عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم17%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132323 / تحميل: 8867
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وجب إزالته ، إلّا مع المشقة.

د ـ لو كان في إصبعه خاتم ، أو في يده سير ، أو دملج ، فإن كان يصل الماء تحته استحب تحريكه ، وإن لم يصل إلّا بالتحريك وجب.

هـ ـ لو كان له رأسان وبدنان على حقو واحد وجب غسل أعضائه كلها وإن حكمنا بوحدته ، وكذا لو كان له رأسان وجب غسل وجهيه ومسحهماً.

البحث الرابع : في مسح الرأس

وهو واجب بالنص والإجماع ، ويجزي أقل ما يصدق عليه الاسم للامتثال ، فيخرج عن العهدة ، ولأنّهعليه‌السلام مسح ناصيته(1) .

ويستحب مقدار ثلاث أصابع ، وقال بعض علمائنا : يجب(2) ، وما اخترناه قول الشافعي ، وابن عمر ، وداود(3) .

والثوري حكي عنه أنّه قال : لو مسح شعرة واحدة أجزأ(4) ، وللشافعي قول آخر : ثلاث شعرات(5) .

وعن مالك ثلاث روايات ، إحداها : الجميع ، وهي إحدى الروايتين

__________________

1 ـ صحيح مسلم 1 : 230 / 81 و 231 / 83 ، سنن النسائي 1 : 76 ، سنن البيهقي 1 : 58 ، مسند أحمد 4 : 244 و 5 : 439.

2 ـ الصدوق في الفقيه 1 : 28 ذيل الحديث 88.

3 ـ الاُم 1 : 26 ، مختصر المزني : 2 ، نيل الأوطار 1 : 192 ، السراج الوهاج : 16 ، مغني المحتاج 1 : 53 ، المجموع 1 : 398 ـ 399 ، فتح العزيز 1 : 353 ، الوجيز 1 : 13 ، عمدة القارئ 2 : 235 ، التفسير الكبير 11 : 160 ، أحكام القرآن لابن العربي 2 : 568 ، المغني 1 : 143 ، الشرح الكبير 1 : 167 ، المحلى 2 : 52.

4 ـ المحلى 2 : 52.

5 ـ المجموع 1 : 398 ، فتح العزيز 1 : 354 ، المغني 1 : 143 ، الشرح الكبير 1 : 167 ، الهداية للمرغيناني 1 : 12 ، شرح العناية 1 : 16 ، أحكام القرآن لابن العربي 2 : 568.

١٦١

عن أحمد ، وهو محكي عن المزني لقوله تعالى :( وامسحوا برؤوسكم ) (1) وهو يقتضي مسح الجميع(2) .

الثانية : حكى محمد بن مسلمة ـ صاحبه ـ أنّه قال : إنّ ترك قدر الثلث جاز ، وهي الرواية الثانية لأحمد(3) .

الثالثة : إنّ ترك يسيراً بغير قصد جاز(4) .

وعن أبي حنيفة ثلاث روايات ، الاُولى : الربع ، الثانية : قدر الناصية(5) ، لأنّ أنسا قال : رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدخل يده تحت العمامة ومسح على ناصيته(6) ، وهذا خرج مخرج البيان.

الثالثة : ثلاث أصابع إلى الربع(7) ، وعليه يعولون. والناصية ما بين النزعتين وهي أقل من نصف الربع ، فبطل تحديده.

فرع : لو مسح على جميع الرأس فعل الواجب وزيادة لأنّه تعالى أمر بالبعض ، وإنكار أن الباء للتبعيض مدفوع ، فإن اعتقد مشروعيته أبدع ، ولا

__________________

1 ـ المائدة : 6.

2 ـ عمدة القارئ 2 : 235 ، المغني 1 : 141 و 142 ، الشرح الكبير 1 : 166 ، مقدمات ابن رشد 1 : 51 ، نيل الأوطار 1 : 192 ، المجموع 1 : 399 ، فتح العزيز 1 : 354 ، الإنصاف 1 : 161 ، بداية المجتهد 1 : 12 ، مختصر المزني : 2.

3 ـ المجموع 1 : 399 ، أحكام القرآن لابن العربي 2 : 568 ، القوانين الفقهية : 29 ، مقدمات ابن رشد 1 : 51 ، حلية العلماء 1 : 122.

4 ـ أحكام القرآن لابن العربي 2 : 568 ، عمدة القارئ 2 : 234 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 341.

5 ـ المجموع 1 : 399 ، الهداية للمرغيناني 1 : 12 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 343 ـ 344 ، عمدة القارئ 2 : 235 ، اللباب 1 : 6 ، بدائع الصنائع 1 : 4 ، المبسوط للسرخسي 1 : 63.

6 ـ سنن ابي داود 1 : 37 / 147 ، سنن البيهقي 1 : 61.

6 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 63 ، بدائع الصنائع 1 : 4 ، عمدة القارئ 2 : 235 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 341 ، الهداية للمرغيناني 1 : 12 ، شرح فتح القدير 1 : 16 ، المجموع 1 : 399.

١٦٢

يستحب ، خلافاً للشافعي(1) .

مسألة 47 : ويختص المسح بمقدم الرأس عند علمائنا أجمع ، خلافاً للجمهور(2) ، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح بناصيته(3) في معرض البيان.

وقول الصادقعليه‌السلام : « مسح الرأس على مقدمته »(4) ولأنّه مُخرج عن العهدة بيقين فلا يجزي المسح على غيره ، ولو مسح على المقدم وغيره امتثل ، وفعل حراماً إن اعتقد وجوبه أو مشروعيته.

ولا يجوز المسح على غير المقدم عند علمائنا أجمع ، ومن جوّز مسح البعض من الجمهور يختص المقدم(5) .

والمستحب مقبلاً ، ويجوز مدبراً على كراهة ، لحصول الامتثال بكل منهما ، ولقول الصادقعليه‌السلام : « لا بأس بمسح الوضوء مقبلاً ومدبراً »(6) ومنع بعض علمائنا من الاستقبال كاليدين(7) .

مسألة 48 : ويجب المسح على بشرة المقدم ، أو شعره المختص به ، ولا يجزي على حائل كالعمامة والمقنعة ، ذهب إليه علماؤنا أجمع ، لأنّه

__________________

1 ـ المهذب للشيرازي 1 : 26 ، المجموع 1 : 402 ، مغني المحتاج 1 : 59.

2 ـ الاُم 1 : 26 ، المجموع 1 : 395 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 341 ، شرح العناية 1 : 15 ، المغني 1 : 142 ، الشرح الكبير 1 : 167 ، نيل الأوطار 1 : 192.

3 ـ صحيح مسلم 1 : 230 / 81 و 231 / 83 ، سنن النسائي 1 : 76 ، سنن البيهقي 1 : 58 ، مسند أحمد 4 : 244 و 5 : 439.

4 ـ التهذيب 1 : 62 / 171 ، الاستبصار 1 : 60 / 176.

5 ـ عمدة القارئ 2 : 235 ، نيل الأوطار 1 : 192 ، فتح العزيز 1 : 426.

6 ـ التهذيب 1 : 58 / 161 ، الاستبصار 1 : 57 / 169.

7 ـ ذهب إلى المنع السيد المرتضى في الانتصار : 19 ، والشيخ الطوسي في النهاية : 14 ، والخلاف 1 : 83 مسألة 31 ، وابن حمزة في الوسيلة : 50.

١٦٣

مأمور بالمسح على الرأس ، وهو يصدق على البشرة وشعرها.

وقال بعض الشافعية : إنّ مسح على البشرة يصح إن كان محلوقاً ، وإلّا فلا ، لأنّ الواجب المسح على الشعر ، لأنّ الرأس اسم لما ترأس وعلا ، وهو الشعر(1) ، وليس بشيء.

ومنع الشافعي من المسح على الحائل كالعمامة ، وبه قال مالك ، وأبو حنيفة(2) .

وقال الثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وداود : يجوز. إلا أن أحمد ، والأوزاعي شرطا لبسها على طهارة(3) .

وقال بعض أصحاب أحمد : إنّما يجوز إذا كانت تحت الحنك(4) ، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالمسح على المشاوذ والتساخين(5) ، والمشاوذ : العمائم ، والتساخين : الخفاف. وهو بعد التسليم محمول على الموضع ، ومسح أبي بكر على العمامة(6) ليس بحجة.

فروع :

أ ـ لو عقص شعره النازل عن حدّ الرأس في مقدمه لم يجز المسح

__________________

1 ـ فتح العزيز 1 : 354.

2 ـ الاُم 1 : 26 ، المجموع 1 : 407 ، فتح العزيز 1 : 426 ، التفسير الكبير 11 : 160 ، مقدمات ابن رشد 1 : 52 ، نيل الأوطار 1 : 206 ، رحمة الامة 1 : 18 ، المحلى 2 : 61 ، بداية المجتهد 1 : 13 ، بدائع الصنائع 1 : 5 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 351 ، المغني 1 : 341 ، الشرح الكبير 1 : 181.

3 ـ المجموع 1 : 407 ، التفسير الكبير 11 : 160 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 351 ، مقدمات ابن رشد 1 : 52 ، مسائل الامام أحمد : 8 ، بداية المجتهد 1 : 13 ، المغني 1 : 340 ، نيل الأوطار 1 : 205 ، المحلى 2 : 61 ، رحمة الامة 1 : 18 ، حلية العلماء 1 : 124.

4 ـ المغني 1 : 342 ، الشرح الكبير 1 : 183 ، الإنصاف 1 : 185 ـ 186.

5 ـ غريب الحديث للهروي 1 : 116 ، الفائق 2 : 266 ، لسان العرب 13 : 207 سخن.

6 ـ المجموع 1 : 407 ، المغني 1 : 340 ، الشرح الكبير 1 : 181 ، نيل الأوطار 1 : 205.

١٦٤

عليه ، لأنّه بمنزلة العمامة ، وكذا لو جمع شعراً من غيره في المقدم ومسح.

