أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية14%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131688 / تحميل: 10279
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

حاربتكم لأن أتأمّر عليكم(١) ، بعد أن أعلن بكلّ صراحةٍ ووقاحةٍ عن هدفه، وبعد أن طرح بكلّ برودةٍ شعار الخليفة المظلوم، وشعار الخليفة القتيل، دخل عليه أولاد عثمان بن عفّان وقالوا له: لقد جعلنا هذا الأمر وتمّ الأمر لك يا أمير المؤمنين، فما بالك لا تقبض على قتلة أبينا ؟ قال: أوَ لا يكفيكم أنّكم صرتم حكّام المسلمين.(٢)

نحن ننظر إلى معاوية بعد أن ارتكب الفضائع وغيّر أحكام الشريعة وأبدع في السنّة ! ننظر إلى معاوية بعد أن استخلف يزيد ابنه على أمور المسلمين، بعد أن قتل مئاتٍ من الأبرار والأخيار، ننظر إلى معاوية بعد أن تكشّف أوضاعه، لكن فلنفرض أنّ شخصاً ينظر إلى معاوية قبل أن تنكشف له هذه الأوضاع، لنفترض أنّ أولئك الأشخاص يعيشون في إطار الأمّة الإسلامية وقتئذٍ.

معاوية ماذا كان ؟ ستتكشّف أوضاعه وقتئذٍ على مستوى المسلمين الذين كانوا يدورون في فلك حكومات السقيفة، ماذا كان من أوراق معاوية مكشوفة وقتئذٍ ؟

معاوية كان شخصاً قد مارس عمله الإداري والسياسي بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأقلّ من سنة، خرج من المدينة وذهب إلى الشام، ذهب هناك كعامل للشام حتّى إذا مات أخوه اُسند إليه ولاية الشام بكاملها، وبقي معاوية هناك(٣) ، وكان معاوية مدلّلاً محترماً معزّزاً من قبل عمر بن الخطّاب، الذي كان ينظر إليه بشكل عام في المجتمع الإسلامي بنظرة الاحترام والتقدير، حتّى أنّ عمر

____________________

(١) أعيان الشيعة ٤: ٢٦.

(٢) البيان والتبيين ٣: ٣٠٠، وشيخ المضيرة لأبي رية: ١٨٢.

(٣) راجع: تاريخ الخلفاء: ١٩٥.

١٦١

ابن الخطّاب حينما أراد أن يؤدّب ولاته استثنى معاوية من هذا التأديب، وحينما أراد أن يقاسم أموال ولاته استثنى معاوية من ذلك ! معاوية كان والياً موثوقاً به معزّزاً من الناحية الإسلامية عند ابن الخطّاب.

وبعد هذا جاء عثمان فوسّع من نطاق ولاية معاوية، وضمّ إليه عدّة بلاد أُخرى إضافة إلى الشام، ولم يطرأ أيّ تغيير في وضع معاوية. فمعاوية لم يكن شخصاً مكشوفاً بل كان شخصاً عنوانه الاجتماعي أنّه والٍ حريص على كرامة الإسلام، وأنّه هو الشخص الذي استطاع أن يدخل في قلب الخليفة الخشن الذي يعاتب ويعاقب، الذي كان يضرب ابنه بحدّ الخمر حتّى يموت، هذا الخليفة لم يضرب معاوية ولم يعاقبه، هذا هو المنظور إليه.

معاوية كان نتيجة الترويجات من قبل الحكّام والحكّام والخلفاء المنحرفين الذين كانوا معذورين - بالرغم من كونهم منحرفين - من أفراد الأُمّة الإسلامية، كان يتمتّع بسمعة طيّبة وبمفهوم طيّب.

تذرّع معاوية بشعار دم عثمان:

هنا دخل ولأوّل مرّة في الصراع شعارُ الأخذ بالثأر لدم عثمان، هذا الشعار الذي أخذه معاوية كان يبدو على مستوى البسطاء من الناس وكثير من المغفّلين شعاراً له وجهة شرعية، كان يقول بأنّ عثمان قُتل مظلوماً(١) ، وعثمان بالرغم من أنّه خان الأُمّة، وبالرغم من أنّه استهزأ بالإسلام، وبالرغم من أنّه حوّل الدولة الإسلامية إلى دولة عشيرة وقبيلة(٢) ، وبالرغم من أنّه ارتكب الجرائم التي أدنى

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ٧٨، وانظر تاريخ الطبري ٣: ٥٦١.

(٢) راجع: الإمامة والسياسة ١: ٥٠، وتاريخ الطبري ٣: ٣٧٧، ٣٨٢، وتاريخ الخلفاء: ١٥٦.

١٦٢

عقابها القتل، بالرغم من هذا، معاوية يقول: قتل عثمان مظلوماً. وليس هناك من الناس من يقول بأنّ عثمان يستحقّ القتل، كثير من الناس البسطاء أيضاً يقولون: عثمان قتل مظلوماً. إذن فعثمان قتل مظلوماً، فلا بدّ من القصاص، فيا علي أنت قادر على أن تعطينا قاتليه حتّى نقتلهم، إنّك قادر فأعطنا قاتليه، وإن كنت عاجزاً إذن فأنت عاجز من أن تطبّق أحكام الإسلام، فلا يجوز لك حكومة الإسلام بعد عثمان، فإنّ الخليفة يُشترط فيه القدرة على تطبيق أحكامه.

هذا هو الشعار الذي أبرزه معاوية في مقابل شعار الإمام، والإمامعليه‌السلام في مقابل هذا الشعار لم يكن يريد أن يصرّح بأنّ عثمان كان جديراً بأن يقتل، أو كان يجب أن يقتل؛ لأنّه لو صرّح بهذا إذن لتعمّق اتّهام معاوية وطوّر التهمة من قول أعطني قتلة عثمان، إلى قول: إنّك قتلت عثمان، فبقي شعار معاوية شعاراً مضلّلاً، مضلّلاً إلى حدٍّ كبير. هذا من ناحية.

كيف تمّ التشكيك في الإمام عليّعليه‌السلام :

ومن ناحيةٍ ثانيةٍ لا بدّ أن نلاحظ الجهود والأتعاب والتضحيات التي قام بها المسلمون في كنف الإمامعليه‌السلام ، لا أدري أنّه هل جُرّب أو لم يُجرّب هذا الإيحاء النفسي حينما تكون المهمّة صعبةً على الإنسان وثقيلةً على الإنسان وتوسوس له نفسه بالتشكيك، حينما يصعب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى يصعب عليه كلمة حقٍّ أمام رجلٍ مبطل ؟ حينئذٍ يأخذ بالوسوسة: من قال بأنّ هذا الرجل مبطل ؟ من قال إنّه قادر على هذا الكلام ؟ من قال إنّ شروط الأمر بالمعروف تامّة ؟ وهكذا يوسوس لأجل أن يستريح من هذه المهمّة، لأجل أن يلقي عن ظهره هذا العبء الكبير، كلّ إنسانٍ يميل بطبعه إلى الدعة، إلى الكسل، إلى الراحة، إلى الاستقرار، فإذا وضعت أمامه مهام كبيرة، حينئذٍ إذا وجد مجالاً

١٦٣

للشكّ في هذه المهمّة فسوف يكون عنده دافع نفسي إلى أن يشكّ، يشكّ لأجل أنّه يريد أن يشكّ، ويشكّ لأجل أنّه من مصلحته أن يشكّ، وهذا كان موجوداً على عهد الإمامعليه‌السلام .

العراقيّون قدّموا من التضحيات شيئاً كثيراً، بذلوا أموالهم ونفوسهم ودماءهم في حروبٍ ثلاثة، آلاف من العراقيين ماتوا وقتلوا، عشرات من الأطفال يُتِّموا، آلاف من النساء أصبحن أرامل، آلاف من البيوت والعوائل تهدّمت، كثير من المدن والقرى غارت عليها جيوش معاوية، كثير من هذه المآسي والويلات، كثير من ألوان الدمار حلّ بهؤلاء المسلمين، نتيجة ماذا ؟! ولأجل ماذا ؟! لأجل أن يزداد مالهم ؟! لا، لأجل أن يزداد جاههم ؟! لا؛ لأنّهم لا يشعرون من أنّ أهل الشام سرقوا شيئاً، وإنّما لحساب الرسالة، لحساب الخطّ، لحساب المجتمع الإسلامي، هذا الحساب لأجل هذا الهدف الكبير، وهذا هدف كبير أعزّ من كلّ النفوس، وأعزّ من كلّ الدماء، وأعزّ من كلّ الأموال.

لكن نحن يجب أن نقدّر موقف هؤلاء الذين ضحّوا وبذلوا وقدّموا، ثمّ أصبحوا يشكّكون لأنّ من مصلحتهم أن يشكّكوا، وأصبح الإمام يدفعهم فلا يندفعون، ويحرّكهم فلا يتحرّكون، لماذا ؟ لأنّ مصلحتهم أن يتصوّروا المعركة بتصوّرٍ جديد، أن يعطوا للمعركة مفهوماً جديداً، وهو أنّ القصّة قصّة زعامة علي أو معاوية، ما بالنا وعلي ومعاوية، إمّا أن يكون هذا زعيماً وإمّا أن يكون ذلك زعيماً، نحن نقف على التلّ ونتفرجّ، فإمّا أن يتمّ الأمر لهذا أو لذاك.

