عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم17%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132434 / تحميل: 8881
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

- ٢ -

عصمة شيخ الأنبياء نوحعليه‌السلام والمطالبة

بنجاة ابنه العاصي

قد استدلّ المخطّئة لعصمة الأنبياء على عدم عصمة نوحعليه‌السلام بما ورد في سورة هود من الآية ٤٥ إلى ٤٧، وإليك الآيات:

( وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أحْكَمُ الحَاكِمين * قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * قَالَ رَبّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاّ تَغْفِرْ لي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرينَ ) .

وقد استدل بهذه الآيات بوجوه:

١ - انّ ظاهر قوله تعالى:( إنّه ليس من أهلك ) تكذيب لقول نوح( إنّ ابني من أهلي ) ، وإذا كان النبي لا يجوز عليه الكذب، فما الوجه في ذلك ؟

٢ - قوله:( فلا تسألن ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين ) ، فإنّ ظاهره صدور سؤال منه غير لائق بساحة الأنبياء، ولأجل ذلك خوطب بالعتاب ونهي عن التكرار.

١٢١

٣ - قوله:( وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) فإنّ طلب الغفران آية الذنب، وهو لا يجتمع مع العصمة.

وإليك الجواب عن الوجوه الثلاثة:

الوجه الأوّل : كيف يجتمع قول نوحعليه‌السلام :( إنّ ابني من أهلي ) مع قوله سبحانه:( إنّه ليس من أهلك ) ؟

فتوضيح دفعه: أنّه سبحانه قد وعد نوحاً بإنجاء أهله إلاّ مَنْ سبق عليه القول وقال:( حَتّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَليلٌ ) (١) ، وهذا الكلام يعرب عن أنّه سبحانه وعد بكلامه شيخ الأنبياء بأنّه ينجّي أهله، هذا من جانب، ومن جانب آخر يجب أن نقف على حالة ابن نوح وأنّه إمّا أن يكون متظاهراً بالكفر وكان أبوه واقفاً على ذلك، وإمّا أن يكون متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر، وكان أبوه يتصوّر أنّه من المؤمنين به.

فعلى الفرض الأوّل: يجب أن يقال: إنّ نوحاً قد فهم من قوله سبحانه:( وأهلك إلاّ مَن سبق عليه القول ) في سورتي هود الآية ٤٠ والمؤمنون الآية ٢٧(٢) أنّه قد تعلّقت مشيئته بإنجاء جميع أهله الذين ينتمون إليه بالوشيجة النسبية والسببية، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين، غير امرأته التي كانت كامرأة لوط تخونه ليلاً ونهاراً، وعندئذ يكون المراد من قوله:( إلاّ مَن سبق عليه القول منهم ) هو

____________________

١ - هود: ٤٠.

٢ - قال سبحانه في سورة هود:( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلاّ مَن سبق عليه القول ) .

وقال سبحانه في سورة المؤمنون:( فَاسْلُكْ فِيها مِن كُلٍّ زَوجَينِ اثنينِ وأهْلَكَ إلاّ مَن سَبقَ عَليهِ القولُ مِنهمْ ولا تُخاطِبْني في الذينَ ظَلَموا إنّهم مُغرَقون ) .

١٢٢

زوجته فقط، ولما رأى نوح أنّ الولد أدركه الغرق تخالج في قلبه أنّه كيف يجتمع وعده سبحانه بإنجاء جميع الأهل مع هلاك ولده ؟ وعند ذلك اعتراه الحزن ورفع صوته بالدعاء منادياً:( إنّ ابني من أهلي ) من دون أن يسأل منه شيئاً بل أظهر ما اختلج في قلبه من الصراع والتضاد بين الأمرين: الإيمان بصدق وعده، كما يفصح عنه قوله:( إنّ وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ) وغرق ولده وهلاكه.

وعلى هذا الفرض لم يكذب نوحعليه‌السلام حتى بكلمة واحدة، بل لما فهم من قوله( وأهلك ) نجاة مطلق المنتمين إليه بالوشيجة الرحمية أو السببية، أبرز ما فهم وقال:( إنّ ابني من أهلي ) ، فلا يعد الإنسان كاذباً عند نفسه إذا أبرز ما اعتقده وأفرغه في قالب القول وإن كان المضمون خلاف الواقع في حد نفسه، وحينئذ أجابه سبحانه بأنّ الموعود بإنجائهم هم الصالحون من أهلك لا مطلق المنتمين إليك بالوشائج الرحمية أو السببية.

وبعبارة أُخرى: إنّ ولدك وإن كان من أهلك حسب الوشيجة الرحمية، لكنّه ليس من الأهل الذين وعدت بنجاتهم وخلاصهم.

وبعبارة ثالثة: ( إنّ ابنك ) داخل في المستثنى، أعنى قوله:( إلاّ مَن سبق عليه القول منهم ) كما أنّ زوجتك داخلة فيه أيضاً.

وهذا الجواب على صحّة الفرض تام لا غبار عليه، لكنّ أصل الفرض وهو كون ابن نوح متظاهراً بالكفر وكان الأب واقفاً عليه غير تام لما فيه:

أوّلاً: إنّ من البعيد عن ساحة نوحعليه‌السلام أن يطلب من الله سبحانه أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّاراً، كما يعرب عنه قوله سبحانه حاكياً عنهعليه‌السلام :( وَقَالَ نُوحٌ رَبّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاّ فَاجِراً كَفَّاراً ) (١) ، ويتبادر إلى ذهنه من قوله سبحانه:

____________________

١ - نوح: ٢٦ - ٢٧.

١٢٣

( وأهلك ) مطلق المنتمين إليه مؤمناً كان أم كافراً بل يعد دعاؤه هذا قرينة على أنّ الناجين من أهله هم المؤمنون فقط لا الكافرون، وأنّ المراد من( مَن سبق عليه القول ) مطلق الكافرين سواء كانوا منتمين إليه أو لا.

ثانياً : إنّه لا دليل على أنّه فهم من قوله:( إلاّ مَن سبق عليه القول منهم ) خصوص زوجته، بل الظاهر أنّه فهم أنّ المراد من المستثنى كل مَن عاند الله وحاد رسوله من غير فرق في ذلك بين الزوجة وغيرها.

وثالثاً : إنّه سبحانه بعدما أمر نوحاًعليه‌السلام بصنع الفلك أوحى إليه بقوله:( وَلاَ تُخَاطِبْني فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) (١) ، والظاهر من قوله:( الذين ظلموا ) مطلق المشركين حميماً كان أو غريباً، فإذا قال بعد ذلك:( وأهلك إلاّ مَن سبق عليه القول ) يكون إطلاق الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من الأهل هو خصوص المؤمن لا الظالم منهم؛ إذ الظالم منهم داخل في قوله:( ولا تخاطبنى في الذين ظلموا ) .

وإن شئت قلت: إنّ صراحة الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من قوله:( إلاّ مَن سبق عليه القول ) مطلق الظالم والكافر زوجة كانت أم غيرها، رحماً كان أم غيره، وهذه الصراحة قرينة على أنّ المراد من( أهلك ) هو خصوص المؤمن لا الأعم منه.

وبالجملة: فلو صحّت النظرية صحّ الجواب، لكنّها باطلة لأجل الأمور الثلاثة التي ألمعنا إليها.

وأمّا الفرض الثاني، فالظاهر أنّه الحق، وحاصله: أنّ الابن كان متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر، ويدل على ذلك قول نوح لابنه عندما امتنع أن يواكب أباه

____________________

١ - هود: ٣٧.

