عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم17%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132373 / تحميل: 8871
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

دينه وإبادة أنصاره، وهو ابن أعدى قريش لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أبو سفيان الذي قاد حروب المشركين ضدّ النَّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم تكن عند معاوية الصلاحية الذاتية للخلافة الإسلامية، ولا الأهلية الموضوعية التي تجعله راجحاً في ميزان العقلاء وعند رجال الإسلام.

ولقد قال له الإمام عليعليه‌السلام في كتاب إليه: «ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعيَّة، وولاة الاُمّة؟ بغير قدم سابق، ولا شرف باسق »(15) .

السابع: بيّن الإمامعليه‌السلام في المقابل انّه الأحقّ بالخلافة المستوعب لجميع صفات الخليفة الشرعي التي لم تكن متوفرة في معاوية، فهو من جهة النسب سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وابن فاطمة بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشبل عليعليه‌السلام ، وهو الذي قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه وفي أخيه الإمام الحسينعليهما‌السلام : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجَنّة » وانّهما إمامان قاما أو قعدا، فهو الممثّل الرسمي لجدّه وأبيه، ثم انّه الذي بايعه المسلمون طائعين غير مُكرَهين الأمر الذي كان المدار عندهم(16) في الصعود إلى عرش الخلافة، وانّ معاوية نفسه يعلم بأحقّيتهعليه‌السلام : «فانّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منكَ عند الله وعند كل أوّاب حفيظ، ومَن له قلب منيب ».

ولقد قال معاوية يوماً لابنه يزيد جواباً على استغراب له في معاملته مع الإمام الحسنعليه‌السلام في أحد المواقف بعد الصلح: يا بني إنّ الحقّ فيهم(17) .

وقد أشار إلى هذا الإمامعليه‌السلام في كلام له مع معاوية بعد الصلح، حيث عقّب معاوية على كلام للإمامعليه‌السلام يذكر فيه فضله بقوله: «أظن نفسك يا حسن تنازعك إلى الخلافة »، فقال الإمامعليه‌السلام : «ويلك يا معاوية إنّما الخليفة مَن سار بسيرة رسول الله وعمل بطاعة الله، ولعمري إنّا لأعلام الهدى ومنار التقى، ولكنّك يا معاوية ممّن أباد السنن، وأحيا البدع، واتخذ عباد الله خولا، ودين الله لعباً »(18) .

الثامن: بيّن الإمامعليه‌السلام ما عليه معاوية من الباطل وسأله أن يدع التمادي

١٢١

فيه فقال له: «فدع التمادي في الباطل » ووصفه بأنّه باغ والبغي هو تجاوز الحق إلى الباطل، قال تعالى:( انّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ) (19) ، يُقال بغى الجرح أي تجاوز الحد في إفساده، وبغت المرأة بغاء إذا فجرتْ وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها(20) .

وإنّ معاوية ممّن يتمادى في الغي أيضاً حيث قال له الإمامعليه‌السلام : «وإن أبيتَ إلاّ التمادي في غيّكَ » وقد وصفه من قبل بهذا الوصف الإمام عليعليه‌السلام بقوله في رسالة له: «وانّ نفسكَ قد أولجتْكَ شراً، وأقحمتْكَ غياً، وأوردتْكَ المهالك، وأوعرتْ عليكَ المسالك »(21) ، وقال له في رسالة اُخرى إليه: «وأرديتَ جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشُّبهات »(22) .

التاسع: إنّ الذي حمل الإمامعليه‌السلام على كتابة هذه الرسالة إلى معاوية إنّما هو الإعذار في ما بينه وبين الله عزّ وجل في أمره، ولتكون الحجّة على معاوية أوقع عند أهل الرأي والحجى.

العاشر: بيّن الإمامعليه‌السلام انّ خلافته هي الأصلح للمسلمين، فكل فعل مضاد يبديه معاوية فهو خروج على مصلحتهم العليا.

الحادي عشر: دعوة من الإمامعليه‌السلام إلى معاوية أن يكف عن الولوغ في دماء المسلمين، وأن يحقنها فلقد شرب منها حتى الثّمالة وغرق فيها إلى الآخر.

• جواب معاوية:

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي ..

فهمتُ ما ذكرتَ به محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أحقّ الأوّلين والآخرين بالفضل كلّه ..

وذكرتَ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنازع المسلمين الأمر من بعده وتغلبهم على

١٢٢

أبيك، فصرحتَ بتهمة فلان وفلان وأبي عبيدة وحواري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصلحاء والمهاجرين والأنصار فكرهتُ ذلك لكَ، إنّكَ امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ولا المسيء ولا اللّئيم، وأنا أحب لكَ القول السديد والذكر الجميل، انّ هذه الاُمّة لما اختلفتْ بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ولا قرابتكم من نبيّكم ولا مكانكم في الإسلام وأهله، فرأت الاُمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيّها، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعوامهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله وأحبّها له وأقواها على أمر الله فاختاروا أبا بكر، وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل، والناظرين للاُمّة، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا متّهمين ولا في ما أتوا بالمخطئين، ولو رأى المسلمون أن فيكم مَن يغني غناءه ويذب عن حريم الإسلام ذبّه ما عدلوا بالأمر إلى غيره رغبة عنه.

وقد فهمتُ الذي دعوتني إليه من الصلح، والحال في ما بيني وبينكم اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو علمت أنّكَ أضبط منّي للرعية، وأحوط على هذه الاُمّة، وأحسن سياسة، وأقوى على جمع الأموال، وأكيد للعدو، لأجبتُكَ إلى ما دعوتني إليه، ورأيتُكَ لذلك أهلاً، ولكن قد علمتُ أنّي أطول منك ولاية، وأقدم منك بهذه الاُمّة تجربة، وأكبر منك سناً فأنت أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فأدخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي، ولك ما في مال العراق بالغاً ما يبلغ، تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أي كور العراق شئت، معونة لك على نفقتك، يجبيها أمينك، ويحملها إليك في كل سنة، ولك أن لا نستولي عليك بالإساءة ولا تقضى دونك الاُمور، ولا تُعصى في أمر أردتَ به طاعة الله، أعاننا الله وإيّاك على طاعته إنّه سميع مجيب الدعاء والسلام »(23) .

لا يخفى على مَن خبر كتب التاريخ والسير، واطّلع على حوادث السقيفة،

١٢٣

ثم عرف النفسية التي يتمتّع بها بنو عبد الدار، أن يدرك المغالطات التي اندست في هذه الرسالة والتلاعب بالعواطف والإثارات، ولذا قال الكاتب المصري توفيق أبو علم: « وكما يقول الدكتور أحمد رفاعي في كتابه ( عصر المأمون ) إنّ هذه الرسالة حوت بعض المغالطات، فقد جاء فيها: « إنّ هذه الاُمّة لما اختلفت بينها، لم تجهل فضلكم، ولا سابقتكم للإسلام، ولا قرابتكم من نبيّكم الخ »(24) .

• ونذكر هنا بعض ما يلاحظ على هذه الرسالة:

الأوّل: إنّ معاوية أضاف لقب أمير المؤمنين إلى نفسه وهو لم ينص على خلافته ولم يُبايَع من قِبَل المسلمين، وهذا تحدّ صارخ منه في وجه الاُمّة وعدم المبالاة بقوانين الإسلام ولا الاحترام لمشاعر المسلمين.

الثاني: إنّه موّه الأمر ولم يذكر حوادث ما بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبرز في معرض الدفاع عن صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّه الرجل المؤمن الذي يربأ بالإمام الحسنعليه‌السلام عن الكلام عن أولئك المتقدمين، بينما لم يذكر الإمامعليه‌السلام إلاّ ما جرى بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأي محدّث ينقل حدثاً تاريخياً خطيراً لعب دوره الكبير في حياة الاُمّة الإسلامية وأثّر في اتجاه سيرها، وإنّما ذكره لينبّه معاوية وأتباعه بأنّ الأمر الذي نطلبه منك هو حقّ لنا في أعناق المسلمين وإن خرج عن دائرته حفنة من السنين لظروف طارئة، فهو تذكير وإشارة لمَن ألقى السمع وهو منيب، ولم يكن خافياً على معاوية ذلك الأمر، ولذا كان يعيب الإمام علياًعليه‌السلام بما صنع به في تلك الأيام في كتاب له إليه، فأجابه الإمامعليه‌السلام بقوله: «وقلتَ: انّي كنتُ اُقاد كما يُقاد الجمل المخشوش حتّى اُبايع؛ ولعمر الله لقد أردتَ أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه! وهذه حجتي إلى غيرك

١٢٤

قصدها، ولكنّي أطلقتُ لك منها بقدر ما سنح من ذكرها »(25) .