هذا التفسير بدت بداياته، وهذا التفسير الذي أوحت مصلحة هؤلاء إلى هؤلاء هو الذي كان يشكّل عقبةً كئوداً دون أن يتحرّك هؤلاء من جديد إلى خطّ الجهاد، هذا التفسير هو الذي جعل أمير المؤمنينعليه‌السلام يبكي وهو على المنبر، وينعى أصحابه الذين ذهبوا، أُولئك الذين لم يشكّوا فيه لحظة، أُولئك الذين آمنوا

١٦٤

به إلى آخر لحظة، أُولئك الذين كانوا ينظرون إليه كامتدادٍ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يبكي لعمّار وأمثاله، هذا عمّار الذي وقف بين الصفّين، ووضع سيفه على بطنه، وقال: والله إنّك تعلم لو كان رضاك أن تغمد هذا في بطني حتّى أخرجته من ظهري لفعلته، والله إنّك تعلم أنّي لا أعلم رضاً إلاّ في قتال هؤلاء المارقين المنحرفين(١) ، كان يبكي لأمثال عمّار؛ لأنّ عمّار وأمثاله كانوا قد ارتفعوا عن أمثال هذه الشكوك، قد طلّقوا مصالحهم الشخصيّة في مصلحة الرسالة، كانوا قد غضّوا النظر عن كلّ الاعتبارات الخاصّة في سبيل حماية كيان الإسلام، وفي سبيل إعادة مجد المجتمع الإسلامي ووحدة المجتمع الإسلامي إلى هؤلاء. لا يلتفت الإمام يمنةً ويسرةً إلاّ ويجد من له أبٌ قتيل، أو ابن صغير كيف يتركه ؟ أو زوجة كيف يرسلها ؟

الامتحان العصيب:

أصبح هؤلاء الذين كانوا يفكّرون في الهموم الكبيرة، أصبحوا يفكّرون في الهموم الصغيرة، أصبحوا يفكّرون في قضاياهم، يجب أن لا نعتب عليهم، فنحن أسوأ منهم، فنحن لم نرتفع لحظةً هكذا ثمّ نهبط، وهؤلاء ارتفعوا لحظةً ثمّ هبطوا. هؤلاء خرجوا من بلادهم وطلّقوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم في سبيل الله، وفي سبيل قضيّةٍ ليس لهم ربح مادّي فيها. هؤلاء فعلوا هذا ساعةً من الوقت ثمّ أدركهم الشيطان.

أمّا نحن لا ندري إذا وقفنا مثل هذا الموقف هل نصمد ولو ساعة، أو نبقى

____________________

(١) راجع بحار الأنوار ٣٢: ٤٩٠، نقله عن كتاب نصر بن مزاحم، وفي ٣٣: ١٣، نقله عن ابن الأثير.

١٦٥

في الحضيض ؟ على أيّ حالٍ هؤلاء كانوا بشر، لم يكونوا عمّار بن ياسر، هؤلاء بدأ الشكّ يتسرّب إلى نفوسهم، بدؤوا يشكّون في هذا الإمامعليه‌السلام الصالح حتّى تمنّى الموت، لأنّ الإمامعليه‌السلام أصبح يحسّ أنّ صلته الروحيّة قد انقطعت عن هؤلاء، إنّه أصبح منفصلاً عن هؤلاء. أصبحوا لا يفهمون أهدافه ورسالته. ومن أمرّ ما يمكن أن يقاسيه زعيم أو قائد أو صاحب منهج أن يعيش مع جماعة لا تتفاعل معه فكريّاً، ولا تعيش مع خطّه، مع إنسانٍ يبذل كلّ ما لديه في سبيلهم وأنّهم لا يحسّون أنّ كلّ هذا في سبيلهم، وإنّهم يشكّون فيه، يشكّون في نيّته، هذا هو الامتحان العصيب الذي قاساه عليه أفضل الصلاة والسلام، لكن بالرغم من هذا الامتحان لم تضعف قوّته ولم تهن عزيمته، بقي إلى آخر لحظةٍ يحاول أن يبثّ من روحه الكبيرة في هذا المجتمع المتفتّت الذي بدأ يشكّ، والذي بدأ يتوقّف. كان يحاول أن يبثّ فيهم من روحه الكبير، إلى أنّ خرّ شهيداً في مسجد الكوفة.

١٦٦

انحراف التجربة الإسلامية

وتخطيط الأئمةعليهم‌السلام لمواجهة الانحراف

١٦٧

١٦٨

بسم الله الرحمن الرحيم

القائد يجب أن يكون معصوماً:

قلنا: إنّ الذين تسلّموا القيادة الفعليّة وزمام التجربة الإسلامية بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان من المحتوم أن ينحدروا إلى الانحراف، ويزرعوا البذرة الصغيرة التي تنمو على مرّ الزمن لتأتي على التجربة وتحطّمها تحطيماً كاملاً بعد أن تبعد في التأريخ. بينما لو تسلّمها الأئمّةعليهم‌السلام لكان العكس، ولما وجدت تلك البذرة.

ولكن قد يقال: إنّ الأشخاص الذين انتزعوا قيادة التجربة الإسلامية بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كانوا غير مهيّئين سياسيّاً وروحيّاً، وإن كانوا يعيشون راسباً جاهليّاً على النحو الذي ذكر، وبالتالي لم يكونوا يمثّلون الدرجة الكاملة للانصهار مع هذه الرسالة، هذه الدرجة التي هي شرط أساسي لتزعّم هذه التجربة، ألا يكفي وجود أفرادٍ في الأُمّة يمكنهم أن يشرفوا على القيادة فيعطوا الضمان والحماية الكافية لعدم انحراف القيادة، ولعدم مواكبتها لخطّ الرسالة ؟

الفكرة في هذا البحث تقوم على هذا الأساس، على أساس أنّ قيادة التجربة يجب أن تكون على مستوى العصمة. وهذا في الواقع ليس من مختصات الشيعة. ليس من مختصّات الشيعة الإيمان بأنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً، بل هذا ما تؤمن به كلّ الاتجاهات العقائدية في العالم على الإطلاق، أيّ اتّجاهٍ

١٦٩

عقائدي في العالم يريد أن يبني الإنسان من جديدٍ في إطار عقيدته، ويريد أن ينشئ للإنسانية معالم جديدة فكريةً وروحيةً واجتماعيةً، هذا الاتجاه العقائدي يشترط لأن ينتج، وأن يتنجّز، وأن يأخذ مجراه في خطّ التأريخ أن يكون القائد الذي يمارس تطبيق هذا الاتجاه معصوماً.

يشترط في القيادة التي تطبّق الماركسية - بوصفها اتجاهاً عقائدياً يريد أن يصيغ الإنسان ويبلوره في إطاره الخاصّ - أن يكون معصوماً، إلاّ أنّ مقاييس العصمة تختلف. في الاتجاه الماركسي يجب أن يكون القائد الذي يمارس تطبيقه معصوماً بمقاييس الماركسية. والقائد الذي يمارس زعامة التجربة الإسلامية يجب أن يكون معصوماً بمقاييس إسلامية. والعصمة في الحالتين بمفهومٍ واحد، وهو عبارة عن الانفعال الكامل في الرسالة، والتجسيد الكامل لكلّ معطياتها في النطاقات الروحية والفكرية والعملية، هذه هي العصمة.

والشيعة لم يشذّوا باشتراط العصمة في الإمام عن أيّ اتجاهٍ عقائديٍّ آخر؛ ولهذا نرى في الاتجاهات العقائدية الأُخرى كثيراً ما يُتّهم القائد الذي يمثّل الاتجاه بأنّه ليس معصوماً، توجَّه إليه نفس التهمة التي يوجّهها المسلمون الواعون أصحاب عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى الخلفاء الذين تولّوا الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . نفس هذه التهمة يوجّهونها إلى القادة الذين يعتقدون أنّهم لم ينصهروا برسالاتهم، ولم يتفاعلوا باتجاهاتها تفاعلاً كاملاً.

بالأمس القريب جزء كبير من الماركسية في العالم انشطر على قيادة الاتحاد السوفييتي، واتّهم قيادة الاتحاد السوفييتي بأنّهم غير أهلٍ للحكم، بأنّهم غير مهيّئين لأن يكونوا قادةً للتجربة الماركسية، يعني غير معصومين بحسب لغتنا، إلاّ أنّ نفي العصمة عنهم بمقاييس ماركسيّةٍ لا بمقاييسنا الخاصّة، أي ليس بمقاييس إسلامية.

١٧٠

مقاييس العصمة:

إذن، فأصل الفكرة وجوهرها تؤمن به كلّ الاتجاهات العقائدية، وإنّما المقاييس لها تختلف باختلاف طبيعة تلك الاتجاهات. نعم، العصمة في الإسلام ذات صيغةٍ أوسع نطاقاً من العصمة في الاتجاهات العقائدية الأُخرى. وهذه السعة في صيغة العصمة تنبع من طبيعة سعة الإسلام نفسها، لأّن العصمة كما قلنا: هي التفاعل الكامل والانصهار الشامل والتجاوب مع الرسالة في كلّ أبعاد الإسلام. والرسالة الإسلامية تختلف عن أيّ رسالةٍ أُخرى في العالم؛ وذلك لأنّ أيّ رسالةٍ أُخرى في العالم لا تعالج إلاّ جانباً من الإنسان.

