أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 122897
تحميل: 9224

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122897 / تحميل: 9224
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بعض موانع تزعّم عليّعليه‌السلام :

أمّا ما هي طبيعة هذه الموانع فإنّ ذلك يحتاج إلى دراسةٍ مفصّلةٍ لنفسيّة المجتمع الإسلامي في أيام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أوضح ممّا يتوفّر لدينا الآن من معلومات. إلاّ أنّنا يمكننا ذكر بعض الموانع على سبيل المثال:

١ - التفكير اللا إسلامي من ولاية الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

ومن تلك الموانع العميقة: التفكير اللا إسلامي من ولاية عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل عليّاًعليه‌السلام بعده حاكماً على المسلمين وإماماً لهم. المسلمون - ولنتكلّم عن المسلمين المؤمنين بالله ورسوله حقّاً - لم يكونوا من الواعين بدرجةٍ كبيرة، نعم كانت عندهم طاقة حرارية تصل إلى درجة الجهاد، إلى الموت في سبيل الله، هؤلاء الذين قاموا بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ضدّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . أنا لا أشكّ بأنّهم مرّت عليهم بعض اللحظات كانوا على استعدادٍ لأن يضحّوا بأنفسهم في سبيل الله، وأنا لا أشكّ أنّ الطاقة الحرارية كانت موجودةً عندهم. سعد بن عبادة - مثلاً - عارض عليّاًعليه‌السلام ، والذي فتح باب المعارضة عليه كان مثل المسلمين الآخرين، ويجاهد مثلهم، غاية الأمر لم يكن لديه الوعي. وكذا باقي المسلمين، وهؤلاء المسلمون فكّروا - وكان تفكيراً سطحيّاً - بأنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله يريد أنّ يعلي مجد بني هاشم، ويعلي كيان هذه الأسرة وأن يمتدّ بنفسه بعده، فاختار عليّاًعليه‌السلام ، اختار ابن عمّه لأجل أن يمثّل أمجاد أُسرته.

هذا التفكير كان منسجماً مع الوضع النفسي الذي يعيشه أكثر المسلمين كراسبٍ جاهليٍّ لرواسب عرفوها قبل الإسلام، ولم يستطيعوا أن يتخلّوا عن ذلك

١٨١

تخلّياً تامّاً.

ألسنا نعلم أنّ هؤلاء المسلمين الغيارى المجاهدين ماذا صنعوا في غزوة حنين حينما وزّع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المال والغنائم على قريش ولم يُعطٍ الأنصار ؟! وزّع على قريشٍ، على أهل مكّة ولم يعطِ أهل المدينة. ماذا صنع أهل المدينة ؟ أخذ بعضهم يقول لبعض: إنّ محمّداً لقي عشيرته فنسينا، لقي قريشاً ونسي الأوس والخزرج(١) ، نسيَ هاتين القبيلتين اللتين قدّمتا ما قدّمتا للإسلام.

إذن فكان هؤلاء على المستوى الذي تصوّروا في هذا القائد العظيم الموضوعي الذي كان يعيش الرسالة، بالرغم من هذا كان يمكنهم أن يتصوّروا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله آثر قبيلته بمالٍ فكيف لا يتصوّرون أنّه آثر عشيرته بحكمٍ وزعامةٍ وقيادةٍ على مرّ الزمن والتأريخ ؟ هذا التصوّر الذي كان يصل إلى هذا المستوى المتدنّي من الوعي، ولم يدركوا أبعاد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا كانوا بين حينٍ وحينٍ عرضةً لأن يطغى عليهم الراسب الجاهلي، وينظرون إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من منظار رواسبهم الجاهلية كشخصٍ يرتبط بابن عمّه ارتباطاً حميماً، ويرتبط بعشيرته ارتباطاً قبليّاً، ويرتبط بالعرب ارتباطاً قوميّاً.

وأنا أظنّ أنّه لو لم يكن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ابن عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لو كانت الصدفة لم تشأ أن يكون الرجل الثاني في الإسلام من أُسرة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بل كان من عديٍّ أو تيم، لو كان من أُسرةٍ أُخرى لكان لهذه الولاية مفعول كبير جدّاً، ولقضي على هذا التفكير اللا إسلامي بالنسبة للولاية، ولكن ما هي حيلة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان الرجل الثاني في الإسلام ابن عمّه ؟ لم يكن له حيلة في أن يختار شخصاً دون آخر، وإنّما كان عليه أن يختار من اختاره الله، ومن اختاره الله كرجلٍ ثانٍ في

____________________

(١) إعلام الورى ١: ٢٣٨.

