عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم17%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132398 / تحميل: 8873
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أبي طالب وعلّمه(١) .

وكان مع ابنه أبي هاشم في الكتّاب، ثم صحبه بعد موت أبيه مدة طويلة، وحكي عن بعض السلف أنّه قيل له: كيف كان علم محمد بن علي، فقال: إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره ( واصل ).

وهكذا ذكروا في عمرو بن عبيد أنّه أخذ عن أبى هاشم أيضاً، وقال القاضي ( عبد الجبار ): فأمّا أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي فلو لم يظهر علمه وفضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى، وكان يأخذ العلم عن أبيه وكان واصل بمنزلة كتاب صنعه أبو هاشم، وكذلك أخوه غيلان بن عطاء يقال إنّه أخذ العلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أخي أبي هاشم(٢) .

وقال الجاحظ: ومن مثل محمد الحنفية وابنه أبي هاشم الذي قرأ علوم التوحيد والعدل حتى قالت المعتزلة: غلبنا الناس كلّهم بأبي هاشم الأوّل.

قال ابن أبي الحديد: إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي؛ لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف، ومن كلامه - (علي)عليه‌السلام - اقتبس، وعنه نقل، ومنه ابتدئ وإليه انتهى، فإنّ المعتزلة - الذين هم أصل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته، وأصحابه؛ لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه.

وأمّا الأشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية

____________________

١ - فضل الاعتزال: ٢٣٤.

٢ - فضل الاعتزال: ٢٢٦.

٢١

ينتهون بالآخرة إلى أُستاذ المعتزلة ومعلّمهم، وهو علي بن أبي طالب(١) .

وقال المرتضى في أماليه: اعلم أنّ أُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - وخطبه؛ فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه، ولا غاية وراءه، ومَن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعده في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأُصول، وروي عن الأئمّة من أبنائهعليه‌السلام في ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة، ومَن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانّه، أصاب منه الكثير، الغزير، الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة(٢) .

وقال العلاّمة السيد مهدي الروحاني في تعليقه على نظرية أحمد أمين: إنّ أحمد أمين قد لفّق ذلك التوجيه والرد ليقطع انتساب الاعتزال والمعتزلة إلى أمير المؤمنين، ولم نر أحداً من الشيعة قال بتتلمذ واصل للإمام الصادقعليه‌السلام حتى يرد عليه أنّ الصادق كان يمسك الركاب لتلميذ واصل، وهو زيد فتتلمذه للصادق بعيد، بل وجه اتصال المعتزلة بأمير المؤمنين هو ما ذكروه أنفسهم - حسب ما عرفت - ومجرّد إمساك الإمام الصادق بالركاب لعمّه زيدرحمه‌الله لا يدل على أنّ الصادق تتلمذ لعمّه زيد، وإنّما فعل أحمد أمين ذلك بدافع من هواه المعروف عنه، والظاهر في كتبه، وهو أن يسلب عن علي ما ينسب إليه من الفضائل مهما أمكن ولكن بصورة التحقيق العلمي علّ ذلك ينطلي على الناس وذلك بعد ما ظهر من الغربيين تقريظات ومقالات فيها تعظيم للمعتزلة وتعريف لهم بأنّ-هم أصحاب الفكر الحر، لم تسمح نفس أحمد أمين بأن تكون جماعة كهؤلاء ينتسبون في أُصول مذهبهم وأفكارهم إلى علي، فلفّق ذلك التوجيه والرد والإغفال.

____________________

١ - الشرح الحديدي: ١/١٧.

٢ - غرر الفوائد ودرر القلائد أو أمالي المرتضى: ١/١٤٨.

٢٢

كما أنّه قد أنكر بلا دليل انتساب علم النحو إليه مع أنّ ابن النديم قال في الفهرست: زعم أكثر العلماء أنّ النحو أخذه أبو الأسود عن أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) .

عود على بدء

فلنرجع إلى دراسة وجود جذور عصمة النبي في كلام عليعليه‌السلام حيث إنّه يصف النبي في الخطبة القاصعة بقوله:

ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره(٢) .

ودلالة هذه القمّة العالية من هذه الخطبة على عصمة النبي في القول والعمل عن الخطأ والزلل واضحة، فإنّ مَن ربّاه أعظم ملك من ملائكة الله سبحانه من لدن أن كان فطيماً، إلى أُخريات حياته الشريفة، لا تنفك عن المصونية من الانحراف والخطأ، كيف وهذا الملك يسلك به طريق المكارم، ويربّيه على محاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، وليست المعصية إلاّ سلوك طريق المآثم ومساوئ الأخلاق، ومَن يسلك الطريق الأوّل يكون متجنّباً عن سلوك الطريق الثاني.

إنّ الإمام أمير المؤمنين لا يصف خصوص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعصمة في هذه الخطبة، بل يصف آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: ( هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبرهم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، هم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد

____________________

١ - بحوث مع أهل السنّة والسلفية: ١٠٨، وقد نقلنا بعض النصوص السابقة في حق المعتزلة عن ذلك الكتاب.

٢ - نهج البلاغة الخطبة: ١٨٧، طبعة عبده.

٢٣

الحق في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ودعاية )(١) .

لاحظ هذا الكلام وأمعن النظر فيه هل ترى كلمة أوضح في الدلالة على مصونيتهم من الذنوب، وعصمتهم عن الآثام من قوله: ( لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه ) أي لا يعدلون عن الحق، ولا يختلفون فيه، قولاً وفعلاً كما يختلف غيرهم من الفرق، وأرباب المذاهب، فمنهم مَن له في المسألة قولان، أو أكثر، ومنهم مَن يقول قولاً ثم يرجع عنه، ومنهم مَن يرى في أُصول الدين رأياً ثم ينفيه ويتركه.

إنّ الإمام يصف آل النبي بقوله: ( عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ) أي عرفوا الدين، وعلموه، معرفة مَن فهم الشيء وأتقنه، ووعوا الدين وحفظوه، وحاطوه ليس كما يعقله غيرهم عن سماع ودعاية.

وعلى الجملة: إنّ قولهعليه‌السلام : ( لا يخالفون الحق )، دليل على العصمة عن المعصية وقوله: ( عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ) دليل على مصونيتهم عن الخطأ، وسلامتهم في فهم الدين ووعيه.

والإمام لا يكتفي ببيان عصمة آل رسول الله بهذين الكلامين، بل يصف أحب عباد الله إليه بعبارات وجمل تساوق العصمة، وتعادلها، إذ يقول:

( أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعدّ القرى ليومه النازل به فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد، نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلّى من الهموم إلاّ

____________________

١ - نهج البلاغة الخطبة ٢٣٤، طبعة عبده.

٢٤

همّاً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشّاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها، ولا مظنّة إلاّ قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله )(١) .

ولا أرى أحداً نظر في هذه الخطبة، وأمعن النظر في عباراته وجمله، إلاّ وأيقن أنّ الموصوف بهذه الصفات في القمّة الأعلى من العصمة فهل ترى من نفسك أنّ مَن لا يكون له إلاّ هم واحد وهو الوقوف عند حدود الشريعة، ومَن ألزم على نفسه العدل ونفي الهوى عن نفسه، أن لا يكون مصوناً من المعصية، ومعتصماً من الزلل، كيف وقد أمكن القرآن من زمامه، فهو قائده وإمامه يحل حيث حل، وينزل حيث نزل.

قال ابن أبي الحديد: إنّ هذا الكلام منه أخذ أصحابه علم الطريقة والحقيقة وهو تصريح بحال العارف ومكانته من الله، والعرفان درجة حال رفيعة شريفة جداً مناسبة للنبوّة، ويختص الله تعالى بها مَن يقرّبه إليه من خلقه.

وقال أيضاً: إنّ هذه الصفات والشروط والنعوت التي ذكرها في شرح حال العارف إنّما يعني بها نفسه، وهو من الكلام الذي له ظاهر وباطن، فظاهره أن

____________________

١ - نهج البلاغة الخطبة ٨٣، طبعة عبده.

٢٥

يشرح حال العارف المطلق، وباطنه أن يشرح حال العارف المعين وهو نفسهعليه‌السلام .

ثم إنّ الشارح الحديدي أخذ في تفسير هذه الصفات والشروط واحداً بعد آخر، إلى أن بلغ إلى الشرط السادس عشر(١) ومَن أراد الوقوف على أهداف الخطبة فليرجع إليه وإلى غيره من الشروح.

هذه جذور المسألة في الكتاب والسنّة، نعم إنّ المتكلّمين هم الذين عنونوا مسألة العصمة وطرحوها في الأوساط الإسلامية، فذهبت العدلية من الشيعة والمعتزلة إلى جانب النفي والسلب على أقوال وتفاصيل بين طوائفهم، وقد أقام كل فريق دليلاً على مدّعاه.

ولا يمكن أن ينكر أنّ المناظرات التي دارت بين الإمام على بن موسى الرضا وأهل المقالات من الفرق الإسلامية قد أعطت للمسألة مكانة خاصة، فقد أبطل الإمام الرضاعليه‌السلام كثيراً من حجج المخالفين في مجال نفي العصمة عن الأنبياء عامّة والنبي الأعظم خاصّة، ولولا خوف الإطالة لأتينا ببعض هذه المناظرات التي دارت بين الإمامعليه‌السلام وأهل المقالات من الفرق الإسلامية، وإن شئت الوقوف عليها فراجع بحار الأنوار(٢) وسوف نرجع في نهاية المطاف إلى تفسير بعض الآيات التي تمسّك بها المخالف في مجال نفي العصمة عن الأنبياء.