الماركسية التي تمثّل أحدث رسالةٍ عقائديةٍ في العالم الحديث تعالج جانباً من وجود الإنسان. تترك الإنسان حينما يذهب إلى بيته، حينما يذهب الإنسان إلى مخبئه، حينما يخلو الإنسان لنفسه ليس لها علاقةٍ مع الإنسان في هذه الميادين، وإنّما تأخذ بيده في مجال الصراع السياسي والاقتصادي لا أكثر من هذا المقدار. فصيغة الرسالة بطبيعتها صيغة منكمشة محدودة، صيغة تعالج جانباً من الحياة الإنسانية. فالعصمة العقائدية التي لا بدّ أن تتوفّر في قائدٍ ماركسيٍّ - مثلاً - هي العصمة في حدود هذه المنطقة التي تعالجها الرسالة العقائدية الماركسية.

أمّا الرسالة الإسلامية التي هي رسالة السماء على وجه الأرض فهي تعالج الإنسان من كلّ نواحيه، وتأخذ بيده إلى كلّ مجالاته، ولا تفارقه وهو على مخدعه في فراشه، وهو في بيته بينه وبين نفسه، وهو في أيّ مجالٍ من مجالات حياته، هذه الرسالة معه، وحيث إنّ هذه الرسالة معه ولا تفارقه في أيّ مجالٍ من مجالات حياته لهذا تكون الصيغة المحدودة من العصمة على أساس هذه الرسالة

١٧١

أوسع نطاقاً وأرحب أُفقاً وأقسى شروطاً، وأقوى من ناحية مفعولها وامتدادها في كلّ أبعاد الحياة الإنسانيّة.

فعصمة الإمام ليست هي عبارة عن مجرّد النزاهة في الحكم، وليست هي عبارة عن مجرّد الترفّع عن المال، بل هي عبارة عن النزاهة في كلّ فكرة، وفي كلّ عاطفة، وفي كلّ الشئون.

والنزاهة في كلّ فكرة وعاطفة وشأن عبارة عن انصهارٍ كاملٍ مع مفاهيم وأحكام الرسالة الإسلامية في كلّ مجالات هذه الأفكار والعواطف والشؤون. هذا استطرادٌ كان لا بدّ منه.

إذن، فالعصمة شرط لمجموع الاتجاهات العقائديّة، ونحن أيضاً نؤمن بأنّ العصمة هي شرط في هذا الاتجاه. وبطبيعة الحال حينما نقول ب-: أنّ العصمة شرط في هذا الاتجاه. لا نقصد به أمراً حتميّاً غير قابلٍ للزيادة والنقصان والتشكيك. نفس العصمة إذا حوّلناها إلى مفهوم النزاهة والتجاوب الكامل مع الرسالة تكون أمراً مقولاً بالتشكيك مختلفاً في الشدّة والضعف، وبوصف أنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام المرتبة الأسمى والأكمل من هذه المراتب المقولة بالتشكيك والمختلفة شدّةً وضعفاً نقول بإمامتهم.

عدم عصمة الزعامة والأُمّة:

ولنعد أخيراً إلى موضوع البحث فنقول بأنّ هؤلاء الذين تسلّموا أمر التجربة الإسلامية وزعامتها بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونوا معصومين حتّى بأدنى مراتب العصمة، بأدنى مراتب النزاهة والتفاعل مع الرسالة الإسلامية كما أشرنا إلى ذلك بالأمس، وحينئذٍ حيث إنّ التجربة تمثّل اتّجاهاً عقائدياً ورسالياً، وليس أنّ مجموعة من الناس يعيشون، مجرّد أنّهم يعيشون، وإنّما أيضاً هم هادفون، أُناس

١٧٢

مثاليّون، أُناس يمثّلون وجهة نظر معيّنةٍ في الكون والحياة والمجتمع، يمثّلون رسالةً لتغيير الحياة على وجه الأرض وتغيير التأريخ، إذن هذه التجربة العقائديّة الضخمة على هذا المستوى بحاجةٍ إلى قيادةٍ عقائديةٍ معصومةٍ تتوفّر فيها فعالية عالية جدّاً من النزاهة والتجرّد والموضوعيّة والانفعال بمعطيات هذه الرسالة. إذن لم تكن هذه موجودةً في القيادة.

قد يقال: إنّ العصمة كانت موجودةً في الأُمّة ككلّ، والأُمّة ككلٍّ كانت تمارس الإسلام، وكانت تمارس التوجيه، وكانت تمارس المراقبة للحكم القائم حتّى لا ينحرف، الأُمّة ككلٍّ كانت معصومة، وإذا كانت الأُمّة ككلّ معصومةً إذن فالعصمة قد حصلنا عليها عن طريق الوجود الكلّي للأمة. والفكرة التي قد يكون الحديث المروي من طرق العامّة يحاول تذليلها:أُمّتي لا تجتمع على خطأ (١) . إلاّ أنّ هذه الفكرة غير صحيحة، نحن نؤمن أنّ الأُمّة بوجودها المجموعي لم تكن معصومةً كما هي الحال في الخلفاء الذين استولوا على الزعامة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، طبعاً إذا استثنينا الزعامة المعصومة الموجودة في داخل هذه الأُمّة والمتمثّلة في اتجاه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

تنشئة الأُمّة من قبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

هذا بالرغم من أنّنا نعترف ونفتخر ونمتلئ اعتزازاً بالإيمان بأنّ الأُمّة الإسلامية التي أسّسها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والتي حرسها ضربت أروع نموذجٍ للأمّة في تأريخ البشرية على الإطلاق. الأُمّة الإسلامية كانت الأُمّة المثلى الكاملة التي أمكن للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في وقتٍ قصيرٍ جدّاً نسبيّاً في تأريخ إنشاء الأُمم في مدّةٍ لا تبلغ

____________________

(١) سنن ابن ماجه ٢: ١٣٠٣، الحديث ٣٩٥٠.

١٧٣

ربع قرنٍ أن ينشئ اُمّةً لها من الطاقة والإرادة والحرارة القدر الكبير، والذي لا يمكن للإنسان الاعتيادي أن يخيّل كيف تمكّن من إيجادها. هذه الأُمّة التي قدّمت من التضحيات في أيام النبيّ في سبيل رسالتها ما لم تقدّم أيّ اُمّةٍ قبلها، هذا التسابق على الجنّة، التسابق على الجهاد، التسابق على الموت، الإيثار الذي كان موجوداً بين المسلمين، روح التآخي التي شاعت في المسلمين، المهاجرون والأنصار كيف عاشوا ؟ كيف تفاعلوا ؟ كيف انصهروا ؟ اُنظر إلى أهل بلدٍ واحدٍ ينزح إليهم أهل بلدٍ آخر يأتون إليهم ليقاسموا هؤلاء خيرات بلادهم ومعاشهم وأموالهم، بل حتّى نساؤهم، وهؤلاء يستقبلونهم برحابة صدر، ينطلقون معهم، ينظرون إليهم أنّهم إخوة لهم، يعيشون مجتمعاً واحداً وكأنّهم كانوا قد عاشوا مئات السنين.

هذه الانفتاحات العظيمة في كلّ ميادين المجتمع التي حقّقتها الأُمّة بقيادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذه الانفتاحات لا مثيل لها، وبالرغم من كلّ هذا نقول بأنّ الأُمّة لم تكن معصومة، وأنّ كلّ هذه الانفتاحات كانت قائمةً على أساس الطاقة الحرارية التي كانت تمتلكها الأُمّة من لقاء القائد الأعظم، ولم تكن قائمةً على أساس درجةٍ كبيرةٍ من الوعي الحقيقي للرسالة العقائدية.

الطاقة الحراريّة في الأُمّة:

نعم، كان الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس عملية توعية الأُمّة، وعملية الارتفاع بالأُمّة إلى مستوى اُمّةٍ معصومة. هذه العملية التي كانت مضغوطة، والتي بدأ بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لكن لم ينجز شيئاً منها في هذه الخُطّة. إنّما الشيء الذي أُنجز في هذه الخطّة، في خطّ عمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على مستوى الأُمّة ككلّ، وليس على مستوى أفرادٍ معدودين هو إعطاء الأُمّة طاقةً حراريةً من الإيمان بدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً، هذه

١٧٤

الطاقة الحرارية التي كانت تمتلكها الأُمّة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وفي كلّ لحظةٍ من لحظات انتصارها أو انكسارها هي المصدر، وهي السبب في كلّ هذه الانفتاحات العظيمة. وكانت روح القائد هي التي تجذب، وهي التي تحصد، وهي التي تقود هؤلاء إلى المثل العليا والقيم الضخمة الكبيرة التي جسّدها الرائد الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بين يديهم. إذن فهي طاقة حرارية وليست وعياً.

الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية:

وقلنا فيما سبق: إنّ الطاقة الحرارية والوعي قد يتّفقان في كثيرٍ من الأحيان، ولكن لا يمكننا المقارنة في الحالات الاعتيادية بين أُمّةٍ واعيةٍ وبين اُمّةٍ تملك طاقةً حراريةً كبيرةً دون درجةٍ كبيرةٍ من الوعي.

نعم، قد تكون هناك مظاهر مشتركة في كثيرٍ من الأحيان، ولكن في منعطفاتٍ معيّنةٍ من حياة هذه الأُمّة، في لحظاتٍ حاسمةٍ ومواقف حرجةٍ من تأريخها يتبيّن الفرق بين الوعي والطاقة الحراريّة، يتبيّن هذا في لحظات الانفعال، الانفعال الشديد، سواء كان انفعالاً موافقاً لعمليات الانتقال أو انفعالاً معاكساً. في هذه اللحظات يبدو حينئذٍ الفرق بين الطاقة الحرارية وبين الوعي؛ لأنّ الوعي لا يتزعزع في لحظة الانفعال، يبقى ثابتاً وصامداً لا يلين ولا يتميّع في لحظة الانفعال، وعي الإنسان وإيمانه بأهدافه ومسؤولياته فوق كلّ الانفعالات، فوق كلّ المشاكل والانتصارات، أيّ انتصارٍ يحقّقه الإنسان لا يمكن أن يخلق فيه انفعالاً يزعزعه إذا كان واعياً وعياً حقيقياً.