ب ـ شرط الشعر الممسوح أن لا يخرج عن حدّ الرأس ، فلا يجوز أن يمسح على المسترسل ، ولا الجعد الكائن في حدّ الرأس إذا كان يخرج بالمد عنه.

ج ـ لو كان على رأسه جمة في موضع المسح فادخل يده تحتها ومسح على جلدة رأسه أجزأه.

د ـ لو مسح على شعر المقدم ثم حلقه لم يبطل وضوؤه.

هـ ـ يجوز للمرأة إدخال إصبعها تحت المقنعة في الظهر والعصر والعشاء ، ويستحب وضعها في الغداة والمغرب.

و ـ لو مسح على الحائل لضرورة أو تقية جاز ، وفي الإعادة مع الزوال إشكال.

مسألة 49 : ويجب المسح ببقية نداوة الوضوء ، وهو شرط في الصحة ، ولو استأنف ماءً جديداً ومسح به بطل وضوؤه ، ذهب إليه علماؤنا أجمع إلّا ابن الجنيد(1) ، لأنّ عثمان وصف وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يذكر الاستئناف(2) .

ومن طريق الخاصة ، صفة الباقر والصادقعليهما‌السلام وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وأنه مسح ببقية نداوة يده من غير أن يستأنف ماءً جديداً(3) ، وفعله وقع بياناً فلا يجزي غيره.

__________________

1 ـ حكاه المحقق في المعتبر : 38.

2 ـ صحيح مسلم 1 : 204 / 226 ، سنن النسائي 1 : 64 ، سنن أبي داود 1 : 26 / 106.

3 ـ الكافي 3 : 25 / 5 ، التهذيب 1 : 55 / 157 ، الاستبصار 1 : 58 / 171 ، وفيها عن الامام الباقرعليه‌السلام .

١٦٥

وقال الحسن البصري ، وعروة ، والأوزاعي ، وأحمد في إحدى الروايتين : إنّه يجوز المسح ببقية البلل(1) ، لحديث عثمان(2) .

وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد في الرواية الاُخرى : لا يجوز إلّا بماء جديد(3) ، ورووا ذلك عن عليعليه‌السلام (4) ، ولأنّه مستعمل.

والرواية ممنوعة ، فإن المتواتر عن أهل البيتعليهم‌السلام خلافه(5) ، والاستعمال لا يخرج الماء عن الطهورية.

فروع :

أ ـ لو لم تبق على يديه نداوة أخذ من لحيته ، وأشفار عينيه وحاجبيه من نداوة الوضوء ومسح به ، ولا يجوز له الاستئناف ، فإن لم يبق على شيء من ذلك نداوة استأنف الطهارة ، وكذا لو ذكر أنّه لم يمسح مسح ، فإن لم يبق في يده نداوة فعل ما تقدم.

ب ـ لا فرق بين أن تكون النداوة من الغسلة الاُولى أو الثانية ، وكذا لو جوّزنا الثالثة على إشكال ينشأ من كون مائها غير ماءً الوضوء ، وإن حرّمناها لم يجز قطعاً ، وكذا الثانية عند الصدوق(6) .

ج ـ لو جفّ ماءً الوضوء للحر أو الهواء المفرطين استأنف الوضوء ، ولو

__________________

1 ـ المغني 1 : 147 ، الشرح الكبير 1 : 169.

2 ـ صحيح مسلم 1 : 204 / 226 ، سنن النسائي 1 : 64 ، سنن أبي داود 1 : 26 / 106.

3 ـ الاُم 1 : 26 ، المغني 1 : 147 ، الشرح الكبير 1 : 169.

4 ـ سنن أبي داود 1 : 27 / 111 ، سنن البيهقي 1 : 51 ، مصنف إبن أبي شيء بة 1 : 21.

5 ـ الكافي 3 : 24 / 1 ـ 4 ، التهذيب 1 : 55 / 157 و 58 / 162 ، الاستبصار 1 : 58 / 171 و 172.

6 ـ الفقيه 1 : 25 ، الهداية : 16.

١٦٦

تعذر أبقى جزء‌اً من يده اليسرى ثم أخذ كفاً غسله به ، وعجّل المسح على الرأس والرجلين.

د ـ لو غسل بدلاً من المسح لم يجز عندنا إجماعاً ، أما أولاً فلاشتماله على الاستئناف ، وأما ثانياً فلأنّه مغاير للمسح المأمور به فيبقى في العهدة. ولقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه ، فيغسل وجهه ، ثم يديه ، ثم يمسح برأسه )(1) .

وللشافعي وجهان(2) وعن أحمد روايتان ، لأنّ الغسل مسح وزيادة(3) ، وعلى تقدير الجواز للشافعي هل يكره؟ وجهان ، وعلى كلّ تقدير فإنه لا يستحب عنده(4) .

هـ ـ لو وضع يده بالبلّة على محل الفرض ولم يمسح لم يجز ، لأنّه لم يأت بالمسح المأمور به ، وأصح وجهي الشافعي : الاجزاء ، لأنّ الغرض وصول الماء دون كيفيته(5) . وهو ممنوع.

ولو قطّر على محل المسح قطرة ، فإن جرت أجزأت عنده قطعاً ، وإلّا فوجهان(6) ، وعندنا لا يجزي مطلقاًً للاستئناف.

و ـ لو مسح بخرقة مبلولة أو خشبة لم يجز عندنا للاستئناف ، وعن

__________________

1 ـ تلخيص الحبير 3 : 267 ، فتح العزيز 3 : 267 ، المبسوط للسرخسي 1 : 36.

2 ـ المجموع 1 : 410 ، فتح العزيز 1 : 355 ، السراج الوهاج : 16 ، مغني المحتاج 1 : 53 ، كفاية الأخيار 1 : 13.

3 ـ المغني 1 : 147 ، الشرح الكبير 1 : 169.

4 ـ فتح العزيز 1 : 355 ، المجموع 1 : 410.

5 ـ الوجيز 1 : 13 ، فتح العزيز 1 : 356 ، المجموع 1 : 410 ، كفاية الأخيار 1 : 13 ، السراج الوهاج : 17 ، مغني المحتاج 1 : 53.

6 ـ المجموع 1 : 410 ، فتح العزيز 1 : 356 ، مغني المحتاج 1 : 53 ، كفاية الأخيار 1 : 13.

١٦٧

أحمد وجهان(1) .

ز ـ لو مسح على حائل غير مانع من إيصال الرطوبة إلى محل الفرض لم يجز ، لأنّ الباء كما اقتضت التبعيض اقتضت الالصاق.

البحث الخامس : في مسح الرجلين

مسألة 50 : ذهبت الامامية كافة إلى وجوب المسح على الرجلين ، وإبطال الوضوء بغسلهما اختياراً ، وبه قال عليعليه‌السلام ، وابن عباس ، وأنس بن مالك ، والشعبي ، وأبو العالية ، وعكرمة(2) ، لقوله تعالى :( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) (3) .

والنصب لا ينافيه للعطف على الموضع ، ولا يجوز عطفه على الأيدي لئلا تتناقض القراء‌تان ، وللفصل ، ولاشتماله مع مخالفة الفصاحة بالانتقال عن جملة قبل استيفاء الغرض منها إلى ما لا تعلق لها به ، والجر بالمجاورة من رديء الكلام ، ولم يرد في كتاب الله تعالى ، ولا مع الواو.

وروى أوس بن أبي أوس الثقفي أنّه رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى كظامة قوم بالطائف ، فتوضأ ومسح على قدميه(4) ، وعن عليعليه‌السلام أنه

__________________

1 ـ المغني 1 : 148 ، الشرح الكبير 1 : 170.

2 ـ المجموع 1 : 418 ، المغني 1 : 150 ـ 151 ، الشرح الكبير 1 : 146 ـ 147 ، عمدة القارئ 2 : 238 ، فتح الباري 1 : 213 ، تفسير الطبري 6 : 82 ، المبسوط للسرخسي 1 : 8 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 345 ، المحلى 2 : 56 ، أحكام القرآن لابن العربي 2 : 577 ، تفسير القرطبي 6 : 92.

3 ـ المائدة : 6.

4 ـ سنن أبي داود 1 : 41 / 160 ، سنن البيهقي 1 : 286 ، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار : 63.

١٦٨

مسح على نعليه وقدميه ، ثم دخل المسجد فخلع نعليه وصلّى(1) ، وعن ابن عباس أنّه قال : ما اجد في كتاب الله إلّا غسلتين ومسحتين(2) .

وذكر لأنس بن مالك قول الحجاج : إغسلوا القدمين ظاهرهما وباطنهما ، وخللوا ما بين الاصابع ، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج(3) ، قال الله تعالى :( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) (4) .

وقال الشعبي : الوضوء مغسولان وممسوحان(5) .

ومن طريق الخاصة قول الباقرعليه‌السلام وقد سئل عن المسح على الرجلين ، فقال : « هو الذي نزل به جبرئيلعليه‌السلام »(6) ، ولمّا وصف الباقر والصادقعليهما‌السلام وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالا : « ثم مسح رأسه وقدميه »(7) .

وقال بعض أهل الظاهر : يجب الجمع بين الغسل والمسح(8) ، وقال ابن جرير الطبري بالتخيير بينهما(9) ، وقال باقي الجمهور بوجوب الغسل(10) ،

__________________

1 ـ كنز العمال 9 : 435 / 26856.

2 ـ سنن البيهقي 1 : 72 ، سنن الدارقطني 1 : 96 / 5.

3 ـ المغني 1 : 150 ـ 151 ، الشرح الكبير 1 : 147 ، تفسير القرطبي 6 : 92 ، تفسير الطبري 6 : 82 ، الدر المنثور للسيوطي 2 : 262 ، سنن البيهقي 1 : 71.

4 ـ المائدة : 6.

5 ـ المغني 1 : 151 ، الشرح الكبير 1 : 147.

6 ـ التهذيب 1 : 63 / 177 ، الاستبصار 1 : 64 / 189.

7 ـ الكافي 3 : 26 / 5 ، التهذيب 1 : 56 / 158 ، الاستبصار 1 : 57 / 168.