١٨٢

تأريخ الرسالة وكيانها، وفي الجهاد في سبيلها كان من باب الصدفة ابن عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الصدفة فتحت باب المشاغبة والحركة لهذا الراسب.

٢ - عامل النفاق:

العامل الثاني: هو العامل الذي كان يعيش في نفوس المنافقين، والمنافقون كثيرون في المجتمع الإسلامي، خاصّةً وأنّه انفتح قبل وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله انفتاحاً جديداً مكّة التي دخلت جديداً في الإسلام، والتي تلاها دخول قبائل كثيرةٍ في الإسلام كانت تتضمّن الكثيرين من أصحاب المطامع والحرص على الجاه أو استسلاماً للأمر الواقع، حيث فرض محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله زعامته على العرب ولم يكن بالإمكان زحزحة هذه الزعامة.

هؤلاء كانوا يعلمون أنّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام هو الرجل الثاني في هذه الرسالة، وهو الاستمرار العنيد لها لا الاستمرار الرخو المتميّع لها. بينما كانت أطماعهم المشدودين لها ومصالحهم المرتبطين بها - والتي كان من جملتها استمرار الإسلام - الشيء الذي جمعهم ومنحهم الحُلُم بالاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر، لكن كان من المصلحة لهم أن لا تستمرّ بتلك الدرجة من الصلابة والحدّية، بل أن تستمرّ بدرجةٍ رخوةٍ هيّنة، كما وصف الإمام الصادقعليه‌السلام حينما سئل: كيف نجح أبو بكر وعمر في قيادة المسلمين وفشل عثمان وعليّعليه‌السلام في هذه القيادة ؟ قالعليه‌السلام : لأنّ عليّاً أرادها حقّاً محضاً، وعثمان أرادها باطلاً محضاً، وأبو بكر وعمر خلطا حقّاً بباطل(١) .

كان لا بدّ أن تستمرّ هذه الرسالة، لكن تستمرّ بشكلٍ هيّنٍ ليّن، بشكلٍ ينفتح

____________________

(١) لم نعثر عليه.

١٨٣

على مطامع أبي سفيان ويتعامل معه أبو سفيان الذي جاء إلى عليّعليه‌السلام في لحظةٍ قاسية، في لحظةٍ خانه فيها المسلمون وتآمروا عليه وتنكّروا لكلّ جهاده وأمجاده، حتّى أنكروا أُخوّته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان الاعتيادي بالمظلوميّة، في هذه اللحظة جاءه أبو سفيان يعرض عليه القيادة بين يديه، يعرض عليه أن يزعّمه في سبيل أن يكون هو اليد اليمنى للدولة الإسلامية، يأبى عليعليه‌السلام ، يأبى وهو مظلوم ومتآمَر عليه ومضطهد حقّه(١) . ثمّ يذهب أبو بكر وعمر إلى أبي سفيان ويتعاملان ويوليّان أولاده على بلاد المسلمين(٢) . هذا هو الاستمرار الهيّن الذي كانت مصالح المنافقين تطلبه وقتئذٍ، والذي كانت زعامة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام تمثّل خطراً على مصالحهم.

٣ - العامل الأخلاقي والنفسي:

والعامل الثالث: هو عامل يرتبط بعوامل نفسيةٍ خلقية، علي بن أبي طالبعليه‌السلام كان يمثّل استمراراً وتحديّاً بوجوده التكويني للصادقين من الصحابة لا المنافقين، وذلك بجهاده، بصرامته، باستبساله، بشبابه، بكلّ هذه الأُمور كان يضرب الرقم القياسي الذي لا يمكن أن يحلم به صحابي آخر. كلّ هؤلاء كانوا يودّون أن يقدّموا خدمةً للإسلام - أتكلّم عن الصحابة الصالحين الصادقين - ولكنّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام كان يفوقهم بدرجةٍ كبيرةٍ هائلة.

علي بن أبي طالب بالرغم من التفاوت الكبير في العمر بينه وبين شيوخ

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري ٢: ٤٤٩.

(٢) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٢١٨ - ٢٢١، وبحار الأنوار ٢٨: ٢٣٣، كتاب الفتن والمحن، الباب ٤، الحديث ٢٠.