١٢٤

في ركوبه السفينة:( يَا بُنَيّ ارْكَب مَعَنَا وَلاَ تَكُن مَعَ الْكَافِرينَ ) (١) ، أي لا تكن معهم حتى تشاركهم في البلاء، ولو كان عارفاً بكفره لكان عليه أن يقول:( ولا تكن من الكافرين ) وبما أنّه كان معتقداً بإيمان ولده كان مذعناً بدخوله في قوله:( وأهلك ) ولمّا أدركه الغرق أدركته الحيرة في أنّه كيف غرق مع أنّ وعده سبحانه حق لا يشوبه ريب، وعندئذ أظهر ما في قلبه وقال:( إنّ ابنى من أهلي ) ، وأجابه سبحانه بأنّه ما أدركه الغرق إلاّ لأجل كفره، فهو كان داخلاً في قوله:( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنّهم مغرقون ) (٢) أوّلاً، وثانياً في المستثنى أي قوله:( إلاّ مَن سبق عليه القول ) لا المستثنى منه أي( أهلك ) .

وعندئذ يقع السؤال والجواب في موقعهما ولا يكون نوحعليه‌السلام في حكمه كاذباً؛ لأنّه كان يتصوّر أنّ ولده مؤمن فنبّهه سبحانه على أنّه كافر، فأين الكذب في هذين الحكمين ؟ وفي قوله سبحانه:( إنّه عمل غير صالح ) إعلام بأنّ قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وأنّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد وإن كان حبشياً وكنت قرشياً، لصيقك وخصيصك، ومَن لم يكن على دينك وإن كان أمسّ أقاربك رحماً فهو بعيد عنك إيماناً وعقيدة وروحاً.

ثم إنّ الإخبار عن ابن نوح بأنّه عمل غير صالح مكان كونه عاملاً غير صالح، لأجل المبالغة في ذمّه مثل قوله ( فإنما هي إقبال وإدبار )(٣) .

وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها، وهي أنّ العنصر المقوّم لصدق عنوان الأهل عند أصحاب اللغة والعرف هو انتساب الإنسان إلى شخص بوشيجة من

____________________

١ - هود: ٤٢.

٢ - هود: ٣٧.

٣ - الكشاف: ٢/١٠١.

١٢٥

الوشائج النسبية أو السببية، وإن لم يكن بينهما تشابه ووحدة من حيث المسلك والمنهج.

غير أنّ التشريع الإلهي أدخل فيه عنصراً آخر وراء الوشيجة المادية وهو صلة الشخص بالإنسان من جهة الإيمان، ووحدة المسلك، إلى حد لو فقد هذا العنصر لما صدق عليه ذلك العنوان، بل صار ذلك العنصر إلى حد ربّما يكتفي به في صدق الأهل على الأفراد سواء أكانت فيه وشيجة نسبية أم لا، ولأجل ذلك نجد أنّه سبحانه يكتفي بلفظ الأهل في التعبير عن كل المؤمنين، فيقول في قصة ( لوط ):( فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرينَ ) (١) ، وقال أيضاً:( إنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (٢) ، وقال أيضاً:( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عَجُوزاً في الغَابِرين ) (٣) ، ترى أنّه سبحانه اكتفى بلفظ الأهل من دون أن يعطف عليه لفظ ( المؤمنين ) أو ( من آمن به ) مع عدم اختصاص النجاة بخصوص أهله وعمومها للمؤمنين، معرباً عن أنّ الإيمان يجعل البعيد أهلاً، والكفر يجعل القريب بعيداً.

ولأجل ذلك اكتفى في قصة نوح بلفظ الأهل فقال:( وَنُوحاً إِذ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّينَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ العَظِيم ) (٤) ، وقال أيضاً:( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الُمجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ الْعَظِيم ) (٥) ، ومن المعلوم عدم اختصاص النجاة بخصوص الأهل بشهادة قوله:( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ

____________________

١ - الأعراف: ٨٣.

٢ - العنكبوت: ٣٣.

٣ - الصافّات: ١٣٣ - ١٣٥.

٤ - الأنبياء: ٧٦.

٥ - الصافّات: ٧٥ - ٧٦.

١٢٦

الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) (١) .

وبذلك يظهر سرّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( سلمان منّا أهل البيت ) فعدّ غير العرب من أهل بيته، وما هذا إلاّ لأنّ التشابه الروحي أوثق صلة وأحكم عرى، كما أنّ التباين الروحي خير أداة لقطع العرى وهدم الوشيجة المادية.

ولأجل ذلك قال الإمام الطاهر على بن موسى الرضاعليهما‌السلام في حق ابن نوح: ( لقد كان ابنه ولكن لمّا عصى الله عزّ وجلّ نفاه عن أبيه، وكذا مَن كان منّا لم يطع الله عزّ وجلّ فليس منّا، وأنت إذا أطعت الله فأنت منّا أهل البيت )(٢)

نعم لا نقول إنّ ما ذكرناه هو المصطلح الوحيد في القرآن، بل له مصطلح آخر يتطابق مع اصطلاح أهل اللغة والعرف، وهو الاكتفاء بالوشيجة المادية، ونرى كلا المصطلحين واردين في سورة هود قال سبحانه:( وأهلك إلاّ مَن سبق عليه القول ومَن آمن ) ، فأطلق لفظ الأهل على مطلق المنتمي إلى شيخ الأنبياء، كافراً كان أم مؤمناً، ثم أخرج الكافر من الحكم ( احمل ) لا من الموضوع وهو ( الأهل ) وقال:( إلاّ مَن سبق عليه القول ) .

وفي الوقت نفسه يجيب نداء نوحعليه‌السلام بعد قوله:( إنّ ابني من أهلي ) بقوله:( إنّه ليس من أهلك ) .

الوجه الثاني : لا دلالة لقوله:( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) على صدور سوَال غير لائق بساحة الأنبياء:

قد عرفت ما في الوجه الأوّل من نسبة الكذب إلى شيخ الأنبياء نوحعليه‌السلام في قوله:( إنّ ابني من أهلي ) ، فهلمّ معي ندرس الوجه الثاني، وهو أنّ قوله

____________________

١ - هود: ٤٠.

٢ - البحار: ٤٩/٢١٩ ضمن ح ٣.

١٢٧

سبحانه:( فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) يعرب عن وجود سؤال غير لائق بساحة الأنبياء، فلأجل ذلك خوطب ونهي عن التكرار.

فنقول: إنّ الله عزّ وجلّ قد وعده بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، وهذا الاستثناء كان دليلاً على أنّ في جملة ( أهله ) من هو مستوجب للعذاب، وأنّهم كلّهم ليسوا بناجين، وعندئذ كان على نوح أن لا تخالجه شبهة حين أشرف ولده على الغرق في أنّه من المستثنين، وليس داخلاً في المستثنى منهم، فعوتب على أنّه اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه عليه(١) .

وعلى هذا يكون المراد من قوله:( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) النهي عن السؤال الذي لا يليق أن يطرح ويسأل إذا كان الجواب معلوماً بالقرائن والتفكر في أطراف القضية، وإلاّ فالسؤال إنّما يتعلّق بما لا يعلم لا بما يعلم هذا ما أجاب به صاحب الكشاف.

وهناك جواب أوضح ولعلّه أليق بساحة الأنبياء، وهو: أنّه لمّا وعد نوحاً بنجاة الأهل بقوله:( إلاّ من سبق عليه القول منهم ) ولم يكن نوح مطّلعاً على باطن ابنه، بل كان معتقداً بظاهر الحال أنّه موَمن، بقي متمسّكاً بصيغة العموم للأهلية ولم يعارضه يقين ولا شك بالنسبة إلى إيمان ابنه، فلذلك( نادى ربّه ) .