ما هي حقيقة العصمة ؟

عرّف المتكلّمون العصمة على الإطلاق بأنّها قوّة تمنع الإنسان عن اقتراف

____________________

١ - الشرح الحديدي: ٦/٣٦٧ - ٣٧٠.

٢ - بحار الأنوار: ١١/٧٢ - ٨٥.

٢٦

المعصية والوقوع في الخطأ(١) .

وعرّفها الفاضل المقداد بقوله: العصمة عبارة عن لطف يفعله الله في المكلّف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك، ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والإقدام على المعاصي، مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب، والعصمة من العقاب، مع خوف المؤاخذة على ترك الأولى، وفعل المنسي(٢) .

أقول : إذا كانت حقيقة العصمة عبارة عن القوّة المانعة عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطأ، كما عرّفه المتكلِّمون فيقع الكلام في موردين:

الأوّل : العصمة عن المعصية.

الثاني : العصمة عن الخطأ.

ولتوضيح حال المقامين من حيث الاستدلال والبرهنة يجب أن يبحث قبل كل شيء عن حقيقة العصمة.

إنّ حقيقة العصمة عن اقتراف المعاصي ترجع إلى أحد أُمور ثلاثة على وجه منع الخلو، وإن كانت غير مانعة عن الجمع:

____________________

١ - الميزان: ٢/١٤٢، طبعة طهران.

٢ - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: ٣٠١ - ٣٠٢، ومن العجب تفسير الأشاعرة للعصمة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلّها إلى الخالق المختار ابتداءً: ب-أن لا يخلق الله فيهم ذنباً (*).

أفبعد هذا هل يصح أن تُعدّ العصمة كرامة وترك الذنب فضيلة ؟ وليس معنى التوحيد في الخالقية سلب التأثير عن سائر العلل، وقد أوضحنا الحال في الجزء الأوّل من هذه السلسلة عند البحث عن هذا القسم من التوحيد، فلاحظ.

(*) إبطال نهج الباطل لفضل بن روزبهان على ما نقله عنه صاحب دلائل الصدق: ١/٣٧٠ - ٣٧١.

٢٧

١ - العصمة الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى بل هي درجة عليا منها، فما توصف به التقوى وتعرف به تعرف وتوصف به العصمة.

لا شك أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الإنسان عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الإنسان عن اقتراف جميع قبائح الأعمال، وذميم الفعال على وجه الإطلاق، بل تعصم الإنسان حتى عن التفكير في المعصية، فالمعصوم ليس خصوص مَن لا يرتكب المعاصي ويقترفها بل هو مَن لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة مَلَكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة كسائر المَلَكات النفسانية من الشجاعة والعفّة والسخاء، فإذا كان الإنسان شجاعاً وجسوراً، سخيّاً وباذلاً، وعفيفاً ونزيهاً، يطلب في حياته معالي الأمور، ويتجنّب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار، كالخوف والجبن والبخل والإمساك، والقبح والسوء، ولا يرى في حياته أثراً منها.

ومثله العصمة، فإذا بلغ الإنسان درجة قصوى من التقوى، وصارت تلك الحالة راسخة في نفسه يصل الإنسان إلى حد لا يرى في حياته أثر من العصيان والطغيان، والتمرّد والتجرّي، وتصير ساحته نقيّة عن المعصية.

وأمّا أنّ الإنسان كيف يصل إلى هذا المقام ؟ وما هو العامل الذي يمكنه من هذه الحالة ؟ فهو بحث آخر سنرجع إليه في مستقبل الأبحاث.

فإذا كانت العصمة من سنخ التقوى والدرجة العليا منها، يسهل لك تقسيمها إلى العصمة المطلقة والعصمة النسبية.

فإنّ العصمة المطلقة وإن كانت تختص بطبقة خاصة من الناس لكن

٢٨

العصمة النسبية تعم كثيراً من الناس، من غير فرق بين أولياء الله وغيرهم؛ لأنّ الإنسان الشريف الذي لا يقل وجوده في أوساطنا، وإن كان يقترف بعض المعاصي لكنّه يجتنّب عن بعضها اجتناباً تامّاً بحيث يتجنّب عن التفكير بها فضلاً عن الإتيان بها.

مثلاً الإنسان الشريف لا يتجوّل عارياً في الشوارع والطرقات مهما بلغ تحريض الآخرين له على ذلك الفعل، كما أنّ كثيراً من اللصوص لا يقومون بالسرقة في منتصف الليل متسلحين لانتهاب شيء رخيص، كما أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بقتل الأبرياء ولا بقتل أنفسهم، وإن عرضت عليهم مكافآت مادية كبيرة، فإنّ الحوافز الداعية إلى هذه الأفاعيل المنكرة غير موجودة في نفوسهم، أو أنّها محكومة ومردودة بالتقوى التي تحلّوا بها، ولأجل ذلك صاروا بمعزل عن تلك الأفعال القبيحة حتى أنّهم لا يفكّرون فيها ولا يحدّثون بها أنفسهم أبداً.

والعصمة النسبية التي تعرّفت عليها تقرّب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا، فلو بلغت تلك الحالة النفسانية الرادعة في الإنسان مبلغاً كبيراً ومرحلة شديدة بحيث تمنعه من اقتراف جميع القبائح، يصير معصوماً مطلقاً، كما أنّ الإنسان في القسم الأوّل صار معصوماً نسبياً.

وعلى الجملة: إذا كانت حوافز الطغيان والعصيان والبواعث على المخالفة محكومة عند الإنسان، منفورة لديه لأجل الحالة الراسخة، يصير الإنسان معصوماً تامّاً منزّهاً عن كل عيب وشين.

٢ - العصمة: نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

قد تعرّفت على النظريّة الأُولى في حقيقة العصمة وأنّها عبارة عن: الدرجة

٢٩

العليا من التقوى، غير أنّ هناك نظرية أُخرى في حقيقتها، لا تنافي النظرية الأُولى، بل ربّما تُعد من علل تحقّق الدرجة العليا من التقوى التي عرفنا العصمة بها وموجب تكوّنها في النفس، وحقيقة هذه النظرية عبارة عن ( وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي والآثام ) علماً قطعياً لا يغلب ولا يدخله شك، ولا يعتريه ريب، وهو أن يبلغ علم الإنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها، ويصير على حد يدرك بل يرى درجات أهل الجنّة ودركات أهل النار، وهذا العلم القطعي هو الذي يزيل الحجب بين الإنسان وتوابع الأعمال، ويصير الإنسان مصداقاً لقوله سبحانه:( كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم ) (١) ، وصاحب هذا العلم هو الذي يصفه الإمام عليعليه‌السلام بقوله: ( فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمَن قد رآها فهم فيها معذبون )(٢) .

فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف يصد الإنسان عن اجتراء المعاصي واقتراف المآثم، بل لا يجول حولها فكره.

ولتوضيح تأثير هذا العلم في صيرورة الإنسان معصوماً من اقتراف الذنب نأتي بمثال:

إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها قتل الإنسان إذا مسّها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المسّ والموت مقترنين، أحجمت نفسه عن مس تلك الأسلاك والاقتراب منها دون عائق.

هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السل، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدّت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجرّ عليه الشرب

____________________

١ - التكاثر: ٥ - ٦.

٢ - نهج البلاغة:٢: الخطبة ١٨٨، ص ١٨٧، طبعة عبده.

٣٠

والاغتسال بذلك الماء الموبوء، فإذا وقف الإنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الأعمال وعواقب الفعال، ورأى بالعيون البرزخية تبدّل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضّة إلى النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، امتنع عن حبس الأموال والإحجام عن إنفاقها في سبيل الله.

قال سبحانه:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبيلِ اللهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (١) .

إنّ ظاهر قوله سبحانه:( هذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ ) هو أنّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، ليست إلاّ نفس الذهب والفضّة، لكن بوجودهما الأُخرويّين، وأنّ للذهب والفضّة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الأجسام الفلزّية، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضّة، وفي النشأة الأُخروية في صورة النيران المحماة.

فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزّات المكنوزة وإن كان لا يحس فيها الحرارة ولا يرى فيها النار ولا لهيبها، إلاّ أنّ ذلك لأجل أنّه يفقد حين المس، الحس المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة وحرارتها، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية حواسه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزّات، وهو نيرانها وحرارتها، يجتنبها كاجتنابه النيران الدنيوية، ولا يقدم على كنزها، وتكديسها.

وهذا البيان يفيد أنّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الإنسان عن الوقوع في المعاصي والآثام، ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.

قال جمال الدين مقداد بن عبد الله الأسدي السيوري الحلّي في كتابه القيم

____________________

١ - التوبة: ٣٤ - ٣٥.

٣١

( اللوامع الإلهية ): ( ولبعضهم كلام حسن جامع هنا قالوا: العصمة مَلَكة نفسانية يمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه، وتتوقّف هذه المَلَكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات؛ لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء، والطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس فتصير ملكة )(١) .

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ القوّة المسمّاة بقوّة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك، لتسرّب إليها التخلّف، ولتخبّط الإنسان على أثره أحياناً، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة، التي تقبل الاكتساب والتعلّم، وقد أشار الله في خطابه الذي خصّ به نبيّه بقوله:( وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) (٢) وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه، إذ لا تذوّق لنا في هذا المجال(٣) .

وهوقدس‌سره يشير إلى كيفية خاصة من العلم والشعور الذي أوضحناه بما ورد حول الكنز وآثاره.