الثالث: إنّ قوله: « فرأت الاُمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها...الخ »، فيه الكثير من الإعلام المزيّف الذي طالما حارب به معاوية واتّخذه سلاحاً حاداً في كثير من المواقع التي مرّ بها وكادت تعصف به رياحُ الحقّ، فهل اجتمعت الاُمّة على الأوّل؟! إذن ما الذي حمل الثلاثة من المهاجرين على الذهاب إلى سقيفة بني ساعدة وإجراء المفاوضات الحادّة مع الأنصار وترك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجى على فراش الموت لم يوار الثرى بعد، وهو صهر أوّلهما وثانيهما! وهل كان غيرهم من قريش بل من المهاجرين هناك؟ وهل بايع علي والعباس والفضل بن العباس وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار و و ..

مَنْ أهل الدين والسبق وعلِّية المسلمين؟! ألم تقل الأنصار في لحظة من لحظات السقيفة: « لا نبايع إلاّ علياً »(26) ألم يقل الخليفة الثاني كانت بيعة أبي بكر فلتة!(27) وحسبنا في التعليق ما ورد في الكتاب السابق للإمام عليعليه‌السلام : «وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا، وهو قوله سبحانه وتعالى: ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) (28) وقوله تعالى: ( انّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) (29) ،فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة .

ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار في يوم السقيفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلجُّوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم ».

الرابع: كيف اختارت الاُمّة أفضلها وأحبّها إلى الله وأعلمها به وأذبّها عن حريم الإسلام، وعليعليه‌السلام فيهم وهو الذي قال عنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ مع الحق والحق مع علي، وأنا مدينة العلم وعليّ بابها، أقضاكم عليّ، لأعطينّ الراية

١٢٥

غداً رجلاً كراراً غير فرار يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله »، بعد ان رجع الأوّل والثاني يجبّن كل منهما أصحابه وأصحابه يجبنونه، ومَن الذي وقف يدافع عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم اُحد؟ ومَن الذي قام لعمرو بن ود يوم الأحزاب حينما اقتحم الخندق وطلب المبارزة فشلّت حركة المسلمين وقبضوا على أنفاسهم، أقام غير عليعليه‌السلام فأردى عمرو صريعاً؟ حتى سجّل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمتيه الخالدتين: «برز الإسلام كلُّه إلى الشرك كلِّه، وضربة علي يوم الخندق تعدل عمل الثقلين! »، ومَن الذي قال فيه جبرئيل: «لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي! » ثم ألم يقل الخليفة الثاني أقيلوني فلستُ بخيركم؟(30) .

وكان معاوية كثيراً ما يردّد هذه الإفضلية جرياً على عادة الإعلام الاُموي فذكر ذلك إلى الإمام عليعليه‌السلام في كتابه السابق فأجاب عنه: «وزعمتَ أنّ أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرتَ أمراً إن تمّ اعتزلك كُلّه وإن نقص لم يلحقك ثلمه، وما أنتَ والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء، والتمييز بين المهاجرين الأوّلين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنّ قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها مَن عليه الحكم لها! ألا تربع أيّها الإنسان إلى ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب ولا ظفر الظافر »(31) .

الخامس: ادعى أنّه فهم من كتاب الإمامعليه‌السلام دعوته إلى الصلح، ولم يكن في كتاب الإمامعليه‌السلام للصلح عين ولا أثر، فهل ترى فهم دعوى الصلح من قول الإمامعليه‌السلام : «فدع التمادي في الباطل، وادخل في ما دخل فيه الناس من بيعتي »؟!.

السادس: التناقض الواضح في كلمات معاوية، فهو يستفيد دعوته إلى الصلح في الوقت الذي يقول فيه: فأنتَ أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني.

١٢٦

السابع: إذا لم يكن الإمام الحسنعليه‌السلام أحوط على اُمّة جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غيره، كائناً مَن كان، فهل الأحوط عليها معاوية! الذي فعل ما فعل أيام صفّين، وقتل مَن قتل من الصحابة الكرام والبدريين الأجلاّء؟

الثامن: قوله: « وأقوى على جمع الأموال » إن كان الجمع من مصادره المشروعة فالإمامعليه‌السلام أعرف بها من معاوية لأعرفيته بكتاب الله وسنّة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو ربيب الرسالة ورضيعها، وابن صوت العدالة الإنسانية في الأرض. وإن لم يكن الجمع من مصادره المشروعة فما أبعد الإمامعليه‌السلام عن ذلك.

التاسع: إنّ الاُمور التي جعلها مرجّحاً له في طرف الميزان لم تكن كذلك في الرؤية الإسلامية الهادفة لأعلاء كلمة الله في الأرض، فما قيمة كبر السن وطول الولاية وما إلى ذلك أن لم تكن في رضا الله وطاعته. ولو كان لكبر السن أهمية في المنظور الإسلامي لما كان اُسامة بن زيد أميراً على جيش مؤتة وفيه أكابر الصحابة وشيوخهم، ولقد قال أبو قحافة حينما سمع بتنصيب ابنه خليفة على المسلمين: « ..لم ولوه؟ قالوا: لسنه. قال: أنا أسنّ منه »(32) .

العاشر: إنّ منطق معاوية في قوله: « ولك ما في بيت مال العراق » منطق المخادع الذي يريد أن يستولي على الملك بأي طريق، وليس منطقه منطق الطالب للحقّ ومَن تهمّه مصلحة المسلمين، وإلاّ فما يعني قوله: ولك ما في بيت مال العراق بالغاً ما يبلغ! أليست هي المساومة بعينها على شيء ليس له؟ وقد أخطأ معاوية مرماه حينما عرض على الإمامعليه‌السلام هذا العرض الدنيوي الزائل، وهل كان الإمامعليه‌السلام إلاّ كأبيه القائل: «يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري »؟!

هذا بعض ما يؤخذ على رسالة معاوية ومنطقها، والذي يظهر أنّ الإمامعليه‌السلام لم يعبأ بهذه الرسالة فلم يجب عنها بشيء، ممّا أثار حفيظة معاوية فظهر بصورة اُخرى غير الصورة التي حاول أن يبرز بها في الرسالة الاُولى، فكتب إلى الإمامعليه‌السلام كما

١٢٧

يروي ابن أبي الحديد: « أما بعد فانّ الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس، وايأس من أن تجد فينا غميزة، وإن أنت أعرضتَ عمّا أنت فيه وبايعتني وفيتُ لك ما وعدتُ، وأجريت لك ما شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:

وإن أحدٌ أسدى إليك أمانةً

فأوفِ بها تدعى إذا متَّ وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنىً

ولا تُجفهِ إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي وأنت أولى الناس بها »(33) .

قال توفيق أبو علم: « ويقول بعض رجال التاريخ إنّ هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد، إنّما بعثها معاوية إلى الإمام الحسنعليه‌السلام بعدما اتصل اتصالاً وثيقاً برجال العراق وقادته وضمنوا له تنفيذ خطّته، فالغالب أنّه لم يكتب ذلك إلاّ بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له »(34) .

ولكن المحتمل غير ذلك كما سيظهر عن قريب من تتابع الحوادث ومجريات الاُمور.

والذي تجدر الإشارة إليه تهديد معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام بالقتل إن هو لم يسلم الأمر إليه، وفيه الشيء الكثير من أخلاق آل اُميّة وروح معاوية.

الرسالة الثانية:

أجاب الإمامعليه‌السلام معاوية برسالة مختصرة:

«أمّا بعد فقد وصل إليّ كتابك فيه ما ذكرت، وتركتُ جوابك خشية البغي، وبالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحقّ فانّك تعلم من أهله: وعليّ إثم أن أقول فأكذب »(35) .

قال توفيق أبو علم: « وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين

١٢٨

الإمام ومعاوية.

وعلى أثرها علم معاوية أنّه لا يجديه خداعه وأباطيله، ولا تنفع مغالطاته السياسية »(36) .

وليس الأمر كما قال، بل هناك رسائل اُخرى متبادلة بينهما كما ستأتي، وقد صدق حكمه في أنّ الإمامعليه‌السلام لم ينخدع باُطروحة معاوية ومغالطاته السياسية، وكيف ينخدع ابن أبي طالب الذي عرف معاوية وما يحمله من طموحات الرياسة والملك، وما يتلوّن به من أساليب الخديعة والمكر، وأين يبعد عن الإمام الحسنعليه‌السلام قول أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام في معاوية وهو يحذّر زياد ابن أبيه منه: «فاحذره، فإنّما هو الشيطان، يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ليقتحم غفلته ويستلب لبّه » (37) .

• ظرف الرسالة:

ظرف هذه الرسالة يقرب من ظرف الرسالة السابقة، مع وضوح الرؤية في موقف معاوية وإصراره على التمادي في باطله، وانّه سوف يفعل كل ما يخدم سياسته، ويمهّد له طريق الاستيلاء ولو كان ذلك هو قتل الإمام الحسن نفسه.