8 ـ المجموع 1 : 417 ، عمدة القارئ 2 : 238 ، التفسير الكبير 11 : 161.

9 ـ المجموع 1 : 417 ، التفسير الكبير 11 : 161 ، تفسير الطبري 6 : 84 ، بداية المجتهد 1 : 15 ، أحكام القرآن لابن العربي 2 : 577 ، تفسير القرطبي 6 : 92 ، المغني 1 : 151 ، الشرح الكبير 1 : 147 ، عمدة القارئ 2 : 238.

10 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 8 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 345 ، عمدة القارئ 2 : 236 و 238 ،

١٦٩

لأنّ عثمان لما وصف وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ثم غسل رجليه(1) ، وعن عبد الله بن عمرو أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح ، فقال : ( ويل للأعقاب من النار )(2) .

ورواية عثمان معارضة بما تقدم من الروايات ، مع أنّ أهل البيتعليهم‌السلام أعرف منه لملازمتهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولاحتمال أنّه غسلهما للتنظيف فتوهم الجزئية ، بخلاف المسح ، وتهديد الاعقاب لا يدل على وجوب غسلهما في الوضوء على أنّه جزء منه.

مسألة 51 : ومحل المسح ظهر القدمين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ، وهما العظمان الناتئان في وسط القدم ، وهما معقد الشراك أعني مجمع الساق والقدم ـ ذهب إليه علماؤنا أجمع ، وبه قال محمد بن الحسن الشيباني(3) ـ لأنّه مأخوذ من كَعِبَ ثدي المرأة اي ارتفع. ولقول الباقرعليه‌السلام وقد سئل فأين الكعبان؟ : « ها هنا »(4) يعني المفصل دون عظم الساق.

وقال الجمهور كافة : الكعب ، هو العظم الناتي عن يمين الرجل وشمالها(5) . لأنّ قريشا كانت ترمي كعبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من

__________________

بدائع الصنائع 1 : 5 ، مغني المحتاج 1 : 53 ، المجموع 1 : 417 ، الوجيز 1 : 13 ، الاُم 1 : 27 التفسير الكبير 11 : 161 ، المغني 1 : 150 ، الشرح الكبير 1 : 146.

1 ـ صحيح مسلم 1 : 204 ـ 205 / 226 ، سنن أبي داود 1 : 26 ـ 27 / 107 ـ 109 ، سنن الدارمي 1 : 176 ، مسند أحمد 1 : 68.

2 ـ وردت في نسخة ( م ) والمعتبر : 39 ، بدل ( عمرو ) عمر ، وبدل ( النار ) البول ، وما أثبتناه من المصادر ، اُنظر حيح مسلم 1 : 214 / 241 ، سنن ابي داود 1 : 24 / 97 ، سن النسائي 1 : 78 ، مسند أحمد 2 : 193.

3 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 9 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 347 ، بدائع الصنائع 1 : 7 ، شرح فتح القدير 1 : 15 ، شرح الأزهار 1 : 89.

4 ـ التهذيب 1 : 76 / 191 ، الكافي 3 : 26 / 5.

5 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 9 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 347 ، الاُم 1 : 27 ، أحكام القرآن لابن العربي 2 : 579 ، بدائع الصنائع 1 : 7 ، مغني المحتاج 1 : 53 ـ 54 ، التفسير الكبير 11 : 162 ، المجموع 1 : 422 ، المغني 1 : 155.

١٧٠

ورائه(1) ، ولنص أهل اللغة عليه(2) .

ولا حجة في الأول على المطلوب ، والنص لا يدل على التخصيص.

مسألة 52 : لا يجب استيعاب الرجلين بالمسح ، بل يكفي المسح من رؤوس الاصابع إلى الكعبين ، ولو بإصبع واحدة عند فقهاء أهل البيتعليهم‌السلام لوجوب تقدير العامل الدال على التبعيض ، ولقول الباقرعليه‌السلام : « إذا مسحت بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ، ما بين كعبيك إلى أطراف الاصابع فقد أجزأك »(3) .

ويجب استيعاب طول القدم من رؤوس الاصابع إلى الكعبين ، لأنّهما غاية فيجب الانتهاء إليها ، فيجب الأبتداء من رؤوس الأصابع لعدم الفارق.

ويجب المسح بباقي نداوة الوضوء ، فلو استأنف له بطل ـ والبحث فيه كما في الرأس ـ ويستحب أن يكون بثلاث أصابع مضمومة ، وقال بعض علمائنا : يجب(4) .

فروع :

أ ـ يجوز المسح منكوسا ، بأن يبتدئ من الكعبين ـ لما تقدم في الرأس ـ ومنعه بعض علمائنا(5) .

ب ـ لا يجب الترتيب بينهما ، لكن يستحب البدأة باليمنى.

ج ـ لو كان على الرجلين أو الرأس رطوبة ، ففي جواز المسح عليها

__________________

1 ـ سنن البيهقي 1 : 76 واُنظر المغني 1 : 155.

2 ـ اُنظر القاموس المحيط 1 : 124 ، والصحاح 1 : 213 « كعب ».

3 ـ التهذيب 1 : 90 / 237 ، الاستبصار 1 : 61 / 182.

4 ـ هو الصدوق في الفقيه 1 : 28 ، والسيد المرتضى في مسائل خلافه كما حكاه المحقق في المعتبر : 38.

5 ـ هو ابن ادريس كما في السرائر : 17.

١٧١

قبل تنشيفها إشكال.

د ـ لو قطع بعض موضع المسح وجب المسح على الباقي ، ولو استوعب سقط.

هـ ـ لو كان له رجل ثالثة ، فإن اشتبهت بالأصلية وجب مسحها ، وإلّا فإشكال ينشأ من العموم ، ومن صرف اللفظ إلى الظاهر.

و ـ لو غسل عوض المسح لم يجزئه لما تقدم ، إلّا أن يكون للتقية فيصح ، وهل يجب عليه الإعادة مع زوالها؟ الأقرب لا.

ولو أراد غسلهما للتنظيف قدّم غسل الطهارة أو أخره.

ولو كان محل الفرض في المسح نجساً ، وجب تقديم غسله على المسح ، وكذا أعضاء الغسل ، وفي الاكتفاء به عن غسل الوضوء نظر ، أقربه الصحة مع طهارة المنفصل كالكثير.

ز ـ يجوز المسح على النعل العربية ، وإن لم يدخل يده تحت الشراك ، وهل يجزي لو تخلف ما تحته أو بعضه؟ إشكال أقربه ذلك ، وهل ينسحب إلى ما يشبهه كالسير في الخشب؟ إشكال ، وكذا لو ربط رجله بسير للحاجة وفي العبث إشكال.

مسألة 53 : لا يجوز المسح على الخفّين ، ولا على ساتر إلّا للضرورة أو التقية ، ذهب إليه علماؤنا أجمع ـ وبه قال أبوبكر بن داود والخوارج(1) ـ لقوله تعالى :( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) (2) والباء للالصاق ، ولأن أبا مسعود البدري لما روى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح

__________________

1 ـ المجموع 1 : 476 ، نيل الأوطار 1 : 223 ، كفاية الأخيار 1 : 29 ، تفسير القرطبي 6 : 100 ، عمدة القارئ 3 : 98 ، فتح الباري 1 : 244 ، تفسير الرازي 11 : 163 ، جامع الجواهر 2 : 283.

2 ـ المائدة : 6.

١٧٢

على الخفّين ، قال له عليعليه‌السلام : قبل نزول المائدة أو بعده؟ فسكت أبو مسعود(1) ، وهذا إنكار منهعليه‌السلام لهذه المقالة ، واعتقاد وجوب المسح على البشرة ، ولقول عليعليه‌السلام : « ما اُبالي أمسح على الخفّين ، أو على ظهر عير بالفلاة »(2) .

ومن طريق الخاصة ، قول الصادقعليه‌السلام : « سبق الكتاب الخفّين » وسئل عن المسح على الخفّين ، فقالعليه‌السلام : ( لا تمسحه )(3) .

وذهب الجمهور كافة إلى جوازه(4) ، لأنّ سعد بن أبي وقاص روى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعله(5) .

ومتابعة الكتاب العزيز أولى من رواية سعد ، مع معارضتها لروايات أهل البيتعليهم‌السلام (6) ، وهم أعرف بكيفيات الشريعة لملازمتهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسماعهم الوحي ، مع أنّ عائشة وأبا هريرة أنكرا المسح على الخفّين(7) .

وقال الباقرعليه‌السلام : « جمع عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله

__________________

1 ـ التهذيب 1 : 361 / 1091 وفيه المغيرة بن شعبة بدل أبي مسعود.

2 ـ نقله في المعتبر : 40 ، وروي نحوه عن ابن عباس كما في مسند أحمد 1 : 323 ، وعن عائشة كما في الفقيه 1 : 30 / 97.

3 ـ التهذيب 1 : 361 / 1088.

4 ـ التفسير الكبير 11 : 163 ، المبسوط للسرخسي 1 : 97 ، بدائع الصنائع 1 : 7 ، بداية المجتهد 1 : 18 ، بُلغة السالك 1 : 58 ، الشرح الصغير 1 : 58 ، المغني 1 : 316 ، الشرح الكبير 1 : 179.

5 ـ صحيح البخاري 1 : 62 ، مسند أحمد 1 : 15 ، سنن البيهقي 1 : 269.

6 ـ التهذيب 1 : 361 / 1087 ـ 1091.

7 ـ المجموع 1 : 478 ، عمدة القارئ 3 : 97 ، التفسير الكبير 11 : 163 ، شرح فتح القدير 1 : 127 ، نيل الأوطار 1 : 222.

١٧٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيهم عليعليه‌السلام ، وقال : ما تقولون في المسح على الخفّين؟ فقال المغيرة بن شعبة : رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح على الخفين. فقال عليعليه‌السلام : « قبل المائدة أو بعدها؟ » فقال : لا أدري. فقال عليعليه‌السلام : « سبق الكتاب الخفّين ، إنّما نزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة »(1) .