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الرجل العظيم يدخل إلى بيت الله الحرام منتصراً، لحظة الانتصار هذه لم تزعزع من خُلقه، من وضعه، لم تخلق فيه نشوة الانتصار، وإنّما خلقت فيه ذُلّ العبودية، شعر بذلّ العبودية أكثر ممّا شعر بنشوة الانتصار.

١٧٥

هذا هو الذي يمثّل الوعي العظيم، لكنّ المسلمين عاشوا نشوة الانتصار في لحظاتٍ عديدة، وكذلك في لحظاتٍ أُخرى، لحظات الصدمة والمأساة، يبقى صامداً أمام المشكلة لا يلين ولا يتراخى، يبقى على خطّه واضحاً. النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يبدو عليه أيّ فرقٍ بينه وهو داخل مكّة فاتحاً، وبينه وهو مطرود في الحجاز من قبائل العرب المشركين. يتوجّه إلى ربّه يقول له: لا يهمّني ما يصنع هؤلاء إذا كنت راضياً عنّي(١) ، نفس الروح التي نجدها في لحظة انقطاعه، في لحظة مواجهته البشرية التي تحمل ألوان الشرور، في لحظة تمرّد الإنسان على هذا الذي جاء ليُصلحه. لم تتبدّل حالته في هذه اللحظة وبين حالته والإنسانية تستجيب، والإنسانية تخضع، والإنسانية تُطأطئ رأسها بين يديه، بين يدي الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا هو الوعي. أمّا الأُمّة لم تكن هكذا، ولا نريد أن نكرّر الشواهد حتّى يأتي البحث اليوم كاملاً، الشواهد على أنّ الأُمّة كانت غير واعيةٍ وإنّما هي طاقة حرارية مرّت في الأيام السابقة. إذن فالأُمّة الإسلامية كانت تحمل طاقةً حراريةً كبيرةً ولم تكن اُمّةً واعيةً بدرجةٍ كبيرة، فلم تكن العصمة متوفّرةً لا في القيادة، ولا في الأُمّة بوجودها المجموعي، ومن أجل هذا كان الانحراف حتمياً على النحو الذي بيّنّا بالأمس.

تخطيط الأئمّةعليهم‌السلام لمواجهة الانحراف:

وهكذا بدأ الانحراف بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقلنا: إنّ الخطّ الذي بدأه الأئمّةعليهم‌السلام كان ينحلّ إلى شكلين:

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري ٢: ٨١.

١٧٦

الخطّ الأوّل : وهو خطّ محاولة القضاء على هذا الانحراف بالتجربة الإسلامية، تجربة المجتمع الإسلامية والدولة الإسلامية، حيث إنّ التجربة انحرفت بإعطاء زمامها إلى أُناسٍ لا يؤتمنون عليها وعلى مقدّراتها ومُثلها وقيمها، ولذا كان لا بدّ من العمل لتسلّم زمام هذه التجربة.

الخطّ الثاني : هو الخطّ الذي كان الأئمةًعليهم‌السلام يؤدّونه حتّى في الحالات التي كانوا يرون أن ليس في الإمكان السعي وراء تسلّم زمام هذه التجربة، وهو خطّ الضمان لوجود الأُمّة في المستقبل البعيد، لأنّنا قلنا: حيث إنّ التجربة انحرفت كان من المنطقي في تسلسل الأحداث أن يتعمّق هذا الانحراف، ثمّ يتعمّق حتّى تنهار التجربة أمام أوّل غزوٍ تتعرّض له هذه الأُمّة.

حيث إنّ الأُمّة الإسلامية لم تعش إلاّ التجربة المنحرفة المضلّلة، إلاّ هذه التجربة المشوّهة عن الإسلام، إذن فسوف لن تحارب عن إسلامها كأُمّة. بعد أن تنهار الدولة، وتنهار الحضارة الحاكمة تنهار الأُمّة كأُمّةٍ أيضاً، سوف تتنازل عن إسلامها، لأنّها لم تجد في هذا الإسلام ما تدافع عنه.

أعتقد أنّ الأُمّة الإسلامية لو كانت قد عاشت الإسلام من منظار عمر وأبي بكر وعثمان ومعاوية وعبد الملك بن مروان وهارون الرشيد والباقي من هؤلاء الخلفاء غير الصالحين فقط الذين تزعّموا التجربة الإسلامية، لو أنّ الأُمّة كانت قد عاشت الإسلام من هذا المنظار فقط إذن لتنازلت عن هذا الإسلام برحابة صدر.

ماذا وجدت من هذا الإسلام ؟ وماذا جنت منه ؟ كيف نقدر أن نتصوّر أنّ الإنسان غير العربي يدافع عن الإسلام الذي يتبنّى زعامة العربي على غير العربي ؟ كيف نتوقّع من الفارسي أن يدافع عن كيانٍ يعتبر هذا الكيان ملكاً لأسرةٍ واحدةٍ من قبائل العرب وهو أُُسرة قريش ؟ كيف يعقل أنّ هؤلاء المسلمين

١٧٧

يشعرون بأنّهم قد وجدوا حقوقهم وكرامتهم في مجتمعٍ يضجّ فيه بكلّ ألوان التفاوت والتمييز والاستئثار ؟ ولذا كان من الطبيعي أن يتنازلوا عن هذا الإسلام حينما تنهار التجربة بعد تعمّق الانحراف.

إلاّ أنّ الذي جعل الأُمّة لا تتنازل عن الإسلام هو المثل الآخر الذي قُدّم له، مثل واضح المعالم، أصيل المثل والقيم، أصيل الأهداف والغايات، قدّمت له أُطروحة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام .

ولنعلم مسبقاً، وقبل أن نأتي إلى التفاصيل، أنّ هذه الأُطروحة التي قدّمها الأئمّةعليهم‌السلام للإسلام لم تكن تتفاعل مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام فقط، بل كان لها صدىً كبير في كلّ العالم الإسلامي، حيث إنّ الأئمّةعليهم‌السلام كانت لهم أُطروحة الإسلام، وكانت لهم دعوى لإمامة أنفسهم لم يطلبوا لها إلاّ عدداً ضئيلاً من مجموع الأُمّة الإسلامية إلى مدّةٍ طويلة، إلاّ أنّ الأُطروحة الأُخرى التي تمثّل الإسلام الصحيح، والتي مثّلها الأئمّةعليهم‌السلام والواعون الملتفّون حولهم تفاعلت مع مجموع الأُمّة الإسلامية في كلّ أبعادها، مع مفكّريها وأكابرها، وهي التي ثبّتت إسلام الأقطار الإسلامية، حيث إنّها تضمّنت الأُطروحة الصحيحة للإسلام، والنموذج الواضح الصريح له في كلّ مجالاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والخلقية والعبادية، ممّا جعل المسلمين يسهرون على هذه التجربة ويحمونها، حيث إنّهم ينظرون إليها بمنظارٍ آخر غير منظار الواقع المعاش، وعلى أساسٍ من هذا نبدأ بتحليل الموقف عقيب وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ضوء هذه الأُطروحة.

موقف أمير المؤمنينعليه‌السلام في مواجهة الانحراف:

أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما واجه الانحراف في التجربة عقيب وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

١٧٨

قام بعملية تعبئةٍ فكريةٍ في صفوف المسلمين مؤدّاها: أنّ هذا الوضع الجديد هو وضع غير طبيعيٍّ ومنحرف عن الخطّ الإسلامي، واستعان بهذا الصدد ببنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قرينته العظيمة؛ وذلك لأجل أن يستثير في نفوس المسلمين عواطفهم، ومشاعرهم المرتبطة بأعزّ شخصٍ يحبّونه وهو شخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، إلاّ أنّه فقدهاعليها‌السلام ولم يستطع أن يستثير المسلمين بالدرجة التي تحوّل مجرى التجربة وتجعل هناك تبدّلاً أساسياً في الخطّ القائم. وكان ذلك أمراً طبيعياً.

ولكي نفهم هذا يكفي أن نلتفت إلى نفس ما أصاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الرائد الأعظم لهذه الرسالة، ما أصابه من قلقٍ وارتباكٍ في سبيل تركيز إمامة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ماذا دهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصابه ؟ هذا النبيّ العظيم الذي لم يتلكّأ ولم يتلعثم ولم يتردّد في أيّ لونٍ من ألوان التركيز والعمل في سبيل تلك المهمّات. هذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله العظيم الذي لم يشعر بالخوف ولا القلق، والذي لم يخفق قلبه بأيّ لونٍ من ألوان الوساوس والشكوك، ولا بأيّ لونٍ من ألوان الضعف والانهيار، هذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذاته يقف حائراً أمام الأمر الإلهي في أن يبلّغ وأن يركّز إمامة عليّ بن أبي طالب، حتّى ما جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من إنذاره بأن يُبلّغ، وإلاّ فكأنّه لم يبلّغ الرسالة(٢) ، أي أنّه كان مستوى الخطر في نظر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يصل إلى درجة هدر شخصيّته، شخصيّة الرائد الأوّل وصاحب الرسالة، أي أنّ الانحراف كان على سبيلٍ من المنعة، هذه المنعة التي كانت تمنع عن تزعّم عليٍّعليه‌السلام للتجربة

____________________

(١) الإمامة والسياسة: ١٢، والاختصاص: ١٨٤.

