أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 122860
تحميل: 9224

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122860 / تحميل: 9224
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الصلاحيات التي أخذها من عثمان، والتي كرّست انفصال الشام واقعياً عن الحكومة المركزية، ولم يبقَ أيّ ارتباطٍ حقيقيٍّ بين الشام والمدينة سوى الارتباط الدستوري الاسمي بتبعيّة الشام إلى الحكومة الإسلامية - هذا الضعف من جهةٍ، والترسّخ من الجهة الأُخرى، كان يُعقّد الموقف على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويجعل نقطة القوّة التي يحصل عليها ( وهي مجرّد البيعة في الأيام الأولى )، نقطةً غير حاسمة؛ وذلك لأنّ الإمام إذا عزل معاوية فبإمكان معاوية أن يثير إلى جانب وجوده المادي القوي في الشام الشبهات على المستوى التشريعي الإسلامي، لأنّه يستطيع أن يقول: لماذا عزلني علي بن أبي طالب ؟ وما هو الشيء الذي صدر منّي بعد أن اعترف بأنّي حاكم عادل صالح لإدارة شئون المسلمين ؟

مثل هذا الكلام كان بإمكان معاوية أن يوجّهه حينئذٍ للإمام ولم يكن يقدر الإمامعليه‌السلام أن يجيب جواباً مقنعاً للرأي العام الإسلامي وقتئذٍ على هذه الشبهة. لكنّه حينما يعزله من البداية فإنّ عزله يكون على أساس عدم صلاحيته، وعدم توفّر الشروط اللازمة للحاكم الإسلامي عنده، إلى جانب أنّ هذا العزل يعبّر عن عدم رضا الإمامعليه‌السلام عن الفترة السابقة التي عاشها معاوية كحاكمٍ في الشام من قبل عمر وعثمان.

النقطة السابعة : أنّ هذا الشبهة التي وجّهت للإمامعليه‌السلام تفترض أنّ معاوية ابن أبي سفيان في حال بقائه والياً من قِبَلِ الإمام مؤقتاً سوف يعطي نقطة قوّة للإمام عليعليه‌السلام ، ولكن لا يوجد في القرائن والدلائل التي كانت تكتنف موقف الإمام ما يوحي بصحّة هذا الافتراض؛ وذلك لأنّ معاوية لم يعصِ الإمامعليه‌السلام بسبب عزله عن الولاية، وإنّما كان ذلك - في أكبر الظنّ - جزءاً من مخطّطه لمؤامرة أموية طويلة الأمد على الإسلام.

١٤١

الأموية كانت تريد نهب المكاسب الإسلامية بالتدريج، هذا النهب الذي عبّر عنه أبو سفيان بأقسى تعبير حينما ركل قبر حمزةرضي‌الله‌عنه بقدمه وهو يقول: إنّ هذا الدين الذي قاتلتمونا عليه وبذلتم دماءكم في سبيله أصبح كرةً في أيدي صبياننا وأطفالنا.(١)

كانت المرحلة الأولى من المؤامرة الأموية عملية ترسيخ الأخوين يزيد ومعاوية في الشام، ومن ثمّ محاولة استقطاب الشام عن طريق حكمه الدائم من قِبَلهم. ومن ثمّ ابتدأ معاوية ينتظر الفرصة الذهبيّة التي هيّأها له مقتل عثمان، هذه الفرصة الذهبية التي تعطي سلاحاً غير منتظرٍ يمكن أن يمسكه ويدخل به إلى الميدان، ولهذا نراه قد تباطأ عن نصرة عثمان وعن أمر الجيوش التابعة له بالدخول إلى المدينة لحماية عثمان، مع العلم بأنّ عثمان كان يستصرخه ويؤكّد له بأنّه يعيش لحظات الخطر. معاوية كان قادراً على تأخير هذا المصير المحتوم عن عثمان إلى مدّةٍ طويلةٍ لو أنّه وقف موقفاً إيجابياً من نصرة عثمان، ولكنّه تلكّأ، وكان يخطّط لكي يبقى هذا التيار كاسحاً، ولكي يخرّ عثمان صريعاً على أيدي المسلمين، ثمّ بعد هذا يأتي ويمسك بزمام هذا السلاح ويقول: أنا ابن عمّ الخليفة المقتول.

هذه الفرصة الذهبية التي كانت تحكي مستوى الآمال والأطماع الأموية لنهب مكاسب الإسلام لم يكن من المظنون أن يدعها معاوية لقاء بقائه والياً على الشام من قبل الخليفة الجديد؛ لأنّ ولاية الشام كانت مرحلةً أُنجزت من المؤامرة، وبعد مقتل عثمان اتبدأت المرحلة الجديدة، وهي نهب كلّ الوجود الإسلامي

____________________

(١) راجع: بحار الأنوار ٤٤: ٧٨، تاريخ الإمام الزكي الحسنعليه‌السلام ، باب سائر ما جرى بينهعليه‌السلام وبين معاوية، الحديث الأوّل.

١٤٢

وتزعّمه، والذي كان يعني أنّ إبقاءه والياً على الشام سوف لن يكون على مستوى أطماعه.