ومن أغرب الاشياء تسويغ المسح على الخف ، لرفع الحدث عن الرجلين ، ومنعه عن البشرة.

فروع :

أ ـ إنّما يجوز المسح على الخفّين عند الضرورة ، كالبرد وشبهه ، أو التقية ، دفعاً للحرج ، ولقول الباقرعليه‌السلام وقد سئل هل فيهما رخصة : « لا ، إلّا من عدو تتقيه ، أو ثلج تخاف على رجلك »(2) .

ب ـ لو مسح على الحائل للضرورة أو التقية ، ثم زالتا أو نزع الخف فالأقرب الاستئناف ، لأنّها مشروطة بالضرورة وقد زالت فيزول لزوال شرطها ، ولا بعد في العدم ، لارتفاع الحدث.

ج‍ ـ الضابط في تسويغ المسح على الخفّين وغيرهما حصول الضرورة ، فلا شرط سواه ، ولا يتقدر بمدة غيرها.

ولا فرق بين اللبس على طهارة أو حدث ، ولا بين أن يكونا خفين أو جوربين أو جرموقين اللذان فوق الخف ، ولا بين أن يكونا صحيحين أو لا ، بل المعتبر إمكان المسح على البشرة ، فإن أمكن وجب ، وإلّا جاز المسح

__________________

1 ـ التهذيب 1 : 361 / 1091.

2 ـ التهذيب 1 : 362 / 1092 ، الاستبصار 1 : 76 / 236.

١٧٤

على ذلك كله من الضرورد وإن زالت.

د ـ لو دارت التقية بين المسح على الخفّين وغسل الرجلين فالغسل أولى. وقال الشافعي ، وأحمد ، والحكم ، وإسحاق : المسح على الخفّين أولى من الغسل ، لما فيه من مخالفة الشيعة(1) .

ولنذكر بعض أحكام المسح على الخفّين على رإي المخالفين ، اقتداءً بالشيخ(2) .

مسألة 54 : شرط الشافعي للمسح على الخف أمرين :

الأول : أن يلبس الخف على طهارة تامة قوية ، فلو غسل إحدى رجليه وأدخل الخف لم يصح حتى يغسل الثانية ، ثم يبتدئ باللبس ، وبه قال مالك ، وأحمد ، وإسحاق(3) ، وكذا لو صب الماء في الخف بعد لبسه على الحدث.

والمستحاضة إذا لبست على وضوء لم تمسح على أحد الوجهين لضعف طهارتها(4) .

وقال أبو حنيفة : والمزني ، وأبو ثور ، وداود ، وابن المنذر : لا يشترط أن يكون اللبس على طهارة ، فلو لبس خفه قبل كمال الطهارة ثم كمّل

__________________

1 ـ المجموع 1 : 478 ، كافية الاخبار 1 : 29 ، المغني 1 : 316 ، الشرح الكبير 1 : 179 ، عمدة القارئ 3 : 97.

2 ـ اُنظر الخلاف 1 : 204 ـ 217 مسالة 168 ـ 185.

3 ـ الاُم 1 : 33 ، المجموع 1 : 512 ، مختصر المزني : 9 ـ 10 ، فتح العزيز 2 : 365 ، كفاية الأخيار 1 : 29 ، مغني المحتاج 1 : 65 ، الوجيز 1 : 23 ، بداية المجتهد 1 : 22 ، الشرح الصغير ، 1 : 59 ، المغني 1 : 317 ـ 318 ، الشرح الكبير 1 : 183 ، المبسوط للسرخسي 1 : 99 ـ 100 ، شرح فتح القدير 1 : 130 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 350 ، عمدة القارئ 3 : 102.

4 ـ فتح العزيز 2 : 368 ، الوجيز 1 : 23.

١٧٥

طهارته ، ثم أحدث جاز له المسح ، وإنّما المعتبر أن يطرأ الحدث بعد اللبس على كمال الطهارة(1) .

الثاني : أن يكون الملبوس ساتراً قوياً حلالاً ، فإن تخرق ، أو كان دون الكعبين ، أو لم يكن قوياً ـ وهو الذي يتردد عليه في المنازل ، لا كالجورب واللفافة ـ أو كان مغصوبا ، لم يجز المسح ، وفي المغصوب عنده وجه بالجواز(2) .

ولا يجوز أن يمسح على خف يظهر عليه شيء من القدم ، في الجديد ، وبه قال الحسن بن صالح(3) .

وقال في القديم : يمكن المسح عليه إذا أمكن متابعة المشي عليه ، وبه قال أبو إسحاق ، وأبو ثور ، وداود(4) .

وقال ملك ، والليث : إنّ كثر الخرق وتفاحش لم يجز(5) .

وقال أبو حنيفة : إنّ تخرق أكثر من ثلاثة أصابع لم يجز ، وإن كان أقل جاز(6) .

__________________

1 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 99 ـ 100 ، شرح فتح القدير 1 : 130 ، عمدة القارئ 3 : 102 ، مختصر المزني : 10 ، المجموع 1 : 512 ، فتح العزيز 2 : 366 ، المغني 1 : 318 ، بداية المجتهد 1 : 22 ، نيل الأوطار 1 : 227 ـ 228 ، المحلى 2 : 100.

2 ـ المجموع 1 : 510 ، مغني المحتاج 1 : 65 ـ 66 ، السراج الوهاج : 19 ، الوجيز 1 : 24.

3 ـ الاُم 1 : 33 ، المجموع 1 : 496 ، فتح العزيز 2 : 370 ، كفاية الأخيار 1 : 29 ـ 30 ، الوجيز 1 : 24 ، المغني 1 : 334 ، الشرح الكبير 1 : 193 ، شرح العناية 1 : 133 ، تفسير القرطبى 6 : 102 ، المحلى 2 : 101.

4 ـ المجموع 1 : 479 ، كفاية الأخيار 1 : 30 ، المغني 1 : 334 ، الشرح الكبير 1 : 193 ، بداية المجتهد 20 : 1 ، المحلي 2 : 100.

5 ـ المدونة الكبرى 1 : 40 ، بداية المجتهد 1 : 20 تفسير القرطبي 6 : 101 ، المجموع 1 : 497 ، المغني 1 : 334 ، الشرح الكبير 1 : 193 ، المحلى 2 : 101.

6 ـ المبسوط السرخسي 1 : 100 ، شرح فتح القدير 1 : 132 ـ 133 ، الهداية للمرغيناني 1 : 28 ـ 29 ، 1 : 132 ، المجموع 1 : 497 ، المغني 1 : 334 ، الشرح الكبير 1 : 193 ، المحلى 2 : 101.

١٧٦

ولو كان الخرق فوق الكعبين لم يضر عند الجماعة.

وعند الشافعي يجوز المسح على الجوربين بشرطين : أن يكون صفيقاً وأن يكون له نعل. وليس تجليد قدميه(1) شرطاً إلّا أن يكون الجورب رقيقا ، فيقوم تجليده مقام صفاقته وقوته ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك ، والثوري ، لأنّ العادة عدم إمكان متابعة المشي في الجوربين إذا لم ينعّل(2) .

وقال أحمد : يجوز المسح على الجورب الصفيق ، وإن لم يكن له نعل(3) . ورواه الجمهور عن عليعليه‌السلام ، وعمر(4) ، وبه قال أبو يوسف ، ومحمد ، وداود(5) لأنّ المغيرة روى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح على الجوربين(6) .

قال الشافعي : ولوكان الخف من خشب رقيق ، يمكن متابعة المشي فيه جاز المسح عليه ، وإلّا فلا(7) .

ولو لبس جرموقا فوق خف أو خفاً فوق خف ، فإن كان الأسفل مخرّقاً والاعلى صحيحاً ، جاز المسح على الاعلى. وإن كان الأعلى مخرّقاً أو كانا

__________________

1 ـ في المخطوطة للتوضيح تحتها : الجوربين ومعناه قدمي الجوربين.

2 ـ المجموع 1 : 499 ، بداية المجتهد 1 : 19 ـ 20 ، تفسير القربطي 6 : 102 ، الهداية للمرغيناني 1 : 30 ، المغني 1 : 332 ، الشرح الكبير 1 : 180 ، المحلى 2 : 86.

3 ـ المغني 1 : 331 ، الشرح الكبير 1 : 180 ، المجموع 1 : 500 ، المحلى 2 : 86.

4 ـ سنن ابي داود 1 : 41 / 159 ، المجموع 1 : 500 ، تفسير القرطبي 6 : 102 ، نيل الأوطار 1 : 226 ، المحلى 2 : 84 ـ 85.

5 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 102 ، المجموع 1 : 500 ، بداية المجتهد 1 : 19 ، تفسير القرطبي 6 : 102 ، المحلى 2 : 86.

6 ـ سنن ابي داود 1 : 41 / 159 ، سنن ابن ماجة 1 : 185 / 559 ، مسند أحمد 4 : 252 ، سنن البيهقي 1 : 283 / 284.

7 ـ الاُم 1 : 34 ، المجموع 1 : 496 ، فتح العزيز 2 : 374.

١٧٧

صحيحين ، لم يجز المسح عليه في أحد القولين(1) لأنّ الأعلى ليس بدلاً عن الأسفل ـ إذ ليس المبدل في الطهارة بدلاً ـ ولا عن الرجل ، وإلّا لكان اذا نزعه لا يبطل المسح لعدم ظهور الرجل ، وهو إحدى الروايتين عن مالك(2) .

وفي القديم : يجوز ، وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد ، والأوزاعي ، وإسحاق(3) ، لما روي ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح على الموق(4) ، وهو الجرموق(5) .

قال الشافعي : ويجزي في المسح على الخفّين أقل اسمه كالرأس ، سواء مسح بكل اليد أو بعضها أو بخشبة أو خرقة أو غير ذلك(6) .