(٢) وهو قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ... ) المائدة: ٦٧.

١٧٩

الإسلامية عميقة قوية واسعة؛ بدرجة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه كان يخشى من أن يُعلن عن تشريع هذا الحكم وليس عن تطبيقه بحسب الخارج. وكذا حينما أراد أن يسجّل هذا الحكم، حينما أراد أن يسجّله في كتاب.

المسلمون لأوّل مرّة في تأريخ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا النبيّ الذي كانوا يتسابقون إلى الماء الذي يتقطّر من وضوئه(١) ، هذا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي ذهب رسول قريش إلى قريش يقول لهم: إنّي رأيت كسرى وقيصر وملوك الأرض فما رأيت رجلاً انجذب إليه جماعته وأصحابه، ويؤمنون به، كما ذاب أصحاب محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله في محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يشعرون بوجودهم أمام هذا الرجل العظيم(٢) . وبالرغم من كلّ هذا وفي مجلسهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم واحد من أصحابه فيقول ما يقول !! بما تعلمون، ثمّ لا يحصل بعد هذا أيّ ردّ فعلٍ لهذا الكلام، أيّ ردّ فعلٍ حاسمٍ حينما يقوم هذا الصحابي ويقول هذا الكلام وينحرف بهذا الشكل الواضح ؟! ولا يجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أن يقول: ( قوموا عنّي )(٣) ، المسألة كانت بهذه الدرجة من المنعة والشمول.

وعلى سبيل الإجمال يجب أن نعلم بأنّ عليّاًعليه‌السلام لم يكن رئيساً ولا كان قاصراً أو مقصّراً حينما فشل؛ لأنّه غير محتملٍ، خصوصاً وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قمّة النشاط والحيويّة والجهاد ومع ذلك واجه هذه المشاكل والصعاب تجاه تشريع الحكم، فكيف يكون الإمام أمام تنفيذه في قبال هذه الموانع ؟

____________________

(١) إعلام الورى ١: ٢٢٠.

(٢) إعلام الورى ١: ٢٢١.

(٣) أمالي الشيخ المفيد: ٣٦ - ٣٧، المجلس الخامس، وعنه في البحار ٢٢: ٤٧٤، تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الباب الأوّل، باب وصيتّه عند قرب وفاته، الحديث ٢٢.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وإن لم يحتمله ، كما لو باع شقصاً مستوعباً يساوي ألفين بألف ، فإن ردّه الورثة ، بطل البيع في بعض المحاباة ، وهو ما زاد على الثلث. وفي صحّة البيع في الباقي للشافعيّة طريقان :

أحدهما : التخريج على الخلاف في تفريق الصفقة.

والثاني : القطع بالصحّة(١) .

وهو مذهبنا ، لكنّ المشتري بالخيار ؛ لتبعّض الصفقة عليه ، فإن اختار الشفيع أن يأخذه ، لم يكن للمشتري الردُّ. وإن لم يرض الشفيع بالأخذ ، فللمشتري الخيارُ بين أخذ الباقي وبين الردّ.

وعلى الصحّة ففيما يصحّ البيع؟ للشافعيّة قولان :

أحدهما : أنّه يصحّ في قدر الثلث والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن.

والثاني : أنّه لا يسقط من المبيع شي‌ء إلّا ويسقط ما يقابله من الثمن(٢) .

وهذا الأخير هو الأقوى عندي ، وقد تقدّم(٣) بيانه.

فإن قلنا بالأوّل ، صحّ البيع - في الصورة المفروضة - في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن. وإن قلنا بالثاني ، دارت المسألة.

وطريقه أن نقول : صحّ البيع في شي‌ء من الشقص بنصف شي‌ء ، يبقى مع الورثة ألفان يعادل شيئاً ونصفاً والشي‌ء من شي‌ء ونصف ثلثاه ، فعلمنا صحّة البيع في ثلثي الشقص ، وقيمته ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث بثلثي الثمن ، وهو نصف هذا ، فتكون المحاباة بستّمائة وستّة وستّين‌

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٣) في ص ٢٤ ، المسألة ٥٦٠.

٢٤١

وثلثين ، يبقي للورثة ثلث الشقص وثلثا الثمن وهُما ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث ، وذلك ضِعْف المحاباة.

وعلى القولين(١) للمشتري الخيارُ حيث لم يسلم له جميع المثمن(٢) . فإن اختار ، أخذ الشفيع خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن على الأوّل ، وثلثيه بثلثي الثمن على الثاني.

ولو فسخ المشتري قبل طلب الشفيع ، لم تبطل الشفعة عندنا. وللشافعي قولان(٣) .

ولو أجاز الورثة ، صحّ البيع في الجميع.

ثمّ إن قلنا : إنّ إجازتهم تنفيذ لما فعله المورّث ، أخذ الشفيع الكلَّ بكلّ الثمن. وإن قلنا : إنّها ابتداء عطيّة منهم ، لم يأخذ الشفيع القدر النافذ بإجازتهم ، وأخذ القدر المستثنى عن إجازتهم. وفيه القولان المذكوران عند الردّ.

وإن كانا وارثين أو كان المشتري وارثاً ، فهي محاباة للوارث ، وهي عندنا صحيحة ، فالحكم فيه كما في الأجنبيّ.

أمّا الجمهور : فإنّهم منعوا من المحاباة للوارث ، فتكون المحاباة مردودةً(٤) .

ثمّ للشافعي قولان ، فإن لم يفرّق الصفقة ، بطل البيع في الجميع. وإن قال بالتفريق ، فإن قال في القسم الأوّل على ما سبق من التصوير : إنّ البيع‌

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « التفريق » بدل « القولين ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الثمن » بدل « المثمن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٤ ، المغني ٥ : ٤٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣٥.

٢٤٢

يصحّ في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن ، فهنا في مثل تلك الصورة يصحّ البيع في نصفه بجميع الثمن. وإن قلنا هناك : يصحّ في ثلثيه بثلثي الثمن ، فهنا يبطل البيع في الكلّ ؛ لأنّ البيع لا يبطل في شي‌ء إلاّ ويسقط بقدره من الثمن ، فما من جزء يصحّ فيه البيع إلاّ ويكون بعضه محاباةً ، وهي مردودة.

وفيه كلامان :

أحدهما : أنّ المفهوم من هذا التوجيه شيوع المعاوضة والمحاباة في جميع الشقص ، وذلك لا يمنع تخصيص قدر المحاباة بالإبطال ، كما أنّه لم يمنع في القسم الأوّل تخصيص ما وراء القدر المحتمل من المحاباة بالإبطال.

والثاني : أنّ الوصيّة للوارث - عندهم(١) - موقوفة على إجازة باقي الورثة على رأي ، كما أنّ الوصيّة بما زاد على الثلث موقوفة على إجازة الورثة على رأي ، فلنفرّق هنا أيضاً بين الإجازة والردّ ، كما في الأوّل.

إذا عرفت هذا وقلنا بالأوّل ، تخيّر المشتري بين أن يأخذ النصف بكلّ وبين أن يفسخ ، لأنّ الصفقة تفرّقت عليه ، ويكون للشفيع أن يأخذ ذلك وإن كان وارثا ، لأنّه لا محاباة فيه.

وإن أراد المشتري الردَّ وأراد الشفيع الأخذَ ، كان حقّ الشفيع مقدّماً ؛ لأنّه لا ضرر على المشتري ، وجرى مجرى المبيع المعيب إذا رضيه الشفيع لم يكن للمشتري ردّه.

وإن كان الشفيع وارثاً دون المشتري ، فعندنا يصحّ البيع فيما يحتمل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢

٢٤٣

الثلث ، ويكون للشفيع أخذه بالشفعة.

وقالت الشافعيّة : إن احتمل الثلث المحاباة أو لم يحتمل وصحّحنا البيع في بعض المحاباة في القسم الأوّل ومكّنّا الشفيع من أخذه ، ففيه وجوه :

أ - أنّه يصحّ البيع في الجميع ، ولا يأخذه الوارث بالشفعة ، وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة.

أمّا صحّة البيع : فلأنّ المشتري أجنبيّ.

وأمّا بطلان الشفعة : فلأنّها لو ثبتت ، لكان المريض قد نفع وارثه بالمحاباة ؛ لأنّ الشفعة تستحقّ بالبيع ، فقد تعذّرت الشفعة ، فلم نعد ذلك بإبطال البيع ، لأنّها فرع عليه ، وإذا بطل بطلت ، فلم تبطل لأجلها - وهو أصحّ الوجوه عندهم - لأنّا إذا أثبتنا الشفعة ، فقد جعلنا للوارث سبيلاً إلى إثبات حقٍّ له في المحاباة. ويفارق الوصيّة ممّن له عليه دَيْنٌ ؛ لأنّ استحقاقه للآخَر إنّما هو بدَيْنه ، لا من جهة الوصيّة ، وهذا استحقاقه حصل بالبيع ، فافترقا.

ب - أنّه يصحّ البيع ويأخذه الوارث بالشفعة ؛ لأنّ محاباة البائع مع المشتري ، وهو أجنبيّ عنه ، والشفيع يتملّك على(١) المشتري ، ولا محاباة معه من المريض.