النقطة الثامنة : وأخيراً فإنّنا نقول: إنّ ملاحظة طبيعة الوضع العامّ وملاحظة موقع الإمام عليعليه‌السلام في ذلك الوضع لم تكن لتوحي بالاعتقاد بالعجز عن إمكان إنجاح عملية التغيير بدون مساومة، ومن الواضح بناءً على أنّ الفكرة الفقهية التي أشرنا إليها بالأمس: من أنّ توقّف الواجب الأهمّ على المقدّمة المحرّمة يبيح تلك المحرّمة، إنّما تكون صحيحةً إذا كان هناك توقّف بالفعل، وأحرز أنّه لا يمكن التوصّل إلى الواجب الأهمّ إلاّ عن طريق هذه المقدّمة المحرّمة، ولكنّ الظروف هنا وطبيعة الموقف لم تكن توحي ولم تكن تؤدّي إلى اليقين بمثل هذا التوقّف؛ وذلك لأنّ المؤامرة التي كان على عليٍّعليه‌السلام الاضطلاع بمسئولية إحباطها حينما تولّى الحكم لم تكن قد نجحت بعد، بل كانت الأُمّة أيام مقتل عثمان قد عبّرت تعبيراً معاكساً ومضادّاً لواقع هذه المؤامرة ولمضمونها. صحيح أنّ هذه المؤامرة تمتدّ بجذورها إلى أمدٍ طويلٍ قبل هذا التأريخ؛ وذلك لأنّ الأُمّة التي سهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على إعطائها أصالتها وشخصيّتها وكرامتها ووجودها، حتّى أنّه ألزم نفسه وألزمه ربُّه بمشاورتها لأجل تربية المسلمين وإعدادهم نفسياً لتحمّل مسئولياتهم، ولأجل إشعارهم بأنّهم هم الأُمّة التي يجب أن تتحمّل مسؤوليات هذه الرسالة(١) ، هذه الأُمّة التي خلّفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تعيش هذه الروحية، وتعيش هذا المستوى عاطفياً ونفسياً

____________________

(١) وذلك في قوله تعالى:( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) آل عمران: ١٥٩.

١٤٣

تعرّضت للمؤامرة على وجودها وتحويل هذا الوجود إلى سلطان.

وكان أوّل جذرٍ من جذور هذه المؤامرة قد أُعطي كمفهومٍ في السقيفة حينما قال أبو بكر: ( من ينازعنا سلطان محمّد )(١) ، هذا المفهوم كان من المفاهيم التي شكّلت جذراً من جذور المؤامرة، السقيفة وإن كانت بمظهرها اعترافاً بوجود الأُمّة؛ حيث إنّ الأُمّة تريد أن تتشاور في تعيين الحاكم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن هذا المفهوم الذي أُعطي في السقيفة، والذي كُتب له أن ينجح ويمتدّ بأثره بعد ذلك، كان بحدّ ذاته ينكر وجود الأُمّة، كان ينظر إلى النبوّة أنّها سلطان قريش، أنّها سلطان عشيرة معيّنة، وهذه العشيرة المعيّنة هي التي يجب أن تحكم وأن تسود.

ومن ثمّ نرى أنّ عمر كان يعمّق بشكلٍ وآخر هذا المفهوم، مثلاً: في إحدى المرّات سمع عمر بن الخطّاب: أنّ المسلمين يتحدّثون حلقاً حلقاً ويفكّرون في أنّه لو أُصيب عمر بشيءٍ فمن يحكم المسلمين بعد أن يموت ؟ معنى هذا أنّ المسلمين يحملون همّ التجربة، وهمّ المجتمع، ومعناه أنّه لا يزال للأُمة وجود، عمر بن الخطاب انزعج من عمل المسلمين ومن وجود الأُمّة في الميدان؛ وذلك لأنّه يعرف أنّ وجود الأُمّة في الميدان معناه وجود عليعليه‌السلام في الميدان، ووجود الخطّ المعارض في الميدان؛ ولهذا صعد عمر المنبر وقال:إنّ أقواماً يقولون: من يحكم بعد أمير المؤمنين ؟! أَلا إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها .(٢)

ما معنى هذا الكلام من عمر ؟ يريد أن يقول: بأنّه لا يجوز للمسلمين أن يعودوا مرّةً أُخرى إلى التفكير المستقلّ في انتخاب شخص، وإنّما يجب أن يعيّن

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري ٢: ٤٥٧.

(٢) انظر: سيرة ابن هشام ٤: ٣٠٧، ٣٠٨.

١٤٤

لهم شخص من أعلى. عمر لم يجرأ أن يبيّن هذا المفهوم صراحة، عمر كان يريد أن يعيّن الحاكم من أعلى، لا أن تفكّر الأُمّة في تعيين هذا الحاكم كما فكّرت في ذلك بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك التفكير المشئوم، عمر بعد ذلك عبّر عمّا يريد صراحة حينما طُعن حيث جاءه المتملّقون وقالوا له: ينبغي أن توصي يا أمير المؤمنين ولا ينبغي أن تترك اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله هملاً، عندئذٍ عيّن ستّة أشخاص.(١)