وقال أبو حنيفة : لا يجزئه إلّا أن يمسح بأصابعه الثلاث(7) ـ وقال زفر : إنّ مسح بإصبع واحدة قدر ثلاث أصابع أجزأه(8) ، وقال أحمد : لا يجزئه إلّا مسح أكثر القدم ـ لأنّ الحسن البصري قال : سنة المسح خطط بالأصابع(9) .

قال الشافعي : ولابد أن يكون محل المسح موازياً لمحل الغسل من

__________________

1 ـ المجموع 1 : 505 ، فتح العزيز 2 : 378 ـ 379 ، كفاية الأخيار 1 : 30 ، مغني المحتاج 1 : 66 ـ 67.

2 ـ المجموع 1 : 508 ، فتح العزيز 2 : 379 ، المنتقى 1 : 82.

3 ـ المجموع 1 : 508 ، فتح العزيز 2 : 378 ، شرح فتح القدير 1 : 137 ، شرح العناية 1 : 137 ، المغني 1 : 319 ـ 320 ، الشرح الكبير 1 : 180.

4 ـ سنن ابي داود 1 : 39 / 153 ، سنن البيهقي 1 : 288 ـ 289 ، مسند أحمد 5 : 264.

5 ـ اُنظر الصحاح 4 : 1557 ، والنهاية 4 : 372 « موق »

6 ـ المجموع 1 : 520 ، كفاية الأخيار 1 : 31 ـ 32 ، مغني المحتاج 1 : 67.

7 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 100 ، شرح فتح القدير 1 : 132 ، الهداية للمرغيناني 1 : 28 ، المحلى 2 : 112.

8 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 100 ، المحلى 2 : 112.

9 ـ المغني 1 : 337 ، الشرح الكبير 1 : 198 ، مصنف ابن أبي شيبه 1 : 185.

١٧٨

الرجل فيجزي غير الأخمصين والعقبين ، وفيما يحاذي الاخمصين ـ وهو أسفل الخف ـ وجهان : عدم جواز الاقتصار عليه ، لأنّ الرخص يجب فيها الاتّباع ولن ينقل الاقتصار على الأسفل ، والجواز لمحاذاته محل الفرض(1) .

قال : ويستحب مسح أعلى الخف وأسفله ، وبه قال عبد الله بن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، ومالك ، وابن المبارك ، وإسحاق(2) ، لأنّ المغيرة روى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح أعلى الخف وأسلفه(3) .

وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وداود : المسح على ظاهر القدم لا مدخل لأسلفه فيه(4) ، لأنّ علياًعليه‌السلام قال : « لو كان الدين بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى بالمسح من ظاهرة »(5) .

قال الشافعي : يكره الغسل والتكرار للمسح لما فيه إفساد الخف(6) . قال : وتباح الصلاة للماسح على الخف بوضوء إلى انقضاء مدته ، أو نزع الخف. ومدته للمقيم يوم وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن(7) ، وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن

__________________

1 ـ فتح العزيز 2 : 389.

2 ـ بداية المجتهد 1 : 19 ، المجموع 1 : 518 و 521 ، فتح العزيز 2 : 392 ، مغني المحتاج 1 : 67 ، كفاية الأخيار 1 : 32 ، المغني 1 : 335 ، المحلى 2 : 113.

3 ـ سنن ابي داود 1 : 42 / 165 ، سنن ابن ماجة 1 : 183 / 550 ، سنن الترمذي 1 : 162 / 97 ، مسند أحمد 4 : 251 ، سنن البيهقي 1 : 290.

4 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 101 ، اللباب 1 : 37 ، المغني 1 : 335 ، المجموع 1 : 521 ، بداية المجتهد 1 : 19 ، تفسير القرطبي 6 : 103 ، المحلى 2 : 111.

5 ـ سنن ابي داود 1 : 42 / 162 ، سنن البيهقي 1 : 292 ، سنن الدارقطني 1 : 199 / 23.

6 ـ المجموع 1 : 52 ، فتح العزيز 2 : 392 ـ 393 ، الوجيز 1 : 24.

7 ـ الاُم 1 : 34 ، المجموع 1 : 483 ، فتح العزيز 2 : 395 و 397 ، الوجيز 1 : 24 ، مغني المحتاج 1 : 64 ، كفاية الأخيار 1 : 31 ، نيل الأوطار 1 : 229.

١٧٩

صالح ، وأحمد ، وإسحاق(1) ، لأنّ مسلم بن الحجاج روى في صحيحه عن عليعليه‌السلام أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوما وليلة للمقيم(2) .

وقال مالك : يمسح المسافر بلا توقيت ، وكذا المقيم في إحدى الروايتين ، وفي الاُخرى : لا يمسح(3) .

وعن الشافعي رواية أنّه يمسح بلا توقيت ، إلّا أن يجب عليه غسل الجنابة(4) .

وقال الليث بن سعد ، وربيعة : يمسح على الخفّين ألى أن ينزعهما(5) ، ولم يفرقا بين المسافر والحاضر ، ورواه ابن المنذر عن أبي سلمة بن عبدالرحمن والشعبي(6) .

وقال داود : يمسح المسافر بخمس عشرة صلاة ، والمقيم بخمس(7) ، لأنّ ابي بن عمارة كان قد صلّى مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القبلتين ، وقال له : يا رسول الله أمسح على الخفّين؟ قال : ( نعم ) قلت : يوما؟

__________________

1 ـ شرح فتح القدير 1 : 130 ، المغني 1 : 322 ، الشرح الكبير 1 : 187 ـ 188 ، مسائل أحمد : 10 ، المجموع 1 : 483 ـ 484 ، نيل الأوطار 1 : 229.

2 ـ صحيح مسلم 1 : 232 / 85 ، سنن ابن ماجة 1 : 183 / 552 ، مسند أحمد 1 : 96 و 100 و 113 ، سنن الدارمي 1 : 181 ، نيل الأوطار 1 : 230.

3 ـ بداية المجتهد 1 : 20 ، تفسير القرطبي 6 : 101 ، الشرح الصغير ، 1 : 58 ، المجموع 1 : 484 ، المغني 1 : 332 ، الشرح الكبير 1 : 188 ، عمدة القارئ 3 : 97 ، نيل الأوطار 1 : 229 ، حلية لعلماء 1 : 131.

4 ـ المجموع 1 : 482 ، فتح العزيز 2 : 395 ، كفاية الأخيار 1 : 31.

5 ـ المجموع 1 : 484 ، المغني 1 : 322 ، الشرح الكبير 1 : 188 ، نيل الأوطار 1 : 229.

6 ـ المجموع 1 : 484.

7 ـ المجموع 1 : 483.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

من الكاذب في ادّعائه، كما يعرب عنه قوله:( حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) .

توضيحه: إنّ المنافقين كانوا مصمّمين على عدم الخروج مع المؤمنين إلى غزو الروم، وكان لهم تخطيط في غياب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبطله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتخليفه عليّاً مكانه، قال سبحانه:( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) (١) ، والآية تدلُّ على أنّهم كانوا عازمين على الإقامة في المدينة، وكان الاستئذان نوع تغطية لقبح عملهم حتى يتظاهروا بأنّ عدم ظعنهم مع المؤمنين كان بإذن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن جانب آخر أنّهم لو خرجوا مع المسلمين ما زادوهم إلاّ فتنة وخبالاً وإضعافاً لعزائم المؤمنين، وفيهم سمّاعون لهم يتأثّرون بدعاياتهم وإغوائهم كما يقول سبحانه:( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (٢) .

وبما أنّهم كانوا عازمين على القعود أوّلاً، وعلى الإضرار والفتنة في جبهات الحرب ثانياً؛ لذلك لم يكن في الإذن أيّة تبعة سوى فوت تميّز الخبيث من الطيب، ومعرفة المنافق من المؤمن، إذ لو لم يأذن لهم لظهر فسقهم وتمرّدهم على كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومثل هذا لا يعد عمل خلاف حتى يكون الاعتراض عليه دليلاً على صدور الذنب.

ولو كانت المخطّئة عارفة بأساليب البلاغة وفنون الكلام لعرفت أنّ أسلوب

____________________

١ - التوبة: ٤٦.

٢ - التوبة: ٤٧.

٢٢١

الكلام في الآية، أسلوب عطف وحنان، وأشبه باعتراض الولي الحميم، على الصديق الوفي، إذا عامل عدوّه الغاشم بمرونة ولين، فيقول بلسان الاعتراض: لماذا أذنت له، ولم تقابله بخشونة حتى تعرف عدوّك من صديقك، ومَن وفى لك ممّن خانك، على أنّه وإن فات النبي معرفة المنافق عن هذا الطريق لكنّه لم يفته معرفته من طريق آخر، صرّح به القرآن في غير هذا المورد، فإنّ النبي الأكرم كان يعرف المنافق من المؤمن بطريقين آخرين:

١ - كيفيّة الكلام، ويعبّ-ر عنه القرآن بلحن القول، وذلك أنّ الخائن مهما أصرّ على كتمان خيانته، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه، قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه )(١) وفي ذلك يقول سبحانه:( وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) (٢) .

٢ - التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه قال:( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَن يَشاءُ ) (٣) ، والدقّة في الآية تفيد بأنّ الله سبحانه يجتبي من رسله مَن يشاء ويطلعه على الغيب، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيب.

وعلى ذلك فلم يفت على النبي الأكرم شيء وإن فاتته معرفة المنافق من هذا الطريق، ولكنّه وقف عليها من الطريق الآخر أو الطريقين الآخرين.

____________________

١ - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم ٢٦.

٢ - محمد: ٣٠.

٣ - آل عمران: ١٧٩.

٢٢٢

الآية الثالثة: العصمة والأمر بطلب المغفرة

إنّه سبحانه يأمر نبيّه الأعظم، بطلب الغفران منه ويقول مخاطباً رسوله:( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ الْنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (١) .

