عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم17%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132435 / تحميل: 8881
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وألجمها بأشدّ الوجوه عندما راودته مَن هو في بيتها( وَغَلَّقَتِ الأبوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَك ) فأجاب بالرد والنفي بقوله:( مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ) (١) .

وهذا موسى كليم الله وجد في مدين امرأتين تذودان واقفتين على بعد من البئر، فقدم إليهما قائلاً: ما خطبكما فقالتا: إنّا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، وعند ذلك لم يتفكّر في شيء إلاّ في رفع حاجتهما، ولأجل ذلك سقى لهما ثم تولّى إلى الظل قائلاً:( رَبّ إِنّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (٢) ،(٣)

وكم هناك من شواهد تاريخية على جهاد الأنبياء وقيامهم بواجبهم إبّان شبابهم إلى زمان بعثتهم التي تصدّت لذكرها الكتب السماوية وقصص الأنبياء وتواريخ البشر.

فهذه العوامل، الداخل بعضها في إطار الاختيار والخارج بعضها عن إطاره أوجدت قابليات وأرضيات صالحة لإفاضة وصف العصمة عليهم وانتخابهم لذلك الفيض العظيم، فعندئذ تكون العصمة مفخرة للنبي صالحة للتحسين والتبجيل والتكريم.

وإن شئت قلت: إنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ومستقبل أمرهم، ومصير حالهم وعلم أنّهم ذوات مقدّسة، لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرّية واختيار، وهذا العلم كافٍ لتصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم بخلاف مَن يعلم من حاله خلاف ذلك.

____________________

١ - يوسف: ٢٣.

٢ - القصص: ٢٣ - ٢٤.

٣ - لاحظ قصة موسى في دفعه القبطي المعتدي على إسرائيلي في سورة القصص الآيات: ١٥ - ٢٠ وفي ذلك يقول: ( ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين ) (القصص: ١٧).

٤١

يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ الله سبحانه خلق بعض عباده على استقامة الفطرة، واعتدال الخلقة، فنشأوا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة، وإدراكات صحيحة ونفوس طاهرة، وقلوب سليمة، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل أعلى وأرقى لطهارة داخلهم من التلوّث بألواث الموانع والمزاحمات، والظاهر أنّ هؤلاء هم المخلصون ( بالفتح ) لله في مصطلح القرآن، وهم الأنبياء والأئمّة، وقد نصّ القرآن بأنّ الله اجتباهم، أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته، قال تعالى:( وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١) وقال:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢) ،(٣) .

وهذه العبارة من العلاّمة الطباطبائي تشير إلى القسم الثاني وهو القابليات الخارجة عن اختيار الأنبياء غير أنّ هناك أُموراً واقعة في اختيارهم كما عرفت، فالكل يعطي الصلاحية لإفاضة الموهبة الإلهية على تلك النفوس المقدّسة.

كلام السيّد المرتضى

إنّ للسيّد المرتضى كلاماً في الإجابة عن هذا السؤال نأتي بنصّه:

فإن قيل: إذا كان تفسير العصمة ما ذكرتم فألاَّ عَصَمَ الله تعالى جميع المكلّفين وفعل بهم ما يختارون عنده الامتناع من القبائح ؟

قلنا: كل مَن علم الله تعالى أنّ له لطفاً يختار عنده الامتناع من القبائح فإنّه لا بد أن يفعل به وإن لم يكن نبيّاً ولا إماماً؛ لأنّ التكليف يقتضي فعل اللطف على

____________________

١ - الأنعام: ٨٧.

٢ - الحج: ٧٨.

٣ - الميزان: ١١/١٧٧.

٤٢

ما دلّ عليه في مواضع كثيرة غير أنّه لا يمتنع أن يكون في المكلّفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فعل، اختار عنده الامتناع من القبيح، فيكون هذا المكلّف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف، وتكليف مَن لا لطف له يحسن ولا يقبح وإنّما القبيح منع اللطف في مَن له لطف مع ثبوت التكليف(١) .

وحاصل ما أفاده هو: أنّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل فكل مَن علم سبحانه أنّه لو أُفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح، فعندئذ تفاض عليه العصمة، وأن لم يكن نبيّاً ولا إماماً، وأمّا مَن علم أنّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع من القبيح لما أُفيضت عليه العصمة؛ لأنّه لا يستحق الإفاضة.

وعلى ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تُفاض لمَن يعلم من حاله أنّه ينتفع منها في ترك القبائح عن حرية واختيار.

ولأجل ذلك يعد مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ولا يلزم أن يكون المعصوم نبيّاً أو إماماً، بل كل مَن ينتفع منها في طريق كسب رضاه سبحانه تُفاض عليه.

إلى هنا تمّت الإجابة على السؤال الأوّل، وبقيت الإجابة على السؤال الثاني، وإليك ذلك:

هل العصمة تسلب الاختيار ؟

ربّما يتخيّل أنّ المعصوم لا يقدر على ارتكاب المعصية واقتراف المآثم، فالعصمة تسلب القدرة والاختيار عن صاحبها، وعند ذاك لا يُعد ترك العصيان مكرمة.

____________________

١ - أمالي المرتضى: ٢/٣٤٧ - ٣٤٨، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

٤٣

وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى:

ما حقيقة العصمة التي يُعتقد وجوبها للأنبياء والأئمّة:؟ وهل هي معنىً يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية، أو معنى يضام الاختيار ؟ فإن كان معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية، فكيف يجوز الحمد والذم لفاعلها ؟ وإن كان معنىً يضامّ الاختيار فاذكروه، ودُلّوا على صحّة مطابقته له(١) .

والجواب: أنّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الإنسان بأيّ معنى فُسّرت، سواء أقلنا بأنّها الدرجة العليا من التقوى، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي، أو أنّها أثر الاستشعار بعظمة الرب والمحبّة لله سبحانه، وعلى كل تقدير فالإنسان المعصوم مختار في فعله، قادر على كلا طرفي القضية من الفعل والترك، وتوضيح ذلك بالمثال الآتي:

إنّ الإنسان العاقل الواقف على وجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك المنزوعة من جلدها، لا يمسّها كذلك، كما أنّ الطبيب لا يأكل سؤر المجذومين والمسلولين لعلمهما بعواقب فعلهما، وفي الوقت نفسه يرى كل واحد منهما نفسه قادراً على ذلك الفعل، بحيث لو أغمض العين عن حياته وهيّأ نفسه للمخاطرة بها، لفعل ما يتجنّبه، غير أنّهما لا يقومان به لكونهما يحبّان حياتهما وسلامتهما.

فإن شئت قلت: إنّ العمل المزبور ممكن الصدور بالذات من العاقل والطبيب، غير أنّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة، وليس صدوره محالاً ذاتياً وعقلياً، وكم من فرق بين المحالين، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات، غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح بخلاف الثاني فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات، فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتي.