• زمن الرسالة:

يحتمل أنّها كانت في أواخر شهر شوال أو أوّل شهر ذي القعدة، من السنة نفسها، فانّ مدّة السير بين الكوفة والشام تستغرق سبعة إلى عشرة أيام، وقد كتب الإمامعليه‌السلام رسالته الاُولى في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك أو أوائل شهر شوال كما احتملناه سابقاً، فإذا ما وضعنا ذلك في الحسبان مع أيام السفر ذهاباً وإياباً، وبقاء الرسول في الشام ولو لأيام معدودة، والمدة الفاصلة بين

١٢٩

جواب معاوية ورسالته الثانية للإمامعليه‌السلام يكون الوقت التقريبي لزمن الرسالة يحوم حول ما ذكرناه.

• الرسالة الثالثة:

لمّا بلغ معاوية ابن أبي سفيان وفاة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وبيعة الناس لابنه الإمام الحسنعليه‌السلام ، دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة، ورجلاً من القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار، ويفسدا على الحسن الاُمور، فانكشف أمرهما لدى الإمام الحسنعليه‌السلام بأمر باستخراج الحميري من عند لحّام ( حجّام ) بالكوفة فاُخرج وأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سُلَيم فأخرج وضربت عنقه.

• ثم كتب الإمامعليه‌السلام إلى معاوية:

«أمّا بعد فانّك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال وأرصدت العيون كأنّك تحبّ اللقاء، وما أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله، وبلغني أنّك شمتّ بما لم يشمت به ذو الحجى، وإنّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل:

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تزوّد لاُخرى مثلها فكأن قَدِ

فانّا ومن قد مات منّا لكالذي

يروح فيمسي في المبيت ويغتدي(38)

• زمن الرسالة:

يظهر أنّ هذه الرسالة جاءت عقيب الرسالة المذكورة ثانياً، فانّ تلك كانت جواباً على كتاب، وهذه ابتداء خطاب، ثم انّ المستفاد من كلام مجموعة من المؤرخين انّ هذه هي الرسالة الاُولى للإمامعليه‌السلام ، وهو جدّ بعيد، فانّ المقارنة بين

١٣٠

لسانها ولسان الرسالة التي ذكرناها أوّلاً تقضي بما أثبتناه، فانّ طبيعة الاُمور ومجاريها قائمة على أن يرسل الخليفة الجديد إلى ولاة المناطق بخبر استخلافه ويطلب منهم البيعة، ثم انّه من المستبعد جداً أن يرسل الإمامعليه‌السلام إلى معاوية بهذه اللّهجة الصارخة والشدة في الخطاب وبيان الاستعداد لحربه - كما في هذه الرسالة -، ثم يرسل له بعد ذلك بالمطالبة وأنّه الأحقّ منه.

• ظرف الرسالة:

اتضحت ملامح الأزمة وخيوطها بشكل أكبر، فالظرف ظرف تأزّم واستعداد للحرب وتهيؤ للقتال، فانّ الإمامعليه‌السلام ثابت على موقفه وطريقته في الأمت والعوج وإظهار الدّين وإبقاء الحق عند أهله، ورفض معاوية جملة وتفصيلاً، وفي المقابل يقف معاوية متمنياً الخلافة مصرّاً على الملك، طالباً لما يريد بأي ثمن كان، ويحتمل أنّ الإمامعليه‌السلام قد وصل إلى مسامعه ما أرسله معاوية إلى عمّاله في هذه الآونة، فقد أرسل إليهم بعد أن جاءه جواب الإمامعليه‌السلام السابق وعرف منه العزم على الحرب وعدم التفكير في قبوله أبداً: « من عبد الله أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان، ومن قبله من المسلمين، سلام عليكم فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوّكم وقاتل خليفتكم: إنّ الله بلطفه وحسن صنيعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهودكم وجندكم وحسن عدّتكم، فقد أصبتم بحمد الله الصبر وبلغتم الأمل وأحلّ الله أهل البغي والعدوان والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(39) .

وقد علّق الاستاذ توفيق أبو علم على هذه الرسالة بقوله: « والذي يلفت النظر

١٣١

في هذه الرسالة أن ينسب معاوية البغي والعدوان إلى الإمام عليعليه‌السلام ، مع أنّ جنود معاوية هم الباغون ولقد قتلوا الصحابي الجليل عمّار بن ياسر وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له: «تقتلك الفئة الباغية » كما يلفت النظر شماتة معاوية في الإمامعليه‌السلام .

ولمّا وصلت هذه الرسالة إلى عمّاله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثّهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول اللهعليه‌السلام وسبطه »(40) .

• معطيات الرسالة:

الأوّل: إنّ معاوية أرسل الأعين إلى أهم مركزين سياسيين في حكومة الإمامعليه‌السلام - الكوفة والبصرة - للاحتيال والاغتيال، فهو يريد بذلك التجسّس على الإمامعليه‌السلام ومعرفة ما يدور في أوساط دولته، وأن يفسد الأمر على الإمامعليه‌السلام بإشاعة الأخبار الكاذبة، وإحباط المعسكر الإسلامي وتخويفه، وإحداث البلبلة في صفوفه، وغرس الفتنة في داخل حكومة الإمامعليه‌السلام والوسطين الكوفي والبصري، وأمّا الاغتيال فلعل معاوية كانت تمنيه نفسه باغتيال الإمامعليه‌السلام من ذلك الوقت ليستتب له الأمر، كما يظهر من تحذيره السابق، أو اغتيال بعض الشخصيات الشيعية المهمّة اجتماعياً وعسكرياً حتى تضعف قوة جيش الإمام وتنهار معنوياته، أو هما معاً.

الثاني: إنّ حنكة الإمامعليه‌السلام وحزمه في مواجهة الاُمور اقتضيا أن يسلك طريق الشدّة ممّا أفشل مخطط معاوية المشؤوم، فأمر بإعدام الجاسوسين طبقاً لقوله تعالى:( إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا ) (41) .

الثالث: استعداد الإمامعليه‌السلام لحرب معاوية بدون أي تردّد أو خوف، فهذه الأعين القادمة رسل حرب وليست برسل سلام.

١٣٢

الرابع: إنّ معاوية قد شمت بقتل الإمامعليه‌السلام ، وذو الحجى لا ينبغي له أن يشمت بموت أحد أو قتله، لا سيما وأنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام قد ضرب وهو قائم يصلّي في محرابه وقد تعلّقت روحه بالعالم الآخر على يقين ممّا هو عليه قائلاً: «فزتُ وربّ الكعبة ».

• جواب معاوية:

«أمّا بعد فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرتَ فيه، ولقد علمتُ بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ولم أشمت ولم آس، وإنّ علياً أباك لكما قال الأعشى:

فأنت الجواد وأنت الذي

إذا ما القلوب ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقا

ء يضرب منها النساء النمورا

وما مزبد من خليج البحا

ريعلو الأكام ويعلو الجسورا

بأجود منه بما عنده

فيعطي الألوف ويعطي البدورا »(42)

وقد علّق على هذه الرسالة أيضاً توفيق أبو علم بقوله: « وتلمس في هذه الرسالة دهاء معاوية وخداعه وخوفه من الحسنعليه‌السلام ، وذلك لمدحه وثنائه على الإمام عليعليه‌السلام ، وإنكاره لما أظهره من الفرح بموته، ولولا ذلك لما سجّل لخصمه هذا الثناء العاطر »(43) .

• الرسالة الرابعة:

كتب معاوية إلى الإمام الحسنعليه‌السلام : « يا بن عم، لا تقطع الرحم الذي بينك وبيني، فإنّ الناس قد غدروا بك وبأبيك من قبلك »(44) .

• جواب الإمامعليه‌السلام :

«إنّما هذا الأمر لي والخلافة لي ولأهل بيتي، وإنّها لمحرّمة عليك وعلى

١٣٣

أهل بيتك، سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله لو وجدتُ صابرين عارفين بحقّي غير منكرين، ما سلمتُ لك ولا أعطيتك ما تريد »(45) .

• ظرف الرسالة:

يقول المؤرخون: لمّا توفرت لمعاوية القوّة الهائلة من الجند وأصحاب المطامع توجّه إلى العراق فلمّا انتهى إلى جسر منبج، وعلم الإمامعليه‌السلام بذلك أمر بالصلاة جامعة ثم اعتلى المنبر فقال:

«أمّا بعد، فانّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً، ثم قال لأهل الجهاد: اصبروا إنّ الله مع الصابرين، فلستم أيّها الناس نائلين ما تحبّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون، إنّه بلغني أنّ معاوية بلغه ما أزمعنا على المسير إليه فتحرّك لذلك، أخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم في النخيلة حتى ننظر وتنظرون ونرى وترون ».