ويقول سبحانه:( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ) (٢) وعندئذ يخطر في ذهن الإنسان: كيف تجتمع العصمة مع الأمر بطلب الغفران ؟

أقول: التعرّف على ما مرّ في الآيتين ونظائرهما، رهن الوقوف على الأصل المسلَّم بين العقلاء، وهو أنّ عظمة الشخصية وخطر المسؤولية متحالفان، وربَّ عمل يُعد صدوره من شخص جرماً وخلافاً، وفي الوقت نفسه لا يعد صدوره من إنسان آخر كذلك.

توضيح ذلك: إنّ الأحكام الشرعية تنقسم إلى واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح، ولا محيص عن الإتيان بالواجب وترك الحرام، نعم هناك رخصة في ترك المستحب والإتيان بالمكروه ولكن المترقّب من العارف بمصالح الأحكام ومفاسدها، تحلية الواجبات بالمستحبات، وترك المحرّمات مع ترك المكروهات ولا يقصر عنه المباح، فهو وإن أباحه الله سبحانه ولكن ربّما يترجّح فعله على تركه أو العكس لعنوان ثانوي.

فالعارف بعظمة الرب يتحمّل من المسؤولية ما لا يتحمّله غيره، فيكون المترقّب منه غير ما يترقّب من الآخر، ولو صدر منه ما لا يليق، وتساهل في هذا

____________________

١ - النساء: ١٠٥ - ١٠٦.

٢ - محمد: ١٩.

٢٢٣

الطريق، يتأكّد منه الاستغفار وطلب المغفرة، لا لصدور الذنب منه، بل من باب قياس عمله إلى علوّ معرفته وعظمة مسؤوليته.

وإن شئت فاستوضح ذلك من ملاحظة حال المتحضّر والبدوي، فالمرجوّ من الأوّل القيام بالآداب والرسوم الرائجة في الحضارات الإنسانية، ولكنّ المرجوّ من الثاني أبسط الرسوم والآداب، فما ذلك إلاّ لاختلافهما من ناحية التربية والمعرفة، كما أنّ الترقّب من نفس المتحضّرين مختلف جداً، فالمأمول من المثقّف أشدّ وأكثر من غيره، كما أنّ الانضباط المرجوّ من الجندي يغاير المترقّب من غيره، والغفلة القصيرة من العاشق يعد جرماً وخلافاً في منطق العشق، وليست كذلك إذا صدرت من غيره.

وهذه الأمثلة ونظائرها الوافرة تثبت الأصل الذي أوعزنا إليه في صدر البحث من أنّ عظمة الشخصية وكبر المسؤولية متحالفان وأنّ الوظائف لا تنحصر في الإتيان بالواجبات، والتحرّز عن المحظورات بل هناك وظائف أُخرى، وكلّما زاد العلم والعرفان توفّرت الوظائف وتكثّرت المسؤوليات؛ ولأجل ذلك تُعدّ بعض الغفلات أو اقتراف المكروهات من الأولياء ذنباً، وهو في الواقع ليس بالنسبة إليهم ذنباً مطلقاً، بل ذنباً إذا قيس إلى ما أُعطوا من الإيمان والمعرفة ولو قاموا بطلب المغفرة والعفو، فإنّما هو لأجل هذه الجهات.

نرى أنّ شيخ الأنبياء نوحاًعليه‌السلام يقول:( ربِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤمِناً ) (١) .

ويقتفيه إبراهيمعليه‌السلام ويقول:( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤمِنينَ يَوْمَ يَقُومُ

____________________

١ - نوح: ٢٨.

٢٢٤

الْحِسَابُ ) (١) .

ويقول النبي الأعظم:( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (٢) .

والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الأعمال والطاعات، وإن كانت في حد نفسها بالغة حدّ الكمال، لكنّ المطلوب والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه.

وعلى ذلك يحمل ما رواه مسلم في صحيحه، عن المزني، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ( ليُغان على قلبي وإنّي لاَستغفر الله في اليوم مائة مرّة )(٣) .

وقد ذكر المحدّثون حول الحديث نكات عرفانية، مَن أراد التعرّف عليها، فليرجع إلى كتاب ( شفاء القاضي ).

يقول العلاّمة المحقّق علي بن عيسى الإربلي: الأنبياء والأئمّة: تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى، وقلوبهم مملوءة به، وخواطرهم متعلّقة بالمبدأ، وهم أبداً في المراقبة، كما قالعليه‌السلام : ( اعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تره، فإنّه يراك ) فهم أبداً متوجّهون إليه ومقبلون بكلّهم عليه، فمتى انحطّوا عن تلك المرتبة العالية، والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالأكل والشرب والتفرّغ إلى النكاح وغيره من المباحات، عدّوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

وإلى هذا أشارصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّه ليُران على قلبي وإنّي لأستغفر الله بالنهار سبعين مرّة ) ولفظة سبعين ترجع إلى الاستغفار لا إلى الرين وقوله: حسنات الأبرار

____________________

١ - إبراهيم: ٤١.

٢ - البقرة: ٢٨٥.

٣ - صحيح مسلم: ٨/٧٢، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه وقوله: ( ليغان ) من الغين بمعنى الستر والحجاب والمزن.

٢٢٥

سيئات الأقربين فقد بان بهذا أنّه كان بعد اشتغاله في وقت ما، بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر الله منها، وعلى هذا فقس البواقي وكلّما يرد عليها من أمثالها ثم قال: إنّ هذا معنى شريف يكشف بمدلوله حجاب الشبهة ويهدي به الله مَن حسر عن بصره وبصيرته رين العمى والعمه(١) .

وما ذكره من الجواب فإنّما يتمشّى مع الآيات التي تمسّك بها المخالف، وأمّا الأدعية التي اعترف فيها الأئمّة بالذنب من قوله في الدعاء الذي علّمه لكميل بن زياد: ( اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم ) فهذا من باب التعليم للناس.

وأمّا ما كانوا يناجون ربّهم في ظلمات الليل وفي سجداتهم، فيحمل على ما حقّقه العلاّمة الإربلي وأوضحنا حاله.

الآية الرابعة: العصمة وغفران الذنب

إذا كان النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً من العصيان ومصوناً من الذنب، فكيف أخبر سبحانه عن غفران ذنبه: ما تقدّم منه وما تأخّر ؟ قال سبحانه:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) (٢) .

الجواب: إنّ الآية تُعدّ أكبر مستمسك لمخطّئة عصمة الأنبياء، مع أنّ إمعان النظر في فقرات الآيات خصوصاً في جعل غفران الذنب غاية للفتح المبين، يوضح المقصود من الذنب وأنّ المراد منه الاتهامات والنسب التي كانت الأعداء

____________________

١ - كشف الغمّة: ٣/٤٣ - ٤٥.

٢ - الفتح: ١ - ٣.

٢٢٦

تصفه بها، وأنّ ذلك الفتح المبين دلّ على افتعالها وعدم صحّتها من أساسها وطهّر صحيفة حياته عن تلك النسب، وإليك توضيح ذلك ببيان أُمور:

١ - ما هو المراد من الفتح في الآية ؟

لقد ذكر المفسّرون هنا وجوهاً، فتردّدوا بين كون المقصود فتح مكّة، أو فتح خيبر، أو فتح الحديبية.

لكنّ سياق آيات السورة لا يساعد الاحتمالين الأوّلين؛ لأنّها ناظرة إلى قصّة الحديبية والصلح المنعقد فيها في العام السادس من الهجرة، والفتح الذي يخبر عن تحقّقه ووقوعه، يجب أن يكون متحقّقاً في ذاك الوقت، وأين هو من فتح مكّة الذي لم يتحقّق إلاّ بعد عامين من ذلك الصلح حيث إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتحها في العام الثامن من هجرته ؟!

ولأجل ذلك حاول مَن قال: إنّ المراد منه فتح مكّة، أن يفسّره: بأنَّ إخباره عن الفتح، بمعنى قضائه وتقديره ذلك الفتح، والمعنى قضى ربُّكَ وقدَّر ذاك الفتح المبين، فالقضاء كان متحقّقاً في ظرف النزول وإنْ لم يكن نفس الفتح متحقّقاً.

ولكنّه تكلّف غير محتاج إليه، وقصّة الحديبية وإن كانت صلحاً في الظاهر على ترك الحرب والهدنة إلى مدّة معيّنة لكن ذلك الصلح فتح أبواب الظفر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجزيرة العربية، وفسح للنبي أن يتوجّه إلى شمالها ويفتح قلاع خيبر، ويسيطر على مكامن الشر والمؤامرة، ويبعث الدعاة والسفراء إلى أرجاء العالم، ويسمع دعوته أُذن الدنيا، كل ذلك الذي شرحناه في أبحاثنا التاريخية كان ببركة تلك الهدنة، وإن كان بعض أصحابه يحقّرها ويندّد بها في أوائل الأمر.

٢٢٧

لكنّ مرور الزمان، كشف النقاب عن عظمتها وثمارها الحلوة، فصحّ أن يصفها القرآن: ( الفتح المبين ).

وعلى كل حال: فسياق الآيات يَدل بوضوح على أنّ المراد من الفتح هو وقعة الحديبية قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤَتيِهِ أَجْرَاً عَظِيماً ) (١) .

وأيضاً يقول:( لَقَدْ رضيَ اللهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الْشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأثَابَهُمْ فَتْحَاً قَرِيباً ) (٢) .

وقال أيضاً:( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) (٣) .

ولا شك أنّ المراد من البيعة هو بيعة الرضوان التي بايع المؤمنون فيها النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة وأعرب سبحانه عن رضاه عنهم.

روى الواحدي عن أنس: أنّ ثمانين رجلاً من أهل مكّة هبطوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جبل التنعيم متسلّحين يريدون غرّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه، فأخذهم أُسراء فاستحياهم، فأنزل الله:( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) (٤) .

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يخبر في نفس السورة عن فتح قريب، وهذا

____________________

١ - الفتح: ١٠.

٢ - الفتح: ١٨.

٣ - الفتح: ٢٤.

٤ - أسباب النزول: ٢١٨.