صحيح أنّه لم يجرأ على تعيين واحد، وصحيح أنّه أعطى الأُمّة وجوداً ناقصاً حينما حصر الأمر في ستّة أشخاص عليهم أن يعيّنوا واحداً منهم. ولكنّه في هذا كان ينفّذ المؤامرة، المؤامرة التي كانت تنفّذ بالتدريج على وجود هذه الأُمّة وكيانها وإرادتها، عبد الرحمن بن عوف الذي كان هو قطب الرحى في هؤلاء الستّة لم يستطع أيضاً أن يطفئ دور الأُمّة، ولم يحلّ المشكلة عن طريق التفاوض فيما بين هؤلاء الستّة في اجتماع مغلق، وإنّما ذهب يستشير الأُمّة ويسأل المسلمين عن الذي يرشّحونه من هؤلاء الستّة ( إلى هنا كانت الأُمّة لا تزال تحتفظ بدرجة من وجودها بحيث أنّ صنيعة عمر بن الخطّاب لم تغفل وجود الأُمّة ) عبد الرحمن يسأل هذا ويسأل ذاك عن الذي يريدونه(٢) ، وأخيراً يقول: ما سألت عربياً إلاّ وقال: عليّعليه‌السلام ، وما سألت قرشياً إلاّ وقال: عثمان(٣) . ومعنى هذا أنّ جماهير المسلمين كانت تقول علي بن أبي طالبعليه‌السلام وعشيرة واحدة معيّنة كانت تريد أن تغصب الحكم من الأُمّة كانت تقول عثمان؛ لأنّ عثمان كان تكريساً لعملية النهب، بينما علي بن أبي طالبعليه‌السلام كان تعبيراً وتأكيداً لوجود الأُمّة في

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١: ٤٢، وتاريخ الطبري ٣: ٢٩٢ - ٢٩٣.

(٢) راجع: الطبري ٣: ٢٩٧.

(٣) الطبري ٣: ٣٠١.

١٤٥

الميدان ولهذا أرادته الأُمّة، وأرادت العشيرة عثمان، ثمّ جاء عثمان وفي دوره تكشّفت المؤامرة أكثر وامتدّت أكثر، أصبحت العشيرة تحكم وتقول بكلّ وقاحة: بأنّ المال مالنا، والأرض أرضنا، والخراج خراجنا إن شئنا أعطينا وإن شئنا حرمنا(١) ، لكن كان كلّ هذا خارج نطاق الدستور؛ لأنّ الصيغة في الدستور هي الصيغة الإسلامية، وهي أنّ المال مال الله والناس سواسية كأسنان المشط(٢) .

هذه هي الصيغة الإسلامية حتّى في عهد عثمان، ولكن هذا الوالي الأموي المتغطرس، أو ذاك الوالي المتعجرف كان ينطق ويترجم الواقع لا الدستور، فيقول: إنّ أرض السواد بستاننا نحن نعطي ونمنع، وهكذا كان.(٣)

ولكنّ كلّ هذا كان يعني أيضاً أنّه ما دامت الصيغة الإسلامية موجودة جماهيرياً فإنّ المؤامرة غير ناجحة بالرغم من الجذور ومن المقدّمات والإرهاصات النظريّة والعمليّة؛ لأنّ الأُمّة جاءت وطالبت عثمان بمضمون الصيغة الإسلامية في الدستور وتطالبه بخلع هذا الوالي أو ذاك؛ لأنّه منحرف، لأنّه لا يطبّق كتاب الله وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكن باستطاعة عثمان أن يجيب بصراحة ويقول: أيّتُها الأُمّة ليس لكِ إرادة؛ لأنّ الإرادة إرادتي وعليه فهذا الوالي يمثّلني أنا الحاكم المطلق.

ولكنّه كان يراوغ ويعتذر ويقيل ويُرجع وهكذا، كان يناور مع الأُمّة، هذه الأُمّة التي بدأت تحسّ بالخطر على وجودها فعبّرت عن ذلك تعبيراً ثورياً وقتلت

____________________

(١) راجع: تاريخ اليعقوبي ٢: ١٦٨.

(٢) تحف العقول: ٣٦٨، وبحار الأنوار ٧٨: ٢٥١، كتاب الروضة، الباب ٢٣، باب مواعظ الصادقعليه‌السلام ، الحديث٩٩.

(٣) مروج الذهب ٢: ٣٣٧ عن سعيد بن العاص الأموي الأشدق.

١٤٦

الخليفة.

وبعد هذا اتّجهت طبيعياً إلى الإمام عليعليه‌السلام لكي يعبّر من جديد عن وجودها، ولكي يحبط المؤامرة ولكي يعيد إلى هذه الأُمّة كرامتها داخل الدستور وخارجه، ولكي يقضي على كلّ انحراف خرج به الحكّام عن الصيغة الإسلامية عن الدستور.

فمن هنا كانت القضيّة لا تزال في بدايتها ولا تزال الأُمّة بحسب مظهرها - على الأقلّ - هي تلك الأُمّة التي قتلت الحاكم لتحافظ على وجودها، وعليعليه‌السلام صاحب الطاقات الكبيرة هو الشخص الوحيد الذي يؤمّل منه أن يصفّي عملية الانحراف.

فالظروف والملابسات لم تكن تؤدّي إلى يأس بل كانت تؤدّي إلى أمل، وما وقع خارجاً خلال السنوات الخمس كان يؤكّد هذا الأمل، فإنّ علياًعليه‌السلام لولا معاكسات جانبيّة - لم تكن تنبع من حقيقة المشاكل الكبرى في المجتمع - لاستطاع أن يسيطر على الموقف لولا مسألة التحكيم مثلاً، لولا أنّ شعاراً معيّناً خرج من قِبَل معاوية وانعكس بفهم خاطئ عند جماعة معيّنة من جيش الإمامعليه‌السلام ، لولا هذا لكان بينه وبين قتل معاوية وتصفيته بضعة أمتار.