وأمّا قوله:( إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين ) فليس راجعاً إلى كلامه وندائه، بل كان نداؤه ربّه في هذا الظرف واقعاً موقع القبول، وكان السؤال صحيحاً ورصيناً، بل هو راجع إلى وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره، وأنّه إن سأل في المستقبل كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم

_____________________

١ - الكشاف: ٢/١٠١.

١٢٨

ما يبقيهعليه‌السلام على سمة العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع الذنب وصدوره بل ربّما يكون الهدف التحفّظ على أن لا يصدر الذنب منه في المستقبل؛ ولذلك امتثلعليه‌السلام نهي ربّه وقال:( أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ) (١) .

جواب ثالث للوجه الثاني

هذا وللعلاّمة الطباطبائي جواب ثالث أمتن من الجوابين السابقين حيث قال: إنّ قول نوح:( رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) في مظنّة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه، وهو لا يعلم أنّه ليس من أهله، فشملته العناية الإلهية وحال التسديد الغيبي بينه وبين السؤال فأدركه النهي بقوله:( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) بتفريع النهي على ما تقدّم، مخبراً نوحاً بأنّ ابنك ليس من أهلك؛ لكونه عملاً غير صالح، فلا سبيل لك إلى العلم به، فإيّاك أن تبادر إلى سؤال نجاته؛ لأنّه سؤال ما ليس لك به علم، والنهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقّق السؤال منه لا مستقلاً ولا ضمناً، والنهي عن الشيء لا يستلزم الارتكاب قبلاً، وإنّما يتوقف على أن يكون الفعل اختيارياً ومورداً لابتلاء المكلّف، فإنّ من العصمة والتسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم، وكلّما اقتربوا ممّا من شأنّه أن يزل فيه الإنسان نبّههم الله لوجه الصواب، ودعاهم إلى السداد والتزام طريق العبودية، قال تعالى:( وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْناكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَتَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (٢) .

وممّا يدل على أنّ النهي في قوله( فلا تسألن ) نهى عمّا لم يقع بعد، قول

_____________________

١ - الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين الاسكندري المالكي: ٢/١٠١ على هامش الكشاف.

٢ - الإسراء: ٧٤ - ٧٥.

١٢٩

نوحعليه‌السلام بعد استماع خطابه سبحانه:( ربّ إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ) .

ولو كان سأل شيئاً من قبل لكان عليه أن يقول: أعوذ بك ممّا سألت أو ما يشابه ذلك، وممّا يوضح أنّ نوحاً لم يسأل شيئاً من ربّه قوله سبحانه:( إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين ) تعليلاً لنهيه( فلا تسألن ) ، فلو كان نوحعليه‌السلام سأل شيئاً من قبل لكان من الجاهلين؛ لأنّه سأل ما ليس له به علم.

وأيضاً لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرّر منه ذلك بعد ما وقع منه مرّة لكان الأنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله، كما ورد نظيره في القرآن الكريم:( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يَعِظُكُمْ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً ) (١) (٢) .

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الثاني، واتضح أنّه لم يسبق منهعليه‌السلام سؤال غير لائق بساحته، بقي الكلام في السؤال الثالث.

الوجه الثالث: تفسير قوله تعالى:( وإلاّ تغفر لي وترحمني )

وحاصله: أنّ طلب الغفران في قوله:( وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) لا يجتمع مع العصمة.

أقول : إنّ هذا كلام، صورته التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب، أمّا أنّ صورته صورة التوبة، فإنّ في ذلك رجوعاً إلى الله تعالى بالاستعاذة، ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته، أي ستره على الإنسان ما فيه زلّته ،

_____________________

١ - النور: ١٥ - ١٧.

٢ - الميزان: ١٠/٢٤٥.

١٣٠

وشمول عنايته لحاله، والمغفرة بمعنى طلب الستر أعمّ من طلبه على المعصية المعروفة عند المتشرّعة، وكل ستر إلهي يسعد الإنسان ويجمع شمله.

وأمّا كون حقيقته الشكر، فإنّ العناية الإلهية التي حالت بينه وبين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين، كانت ستراً إلهيّاً على زلّة في طريقه، ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله:( وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) بمعنى أنّه إن لم تعذني من الزلاّت، لخسرت، فهو ثناء وشكر لصنعه الجميل(١) .

وتظهر حقيقة ذلك الكلام ممّا قدمناه في قصة آدم من أنّ كثيراً من المباحات تعد ذنباً نسبيّاً بالنسبة إلى طبقة خاصة من الأولياء والأنبياء، فعند صدور مثل ذلك يجب عليهم - تكميلاً لعصمتهم - طلب الغفران والرحمة، حتى لا يكونوا من الخاسرين، وليس الخسران منحصراً في الإتيان بالمعصية، بل ربّ فعل سائغ يعد صدوره من الطبقة العليا خسراناً وخيبة، كما أوضحناه في قصة آدم.

نعم لم يصدر من شيخ الأنبياء في ذلك المقام فعل غير أنّه وقع في مظنّة صدور ذلك الفعل، وهو السؤال عمّا لا يعلم؛ فلأجل ذلك صحّ له أن يطلب الستر على تلك الحالة بالعناية الإلهية الحائلة بينه وبين صدوره.

إلى هنا تبيّن مفاد الآيات وأنّه ليس فيها إشعار بصدور الذنب بل حتى ما يوجب العتاب واللوم.

ثم إنّ لبعض المفسّرين من العدلية أجوبة أُخرى للأسئلة المطروحة، فمَن أراد الوقوف عليها، فليرجع إلى مظانّها(٢) .

_____________________

١ - الميزان: ١٠/٢٣٨.

٢ - لاحظ تنزيه الأنبياء: ١٨ - ١٩؛ مجمع البيان: ٣/١٦٧، بحار الأنوار: ١١/٢١٣ - ٣١٤ إلى غير ذلك.

١٣١

- ٣ -

عصمة إبراهيم الخليلعليه‌السلام والمسائل الثلاث(١)

إنّ الله سبحانه أثنى على إبراهيمعليه‌السلام بطل التوحيد بأجمل الثناء، وحمد محنته في سبيله سبحانه أبلغ الحمد، وكرّر ذكره باسمه في نيّف وستين موضعاً من كتابه، وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئاً كثيراً، وقال:( وَلَقَد اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيَا وإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين ) (٢) .

وقد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية لمّا سمّى هذا الدين القويم بالإسلام ونسب التسمية به إليه قال تعالى:( مِلَّة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) (٣) .

وقال سبحانه:( قُلْ إِنَّني هَدَاني رَبّي إِلَى صِ-رَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٤) .

ومع هذا الثناء المتضافر منه سبحانه على إبراهيمعليه‌السلام نرى أنّ بعض المخطّئة للأنبياء يريد أن ينسب إليه ما لا يليق بشأنه، مستدلاً بآيات نأتي بها واحدة بعد واحدة ونبيّن حالها.

_____________________

١ - أ - قوله للنجم:( هذا ربّي ) ب - قوله:( بل فعله كبيرهم ) ج - قوله لقومه:( إنّي سقيم ) .

٢ - البقرة: ١٣٠.

٣ - الحج: ٧٨.

٤ - الأنعام: ١٦١.

١٣٢

الآية الأُولى

( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) (١)

قالت المخطّئة: إنّ قوله:( هذا ربّي ) في المواضع الثلاثة ظاهر في أنّهعليه‌السلام كان يعتقد في وقت من الأوقات بربوبية هذه الأجرام السماوية، وهذا ممّا لا يجوز على الأنبياء عند العدلية، وإن زعمت العدلية أنّهعليه‌السلام تكلّم بها ظاهراً غير معتقد باطناً، فهذا أيضاً غير جائز على الأنبياء؛ لأنّه يقول شيئاً غير معتقد به، وهو أمر قبيح سواء سمّي بالكذب أم لا.