٢٢٨

يعرب عن أنّ الفتح المبين غير الفتح القريب، قال سبحانه:( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تُخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحَاً قَرِيباً ) (١) ، وهذا الفتح القريب إمّا فتح خيبر، أو فتح مكّة، والظاهر هو الثاني وأمّا رؤيا النبي فقد تحقّقت في العام القابل، عام عمرة القضاء، فدخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون مكّة المكرّمة آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصّ-رين، وأقاموا بها ثلاثة أيام، ثم خرجوا متوجّهين إلى المدينة، وذلك في العام السابع من الهجرة، وفي العام الثامن توفّق النبي لفتح مكّة وتحقّق قوله سبحانه: ( فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً ).

هذا كلّه حسب سياق الآيات، وأمّا الروايات فهي مختلفة بين تفسيرها بالحديبية، وتفسيرها بفتح مكّة، والقضاء فيها موكول إلى وقت آخر، ولا يؤثر هذا الاختلاف فيما نحن بصدده في هذا المقام.

٢ - ما هو المراد من الذنب ؟

قال ابن فارس في المقاييس: ذنب له أُصول ثلاثة: أحدها الجرم، والآخر: مؤخّر الشيء، والثالث: كالحظ والنصيب(٢) .

وقال ابن منظور: الذنب: الإثم والجرم والمعصية، والجمع ذنوب، وذنوبات جمع الجمع، وقد أذنب الرجل، وقوله عزّ وجلّ في مناجاة موسى على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام:( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) (٣) ، عنى بالذنب قتل الرجل الذي وكزه

____________________

١ - الفتح: ٢٧.

٢ - معجم مقاييس اللغة: ٢/٣٦١.

٣ - الشعراء: ١٤.

٢٢٩

موسى فقضى عليه، وكان الرجل من آل فرعون(١) .

وقد وردت تلك اللفظة في الذكر الحكيم سبع مرّات، وأُريد بها في الجميع الجرم قال سبحانه:( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ:( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (٣) .

وعلى ذلك فكون الذنب بمعنى الجرم ممّا لا ريب فيه، غير أنّ الذي يجب التنبيه عليه، هو أنّ اللفظ لا يدل على أزيد من كون صاحبه عاصياً وطاغياً وناقضاً للقانون، وأمّا الذي عصي وطغي عليه ونقض قانونه فهو يختلف حسب اختلاف البيئات والظروف، وليست خصوصية العصيان لله سبحانه مأخوذة في صميم اللفظ بحيث لو أُطلق ذلك اللفظ يتبادر منه كونه سبحانه هو المعصي أمره، وإنّما تستفاد الخصوصية من القرائن الخارجية، وهذا هو الأساس لتحليل الآية وفهم المقصود منها.

٣ - الغفران في اللغة

الغفران في اللغة، هو: الستر، قال ابن فارس في المقاييس: عظم بابه الستر، ثم يشذُّ عنه ما يُذكر، فالغَفر: السَّتر، والغفران والغَفْر بمعنى يقال: غفر الله ذنبه غَفراً ومغفرةً وغفراناً(٤) وقال في اللسان بمثله(٥) .

____________________

١ - لسان العرب: ٣/٣٨٩.

٢ - غافر: ٣.

٣ - التكوير: ٨ و ٩.

٤ - معجم مقاييس اللغة: ٤/٣٨٥.

٥ - لسان العرب: ٥/٢٥.

٢٣٠

٤ - الفتح لغاية مغفرة الذنب

الآية تدل على أنّ الغاية المتوخّاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما تقدّم منه وما تأخّر، غير أنّ في ترتّب تلك الغاية على ذيها غموضاً في بادئ النظر، والإنسان يستفسر في نفسه كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه من فتح القلاع والبلدان، أو المهادنة والمصالحة في أرض الحديبية مع قريش، سبباً لمغفرة ذنوبه، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الأُخرى أو ملازمة لها، وهذه الرابطة خفيّة في المقام جداً، فإنّ تمكين النبي من الأعداء والسيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق ورفض الباطل، واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة، فلو قال: إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً، لتتمكن من الإصحار بالحق، ونشر التوحيد، ودحض الباطل، كان الترتّب أمراً طبيعياً، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين.

وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاءً لفتحه صقعاً من الأصقاع، فالرابطة غير واضحة.

وهذه هي النقطة الحسّاسة في فهم مفاد الآية، وبالتالي دحض زعم المخطِّئة في جعلها ذريعة لعقيدتهم، ولو تبيّنت صلة الجملتين لاتّضح عدم دلالتها على ما تتبنّاه تلك الطائفة.

فنقول: كانت الوثنية هي الدين السائد في الجزيرة العربية، وكانت العرب تقدّس أوثانها وتعبد أصنامها، وتطلب منهم الحوائج، وتتقرّب بعبادتها إلى الله سبحانه، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر: جاء النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داعياً إلى التوحيد في مجالي الخلق والأمر، وإلى حصر التقديس والعبادة في الله، وأنّه لا معبود سواه ولا

٢٣١

شفيع إلاّ بإذنه، فأخذ بتحطيم الوثنية ورفض عبادة الأصنام، وأنّها أجسام بلا أرواح لا يملكون شيئاً من الشفاعة والمغفرة، ولا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم فضلاً عن عبدتهم، فصارت دعوته ثقيلة على قريش وأذنابهم، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الأكرم، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة والشغب والسب والنسب المفتعلة، فوصفوه بأنّه كاهن وساحر، ومفترٍ وكذّاب، وقد أعربوا عن نواياهم السيّئة عندما رفعوا الشكوى إلى سيّد الأباطح وقالوا: إنّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامَنا وضلل آباءَنا، فإمّا أن تكفّه عنّا وإمّا أن تخلّ-ي بيننا وبينه(١) ولمّا وقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كلام قومه عن طريق عمّه أظهر صموده وثباته في طريق رسالته بقوله: ( يا عمّ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته ) قال: ثم استعبر فبكى، ثم قام فلمّا ولّى ناداه أبو طالب فقال: اقبل يا بن أخي، قال: فأقبل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله ما أُسلمك لشيء أبداً )(٢) .

فلمّا وقفت قريش على صمود الرسول شرعوا بالمؤامرة والتخطيط عليه حتى قصدوا اغتياله في عقر داره، فنجّاه الله من أيديهم.

ولمّا استقرَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يثرب واعتزّ بنصرة الأنصار ومَن حولها من القبائل جرت بينه وبين قومه حروب طاحنة أدّت إلى قتل صناديد قريش وإراقة دمائهم على وجه الأرض في ( بدر ) و ( أُحد ) ووقعة ( الأحزاب ).

____________________

١ - تاريخ الطبري: ٢/٦٥.

٢ - السيرة النبويّة لابن هشام: ١/٢٨٥ من الطبعة الحديثة.

٢٣٢

فهذه الحوادث الدامية عند قريش، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم، وحدوث التفرقة في صفوفهم، والفتك بصناديدهم على يد النبي الأكرم؛ صوّرته في مخيلتهم وخزانة أذهانهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه، فسبّ آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء، ولم يكتف بذلك حتى شنّ عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها، مجازر لقريش، ومذابح لأسيادهم، فأيّ جرم أعظم من هذا، وأيّ ذنب أكبر منه عند هؤلاء الجهلة الغفلة، الذين لا يعرفون الخيّ-ر من الشرّير، والصديق من العدو، والمنجي من المهلك ؟

فإذن ما هو الأمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.

إنّ الأمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الأوهام والأباطيل، ليست إلاّ الواقعة التي تجلّت فيها عواطفه الكريمة، ونواياه الصالحة، حيث تصالح مع قومه - الذين قصدوا الفتك به وقتله في داره، وأخرجوه من موطنه ومهاده - بعطف ومرونة خاصة، حتى أثارت تعجّب الحضّار من أصحابه ومخالفيه، حيث تصالح معهم على أنّه ( مَن أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردَّه عليهم، ومَن جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه، وأنّه مَن أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومَن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه )(١) .

وهذا العطف الذي أبداه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الواقعة مع كونه من القدرة بمكان، وقريش في حالة الانحلال والضعف، صوّر من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قومه

____________________

١ - السيرة النبويّة لابن هشام: ٢/٣١٧ - ٣١٨ ط٢، ١٣٧٥ ه-.

٢٣٣

وأتباعه صورة إنسان مصلح يحب قومَه ويطلب صلاحهم، ولا تروقه الحرب والدمار والجدال؛ فوقفوا على حقيقة الحال، وعضّوا الأنامل على ما افتعلوا عليه من النسب وندموا على ما فعلوا، فصاروا يميلون إلى الإسلام زرافات ووحداناً، فأسلم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، والتحقا بالنبي قبل أن يسيطر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مكّة وحواليها.

إنّ هذه الواقعة التي لمس الكفّار منها خلقه العظيم، رفع الستار الحديدي الذي وضعه بعض أعدائه الألدّاء بينه وبين قومه، فعرفوا أنّ ما يُرمى به نبيّ العظمة ويوصف به بين أعدائه، كانت دعايات كاذبة وكان هو منزّهاً عنها، بل عن الأقلّ منها.

ولا تقصر عن هذه الواقعة، فتح مكّة، فقد واجه قومه مرّة أُخرى - وهم في هزيمة نكراء، ملتفّون حوله في المسجد الحرام - فخاطبهم بقوله: ( ماذا تقولون وماذا تظنون ؟! ) فأجابوا: نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقدرت، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )(١) .

وهذا الفتح العظيم وقبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكرم وأجل وأعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً، إذ الكاهن والساحر أدون من أن يقوم بهذه الأمور الجليلة، كما أنّ لطفه العميم وخلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق، لا يفتري ولا يكذب، وأنّ ما جرى بينه وبين قومه من الحروب الدامية، كانت نتيجة شقاقهم وجدالهم ومؤامراتهم عليه، مرّة بعد أُخرى في موطنه ومهجره، فجعلوه في قفص الاتهام أوّلاً، وواجهوا أنصاره وأعوانه بألوان

____________________

١ - المغازي للواقدي: ٢/٨٣٥؛ وبحار الأنوار: ٢١/١٠٧ - ١٣٢.