وتباطأ الناس واثّاقلوا عن الذهاب خوفاً من جيش الشام، وبعد مداولات كلامية بين بعض الشخصيات الشجاعة وعامّة الناس أزمعوا على المسير، ثم لمّا ركب الإمامعليه‌السلام تخلّف عنه الكثير ولم يوفوا بما وعدوه به، فقام خطيباً وقال:

«غررتموني كما غررتم مَن كان قبلي، مع أي إمام تقاتلون بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو وبنو اُميّة إلاّ فرقاً من السيف؟ لو لم يبق لبني اُميّة إلاّ عجوز درداء، لبغت دين الله عوجاً، وهكذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

ثم وجّه إليه قائداً من كندة في أربعة آلاف، وأمره أن يعسكر في الأنبار، وعلم به معاوية فأرسل إليه رسلاً وكتب إليه معهم: انّك إن أقبلت إليّ اُولِّك كور الشام والجزيرة، غير منفس عليك، وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم فقبض

١٣٤

الكندي المال وقلب على الإمام الحسنعليه‌السلام ، وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصّته وأهل بيته.

فبلغ ذلك الإمام الحسنعليه‌السلام فقام خطيباً وقال:

«هذا الكندي توجّه إلى معاوية وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرّة بعد مرّة أنّه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا ».

ثم أرسل آخر من مراد وأخبره أنّه سيغدر كما غدر الكندي فحلف له بالإيمان المغلظة التي لا تقوم لها الجبال - على حدّ تعبير المؤرخين -، أنّه لا يفعل، فقال الإمامعليه‌السلام انّه سيغدر، وصدقت نبوءة الإمامعليه‌السلام فيه، ففعل كما فعل الأوّل إزاء ثمن بخس. حينها بعث معاوية إلى الإمام برسالته المتقدّمة.

ظرف رسالة الإمامعليه‌السلام :

ثم انّ الإمامعليه‌السلام أخذ طريق النخيلة فعسكر عشرة أيام فلم يحضره إلاّ أربعة آلاف فانصرف إلى الكوفة فصعد المنبر وقال:

«يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، ولو سلّمتُ له الأمر فأيم الله لا ترون فرجاً أبداً مع بني اُميّة، والله ليسومونكم سوء العذاب حتى تتمنّوا أنّ عليكم جيشاً جيشاً، ولو وجدتُ أعواناً ما سلّمتُ له الأمر، لأنّه محرّم على بني اُميّة فأف وترحاً يا عبيد الدنيا ».

ثم انّ القائد العام لجيش الإمامعليه‌السلام ابن عمّه عبيد الله بن العباس المثكول من معاوية بولديه قد غدر هو الآخر بثلثي مقدمة الجيش الذي سار إلى معاوية.

وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية: إنّا معك وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك.

١٣٥

هذه ظرف رسالة الإمامعليه‌السلام ، والذي يظهر من البحار نقلاً عن الخرايج(46) :

أنّ الإمامعليه‌السلام كتبها بعد طعنه في فخذه والهجوم على الفسطاط، والذي يترجّح لمَن يراقب الأحداث أنّها كُتبت بعدما ذكرناه، والرسالة الاُخرى وهي الخامسة تقريباً كانت بعد الهجوم على الفسطاط.

وفي هذه الفترة بالذات نشر معاوية شائعة الصلح بينه وبين الإمامعليه‌السلام في أوساط مقدّمة الجيش، كما نشر شائعة التحاق قيس بن سعد القائد العام لجيش الإمامعليه‌السلام بعد عبيد الله بن العباس بمعاوية في أوساط مَن بقي مع الإمامعليه‌السلام ، ممّا أدى إلى زعزعة جيش الإمامعليه‌السلام وانهيار ما تبقّى عندهم من معنويات، وقد أخذت شائعات معاوية محلها في النفوس المريضة ممّن يحبون الدعة والراحة.

• معطيات الرسالة:

الأوّل: ركّز الإمامعليه‌السلام على عدم شرعية خلافة معاوية، وأنّها محرّمة عليه وعلى أهل بيته - بني اُميّة - كما جاء عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما سوف يحصل لمعاوية إنّما هو ملك لا يلبث أن يزول.

الثاني: إنّ لكثير من الذين مع الإمامعليه‌السلام ليسوا على شيء من ناحية العقيدة، والقليل منهم مَن يعرف الإمامعليه‌السلام حقّ معرفته، وأنّه إمام مُفترَض الطاعة من قِبَل الله يُسمَع له ويُطاع، وهذا ما بيّنه الإمامعليه‌السلام بعد الصلح أيضاً، وانّهم غير صابرين على الحرب، وإلاّ فعلى أسوأ التقادير وعدم الإيمان منهم بأنّه إمام مُفترَض الطاعة فلا أقل أنّه قائدهم وزعيمهم وأميرهم الذي بايعوه.

• الرسالة الخامسة:

كتب معاوية إلى الإمامعليه‌السلام في الهدنة والصلح وأنفذ إليه كتب أصحابه

١٣٦

الذين ضمنوا له الفتك به وتسليمه إلى معاوية، واشترط على نفسه عند استجابته إلى الصلح شروطاً كثيرة وعقد له عقوداً.

• فكتب إليه الإمام الحسنعليه‌السلام بعدما سيأتي من الحوادث في ظروف الرسالة:

«أمّا بعد فإنّ خطبي انتهى إلى اليأس من حقّ أحييه وباطل أميته، وخطبك خطب مَن انتهى إلى مراده، وإنّني اعتزل هذا الأمر، ولي شروط اشترطها لا تبهظك إن وفيت لي بها بعهد، ولا تخف إن غدرت، وستندم يا معاوية كما ندم غيرك ممّن نهض في الباطل، أو قعد عن الحقّ حين لم ينفع الندم، والسلام »(47) .

• ظروف الرسالة:

ذكر الشيخ الصدوق في العلل: دسّ معاوية إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجر بن الحارث وشبث بن ربعي دسيساً، أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه، إنّك إن قتلتَ الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي، فبلغ الحسنعليه‌السلام فاستلأم ولبس درعاً وكفرها(48) ، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلاّ كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يلبث فيه، لما عليه من اللأمة، ثم لمّا صار الإمامعليه‌السلام في مظلم ساباط ضرب الإمامعليه‌السلام بخنجر أو معول مسموم فعمل فيه(49) .

فقال الحسنعليه‌السلام : «ويلكم والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظن أنّي إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّي أقدر أن أعبد الله عزّ وجل وحدي، ولكنّي كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم، يستسقونهم ويستطعمونهم، بما جعله الله لهم

١٣٧

فلا يسقون ولا يطعمون، فبعداً وسحقاً لما كسبت أيديهم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون »(50) .

• معطيات الرسالة:

الأوّل: إنّ طلب الإمامعليه‌السلام للخلافة الظاهرية أعني السلطة الزمنية لم يكن هو الهدف والغاية التي يطمح لها، بل كان طلبه لها ما هو أسمى من ذلك بكثير، فإنّ الهدف الأساس للإمامعليه‌السلام إنّما هو إحياء الحق وإماتة الباطل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، أمّا وقد بلغ الأمر إلى أن يسلم الإمامعليه‌السلام أسيراً إلى معاوية فيقتله أو يطلقه فتكون سبّة على بني هاشم إلى أبد الدهر، أو يقتل غيلة بدون أي فائدة تجنى من وراء ذلك، فالصلح مع معاوية خير وأولى، حفاظاً على نفسه وإبقاء على أهل بيته والخلّص من شيعته، مع الشروط التي ستقيّد معاوية إن هو عمل بها، أو يبقى عار التخلّف عنها صورة ماثلة أمام الأجيال تحكي ما انطوت عليه سريرته من حب المُلك والسلطان بأي طريق أتى ومن أي مسلك حصل.

الثاني: قدّم الإمامعليه‌السلام استعداده للتنازل لمعاوية بالأمر، وإنّه شرّ لمعاوية في معاده، فإنّه جاء إلى الأمر بغير طريقه المشروع وأخذه من أهله بالمكر والخديعة والقهر والغلَبَة.

فلا يعني تنازل الإمامعليه‌السلام عن الخلافة الظاهرية إعطاء الشريعة لمعاوية.

الثالث: إنّ معاوية سوف يندم على سيّئ صنيعه كما ندم غيره ممّن نهض في الباطل أو قعد عن الحق حيث لم ينفع الندم.

وقد علّق الشيخ الصدوقرحمه‌الله على هذه النقطة من كلام الإمامعليه‌السلام بقوله: « فإن قال قائل: مَن هو النادم القاعد؟ قلنا: هو الزبير، ذكره أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ما أيقن بخطأ ما أتاه، وباطل ما قضاه وبتأويل ما عزاه، فرجع

١٣٨

عنه القهقرى، ولو وفى بما كان في بيعته لمحا نكثه، ولكنّه أبان ظاهراً الندم، والسريرة إلى عالمها.

والنادم القاعد عبد الله بن عمر بن الخطاب، فانّ أصحاب الأثر رووا في فضائله بأنّه قال: مهما آسى من شيء فإنّي لا آسى على شيء أسفي على أنّي لم أقاتل الفئة الباغية مع علي. وهذه عائشة روى الرواة أنّها لما أنّبها مؤنّب في ما أتته، قالت:

« قضي القضاء وجفّت الأقلام.