٣ - الاستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله

إنّ هاهنا نظرية ثالثة في تبيين حقيقة العصمة يرجع لبّها إلى أنّ استشعار العبد بعظمة الخالق وحبّه وتفانيه في معرفته وعشقه له، يصدّه عن سلوك ما يخالف رضاه سبحانه.

____________________

١ اللوامع الإلهيّة: ١٧٠.

٢ النساء: ١١٣.

٣ الميزان: ٥/٨١.

٣٢

وتلك النظرية مثل النظرية الثانية لا تخالف النظرية الأُولى التي فسّرناها من أنّ العصمة هي الدرجة العليا من التقوى، بل يكون الاستشعار والتفاني دون الحق، والعشق لجماله وكماله، أحد العوامل لحصول تلك المرتبة من التقوى، وهذا النحو من الاستشعار لا يحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الإلهيّة البالغين أعلى قممها.

إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة، وتعرّف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله؛ وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرف عليه الإنسان العارف، يؤجّج في نفسه نيران الشوق والمحبّة، ويدفعه إلى أن لا يبتغي سواه، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه، مقبوحاً في نظره، أشدّ القبح وعندئذ يصبح الإنسان مصوناً عن المخالفة، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً، وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام بقوله: ( ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة)(١) .

هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان والتقرير، تعرب عن أنّ العصمة قوّة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل وهويته الخارجية.

نعم هذه التحاليل الثلاثة لحقيقة العصمة، كلّها راجعة إلى العصمة عن المعصية والمصونية عن التمرد كما هو واضح لمن أعطى التأمّل لها، وأمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي والتحفّظ عليه وإبلاغه إلى الناس، أو العصمة عن الخطأ في

____________________

١ - حديث معروف.

٣٣

الحياة والأمور الفردية أو الاجتماعية فلا بد أن توجّه بوجوه غير هذه الثلاثة - كما سيوافيك بيانها عند البحث عن المقام الثاني - أعني: العصمة عن الخطأ والاشتباه، والمهم هو البحث عن المقام الأوّل؛ ولذلك قدّمنا الكلام فيه.

نعم هناك عدّة روايات تصرّح بأنّ، هناك ( روحاً ) تعصم الأنبياء والرسل عن الوقوع في المهالك والخطايا، وإليك بيانها:

الروح التي تسدّد الأولياء

روى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله تبارك وتعالى:( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الإيمان ) (١) قال: ( خلق من خلق الله عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله يخبره ويسدّده وهو مع الأئمّة من بعده )(٢) .

وهذه الرواية مع أنّ ظاهرها لا ينطبق على الآية؛ لأنّ الوحي يتعلّق بالمفاهيم والألفاظ لا بالجواهر والأجسام، فالملك الذي هو أعظم من جبرئيل وميكائيل لا يمكن أن يتعلّق به الوحي، ويكون هو الموحى به، وإنّما يتعلّق به الإرسال والبعث ونحو ذلك، لا صلة لها بباب المعاصي بل هي راجعة إلى التسديد في تلقّي الوحي وإبلاغه إلى الناس، وحفظهم عن الخطأ على وجه الإطلاق.

على أنّ هناك روايات تشعر بأنّ هذه الروح التي تؤيّد الأنبياء غير خارجة عن ذواتهم، وهذا جابر الجعفي يروي عن الإمام الصادق في تفسير قوله سبحانه:( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصحابُ

____________________

١ - الشورى: ٥٢.

٢ - الكافي: ١/٢٧٣، باب ( الروح التي يسدّد بها الأئمّة ) الحديث ١ و٢.

٣٤

الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (١) .

( فالسابقون هم رسل الله، وخاصة الله من خلقه جعل فيهم خمسة أرواح أيّدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيّدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عزّ وجلّ، وأيدهم بروح القوّة فبه قدروا على طاعة الله، وأيّدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزّ وجلّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون )(٢) .

ولا يخفى أنّ الأرواح الأربعة غير خارجة عن ذواتهم، ولا يبعد أن تكون الخامسة وهي روح القدس غير خارجة عن ذواتهم ويكون المراد كمال نفوسهم إلى حد يعرفون الأشياء على ما هي عليها.

قال الشيخ صالح المازندراني في تفسير هذه الأرواح الخمسة: جعل الله تعالى بالحكمة البالغة والمصلحة الكاملة في الرسل والخاصة، خمسة أرواح لحفظهم من الخطاء وتكميلهم بالعلم والعمل ليكون قولهم صدقاً، وبرهاناً، والاقتداء بهم رشداً وإيقاناً كيلا يكون لمن سواهم على الله حجّة يوم القيامة، ولعلّ المراد بالأرواح هنا النفوس(٣) .

وعلى أيّ تقدير فهذه الروايات التي تشهد بتسديد الأنبياء بها، إمّا راجعة إلى تسديدهم في مقام تلقّي الوحي، أو راجعة إلى تسديدهم عن الخطاء في الأحكام والموضوعات، والكل خارج عن إطار البحث، وإنّما الكلام في صيانتهم عن المعاصي.

____________________

١ - الواقعة: ٦ - ١١.

٢ - الكافي: ١/٢٦١ باب فيه ( ذكر الأرواح التي في الأئمّة ) الحديث ١ و ٢ و ٣.

٣ - هامش أُصول الكافي: ١٣٦، الطبعة القديمة.

٣٥

هل العصمة موهبة إلهيّة أو أمر اكتسابي ؟

قد وقفت على حقيقة ( العصمة ) والعوامل التي توجب صيانة الإنسان عن الوقوع في حبال المعصية، ومهالك التمرّد والطغيان، غير أنّ هاهنا سؤالاً هامّاً يجب الإجابة عنه وهو: أنّ العصمة سواء أفسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى، أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي، أم فُسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله، وعلى أيّ تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص، وعندئذ يسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب من الله لعباده المخلصين، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب ؟ فالظاهر من كلمات المتكلّمين أنّها موهبة من مواهب الله سبحانه يتفضّل بها على مَن يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة وقابليات مصحّحة لإفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد: العصمة تفضّل من الله على مَن علم أنّه يتمسّك بعصمته(١) .

وهذه العبارة تشعر بأنّ إفاضة العصمة من الله سبحانه أمر خارج عن إطار الاختيار، غير أنّ إعمالها والاستفادة منها يرجع إلى العبد وداخل في إطار إرادته، فله أن يتمسّك بها فيبقى معصوماً من المعصية، كما له أن لا يتمسّك بتلك العصمة.

وقال أيضاً: والعصمة من الله تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة(٢) .

وقال المرتضى في أماليه: العصمة: لطف الله الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل قبيح.

____________________

١ - شرح عقائد الصدوق: ٦١.

٢ - أوائل المقالات: ١١.

٣٦

ونقل العلاّمة الحلّي عن بعض المتكلّمين بأنّه فسر العصمة بالأمر الذي يفعله الله بالعبد من الألطاف المقرّبة إلى الطاعات التي يعلم معها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك إلى الإلجاء.

ونقل عن بعضهم: العصمة لطف يفعله الله تعالى بصاحبها لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية.

ثم فسّر أسباب هذا اللطف بأُمور أربعة(١) .

وقال جمال الدين مقداد بن عبد الله الشهير بالفاضل السيوري الحلّي (المتوفّى عام ٨٢٦ ه-) في كتابه القيّم ( اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية ):

قال أصحابنا ومَن وافقهم من العدلية: هي ( العصمة ) لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية لانتفاء داعيه، ووجود صارفه مع قدرته عليها ثم نقل عن الأشاعرة بأنّها هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية(٢) .

كما نقل عن بعض الحكماء أنّ المعصوم خلقه الله جبلّة صافية، وطينة نقيّة، ومزاجاً قابلاً، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي، وجعل له ألطافاً زائدة، فهو قويّ بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبّحات، والالتفات إلى ملكوت السماوات، والإعراض عن عالم الجهات، فتصير النفس الأمّارة مأسورة مقهورة في حيّز النفس العاقلة(٣) .

وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى:( إِنّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ

____________________

١ - كشف المراد: ٢٢٨، طبعة صيدا.

٢ - سيوافيك أنّ العصمة لا تنافي القدرة، والهدف من نقل قول الأشاعرة هو إثبات اتفاق القائلين بالعصمة، على أنّها موهبة إلهيّة.

٣ - اللوامع الإلهية: ١٦٩.

٣٧

عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) : إنّ الله تستمر إرادته أن يخصّكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل وأثر العمل السيّئ عنكم أهل البيت، وإيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم وهي العصمة(٢) .

إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرّح بكون العصمة من مواهبه سبحانه إلى عباده المخلصين، وفي الآيات القرآنية تلويحات وإشارات إلى ذلك مثل قوله سبحانه:( وَاذْكُرْ عَبْدَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصارِ * إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَإِنَّهُمْ عَنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيارِ * وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيارِ ) (٣) ، وقوله سبحانه في حق بني إسرائيل والمراد أنبياؤهم ورسلهم:( وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ * وَآتَيْناهُمْ مِنَ الآياتِ ما فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ) (٤) .

فإنّ قوله: ( إنّهم عندنا لمَن المصطفين الأخيار ) وقوله: ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ) يدل على أنّ النبوّة والعصمة، وإعطاء الآيات لأصحابها من مواهب الله سبحانه إلى الأنبياء، ومَن يقوم مقامهم من الأوصياء.