____________________

١ - أمالي المرتضى: ٢/٣٤٧.

٤٤

وإن شئت فلاحظ صدور القبيح منه سبحانه فإنّ صدوره منه أمر ممكن بالذات، داخل في إطار قدرته فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار الجحيم والعاصي في نعيم الجنّة، غير أنّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة ومبايناً لما وعد به وأوعد عليه، وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل عن الإنسان مع التحفّظ على الأغراض والغايات، لا يكون دليلاً على سلب الاختيار والقدرة.

فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا، حسب ما أُعطي من القدرة والحرية، غير أنّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى واكتساب العلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي واستشعاره بعظمة الخالق، يتجنّب عن اقترافها واكتسابها، ولا يكون مصدراً لها مع قدرته واقتداره عليها.

ومثلهم في ذلك المورد كمثل الوالد العطوف الذي لا يقدم على قتل ولده، ولو أُعطيت له الكنوز المكنوزة والمناصب المرموقة ومع ذلك فهو قادر على قتله، بحمل السكين والهجوم عليه وقطع أوردته، وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائي:

إنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية، ولا يخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار كيف ؟ والعلم من مبادئ الاختيار، ومجرّد قوّة العلم لا يوجب إلاّ قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه فإنّه يمنع باختياره من شربه قطعاً، وإنّما يضطرّ الفاعل ويجبر إذا أخرج المجبر أحد طرفي الفعل والترك من الإمكان إلى الامتناع.

ويشهد على ذلك قوله:( وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ * ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَو أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا

٤٥

يَعْمَلُونَ ) (١) تفيد الآية أنّهم في إمكانهم أن يشركوا بالله وإن كان الاجتباء أو الهدى الإلهي مانعاً من ذلك، وقوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (٢) ، إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وإرادته، ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

ولا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى وتصرّح به الأخبار من أنّ ذلك من الأنبياء والأئمّة بتسديد من روح القدس، فإنّ النسبة إلى روح القدس، كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان، ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله، فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلاً صادراً عن فاعله مستنداً إلى اختياره وإرادته فافهم ذلك.

نعم هناك قوم زعموا أنّ الله سبحانه إنّما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره وإرادته، بل من طريق منازعة الأسباب ومغالبتها بخلق إرادة، أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان، فيمنعها عن التأثير أو يغيّر مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده، كما يمنع الإنسان القوي الضعيف عمّا يريده من الفعل بحسب طبعه.

وبعض هؤلاء - وإن كانوا من المجبّرة - لكنّ الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا وأشباهه: أنّهم يرون أنّ حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه إنّما هي في حدوثها، وأمّا في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب، إلاّ أنّه لما كان أقدر وأقوى من كل شيء كان له أن يتصرّف في

____________________

١ - الأنعام: ٨٧ - ٨٨.

٢ - المائدة: ٦٧.

٤٦

الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء، من منع أو إطلاق وإحياء أو إماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقصير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبداً عن شرٍّ - مثلاً - أرسل إليه ملكاً ينازعه في مقتضى طبعه ويغيّر مجرى إرادته مثلاً من الشر إلى الخير، أو أراد أن يضل عبداً لاستحقاقه ذلك، سلّط عليه إبليس فحوّله من الخير إلى الشر، وإن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار والاضطرار.

وهذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير والشر مشاهدة عيان أنّه ليس هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها وإرادة مترتّبة عليه قائمين بها، فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك والشيطان سبب طولي لا عرضي، مضافاً إلى أنّ المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله(١) .

____________________

١ - الميزان: ١١/ ١٧٩ - ١٨٠.

٤٧

مراحل العصمة ودلالتها

قد وقفت على حقيقة العصمة وما يرجع إليها من المباحث الاستطرادية، فيجب الآن الوقوف على مراحلها التالية:

١ - الصيانة في تلقّي الوحي والحفاظ عليه وإبلاغه إلى الناس.

٢ - الصيانة من المعصية وارتكاب الذنب المصطلح.

٣ - الصيانة من الخطأ في الأمور الفردية والاجتماعية(١) .

هذه هي مراحل العصمة، ويمكن تبيين تلك المراحل بصورة أُخرى، وهي أنّ متعلّق العصمة والصيانة لا تخلو عن أحد أُمور وهي:

إمّا كفر بالله أو عصيانه ومخالفته.

والثاني لا يخلو إمّا أن يكون معصية كبيرة، أو صغيرة؛ والصغيرة على قسمين: إمّا أن تكون حاكية عن خسّة الفاعل ودناءة طبعه كسرقة اللقمة الواحدة، أو لا؛ وعلى كل حال فصدور المعصية إمّا عمدي أو سهوي، وإمّا صادر قبل البعثة أو بعدها.

وقد فصّل القاضي عبد الجبّار شيخ المعتزلة في عصره مذهب المعتزلة في العصمة، فحكم بأنّه يجب أن يكون النبي منزّهاً عمّا يقتضى خروجه من ولاية الله تعالى إلى عداوته قبل النبوّة وبعدها، كما يجب أن يكون منزّهاً من كذب أو كتمان أو سهو أو غلط إلى غير ذلك، ومن حقّه أن لا يقع منه ما ينفر منه عن القبول منه أو

____________________

١ - وسيوافيك البحث عن هذه المرحلة في الجزء الخامس بإذنه سبحانه.

٤٨

يصرف من السكون إليه أو عن النظر في علمه، نحو الكذب على كل حال، والتورية والتعمية في ما يؤدّيه، والصغائر المستخفة(١) وقال التفتازاني في شرح العقائد النسفية: إنّهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع، وكذا مَن تعمّد الكبائر عند الجمهور خلافاً للحشوية، وأمّا سهواً، فجوّزه الأكثرون وأمّا الصغائر، فيجوز عمداً عند الجمهور، خلافاً للجبّائي وأتباعه، ويجوز سهواً بالاتفاق إلاّ ما يدل على الخسّة(٢) .

قال الفاضل القوشجي: إنّ المعاصي إمّا أن تكون منافيةً لما تقتضيه المعجزة، كالكذب في ما يتعلّق بالتبليغ أو لا، والثاني إمّا أن يكون كفراً أو معصية؛ وهي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل والزنا، أو صغيره منفّرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبّة، أو غير منفّرة ككذبة وشتمة؛ وكل ذلك إمّا عمداً أو سهواً، أو بعد البعثة أو قبلها(٣) .