والله لو كان لي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرون ذكراً مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فثكلتهم بموت وقتل، كان أيسر عليّ من خروجي على ( علي ) ومسعاي التي سعيت فإلى الله شكواي لا إلى غيره ».

وهذا سعد بن أبي وقاص لما أنهي إليه أن علياًعليه‌السلام قتل ذا الثدية، أخذه ما قدم وما أخر، وقلق ونزق وقال: والله لو علمتُ أنّ ذلك كذلك لمشيت إليه ولو حبوا(51) .

هذه آخر الرسائل قبل كتاب الصلح، فيما وجدته بين يدي من مصادر.

• المعطيات الرئيسة للرسائل:

الأوّل: تركيز الإمامعليه‌السلام على شرعية خلافته دون معاوية، وانّه هو الأحقّ بتولّي زعامة المسلمين لما يتمتع به من صفات جسدية ونفسية، ظاهرية ومعنوية، ذاتية ونسبية، مضافاً إلى النص عليه من قِبَل صاحب الرسالة الخاتمة، الذي هو المدار في عملية الاستخلاف الشرعي.

وأمّا معاوية فهو طالب مُلك وسلطان يتمتّع به قليلاً ثم ما يبرح حتى يسأل عن ما اقترفته يداه، وانّ الخلافة محرّمة عليه وعلى أهل بيته بنصّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٣٩

الثاني: إنّ المجتمع الكوفي ولا سيما الجيش المفترض أن يكون هو المعتمد في القيادة وتثبيت أركان الدولة والمحافظة على أمن واستقرار البلاد، لم يكن جيشاً مؤهّلاً لهذه المهام، كما أنّه لم يكن مؤهّلاً للدخول في حرب مع معاوية وأهل الشام المجتمعين على باطلهم - على حدّ تعبير الإمام عليعليه‌السلام -، فإنّه جيش مذبذب قد تنازعته الأهواء وعصفت به رياح الفتن وتناوشته الإشاعات من مكان قريب، ففيه الخوارج الطالبون ثأراً من معاوية، فهم ينتظرون راية تظلهم ينطوون تحت لوائها لإنجاز مهمتهم، ولا يهمّهم - بعد ذلك - الانقلاب على قائدهم بعد ذلك، لا سيما وأن قائدهم هو الإمام الحسنعليه‌السلام بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قاتل آبائهم وإخوانهم وأصحاب الرأي عندهم، وفيه رؤساء القبائل والقادة الذي غرتهم الدنيا بزخارفها فكتبوا إلى معاوية ما كتبوا في شأن الإمام الحسنعليه‌السلام ، وفيه أعين بني اُميّة الذين انبثّوا داخل معسكر الكوفة ليثيروا الإشاعات ويثبّطوا العزائم ويضعّفوا الهمم، وفيه عامّة الناس وغوغاؤهم الذين لم يؤمنوا بالإمام الحسنعليه‌السلام كإمام مفترَض الطاعة، وقد سئموا الحرب وملّوها، فلم تعد عندهم طاقة عليها كما لا صبر لهم على الجهاد، فلم يبق مع الإمامعليه‌السلام ممّن يعرف حقّه إلاّ أفراد قلائل.

وقد حاول الإمامعليه‌السلام بشدّته في رسالته، وصلابته في موقفه، وتوبيخه لهم وخطبه فيهم، أن يرفع من معنوياتهم، وينفخ في نفوسهم العزيمة من جديد، ويضخ في عروقهم الدم الحر، ويبث في قلوبهم الحماس والإقدام، إلاّ انّهم لم يعطوه النصف من أنفسهم فلم يجد لكلامه آذاناً صاغية ولا قلوباً واعية تعي عواقب الاُمور، وتدرك مغبّة الوهن والضعف، فباؤوا بغضب من الله وخسران مبين، وانتهت حالهم إلى أن صاروا أذلاّء تحت سيطرة بني اُميّة يسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وقد صدقت نبوءة الإمامعليه‌السلام في خطبته فيهم.

١٤٠

النَّخْل ) (١) وإنّما أراد على جذوعها، وقال الشاعر:

وافتحي الباب وانظري في النجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

جواب آخر عن الشبهة

وربّما يجاب عن الإشكال: أنّه من قبيل المعاريض في الكلام، والمعاريض: عبارة عن أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده، فلعلّه نظر في النجوم نظر الموحّد في صنعه تعالى، الذي يستدل به على خالقه وصفاته، ولكنّ القوم حسبوا أنّه ينظر إليها نظر المنجّم فيها ليستدل بها على الحوادث، فقال:( إنّي سقيم ) (٢) .

ولا يخفى أنّ الجواب مبني على أنّه لم يكن سقيماً آنذاك، وهو بعد غير ثابت، على أنّ المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.

وبذلك يعلم قيمة ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن من طرق كثيرة عن أبي هريرة: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لم يكذب إبراهيمعليه‌السلام غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله: قوله:( إنّي سقيم ) وقوله:( بل فعله كبيرهم هذا ) وقوله في سارة:( هي أُختي ) (٣) .

وقد عرفت أنّ إبراهيم لم يكذب في الأُوليين، وأمّا الثالثة فهي مرويّة في التوراة المحرّفة، فهل يمكن بعد هذا، الاعتماد على الرواية ؟!

والعجب أنّ ابن كثير صار بصدد تصحيح الرواية، وقال: ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلاّ، وإنّما أُطلق الكذب على هذا

____________________

١ - طه: ٧١.

٢ - تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ٤/١٣.

٣ - تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ٤/١٣.

١٤١

تجوّزاً، وإنّما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث ( إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب )(١) .

ونحن لا نعلّق على الحديث ولا على التوجيه الذي ارتكبه ابن كثير شيئاً وإنّما نحيل القضاء فيه إلى وجدان القارئ الكريم، وكفى في سقم الحديث أنّه من مرويات أبي هريرة، كما يكفي في كذب الحديث أنّه من الإسرائيليات التي وردت في التوراة المحرّفة.

والعجب أنّ رواة هذا الحديث يزرون على الشيعة في قولهم بالتقية، بأنّها مستلزمة للكذب مع أنّ التقيّة من المعاريض التي جوّزها القرآن والسنّة في شرائط خاصة لأشخاص معيّنين.

هذه هي الآيات التي استدلّت المخطّئة بها على عدم عصمة بطل التوحيد، وقد عرفت مفادها، وهناك آيات أُخر آيات نزلت في حقّه، ربّما وقعت ذريعة لهؤلاء المخطّئة، وبما أنّها واضحة المضمون لا نرى حاجة إلى البحث عنها، وكفانا في هذا المضمار ما ذكره السيد المرتضى في ( تنزيهه ) فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليه.

كما أنّهم استدلّوا بآيات نزلت في حق يعقوب لتخطئته، وبما أنّ الشبهات ضعيفة تركنا البحث عنها، وعطفنا عنان القلم إلى بعض ما استدلت به المخطّئة في هذا المضمار في حق صدّيق عصره ونزيه دهره سيّدنا يوسف عليه وعلى نبيّنا وآله الصلاة والسلام.

____________________

١ - تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ٤/١٣.

١٤٢

- ٤ -

عصمة يوسفعليه‌السلام وقول الله:( وهمّ بها )

يوسف الصدّيق هو الأُسوة

إنّ فيما ورد في سورة يوسف من الآيات، لأجلى دليل على أنّه الإنسان المثالي الذي لا يعدّ له مثال، كيف ؟ وقد دلّت الآيات على أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته وصباه، وعلّمه من تأويل الأحاديث، وأتمّ نعمته عليه، وقد قام القرآن بسرد قصته وأسماها بأحسن القصص، ففيها براهين واضحة على طهارته ونزاهته وعصمته من الذنوب، وصيانته من المعاصي، وتفانيه في مرضاة الله، كيف ؟ وقد ابتلاه الله سبحانه بلاءً حسناً، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات والمحرّمات، وناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلاّ مَن عصمه الله سبحانه، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه، وتجلّت به حقيقته، وبان أنّه الإنسان الذي حاق به الخوف من الله سبحانه، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين ولا يبدل رضاه بشيء.

كيف ؟ ومَن طالع القصة يقف على أنّ نجاة يوسف من مخالب الشهوة وخدعة امرأة العزيز لم تكن إلاّ أمراً خارقاً للعادة، ولولا عصمته لما كانت النجاة ممكنة، بل كانت أمراً أشبه بالرؤيا منه باليقظة.