والجواب: إنّ الاستدلال ضعيف؛ لأنّ الحال لا تخلو من إحدى صورتين:

الأُولى : إنّ إبراهيم كان في مقام التحرّي والتعرّف على الربّ المدبّر للعالم، ولم يكن آنذاك واقفاً على الحقيقة؛ لأنّه - كما قيل - كان صبيّاً لم يبلغ الحلم، وصار بصدد التحقيق والتحرّي، فعندئذ طرح عدّة احتمالات واحداً بعد واحد، ثم شرع في إبطال كل واحد منها، إلى أن وصل إلى الرب الواقعي والمدبّر الحقيقي.

وهذا نظير ما يفعله الباحثون عن أسباب الظواهر وعللها، فتراهم يطرحون على طاولة التحقيق سلسلة من الفرضيات والاحتمالات، ثم يعمدون إلى التحقيق عن حال كل واحد منها إلى أن يصلوا إلى العلّة الواقعية، وعلى هذا يكون معنى

_____________________

١ - الأنعام: ٧٥ - ٧٨.

١٣٣

يكون معنى قوله:( هذا ربّي ) مجرّد فرض لا إذعان قطعي، وليس مثل هذا غير لائق بشأن الأنبياء.

وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى - جواباً عن السؤال -: إنّه لم يقل ذلك مخبراً، وإنّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمّل.

ألا ترى أنّه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظراً في شيء وممتثلاً بين كونه على إحدى صفتيه أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحّة أو فساد، ولا يكون بذلك مخبراً عن الحقيقة، ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام وقدمها أنْ يفرض كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد(١) .

وقد روي هذا المعنى عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث سئل عن قول إبراهيم:( هذا ربّي ) أأشرك في قوله:( هذا ربّي ) ؟ فقالعليه‌السلام : ( لا، بل من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم شرك، وإنّما كان في طلب ربّه وهو من غيره شرك )(٢) .

وفي رواية أُخرى عن أحدهما ( الباقر والصادقعليهما‌السلام ): ( إنّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً، وإنّه مَن فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته )(٣) .

غير أنّ هذا الفرض ربّما لا يكون مرضياً عند بعض العدلية؛ لأنّ الأنبياء منذ أن فُطموا من الرضاع إلى أن أُدرجوا في أكفانهم، كانوا عارفين بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً، خالقاً وربّاً، ولو كان هناك إراءة من الله لخليله كما في قوله:( وكذلك نري إبراهيم ) كانت لزيادة المعرفة وليكون من الموقنين.

_____________________

١ - تنزيه الأنبياء: ٢٢.

٢ و ٣ - نور الثقلين: ١/٦١٠ - ٦١١، الحديث ١٤٩ و ١٥٠ و ١٥١.

١٣٤

الثانية : أنّه كان معترفاً بربوبيته نافياً ربوبية غيره، ولكنّه حيث كان بصدد هداية قومه وفكّهم من عبادة الأجرام، جاراهم في منطقهم لكي لا يصدم مشاعرهم ويثير عنادهم ولجاجهم، فتدرّج في إبطال ربوبية معبوداتهم الواحد تلو الآخر، بما يطرأ عليها من الأفول والغيبة والتحوّل والحركة ممّا لا يليق بالربّ المدبّر، ومثل هذا جائز للمعلّم الذي يريد هداية جماعة معاندة في عقيدتهم، منحرفة عن جادة الصواب، وهذه إحدى طرق الهداية والتربية، فأين التكلّم بكلمة الشرك عن جد ؟!

وإلى ذلك الجواب أشار السيد المرتضى في كلامه بأنّ إبراهيمعليه‌السلام لم يقل ما تضمّنته الآيات على طريق الشك، ولا في زمان مهلة النظر والفكر، بل كان في تلك الحال موقناً عالماً بأنّ ربَّه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شيء من الكواكب، وإنّما قال ذلك على أحد وجهين:

الأوّل : أنّه ربّي عندكم، وعلى مذاهبكم، كما يقول أحدنا على سبيل الإنكار للمشتبه هذا ربّه جسم يتحرك ويسكن.

الثاني : أنّه قال ذلك مستفهماً وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنها(١) .

والوجه الأول من الشقّين في هذا الجواب هو الواضح.

الآية الثانية

قوله سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمينَ وَتَاللهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرين * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا

_____________________

١ - تنزيه الأنبياء: ٢٣.

١٣٥

فَاسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُون * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَوَلاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيئَاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١) .

فزعمت المخطّئة أنّ قوله ( بل فعله كبيرهم ) كذب لا شك فيه؛ لأنّه هو الذي كسر الأصنام وجعلها جذاذاً إلاّ كبيرها، فكيف نسب التكسير إلى كبيرها ؟

ولا يخفى أنّ الشبهة واهية جداً، مثل الشبهة السابقة؛ لأنّ الكذب في الكلام إنّما يتحقق إذا لم يكن هناك قرينة على أنّه لم يرد ما ذكره بالإرادة الجدية، وإنّما ذكره لغاية أُخرى، ومع تلك القرينة لا يُعد الكلام كذباً، والقرينة في الكلام أمران:

الأوّل : قولهعليه‌السلام عند مغادرة قومه البلد ومخاطبتهم بقوله:( وتَاللهِ لأكيدنَّ أصنامَكُمْ بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبِرين ) (٢) ، ولا يصح حمل ذلك على أنّه قاله في قلبه وفكرته، لا بصورة المشافهة والمصارحة؛ وذلك لأنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه وكرهه للأصنام، حتى أنّهم بعد ما رجعوا إلى بلدهم ووجدوا الأصنام جذاذاً، أساءوا الظن به، واتهموه بالعدوان على أصنامهم وتخريبها و( قالُوا سَمِعْنا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبراهِيمُ ) (٣) .

الثاني : أنّ من المسلّم بين إبراهيم وعبدة الأصنام أنّ آلهتهم صغيرها وكبيرها

_____________________

١ - الأنبياء: ٥١ - ٦٧.

٢ - الأنبياء: ٥٧.

٣ - الأنبياء: ٦٠.

١٣٦

لا تقدر على الحركة والفعل، فمع تلك القرينة والتسليم الواضح بينه وبينهم، بل وبين جميع العقلاء، إذا أجاب إبراهيم بهذا الكلام يعلم منه أنّه لم يتكلّم به لغاية الجد، بل لغاية أُخرى حتى ينتبه القوم إلى خطئهم في العقيدة.

ويزيد توضيحاً ما ورد في القصص: أنّ إبراهيم بعد أنْ حطّم الأصنام الصغيرة جعل الفأس على عنق كبيرها، حتى تكون نسبة التحطيم إلى الكبير مقرونة بالقرينة وهي: أنّ آلة الجرم تشهد على كون الكبير هو المجرم دون إبراهيم، ومن المعلوم أنّ هذا العمل والشهادة المزعومة، أشبه شيء في مقام العمل باستهزائه بالقوم وسخريته ممّا يعتقدون.

فعلى تلك القرائن قد تكلّم إبراهيم بهذه الكلمة لا عن غاية الجد، بل لغاية أُخرى كما يبيّنها القرآن، فإذا انتفى الجد بشهادة القرائن القاطعة ينتفي الكذب.