١٨٤

الصحابة من أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما ممّن عاش في تلك الفترة التي تلت وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالرغم من كلّ ذلك أفلس أبو بكر، وأفلس عمر، وأفلس هؤلاء كلّهم أمام رسوخ عليٍّعليه‌السلام الذي كان يضرب بسيفين.

معاوية يقول لمحمّد بن أبي بكر بأنّ عليّاًعليه‌السلام كان في أيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كالنجم في السماء لا يطاول(١) .

الأُمّة الإسلامية كانت تنظر إليه كالنجم في السماء بالرغم من أنّ العدد الكبير منها لم يكن يحبّه؛ وذلك لأنّ النسبة لم تكن نسبةً معقولة. عليّعليه‌السلام مجاهد بدرجةٍ لا يمكن أن يقاس به شخص آخر، كان صامداً بدرجةٍ لا يمكن أن يقاس به شخص آخر، وكذا في زهده وفي باقي الكمالات الإسلامية.

إذن، فعليعليه‌السلام كان تحدّياً، كان استفزازاً للآخرين، وهؤلاء الآخرون ليسوا كلّهم يعيشون الرسالة فقط، بل جملة منهم يعيشون معها أنفسهم وأنانيّتهم، وحينما يشعرون بهذا الاستفزاز التكويني من شخص هذا الرجل العظيم الذي كان يتحدّاهم من غير قصد التحدّي، بل ليهديهم ويبني مجدهم ورسالتهم وعقيدتهم، ولكن ماذا يصنع لمن يعيش نفسه وأنانيّته ؟ وكان ردّ الفعل لهذا هو مشاعر ضخمة من العداء لعليعليه‌السلام .

ويكفي كمثالٍ لأن نوضح هذا المطلب: أن نذكر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما خرج غازياً وخلّف عليّاًعليه‌السلام مكانه أميراً على المدينة، هؤلاء الناس لم يتركوا علياًعليه‌السلام ، أخذوا يُشِيعون - بالرغم من أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يستخلف في المرّات السابقة أحد الأنصار على المدينة، ولم يكن عليعليه‌السلام ؛ لأنّ المنصب لم يكن من الأهمية بحيث يتولاّه عليهعليه‌السلام دائماً - بأنّه ترك علياًعليه‌السلام في المدينة

____________________

(١) راجع: مروج الذهب ٣: ١٢، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ١٩٠.

١٨٥

لأنّه لا يصلح للحرب.

عليعليه‌السلام هذا الرجل الصلب العنيد المترفّع، هذا الرجل الذي يقول: لا يزيدني إقبال الناس عليّ ولا ينقصني إدبارهم(١) . استفزّت أعصابه لدرجة أنّه ترك المدينة ولحق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسأله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن السبب ؟ فقال: يقولون بأنّك تركتني لأنّي لا أصلح للحرب !

اُنظروا للحقد، لو أمكن أن تنكر كلّ فضيلةٍ لعليٍّعليه‌السلام لا يمكن أن تنكر أنّه يصلح للحرب، ولكن الحقد وصل فيهم على هذا الرجل العظيم إلى أن يفسّروا إمارته على المدينة بأنّه لا يصلح للحرب. ولكنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه كلمته المشهورة: إنّ عليّاًعليه‌السلام منّي بمنزلة هارون من موسى. إنّه لا ينبغي أن أخرج من المدينة إلاّ وأنت فيها إثباتاً لوجودي ولتحمي المدينة(٢) .

على أيّ حالٍ هذه العوامل كلّها اشتركت في سبيل أن تجعل موانع قويةً جدّاً، هذه الموانع اصطدم بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في تشريع الحكم واصطدم بها عليّعليه‌السلام عند محاولة تطبيقه وعند مقابلة الانحراف وتعديل التجربة وإرجاعها للوضع الطبيعي؛ ولهذا فشل في زعزعة الوضع القائم بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي ذلك الحين بدأ خطّه الثاني، وهو خطّ تحديد الإسلام في إطاره الصحيح الكامل، وتحصين الأُمّة وجعلها قادرةً على مواصلة وجودها الإسلامي.

والحمد لله ربّ العالمين، وإلى محاضرةٍ أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

____________________

(١) جاء في كتابهعليه‌السلام إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري بعد حرب البصرة قال: لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، نهج البلاغة: ٤١٨، الكتاب ٤٥.

(٢) المراجعات، المراجعة ٢٦: ١٩٧ - ٢٠٢.