فنقول: أمّا الأوّل، أعني: صدور الكفر من المعصومين، فلم يجوّزه أحد، وما ربّما ينسب إلى بعض الفرق كالأزارقة من تجويز الكفر على الأنبياء، فالمراد من الكفر هو المعصية في مصطلح المسلمين، وإنّما أطلقوا عليه لفظ الكفر، لأجل اعتقادهم بأنّ كل معصية كفر، قال الفاضل المقداد: أجمعوا على امتناع الكفر عليهم إلاّ الفضيلية من الخوارج فإنّهم جوّزوا صدور الذنب عنهم، وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم جواز الكفر عليهم، وجوّز قوم عليهم الكفر تقيّة وخوفاً، ومنعه ظاهر، فإنّ أولى الأوقات بالتقية زمان بدء الدعوة لكثرة المنكرين له حينئذ، لكنّ ذلك يؤدّي إلى خفاء الدين بالكلّيّة(٤) .

____________________

١ - المغني: ١٥/٢٧٩.

٢ - العقائد النسفية: ١٧١، ونسب فيه للشيعة جواز إظهار الكفر للتقيّة، وهم براء منه.

٣ - شرح التجريد: ٤٦٤.

٤ - اللوامع الإلهية: ١٧٠.

٤٩

وقال الفاضل القوشجي: قد جوّز الأزارقة من الخوارج الكفر بناءً على تجويزهم الذنب مع قولهم بأنّ كل ذنب كفر(١) .

وربّما يتوهّم تجويز الكفر على النبي لأجل التقيّة، وهو باطل؛ لأنّ للتقية شرائط خاصة تجوز إذا حصلت ولا تقية في هذا المورد، وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار الهمداني الأسدآبادي: فإن قال: أفتجوزون على الرسول التقية في ما يؤدّيه ؟ قيل له: لا يجوز ذلك عليه في ما يلزمه أن يؤدّيه، ولو كانت مجوّزة لم تعظم مرتبة النبي؛ لأنّها إنّما تعظم لأنّه يتكفّل بأداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونه - إلى أن قال: - فلو هُدّد بالقتل إذا أدّى شريعته فما الحكم فيه ؟ قيل له: يلزمه أن يؤدّيه ويعلم أنّه تعالى يصرف ذلك عنه(٢) .

وأمّا غير الكفر فتفصيل المذاهب هو أنّ الشيعة اتفقت على عصمة الأنبياء عن المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، سهواً كانت أو عمداً، قبل البعثة أو بعدها نعم يظهر من الشيخ المفيد تجويز بعض المعاصي الصغيرة على غير عمد على الأنبياء قبل العصمة؛ حيث قال: إنّ جميع أنبياء الله (صلّى الله عليهم) معصومون من الكبائر قبل النبوّة وبعدها وبما يستخف فاعله من الصغائر كلها، وأمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة، وعلى غير عمد، وممتنع منهم بعدها على كل حال ( ثم قال: ) وهذا مذهب جمهور الإمامية(٣) ويظهر ذلك من المحقق الأردبيلي في تعاليقه على شرح التجريد للفاضل القوشجي حيث إنّ المحقّق الطوسي استدلّ على العصمة بأنّه لولاها لما حصل الوثوق بقول الأنبياء، وأورد عليه الشارح بأنّ صدور الذنوب لا سيّما الصغيرة

____________________

١ - شرح التجريد: ٤٦٤.

٢ - المغني: ١٥/٢٨٤.

٣ - أوائل المقالات: ٢٩ و ٣٠.

٥٠

سهواً لا يخل بالوثوق، وعلّق عليه الأردبيلي بقوله: ( خصوصاً قبل البعثة )(١) .

وأمّا غير الشيعة فقد عرفت نظرية الاعتزال غير أنّ الفاضل القوشجي يفصّل بقوله: الجمهور على وجوب عصمتهم عمّا ينافي مقتضى المعجزة، وقد جوّزه القاضي سهواً، زعماً منه أنّه لا يخل بالتصديق المقصود بالمعجزة، وكذا عن تعمّد الكبائر، بعد البعثة، وجوّزه الحشوية، وكذا عن الصغائر المنفّرة لإخلالها بالدعوة إلى الإتباع، ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضاً، والمذهب عند محقّقي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً، وذهب إمام الحرمين من الأشاعرة وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمداً(٢) .

هذه هي الأقوال المعروفة بين المتكلّمين، وستعرف شذوذ الكل عن الكتاب والسنّة وحكم العقل غير القول الأوّل، فنقول يقع الكلام في مراحل:

المرحلة الأُولى: عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة

ذهب الأكثرون من الجمهور والشيعة أجمع إلى عصمتهم في تلك المرحلة ونسب إلى الباقلاني تجويز الخطاء في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً لا عمداً وقصداً، وقال أبو الحسن عبد الجبّار المعروف بالقاضي رئيس الاعتزال في وقته (المتوفّ-ى سنة ٤١٥): لا يجوز الكذب في ما يؤدّيه - أي النبي - عن الله تعالى؛ لأنّه تعالى، مع حكمته، ومع أنّ غرضه بالبعثة تعريف المصالح، لو علم أنّه يختار الكذب في ما يؤدّيه لم يكن ليبعثه؛ لأنّ ذلك ينافي الحكمة، ولمثل هذه العلّة لا يجوز أن لا يؤدّيه ما حمله من الرسالة، ولا أن يكتمه أو يكتم بعضه.

____________________

١ - تعاليق المحقّق الأردبيلي على شرح التجريد: ٤٦٤.

٢ - شرح التجريد للفاضل القوشجي: ٦٦٤.

٥١

إلى أن قال: إنّا لا نجوّز عليه السهو والغلط في ما يؤدّيه عن الله تعالى لمثل العلّة التي تقدم ذكرها؛ لأنّه لا فرق، في خروجه من أن يكون موَدّياً بين أن يسهو أو يغلط أو يكتم أو يكذب، فحال الكل يتفق في ذلك ولا يختلف.

وإنّما نجوّز أن يسهو في فعل قد بيّنه من قبل وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغادر منه شيئاً، فإذا فعله لمصالحه لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط؛ ولذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو، وكذلك ما وقع منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك(١) .

وفي ما ذكره من تجويز السهو على النبي في الفعل الذي بيّن حكمه سيأتي الكلام فيه.

وقد استدلّ المحقّقون من المتكلّمين على عصمتهم في تلك المرحلة بوجوه أشار إليها المحقّق الطوسي في تجريده بقوله: ليحصل الوثوق بأفعاله وأقواله، ويحصل الغرض من البعثة وهو متابعة المبعوث إليهم له في أوامره ونواهيه(٢) .

وما ذكره من الدليلين، وإن كان لا يختص بهذه المرحلة بل يعم المراحل الأُخر، ولكنّه برهان تام يعتمد عليه العقل والوجدان في مسألة عصمة الأنبياء في مجال تبليغ الرسالة.

توضيحه:

إنّ الهدف الأسمى والغاية القصوى من بعث الأنبياء هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية والشرائع المقدّسة، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بإيمانهم بصدق

____________________

١ - المغني: ١٥/٢٨١.

٢ - شرح التجريد للفاضل القوشجي: ٤٦٣، وكشف المراد: ٢١٧ طبع صيدا.