ج - أنّه لا يصحّ البيع أصلاً ؛ لأنّه لو صحّ لتقابلت فيه أحكام متناقضة ؛ لأنّا إن لم نثبت الشفعة ، أضررنا بالشفيع ، وإن أثبتناها ، أوصلنا إليه المحاباة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مع » بدل « على ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

٢٤٤

د - يصحّ البيع في الجميع ويأخذ الشفيع ما يقابل الثمن منه ، ويبقى الباقي للمشتري مجّاناً ؛ لأنّ المحاباة تصحّ مع الأجنبيّ دون الوارث ، ويُجعل كأنّه باع بعض الشقص منه ووهب بعضه ، فيأخذ المبيع دون الموهوب.

ه- أنّه لا يصحّ البيع إلّا في القدر الموازي للثمن ؛ لأنّه لو صحّ في الكلّ فإن أخذه الشفيع ، وصلت إليه المحاباة ، وإن أخذ ما وراء قدر المحاباة ، كان إلزاماً بجميع الثمن ببعض المبيع ، وهو على خلاف وضع الشفعة(١) .

ويضعّف بأنّ صحّة البيع لا تقف على اختيار الشفيع للشفعة.

وقد يقال في العبارة عن هذا الوجه : إن ترك الشفيع الشفعة ، صحّت المحاباة مع المشتري ، وإلّا فهو كما لو كان المشتري وارثاً ، فلا تصحّ المحاباة.

ووجه ترتيب هذه الأقوال أن يقال : في صحّة البيع وجهان ، إن صحّ فيصحّ في الجميع أو فيما وراء قدر المحاباة؟ وجهان ، إن صحّ في الجميع فيأخذ الجميع بالشفعة أو ما وراء قدر المحاباة أو لا يأخذ شيئاً؟ ثلاثة أوجه(٢) .

وهذا - عندنا - كلّه ساقط.

مسالة ٧٣٥ : من شرط الشفعة : تقدّم ملك الآخذ على ملك المأخوذ منه على ما سبق ، فلو كان في يد اثنين ملك اشترياه بعقدين وادّعى كلٌّ

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٧٨ - ٧٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٧ - ٣٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ - ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣.

٢٤٥

منهما سبق عقده على عقد صاحبه ، وأنّه يستحقّ الشفعة عليه ، فمن أقام البيّنة منهما على دعواه حُكم له بها ، وسقطت دعوى الآخر.

ولو أقاما بيّنتين على السبق - بأن شهدت بيّنة هذا بسبق عقده على عقد صاحبه ، وشهدت بيّنة صاحبه بسبق عقده على العقد الأوّل ، أو شهدت إحداهما لأحدهما أنّه اشترى يوم السبت وصاحبه اشترى يوم الأحد ، وشهدت الاُخرى للآخَر أنّه اشترى يوم السبت والآخَر يوم الأحد - تعارضتا ، وينبغي أن يُحكم لأكثرهما عدداً وعدالةً ، فإن تساويا ، احتُمل القرعة ؛ لأنّه أمر مشكل ، وكلّ أمر مشكل ففيه القرعة ، والقسمة بينهما.

وللشافعي هنا قولان :

أحدهما : تساقط البيّنتين كأنّه لا بيّنة لواحد منهما.

والثاني : أنّهما تُستعملان ، وفي كيفيّته أقوال :

أحدها : القرعة ، فعلى هذا مَنْ خرجت قرعته أخذ نصيب الآخَر بالشفعة.

والثاني : القسمة ، ولا فائدة لها إلاّ مع تفاوت الشركة ، فيكون التنصيف تعبّدا(١) .

والثالث : الوقف ، وعلى هذا يوقف حقّ التملّك إلى أن يظهر الحال(٢) .

ومن الشافعيّة مَنْ لا يجري قول الوقف هنا ؛ لانتفاء معناه مع كون الملك في يدهما(٣) .

____________________

(١) كذا ، وفي المصدر : « مقيّداً » بدل « تعبّداً ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣ - ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧ - ١٦٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٦

ولو عيّنت كلّ واحدة من البيّنتين وقتاً واحداً ، فلا تنافي بينهما ؛ لاحتمال وقوع العقدين معاً ، ولا شفعة لواحدٍ منهما ؛ لأنّا تبيّنّا وقوع العقدين دفعةً.

وللشافعيّة وجه : أنّهما تسقطان ؛ لأنّ كلّ واحدة منهما لم تتعرّض لمقصود مقيمها فكأنّه لا بيّنة(١) .

البحث الرابع : في كيفيّة الأخذ بالشفعة.

مسالة ٧٣٦ : يملك الشفيع الأخذ بالعقد إمّا بالفعل بأن يأخذ الحصّة ويدفع الثمن إلى المشتري ، أو يرضى بالصبر فيملكه حينئذٍ ، وإمّا باللفظ ، كقوله : أخذته ، أو : تملّكه ، أو : اخترت الأخذ ، وما أشبه ذلك ؛ عملاً بالأصل من عدم اشتراط اللفظ.

وقال بعض الشافعيّة : لا بدّ من لفظٍ ، ك‍ « تملّكت » وما تقدّم ، وإلّا فهو من باب المعاطاة(٢) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ المعاطاة تتوقّف على رضاهما ، ولا يتوقّف الأخذ بالشفعة على رضا المشتري.

ولا يكفي أن يقول : لي حقّ الشفعة وأنا مطالب بها ، عنده(٣) ؛ لأنّ المطالبة رغبة في الملك ، والملك(٤) لا يحصل بالرغبة المجرّدة(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٣) أي : عند البعض من الشافعيّة ، المتقدّم قوله آنفاً.

(٤) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فالملك ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٧

وقال بعضهم(١) بقولنا.

ولا يملك الشفيع بمجرّد اللفظ ، بل يعتبر مع ذلك أحد اُمور :

إمّا أن يسلّم العوض إلى المشتري ، فيملك به إن تسلّمه ، وإلّا خلّى بينه وبينه ، أو رفع الأمر إلى الحاكم حتى يلزمه التسليم.

و [إمّا ](٢) أن يسلّم المشتري الشقص ، ويرضى بكون الثمن في ذمّته.

ولو كان المبيع داراً عليها صفائح من أحد النقدين والثمن من الآخَر ، وجب التقابض فيما قابَلَه خاصّةً.

ولو رضي بكون الثمن في ذمّته ولم يسلّم الشقص ، حصل الملك عندنا - وهو أحد وجهي الشافعيّة - لأنّه معاوضة ، والملك في المعاوضات لا يتوقّف على القبض.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، وقول المشتري ما لم يتّصل به القبض في حكم الوعد.

وإمّا أن يحضر في مجلس القاضي ، ويثبت حقّه في الشفعة ، ويختار التملّك ويقضي القاضي له بالشفعة - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة - لأنّ الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري حتى كأنّ العقد له ، إلّا أنّه مخيّر بين الأخذ والترك ، فإذا طلب وتأكّد طلبه بالقضاء ، وجب أن يحكم له بالملك.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، ويستمرّ ملك المشتري إلى أن يصل إليه عوضه ، أو يرضى بتأخيره.

وإمّا أن يشهد عدلان على الطلب واختيار الشفعة ، فإن لم نثبت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٢٤٨

الملك بحكم القاضي ، فهنا أولى ، فإن(١) أثبتناه ، فوجهان لهم ؛ لقوّة قضاء القاضي(٢) .

وهذا كلّه غير معتبر عندنا.

مسالة ٧٣٧: لا يشترط في تملّك الشفيع بالشفعة حكمُ الحاكم ولا حضور الثمن أيضاً ولا حضور المشتري ورضاه ، عند علمائنا - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّ حكم الشفعة يثبت بالنصّ والإجماع ، فيستغني عن حكم الحاكم ، كمدّة الإيلاء والردّ بالعيب. ولأنّه تملّك بعوض ، فلا يفتقر إلى إحضار العوض ، كالبيع ، ولا إحضار المشتري ورضاه به ، كالردّ بالعيب.

وقال أبو حنيفة : يعتبر حضور المشتري أو حكم الحاكم ، ولا يحكم الحاكم إلّا إذا اُحضر الثمن(٤) .

وعن الصعلوكي أنّ حضور المأخوذ منه أو وكيله شرط(٥) . وهو ممنوع.

وإذا ملك الشفيع بغير تسليم الثمن - بل إمّا بتسليم المشتري الشقص ويرضى بكون الثمن في ذمّته ، أو بحضوره في مجلس القاضي وإثبات حقّه في الشفعة ويختار الملك فيقضي له القاضي - لم يكن له أن يتسلّم الشقص حتى يؤدّي الثمن إلى المشتري وإن سلّمه المشتري قبل أداء الثمن ، ولا يلزمه أن يؤخّر حقّه بأن أخّر البائع حقّه.

مسالة ٧٣٨ : يجب على الشفيع دفع الثمن معجّلاً ، فإن تعذّر تعجيله‌

____________________

(١) الظاهر : « وإن ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٩

أو ادّعى غيبته ، اُجّل ثلاثة أيّام لإحضاره ؛ لأنّ تحصيله في الحال يتعذّر في غالب العادات ، فلو شرط إحضاره في الحال ، أدّى إلى إسقاط الشفعة ، وذلك إضرار بالشفيع ، فإن أحضر الثمن في مدّة الثلاثة ، فهو أحقّ ، وإلاّ بطلت شفعته بعدها.

ولو ذكر أنّ الثمن في بلد آخر ، أجّل بقدر وصوله من ذلك البلد وثلاثة أيّام بعده ما لم يتضرّر المشتري.

ولو هرب الشفيع بعد الأخذ ، كان للحاكم فسخ الأخذ ، وردّه إلى المشتري وإن لم يكن له ذلك في البيع لو هرب المشتري أو أخّر الدفع ؛ لأنّ البيع حصل باختيارهما ، فلهذا لم يكن للحاكم فسخه عليهما ، وهنا أخذه الشفيع بغير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه ، فإذا اشتمل على إضرار بالمشتري ، مَنَعه الحاكم وردّه.