إذن كان الأمل هو أنّ علياّعليه‌السلام يمكنه أن يحقّق الهدف، ويعيد للأمة وجودها من دون حاجة إلى المساومات وأنصاف الحلول. كان هذا الأمل أملاً معقولاً وكبيراً؛ ولهذا لم يكن هناك مجوّز لارتكاب أنصاف الحلول والمساومات، ولكنّ الأمل قد خاب وانتهى كَأمل حقيقي في تصفية الانحراف حينما خرّ هذا الإمام العظيمعليه‌السلام صريعاً في مسجده، ونجحت المؤامرة على وجود الأُمّة، غير أنّ الإمامعليه‌السلام حينما فتح عينيه في تلك اللحظة العصيبة ورأى الإمام الحسنعليه‌السلام يبكي وهو يدرك بأنّ وفاة أبيه هي وفاة لكلّ الآمال، أراد أن ينبّهه

١٤٧

إلى أنّ الخطّ لا يزال باقياً، وأنّ التكليف لا يزال مستمرّاً، وأنّ نجاح المؤامرة لا يعني أن نلقي السلاح، نعم المؤامرة نجحت يا ولدي، ولهذا سوف تشرّدون وسوف تقتلون، ولكن هذا لا يعني أنّنا يجب أن نلقي السلاح، ولا يعني انتهاء المعركة، ولهذا يجب أن تقاوم حتّى تقتل مسموماً ويجب أن يقاوم أخوك الحسينعليه‌السلام حتّى يقتل بالسيف(١) ومع ذلك لا بدّ أن يستمرّ الخطّ حتّى بعد سرقة وجود الأُمّة من الأُمّة؛ لأنّ محاولة استرجاع الوجود إذا بقيت في الأُمّة فسوف يبقى هناك ما يحصّنها من التميّع والذوبان.

الأُمّة حينما تنازلت عن إرادتها، وعن شخصيّتها لفرعون من الفراعنة تكون عرضة للذوبان والتميّع في أتونه، لكن إذا بقي لدى الأُمّة محاولة استرجاع هذا الوجود باستمرار - هذه المحاولة التي يحاولها خطّ عليّ ومدرسة عليّ والشهداء والصدّيقين من أبناء عليعليه‌السلام وشيعته - فسوف يبقى مع هذه المحاولة أمل في أن تسترجع الأُمّة وجودها، وعلى أقل التقادير سوف تحقّق هذه المحاولة مكسباً آنياً باستمرار وهو تحصين الأُمّة ضدّ التميّع والذوبان المطلق في إرادة الحاكم وفي إطاره، وهذا ما وقع.

أسأل الله أن يجعلنا من شيعته وأنصاره والسائرين في خطّه والمساهمين في هذه المحاولات.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٢: ٢٨٣.

١٤٨

الصعوبة التي واجهها الإمام عليعليه‌السلام

بعد البيعة

١٤٩

١٥٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الخليفة هو القيّم والأمين على الرسالة:

انتهينا في خطّ العرض العامّ إلى تولّي أمير المؤمنينعليه‌السلام لزعامة المسلمين سياسياً وإدارياً بعد مقتل عثمان، إلاّ أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما تولّى الخلافة بعد مقتل عثمان أراد أن يشرح للمسلمين بطريقته الخاصّة أنّ المسألة بالنسبة إليه ليست مسألة تبديل شخصٍ وذهاب شخصٍ ومجيء شخصٍ آخر، ليست مسألة فارقٍ اسميٍّ أو شخصيٍّ بين زعيم الأمس وزعيم اليوم، وإنّما هي مسألة اختلافٍ شاملٍ كاملٍ للمنهج، وفي كلّ القضايا المطروحة أمام الأمة لعلاجها وتصفيتها، كانعليه‌السلام يريد أن يبيّن للمسلمين النظرة الحرفيّة إليه، أن ينظر بوصفه قائماً على الخطّ، وقيّماً على منهج، وأميناً على رسالة، وعنواناً لدستورٍ جديدٍ يختلف عن الوضع المنحرف القائم بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

رفض الإمام عليّعليه‌السلام الخلافة أوّل الأمر:

لأجل هذا امتنع عن قبول الخلافة أوّل الأمر، فقال لهم: فكّروا في غيري، واتركوني وزيراً لمن تستخلفونه، فأنا لكم وزير خيرٌ منّي أمير(١) ، يعني على

____________________

(١) راجع: نهج البلاغة: ١٣٦، الخطبة ٩٢.

١٥١

مستوى حياة الدعة والكسل، على مستوى حياة الرخاء واليسر، على مستوى الحياة الفارغة من المسئولية، على مستوى هذه الحياة أنا وزير خيرٌ منّي أمير؛ لأنّي حينما أكون أميراً سوف أُرهقكم، سوف أُتعبكم، سوف أفتح أمامكم أبواب مسئولياتٍ كبرى، وأزرع في قلوبكم الهموم الكبيرة التي تجعل ليلكم نهاراً، وتجعل نهاركم ليلاً، هذه الهموم التي تجعلكم دائماً وأبداً تعيشون مشاكل الأُمّة في كلّ أرجاء العالم الإسلامي، هذه الهموم التي سوف تدفعكم إلى حمل السلاح - من دون حاجةٍ مادّية - لأجل تطهير الأرض الإسلامية من الانحراف الذي قام عليها....

