجلّد ٥/ ص١٦٨ ).

١٧

إلى أنّ الشيعة تكوّنت أيام فتنة (الدار)؛ أي أيّام مقتل الخليفة عثمان (رض). ويظهر من ابن حزم الميل إلى هذا القول؛ حيث يقول (ج٢/ ص٧٨ من فصله): فإنّ الروافض ليسوا من المسلمين (؟)، إنّما هي فِرق حدث أوّلها بعد موت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بخمس وعشرين سنة...إلخ).

ومنهم من مال إلى أنّها تكوَّنت يوم وقعة (الجمل) في البصرة، كما يظهر من ابن النديم عند قوله في فهرسته (ص٢٤٩): (لمـّا خالف طلحة والزبير على عليّ (رضي الله عنه)، وأبيا إلاّ الطلب بدم عثمان، وقصدهما عليّ (عليه السّلام) ليقاتلهما حتّى يفيئا إلى أمر الله، تسمّي مَن اتبعه على ذلك باسم الشيعة، فكان يقول: شيعتي).

ومنهم من مال إلى أنّها تكوّنت يوم خروج الخوارج بصِفِّين.

وعلى كلٍّ... فالحقيقة بعيدة عمّا ذهبوا إليه جميعهم؛ لأنّ من عرف معنى الشيعة الذي تقدّم ذكره، لا شكّ أنّه يخالف أولئك على طول، ولا يوافقهم البتّة؛ بمساعدة أنّ معنى الشيعة - سواء كان الموالاة، أم المحبّة، أم التقديم، أم المتابعة، أم التمسّك بالكتاب والعترة - قد تكوَّن قبل ذلك الزمان الذي حدَّدوه؛ أي في أيّام نبيّ الإسلام الأقدس، أيّام كان يغذّي بأقواله عقيدة التشيّع لعليّ (ع) وأهل بيته ويمكّنها في أذهان المسلمين، ويأمر بها في مواطن كثيرة، آخرها يوم (غدير خم)، ١٨ ذي الحجة، سنة ١٠ من الهجرة، بعد حجّة الوداع، وبعد أن أمره الله سبحانه وتعالى بقوله الكريم:(يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) . قال الفخر الرازي (ج٣/ ص٤٢٨ من تفسيره الكبير): (نزلت هذه الآية في فضل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ولمـّا نزلت أخذ رسول الله بيد عليّ بن أبي طالب وقال:((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللَّهُم وآل من والاه وعاد من عاداه)) (١) ، فلقيه عمر (رض)، فقال:

____________________

(١) ذكر في الصواعق (ص٢٥) قوله (ص) يوم غدير خم، عندما رجع من حجّة

١٨

هنيئاً لك يا ابن أبي طالب؛ أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عبّاس والبراء بن عازب ومحمّد بن عليّ). و روى سبط ابن الجوزي (ص٣٢ من تذكرته): (أنّه لمـّا قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم):((من كنت مولاه فعلي مولاه)) ، نزل قوله:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (١) ، وذكر للمولى عشرة معان، عاشرها الأولى). ثُمَّ قال: (وجميع المعاني راجعة إليه؛ لقوله(ص):((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم)) ، وهذا نصٌّ صريح في إثبات إمامته وقبول طاعته. إلى أن قال: وقد أكثرت الشعراء في ذكر غدير خم، فقال حسّان بن ثابت الأنصاري ساعتئذٍ.

يناديهمُ يوم الغدير نبيّهم

بخمٍّ وأسمع بالنبيّ مناديا

وقال: فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت وليُّنا

ومالك منّا في الولاية عاصيا

فقال له: قم يا عليّ، فإِنّني

رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليُّه

فكونوا له أنصار صدق موالياً

فأنت ترى أنّ الذي بلّغه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأمّته، بأمر من الله تعالى

____________________

الوداع، وبعد أنّ جمع الصحابة: ألست أولى بكم من أنفسكم، ثلاثاً، وهم يجيبون بالتصديق والاعتراف، ثُمّ رفع يد عليّ، وقال: ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهُم وآل من والاه وعاد من عاداه، واحبب من أحبه وابغض من أبغضه، واخذل من خذله وانصر من نصره، وادر الحق معه حيث دار)) . ثُمَّ قال ابن حجر: إنّه حديث صحيح لا مريّة فيه، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي والإمام أحمد، وطُرُقه كثيرة، وكثير منها حسان وأسانيدها صحاح جدَّاً. ومن ثُمَّ رواه ستة عشر صحابياً، وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبيّ (ص) ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعليّ لمـّا نوزع أيّام خلافته. وقول بعضهم أنّ زيادة اللّهم وآل من والاه...إلخ موضوعة، مردود. فقد رواه الناس من طرق صحاح، صحّح الذهبي أكثراها).

وفي مجمع البيان (ج٢/ ص١٥٩): إنّ النبيّ (ص) قال: ((من كنت مولاه...إلخ)) بعد أن نزلت هذه الآية، لا قبلها. وهو الأرجح .

١٩

شديد، هو موالاة عليّ(ع) وأولويّته بالإمامة. وهي أظهر معاني التشيّع، وقد جعلها تعالى في كتابه العزيز، وقرنها بموالاته وموالاة نبيه الكريم عند قوله جلّ اسمه ( سورة المائدة):(إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) إلى قوله:(فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) . قال الزمخشري (ج١/ ص٤٢٢ من كشّّافه): (إنّها نزلت في عليّ (كرّم الله وجهه) حين سأله سائل، وهو راكع في صلاته، فطرح له خاتمه(١) ، ثُمَّ قال: قلت: كيف صحّ أن تكون لعليّ (رضي الله عنه) واللّفظ لفظ جماعة؟، قلت: جيء به على لفظ الجماعة وإِن كان السبب واحداً ليرغب الناس في مثل فعله).

وقال سبط ابن الجوزي كمقالة الزمخشري هذه وزيادة في ص١٦ من (تذكرته) التي استشهد فيها (ص١٧) بقول حسّان بن ثابت:

أبا حسنٍ تفديك روحي ومهجتي

وكلُّ بطيء في الهدى ومسارع

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً

فدتك نفوس الخلق يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيّد

ويا خير شارٍ ثُمَّ يا خير بائع

فأنزل فيك الله خير ولاية

وبيّنها في محكمات الشرائع

وبقوله أيضاً:

مَن ذا بخاتمه تصدّق راكعاً

وأسرَّها في نفسه إسرارا

مَن كان بات على فراش محمّد

ومحمّد أسرى يؤم الغارا

مَن كان في القرآن سمّي مؤمناً

في تسع آيات تلين غزارا

أشار بذلك إلى قول ابن عبّاس: ما أنزل الله آية في الإِيمان إِلاّ وعليّ رأسها وأميرها).

وكما أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بولاية عليّ، أَمر بحبّه وحبّ العترة الطاهرة،

____________________

(١) وأثبت نزولها في عليّ صاحب مجمع البيان (ج٢/ ص٢١١) بطُرُق متواترة معتبرة عند الفريقين، فراجع.

٢٠