١٤٣

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائي:

فقد كان يوسف رجلاً، ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء، وكان شاباً، بالغاً أشدّه، وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الألباب، والجمال والملاحة يدعوان إلى الهوى ؟ هذا من جانب، ومن جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة وهنيء العيش، محبوراً بمثوى كريم، وذلك من أقوى أسباب التهوّس، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك والعظماء، وكانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب، وهي عزيزة مصر - ومع ذلك - عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه، وكانت لها سوابق الإكرام والإحسان والإنعام ليوسف، وذلك كلّه ممّا يقطع اللسان ويصمت الإنسان وقد تعرّضت له، ودعته إلى نفسها، والصبر مع التعرّض أصعب، وقد راودته هذه الفتّانة وأتت بما في مقدرتها من الغنج والدلال، وقد ألّ-حت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدّت قميصه، والصبر معه أصعب وأشق، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها، وهي رتبة خصّها بها العزيز، وكان في قصر زاهٍ من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنيء.

وكانا في خلوة، وقد غلّقت الأبواب وأرخت الستور، وكان لا يأمن من الشر مع الامتناع، وكان في أمن من ظهور الأمر وانتهاك الستر؛ لأنّها كانت عزيزة، بيدها أسباب الستر والتعمية، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هنيء طويل، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسّل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزّة والمال.

فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجّهت إلى جبل لهدّته، أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها، ولم يكن هناك ممّا يتوهّم مانعاً إلاّ الخوف من ظهور الأمر، أو

١٤٤

مناعة نسب يوسف، أو قبح الخيانة للعزيز، ولكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل.

أمّا الخوف من ظهور الأمر فقد مرّ أنّه كان في أَمن منه، ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله تأويلاً كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاءً، فلم يؤاخذها بشيء، وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن.

وأمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّا هو أعظم من الزنا وأشد إثماً، فإنّهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف، فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله ويلقوه في غيابت الجب، ويبيعوه من السيّارة بيع العبيد، ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي، فبكى حتى ابيضّت عيناه.

وأمّا قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية، والقوانين الاجتماعية إنّما تؤثّر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة؛ وذلك إنّما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوّة المجرية والحكومة العادلة، وأمّا لو أغفلت القوّة المجرية، أو فسقت فأهملت، أو خفي الجرم عن نظرها، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين.

فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه، إلاّ أصل التوحيد وهو الإيمان بالله.

وإن شئت قلت: المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع أصبع(١) .

_____________________

١ - الميزان: ١١/١٣٧ - ١٣٩.

١٤٥

هذا هو واقع الأمر غير أنّ بعض المخطّئة لم يرتض ليوسف هذه المكارم والفضائل، واستدل على عدم عصمته بما ورد في سورة يوسف في حق العزيزة ومَن هو في بيتها، قال سبحانه:( وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبوابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مثوايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بِرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ) (١)

ومحل الاستدلال: قوله( وهمَّ بها ) أي همّ بالمخالطة، وأنّ همّه بها كان كهمّها به، ولولا أن رأى برهان ربّه لفعل، وقد صانته عن ارتكاب الجريمة - بعد الهمّ بها - رؤية البرهان.

وبعبارة أُخرى: إنّ المخطّئة جعلت كلاًّ من المعطوف والمعطوف عليه( ولقد همّت به - وهمّ بها ) كلاماً مستقلاً غير مقيّد بشيء، وكأنّه قال:

ولقد همّت به: أي بلا شرط وقيد.

وهمّ بها: أي جزماً وحتماً.

ثم بعد ذلك - أي بعد الإخبار عن تحقّق الهم من الطرفين - استدرك بأنّ العزيزة بقيت على همّها وعزمها إلى أن عجزت، وأمّا يوسف فقد انصرف عن الاقتراف لأجل رؤية برهان ربّه، ولأجل ذلك قال:

( لولا أن رأى برهان ربّه ) أي ولولا الرؤية لاقترف وفعل وارتكب، لكنّه رأى فلم يقترف ولم يرتكب، فجواب لولا محذوف وتقديره ( لاقترف ).

ثم إنّ المخطّئة استعانوا في تفسير الآية بما ذكروه من الإسرائيليات التي لا

_____________________

١ - يوسف: ٢٣ - ٢٤.

١٤٦

يصح أن تنقل، وإنّما ننقل خبراً واحداً ليكون القارئ على اطلاع عليها: قالوا: جلس يوسف منها مجلس الخائن، وأدركه برهان ربّه ونجّاه من الهلكة، ثم إنّهم نسجوا هناك أفكاراً خيالية في تفسير هذا البرهان المرئي؛ فقالوا: إنّ طائراً وقع على كتفه، فقال في أُذنه: لا تفعل، فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء؛ وقيل: إنّه رأى يعقوب عاضّاً على إصبعه، وقال: يا يوسف أما تراني ؟ إلى غير ذلك من الأوهام التي يخجل القلم من نقلها.

غير أنّ رفع الستر عن مرمى الآية يتوقّف على البحث عن أُمور:

١- ما هو معنى ( الهم ) في قوله:( ولقد همّت به وهمّ بها ) .

٢- ما هو جواب( لولا أن رأى برهان ربّه ) وهذا هو العمدة في تفسير الآية.

٣- ما هو معنى البرهان ؟

٤- دلالة الآية على عصمة يوسف، وإليك تفسيرها واحداً تلو الآخر.

١- ما معنى الهم ؟

لقد فسّره ابن منظور في لسانه بقوله: همّ بالشيء يهم همّاً: نواه وأراده وعزم عليه، قال سبحانه:( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (١) .

روى أهل السير: أنّ طائفة من المنافقين عزموا على أن يغتالوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العودة من تبوك، ولأجل ذلك وقفوا على طريقه، فلمّا قربوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بتنحيتهم، وسمّاهم رجلاً رجلاً(٢) .

_____________________

١ - التوبة: ٧٤.

٢ - مجمع البيان: ٣/٥١ وغيره.

١٤٧

هذا هو معنى الهم، وتؤيّده سائر الآيات الوارد فيها لفظ الهم، ولو استعمل في مورد في خطور الشيء بالبال، وإن لم يقع العزم عليه، فهو استعمال نادر لا يحمل عليه صريح الكتاب.

أضف إلى ذلك أنّ الهمّين في الموردين بمعنى واحد، وبما أنّ همّ العزيزة كان بنحو العزم والإرادة، وجب حمل الهمّ في جانب يوسف عليه أيضاً لا على خطور الشيء بالبال؛ لأنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعنى بلا قرينة، ولكن تحقّق أحد الهمّين دون الآخر، لأنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم رؤية برهان ربّه، وبما أنّ العدم انقلب إلى الوجود، ورأي البرهان لم يتحقق هذا الهم من الأساس - كما سيوافيك - نعم لا ننكر أنّ الهم قد يستعمل بالقرينة في مقابل العزم، قال كعب بن زهير:

فكم فهموا من سيّد متوسع

ومن فاعلٍ للخير إن همّ أو عزم

ولكن التقابل بين الهم والعزم أوجب حمل الهم على الخطور بالبال، ولولاه لحمل على نفس العزم.

كما ربّما يستعمل في معنى المقاربة فيقولون: همّ بكذا وكذا، أي كاد يفعله، وعلى كل تقدير فالمعنى اللائح من الهم في الآية هو العزم والإرادة.

٢ - ما هو جواب لولا ؟

لا شك أنّ ( لولا ) في قوله سبحانه:( لولا أنْ رأى بُرهَانَ رَبّه ) ابتدائية فلا تدخل إلاّ على المبتدأ مثل ( لوما ) قال ابن مالك:

لولا ولوما يلزمان الابتدا

إذ امتناعاً بوجود عقدا

١٤٨

وممّا لا شك فيه أنّ ( لولا ) الابتدائية تحتاج إلى جواب، ويكون الجواب مذكوراً غالباً مثل قول القائل:

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لولا رجاؤك قد قتّلت أولادي

وقد تواترت الروايات عن الخليفة عمر بن الخطاب أنّه قال في مواضع خطيرة: ( لولا علي لهلك عمر ).

وربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق، كقوله سبحانه:( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) (١) ، أي ولولا فضل الله ورحمته عليكم لهلكتم، وربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدّمة عليه كقوله: ( قد كنت هلكت لولا أن تداركتك )، وقوله: ( وقتلت لولا أنّي قد خلصتك )، والمعنى لولا تداركي لهلكت، ولولا تخليصي لقُتلت، ومثل لولا سائر الحروف الشرطية قال الشاعر:

فلا يدعني قومي صريعاً لحرّة

لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر

وقال الآخر:

فلا يدعني قومي ليوم كريهة

لئن لم أعجل طعنة أو أعجل

فحذف جواب الشرط في البيتين لأجل الجملة المتقدّمة.

وبالجملة: لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة، وجواب ( لولا ) خاصة، يكون محذوفاً، إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدّم عليه والمقام من

_____________________

١ - النور: ١٠.

١٤٩

قبيل الثاني، فقوله سبحانه:( ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ) يؤوّل إلى جملتين: إحداهما مطلقة، والأخرى مشروطة.