اتركوني وزيراً أكون أفضل لكم على مستوى هذه الحياة منّي وأنا أمير؛ لأنّي كوزيرٍ لا أملك أن أرسم الخطط، ولا أن أضع الخطّ والمخطّط، وإنّما أنصح وأُشير. وحينئذٍ يبقى الوضع كان بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يبقى مستمراً.

أصرّوا عليه بأن يقبل أن يكون خليفة، ففرض عليهم الشروط، فقبلوا هذه الشروط إجمالاً دون أن يفسّر، ودون أن يوضّح. أعطاهم فكرةً عن أنّ عهده هو عهد منهجٍ جديدٍ للعمل السياسي والاجتماعي والإداري، فقبلوا هذا العهد، وكان هذا سبباً في أن ينظر المسلمون من اللحظة الأولى إلى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بوصفه نقطة تحوّلٍ في الخطّ الذي وجد بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا بوصفه مجرّد خليفة، وإنّما هذا بداية عهدٍ جديدٍ انتعشت معه آمال كبيرة.

انشقاق معاوية:

وحينما بويععليه‌السلام كان أكبر الصعاب التي واجهها بعد بيعته هو انشقاق معاوية بن أبي سفيان وتخلّف الشام بكامله تبعاً لمعاوية عن الانضمام إلى بيعته. هذا التناقض شقّ المجتمع الإسلامي أو الدولة الإسلامية إلى شقّين، ووجد في كلٌّ

١٥٢

من الشقّين جهاز سياسي وإداري لا يعترف بالآخر، ولا يعترف بمشروعيّة الآخر.

الفوارق بين وضع الإمام عليٍّعليه‌السلام ومعاوية:

ومنذ البدء كانت هناك فوارق موضوعية واضحة بين وضع علي بن أبي طالبعليه‌السلام السياسي والإداري، ووضع معاوية السياسي والإداري، تجعل هذه الفوارق معاوية أحسن موقفاً، وأثبت قدماً، وأقدر على الاستمرار في خطّه من إمام الإسلامعليه‌السلام .

هذه الفوارق الموضوعية لم يصنعها الإمامعليه‌السلام بيديه، وإنّما هي نتيجة تأريخ:

فأوّلاً: كان معاوية يستقلّ بإقليمٍ من أقاليم الدولة الإسلامية، ولم يكن لعليّعليه‌السلام أيّ رصيدٍ أو قاعدةٍ شعبيةٍ في ذلك الإقليم على الإطلاق؛ لأنّ هذا الإقليم كان قد دخل الإسلام بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وانعزال عليٍّعليه‌السلام عن خطّ العمل، وكان هذا الإقليم دخل ودشّن حياته الإسلامية بولاية يزيد أخي معاوية، ثمّ بعده بولاية معاوية، وعاش الإسلام من منظار ومن نطاق ولاة بني أميّة، ولم يسمع بعليعليه‌السلام ، ولم يتفاعل مع الوجود الإسلامي والعقائدي لهذا الإمام العظيم؛ لهذا لم يكن يملك شعارُ عليٍّ رصيداً وقاعدةً شعبيةً في المجتمع الذي تزعّمه معاوية، وحمل لواء الانشقاق فيه.

وهذا بخلاف العكس، فإنّ شعار معاوية كان يملك رصيداً قوياً وقاعدةً قويةً في المجتمع الذي تزعّمه الإمامعليه‌السلام ؛ لأنّ معاوية كان يحمل شعار الخليفة القتيل، والمطالبة بدم الخليفة القتيل، والخليفة القتيل كان أميراً على ذلك المجتمع الذي تزعّمه عليعليه‌السلام ، وكان لهذا الخليفة القتيل إخطبوط في هذا المجتمع

١٥٣

وقواعد في هذا المجتمع، وأرحام في هذا المجتمع، ومنتسبون ومرتبطون في هذا المجتمع؛ ولهذا كان شعار معاوية يلتقي مع وجوده، ومع قاعدةٍ ورصيدٍ في داخل مجتمع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بينما لم يكن شعار عليعليه‌السلام يلتقي مع قاعدةٍ ورصيدٍ في داخل مجتمع معاوية.

وثانياً : من ناحيةٍ أُخرى كانت طبيعة المهمّة تميّز معاوية عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، لأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام بوصفه الحاكم الشرعي والمسئول عن الأُمّة الإسلامية كان يريد أن يقضي على هذا الانشقاق الذي وجد في جسم الأُمّة الإسلامية، وذلك بتنحية هؤلاء المنحرفين، وإجبارهم بالقوّة على انضمامهم إلى الخطّ الشرعي، وكان هذا يستدعي الدخول في الحرب، ودفع الإنسان المسلم الذي كان يعيش تحت لواء حرب، دفعه إلى ساحة حرب لا يدافع عن نفسه وعن حرمه، بل يغزو دفاعاً عن إقليمٍ آخر.