وأمّا الغاية من هذا الكلام فهو أنّه طرح كلامه بصورة الجد وإن لم يكن عن جد حقيقي، وطلب منهم أن يسألوا الأصنام بأنفسهم، وأنّه مَن فعل هذا بهم ؟ لغاية أخذ الاعتراف منهم بما أقرّوا به في الآية، أعني قولهم:( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) حتى يتسنّى للخليلعليه‌السلام كبتهم وتوبيخهم - بأنّه إذا كان هؤلاء على ما يصفون - بقولهعليه‌السلام :( أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم * أُف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ) (١) ، وفي موضع آخر يقول:( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، فتبين من ذلك أنّ قوله:( بل فعله كبيرهم ) لم يكن كلاماً عن جد وجزم وعزم حتى يوصف بالكذب، بل

_____________________

١ - الأنبياء: ٦٦ - ٦٧.

٢ - الصافات: ٩٥ - ٩٦.

١٣٧

كان كلاماً أُلقي على صورة الجد ليكون ذريعة لإبطال عبادتهم وشركهم، وكانت القرائن تشهد على أنّه ليس كلاماً جديّاً ولو كان هذا الكلام صادراً من عاقل غير النبيعليه‌السلام لأجزنا لأنفسنا أن نقول: إنّ الغاية، الاستهزاء والتهكّم بعبدة الأصنام والأوثان حتى يتنبّهوا بذلك الوجه إلى بطلان عقيدتهم.

ولمّا كان هذا النمط من الحوار والاحتجاج الذي سلكه إبراهيم في غاية القوّة والمتانة؛ لم يجد القوم جواباً له إلاّ الحكم عليه بالتعذيب والإحراق شأن كل مجادل ومعاند إذا أُفحم، كما يقول سبحانه:( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيم * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين ) (١) ، وفي آية أُخرى:( قَالُوا حَرّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) (٢) هذا هو الحق الصراح لمَن طالع القصّة في القرآن الكريم، ومَن أمعن النظر فيها يجد أنّ الجواب هو ما ذكرنا.

جواب آخر عن السؤال

وربّما يجاب بأنّه لم يكذب وإنّما نسب الفعل إلى كبيرهم مشروطاً لا منجزاً، وإنّما يلزم الكذب لو نسبه على وجه التنجيز حيث قال:( بل فعله كبيرهم هذا فاسئَلوهم إن كانوا ينطقون ) فكأنّه قال: فعل كبيرهم هذا العمل إن كانت الأصنام المكسورة ناطقة، وبما أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، وكان الشرط - أعني نطقها - منتفياً كان المشروط - أي كون الكبير قائماً بهذا الفعل - منتفياً أيضاً.

وهذا الجواب لا ينطبق على ظاهر الآية؛ لأنّها تشتمل على فعلين:

أحدهما قريب من الشرط، والآخر بعيد عنه، ومقتضى القاعدة رجوع

____________________

١ - الصافات: ٩٧ - ٩٨.

٢ - الأنبياء: ٦٨.

١٣٨

الشرط إلى القريب من الفعلين لا إلى البعيد، والرجوع إلى كلا الفعلين خلاف الظاهر أيضاً، وإليك توضيحه:

١- بل فعله كبيرهم: الفعل البعيد من الشرط.

٢- فاسألوهم: الفعل القريب من الشرط.

٣- إن كانوا ينطقون: هذا هو الشرط.

فرجوعه إلى الأوّل وحده، أو كليهما، خلاف الظاهر، والمتعيّن رجوعه إلى الثاني، فصار الحكم بأنّه فعله كبيرهم منجزاً لا مشروطاً.

الآية الثالثة

استدلّت المخطّئة لعصمة إبراهيم بالآية الثالثة، أعني قوله سبحانه:( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبراهيم * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيم * إِذْ قَالَ لأِبيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أئِفكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُريدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبّ العَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إنّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوا عَنْهُ مُدْبِرينَ * فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) (١) .

فاستدلوا بقوله:( إنّي سقيم ) قائلين بأنّه لم يكن سقيماً، وإنّما ذكر ذلك عذراً لترك مصاحبتهم في الخروج عن البلد.

أضف إلى ذلك أنّ قوله:( فنظر نظرة في النجوم ) يشبه ما يفعله المنجّمون حيث يستكشفون من الأوضاع الفلكية، الأحداث الأرضية.

والجواب : أنّ الإشكال مبني على أنّهعليه‌السلام قال:( إنّي سقيم ) ولم يكن سقيماً، ولم يدل على ذلك دليل، إذ من الممكن أنّه كان سقيماً في ذلك الوقت، وأمّا

_____________________

١ - الصافات: ٨٣ - ٩١.

١٣٩

قوله:( فنظر نظرة في النجوم ) ، فمن المحتمل جداً أنّه نظر إلى السماء متفكّراً حتى يلاحظ حاله وأنّه هل يقدر على المغادرة معهم أم لا، والعرب تقول لمَن تفكّر: ( نظر في النجوم ) بمعنى أنّه نظر إلى السماء متفكّراً في جواب سؤال القوم، كما يفعل أحدنا عندما يريد أن يفكّر في شيء.

ويؤيّد ذلك أنّهعليه‌السلام قاله عندما دعاه قومه إلى الخروج معهم لعيد لهم، فعند ذلك نظر إلى النجوم وأخبرهم بأنّه سقيم، ومن المعلوم أنّ الخروج إلى خارج البلد لأجل التنزّه لم يكن في الليل بل كان في الضحى، فلو كانت الدعوة عند مطلع الشمس وأوّل الضحى لم يكن النظر إلى النجوم بمعنى ملاحظة الأوضاع الفلكية؛ إذ كانت النجوم عندئذ غاربة، فلم يكن الهدف من هذه النظرة إلاّ التفكر والتأمّل.

نعم لو كانت الدعوة في الليل لأجل الخروج في النهار كان النظر إلى النجوم مظنّة لما قيل، ولكنّه غير ثابت.

نعم هناك معنى آخر لقوله:( فنظر نظرة في النجوم ) ، وهو أنّهعليه‌السلام كان به حمّى ذات نوبة تعتريه في أوقات خاصة متعيّنة بطلوع كوكب أو غروبه، فلأجل ذلك نظر في النجوم، ووقف على أنّها قريبة الموعد، والعرب تسمّي المشارفة على الشيء باسم الداخل فيه، ولهذا يقولون لمَن أضعفه المرض، وخيف عليه الموت ( هو ميت ) وقال تعالى لنبيّه:( إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيّتُونَ ) (١) .

وأمّا استعمال كلمة ( في ) مكان ( إلى ) في قوله:( في النجوم ) ، فلأجل أنّ الحروف يقوم بعضها مقام بعض، قال الله تعالى:( ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ

____________________

١ - الزمر: ٣٠.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتجّ به غدا يوم القيامة ، وهو يوجب الكفر والإلحاد؟!

وأيّ عذر لهم عن ذلك وعن الكفر والإلحاد؟!

( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (٢) ؟!

هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة الله سبحانه إلى كلّ خسيسة ورذيلة! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فليحذر المقلّد وينظر كيف هؤلاء القوم الّذين يقلّدونهم؟! فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم ، كفاهم بذلك ضلالا!

وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع الأهواء ، عرفوا الحقّ بعين الإنصاف وفّقهم الله لإصابة الصواب.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة النساء ٤ : ٧٨.

٣٠١

وقال الفضل (١) :

قد عثرت على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة.

ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم كمثل الزبّال يمرّ على نجاسة رجل أكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمّص ، فجرى في الطريق ، فجاء الزبّال وأخذ الحمّص من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذّذ به.

فهذا ابن المطهّر النجس! كالزبّال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفّر بها سادات العلماء ، ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر ، يحسب أنّه يحسن صنعا ، نعوذ بالله من الضلال ، والله الهادي.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٠.