فإذا كانت العصمة أمراً إلهيّاً وموهبة من مواهبه سبحانه، فعندئذٍ ينطرح هاهنا سؤالان تجب الإجابة عنهما، والسؤالان عبارة عن:

١ - لو كانت العصمة موهبة من الله مفاضة منه سبحانه إلى رسله وأوصيائهم لم تعد كمالاً ومفخرة للمعصوم حتى يستحق بها التحسين والتحميد والتمجيد، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار كصفاء اللؤلؤ، لا يستحق التحسين

____________________

١ - الأحزاب: ٣٣.

٢ - الميزان: ١٦/٣١٣.

٣ - ص: ٤٥ - ٤٨.

٤ - الدخان: ٣٢ - ٣٣.

٣٨

والتمجيد، فإنّ الحمد والثناء إنّما يصحّان في مقابل الفعل الاختياري، وما هو خارج عن إطار الاختيار لا يصح أن يحمد صاحبه عليه، إذ هو وغيره في هذا المجال سواء، ولو أفيض ذاك الكمال على فرد آخر لكان مثله ؟

٢ - إذا كانت العصمة تعصم الإنسان عن الوقوع في المعصية، فالإنسان المعصوم عاجز عن ارتكاب المعاصي واقتراف المآثم، وعندئذٍ لا يستحق لترك العصيان مدحاً ولا ثواباً إذ لا اختيار له؟

والفرق بين السؤالين واضح، إذ السؤال الأوّل يرجع إلى عد نفس إفاضة العصمة مفخرة من مفاخر المعصوم؛ لأنّه إذا كانت موهبة إلهية لما صحّ عدّها كمالاً للمعصوم، بخلاف السؤال الثاني فإنّه يتوجّه إلى أنّ العصمة تسلب القدرة عن المعصوم على ارتكاب المعاصي، فلا يعد الترك كمالاً ولا عاملاً لاستحقاق الثواب.

وهذان السؤالان من أهم الأسئلة في باب العصمة، وإليك الإجابة عن كليهما.

العصمة المفاضة كمال لصاحبها

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض للأفراد إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم، تقتضي إفاضة تلك الموهبة إلى صاحبها، وأمّا ما هي تلك الأرضيات والقابليات التي تقتضى إفاضتها فخارج عن موضوع البحث، غير إنّا نقول على وجه الإجمال: إنّ تلك القابليات على قسمين: قسم خارج عن اختيار الإنسان، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره.

أمّا القسم الأوّل، فهي القابليات التي تنتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة، فإنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم، يرثون أوصافهم

٣٩

الظاهرية والباطنية، فترى أنّ الولد يشبه الأب أو العم، أو الأُم أو الخال، وقد جاء في المثل: الولد الحلال يشبه العم أو الخال.

وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الأولاد، فنرى ولد الشجاع شجاعاً، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف الجسمانية والروحانية.

إنّ الأنبياء - كما يحدّثنا التاريخ - كانوا يتولّدون في البيوتات الصالحة العريقة بالفضائل والكمالات، وما زالت تنتقل تلك الكمالات والفضائل الروحية من نسل إلى نسل وتتكامل إلى أن تتجسّد في نفس النبي، ويتولّد هو بروح طيّبة وقابلية كبيرة لإفاضة المواهب الإلهية عليه.

نعم ليست الوراثة العامل الوحيد لتكوّن تلك القابليات، بل هناك عامل آخر لتكوّنها في نفوس الأنبياء وهو عامل التربية، فإنّ الكمالات والفضائل الموجودة في بيئتهم تنتقل من طريق التربية إلى الأولاد.

ففي ظل ذينك العاملين: ( الوراثة والتربية ) نرى كثيراً من أهل تلك البيوتات ذوي إيمان وأمانة، وذكاء ودراية، وما ذلك إلاّ لأنّ العائشين في تلك البيئات والمتولّدين فيها يكتسبون جلّ هذه الكمالات من ذينك الطريقين، وعلى ذلك فهذه الكمالات الروحية أرضيات صالحة لإفاضة المواهب الإلهية إلى أصحابها ومنها العصمة والنبوّة.

نعم هناك عوامل أُخر لاكتساب الأرضيات الصالحة داخلة في إطار الاختيار وحرية الإنسان، وإليك بعضها:

١ - إنّ حياة الأنبياء من لدن ولادتهم إلى زمان بعثتهم مشحونة بالمجاهدات الفردية والاجتماعية؛ فقد كانوا يجاهدون النفس الأمّارة أشدّ الجهاد، ويمارسون تهذيب أنفسهم بل ومجتمعهم، فهذا هو يوسف الصدّيقعليه‌السلام جاهد نفسه الأمّارة

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الفصل الثالث

القرآن والغزو الثقافي

٨١

٨٢

امتزاج الحق بالباطل

في ضوء المطالب التي جرى بيانها في الفصلين المتقدمَين، وفي حدود تحقيق غاية الكتاب فقد تمّ تقديم إيضاحات موجزة عن مكانة القرآن وأهميته، ودور هذا الكتاب الإلهي، من منظار نهج البلاغة في هداية البشر نحو السعادة الكمال، والآن يتبادر هذا السؤال وهو : هل يكفي الالتزام بالأمور الآنفة الذكر لغرض الاستفادة من القرآن الكريم، والتمسك بالثقل الأكبر الذي يُعد تراثاً عظيماً للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ربّما يقال لو جرى الالتزام بكافة الأمور التي تلعب دوراً في الفهم الصحيح والاستنباط الصائب من القرآن، فمن المحتم أن تُفهم أحكام القرآن ومعارفه كما هي، وتتبلور ثقافة المجتمع على أساس توجيهات القرآن الكريم ويتحصّن الناس من الخطر في ظل الحكومة الدينية وتحت ظلال القرآن؛ لأنّ التمسك بالقرآن هو ذاته الفهم الصحيح لمعارفه والعمل على أساس التعاليم القرآنية.

بالرغم من أنّ الجواب المذكور يُعتبر إلى حدّ ما صحيحاً في حدود الهدايات الفردية للقرآن، لكن تحقّق هذا الأمر إنّما يكون حينما يُنظر إلى الدور المفترض للقرآن على مستوى عامٍ، ويُدرك موقعه في مواجهة الأفكار الضالة والمتطاولين على الثقافة الدينية.

يبدو أنّ تحكيم ثقافة القرآن وقيادة المجتمع على أساس المعتقدات والقيم الدينية لن يكون مهمةً سهلةً، بدون معرفة الأفكار الضالة لأعداء القرآن، ومواجهتهم من خلال تسليط الأضواء، وفضح مؤامراتهم أمام الملأ، وهذا أمر غالباً ما يكون محط غفلة.

٨٣

بناءً على هذا ينبغي إلى جانب العمل على فهم القرآن والعمل بتوجيهاته، أن لا يُغفل عن أعداء القرآن بأي نحو كان، فلا يتحقق التمسك بالقرآن وتحكيم هذا الكتاب السماوي إلاّ بمعرفة الأفكار الضالة المعادية للقرآن ومواجهتها.

إنّ الحق والباطل متلاصقان في مقام العمل مثل تلاصقهما في مقام المعرفة، أي أنّكم إذا ما عرفتم الحق فستعرفون الباطل أيضاً، ومعرفة الباطل تعينكم لكي تعرفوا الحق أيضاً، وفي مقام العمل يتعذر تحكيم القرآن في المجتمع بدون معرفة الأعداء والأفكار المنحرفة، والتصدي لمؤامراتهم ومكائدهم الشيطانية في إضعاف الثقافة الدينية للناس.

إنّنا وفي هذا المجال نورد في البداية كلاماً لعليعليه‌السلام في نهج البلاغة، ومن ثَمّ نقوم ببيان أساليب أعداء القرآن في تضليل الرأي العام للمجتمع لنعرّف - من خلال توضيح شبهات الملحدين - الرأي العام للناس لاسيما طبقة الشباب والمثقّفين في المجتمع بالمؤامرات الشيطانية التي يحيكها الأعداء.

إنّ معرفة الأعداء والمناهضين للقرآن والثقافة الدينية من الأهمية والحساسية بحيث يقول عليعليه‌السلام : ( وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ، فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَمَوْتُ الْجَهْلِ )(١) ، فاعلموا أنّكم لا تعرفون طريق الهداية ولا تسلكونه إلاّ أن تعرفوا الذين تخلوا عن الهداية الإلهية، ولا تتمسكون بعهد الله وهو القرآن الكريم إلاّ أن تعرفوا الذين نكثوا ذلك العهد، ولا تكونون ممّن تمسكوا بحبل الله المتين والأتباع الحقيقيين للقرآن إلاّ أن تعرفوا الذين حادوا عن القرآن واعرضوا عن هذا الكتاب الإلهي، ثمّ يقولعليه‌السلام : خذوا تفسير القرآن ومعارفه عن أهل القرآن - أهل البيت - لأنّهم هم الذين يحيون العلوم والمعارف الإلهية ويميتون الجهل.

إنّ هذا الكلام الجلي لعليعليه‌السلام المرتكز على ضرورة تمييز العدو ومعروفة الأفكار

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٤٧.

٨٤

الضالة وضرورة فضح المنحرفين، يضاعف واجب علماء الدين والقائمين على نشر العلوم والمعارف الإلهية؛ لأن إزالة الأفكار المنحرفة، وشبهات الملحدين، عن أذهان الناس، لاسيما الشباب الذين لا يتمتعون بالبنية العلمية الكافية من حيث العلوم والمعارف الدينية، من المهام الأساسية للتبليغ، وتحكيم الثقافة القرآنية والدينية وبدون ذلك لا يمكن توقّع تحقيق النتيجة المنشودة والمفترضة، ولغرض توضيح هذا الأمر نتابع البحث في ثلاثة أقسام هي : الشبهات، والأساليب، ودوافع الأعداء من إثارة الشبهات.