كان عليّعليه‌السلام يريد من العراقي أن يخرج من العراق، تاركاً أمنه واستقراره، ومعيشته ورخاءه ليحارب أناساً شاميين لم يلتقِ معهم بعداوةٍ سابقة، وإنّما فقط بفكرة أنّ هؤلاء انحرفوا، ولا بدّ من إعادة أرض الشام للمجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية. فكان موقف عليٍّعليه‌السلام يتطلّب ويفترض ويطرح قضية الهجوم على أُناسٍ لا يملكون - في غالبيتهم - الوعي لخطورة تراخيهم على قمع هذا الانحراف، انطلاقاً من عدم استيعابهم لأبعاده.

وأمّا معاوية فكان يكتفي من تلك المرحلة بأن يحافظ على وجوده في الشام، ولم يكن يفكّر معاوية - ما دام أمير المؤمنين - أن يهاجم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأن يحارب العراق، ويضمّ العراق إلى مملكته، وإنّما كان يفكّر فقط في أن يحتفط فقط بهذا الثغر من ثغور المسلمين، حتّى تتهيّأ له الفرص والمناسبات والظروف الموضوعية بعد ذلك ليتآمر على الزعامة المطلقة في كلّ أرجاء العالم

١٥٤

الإسلامي. فمعاوية لم يكن يقول للشامي: اترك استقرارك وأمنك واذهب إلى العراق محارباً، لا لشيء إلاّ لأنّ هذا الشخص خارج عن طاعتي، ولكنّ علياًعليه‌السلام يقول هذا للعراقي؛ لأنّ علياًعليه‌السلام كان يحمل بيده مسئولية الأُمّة، ومسؤولية إعادة الوحدة للمجتمع الإسلامي، بينما كان معاوية كلّ مكسبه، كلّ همّه وقصارى أمله أن يحافظ على هذا الانشقاق، ويحافظ على هذه التجزئة التي أوجدها والتي كادها للإسلام والمسلمين. وشتّان بين قضية الهجوم حينما تطرح وقضية الدفاع.

وثالثاً : كان هناك فرق آخر بين معاوية والإمامعليه‌السلام ، وهذا الفرق هو أنّ معاوية كان يعيش في بلد، هذا البلد لم يكن قد نشأت فيه زعامات سياسية طامحة إلى الحكم والسلطان من ناحية، ولم يكن أُناس ممّن له سابقة في الإسلام، ممّن يرى لنفسه الحقّ في أن يساهم في التخطيط وفي التقدير، وفي حساب الحاكم، وفي رسم الخطّ، لم يكن هكذا، الشام أسلمت على يد معاوية وأخيه، كلّهم كانوا نتيجة لإسلام معاوية، ولإسلام أخي معاوية، ولإسلام من استخلف معاوية على الشام، ولم يكن قد مُني بتناقضات من هذا القبيل.

أمّا عليعليه‌السلام كان يعيش في مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعيش في حاضرة الإسلام الأولى التي عاش فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعاش بعده أبو بكر وعمر وعثمان، حتّى قتلا، ومن ناحيةٍ كان يواجه كثيراً من الصحابة من أصحاب السوابق في خدمة الإسلام، هؤلاء الذين كان كثير منهم من يرى أنّ من حقّهم أن يساهموا في التخطيط، وأن يشتركوا في رسم الخطّ، وكان لكلٍّ منهم اجتهاده وذوقه وقريحته في التخطيط وفي رسم الخطّ، كان يواجه عليعليه‌السلام أشخاصاً كانوا يرونه ندّاً لهم، غاية الأمر أنّه ندّ أفضل، ندّ مقدّم، لكنّهم صحابة كما أنّه هو صحابي عاش مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعاشوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

طبعاً إنّنا نعلم بأنّ خلافة عليٍّ كانت بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعشرين سنة ،

١٥٥

وهذا معناه أنّ ذلك الامتياز الخاصّ الذي يتمتّع به أمير المؤمنين في عهد النبوّة والذي عبّر عنه معاوية في رسالةٍ له لمحمّد بن أبي بكر حينما قال له: كان عليّ في عهد رسول الله كالنجم لا يطاول(١) ، ذاك الامتياز الخاصّ كان قد انتهى مفعوله ومفهومه، وتضاءل أثره في نفوس المسلمين، الناس عاشوا عشرين سنةً يرون عليّاًعليه‌السلام مأموماً، يرونه منقاداً، يرونه جندياً بين يدي أمير، هذا الإحساس النفسي خلال عشرين سنةً ذهب بتلك الآثار التي خلّفها عهد النبوّة.

وهكذا كان يُنظر إلى عليّعليه‌السلام بشكلٍ عام، عند الصحابة الذين ساهموا في حلّ الأمور وعقدها، وكانوا يمشون في خطّ السقيفة، هؤلاء الصحابة الذين كانوا في حلّ الأمور المعقدّة، وقدّموا خدمات للإسلام في صدر حياتهم، وكان قُدّر لهم بعد هذا أن يمشوا في خطّ الانحراف وفي خطّ السقيفة، هؤلاء كانوا ينظرون إلى عليّ كالأخ الأكبر، الزبير صحيح كان يخضع لعليّعليه‌السلام لكن كان يخضع له كالأخ الأكبر، لا يرى أنّ إسلامه مستمدّ منه، أنّ وجوده في الإسلام مستمدّ منه، هذه الحقيقة الثانية التي كانت واضحة على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حُرّفت خلال عهد الانحراف، خلال عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ ولهذا كان الزبير يعترف بأنّ عليّاً أفضل منه، لكنّه لا يرى نفسه مجرّد آله، ومجرّد تابع، ومجرّد جنديٍّ يجب أن يؤمر فيطيع، فكان هناك أُناس من هذا القبيل، هؤلاء يريدون أن يشتركوا في التخطيط، يشتركوا في رسم الخطّ، في ظرفٍ هو أدقّ ظرفٍ وأصرحه وأبعده عن عقول هؤلاء القاصرين. هذه من ناحية.