٣٠٢

وأقول :

قد عرفت أنّه لم يشتمل كلامه إلّا على التمويه ، الذي لا ينفعه حين الندامة ، ولا يكون له عذرا يوم القيامة ، والعجب منه أنّه يجازي المصنّف بما يدلّ على أنّه فاعل مختار.

فإذا كان الله تعالى هو الذي خلق تكفير المصنّف لهم ، فلينتصف من الله تعالى لا من المصنّف ، وليحارب الله تعالى لا المحلّ الذي لا أثر له أصلا.

ولينظر العاقل أنّ الذي وقع في البين من المخاصمة والعداء كلّه من الله سبحانه ، فيكون لاعبا ، أو من عبيده؟!

وهل يحسن من الله تعالى أن يفعل ذلك ثمّ يعاقب غيره على ما لا أثر له فيه؟! تعالى الله عمّا يصفون.

* * *

٣٠٣
٣٠٤

إبطال الكسب

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

المطلب الثاني عشر

في إبطال الكسب

إعلم أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لمّا لزمهم هذه الأمور الشنيعة والإلزامات الفظيعة والأقوال الهائلة ، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته ، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك ، التجأ إلى ارتكاب قول توهّم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات( وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) (٢) ، فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار العلوم الضرورية ، كما هو دأبه(٣) وعادته في ما تقدّم من إنكار الضروريات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد ، فقال :

الله تعالى يوجد الفعل ، والعبد مكتسب له(٤) ، فإذا طولب بتحقيق

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة ص ٣٨ : ٣.

(٣) كان في الأصل : « رأيه » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

(٤) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، مقالات الإسلاميّين :٥٣٩.

٣٠٥

الكسب وما هو؟ وأيّ وجه يقتضيه؟ وأيّ حاجة تدعو إليه؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه

فقال بعضهم : معنى الكسب خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل ، وعدمه عقيب اختياره العدم ، فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الله الفعل عند اختيار العبد(١) .

وقال بعضهم : معنى الكسب أنّ الله تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر ألبتّة ، لكنّ العبد يؤثّر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من الله تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد(٢) .

وقال بعضهم : إنّ هذا الكسب غير معلوم ولا معقول مع أنّه صادر عن العبد(٣) .

* * *

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ ٥٩ ـ ٦٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، العلم الشامخ : ٣١٩ عن ابن الهمام.

(٢) انظر : تمهيد الأوائل : ٣٤٧ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٤ ـ ٨٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٤ ، العلم الشامخ : ٣٢١ عن أبي منصور السمرقندي.

(٣) انظر : شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، العلم الشامخ : ٣١٧ و ٣٢٥ حكاية عن والد السبكي.

٣٠٦

وقال الفضل (١) :

قد مرّ أنّ مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : أنّ أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى ، مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له هذا مذهب الشيخ(٢) .

ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنّه على متن الصراط المستقيم في التوحيد ، وتنزيه الله تعالى عن الشركاء في الخلق ، مع إثبات الكسب للعبد ، حتّى تكون قواعد الإسلام ، ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعيّة ، من غير تكلّف إيجاد الشركاء في الخلق.

ونحن إن شاء الله تعالى نفسّر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف ، وينقاد لصحّته المتعسّف ، فنقول :

يفهم من كلام الشيخ أنّه فسّر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة ، وفسّره بكون العبد محلّا للفعل تارة.

وتحقيقه : إنّ الله تعالى خلق في العبد إرادة يرجّح بها الأشياء ، وقدرة يصحّح بها الفعل والترك.

ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريات عند حدوث الفعل.

وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ،

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٣.

(٢) تقدّم في الصفحة ١١٣ من هذا الجزء.

٣٠٧

فإذا تهيّأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل ، وذلك الفعل ممكن ، والممكن إذا تعلّقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح ، فهو يوجد لا محالة بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية ، والقدرة القديمة ، فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا من الإرادة والقدرة الحادثة.

والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة ، كالنور القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه.

فلمّا أوجد الله تعالى الفعل ، وكان قبل الإيجاد تهيّأت صفة اختيار العبد إلى إيجاد الفعل ، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته ، فبقي للفعل نسبتان :

نسبة إلى العبد ؛ وهي أنّ الفعل كان مقارنا لتهيّؤ الإرادة والاختيار نحو تحصيل الفعل ، وحصول الفعل عقيب تهيّئه ، فعبّر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب ؛ لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد.

ونسبة إلى الله تعالى ؛ وهو أنّه كان مخلوقا لله تعالى ، موجدا منه.

وهذا معنى كون الفعل مخلوقا لله تعالى مكسوبا للعبد.

ثمّ إنّ فعل العبد صفة للعبد ، فيكون العبد محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف هو محلّ لصفته ، كالأسود فإنّه محلّ للسواد ، فيجوز أن يقال ـ باعتبار كون الفعل صفة له ـ : إنّه كسبه ؛ ومعنى الكسب كونه محلّا له.

والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب ، بواسطة كونه محلّا لليبوسة المفرطة.

وهل يحسن أن يقال : لم ترتّب الإحراق على الحطب لسبب كونه محلّا لليبوسة؟! والحال أنّ الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة! وأيّ

٣٠٨

ذنب للحطب؟! وهل هذا الإحراق إلّا الظلم والجور والعدوان؟!

إن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل الله تعالى الكافر محلّ الكفر ثمّ أحرقه بالنار؟!

والعاقل يعلم أنّه لا يحسن الأوّل فلا يحسن الثاني!

فرّغ جهدك لنيل ما حقّقناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري ، لئلّا يبقى لك شبهة ، فهذا نهاية التوضيح.

ولكنّ المعتزلي عمي بصره فعظم ضرره ، ألقته الشبهة في مهواة غائلة ، واغتاله القول(١) في مهمّة(٢) هائلة ، ونعم ما قلت شعرا :

ظهر الحقّ من الأشعري والنور جلي

طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي(٣)

فانظر إلى هذا الحلّي الجاهل ، كيف افترى في معنى الكسب ، وخلط المذاهب والأقوال ، كالحمار الراتع في جنة عالية ، قطوفها دانية ، والله تعالى يجازيه!

* * *

__________________

(١) في نسخة إحقاق الحقّ : الغول ؛ ولعلّها الأنسب.

(٢) المهمّة : كلّ ما نواه المرء من فعل أو أمر وأراده وعزم عليه وهمّ بأن يفعله ؛ انظر : تاج العروس ١٧ / ٧٦٤ و ٧٦٧ مادّة « همم ».

(٣) نقول : لا ندري ممّ نتعجّب؟! أمن علم هذا الرجل وبراعته في علم الكلام؟! أم من فصاحته وبلاغته ونبوغه في الشعر ومعرفته بالمعاني؟! أم من خلقه الرفيع العالي؟!

والعجب كلّ العجب ممّن يتّبع هذا وأمثاله ويدافع عنهم دون علم ودراية!! ولكن كما قال أبو الطيّب المتنبّي :

شبيه الشيء منجذب إليه

وأشبهنا بدنيانا الطغام

فليتأمّل!

٣٠٩

وأقول :

ظهر لك من تضاعيف الكلمات أنّ الكسب بمعزل عن الحقّ ، وأنّ التنزيه الذي موّهوا به من باب تسمية الشيء باسم ضدّه ، إذ لم يشتمل إلّا على إنكار العدل والرحمة ، وإثبات العبث في التكليف والبعثة.