٢٣٤

التعذيب ثانياً، فقُتل مَن قُتل وأُوذي مَن أُوذي، وضربوا عليه وعلى المؤمنين به، حصاراً اقتصادياً فمنعوهم من ضروريات الحياة ثالثاً، وعمدوا إلى قتله في عقر داره رابعاً، ولولا جرائمهم الفظيعة لما اخضرّت الأرض بدمائهم ولا لقي منهم بشيء يكرهه، فأصبحت هذه الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي بعد وقعة الحديبية، أو فتح مكّة، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها، وعند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين: الجزائية والشرطية، ولولا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام، وقد كسرته هذه الواقعة، وعرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.

وعلى ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به، كما أنّ المراد من المغفرة، إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.

وإلى ما ذكرنا يشير مولانا الإمام الرضاعليه‌السلام عندما سأله المأمون عن مفاد الآية فقال: ( لم يكن أحد عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنباً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا:( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ ) (١) ، فلمّا فتح اللهُ عزّ وجلّ على نبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة، قال له: يا محمد:( إنّا فتحنا لك ( مكّة ) فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد الله عزّ وجلّ فيما تقدّم، وما تأخّر؛ لأنّ مشركي مكّة، أسلم

____________________

١ - ص: ٥ - ٧.

٢٣٥

بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة، ومَن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم.

فقال المأمون: لله درّك يا أبا الحسن(١) .

وقد أشرنا في صدر البحث إلى اختلاف الروايات في المراد من الفتح الوارد في الآية وقلنا بأنّ هذا الاختلاف لا يؤثّر فيما نرتئيه، فلاحظ.

الآية الخامسة: العصمة والتولّي عن الأعمى

استدلّ المخالف لعصمة النبي الأعظم بالعتاب الوارد في الآيات التالية:( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمّا مَنِ اسْتَغْنَى * فأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) .

روى المفسّرون أنّ عبد الله بن أُمّ مكتوم الأعمى أتى رسول الله وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأُبيّاً وأُمية ابني خلف، يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم؛ فقال عبد الله: اقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله، فجعل ينادي ويكرّر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد، فعبسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلّمهم، فنزلت الآيات، وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه يقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي(٣) ويقول: هل لك من حاجة واستخلفه

____________________

١ - بحار الأنوار: ١٧/٩٠.

٢ - عبس: ١ - ١٠.

٣ - أسباب النزول للواحدي: ٢٥٢.

٢٣٦

على المدينة مرتين في غزوتين(١) .

وهناك وجه آخر لسبب النزول رُوي عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وحاصله: أنّ الآية نزلت في رجل من بني أُميّة كان عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّا رآه تقذّر منه، وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه(٢) .

والاعتماد على الرواية الأُولى مشكل؛ لأنّ ظاهر الآيات عتاب لمَن يقدّم الأغنياء والمترفين، على الضعفاء والمساكين من المؤمنين، ويرجّح أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة، وهذا لا ينطبق على النبي الأعظم من جهات:

الأُولى : أنّه سبحانه - حسب هذه الرواية - وصفه بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء، وليس هذا ينطبق على أخلاق النبي الواسعة وتحنّنه على قومه وتعطّفه عليهم، كيف ؟ وقد قال سبحانه:( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤمِنينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (٣) .

الثانية : أنّه سبحانه وصف نبيّه في سورة القلم، وهي ثانية السور التي نزلت في مكّة ( وأُولاها سورة العلق ) بقوله:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٤) ، ومع ذلك كيف يصفه بعد زمن قليل بخلافه، فأين هذا الخلق العظيم ممّا ورد في هذه السورة من العبوسة والتولّي ؟

وهذه السورة حسب ترتيب النزول وإن كانت متأخّرة عن سورة القلم، لكنّها متقاربة معها حسب النزول، ولم تكن هناك فاصلة زمنية طويلة

____________________

١ - مجمع البيان: ١٠/٤٣٧ وغيره من التفاسير.

٢ - مجمع البيان: ١٠/٤٣٧؛ تفسير القمّي: ٢/٤٠٥.

٣ - التوبة: ١٢٨.

٤ - القلم: ٤.

٢٣٧

الأمد(١) .

الثالثة : انّه سبحانه يأمر نبيه بقوله:( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ ) (٢) ، كما يأمره أيضاً بقوله:( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤمِنينَ ) (٣) ،( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) (٤) .

إنّ سورتي الشعراء والحجر، وإن نزلتا بعد سورة ( عبس )، لكن تضافرت الروايات على أنّ الآيات المذكورة في السورتين نزلت في بدء الدعوة، أي العام الثالث من البعثة، عندما أمره سبحانه بالجهر بالدعوة والإصحار بالحقيقة، وعلى ذلك فهي متقدّمة حسب النزول على سورة ( عبس ) أو يصح بعد هذه الخطابات، أن يخالف النبي هذه الخطابات بالتولّي عن المؤمن ؟! كلاّ ثم كلاّ.

الرابعة : إنّ الرواية تشتمل على ما خطر في نفس النبي عند ورود ابن أُمّ مكتوم من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في نفسه: ( يقول هؤلاء الصناديد: إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم ) وعندئذ يسأل عن كيفية وقوف الراوي على ما خطر في نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهل أخبر به النبي ؟ أو أنّه وقف عليه من طريق آخر ؟!

والأوّل بعيد جداً، والثاني مجهول.

الخامسة : إنّ الرواية تدلّ على أنّ النبي كان يناجي جماعة من المشركين، وعند ذلك أتى عبد الله ابن أُمّ مكتوم وقال: يا رسول الله أقرئني، فهل كان إسكات

____________________

١ - تاريخ القرآن للعلاّمة الزنجاني: ٣٦ - ٣٧، وقد نقل ترتيب نزول القرآن في مكّة والمدينة معتمداً على رواية محمد ابن نعمان بن بشير التي نقلها ابن النديم في فهرسته ص ٧ طبع مصر.

٢ - الشعراء: ٢١٤ - ٢١٥.

٣ - الحجر: ٨٨.

٤ - الحجر: ٩٤.

٢٣٨

ابن أُم مكتوم متوقّفاً على العبوسة والتولّ-ي عنه، أو كان أمره بالسكوت والاستمهال منه حتى يتمّ كلامه مع القوم، أمراً غير شاق على النبي، فلماذا ترك هذا الطريق السهل ؟

وهذه الوجوه الخمسة، وإن أمكن الاعتذار عن بعضها بأنّ العبوسة والتولّ-ي مرّة واحدة لا ينافي ما وصف به النبي في القرآن من الخلق العظيم وغيره، لكن محصل هذه الوجوه يورث الشك في صحة الرواية ويسلب الاعتماد عليها.

هذا كلّه حول الرواية الأُولى.

وأمّا الرواية الثانية:

فهي لا تنطبق على ظاهر الآيات؛ لأنّ محصّلها أنّ رجلاً من بني أُمية كان عند النبي فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّا رآه ذلك الرجل تقذّر منه وجمع نفسه، وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

ولكن هذا المقدار المنقول في سبب النزول لا يكفى في توضيح الآيات، ولا يرفع إبهامها، لاَنّ الظاهر أنّ العابس والمتولّ-ي، هو المخاطب بقول سبحانه:( وما يدريك لعلّه يزّكى ) إلى قوله:( فأنت عنه تلهّى ) ، فلو كان المتعبّس والمتولّي، هو الفرد الأموي، فيجب أن يكون هو المخاطب بالخطابات الستة لا غيره، مع أنّ الرواية لا تدل على ذلك، بل غاية ما تدل عليه أنّ فرداً من الأمويين عبس وتولّى عندما جاءه الأعمى فقط، ولا تلقي الضوء على الخطابات الآتية بعد الآيتين الأُوليين وإنّ-ها إلى مَن تهدف، فهل تقصد ذاك الرجل الأموي وهو بعيد، أو النبي الأكرم ؟

هذا هو القضاء بين السببين المرويين للنزول، وقد عرفت الأسئلة الموجهة

٢٣٩

إليهما.

وعلى فرض صحة الرواية الأُولى لابدّ أن يقال:

إنّ الرواية إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان موضع عنايته سبحانه ورعايته، فلم يكن مسؤولاً عن أفعاله وحركاته وسكناته فقط، بل كان مسؤولاً حتى عن نظراته وانقباض ملامح وجهه، وانبساطها، فكانت المسؤولية الملقاة على عاتقه من أشد المسؤوليات، وأثقلها صدق الله العلي العظيم حيث يقول:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) (١) .

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يناجي صناديد قومه ورؤساءهم لينجيهم من الوثنية ويهديهم إلى عبادة التوحيد، وكان لإسلامهم يوم ذاك تأثير عميق في إيمان غيرهم؛ إذ الناس على دين رؤسائهم وأوليائهم، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الظروف يناجي رؤساء قومه إذ جاءه ابن أُم مكتوم غافلاً عمّا عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر المهم، فلم يلتفت إليه النبي، وجرى على ما كان عليه من المذاكرة مع أكابر قومه.

وما سلكه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن أمراً مذموماً عند العقلاء، ولا خروجاً على طاعة الله، ولكنّ الإسلام دعاه وأرشده إلى خلق مثالي أعلى ممّا سلكه، وهو أنّ التصدي لهداية قوم يتصوّرون أنفسهم أغنياء عن الهداية، يجب أن لا يكون سبباً للتولّ-ي عمّ-ن يسعى ويخشى، فهداية الرجل الساعي في طريق الحق، الخائف من عذاب الله، أولى من التصدّي لقوم يتظاهرون بالاستغناء عن الهداية وعمّا أنزل إليك من الوحي، وما عليك بشيء إذا لم يزكّوا أنفسهم؛ لأنّ القرآن تذكرة فمَن شاء ذكره( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (٢) .

____________________

١ - المزمل: ٥.

٢ - الغاشية: ٢١ - ٢٢.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321