رابعاً : ومن ناحيةٍ أُخرى كانت توجد هناك الأطماع السياسية والأحزاب السياسية التي تكوّنت في عهد عمر بن الخطّاب، واستفحلت بعده نتيجةً للشورى ،

____________________

(١) راجع: مروج الذهب ٣: ١٢، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ١٩٠.

١٥٦

هذه الأحزاب السياسية كانت تفكّر في أمرها، وتفكّر في مستقبلها، وتفكّر في أنّه كيف تستفيد أكبر قدرٍ ممكنٍ من الفائدة في خضمّ هذا التيّار، في خضمّ هذا التناقض ؟ وهذا بخلاف معاوية لم يكن قد مني بصحابةٍ أجلاّء يعاصرونه ويقولون له: نحن صحابة كما أنت صحابي، بل كلّ أهل الشام كانوا مسلمين نتيجةً لإسلامه وإسلام أخيه، لم ير أحد منهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يسمع أحد القرآن إلاّ عن طريق معاوية، إذن فكانت حالة الاستسلام في المجتمع الشامي بالنسبة إليه لا يوجد ما يناظرها بالنسبة إلى الإمامعليه‌السلام في مجتمع المدينة والعراق.

خامساً : ومن ناحيةٍ خامسةٍ كان هناك أيضاً فرق آخر بين الإمامعليه‌السلام ومعاوية، وحاصل هذا الفرق هو: أنّ الإمامعليه‌السلام كان يتبنّى قضيّةً هي في صالح الأضعف من أفراد المجتمع، أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يتبنّى الإسلام بما فيه من قضايا العدالة الاجتماعية التي يمثّلها النظام الاقتصادي للإسلام، وهذه القضايا لم تكن في صالح الأقوى، بل كانت في صالح الأضعف، ومعاوية كان يمثّل الجاهلية بفوارقها وعنفوانها وطبقاتها، وهذا لم يكن في صالح الأضعف بل كان في صالح الأقوى؛ وذلك أنّه بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما دخل العراق والشام وبقية البلاد في داخل إطار المجتمع الإسلامي لم يقدر الخلفاء الذين تولّوا زعامة المسلمين على تذويب التنظيم القبائلي الذي كان موجوداً في هذه البلاد، بل بقي التنظيم القبائلي سائداً في هذه البلاد، وبقي زعيم كلّ قبيلةٍ هو الشخص الذي يرتبط بالسلطان، هو همزة الوصل بين قبيلته وبين السلطان. وهذا التنظيم بطبيعته يخلق جماعة من زعماء ومن شيوخ هذه القبائل الذين لم يروا الإسلام في المرتبة السابقة، تولم يعيشوا أيام النبوّة عيشاً صحيحاً يجعل من هؤلاء طبقةً معيّنةً ذات مصالح، وذات أهواء، وذات مشاعر في مقابل قواعدها الشعبية، ويُهيٍّئ لهم أسباب النفوذ

١٥٧

والاعتبار.

الآن تصوّروا مجتمعاً إسلامياً تركه الخلفاء المنحرفون وهو يفتّ بالتقسيمات القبليّة، ويفتّ بالتنظيمات القبليّة، بمعنى أنّ كلّ قبيلةٍ كانت تخضع إدارياً وسياسياً لزعامة تلك القبيلة التي تشكّل - كما قلنا - همزة وصلٍ بين القبيلة وبين السلطان، تصوّروا مجتمعاً من هذا القبيل يقول لهم أحد الأميرين يحمل أُطروحة التساوي بين شيخ هذه القبيلة وبين أفراد هذه القبيلة، ويحمل الآخر أن يرشي رؤساء هذه القبائل بقدر الإمكان، أيّ الأطروحتين تكون أقدر بالنسبة إلى هذا المجتمع، الأطروحة الأولى في صالح الأضعف وهو أكثر كمّاً ولكنّه أضعف هذا المجتمع، الأطروحة الثانية هي في صالح الأقوى كمّاً ولكنّه أقوى كيفاً، وهذا ما كان يفعله غير عليٍّعليه‌السلام من الحكّام، وهذا أيضاً كان عاملاً من عوامل القوّة بالنسبة إلى معاوية.

هذه الظروف الموضوعية لم يصنعها الإمامعليه‌السلام ، وإنّما هي صنعت خلال التأريخ، وأوجدت لمعاوية مركزاً قوياً، ووجد للإمام مركز ضعف، ولولا براعته الشخصية وكفاءته الشخصية ورصيده الروحي في القطاعات الشعبية الواسعة، لولا ذلك لما استطاععليه‌السلام أن يقوم بما يقام به، وحروب تلاقيه داخلية من خلال أربع سنوات....