٥٢

المبعوثين، وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه، وإنّ كلامهم وأقوالهم كلامه وقوله سبحانه، وهذا الإيمان والإذعان لا يحصل إلاّ بإذعان آخر وهو الإذعان بمصونيّتهم عن الخطاء في المراحل الثلاث في مجال تبليغ الرسالة، وهي المصونية في مقام أخذ الوحي، والمصونية في مقام التحفّظ عليه، والمصونية في مقام الإبلاغ والتبيين، ومثل هذا لا يحصل إلاّ بمصونية النبي عن الزلل والخطاء عمده وسهوه قال القاضي أبو الحسن عبد الجبار: إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول - ممّن يخالف فعله قوله - سكونها إلى مَن كان منزّهاً عن ذلك، فيجب أن لا يجوز في الأنبياء: إلاّ ما نقوله من أنّهم منزّهون عمّا يوجب العقاب والاستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته.

يبيّن ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي بالمنع والردع والتخفيف فلا يجوز أن يكونوا مقدّمين على مثل ذلك؛ لأنّ المتعالم أنّ المقدم على الشيء لا يقبل منه منع الغير منه للنهي والزجر، وانّ هذه الأحوال منه لا تؤثّر ولو أنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي من يشاهده مقدّماً على مثلها لاستخف به وبوعظه(١) .

وقال في موضع آخر: إنّ الواعظ والمذكِّر وإن غلب على ظنّنا من حاله أنّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة حتى عرفنا من حاله الانهماك في الشرب والفجور من قبل، لم يؤثّر وعظه عندنا كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله(٢) .

وما ذكره أخيراً دليل وجوب العصمة حتى قبل البعثة.

وهذا البرهان لو قرّر على الوجه الكامل لكفي برهاناً في جميع مراحل

____________________

١ - المغني: ١٥/٣٠٣.

٢ - المصدر نفسه: ٣٠٥.

٥٣

العصمة التي سنبيّنها في الأبحاث الآتية.

هذا منطق العقل، وأمّا منطق الوحي فهو يؤكّد على مصونية النبي في تبليغ الرسالة في المجالات الثلاثة الماضية، وإليك بيان ذلك:

القرآن وعصمة النبي في مجال تلقّي الوحي و

هناك آيات تدلّ على العصمة في ذلك المجال نذكرها واحدة بعد الأُخرى:

الآية الأُولى

( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ) (١) .

( إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٢) .

( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً ) (٣) .

إنّ دلالة الآيات هذه على مصونية الرسل والأنبياء في مجال تلقّي الوحي، وما يليه من التحفّظ والتبليغ؛ تتوقّف على توضيح بعض مفرداته:

١ - قوله:( فلا يظهر ) من باب الأفعال بمعنى الإعلام كما في قوله سبحانه:( وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عرّف بَعْضَهُ وَأَعْرضَ عَن بَعْضٍ ) (٤) .

٢ - لفظة( من ) في قوله:( من رسول ) بيانية تبيّن المرضي عند الله ،

____________________

١ - الجن: ٢٦.

٢ - الجن: ٢٧.

٣ - الجن: ٢٨.

٤ - التحريم: ٣.

٥٤

فالرسول هو المرتضى الذي اختاره الله تعالى لتعريفه على الغيب.

٣ - والضمير في ( أنّه ) في قوله:( إنّه يسلك ) يرجع إلى الله، كما أنّ ضمير الفاعل في قوله:( يسلك ) أيضاً يرجع إليه، وهو بمعنى: يجعل.

٤ - والضمير في( يديه ومن خلفه ) يرجع إلى الرسول.

٥ - و( رصداً ) هو الحارس الحافظ يطلق على الجمع والمفرد.

٦ - والمراد من:( بين يديه ) أي ما بين يدي الرسول: ما بينه وبين الناس، المرسل إليهم.

كما أنّ المراد من( من خلفه ) ما بين الرسول وبين مصدر الوحي الذي هو سبحانه.

وعلى ذلك فالنبي مصون ومحفوظ في مجال تلقّي الوحي من كلا الجانبين.

وقد اعتبر في هذا التعبير ما يوهمه معنى الرسالة من أنّه فيض متصل من المرسِل ( بالكسر ) وينتهي إلى المرسَل إليه ( بالفتح ) والآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسل، وأنّ الرسول محاط بالرصد والحارس من أمامه ( ما بين يديه ) و ( خلفه ) وورائه، فلا يصيبه شيء يباين الوحي.

ومعنى الآية: أنّ الله يجعل ( يسلك ) ما بين الرسول ومَن أرسل إليه، وما بين الرسول ومصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة، وليس جعل الرصد أمام الرسول وخلفه إلاّ للتحفّظ على الوحي من كل تخليط وتشويش بالزيادة والنقص التي يقع فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

ثم إنّه سبحانه علّل جعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه بقوله:( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم ) .

٥٥

والمراد من العلم هو العلم الفعلي بمعنى التحقّق الخارجي على حد قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ) .(١)

أي ليتح-قّق إبلاغ رسالات ربّه-م على ما هي عليه من غير تغ-يير وتبدّل.

٧ - قوله:( وأحاط بما لديهم ) بمنزلة الجملة المتمّمة للحراسة المستفادة من قوله:( رصداً ) .

وعلى الجملة فهذه العبارات الثلاث الواردة في الآية تفيد مدى عناية الباري للحراسة والحفاظ على الوحي إلى أن يصل إلى المرسل إليهم بلا تغيير وتبديل، وهذه الجمل عبارة عن:

ا -( من بين يديه ) .

ب -( ومن خلفه ) .

ج -( وأحاط بما لديهم ) .

فالجملة الأُولى تشير إلى وجود رصد بين الرسول والناس.

كما أنّ الجملة الثانية تشير إلى وجود رصد محافظين بينه وبين مصدر الوحي.

والجملة الثالثة تشير إلى وجود الحفظة في داخل كيانهم.

فتصير النتيجة أنّ الوحي في أمن وأمان من تطرّق التحريف منذ أن يفاض من مصدر الوحي ويقع في نفس الرسول إلى أن يصل إلى الناس والمرسل إليهم.

٨ - قوله:( وأحصى كلّ شيء عدداً ) مسوق لإفادة عموم علمه بكل شيء سواء في ذلك الوحي الملقى إلى الرسول وغيره.

____________________

١ - العنكبوت: ٣.

٥٦

يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ قوله سبحانه:( فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه ) إلى آخر الآيتين يدل على أنّ الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس، مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى مَن قصد نزوله إليه.

أمّا مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله:( من خلفه ) وأمّا مصونيته حين أخذ الرسول إيّاه وتلقّيه من ملك الوحي بحيث يعرفه ولا يغلط في أخذه، ومصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أُوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله.

ومصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرّف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله:( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم ) حيث يدل على أنّ الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربّهم أي أن يتحقّق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، ولازمه بلوغه إيّاهم ولولا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعاً لم يتم الغرض الإلهي وهو ظاهر.

وحيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقاً غير سلوك الرصد دلّ ذلك على أنّ الوحي محروس بالملائكة، وهو عند الرسول، كما أنّه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهى إليه، ويؤكّده قوله بعده:( وأحاط بما لديهم ) .

وأمّا مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفى فيه قوله:( ومن بين يديه ) على ما تقدّم معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله:( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم ) بما تقدّم من تقريب دلالته.

ويتفرّع على هذا البيان: أنّ الرسول مؤيّد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه وفي حفظه وفي تبليغه إلى الناس، مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً لما مرّ

٥٧

من دلالة على أنّ ما نزّله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس، ومن مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي وحفظه له وتبليغه إلى الناس.

والتبليغ يعمّ القول والفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول، فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرّمات وترك الواجبات الدينية؛ لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين، فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولاً.

وقد تقدّمت الإشارة إلى أنّ النبوّة كالرسالة في دورانها مدار الوحي، فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، ويتحصّل بذلك أنّ أصحاب الوحي سواء كانوا رسلاً أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي وفي حفظ ما أُوحي إليهم وفي تبليغه إلى الناس قولاً وفعلاً(١) .

الآية الثانية

قوله سبحانه:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعثَ اللهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) (٢) .

إنّ الآية تصرّح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه، وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير وتحريف.

____________________

١ - الميزان: ٢٠/١٣٣.

٢ - البقرة: ٢١٣.

٥٨

ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية مَن آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله:( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) .

والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة لكنّ الهداية تتحقّق عن طريق النبي، وبواسطته، وتحقّق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق، بلا تحريف.

وكل ذلك يسلتزم عصمة النبي في تلقّي الوحي والحفاظ عليه، وإبلاغه إلى الناس.

وبالجملة: فالآية تدل على أنّ النبي يقضي بالحق بين الناس ويهدي المؤمنين إليه، وكل ذلك ( أي القضاء بالحق أوّلاً، وهداية الموَمنين إليه ثانياً ) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه وليس المراد من الحق إلاّ ما يوحى إليه.

الآية الثالثة

قوله سبحانه:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) (١) .

فالآية تصرّح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى، أي لا يتكلّم بداعي الهوى فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من الله سبحانه، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته وعصمته في المراحل الثلاث المتقدّم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.

وبما أنّ عصمة الأنبياء في تلك المرحلة تكون من المسلّمات عند المحقّقين من أصحاب المذاهب والملل، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلّمين، وإن كان للشيعة فيه قول واحد، وهو عصمتهم عن العصيان والمخالفة لأوامره ونواهيه.

____________________

١ - النجم: ٣ - ٤.

٥٩

المرحلة الثانية: عصمة الأنبياء عن المعصية

لقد وقفت على دلائل عصمة الأنبياء في تلقّي الوحي، وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية؛ ونبحث في ذلك عن وجهتين: العقلية والقرآنية:

العقل وعصمة الأنبياء

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها، قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم:( رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) .

وقال سبحانه:( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ ) (٢) .

والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل، وهذا هو ما يسمّى في علم الأخلاق ب- ( التربية ).

ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقّف على إذعان مَن يراد تربيته بصدق المربّي وإيمانه بتعاليمه، وهذا يعرف من خلال عمل المربّي بما يقوله ويعمله وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

وإن شئت قلت: إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربّي، ولو كان هناك انفكاك بينهما

____________________

١ - البقرة: ١٢٩.

٢ - آل عمران: ١٦٤.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتجّ به غدا يوم القيامة ، وهو يوجب الكفر والإلحاد؟!

وأيّ عذر لهم عن ذلك وعن الكفر والإلحاد؟!

( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (٢) ؟!

هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة الله سبحانه إلى كلّ خسيسة ورذيلة! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فليحذر المقلّد وينظر كيف هؤلاء القوم الّذين يقلّدونهم؟! فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم ، كفاهم بذلك ضلالا!

وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع الأهواء ، عرفوا الحقّ بعين الإنصاف وفّقهم الله لإصابة الصواب.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة النساء ٤ : ٧٨.

٣٠١

وقال الفضل (١) :

قد عثرت على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة.

ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم كمثل الزبّال يمرّ على نجاسة رجل أكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمّص ، فجرى في الطريق ، فجاء الزبّال وأخذ الحمّص من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذّذ به.

فهذا ابن المطهّر النجس! كالزبّال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفّر بها سادات العلماء ، ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر ، يحسب أنّه يحسن صنعا ، نعوذ بالله من الضلال ، والله الهادي.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٠.

٣٠٢

وأقول :

قد عرفت أنّه لم يشتمل كلامه إلّا على التمويه ، الذي لا ينفعه حين الندامة ، ولا يكون له عذرا يوم القيامة ، والعجب منه أنّه يجازي المصنّف بما يدلّ على أنّه فاعل مختار.

فإذا كان الله تعالى هو الذي خلق تكفير المصنّف لهم ، فلينتصف من الله تعالى لا من المصنّف ، وليحارب الله تعالى لا المحلّ الذي لا أثر له أصلا.

ولينظر العاقل أنّ الذي وقع في البين من المخاصمة والعداء كلّه من الله سبحانه ، فيكون لاعبا ، أو من عبيده؟!

وهل يحسن من الله تعالى أن يفعل ذلك ثمّ يعاقب غيره على ما لا أثر له فيه؟! تعالى الله عمّا يصفون.

* * *

٣٠٣
٣٠٤

إبطال الكسب

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

المطلب الثاني عشر

في إبطال الكسب

إعلم أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لمّا لزمهم هذه الأمور الشنيعة والإلزامات الفظيعة والأقوال الهائلة ، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته ، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك ، التجأ إلى ارتكاب قول توهّم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات( وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) (٢) ، فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار العلوم الضرورية ، كما هو دأبه(٣) وعادته في ما تقدّم من إنكار الضروريات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد ، فقال :

الله تعالى يوجد الفعل ، والعبد مكتسب له(٤) ، فإذا طولب بتحقيق

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة ص ٣٨ : ٣.

(٣) كان في الأصل : « رأيه » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

(٤) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، مقالات الإسلاميّين :٥٣٩.

٣٠٥

الكسب وما هو؟ وأيّ وجه يقتضيه؟ وأيّ حاجة تدعو إليه؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه

فقال بعضهم : معنى الكسب خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل ، وعدمه عقيب اختياره العدم ، فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الله الفعل عند اختيار العبد(١) .

وقال بعضهم : معنى الكسب أنّ الله تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر ألبتّة ، لكنّ العبد يؤثّر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من الله تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد(٢) .

وقال بعضهم : إنّ هذا الكسب غير معلوم ولا معقول مع أنّه صادر عن العبد(٣) .