بالرغم من أنّ القرآن أعظم نعمة مَنَّ بها الله سبحانه وتعالى بها على عباده، ورغم أنّه تكفّل المحافظة عليه من تطاول الشياطين وذوي الأطباع الشيطانية من الناس، لكن هذه ليست نهاية القصة، فالشيطان - هذا العدو المتربص ببني آدم - يوحي بالشبهات في كل عصر وبما يتناسب مع الظروف والروح السائدة، على مَن لهم القدرة من حيث الموقع الاجتماعي بالتأثير على أفكار الناس، وفي إطار أهوائهم النفسية؛ ليجرّ عامة الناس من خلالهم خلفه، ويحرفهم عن القرآن والدين، وبما أنّ القرآن أعظم وسيلة لنجاة الناس وهدايتهم وسعادتهم، فإنّ كل ما يتمناه الشيطان ويهدف له هو فصل الناس عن القرآن والدين، ومن أحابيل الشيطان في هذا الاتجاه هو تشجيع وساوس الذين بمقدورهم خلخلة إيمان واعتقاد الناس عن طريق إثارة الشبهات حول الدين والقرآن.

لقد كان عمل الشيطان والشياطنة في مقارعة القرآن الكريم قائماً منذ بداية نزول القرآن، وقد بدأت هذه الأعمال منذ الحث على ملء الآذان بالقطن، والمنع عن الاستماع لآيات الله، وتوجيه الاتهام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والافتراء عليه وهي مستمرة الآن بصور أخرى، وسوف تستمر لاحقاً أيضاً، وفي هذا المجال نغض الطرف عن إيراد تفاصيل طريقة المواجهة مع القرآن على مر التاريخ، ولغرض تجنّب الإطناب في الحديث نحاول من خلال ذكر بعض الشبهات التي تُثار الآن في وسط المجتمع؛ لإضعاف الثقافة الدينية

٨٥

للناس، لاسيما الشباب منهم وعقائدهم؛ كي نعمل على تنوير عقول القرّاء ومنهم الشباب، كي يتسنّى لهم ومن خلال الاطلاع على هذه المؤامرات الشيطانية التصدي للغزو الثقافي الذي يشنه الأعداء.

عندما يئس الشياطين في مواجهتهم للقرآن من القضاء عليه وإفنائه قرّروا حرمان الناس من التعرف على مضمونه، فكان أعداء القرآن وعلى مدى عدة قرون يروّجون في أوساط المسلمين، لاسيما الشيعة من أنّنا ينبغي أن لا نتوقع الكثير من القرآن؛ لأنّ القرآن متعذر الفهم بالنسبة إلينا، ونحن لسنا على اطلاع بباطن القرآن، وعليه لا يمكن الاستناد إلى ظاهر القرآن.

إنّ هؤلاء وبإيحائهم بفكرة عدم قدرتنا على فهم القرآن كانوا يحاولون حرمان الناس من الانتهال من القرآن، وبالنتيجة يُخرجون القرآن من صلب حياة المسلمين، وفي هذه الأثناء بالرغم من أنّ الاحترام الظاهري للقرآن في صيغة القراءة والتقبيل وتقديسه واحترامه كان شائعاً بين المسلمين، لكن هدف الأعداء ومناهضي القرآن هو حرمان الناس من مضمون القرآن والعمل بتعاليم هذا الكتاب السماوي.

واليوم يقوم أدعياء التنوّر الفكري - الذين يفتقرون للكثير من العلوم والمعارف الإسلامية - بإثارة أكثر الشبهات إضلالاً، والمؤامرات الشيطانية التي حيكت في الغرب قبل عدة قرون حول الكتب المحرّفة لسائر الباديان، وذلك تحت عنوان الأفكار الحديثة في وسط المحافل الثقافية والعلمية للمجتمع، والتأثير على الشريحة الطلابية المتعطشة للعلم والمعرفة، التي لا معرفة لها بأسس الأفكار الباطلة والأوهام الشيطانية لهؤلاء، متوهمين أنّهم يقومون بإضعاف المرتكزات العقائدية لهذه الطبقة، غافلين عن أنّ الشعب المسلم لاسيما الشباب من الطلبة والعلماء المسلمين الواعين، سيدركون بطلان أفكارهم الخاوية الشوهاء والبعيدة عن المنطق والعقل.إنّ عقائد وأفكار وعلوم الشعب المسلم وعلماء الدين تقوم على العقل والمنطق، ونابعة من علوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة

٨٦

المعصومينعليهم‌السلام ، وتنبثق من ينبوع الوحي، وحيثما واجه مسلمٌ أفكاراً منحرفة في المجالات الفكرية والعقائدية فإنّه ينبري لطرح ذلك أمام العلماء والمختصين بالعلوم والمعارف الدينية؛ ليحصل على الجواب الصحيح والمنطقي.

شبهة عدم بلوغ حقيقة الدين

لقد أثيرت شبهة عدم إمكانية بلوغ حقيقة الدين بدوافع شيطانية للغاية، ولها من الآثار المدمرة التي لا مجال الآن للتطرّق إليها جميعاً، ونكتفي هنا بتوضيح أصل الشبهة وكشف بعض زواياها الخافية ولوازمها، ونترك الحكم إليكم.

بما أنّ بحثنا يختص بالقرآن الكريم فإنّنا نتناول هذه الشبهة بالبحث فيما يخص القرآن.

فهذه الشبهة تُثار بصور شتى ومستويات مختلفة فيما يتعلق بفهم القرآن الكريم، فتارة يقال إنّ بعض آيات القرآن الكريم لها تفسيرات مختلفة، ولا يتفق المفسّرون في آرائهم في تفسيرها وتفصيلها، ونحن مهما قمنا بالتحقيق لغرض أن نحصل على رأي صائب يكون كاشفاً عن الكلام الواقعي للقرآن، فإنّنا في النهاية سنقبل بتفسير ورأي أحد المفسّرين، ومن الطبيعي أنّ سائر المفسّرين لا يرون فيه رأي القرآن، وعليه فإنّه ليس يسيراً بلوغ الكلام الحقيقي للقرآن.

من الطبيعي أنّ مثيري هذه الشبهة يحاولون من خلال الإيحاء بالفكرة المذكورة إثارة الشكوك لدى الذين لا يتمتعون بقوة فكرية، واقتدار علمي متين، وقدرة على التحليل والإجابة، والمطالعة الكافية في المعارف الدينية، إنّ هؤلاء واستناداً لتصوراتهم الخاطئة، يعتقدون أنّ القواعد الفكرية والعقائدية للمسلمين تقوم على أساس التقليد الأعمى، وهي تتحطّم من خلال نسج هذه الأوهام، ولأنّهم يعرفون جيداً عندما يسود الفكر والعقل والمنطق فإنّ القرآن ومعارف هذا الكتاب الإلهي وحدها التي تحظى بتصديق العقل السليم، والمنطق الصحيح، ويتقبلها كل إنسان توّاق للحق صادقاً من كل

٨٧

قلبه، فقد حاولوا إثارة الشبهة المذكورة بشكل أكثر عمقاً؛ ليكونوا - حسب زعمهم - قد وجّهوا ضربةً أقوى إلى الفكر الديني، غافلين عن أنّ الواعين من علماء المسلمين وبتحليلهم لأفكار هؤلاء سيدركون الآثار واللوازم الباطلة لهذا النمط من الفكر، الذي لا مآل له سوى الانحدار في ورطة التشكيك.

على أية حال، يظهر من إثارة الشبهة المذكورة بالنحو الذي جرى بيانه، أنّ مثيري الشبهة يعتقدون أنّ القرآن ذو حقائق ثابتة، ولكن بما أنّ المفسّرين لا يتفقون بآرائهم في تفسير القرآن فإنّ أيدينا تقصر عن بلوغ الكلام الواقعي للقرآن، وعليه فليس ممكناً الاستفادة من القرآن ويجب أن نلقيه جانباً.

ولكن عندما يواجهون الآيات الصريحة والواضحة في القرآن، ويعجزون عن إيجاد تشويه في ظاهرها ومعناها الجلي، ويرون أنفسهم عاجزين أمام العقل والمنطق ومحكمات القرآن، فإنّهم يتمادون أكثر فيثيرون الشبهة بنحو آخر، ولغرض بلوغ غايتهم المتمثلة بتجريد القرآن والعقائد والقيم الدينية من شأنها، فإنّهم يبادرون إلى تغيير موقفهم بشكل كامل عن كلامهم السابق المتمثل بعدم إمكانية فهم القرآن والعلوم الدينية، فيقفون في النقطة المعاكسة تماماً، ففي موقفهم السابق كانوا يقبلون بالمعنى الذاتي والواقعي لكلام القرآن والمعارف الدينية، ويرونها بعيدةً عن متناول الإنسان، أمّا في موقفهم الجديد فهم يعتبرون القرآن والتعاليم الدينية خاليةً من الواقعية، معتبرين المعارف والتعاليم الدينية استنباطات ذهنية للناس عن الآيات ويقولون : ليس القرآن وحده بل كافة الكتب السماوية نزلت بنحوٍ يمكن معه تفسيرها بصور مختلفة، وتكون جميع تلك التفاسير المختلفة والاستنباطات المتباينة صحيحة وصائبة، فإذا ما طُرح سؤال فحتى لو كانت تلك التفاسير والاستنباطات تختلف فيما بينها إلى حدّ التناقض، فهم سيقولون إنّ الاختلاف في الاستنباطات لا يؤدي إلى حدوث مشكلة حتى لو كان بمستوى التضاد والتناقض؛ لأنّ الدين والقرآن بالأساس لم يبيّن الحقيقة، بل هو

٨٨

ألفاظ وقوالب فارغة ألقيت على النبي باسم الوحي الإلهي، وكل مَن يرجع إليها يتداعى أمر ما في ذهنه !! وما يتداعى هو فهم الإنسان نفسه، وبما أنّ البشر يمتلكون عقولاً متباينة ففي النتيجة تكون الأفهام متباينةً أيضاً، فالدين هو تلك الأفهام المتباينة للناس عن ألفاظ القرآن وآياته والتعاليم الدينية، وحيث إنّ القرآن والتعاليم لا تكشف عن أية حقيقة فإنّ الأفهام المتباينة عنها ليست قابلةً للتصديق والتكذيب، فالأفهام جميعها محقة ومحكومة بالصحة والصدق؛ لأنّ القرآن لا يكشف عن حقائق ثابتة يتطابق معها أحد الأفهام والتفسيرات.