وأمّا ما ادّعاه من التحقيق ، ففيه وجوه من الخلل :

أمّا أوّلا : فلأنّ قوله : « فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا » ، خطأ ؛ لأنّ تميّز الإرادة والقدرة القديمتين عن الحادثتين لا يوجب أن يوجد الله سبحانه أفعال العباد ، ولا يوجب التزاحم بينهما حتّى تحصل الغلبة.

نعم ، يوجب التزاحم لو قلنا : إنّ قدرة الله على الشيء تستلزم فعله له ، كما يظهر من بعض ما يحكى عن الرازي(١) ، ويظهر من الخصم في المبحث الآتي ، حيث إنّه في أثناء كلامه على قول المصنّف : « وأيضا دليلهم آت » إلى آخره ، قال : « فالاختيار مقدور لله تعالى فيكون مخلوقا لله تعالى ».

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ القدرة تستلزم فعل كلّ مقدور ، لعدم اقتضاء ذاتها له ، وللزوم أن يكون كلّ ممكن فرض موجودا لأنّه مقدور ، أو انحصار قدرته بالموجودات ، وهو كما ترى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات التهيّؤ لإرادة العبد لا فائدة فيه ، إذ لا يصحّح اللوازم الفاسدة من العقاب للعبد بلا ذنب ، والعبث في البعثة والتكليف ،

__________________

(١) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ٢١.

٣١٠

ونحوها ؛ على أنّه إن زعم أنّ التهيّؤ أثر للعبد فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا فلا يثمر تكلّفه إلّا تطويل مسافة الجبر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله : « لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء » إن أراد به أنّ لفظ الكسب في القرآن يراد به المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة ، فهو باطل ؛ لأنّه اصطلاح جديد ، فاللازم حمله على معناه اللغوي ، وهو : العمل(١) .

وأيّ دلالة في ذكر الكسب ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ على كون المراد هو الكسب الأشعري حتّى يحمل عليه؟!

وإن أراد به أنّ وجود لفظ الكسب في القرآن ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ سبب لتسمية المعنى الذي تصوّره الأشعري بالكسب ، ففيه :

إنّا لو تصوّرنا وجها للسببية ، فلا يثبت به إلّا تصحيح الاصطلاح ، لا حمل الكتاب العزيز عليه ، كما هي عادتهم.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « إنّ فعل العبد صفة للعبد فيكون محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف محلّ لصفته » ، باطل ؛ لأنّ أفعال الله تعالى صفات له ، لذا يوصف بالمحيي ، والمميت ، والخالق ، والرازق ، ونحوها ، وهو ليس محلّا لها بنحو محلّيّة الأسود للسواد الذي مثّل به.

ثمّ إنّ ما فرّعه عليه بقوله : « فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له : إنّه كسبه » ، غير تامّ ؛ فإنّه يستدعي أن يقال باعتبار كون أفعال الله تعالى صفة له : إنّه كسبها ، وهو باطل ؛ لأنّ الكسب لا يطلق إلّا حيث يكون الفاعل قاصدا لجلب النفع له أو دفع المضرّة عنه.

__________________

(١) انظر مادّة « كسب » في : لسان العرب ١٢ / ٨٧ ، المصباح المنير : ٢٠٣.

٣١١

وأمّا خامسا : فلأنّ قوله : « والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب » ، ظاهر الفساد ، فإنّه يستلزم صحّة العقاب على الطول والقصر ؛ لأنّه محلّ لهما ، ولا يكون الاختيار فارقا ما دام غير مؤثّر ، ولذا قاس الإنسان على الحطب ، وقاس كفره على يبوسة الحطب ، وهذا القياس فاسد ؛ لعدم الضرر والأذى على الحطب لانتفاء الشعور والإحساس عنه ، ولذا لا يكون الإحراق ظلما له ، بخلاف عذاب الحسّاس الذي لا ذنب منه ولا أثر له بالمعصية أصلا.

فيا عجبا ممّن يتفوّه بهذه الكلمات ، ويزعم أنّه لا تبقي معها شبهة ، وأنّ صاحبها على متن الصراط ، وما هو إلّا كبيته الذي سمّاه شعرا!!

* * *

٣١٢

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

وهذه الأجوبة فاسدة

أمّا الأوّل : فلأنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه.

وأيّ فرق بينهما؟! وأيّ حاجة وضرورة إلى التمحّل بهذا؟! وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى ، وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك ، وليس بمعلوم.

وأيضا : دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ، إمّا العبد أو الله تعالى ، فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة ، وإن لم يكن موجبا ، لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير ، من غير شركة للعبد فيه.

وأيضا : العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى الفعل عقيبه ، ويخلق الله تعالى الفعل ابتداء من غير تقدّم اختيار ، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر(٢) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٦.

(٢) في المخطوط : القدر.

٣١٣

وقال الفضل (١) :

قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ(٢) ، وأمّا هذه الأقوال التي نقلها عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب

أمّا ما أورد على القول الأوّل ، وهو : « إنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال » ، فباطل ؛ لأنّهما من جملة الصفات ، وهو يدّعي أنّهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة [ والاختيار ] ممّا يخلقها الله تعالى في العبد ، والعبد بهما يرجّح الفعل(٣) .

فالحمد لله الذي أنطقه بالحقّ على رغم منه ، فإنّه صار قائلا بأنّ أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، ولكن ربّما يدفعه بأنّه من الأفعال الاضطرارية ، وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراريّ.

وأمّا قوله : « دليلهم آت في نفس هذا الاختيار » ، وبيانه : إنّ الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور لله ، فيكون مخلوقا لله تعالى ، فكيف يقال : إنّ الفعل يخلقه الله تعالى عقيب الاختيار؟!

فجوابه : إنّ الاختيار من الصفات التي يخلقها الله تعالى أوّلا في العبد ، كسائر صفاته النفسانية ، وكيفيّاته المعقولة والمحسوسة ، ثمّ يترتّب

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٣٤.

(٢) انظر الصفحتين ١١٣ و ٣٠٧.

(٣) الإمامية لا تقول بذلك على إطلاقه ، وسيأتي ردّ المصنّف1 عليه.

٣١٤

عليه الفعل ، فلا يأتي ما ذكره من المحذور ؛ لأنّا نختار أنّ الدليل صحيح ، وليس هو مستندا إلى العبد وهو صادر عن الله تعالى.

وأمّا قوله : « وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا نختار أنّ الاختيار صادر عن الله تعالى لا عن العبد.

وأيضا : نختار أنّ الاختيار يدلّ العبد ليس موجبا للفعل.

قوله : « لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ».

قلنا : ممنوع لما مرّ من أنّ الاختيار صفة توجب للعبد التوجّه نحو تحصيل الأفعال ، ويخلق الفعل عقيب توجيه العبد للاختيار ، والفعل مقارن لذلك الاختيار ، وليس الأكل كذلك ، فالفرق واضح(١) .

وأمّا قوله : « العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه ».

فنقول : هذا هو المدّعى ، والمراد بالجواز هو الإمكان الذاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار.

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١١٣.

٣١٥

وأقول :

ينبغي أن نذكر هنا بعض ما في « شرح المقاصد » لتعرف صدق المصنّف في ما حكاه عنهم ، فإنّه بعد بيان أنّ فعل العبد واقع بقدرة الله وحدها ، وأنّ العبد كاسب ، قال :

« لا بدّ من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال إنّه اسم بلا مسمّى ، فاكتفى بعض أهل السنّة ، بأنّا نعلم بالبرهان أنّ لا خالق سوى الله تعالى ، ولا تأثير إلّا للقدرة القديمة ، ونعلم بالضرورة أنّ القدرة الحادثة للعبد تتعلّق ببعض أفعاله ، كالصعود دون البعض كالسقوط ، فيسمّى أثر تعلّق القدرة الحادثة كسبا وإن لم تعرف حقيقته.