١٨٦

بداية الانحراف

ودور عليعليه‌السلام في مواجهته

١٨٧

١٨٨

بسم الله الرحمن الرحيم

حينما توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف أُمّةً ومجتمعاً ودولة، أقصد بالأُمّة: المجموعة من المسلمين الذين كانوا يؤمنون برسالته ويعتقدون بنبوّته، وأقصد بالمجتمع: تلك المجموعة من الناس التي كانت تمارس حياتها على أساس تلك الرسالة وتنشئ علاقاتها على أساس التنظيم المقرّر لتلك الرسالة، وأقصد بالدولة: القيادة التي كانت تتولّى زعامة ذلك المجتمع والانشغال في تطبيق الإسلام وحمايته ممّا يهدّده من أخطار.

انهيار الأُمّة بانحراف القيادة:

الانحراف الذي حصل يوم السقيفة كان انحرافاً في الدولة، في كيان الدولة، لأنّ القيادة اتّخذت طريقاً غير طريقها الطبيعي. وقلنا: بأنّ هذا الانحراف في زعامة التجربة - أي في الدولة - كان من الطبيعي في منطق الأحداث أن ينمو، وأن يثبت، وأن يتّسع حتّى يحيق بالتجربة نفسها فتنهار الزعامة الحامية للإسلام. الزعامة التي تشرف على تطبيق الإسلام، هذه الزعامة باعتبار انحرافها وعدم كونها قادرةً على تحمّل المسؤولية تنهار في أمدٍ قصيرٍ أمام أيّ خطرٍ أو غزوٍ

١٨٩

حقيقيٍّ تواجهه في حياتها العسكريّة والسياسيّة.

وحينما تنهار الدولة ينهار تبعاً لذلك المجتمع الإسلامي، لأنّ المجتمع يتقوّم بالعلاقات التي تنشأ على أساس الإسلام، فإذا لم تبقَ زعامة ترعى هذه العلاقات وتحميها وتقنّن القوانين لها فلا محالة ستتفتّت هذه العلاقات وتتبدّل بعلاقاتٍ أُخرى قائمةٍ على أساس غير الإسلام، وهذا معناه زوال المجتمع الإسلامي.

وتبقى بعد ذلك الأُمّة وهي أبطأ العناصر الثلاثة تصدّعاً وزوالاً، أي أنّ مجموعةً من البشر يبقون في حالة إيمانٍ بالله ورسوله واليوم الآخر بعد أن زالت الدولة الشرعيّة الصحيحة وزال المجتمع الإسلامي الصحيح، تبقى الأُمّة، إلاّ أنّها أيضاً وفي منطق الانحراف من المحتوم عليها أن تتفتّت، وأن تنهار، وأن تنصهر ببوتقة الغزو الكافر الذي أطاح بدولتها ومجتمعها؛ لأنّ الأُمّة التي عاشت الإسلام زمناً قصيراً لم تستطع أن تستوعب من الإسلام ما يحصّنها وما يحدّد أبعادها ويعطيها أصالتها وشخصيّتها وروحها العامّة، ويمنحها القدرة للاجتماع على مقاومة التميّع والتسيّب والانهيار في البوتقات الأخرى.

هذه الأُمّة بحكم أنّ الانحراف قصّر عمر التجربة، وبحكم أنّ الانحراف قد زوّر معالم الإسلام، بحكم هذين السببين الكمّي والكيفي، السبب الكمّي هو أنّ عمر التجربة الإسلاميّة يصبح قصيراً بفعل الانحراف؛ لأنّه يسرع بإفناء التجربة الإسلامية، والعامل الكيفي: هو أنّ الانحراف يشوّه معالم الإسلام ولا يعطي الإسلام بشكلٍ صحيح، فهذا العامل الكيفي وذاك العامل الكمّي يجعلان الأُمّة غير مستوعبةٍ للإسلام؛ لأنّها لم تعش الإسلام إلاّ زمناً قصيراً بحكم العامل الكمّي، ولم تعش إلاّ بصورة مشوّهةٍ بحكم العامل الكيفي، إذن فلا تتحصّن

١٩٠

بالطاقة التي تمنعها وتحفظها من الانهيار أمام الكافرين وثقافاتهم. ومن هنا تنهار الأُمة، فتتنازل بالتدريج عن عقيدتها وآدابها وأحكامها، ويخرج الناس من دين الله أفواجاً.