* * *

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ ٥٩ ـ ٦٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، العلم الشامخ : ٣١٩ عن ابن الهمام.

(٢) انظر : تمهيد الأوائل : ٣٤٧ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٤ ـ ٨٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٤ ، العلم الشامخ : ٣٢١ عن أبي منصور السمرقندي.

(٣) انظر : شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، العلم الشامخ : ٣١٧ و ٣٢٥ حكاية عن والد السبكي.

٣٠٦

وقال الفضل (١) :

قد مرّ أنّ مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : أنّ أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى ، مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له هذا مذهب الشيخ(٢) .

ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنّه على متن الصراط المستقيم في التوحيد ، وتنزيه الله تعالى عن الشركاء في الخلق ، مع إثبات الكسب للعبد ، حتّى تكون قواعد الإسلام ، ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعيّة ، من غير تكلّف إيجاد الشركاء في الخلق.

ونحن إن شاء الله تعالى نفسّر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف ، وينقاد لصحّته المتعسّف ، فنقول :

يفهم من كلام الشيخ أنّه فسّر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة ، وفسّره بكون العبد محلّا للفعل تارة.

وتحقيقه : إنّ الله تعالى خلق في العبد إرادة يرجّح بها الأشياء ، وقدرة يصحّح بها الفعل والترك.

ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريات عند حدوث الفعل.

وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ،

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٣.

(٢) تقدّم في الصفحة ١١٣ من هذا الجزء.

٣٠٧

فإذا تهيّأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل ، وذلك الفعل ممكن ، والممكن إذا تعلّقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح ، فهو يوجد لا محالة بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية ، والقدرة القديمة ، فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا من الإرادة والقدرة الحادثة.

والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة ، كالنور القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه.

فلمّا أوجد الله تعالى الفعل ، وكان قبل الإيجاد تهيّأت صفة اختيار العبد إلى إيجاد الفعل ، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته ، فبقي للفعل نسبتان :

نسبة إلى العبد ؛ وهي أنّ الفعل كان مقارنا لتهيّؤ الإرادة والاختيار نحو تحصيل الفعل ، وحصول الفعل عقيب تهيّئه ، فعبّر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب ؛ لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد.

ونسبة إلى الله تعالى ؛ وهو أنّه كان مخلوقا لله تعالى ، موجدا منه.

وهذا معنى كون الفعل مخلوقا لله تعالى مكسوبا للعبد.

ثمّ إنّ فعل العبد صفة للعبد ، فيكون العبد محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف هو محلّ لصفته ، كالأسود فإنّه محلّ للسواد ، فيجوز أن يقال ـ باعتبار كون الفعل صفة له ـ : إنّه كسبه ؛ ومعنى الكسب كونه محلّا له.

والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب ، بواسطة كونه محلّا لليبوسة المفرطة.

وهل يحسن أن يقال : لم ترتّب الإحراق على الحطب لسبب كونه محلّا لليبوسة؟! والحال أنّ الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة! وأيّ

٣٠٨

ذنب للحطب؟! وهل هذا الإحراق إلّا الظلم والجور والعدوان؟!

إن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل الله تعالى الكافر محلّ الكفر ثمّ أحرقه بالنار؟!

والعاقل يعلم أنّه لا يحسن الأوّل فلا يحسن الثاني!

فرّغ جهدك لنيل ما حقّقناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري ، لئلّا يبقى لك شبهة ، فهذا نهاية التوضيح.

ولكنّ المعتزلي عمي بصره فعظم ضرره ، ألقته الشبهة في مهواة غائلة ، واغتاله القول(١) في مهمّة(٢) هائلة ، ونعم ما قلت شعرا :

ظهر الحقّ من الأشعري والنور جلي

طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي(٣)

فانظر إلى هذا الحلّي الجاهل ، كيف افترى في معنى الكسب ، وخلط المذاهب والأقوال ، كالحمار الراتع في جنة عالية ، قطوفها دانية ، والله تعالى يجازيه!

* * *

__________________

(١) في نسخة إحقاق الحقّ : الغول ؛ ولعلّها الأنسب.

(٢) المهمّة : كلّ ما نواه المرء من فعل أو أمر وأراده وعزم عليه وهمّ بأن يفعله ؛ انظر : تاج العروس ١٧ / ٧٦٤ و ٧٦٧ مادّة « همم ».

(٣) نقول : لا ندري ممّ نتعجّب؟! أمن علم هذا الرجل وبراعته في علم الكلام؟! أم من فصاحته وبلاغته ونبوغه في الشعر ومعرفته بالمعاني؟! أم من خلقه الرفيع العالي؟!

والعجب كلّ العجب ممّن يتّبع هذا وأمثاله ويدافع عنهم دون علم ودراية!! ولكن كما قال أبو الطيّب المتنبّي :

شبيه الشيء منجذب إليه

وأشبهنا بدنيانا الطغام

فليتأمّل!

٣٠٩

وأقول :

ظهر لك من تضاعيف الكلمات أنّ الكسب بمعزل عن الحقّ ، وأنّ التنزيه الذي موّهوا به من باب تسمية الشيء باسم ضدّه ، إذ لم يشتمل إلّا على إنكار العدل والرحمة ، وإثبات العبث في التكليف والبعثة.

وأمّا ما ادّعاه من التحقيق ، ففيه وجوه من الخلل :

أمّا أوّلا : فلأنّ قوله : « فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا » ، خطأ ؛ لأنّ تميّز الإرادة والقدرة القديمتين عن الحادثتين لا يوجب أن يوجد الله سبحانه أفعال العباد ، ولا يوجب التزاحم بينهما حتّى تحصل الغلبة.

نعم ، يوجب التزاحم لو قلنا : إنّ قدرة الله على الشيء تستلزم فعله له ، كما يظهر من بعض ما يحكى عن الرازي(١) ، ويظهر من الخصم في المبحث الآتي ، حيث إنّه في أثناء كلامه على قول المصنّف : « وأيضا دليلهم آت » إلى آخره ، قال : « فالاختيار مقدور لله تعالى فيكون مخلوقا لله تعالى ».

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ القدرة تستلزم فعل كلّ مقدور ، لعدم اقتضاء ذاتها له ، وللزوم أن يكون كلّ ممكن فرض موجودا لأنّه مقدور ، أو انحصار قدرته بالموجودات ، وهو كما ترى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات التهيّؤ لإرادة العبد لا فائدة فيه ، إذ لا يصحّح اللوازم الفاسدة من العقاب للعبد بلا ذنب ، والعبث في البعثة والتكليف ،

__________________

(١) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ٢١.

٣١٠

ونحوها ؛ على أنّه إن زعم أنّ التهيّؤ أثر للعبد فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا فلا يثمر تكلّفه إلّا تطويل مسافة الجبر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله : « لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء » إن أراد به أنّ لفظ الكسب في القرآن يراد به المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة ، فهو باطل ؛ لأنّه اصطلاح جديد ، فاللازم حمله على معناه اللغوي ، وهو : العمل(١) .