قال الإمام الرازي : هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإنّ الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ، ويتمايزان بكون إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به التمايز ، فأصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وهي المسمّاة ب‍ :

الكسب(١) .

وقريب من ذلك ما يقال : إنّ أصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وتعيّنها بقدرة العبد ، وهو كسب ، وفيه نظر.

وقيل : الفعل الذي يخلقه الله تعالى في العبد يخلق معه قدرة للعبد متعلّقة به ، يسمّى كسبا للعبد ، بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة.

__________________

(١) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، وانظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ١٠.

٣١٦

وقيل : إنّ للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط ، كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ، ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي ، فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب.

و هذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحّة انفراد القادرية ، وما يقع في محلّ قدرته ، بخلاف الخلق ، فإنّه ما يقع به المقدور مع صحّة انفراد القادرية ، وما يقع لا في محلّ قدرته.

فالكسب لا يوجب وجود المقدور ، بل يوجب ـ من حيث هو كسب ـ اتّصاف الفاعل بذلك المقدور ؛ ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ، ككون الفعل طاعة أو معصية ، حسنا أو قبيحا ، فإنّ الاتّصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح ، بخلاف خلق القبيح ، فإنّه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة ، بل ربّما يشتمل عليهما.

وملخّص الكلام ما أشار إليه الإمام حجّة الإسلام ، وهو : إنّه لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا ، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه عندنا بالاكتساب.

إلى أن قال : فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمّى كسبا له ، وباعتبار نسبتها إلى قدرة الله تعالى خلقا ، فهي خلق للربّ ووصف للعبد وكسب له ، وقدرته خلق للربّ ووصف للعبد وليس بكسب له(١) »(٢) .

وإنّما أطلنا بنقل كلامه لتعرف حال أساطينهم فضلا عن مثل هذا

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد : ٦٠.

(٢) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣١٧

الخصم.

ويكفي في بطلان هذه الكلمات مجرّد النظر فيها ، مع أنّ الكسب ـ بأيّ معنى فسّر ـ إن كان من فعل الله تعالى دون العبد فلا فائدة في إثباته ، وإن كان من أثر العبد فقد خالفوا مذهبهم ولم يكن موجب لإثباته وإنكار تأثير العبد في الفعل.

ولو لا تعلّق القصد بردّ ما أورده الخصم لكان الأولى الإعراض عن مثله ، إلّا إنّه لا مناص من ردّه ، فنقول :

أمّا ما ذكره من أنّ الإرادة من جملة الصفات ، فصحيح ، سواء أراد بالصفات ما كان من مقولة الكيف ، أو ما لوحظ فيه جهة التلبّس لا الحدوث ، لكن لا ينافي أن تكون الإرادة فعلا باعتبار حدوثها ، ولذا يقول المتكلّمون : إنّ الله تعالى فاعل للعدل والرحمة والمغفرة باعتبار حدوثها منه ، وموصوف بها باعتبار تلبّسه بها(١)

فصحّ قول المصنّف : « إنّ إرادة العبد من جملة الأفعال ».

على أنّه لا أثر للاصطلاح والتسمية ، فإنّ كلام المصنّف في الصدور الذي يسلّمه القائل بالقول الأوّل ، فأورد عليه أنّه إذا جازصدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه إلى آخره.

وأمّا قوله : « وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة ممّا يخلقها الله تعالى في العبد »

فإن أراد أنّها ربّما يخلقها الله تعالى ، فلا يضرّنا القول به ، وإن أراد أنّها مخلوقة له دائما ، فكذب علينا ، كيف؟! وقد سبق أنّ العبد فاعل لها ،

__________________

(١) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٣١٨

قادر عليها وجودا وعدما ، ولو بالقدرة على أسبابها!

وأمّا حمده لله تعالى على إقرار المصنّف بأنّ بعض أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، فمن المضحك ، إذ لم يظهر من المصنّف اختيار أنّ إرادة العبد صادرة عن الله تعالى إن لم يظهر منه الخلاف ، ومجرّد قول أصحابه به ـ لو سلّم ـ لا يستلزم أن يقول المصنّف به ، إذ ليس هو من أصول الدين.

على أنّ القول بأنّ بعض أفعالنا مخلوق لله تعالى لا ينافي مذهبنا ؛ لأنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في الإيجاب الكلّي حيث يقولون : إنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى(١) ، ونحن نمنعه ، فلا ينافي الإيجاب الجزئي.

ثمّ إنّ معنى قول الخصم : « ولكن ربّما يدفعه » إلى آخره ؛ هو أنّ المصنّف قد يجيب عن ذلك بأنّ الإرادة والاختيار ليسا محلّ النزاع ؛ لأنّ النزاع إنّما هو في الأفعال الاختيارية ، وليست الإرادة والاختيار صادرين بالاختيار.

وفيه : إنّ المصنّف لا يجيب بهذا ؛ لأنّ الإرادة عنده فعل اختياري(٢) ، أي من آثار قدرة العبد ، وإنّما يجيب بخطأ الخصم ، حيث زعم أنّ الإرادة عندنا من أفعال الله تعالى ، كما عرفت.

ثمّ إن أراد بقوله : « وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراري » إنكار كون الاختيار فعلا ، فباطل ؛ لما عرفت من معنى الفعل.

وإن أراد به دعوى أنّ الاختيار مسبوق بالاختيار ، لزمه التسلسل.

__________________

(١) الإبانة عن أصول الديانة : ٤٦ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ، المواقف : ٣١١.

(٢) مناهج اليقين : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٣١٩

وإن أراد به أنّ الاختيار من آثار قدرة العبد ، فنعم الوفاق ، ولزمهم إشكال المصنّف بقوله : « إن جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ».

وأمّا ما أجاب عن قول المصنّف : « ودليلهم آت في نفس الاختيار »

ففيه : إنّ إشكال المصنّف إنّما هو على صاحب القول الأوّل الذي يذهب إلى أنّ الاختيار صادر عن العبد ، ومنه يعلم ما في جوابه أيضا عن الإشكال الثالث بقوله : « فجوابه : إنّ الاختيار صادر عن الله لا عن العبد ».

وأمّا ما ذكره من الفرق بين الاختيار والأكل

ففيه : إنّ التوجّه الذي يوجبه الاختيار ـ كما زعم ـ إن كان أثرا للعبد كان خروجا عن مذهبه ، وإلّا فأيّ فائدة في إثبات التوجّه غير تطويل مسافة الجبر؟! ضرورة أنّ الفرق المهمّ بين الاختيار والأكل مثلا ، هو الفرق في مقام تأثير العبد في الفعل بوجه من الوجوه ، لا الفرق كيفما كان ، وإلّا فالفروق كثيرة.

واعلم أنّ الأشاعرة لمّا رأوا مفاسد الجبر زعموا أنّ المخلص منها يحصل بوجود القدرة والاختيار في العبد ؛ لأنّهما هما المحقّقان للكسب ، وإن كانا معا من فعل الله تعالى كأصل الفعل ، فحينئذ يكون وجود الاختيار لازما لا مناص منه ليكون به المخلص ، فإذا جعلوه عاديا غير لازم الوجود واقعا ، لا سيّما والعاديّات قد تتخلّف ، لم يكن مخلصا.

وهذا هو مقصود المصنّف في كلامه الأخير.

وقد توهّم الخصم أنّ المصنّف ادّعى أنّ مخلصهم بإثبات وجوب

٣٢٠

321