أمّا المطلقة فهي قوله:( ولقد همّت به ) ، وهو يدل على تحقّق ( الهم ) من عزيزة مصر بلا تردد.

أمّا المقيدة فهي قوله:( وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ) وتقديره: ( لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها ) فيدل على عدم تحقّق الهم منه لمّا رأى برهان ربّه، وأمّا الجملة المتقدّمة على ( لولا ) أعني قوله( وهمّ بها ) فلا تدل على تحقّق الهم؛ لأنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها، حتى تدل على تحقّق الهمّ، وإنّما هي قائمة مكان الجواب، فتكون مشروطة ومعلّقة مثله، وسيوافيك تفصيله عن قريب.

٣ - ما هو البرهان ؟

البرهان هو الحجّة ويراد به السبب المفيد لليقين، قال سبحانه:( فَذَانِكَ بُرْهَانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلائِه ) (١) ، وقال تعالى:( يَا أَيُّها النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢) وقال سبحانه:( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (٣) هو الحجّة اليقينية التي تجلّي الحق ولا تدع ريباً لمرتاب، وعلى ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسفعليه‌السلام ؟

والذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يجر النفس الإنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية ،

_____________________

١ - القصص: ٣٢.

٢ - النساء: ١٧٤.

٣ - النمل: ٦٤.

١٥٠

وانقياد لا تصاحبه مخالفة، وقد أوضحنا عند البحث عن العصمة أنّ إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالفة علماً لا يغلب، وانكشافاً لا يقهر، وهذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّا اقترحت عليه امرأة العزيز.

ويمكن أن يكون المراد منه سائر الأمور التي تفيض العصمة على العباد التي أوضحنا حالها في الجزء الماضي(١) .

٤ - دلالة الآية على عصمة يوسفعليه‌السلام

إنّ الآية على رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل على عصمة يوسفعليه‌السلام قبل أن تدلّ على خلافها.

توضيحه: أنّه سبحانه بيّ-ن همّ العزيزة على وجه الإطلاق وقال:( وهمّت به ) ، وبيّ-ن همّ يوسف بنحو الاشتراط وقال:( وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ) ، فالقضية الشرطية لا تدل على وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة ( لولا ) الدالة على عدم وقوعهما.

فإن قلت: إنّ كلاًّ من الهمّين مطلق حتى الهم الوارد في حق يوسف وإنّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدّم جواب لولا الامتناعية عليها، وهو غير جائز بالاتفاق، وعليه فيكون قوله:( وهمّ بها ) مطلقاً إذ ليس جواباً لكلمة ( لولا ).

قلت: إنّ جواب ( لولا ) محذوف وتقديره ( لهمّ بها ) وليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتى يقال: إنّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق، ومع ذلك فليست تلك الجملة مطلقة، بل هي أيضاً مقيّدة بما قيد به الجواب؛ لأنّه إذا كان الجواب مقيداً

_____________________

١ - مفاهيم القرآن: ٤ / ٣٨٥ - ٣٩٢.

١٥١

فالجملة القائمة مكانه تكون مثله، وله نظير في الكتاب العزيز مثل قوله:( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (١) والمعنى أنّه سبحانه ثبّت نبيّه فلم يتحقّق منه الركون ولا الاقتراب منه.

وقال سبحانه:( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيءٍ ) (٢) والمعنى أنّ تفضّله سبحانه على نبيّه صار سبباً لعدم همّ الطائفة على إضلاله.

والآية مثل الآيتين غير أنّ الجواب فيها محذوف لدلالة الجملة المتقدّمة عليه بخلافهما.

وحاصل الكلام: أنّه في مورد الآية ونظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه، غير أنّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية صالحة لتحقّق الجزاء، وإن لم يتحقّق لانتفاء الشرط، وفي مورد الآية، أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزّه بالقوى الشهوية، وغيرها من قوى النفس الأمّارة، وكانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء، ولكن صارت خائبة غير مؤثّرة لأجل رؤية برهان ربّه، والشهود اليقيني الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية والهم بها.

وإن شئت قلت: منعته المحبّة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه، فلم تترك لغيرها موضع قدم، فطرد ما كان يضاد تلك المحبّة.

وهذا هو مفاد الآية ولا يشك فيه مَن لاحظ المقدّمات الأربع التي قدّمناها.

وعلى ذلك فبما أنّ ( اللام ) في قوله:( ولقد همّت به ) للقسم يكون معنى

_____________________

١ - الإسراء: ٧٤.

٢ - النساء: ١١٣.

١٥٢

قوله:( وهمّ بها ) بحكم عطفه عليه والمعنى: والله لقد همّت امرأة العزيز به، و والله لولا أن رأى يوسف برهان ربّه لهمّ بها، ولكنّه لأجل رؤية البرهان واعتصامه، صرف عنه سبحانه السوء والفحشاء، فإذا بهعليه‌السلام لم يهم بشيء ولم يفعل شيئاً، لأجل تلك الرؤية.

أسئلة وأجوبة

ولأجل رفع الغطاء عن وجه الحقيقة على الوجه الأكمل تجب الإجابة عن عدّة من الأسئلة التي تُثار حول الآية، وإليك بيانها وأجوبتها:

السؤال الأوّل:

إنّ تفسير الهمّ الوارد في الآية في كلا الجانبين بالعزم على المعصية، تكرار لما جاء في الآية المتقدّمة بصورة واضحة وهي قوله:( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك ) ومع هذا البيان الواضح لا وجه لتكراره ثانياً بقوله:( ولقد همّت به وهمّ بها ) خصوصاً في همّها به إذ ورد في الآية المتقدّمة بصورة واضحة أعني قوله:( هيت لك ) .

والجواب: إنّ الدافع إلى التكرار ليس هو لإفادة نفسه مرة ثانية، بل الدافع هو بيان كيفية نجاة يوسف من هذه الغائلة، ولأجل ذلك عاد إلى نفس الموضوع مجدّداً ليذكر مصير القصة ونهايتها، وهذا نظير ما إذا حدّث أحد عن تنازع شخصين وإضرار أحدهما بالآخر واستعداده للدفاع عن نفسه، فإذا أفاد ذلك ثم أراد أن يشير إلى نتيجة ذلك العراك يعود ثانيةً إلى بيان أصل التنازع حتى يبيّن مصيره ونهايته، والآيتان من هذا القبيل.

١٥٣

وبذلك يظهر أنّ ما أفاده صاحب المنار في هذا المقام غير سديد حيث قال: إنّه قد علم من القصّة أنّ هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلباً جازماً مصرّة عليه ليس عندها أدنى تردّد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضى له، فإذاً لا يصح أن يقال: إنّها همّت به مطلقاً إذ الهم مقاربة الفعل المتردّد فيه(١) .

أقول: قد عرفت دافع التكرار فلا نعيده، بقي الكلام فيما أفاده في تفسير الهم بأنّه عبارة ( عن مقاربة الفعل المتردّد فيه ) ولا يخفى أنّه لا يصح في قوله سبحانه:( وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ) (٢) ، أي إخراج الرسول من مكّة، فهم كانوا جازمين بذلك، وقد تآمروا عليه في ليلة خاصة معروفة في السيرة والتاريخ، كما لا يصح في قوله سبحانه:( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (٣) ، حيث حاول المنافقون أن ينفروا بعير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة في منصرفه من غزوة تبوك.

السؤال الثاني:

إنّ تفسير البرهان بالعصمة لا يتناسب مع سائر استعمالاته في القرآن، مثلاً البرهان في قوله سبحانه:( فَذانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ) (٤) عبارة عن معاجز موسى من العصا واليد البيضاء، وعلى ذلك فيجب أن يفسّر البرهان بشيء ينطبق على الإعجاز لا العصمة التي هي من مقولة العلم.

والجواب: إنّ البرهان بمعنى الحجّة وهي تنطبق تارة على المعجزة وأُخرى على العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يصون الإنسان عن اقتراف المعاصي ،

_____________________

١ - تفسير المنار: ١٢/٢٨٦.

٢ - التوبة: ١٣.

٣ - التوبة: ٧٤.

٤ - القصص: ٣٢.

١٥٤

وقد سبق منّا في الجزء الرابع(١) أنّ العصمة لا تسلب القدرة، فهي حجّة للنبي في آجله وعاجله ودليل في حياته إلى سعادته.

السؤال الثالث:

إنّ قوله سبحانه:( كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشَاءَ ) ظاهر في أنّ( السوء ) غير ( الفحشاء ) فلو فسّر قوله:( ولقد همّت به وهمّ بها ) بالعزم على المعصية يلزم كونهما بمعنى واحد وهو خلاف الظاهر.

والجواب: إنّ المراد من( السوء ) هو الهم والعزم، والمراد من( الفحشاء ) هو نفس العمل، فالله سبحانه صرف ببركة العصمة - نفس الهم ونفس الاقتراف - كلا الأمرين.