وأيّ دلالة في ذكر الكسب ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ على كون المراد هو الكسب الأشعري حتّى يحمل عليه؟!

وإن أراد به أنّ وجود لفظ الكسب في القرآن ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ سبب لتسمية المعنى الذي تصوّره الأشعري بالكسب ، ففيه :

إنّا لو تصوّرنا وجها للسببية ، فلا يثبت به إلّا تصحيح الاصطلاح ، لا حمل الكتاب العزيز عليه ، كما هي عادتهم.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « إنّ فعل العبد صفة للعبد فيكون محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف محلّ لصفته » ، باطل ؛ لأنّ أفعال الله تعالى صفات له ، لذا يوصف بالمحيي ، والمميت ، والخالق ، والرازق ، ونحوها ، وهو ليس محلّا لها بنحو محلّيّة الأسود للسواد الذي مثّل به.

ثمّ إنّ ما فرّعه عليه بقوله : « فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له : إنّه كسبه » ، غير تامّ ؛ فإنّه يستدعي أن يقال باعتبار كون أفعال الله تعالى صفة له : إنّه كسبها ، وهو باطل ؛ لأنّ الكسب لا يطلق إلّا حيث يكون الفاعل قاصدا لجلب النفع له أو دفع المضرّة عنه.

__________________

(١) انظر مادّة « كسب » في : لسان العرب ١٢ / ٨٧ ، المصباح المنير : ٢٠٣.

٣١١

وأمّا خامسا : فلأنّ قوله : « والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب » ، ظاهر الفساد ، فإنّه يستلزم صحّة العقاب على الطول والقصر ؛ لأنّه محلّ لهما ، ولا يكون الاختيار فارقا ما دام غير مؤثّر ، ولذا قاس الإنسان على الحطب ، وقاس كفره على يبوسة الحطب ، وهذا القياس فاسد ؛ لعدم الضرر والأذى على الحطب لانتفاء الشعور والإحساس عنه ، ولذا لا يكون الإحراق ظلما له ، بخلاف عذاب الحسّاس الذي لا ذنب منه ولا أثر له بالمعصية أصلا.

فيا عجبا ممّن يتفوّه بهذه الكلمات ، ويزعم أنّه لا تبقي معها شبهة ، وأنّ صاحبها على متن الصراط ، وما هو إلّا كبيته الذي سمّاه شعرا!!

* * *

٣١٢

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

وهذه الأجوبة فاسدة

أمّا الأوّل : فلأنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه.

وأيّ فرق بينهما؟! وأيّ حاجة وضرورة إلى التمحّل بهذا؟! وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى ، وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك ، وليس بمعلوم.

وأيضا : دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ، إمّا العبد أو الله تعالى ، فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة ، وإن لم يكن موجبا ، لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير ، من غير شركة للعبد فيه.

وأيضا : العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى الفعل عقيبه ، ويخلق الله تعالى الفعل ابتداء من غير تقدّم اختيار ، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر(٢) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٦.

(٢) في المخطوط : القدر.

٣١٣

وقال الفضل (١) :

قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ(٢) ، وأمّا هذه الأقوال التي نقلها عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب

أمّا ما أورد على القول الأوّل ، وهو : « إنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال » ، فباطل ؛ لأنّهما من جملة الصفات ، وهو يدّعي أنّهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة [ والاختيار ] ممّا يخلقها الله تعالى في العبد ، والعبد بهما يرجّح الفعل(٣) .

فالحمد لله الذي أنطقه بالحقّ على رغم منه ، فإنّه صار قائلا بأنّ أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، ولكن ربّما يدفعه بأنّه من الأفعال الاضطرارية ، وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراريّ.

وأمّا قوله : « دليلهم آت في نفس هذا الاختيار » ، وبيانه : إنّ الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور لله ، فيكون مخلوقا لله تعالى ، فكيف يقال : إنّ الفعل يخلقه الله تعالى عقيب الاختيار؟!

فجوابه : إنّ الاختيار من الصفات التي يخلقها الله تعالى أوّلا في العبد ، كسائر صفاته النفسانية ، وكيفيّاته المعقولة والمحسوسة ، ثمّ يترتّب

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٣٤.

(٢) انظر الصفحتين ١١٣ و ٣٠٧.

(٣) الإمامية لا تقول بذلك على إطلاقه ، وسيأتي ردّ المصنّف1 عليه.

٣١٤

عليه الفعل ، فلا يأتي ما ذكره من المحذور ؛ لأنّا نختار أنّ الدليل صحيح ، وليس هو مستندا إلى العبد وهو صادر عن الله تعالى.

وأمّا قوله : « وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا نختار أنّ الاختيار صادر عن الله تعالى لا عن العبد.

وأيضا : نختار أنّ الاختيار يدلّ العبد ليس موجبا للفعل.

قوله : « لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ».

قلنا : ممنوع لما مرّ من أنّ الاختيار صفة توجب للعبد التوجّه نحو تحصيل الأفعال ، ويخلق الفعل عقيب توجيه العبد للاختيار ، والفعل مقارن لذلك الاختيار ، وليس الأكل كذلك ، فالفرق واضح(١) .

وأمّا قوله : « العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه ».

فنقول : هذا هو المدّعى ، والمراد بالجواز هو الإمكان الذاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار.

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١١٣.

٣١٥

وأقول :

ينبغي أن نذكر هنا بعض ما في « شرح المقاصد » لتعرف صدق المصنّف في ما حكاه عنهم ، فإنّه بعد بيان أنّ فعل العبد واقع بقدرة الله وحدها ، وأنّ العبد كاسب ، قال :

« لا بدّ من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال إنّه اسم بلا مسمّى ، فاكتفى بعض أهل السنّة ، بأنّا نعلم بالبرهان أنّ لا خالق سوى الله تعالى ، ولا تأثير إلّا للقدرة القديمة ، ونعلم بالضرورة أنّ القدرة الحادثة للعبد تتعلّق ببعض أفعاله ، كالصعود دون البعض كالسقوط ، فيسمّى أثر تعلّق القدرة الحادثة كسبا وإن لم تعرف حقيقته.

قال الإمام الرازي : هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإنّ الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ، ويتمايزان بكون إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به التمايز ، فأصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وهي المسمّاة ب‍ :

الكسب(١) .

وقريب من ذلك ما يقال : إنّ أصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وتعيّنها بقدرة العبد ، وهو كسب ، وفيه نظر.

وقيل : الفعل الذي يخلقه الله تعالى في العبد يخلق معه قدرة للعبد متعلّقة به ، يسمّى كسبا للعبد ، بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة.

__________________

(١) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، وانظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ١٠.