بدأ الإمام بخلافته ودشّن عهده، وبدأ الانقسام مع هذا العهد على يد معاوية ابن أبي سفيان، وأخذ الإمام يهيّئ المسلمين للقيام بمسؤولياتهم الكبيرة للقيام بدورهم في تصفية الحسابات السابقة، في تصفيتها على المستوى المالي، على المستوى الاقتصادي، على المستوى الاجتماعي، على المستوى السياسي والإداري الذي كان يحتاج إلى الكفاح والقتال، وأخذ يدعو الناس إلى القتال، وخرجوا إلى القتال، إلاّ أنّه هنا ونحن قد درسنا عليّاً مع معاوية بحسب ظروفه

١٥٨

الموضوعيّة لا بدّ وأن ندرس الذهنية العامّة للمسلمين أيضاً، كيف كانت تفسّر هذا الخلاف الموجود بين علي ومعاوية ؟

ذهنيّة المسلمين ونظرتهم إلى الخلاف:

الذهنية العامة للمسلمين بدأت تفسّر هذا الخلاف بأنّه خلافٌ بين خطّ خلافةٍ راشدةٍ وبين شخصٍ يحاول الخروج على هذه الخلافة الراشدة، كانوا ينظرون إلى عليٍّ بشكلٍ عامٍّ على أنّه هو الخليفة الراشد الذي يريد أن يحافظ على الإسلام، ويحافظ على خطّ القرآن، وأنّ معاوية يتآمر. هذا المفهوم استطاع أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يزرعه بالرغم من الظروف الموضوعية التي قلناها، في ذهن القاعدة الشعبية الواسعة، في كلّ أرجاء العالم الإسلامي، عدا القطر الذي كان يرتبط بمعاوية، وهذه الذهنية هي التي تصبغ المعركة بين عليٍّعليه‌السلام ومعاوية بطابع الرسالة، كانت تعطيه معنىً رسالياً. وكانت تفسّر هذه المعركة بأنّها معركة بين اتّجاهين، بين فكرين، بين هدفين، وليست بين شخصيّتين، إلاّ أنّ الأمر تطوّر إلى أن أصبح جليّاً أنّ المسلمين بدأوا يشكّون شكّاً واسع النطاق بأنّ هذه المعركة بين أمير المؤمنينعليه‌السلام وبين معاوية معركة رسالية.

الشكّاكون وأسباب الشكّ:

من الصعب جدّاً تصوّر أنّه كيف يمكن للمسلمين أن يشكّوا في أنّ المعركة التي كانت قائمةً بين إمام الورع والتقى والعدالة، وبين شخصٍ خائنٍ منحرفٍ جاهليٍّ عدوّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانت معركةً رسالية ؟ كيف يمكن أن يشكّ أنّه لم تكن معركة رساليّة ؟

إلاّ أنّي لا أشكّ في أنّ عدداً كبيراً من المسلمين على مرّ الزمن في عهد

١٥٩

خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام بدؤوا يشكّون أنّ هذه المعركة هي رسالية حقيقية أو غير رسالية، فلنمسك الآن بأسباب هذا الشكّ أوّلاً، يجب أن نعرف أنّ المسلمين الذين شكّوا من هم ؟

إنّهم أولئك الذين عرفناهم عقيب وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هم أولئك المسلمون الذين خلّفهم رسول الله فكانت خير أُمّةٍ أُخرجت للناس، على مستوى إيمانهم وطاقاتهم الحرارية وكهربتهم من شخصيّة النبي ّصلى‌الله‌عليه‌وآله والمبادئ التي طرحها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن لم يكن لهم من الوعي العقائدي الراسخ إلاّ شيء قليل، هذا المعنى شرحناه وبيّناه وبيّنا جهاته فيما سبق، وقلنا: إنّ الأُمّة لم تكن على مستوى الوعي وإنّما كانت على مستوى الطاقة الحرارية، إذن فنحن سوف لن نتوقّع من هذه الأُمّة التي هي على مستوى الطاقة الحرارية، وعلى مستوى الوعي القليل نقاشاً رساليّاً منطقيّاً في حساب هذه المعركة، كما أنّ هذه الطاقة سوف لن نتوقّع فيها أن تبقى مشتعلة، وتبقى على جذوتها وحرارتها بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإطفاء الشمس من هذا المجتمع الإسلامي بعشرين سنةً تبقى هذه، هذا أيضاً ليس منطقيّاً، إذن فيجب أن نفكّر في أنّ هذه الطاقة الحرارية قد تضاءلت بدرجةٍ كبيرة، وحتّى تلك الصبابة من الوعي، تلك الجذور من الوعي التي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد بدأ بها لكي يواصل بعد هذا خلفاؤه المعصومونعليهم‌السلام عملية توعية الأُمّة، حتّى تلك البذور قد فُتّتت، وأُخفيت ومنع بعضها عن الإثمار، وبقي بعضها الآخر بذوراً منقسمة أيضاً. يجب أن نتصوّر الأُمّة الإسلامية بهذا الشكل، حينما نتصوّر الأُمّة الإسلاميّة بهذا الشكل.

من ناحية أُخرى يجب أن نتصوّر مفهوم المسلمين عن معاوية. نحن الآن ننظر إلى معاوية بعد أن استكمل حظه من الدنيا، وبعد أن دخل الكوفة وصعد على منبر علي بن أبي طالبعليه‌السلام وقال: إنّي لم أُحاربكم لكي تصوموا أو تصلّوا وإنّما

١٦٠