وهذا هو واقع الفكرة التي عرضتها روايةٌ عن أحد أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تقول: إنّ أوّل ما يتعطّل من الإسلام هو الحكم بما أنزل لله سبحانه وتعالى، وآخر ما يتعطّل من الإسلام الصلاة(١) . هذه الرواية تعبير بسيط، شرحه هو ما قلناه من أنّ أوّل ما يتعطّل هو الحكم بما أنزل الله، وأنّ الزعامة والقيادة والدولة تنحرف، فعندما تنحرف سوف يتعطّل الحكم بما أنزل الله، وهذا الخطّ ينتهي حتماً إلى أن تُعطّل الصلاة، أي إلى أن تتميّع الأُمّة. تعطّل الصلاة هو مرحلة أنّ الأُمّة تتعطّل، أنّ الأُمّة تتنازل عن عقيدتها، أنّ الأُمّة تضيع عليها رسالتها وآدابها وتعاليمها.

الحكم بغير ما أنزل الله معناه أنّ التجربة سوف تنحرف، أنّ المجتمع يتميّع، فهذا خطّ متسلسل نستنبطه من الرواية، تقول هذه الرواية: أوّل ما يتعطّل هو الحكم بما أنزل الله، وآخر ما يتعطّل هو الصلاة، آخر ما يتركه المسلمون هو الصلاة، وبمعنى آخر: يتركون الإسلام.

موقف الأئمّةعليهم‌السلام من انحراف الزعامة وانهيار التجربة والأُمّة:

في مقابل هذا المنطق وقف الأئمّةعليهم‌السلام على خطّين:

الخطّ الأوّل : هو محاربة تسلّم زمام التجربة، زمام الدولة، محو آثار

____________________

(١) لم نظفر به وراجع سفينة البحار ٥: ٤٠٠.

١٩١

الانحراف، إرجاع القيادة إلى موضعها الطبيعي لأجل أن تكتمل العناصر الثلاثة: الأُمّة، والمجتمع، والدولة.

والخطّ الثاني : هو تحصين الأُمّة ضدّ الانهيار بعد سقوط التجربة، وإعطاؤها من المقوّمات القدر الكافي لكي تبقى وتقف على قدميها، وتعيش المحنة بعد سقوط التجربة بقدمٍ راسخةٍ وبروحٍ مجاهدةٍ وبإيمانٍ ثابت.

والآن نريد أن نتبيّن وجود هذين الخطّين في حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام مع استلال العبر من المشي على هذين الخطّين:

الخطّ الأوّل - محاولة تصحيح الانحراف:

خطّ محاولة تصحيح الانحراف وإرجاع وضع المجتمع والدولة في الأُمّة الإسلاميّة إلى خطّه الطبيعي. عمل الإمام عليّعليه‌السلام حتّى قيل عنه: إنّه أشدّ الناس رغبةً في الحكم والولاية، وحتّى اتّهمه معاوية بأنّه طالب جاهٍ وسلطانٍ وزعامة، واتّهمه بالحقد على أبي بكر وعمر، واتّهمه بكلّ ما يمكن أن يُتّهم به الشخص المطالب بالجاه والسلطان وبالزعامة(١) . الإمام أمير المؤمنين عمل على خطّ تسلّم زمام الحكم، وتفتيت هذا الانحراف، وكسب زعامة التجربة الإسلامية إلى شخصه الكريم، بدأ هذا العمل عقيب وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً كما قلناه بالأمس، حيث حاول إيجاد تعبئةٍ وتوعيةٍ فكريةٍ عامةٍ في صفوف المؤمنين، وإشعارهم بأنّ الوضع منحرف، إلاّ أنّ هذه التعبئة لم تنجح لأسبابٍ ترتبط بشخص عليّعليه‌السلام ،

____________________

(١) انظر: كتاب السقيفة لسليم بن قيس الهلالي العامري: ١٨٠ - ١٨٥، ونهج البلاغة: ٥٢، الخطبة ٥، و ٢٤٦، الخطبة ١٧٢.

١٩٢

استعرضنا بعضها بالأمس، ولأسبابٍ أخرى ترتبط بانخفاض وعي المسلمين أنفسهم؛ لأنّ المسلمين وقتئذٍ لم يدركوا أنّ يوم السقيفة كان هو اليوم الذي سوف ينفتح منه كلّ ما انفتح من بلاءٍ على الخطّ الطويل لرسالة الإسلام، لم يدركوا هذا، ورأوا أنّ وجوهاً ظاهرة الصلاح قد تصدّت لزعامة المسلمين ولقيادتهم في هذا المجال، ومن الممكن خلال هذه القيادة أن ينمو الإسلام وأن تنموا الأُمّة.