٣١٦

وقيل : إنّ للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط ، كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ، ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي ، فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب.

و هذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحّة انفراد القادرية ، وما يقع في محلّ قدرته ، بخلاف الخلق ، فإنّه ما يقع به المقدور مع صحّة انفراد القادرية ، وما يقع لا في محلّ قدرته.

فالكسب لا يوجب وجود المقدور ، بل يوجب ـ من حيث هو كسب ـ اتّصاف الفاعل بذلك المقدور ؛ ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ، ككون الفعل طاعة أو معصية ، حسنا أو قبيحا ، فإنّ الاتّصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح ، بخلاف خلق القبيح ، فإنّه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة ، بل ربّما يشتمل عليهما.

وملخّص الكلام ما أشار إليه الإمام حجّة الإسلام ، وهو : إنّه لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا ، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه عندنا بالاكتساب.

إلى أن قال : فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمّى كسبا له ، وباعتبار نسبتها إلى قدرة الله تعالى خلقا ، فهي خلق للربّ ووصف للعبد وكسب له ، وقدرته خلق للربّ ووصف للعبد وليس بكسب له(١) »(٢) .

وإنّما أطلنا بنقل كلامه لتعرف حال أساطينهم فضلا عن مثل هذا

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد : ٦٠.

(٢) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣١٧

الخصم.

ويكفي في بطلان هذه الكلمات مجرّد النظر فيها ، مع أنّ الكسب ـ بأيّ معنى فسّر ـ إن كان من فعل الله تعالى دون العبد فلا فائدة في إثباته ، وإن كان من أثر العبد فقد خالفوا مذهبهم ولم يكن موجب لإثباته وإنكار تأثير العبد في الفعل.

ولو لا تعلّق القصد بردّ ما أورده الخصم لكان الأولى الإعراض عن مثله ، إلّا إنّه لا مناص من ردّه ، فنقول :

أمّا ما ذكره من أنّ الإرادة من جملة الصفات ، فصحيح ، سواء أراد بالصفات ما كان من مقولة الكيف ، أو ما لوحظ فيه جهة التلبّس لا الحدوث ، لكن لا ينافي أن تكون الإرادة فعلا باعتبار حدوثها ، ولذا يقول المتكلّمون : إنّ الله تعالى فاعل للعدل والرحمة والمغفرة باعتبار حدوثها منه ، وموصوف بها باعتبار تلبّسه بها(١)

فصحّ قول المصنّف : « إنّ إرادة العبد من جملة الأفعال ».

على أنّه لا أثر للاصطلاح والتسمية ، فإنّ كلام المصنّف في الصدور الذي يسلّمه القائل بالقول الأوّل ، فأورد عليه أنّه إذا جازصدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه إلى آخره.

وأمّا قوله : « وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة ممّا يخلقها الله تعالى في العبد »

فإن أراد أنّها ربّما يخلقها الله تعالى ، فلا يضرّنا القول به ، وإن أراد أنّها مخلوقة له دائما ، فكذب علينا ، كيف؟! وقد سبق أنّ العبد فاعل لها ،

__________________

(١) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٣١٨

قادر عليها وجودا وعدما ، ولو بالقدرة على أسبابها!

وأمّا حمده لله تعالى على إقرار المصنّف بأنّ بعض أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، فمن المضحك ، إذ لم يظهر من المصنّف اختيار أنّ إرادة العبد صادرة عن الله تعالى إن لم يظهر منه الخلاف ، ومجرّد قول أصحابه به ـ لو سلّم ـ لا يستلزم أن يقول المصنّف به ، إذ ليس هو من أصول الدين.

على أنّ القول بأنّ بعض أفعالنا مخلوق لله تعالى لا ينافي مذهبنا ؛ لأنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في الإيجاب الكلّي حيث يقولون : إنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى(١) ، ونحن نمنعه ، فلا ينافي الإيجاب الجزئي.

ثمّ إنّ معنى قول الخصم : « ولكن ربّما يدفعه » إلى آخره ؛ هو أنّ المصنّف قد يجيب عن ذلك بأنّ الإرادة والاختيار ليسا محلّ النزاع ؛ لأنّ النزاع إنّما هو في الأفعال الاختيارية ، وليست الإرادة والاختيار صادرين بالاختيار.

وفيه : إنّ المصنّف لا يجيب بهذا ؛ لأنّ الإرادة عنده فعل اختياري(٢) ، أي من آثار قدرة العبد ، وإنّما يجيب بخطأ الخصم ، حيث زعم أنّ الإرادة عندنا من أفعال الله تعالى ، كما عرفت.

ثمّ إن أراد بقوله : « وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراري » إنكار كون الاختيار فعلا ، فباطل ؛ لما عرفت من معنى الفعل.

وإن أراد به دعوى أنّ الاختيار مسبوق بالاختيار ، لزمه التسلسل.

__________________

(١) الإبانة عن أصول الديانة : ٤٦ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ، المواقف : ٣١١.

(٢) مناهج اليقين : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٣١٩

وإن أراد به أنّ الاختيار من آثار قدرة العبد ، فنعم الوفاق ، ولزمهم إشكال المصنّف بقوله : « إن جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ».

وأمّا ما أجاب عن قول المصنّف : « ودليلهم آت في نفس الاختيار »

ففيه : إنّ إشكال المصنّف إنّما هو على صاحب القول الأوّل الذي يذهب إلى أنّ الاختيار صادر عن العبد ، ومنه يعلم ما في جوابه أيضا عن الإشكال الثالث بقوله : « فجوابه : إنّ الاختيار صادر عن الله لا عن العبد ».

وأمّا ما ذكره من الفرق بين الاختيار والأكل

ففيه : إنّ التوجّه الذي يوجبه الاختيار ـ كما زعم ـ إن كان أثرا للعبد كان خروجا عن مذهبه ، وإلّا فأيّ فائدة في إثبات التوجّه غير تطويل مسافة الجبر؟! ضرورة أنّ الفرق المهمّ بين الاختيار والأكل مثلا ، هو الفرق في مقام تأثير العبد في الفعل بوجه من الوجوه ، لا الفرق كيفما كان ، وإلّا فالفروق كثيرة.

واعلم أنّ الأشاعرة لمّا رأوا مفاسد الجبر زعموا أنّ المخلص منها يحصل بوجود القدرة والاختيار في العبد ؛ لأنّهما هما المحقّقان للكسب ، وإن كانا معا من فعل الله تعالى كأصل الفعل ، فحينئذ يكون وجود الاختيار لازما لا مناص منه ليكون به المخلص ، فإذا جعلوه عاديا غير لازم الوجود واقعا ، لا سيّما والعاديّات قد تتخلّف ، لم يكن مخلصا.

وهذا هو مقصود المصنّف في كلامه الأخير.

وقد توهّم الخصم أنّ المصنّف ادّعى أنّ مخلصهم بإثبات وجوب

٣٢٠

321