ولو هرب قبل الأخذ ، فلا شفعة له ، وكذا العاجز عن الثمن.

وقال بعض الشافعيّة : إذا قصّر في الأداء ، بطل حقّه من الشفعة. وإن لم يوجد ، رفع إلى الحاكم ( وفسخ منه )(١) (٢) .

والمعتمد : الأوّل ؛ لما قلناه.

ولما روى عليّ بن مهزيار أنّه سأل الجوادَعليه‌السلام : عن رجل طلب شفعة أرض ، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها أيبيعها أو ينتظر مجي‌ء شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال‌

____________________

(١) ورد ما بين القوسين سهواً في النسخ الخطّيّة والحجريّة بعد تمام الرواية الآتية في نفس المسألة. وموضعه هنا تتمّةً لقول بعض الشافعيّة كما في « العزيز شرح الوجيز » و « روضة الطالبين ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

٢٥٠

وإلّا فليبع وبطلت شفعته في الأرض ، وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه ، وإلّا فلا شفعة له »(١) .

مسالة ٧٣٩ : ولا يثبت في الشفعة خيار المجلس عند علمائنا‌ ؛ للأصل الدالّ على عدمه.

ولدلالة قولهعليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا »(٢) على اختصاص الخيار بالبيع ؛ لأنّه وصف علّق عليه حكم ، فينتفي بانتفائه.

ولأنّ الخيار لا يثبت للمشتري ؛ لأنّه يؤخذ الملك منه قهراً ، ولا للآخذ ؛ لأنّ له العفو والإسقاط.

نعم ، لو أخذ وثبت الملك له ، لم يكن له الخيار في الفسخ ؛ للأصل.

وللشافعي قولان :

أظهرهما : ثبوت الخيار - وقد تقدّم(٣) - بأن يترك بعد ما أخذ ، أو يأخذ بعد ما ترك ما دام في المجلس ؛ لأنّ ذلك معاوضة ، فكان في أخذها وتركها خيار المجلس ، كالبيع(٤) .

وله قولٌ آخَر : إنّه يسقط ؛ لأنّ الشفعة حقّ له ثبت ، فإذا أخّره أو تركه ، سقط ، كغيره من الحقوق(٥) .

فعلى قوله بالخيار يمتدّ إلى مفارقة المجلس.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٣٩.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٨٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٦٤ / ١٥٣٢ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٤٧ / ١٢٤٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥.

(٣) في ج ١١ ص ١٥ ، ضمن المسألة ٢٢٧.

(٤) الوسيط ٤ : ٨١ ، العزيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩ ، المجموع ٩ : ١٧٧.

٢٥١

وهل ينقطع بأن يفارقه المشتري؟ وجهان : المنع ؛ لأنّه لا حظّ له في الخيار ، فلا اعتبار بمفارقته. والانقطاع ؛ لحصول التفريق(١) .

مسالة ٧٤٠ : يجوز للمشتري التصرّف في الشقص قبل أن يأخذه الشفيع وقبل علمه بالبيع ، فإذا تصرّف ، صحّ تصرّفه ؛ لأنّ ملكه بالعقد إجماعاً ، وفائدة الملك استباحة وجوه الانتفاعات ، وصحّ قبض المشتري له ، ولم يبق إلّا أنّ الشفيع ملك عليه أن يملك ، وذلك لا يمنع تصرّفه ، كما لو كان الثمن معيباً فتصرّف المشتري في المبيع.

وكذا الموهوب له إذا كان الواهب ممّن له الرجوع فيها ، فإنّ تصرّفه يصحّ وإن ملك الواهب [ الرجوع ](٢) فيها.

إذا ثبت هذا ، فإنّ تصرّفه إن كان ممّا تجب به الشفعة - كالبيع خاصّةً عندنا ، وكلّ معاوضة عند الشافعي(٣) ، كجَعْله عوض الصداق أو الخلع أو غير ذلك من المعاوضات - تخيّر الشفيع إن شاء فسخ تصرّفه وأخذ بالثمن الأوّل ؛ لأنّ حقّه أسبق ، وسببه متقدّم ، فإنّ الشفعة وجبت له قبل تصرّف المشتري. وإن شاء أمضى تصرّفه ، وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني ؛ لأنّ هذا التصرّف يُثبت الشفعة ، فلو باعه المشتري بعشرة بعشرين فباعه الآخَر بثلاثين ، فإن أخذ من الأوّل ، دفع عشرة ، ورجع الثالث على الثاني بثلاثين ، والثاني على الأوّل بعشرين ، لأنّ الشقص يؤخذ من الثالث وقد انفسخ عقده ، وكذا الثاني. ولو أخذ من الثاني ، صحّ ، ودفع عشرين ؛ وبطل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

٢٥٢

الثالث ، فيرجع بثلاثين. ولو أخذ من الثالث ، صحّت العقود ، ودفع ثلاثين.

وإن كان تصرّفه لا تثبت به الشفعة كالهبة والوقف وجَعْلِه مسجداً ، فإنّ للشفيع إبطالَ ذلك التصرّف ، ويأخذ بالثمن الأوّل ، ويكون الثمن للمشتري ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال مالك : إنّه يكون الثمن للموهوب له(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ الشفيع أبطل الهبة ، وأخذ الشقص بحكم العقد الأوّل ، ولو لم يكن وهب كان الثمن له ، كذا بعد الهبة المفسوخة.

وكذا للشفيع فسخ الوقف وكونه مسجدا أو غير ذلك من أنواع التصرّفات ، وبه قال أكثر الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : إنّ الوقف يُبطل الشفعة ؛ لأنّ الشفعة إنّما تثبت في المملوك وقد خرج من أن يكون مملوكاً(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ ذلك الاستحقاق سابق والوقف متأخّر ، فلا يبطل السابق ، ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حقّ الغير ، كما لو وقف المريض أملاكه أو أعتق عبيده وعليه دَيْنٌ مستوعب ، فإنّ العتق والوقف صحيحان ، وإذا مات ، فسخا لحقّ الغرماء ، كذا هنا.

مسالة ٧٤١ : إذا ملك الشفيع ، امتنع تصرّف المشتري. ولو طلب الشفيع ولم يثبت الملك بَعْدُ ، لم يمنع الشريك من التصرّف ؛ لبقائه في ملكه.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، الوسيط ٤ : ٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ ، المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

(٢) المغني ٥ : ٤٩١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

(٤) المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

٢٥٣

ويحتمل قويّاً المنع ؛ لتعلّق حقّ الشفيع به وتأكّده بالطلب.

وكلاهما للشافعيّة(١) أيضاً.

ولو تصرّف الشفيع قبل القبض بعد أن سلّم الثمن إلى المشتري ، نفذ.

وللشافعيّة وجهان ، أظهرهما : المنع ، كتصرّف المشتري قبل القبض(٢) .

وهو باطل ؛ لاختصاص ذلك بالبيع ، والشفعة ليست بيعاً. ولأنّه ملك قهريّ كالإرث ، فصحّ تصرّفه فيه ، كالوارث قبل القبض.

ولو ملك بالإشهاد أو بقضاء القاضي ، نفذ تصرّفه.

وقالت الشافعيّة : لا ينفذ(٣) .

وكذا لو ملك برضا المشتري بكون الثمن عنده.

مسالة ٧٤٢ : لا يشترط علم الشفيع بالثمن ولا بالشقص في طلب الشفعة‌ ، بل في الأخذ ، فلا يملك الشقص الذي لم يره بالأخذ ولا بالطلب ؛ لأنّه غرر والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه(٤) ، بل يشترط علم الشفيع في التملّك بالثمن والمثمن معاً ، فلو جهل أحدهما ، لم يصح الأخذ ، وله المطالبة بالشفعة.

ولو قال : أخذته بمهما كان ، لم يصح مع جهالته بالقدر.

وقالت الشافعيّة : في تملّك الشفيع الشقص الذي لم يره طريقان :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٣ / ١٥١٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٩ / ٢١٩٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٥٤ / ٣٣٧٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٣٢ / ١٢٣٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥١ ، الموطّأ ٢ : ٦٦٤ / ٧٥.

٢٥٤

أظهرهما : أنّه على قولي(١) بيع الغائب إن منعناه ، لم يتملّكه قبل الرؤية ، وليس للمشتري منعه من الرؤية. وإن صحّحناه ، فله التملّك.

[ ثمّ ](٢) منهم مَنْ جَعَل خيار الرؤية على الخلاف في خيار المجلس.

ومنهم مَنْ قطع به وقال : المانع هناك - على رأي - بُعْدُ اختصاص ذلك الخيار بأحد الجانبين.

والثاني : المنع ، سواء صحّحنا بيع الغائب أو أبطلناه ؛ لأنّ البيع جرى بالتراضي فأثبتنا الخيار فيه ، وهنا الشفيع يأخذ من غير رضا المشتري ، فلا يمكن إثبات الخيار فيه.

نعم ، لو رضي المشتري بأن يأخذه الشفيع ويكون بالخيار ، فعلى قولي بيع الغائب ، فإذا جوّزنا له التملّك وأثبتنا الخيار ، فللمشتري أن يمتنع من قبض الثمن وإقباض المبيع(٣) حتى يراه ليكون على ثقة فيه(٤) .

وإذا بلغه البيع فقال : قد اخترت أخذ الشقص بالثمن الذي تمّ عليه العقد ، وعلم قدره ونظر إلى الشقص أو وُصف له وصفاً يرفع الجهالة ، صحّ الأخذ وإن لم يجز المشتري ولا حضر.