لقد تمادى ناسجو الأوهام لنظرية الصُرط المستقيمة أو القراءات المتعددة للدين أيضاً أكثر من هذا؛ ولغرض أن يوجّهوا ضربةً إلى أصل الدين وأساسه - أي الوحي - فإنّهم يقولون : ليس الإنسان وحده لا يدرك حقيقةً ثابتةً عن القرآن والوحي الإلهي وإنّ كل إنسان يقدّم ويفسّر أفكاره تحت عنوان الوحي، بل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً وبسبب ما يتميز به من صفة بشرية قد طرح فهمه وإدراكه واستنباطه للناس على أنّه وحي.

وعليه؛ فإنّ فهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بدوره فهم شخصي، يتناسب مع عقليته وظروفه الخاصة الزمانية والمكانية، طرحها بصيغة ألفاظ وآيات، وبناءً على هذا لا يمكن اعتبار القرآن كلام الله ووحيه، بل ينبغي القول أنّ القرآن الكلام النبي.

لابدّ أنّكم ستسألون : ما الذي يجب صنعه مع آيات من قبيل :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ‏* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١) أو :( تَنزِيلٌ مِن رَبّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (٢) ؟ يقول أنصار هذه النظرية في الإجابة : هذه المضامين استنباط وفهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً وتكشف عن أحاسيسه.

من البديهي أنّ مثل هذه النظرية لا مصير لها سوى الوقوع في ورطة التشكيك ،

____________________

(١) النجم : ٣ و٤.

(٢) الحاقة : ٤٣ - ٤٦.

٨٩

وإنكار الحقيقة وتجاهل العقل والمنطق والتلاعب بالألفاظ، فسيقول الموحون بهذه الفكرة في مواجهة أجلى المعاني وأوضح المفاهيم : إنّ هذا إحساسكم وفهمكم ولا ينم عن أية حقيقة سوى أفكاركم، وعليه فإنّه جيد ومحترم بالنسبة إليكم، لكنّه لا وزن ولا شأن له بالنسبة للآخرين !

على أية حال يبدو أنّ إشاعة مثل هذه الرؤية إزاء الدين والقرآن تُعد من أكثر الأساليب والمصائد الشيطانية تطوراً، التي حيكت لحد الآن؛ لإغواء وخداع بني آدم.

التلقين والتكرار سلاح مهم لدى الشياطين

إنّ أحد أساليب الشياطين لإغواء البشر هو إصرارهم وتأكيدهم على الوسوسة لبني آدم، والتسلل إلى أفكارهم وعقولهم؛ ولهذا السبب يذكّرهم القرآن بصفة الوسواس الخناس، ويرشد الناس للاستعاذة بالله من شر شياطين الإنس والجن؛ لأنّ الشياطين تعمل بوسوستها ودس الأوهام في قلب الإنسان، لأن تُخضع قلب الإنسان لسيطرتها، وتسيّر أفكاره في منعطفات السقوط والضلال.

إنّ الشياطين وذوي الأطباع الشيطانية من الناس يعلمون بأنّ عليهم الثرثرة والكتابة والتكرار من أجل؛ دس الأوهام الشيطانية في عقول عباد الله، ليجعلوا العقول تأنس أوهامهم الباطلة، ليتسللوا بالتدريج في أذهان الناس وعقولهم، وهم بأنفسهم يقولون : ينبغي التكلّم والكتابة والتكرار إلى الحد الذي يصاب الناس معه بالشك والتردّد.

إنّهم واستلهاماً من إبليس يعملون بالدرجة الأُولى على إغواء وتضليل الطبقة المثقفة والطلابية؛ لأنه - وحسب تصورهم - يستطيعون بيسر إضلال عامة الناس بخداعهم لهذه الطبقة، غافلين عن أنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل مشاعل زاهرةً لهداية المسلمين لاسيما الشيعة، وبلطف من الله واستلهاماً من علوم ومعارف هؤلاء سيطلع

٩٠

المسلمون على الأحابيل الشيطانية للأعداء؛ ويغدون أشدّ نباتاً وصلابةً يوماً بعد يوم في اتّباعهم للقرآن.

الاستناد إلى المتشابهات، أسلوب آخر في مواجهة القرآن

لقد تقدمت الإشارة إلى أنّ أحد شؤون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين (عليهم السلام) هو، تفسير وبيان الوحي الإلهي، فيما أنّ القرآن ذو محكمات ومتشابهات، وكما تقدمت الإشارة آنفاً أنّ له ظاهراً وباطناً، فليس متيسراً الوصول إلى عمق معارفه إلاّ للنبي والأئمة المعصومين والعارفين بالعلوم الإلهية وتفسيرها وبيانها، لا يقوى عليه سوى المتعلّمين في مدرسة أهل البيت.

بناءً على هذا وطبقاً لحكم العقل ومنهج العقلاء القائم على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فلا سبيل لفهم القرآن ومعارف الدين، سوى الرجوع إلى مَن جاء بهذا الكتاب الإلهي والأئمة المعصومينعليهم‌السلام والدارسين في مدرستهم، لكن ليس الأمر أنّ جميع الناس يقتفون المنهج العقلائي، أو أنّهم يرون أنفسهم ملتزمين بالعقل والمنطق والمبادئ المنطقية في الفهم والتفهيم والتفهّم، فهنالك أناس يعملون فقط من أجل إضلال الناس، ولا هدف لهم سوى إثارة الشبهة والفتنة في المجتمع، وقد عني القرآن بهذا الأمر أيضاً :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الأَلْبَابِ ) (١) لقد قسّمت هذه الآية القرآن الكريم إلى قسمين : محكمات ومتشابهات، ووصفت المحكمات ب- ( أُمُّ الْكِتَابِ ) فبعض القرآن آيات محكمات تمثّل الأم والأصل للقسم الثاني أي المتشابهات.

____________________

(١) آل عمران : ٧.

٩١

إنّ محكمات القرآن عبارة عن الآيات الواضحة معانيها، ومعارفها لا تقبل الشك، وهذه الآيات تمثّل أصول وأُمّهات معارف القرآن، فمعيار وملاك صحة وعدم صحة المعارف الدينية هي المحكمات وأُمّهات القرآن، وفي المقابل هنالك آيات ليس ممكناً فهمها دون الاستعانة بالمحكمات، وليس للجميع إدراك عمق معانيها، ويعبّر عن هذه الطائفة من آيات القرآن بالمتشابهات.

لقد نهى القرآن الناس عن اتّباع المتشابهات بدون الاستعانة بالمحكمات وبتفسير وبيان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، فالقرآن الكريم يعتبر اتّباع المتشابهات دليلاً على انحراف القلب، ويصرّح بأنّ الذين يجعلون متشابهات القرآن ملاكاً لفكرهم وفهمهم وعقائدهم، إنّما يسعون وراء الفتنة وتأويل القرآن وتحريفه، وبتصريح القرآن لا يعلم تأويل وتفسير الآيات المتشابهة إلاّ الله والراسخون في العلم والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، والراسخون في العلم هم الذين تقبّلوا العبودية لله بكل كيانهم قائلين : آمنا بالقرآن محكماته ومتشابهاته كلّ من عند ربنا.

الحكمة من وجود المتشابهات في القرآن

هنا ربّما يتبادر هذا السؤال وهو، لماذا لم ينزل القرآن بنحو تكون جميع آياته بيّنةً ومحكمةً بعيدة عن أي إبهام وإجمال؛ لتكون يسيرة الفهم والفائدة للجميع على حد سواء ؟

للإجابة على هذا السؤال نورد في البداية مقدمةً موجزة : إنّ عقلنا نحن العاديين من الناس تابع للعوامل الطبيعية، فعندما يولد الناس العاديون يتعرفون على الحسيات في البداية عن طريق الحواس، وفي البداية يتبلور فهمهم وإدراكهم في حدود المحسوسات والماديات، لكن القوى الفكرية للإنسان تنمو تدريجياً، وتحصل شيئاً فشيئاً على القدرة على التجريد، وبالنتيجة تحصل لديه القابلية على إدراك الأمور ما فوق المادية، فكلما

٩٢

تمتع عقل الإنسان بالمزيد من النمو وقوة التجريد، وخرج عن أجواء المادة والماديات، فهو يدرك أفضل بنفس هذا المستوى حقائق ما وراء الطبيعة، وبما أنّ جميع الناس ليسوا سواء من حيث النمو العقلي، فهم لا يكونون سواء أيضاً في إدراك الأمور غير المحسوسة، فليسوا قلّةً الناس الذين تمضي عشرات السنين من أعمارهم، لكن فهمهم وإدراكهم يبقى بمستوى فهم وإدراك الأطفال في السابعة أو الثامنة من العمر، وربّما يمضي عمرهم وهم ما يزالون يتصورون لله والمجردات زماناً ومكاناً؛ لأنّ فهمهم وقابليتهم وقدرتهم على التعقّل، وقابليتهم العقلية بقيت في حدود الماديات، في حين أنّ أساس الدين هو الإيمان بالغيب، أي الإيمان بالحقائق المجردة وغير المادية، يقول القرآن:( ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) (١) .