قال العلاّمة الطباطبائي: الأنسب أنّ المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها، كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا، ثم قال: ومن لطيف الإشارة ما في قوله:( لِنَصرف عنه السوء والفحشاء ) حيث جعل السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفاً عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافه لهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، وهو ينافي شهادته تعالى بأنّه من عباده المخلصين، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركهم فيه شيء، ولا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أيّ داع من دون الله سبحانه.

ثم قال: وقوله:( انّه من عبادنا المخلصين ) في مقام التعليل لقوله:( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) ، والمعنى عاملنا يوسف كذلك؛ لأنّه من عبادنا المخلصين، ويظهر من الآية أنّ من شأن المخلصين أن يروا برهان ربّهم

____________________-

١ - راجع الجزء الرابع: ٤٠١ - ٤٠٥.

١٥٥

وإنّ الله سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصيته ولا يهمّون بها بما يريهم الله من برهانه، وهذه هي العصمة الإلهيّة(١) .

السؤال الرابع:

لو كان المراد من( برهان ربّه ) هو العصمة، فلماذا قال سبحانه:( رأى برهانه ربّه ) ، فإنّ هذه الكلمة تناسب الأشياء المحسوسة كالمعاجز والكرامات لا العصمة التي هي علم قاهر لا يغلب ويصون صاحبه عن اقتراف المعاصي.

أقول: إنّ الرؤية كما تستعمل في الرؤية الحسّيّة والرؤية بالأبصار، تستعمل أيضاً في الإدراك القلبي والرؤية بعين الفؤاد قال سبحانه:( مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأَى ) (٢) ، وقوله سبحانه:( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَآهُ حَسَناً ) (٣) وقوله سبحانه:( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنْا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرينَ ) (٤) ، وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح بأنّ الرؤية تستعمل في الإدراك القلبي والاستشعار الباطني.

وعلى ذلك فيوسف الصديق لمّا وقع مقابل ذلك المشهد المغري، الذي يسلب اللب والعقل عن البشر، كان المتوقّع بحكم كونه بشراً، الميل إلى المخالطة معها والعزم على الإتيان بالمعصية، ولكنّه لمّا أدرك بالعلم القاطع أثر تلك المعصية صانه ذلك عن أي عزم وهمّ بالمخالطة.

هذا هو المعنى المختار في الآية، وبذلك تظهر نزاهة يوسف عن أي هم

_____________________

١ - الميزان: ١١/١٤٢.

٢ - النجم: ١١.

٣ - فاطر: ٨.

٤ - الأعراف: ١٤٩.

١٥٦

وعزم على المخالطة.

وهناك تفسير آخر للآية يتفق مع المعنى المختار في تنزيه يوسف عن كل ما لا يناسب ساحة النبوّة، غير أنّه من حيث الانطباق على ظاهر الآية يُعدّ في الدرجة الثانية، وهذا المعنى هو الذي اختاره صاحب ( المنار ) وطلاه بعض المعاصرين وزوّقه، وسيوافيك بيان صاحب المنار وما جاء به ذلك المعاصر في البحث التالي:

المعنى الثاني للآية

إنّ المراد من الهم في كلا الموردين هو العزم على الضرب والقتل مثل قوله سبحانه:( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (١) حيث قصد المشركون اغتيال النبي عند منصرفه من تبوك، فيكون المعنى أنّ امرأة العزيز همّت بضربه وجرحه وبطبيعة الحال لم يكن أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه، غير أنّه رأى أنّ ذلك ربّما ينجرّ إلى جرح امرأة العزيز ويكون ذلك ذريعة بيدها لاتّ-ه-ام يوسف وبهته، فقد أدرك هذا المعنى ولم يهم بها وسبقها إلى الباب ليتخلّص منها، وعلى ذلك فيكون معنى الهم في كلا الموردين هو المضاربة لكنّه من جانب العزيزة بدافع ومن جانب يوسف بدافع آخر.

وهذا التوجيه يتناسب مع حالة العاشق الواله عندما يخفق في نيل ما يصبو إليه ويتوق إلى تحصيله، فإنّه في مثل هذا الموقف تحدث له حالة باطنية تدفعه إلى الانتقام من معشوقه الذي لم يسايره في مطلبه ولم يحقّق له غرضه، وقد حدث مثل هذا لامرأة العزيز، فإنّها عندما أخفقت في نيل ما تريد من يوسف، دفعها الشعور بالهزيمة والإخفاق إلى الانتقام من يوسف وهذا هو معنى قوله:( ولقد همّت به )

_____________________

١ - التوبة: ٧٤.

١٥٧

على الإطلاق وبلا تقييد.

ولم يكن في هذه الحالة أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه، ولكنّه لمّا استشعر بأنّ ضرب العزيزة سوف يتخذ ذريعة لبهته واتهامه، اعتصم عن ضربها والهمّ بها، وهذا معنى قوله:( وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ) .

وهذا المعنى هو المختار لبعض أهل التفسير، واختاره صاحب المنار، وسعى في تقويته بقوله: تالله لقد همّت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها وهي في نظرها سيّدته وهو عبدها وقد أذلّت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة، ولكن هذا العبد العبراني قد عكس القضية وخرق نظام الطبيعة فأخرج المرأة من طبع أُنوثتها في دلالها وتمنّعها وهبط بالسيدة المالكة من عزّ سيادتها وسلطانها؛ وعندئذ همّت بالبطش به في ثورة غضبها وهو انتقام معهود من مثلها وممّن دونها في كل زمان ومكان(١) .

ثمّ إنّ بعض المعاصرين اختار المعنى المذكور غير أنّه فسّر( برهان ربّه ) بغير الوجه المذكور في هذا الرأي، بل فسّره بانفتاح الباب بإرادة الله سبحانه حيث إنّ امرأة العزيز كانت قد غلّقت الأبواب وأحكمت سدّها، وعندما وقع هذا الشجار بينها وبين يوسف، سبق يوسف إلى الباب فراراً منها وانفتح الباب له بإرادة الله سبحانه، وهذا هو برهان الرب الذي رآه، ويدل على ذلك أنّ القرآن يصرّح بغلق الأبواب ولا يأتي عن انفتاح الباب بأي ذكر، وهذا يدل على أنّ المراد من( برهان ربّه ) هو فتح الباب من عند الله سبحانه في وجه يوسف كرامة له.

ولا يخفى ضعف هذا التفسير؛ وذلك لأنّه لو كان المراد من البرهان هو

____________________

١ - تفسير المنار: ١٢/٢٧٨.

١٥٨

انفتاح الباب لزم ذكره عند قوله أو قبله( واستبقا الباب ) لا في الآية المتقدّمة عليه ويظهر ذلك بملاحظتهما حيث قال:

( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (١) .

( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ) (٢) .

ترى أنّه يذكر همّه بها ورؤية البرهان في آية، ثمّ يذكر استباقهما إلى الباب في آية أُخرى، مع الفصل بينهما بذكر أُمور منها( إنّه كان من المخلصين ) ، فلو كان المراد من ( رؤية البرهان ) هو انفتاح الباب كان المناسب ذكر الاستباق قبلها.

على أنّ الظاهر من قوله ( وغلّقت الأبواب ) هو سدّ الأبواب لا إقفالها بمعنى وضع قفل عليها يمتنع معه فتحها بيسر، وإنّما لم تقفلها لأنّها لم تكن تتوقّع من يوسف أن لا يستجيب لها ويعصي أمرها.

المعنى الثالث للآية

إنّ الهمّ من جانب يوسف هو خطور الشيء بالبال وإن لم يقع العزم عليه، وربّما يستعمل الهم في ذلك، قال كعب بن زهير:

فكم فهموا من سيّدٍ متوسّعٍ

ومن فاعلٍ للخير إن همّ أو عزم

ولا يخفى أنّ هذا التفسير عليل؛ لأنّ الظاهر من الهمّ في كلا الموردين واحد ولم يكن الهمّ من جانب العزيزة إلاّ العزم، والتفكيك بين الهمّين خلاف الظاهر.

وعلى كل تقدير فقصّة يوسف الواردة في القرآن تدل على نزاهته من أوّل

____________________

١ - يوسف: ٢٤.

٢ - يوسف: ٢٥.

١٥٩

الأمر إلى آخره وإنّه لم يتحقّق منه عزم ولا همّ بالمخالطة لا أنّه همّ وعزم وانصرف لعلّة خاصة.

ثم إنّ هناك لأكثر المفسّرين أقوالاً في تفسير الآية أشبه بقصص القصّاصين، وقد أضربنا عن ذكرها صفحاً، فمن أراد فليرجع إلى التفاسير.

وفي مختتم البحث نأتي بشهادة العزيزة بنزاهة يوسف عندما حصحص الحق وبانت الحقيقة وقد نقلها سبحانه بقوله:( قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) (١) وشهدت في موضع آخر على طهارته واعتصام نفسه وقالت:( وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (٢) .

____________________

١ - يوسف: ٥١.

٢ - يوسف: ٣٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321