وقال أبو حنيفة : لا يأخذ بالشفعة حتى يحضر الثمن ، ولا يقضي له القاضي بها حتى يحضر الثمن(٥) .

وقال محمد : إنّ القاضي يؤجّله يومين أو ثلاثة ، ولا يأخذه إلّا بحكم‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « قول ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « البائع » بدل « المبيع ».

والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٥) المغني ٥ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

٢٥٥

الحاكم أو رضا المشتري ؛ لأنّ الشفيع يأخذ الشقص بغير اختيار المشتري ، فلا يستحقّ ذلك إلّا بعد إحضار الثمن ، ولهذا كان المشتري لمـّا كان يستحقّ تسلّم المبيع بغير اختيار البائع لم يكن له إلّا بعد إحضار الثمن(١) .

وقد بيّنّا أنّ الشفيع يأخذ بالعوض ، فلا يشترط حضوره ، كالبيع ، والتسليم في الشفعة كالتسليم في البيع ، فإنّ الشفيع لا يتسلّم الشقص إلّا بعد إحضار الثمن ، وكون التملّك بغير اختياره يدلّ على قوّته ، فلا يمنع من اعتباره في الصحّة بالبيع.

وإذا كان الثمن مجهولاً عند الشفيع ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّه تملّك بعوض ، فلا يصحّ مع جهالة العوض ، كالبيع.

ولو قال : أخذته بالثمن إن كان مائةً فما دونها ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّ مثل هذا لا يجوز أن يكون ثمناً في البيع ، كذا الشفعة.

ولو لم يشاهد الشقص ولا وُصف له بما يرتفع معه الجهالة ، لم يكن له أخذه ، وبه قال بعض الشافعيّة ، سواء قالوا بجواز بيع خيار الرؤية أو لا ؛ لأنّ مع القول بالجواز أثبتوا فيه خيار الرؤية برضا البائع ، لأنّه دخل على ذلك ، وفي مسألتنا يأخذه الشفيع بغير رضا المشتري ، فلا يثبت الخيار(٢) .

و(٣) قال ابن سريج : إلّا أن يرضى المشتري بخيار الرؤية ، فيجوز ذلك على القول الذي يجيز البيع بها(٤) .

وقال بعض الشافعيّة : مَنْ قال من أصحابنا : إنّه يثبت في الشفعة خيار المجلس يجيز أيضاً خيار الرؤية فيها على أحد القولين(٥) .

إذا عرفت هذا ، فإذا أخذ الشقص بالشفعة ، وجب عليه الثمن ،

____________________

(١) بدائع الصنائع ٥ : ٢٤ ، وانظر : المغني ٥ : ٥١٠ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

(٢و٤و٥) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٣) في « س ، ي » لم ترد كلمة « و».

٢٥٦

ولا يجب على المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن.

مسالة ٧٤٣ : إذا كان الشقص في يد البائع ، فقال الشفيع : لا أقبضه إلّا من المشتري‌ ، لم يكن له ذلك ، ولم يكلّف المشتري أخذه من البائع ، بل يأخذه الشفيع من يد البائع ؛ لأنّ هذا الشقص حقّ الشفيع ، فحيثما وجده أخذه. ولأنّ يد الشفيع كيد المشتري ؛ لأنّه استحقّ قبض ذلك من جهته ، كما لو وكّل وكيلاً في القبض ، ألا ترى أنّه لو قال : أعتق عبدك عن ظهاري ، فأعتقه ، صحّ ، وكان الآمر كالقابض له ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ للشفيع ذلك ؛ لأنّ الشفيع بمنزلة المشتري من المشتري ، فيلزمه أن يسلّمه بعد قبضه ، وعلى الحاكم تكليف المشتري أن يتسلّم ويُسلّم ، أو يوكّل في ذلك ، فإن كان المشتري غائباً ، نصب الحاكم مَنْ يقبضه من البائع عن المشتري ويسلّمه إلى الشفيع ، وإذا أخذه الشفيع من المشتري أو من البائع ، فإنّ عهدته على المشتري خاصّةً(١) .

ولو أفلس الشفيع وكان المشتري قد سلّم الشقص إليه راضياً بذمّته ، جاز له الاسترداد ، وكان أحقَّ بعينه من غيره.

مسالة ٧٤٤ : إنّما يأخذ الشفيع بالثمن الذي وقع عليه العقد‌ ؛ لما روى العامّة عن جابر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « فهو أحقّ به بالثمن »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « فهو أحقّ بها من غيره بالثمن »(٣) .

ولأنّ الشفيع إنّما يستحقّ الشفعة بسبب البيع ، فكان مستحقّا له‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ - ٥٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٢.

(٢) سنن البيهقي ٦ : ١٠٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٠.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٨.

٢٥٧

بالثمن ، كالمشتري.

لا يقال : الشفيع استحقّه بغير اختيار مالكه ؛ لحاجته إليه ، فكان يجب أن يستحقّه بالقيمة ، كالمضطرّ إلى طعام الغير.

لأنّا نقول : المضطرّ إنّما استحقّه بسبب الحاجة خاصّةً ، فكان المرجع في بدله إلى القيمة ، والشفيع يستحقّه لأجل البيع ، فإنّه لو كان انتقاله في الهبة أو الميراث ، لم يستحقّ فيه الشفعة ، وإذا اختصّ ذلك بالبيع ، وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع.

إذا ثبت هذا ، فإن بِيع بمثليٍّ - كالنقدين والحبوب - أخذه بمثله.

ثمّ إن قُدِّر بمعيار الشرع ، أخذه به. وإن قُدِّر بغيره كما لو باع بمائة رطل من الحنطة ، أخذه بمثله وزناً تحقيقاً للمماثلة.

وللشافعي قولان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّه يأخذه بالكيل(١) .

ولو تعذّر المثل وقت الأخذ ؛ لانقطاعه أو لغيره ، عدل إلى القيمة ، كما في الغصب.

تذنيب : لا يجب على الشفيع دفع ما غرمه المشتري من دلالة واُجرة وزّان ونقّاد وكيل وغير ذلك من المؤن.

مسالة ٧٤٥ : ولو لم يكن الثمن مثليّاً بل مقوَّماً - كالعبد والثوب وشبههما - أخذه الشفيع بقيمة السلعة التي جُعلت ثمناً - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك(٢) - لأنّه أحد نوعي الثمن ، فجاز أن تثبت الشفعة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٦ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٦ ، المعونة ٢ : ١٢٧٦ ، التفريع ٢ : ٣٠٢ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٨

بالمشتري به ، كالذي له مِثْلٌ.

وقال الشيخرحمه‌الله : تبطل الشفعة(١) - وبه قال الحسن البصري وسوار القاضي(٢) - لما رواه عليّ بن رئاب عن الصادقعليه‌السلام في رجل اشترى داراً برقيق ومتاع وبزّ وجوهر ، قال : « ليس لأحد فيها شفعة »(٣) .

ولأنّ الشفعة إنّما تجب بمثل الذي ابتاعه به ، وهذا لا مثل له ، فلم تجب.

والرواية ضعيفة السند ؛ لأنّ في طريقها الحسن بن محمد بن سماعة وليس منّا.

والمثل قد يكون من طريق الصورة وقد يكون من طريق القيمة ، كما في بدل الإتلاف والغصب.

وتُعتبر القيمة يوم البيع ؛ لأنّه يوم إثبات العوض واستحقاق الشفعة ، فلا اعتبار بالزيادة بعد ذلك ولا النقصان ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال ابن سريج : تُعتبر قيمته يوم استقرار العقد بانقطاع الخيار(٥) .

وقال مالك : الاعتبار بقيمته يوم المحاكمة(٦) .

وليس بجيّد ؛ لما تقدّم من أنّ وقت الاستحقاق وقت العقد‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٤٣٢ ، المسألة ٧.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٤٠.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٥) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ - ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٦) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٩

للمشتري. ولأنّ الثمن صار ملكاً للبائع ، فلا تُعتبر زيادته في حقّ المشتري.

ولو اختلفا في القيمة في ذلك الوقت ، قُدّم قول المشتري مع اليمين.

مسالة ٧٤٦ : لو جعل الشقص رأس مال سَلَمٍ ، أخذ الشفيع بمثل الـمُسْلَم فيه إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً.

ولو صالح من دَيْنٍ على شقص ، لم تكن له شفعة.

وعند الشافعي يأخذه بمثل ذلك الدَّيْن إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً(١) .

ولا فرق بين أن يكون دَيْن إتلافٍ أو دَيْن معاملة.

ولو أمهرها شقصاً ، فلا شفعة عندنا.

وعند الشافعي يأخذ بمهر مثل المرأة ؛ لأنّ البُضْع متقوَّم ، وقيمته مهر المثل. وكذا إذا خالعها على شقص. والاعتبار بمهر مثلها يوم النكاح أو يوم جريان البينونة(٢) .

وخرّج بعض الشافعيّة وجهاً أنّه يأخذه بقيمة الشقص(٣) . والأصل فيه أنّ المرأة إذا وجدت بالصداق عيباً وردّته ، ترجع بقيمته على أحد القولين ، فإذا كان المستحقّ عند الردّ بالعيب بدل المسمّى ، كذا عند الأخذ بالشفعة ، وبه قال مالك(٤) .

ولو متَّع المطلّقة بشقص ، فلا شفعة عندنا.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٣) في « العزيز شرح الوجيز » : « بقيمته يوم القبض ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419