بناءً على هذا؛ إنّ أساس الإيمان هو أن يؤمن الإنسان بحقائق غير محسوسة ويعتقد بها، ولكن ما هي حقيقة وكنه تلك الحقائق ؟ إنّه أمر ليس ممكناً إدراكه إلاّ بالإلهامات الإلهية التي تنزل على قلوب الأنبياء والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، ونحن البسطاء من الناس لا سبيل أمامنا لإدراك نفحة من أمور ما وراء الطبيعة وحقيقتها إلاّ بترصين قوانا العقلية والعبور التدريجي من المحسوسات إلى المجردات وأمور ما وراء الطبيعة.

من ناحية أخرى أنّ الألفاظ التي تُستخدم في دائرة المجردات غالباً ما وضعت من أجل المعاني المحسوسة :( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (٢) أو :( هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (٣) فمفردات فوق، على، عالي وعلو إنّما تعني جميعها العلو في مقابل الأسفل والداني، من البديهي أنّ الإنسان لا يدرك في البداية من هذه المفردات معنىً أوسع من المعنى الحسي، فالإنسان مثلاً يضع رأسه ملاكاً للعلو، وكل ما يقع بمستوى الرأس ويرتفع نحو السماء يعتبره عالياً، ويجعل من قدمه ملاكاً للداني وكل ما هو أدنى منه يعتبره

____________________

(١) البقرة : ٢ و ٣.

(٢) الشورى : ١١.

(٣) الشورى : ٤.

٩٣

دانياً، ولهذا السبب يقول إنّ السماء عالية والأرض، واطئة وبدخوله إلى الحياة الاجتماعية يخرج تدريجياً عن هذه المعاني الحسية فيدرك المعنى غير الحسي والانتزاعي لها، أي عندما يقال إنّ فلاناً مقامه عالياً أو ارتفع، لا يدرك الإنسان من هذه المفردة ذلك المعنى الحسي لِما هو أعلى من الرأس، ولا يتداعى لديه من الهبوط ذلك المعنى الحسي للكلمة.

من الطبيعي أنّ المعنى المراد في مثل هذه الاستخدامات قد جُرّد من اللوازم المادية والمحسوسة، فعندما يقال إنّ الذي يخلق الكون بأجمعه بإرادة واحدة منه له مقام عالٍ جداً، فإنّ العلوّ الذي يُنسب إلى الباري تعالى أكثر مدى إلى ما لا نهاية من ذلك العلو الذي يُنسب إلى رئيس إزاء مَن هم تحت يديه، والفارق بينهما كالمسافة بين الصفر وبين ما لا نهاية، وكالمسافة بين الحقيقة والمجاز؛ لأنّ كل علو وشأن اعتباري إنّما هو عارية وزائل ما خلا العلو الحقيقي الذي هو جديرٌ بالله خالق الكون وله وحده فهو الذي :( إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

وعلى هذا الأساس حين يقول القرآن :( هو العليُّ العظيمُ ) (٢) فليس المراد هو العلو المادي والمحسوس لله، ولا المراد من عظمته العِظم والكبر المادي والمحسوس، وأمّا ما هي حقيقة علو وعظمة الله ؟ فهي مسألة لا تبلغها عقول البشر، وطبعاً في الكثير من الحالات لا يوجد لفظ آخر غير الألفاظ التي تُستخدم للمعاني الحسيّة، ولا مناص من استخدام تلك الألفاظ للتعبير عن المعاني المجرّدة كقوله مثلاً :( هو العليُّ العظيم ) ، فالعلو هو اللفظ الذي يُستخدم للإشارة إلى علو السقف بالنسبة إلى الأرضية، والعظيم هو اللفظ الذي يُستخدم للإشارة إلى جبل دماوند، ولكن حينما تُستخدم هذه الألفاظ بشأن الله فهي تُجرّد من معانيها الحسيّة، ومن الطبيعي أنّ الأمر ليس بذلك النحو بحيث يودّي تجريدها إلى التوصّل إلى حقيقتها.

____________________

(١) يس : ٨٢.

(٢) البقرة : ٢٥٥.

٩٤

يقال إنّ الألفاظ والمعاني التي يحصل التوصّل إلى حقيقتها عن الطريق المذكور، تتّصف بنوع من التشابه الباعث على الإبهام والمغالطة، فمَن لم يتمكّن حتى الآن من تجريد المعاني المذكورة من الشوائب والمتعلّقات الحسية، عندما يوصف الله ب- ( العليّ ) يتوهّم أنّ الله فوق السموات، في حين أنّ الله ليس بجسمٍ حتى يُتصوّر له مكان :( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) (١) لكنّه لا يفهم أكثر من ذلك، ومن الطبيعي أنّه غير مكلّف بأكثر ممّا يفهم؛ لأنّه لا طاقة له على ما هو أكثر من ذلك.

وأمّا مَن تجاوز هذه المرحلة، وغدت لديه مقدرة أكثر على الفهم، وأضحى يدرك المعاني الاعتبارية، عندما يقال( إنّ اللهَ عليٌ عظيمٌ ) يظنّ أنّ علو الله يشبه علو ورفعة مرتبة الرئيس بالنسبة إلى مَن هم تحت إمرته، ولكن أين هذا المعنى من علو الله ؟!

إنّ مَن أمضى عمره في اكتساب العلم والحكمة وإدراك المعاني المجرّدة يفهم من العلو معنىً أبعد من المعاني المذكورة، ويقول إنّ لله علواً وجودياً على ما سواه.

إنّ لكل المخلوقات وجوداً، ولله وجوداً أيضاً، ولكن لا يمكن مقارنة وجود الله تبارك وتعالى مع الموجودات الأخرى من حيث علو المرتبة الوجودية، ولكن ما هي حقيقة هذا العلو ورفعة المرتبة الوجودية ؟ إنّه أمر يستطيع كل شخص الاقتراب منه على قدر فهمه، وإن كان إدراك كنهه لا يتيسّر لأحد.

والآن في ضوء التوضيح المذكور، نقول : إنّ الله عندما يريد أن يتحدث لنا نحن بني الإنسان، عن أمور تفوق فهمنا العادي، فهو يستخدم ألفاظاً يمكننا عند التأمّل فيها إدراكها على قدر فهمنا، وإن كانت هذه المعاني تفوق فهمنا، ففي مثل هذه الحالات لابدّ من استخدام ألفاظ متشابهة.

على هذا الأساس فإنّ الآيات التي تتحدث عمّا وراء الطبيعة وتفوق فهم الناس العاديين، لابدّ أن تنطوي لا إرادياً على مرتبة من التشابه، ولابدّ من الاستعانة بالمحكمات للاقتراب من حقيقتها، مثلاً عندما يقول القرآن :( هو العليُّ العظيمُ ) (٢) ولا

____________________

(١) البقرة : ١١٥.

(٢) الشورى : ٤.

٩٥

ندرك حقيقة وكنه علو المرتبة الوجودية وحقيقة عظمة الله، لابدّ عند ذاك من تفسيرها عبر الاستعانة بمحكمات القرآن مثل قوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (١) ؛ لكي لا نقع في سوء الفهم وخطأ التفسير.تقول الآية الأُولى إنّ الله عليُّ عظيم، فيما تصرّح الآية الثانية أنّ الله لا مثيل له ولا نظير، أي مهما تصورتم من العلو والعظمة لله تعالى فإنّكم لم تدركوا علوّه وعظمته؛ لأنّ الله فوق كل ذلك.

وهكذا الحال بالنسبة إلى صفات الله أيضاً، فحينما يقال إنّ الله عالم، الله قادر، فمن البديهي أنّ حقيقة علم الله تعالى تفوق وتختلف عن ذلك المعنى، الذي يتبلور في الذهن عن الإنسان من خلال إدراكه للصور الذهنية، وأمّا حقيقة علم أو قدرة الله، وبشكل عام حقيقة أوصاف الله، فهو موضوع ليس ممكناً فهمه إلاّ لله الذي تعتبر ذاته عين العلم وعين الحياة والقدرة.

لقد استخدم الله تعالى - من أجل إرشاد الناس إلى ذاته والى صفاته الإلهية - ذات الألفاظ التي يدرك الناس منها ابتداءً تلك المعاني الحسية؛ لكي ينتفع الناس من تلك المعارف السامية ولو قليلاً.

بناءً على هذا، فإنّ وجود الآيات المتشابهة في القرآن من الحكم الإلهية، التي لولاها لانغلق كلياً أمام الإنسان سبيل إدراك المعاني والمعارف المجرّدة وغير المحسوسة، بيد أنّ استخدام المتشابهات وتفسيرها وتبيينها - كما أشرنا سابقاً - يجب أن يأتي من خلال الاستعانة بالمحكمات، لكن الأمر ليس بالشكل الذي ينتهجه كل مَن يبتغي فهم القرآن ومعارفه، المسار المنطقي والعقلاني والطبيعي المشار إليه آنفاً لغرض فهم المعارف الإلهية، ففي الآية موضوع البحث يشير تعالى إلى وجود آيات متشابهات ومحكمات في القرآن، ويقول وأمّا الذين( فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ ) (٢) المصابون بداء روحي وقلبي وانحراف فكري، أو بعبارة أخرى( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) (٣) يجعلون الآيات

____________________

(١) الشورى : ٧.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) البقرة : ١٠.

٩٦

المتشابهات ملاكاً لفكرهم وعملهم، ويحملون الآيات المتشابهات من القرآن الكريم على معاني حسيّة بدون الالتفات إلى الآيات المحكمات، ويوفّرون بذلك دواعي ضلالهم وضلال غيرهم.

مزج الحق والباطل، سلاح آخر بيد المنحرفين

من الطبيعي أنّ مَن يريدون مجابهة الدين والقرآن والمعارف والقيم الدينية في أوساط المجتمع الإسلامي، لا يتّبعون أبداً أسلوب المجابهة المباشرة لتحقيق أغراضهم؛ لأنّهم يعلمون جيداً بأنّهم في مثل هذه الحالة سيواجهون معارضةً عامّة من قِبل أبناء الشعب المسلم، وسيفشلون في الخطوة الأُولى، إنّهم يستخدمون الأساليب النفسية الأساسية والمناسبة من أجل تحقيق أهدافهم الشيطانية.

إنّ أحد أساليبهم مزج الحق والباطل، فهم يمزجون الحق والباطل، وينشرون مزيجاً من كلام الحق والباطل ببيان جميل؛ لكي يتلقّى المخاطبون - الذين لا يملكون أحياناً الوعي والخُبرة اللازمة للتمييز بين كلام الحق من الباطل - كلامهم بالقبول، لكي يلقون بالنتيجة في ذهن السامع الغافل الكلام الباطل المزيّن بثوب الحق، والمخفي تحت نقاب من البيان الأدبي الجميل.

قال الإمام عليعليه‌السلام : ( فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى )(١) .

من الطبيعي أنّ المنحرفين ومَن يعبّر عنهم القرآن بأنّ قلوبهم ونفوسهم في ضيق وغير مستعدّين للخضوع لله، يجعلون الآيات المتشابهة والروايات المشكوك في

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٥٠.

٩٧

سندها أو المتشابهة الدلالة، على رأس عملهم ونشاطهم الإعلامي المضاد للإسلام، ويتهرّبون من الاستماع إلى الكلام الحق والمعارف الإلهية، المنقولة بأسناد معتبرة عن لسان أهل البيت والأئمة المعصومينعليهم‌السلام .

إنّ هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أحياناً مسلمين، إنّما يصطفّون عن علمٍ أو عن جهل إلى جانب المعاندين للإسلام؛ وذلك لأنّهم يهدفون أيضاً إلى أن ينسبوا إلى الإسلام زوراً نقاط ضعف زائفةً، ويحاولون من خلال تضخيمها تقليل رغبة الناس الذين لديهم نزوع إلى الحق ممّن لم يعتنقوا الإسلام بعد، والكلام في هذا الكتاب غير موجّه إلى الملحدين والأعداء من غير المسلمين، وإنّما هو موجّه إلى مَن يعتبرون أنفسهم مسلمين.

ومن الممكن طبعاً أن يختلق هؤلاء تبريرات لأنفسهم؛ من أجل عدم الإصغاء إلى صوت الحق، والتمرّد على الانقياد للعقل والمنطق، من قبيل ما أشرنا إليه في مجال القراءات وأنواع الفهم المختلف للدين، ويصرّون على موقفهم دون الالتفات إلى النتائج التي تتمخّض عن كلامهم، وسنترك في هذا الفصل الحكم للقرّاء الكرام حول تلك التبريرات ومآل الفكرة الآنفة الذكر.ولكنّنا ندعوهم - انطلاقاً من الحرص على مصلحتهم وما فيه خيرهم - إلى إعادة النظر في معتقداتهم وأفكارهم وإيمانهم، مثلما يدعو القرآن المؤمنين إلى حثّ بعضهم على التفكير والتعقّل والصلاح والهداية، وتذكير بعضهم الآخر بالحق.

القراءات المختلفة، حربة لمجابهة القرآن

سطّرنا في الفصول السابقة من هذا الكتاب نبذةً موجزة عن عظمة وخصائص أكبر النعم التي تفضل بها الله على عباده، أَلا وهو القرآن الكريم، ومرّ علينا أيضاً أنّ الله تبارك وتعالى قد أنزل القرآن الكريم بواسطة أشرف الملائكة وهو جبرئيل الأمين ،

٩٨

على أعز خلقه، وهو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لكي يكون بين يدي الإنسان، ولكي يضمن الإنسان سعادته الدنيوية والأخروية، من خلال التعرّف والالتزام بتعاليم وإرشادات هذا الكتاب السماوي في حياته الفردية والاجتماعية.

لقد ركّزت بعض كلمات الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة على ضرورة التمسّك بالقرآن الكريم؛ لاجتناب الفتنة والضلال، ومعالجة المآسي والمشاكل الفردية والاجتماعية، وقيل أيضاً إنّ تفسير وبيان القرآن بما يعنيه من بيان أحكام القرآن الكريم، وشرح تفاصيل المسائل والواجبات الدينية من صلاحية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام فقط، وجرى أيضاً توضيح هذا المعنى وهو أنّ تفسير القرآن خارج إطار الأحكام والواجبات الدينية، وشرح معارفه للآخرين يدخل فقط ضمن صلاحية المتخصصين وعلماء الدين والعارفين بعلوم القرآن وأهل البيت، وقلنا إنّ العلماء الذين أمضوا أعمارهم في فهم معارف الدين وعلوم أهل البيت، هم وحدهم القادرون على التمييز بين متشابهات ومحكمات القرآن، ويمكنهم من خلال الاستعانة بالمحكمات وروايات أهل البيتعليهم‌السلام ، تفسير متشابهات القرآن وبيان معارفه للناس؛ لكي يتسنّى لهؤلاء الناس اتخاذ ذلك قاعدةً لحركتهم الفكرية، وجعله مثالاً عملياً لتكاملهم الفردي والاجتماعي، وتلبية الدعوة الإلهية :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ‏ِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (١) وتوفير الأرضية لفلاحهم.

وفي المقابل أشرنا إلى أنّه كان هناك منذ القدم مَن يحاولون إبعاد الناس عن القرآن بالهواجس والوساوس الشيطانية، ولكي يحقّق هؤلاء الأشخاص أهدافهم فهم يحاولون وبأساليب تخيّلية الإيحاء بأنّ القرآن متعذّر فهمه، وبالنتيجة ينبغي أن لا نرجو من القرآن أن يوجّهنا ويرشدنا في الحياة، وقلنا إنّ هذه الشبهة الشيطانية كانت مثارةً على مدى التاريخ بصور شتّى، وقد بلغت اليوم ذروتها بشكلها المتكامل، وغدت

____________________

(١) الأنفال : ٢٤.

٩٩

تُطرح بأنماط جديدة، حتى بات معارضو القرآن والثقافة الدينية اليوم يطرحون خيالاتهم أحياناً على شكل نظرية، مفادها أنّ ( لغة الدين لغة خاصّة)؛ لكي يخدعوا بهذه الطريقة من ليس لديهم وعياً كافياً بالعلوم والمعارف الدينية، وعندما يُسألون عن مرادهم من القول بأنّ ( لغة الدين لغة خاصة )، يقولون عند الإجابة عن هذا السؤال بأنّ التعاليم الدينية والقرآن عبارة عن ألفاظ وقوالب، يشكّل محتواها أفهام وذهنيات الناس أنفسهم، ومن الطبيعي أنّ هؤلاء الأشخاص ينتقون عادةً عبارات أدبية، وينشدون الأشعار الحماسية، ويطرحون من خلال ذلك نظريتهم بنحو لا يفهم المرء هدفهم ومقصودهم بسهولة، لأنّه سيدرك حينذاك خواء كلامهم.

يبدو أنّ التفكير المذكور الذي يُطرح تارةً تحت عنوان ( الصُرط المستقيمة )، ويُطرح تارةً أخرى تحت عنوان ( الأفهام، والقراءات، والتفاسير المختلفة للدين )، وقد يُطرح ثالثةً في قالب نظريات ( لغة الدين ) أو ( الدين الأقلّي والأكثري )، لا يستهدف إلاّ مجابهة المعتقدات الدينية والفكر التوحيدي، ولا يخفى على المطّلعين، بأنّ المتديّنين وخاصّة المفكرين المسلمين النابهين أوعى من أن لا يدركوا بُعد كلام هؤلاء عن العقل والمنطق، أو أن يجهلوا الأهداف الخفية لمَن يروّجون لهذه الشبهات الواهية.

دافع وهدف المعارضين للثقافة الدينية من وجهة نظر القرآن

وفي ضوء ما سبق عرضه من الموضوعات يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال وهو، ما الهدف الذي يسعى إليه المعارضون، من وراء اتّباع هذه الأساليب الشيطانية في مجابهة القرآن والثقافة الدينية للشعب ؟ ولغرض الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أوّلاً تسليط الضوء على رأي القرآن، ثمّ نأتي بعد ذلك على شرح كلام الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة حول هذا الموضوع.

يُفهم من القرآن بأنّه منذ أَوائل نزوله انبرى الشيطان وسخّر كل طاقاته محاولاً

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321