ماذا واجهت عمليّة التصحيح ؟

ولم يكن يُفهم عن عليّعليه‌السلام إلاّ أنّ له حقّاً شخصيّاً يطالب به، وهو مقصّر في مطالبته، والمسألة تقف عند هذا الحدّ وليس أكثر، ولذا ضاقت القصّة على أمير المؤمنين من هذه الناحية، وإنّنا نجد في مراحل متأخّرة من حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام المظاهر الأخرى لعمله على هذا الخطّ لمحاولة تسلّمه أو سعيه في سبيل تسلّم زعامة التجربة الإسلاميّة، وتفادي الانحراف الذي وقع.

إلاّ أنّ الشيء الذي يجب أن يكون واضحاً غاية الوضوح، والذي هو واضح في غاية الوضوح أيضاً أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خلال عمله في سبيل تزعّم التجربة وفي سبيل محاربة الانحراف القائم ومواجهته بالقول الحقّ، وبالعمل الحقّ، وشرعيّة حقّه في هذا المجال كان يواجه مشكلةً كبيرة، وقد استطاع أن ينتصر عليها أيضاً انتصاراً كبيراً، هي مشكلة الوجه الظاهري لهذا العمل، والوجه الواقعي له، وعملية التوفيق بينهما:

الوجه الظاهري للعمل:

حيث إنّه يتبادر إلى ذهن الإنسان الاعتيادي لأوّل مرّةٍ أنّ العمل في سبيل

١٩٣

معارضة زعامة العصر، والعمل في سبيل كسب الزعامة أنّه عمل في إطارٍ فكري يعبّر عن شعور هذا العامل بوجوده، ومصالحه ومكاسبه وأبعاد شخصيّته، هذا هو التفسير التلقائي الذي يتبادر إلى الأذهان من هذا العمل. والذي حاول معاوية أن يستغلّه في معركته مع الإمام. هذا التفسير هو تفسير للوجه الظاهري للعمل.

الوجه الواقعي للعمل:

إلاّ أنّ الوجه الواقعي لهذا العمل من قبل الإمام لم يكن هكذا. الوجه الواقعي هو: أنّ عليّاًعليه‌السلام كان يمثّل الرسالة، وكان يمثّل الأهداف الحقيقيّة لها، وكان الأمين الأوّل من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على التجربة، على استقامتها، على صلابتها، على عدم تميّعها على الخطّ الطويل الذي سوف يعيشه الإسلام والمسلمون بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالعمل كان بروح الرسالة، ولم يكن بروحه هو. كان عملاً بروح تلك الأهداف الكبيرة، ولم يكن عملاً بروح مصالحه الشخصيّة، لم يكن يريد أن يبني زعامةً لنفسه، وإنّما كان يريد أن يبني زعامة الإسلام، وقيادة الإسلام في المجتمع الإسلامي، ومن ثمّ في مجموع البشرية على وجه الأرض.

تعارض الوجه الواقعي والظاهري للعمل في النفوس:

هذان الوجهان المختلفان قد يتعارضان في نفس العامل، وقد يتعارضان في نفس الأشخاص الآخرين الذين يريدون أن يفسّروا عمل هذا العامل. أمّا في نفس العامل فقد يتراءى له في لحظةٍ أنّه يريد أن يبني زعامة الإسلام لا زعامة

١٩٤

نفسه، إلاّ أنّه خلال العمل إذا لم يكن مُزوّداً بوعي كامل، إذا لم يكن مزوّداً بإرادةٍ قويّة، إذا لم يكن قد استحضر في كلّ لحظاته وآنات حياته أنّه يعيش هذه الرسالة ولا يعيش نفسه، إذا لم يكن هكذا فسوف تخلق في نفسه ولو لا شعوريّاً انفصاماً بين الوجه الظاهري للعمل والوجه الواقعي له، سوف تخلق في نفسه تناقضات، وسوف يضيِّع خلال العمل وخضمّ المشاكل كلّ الأهداف، أو جزءاً كبيراً منها، وسوف تتغلّب زعامته الشخصيّة على حساب تلك الأهداف. سوف ينسى أنّه لا يعمل لنفسه بل يعمل لتلك الرسالة. سوف ينسى أنّه ملك لغيره وليس ملكاً لنفسه. وهذا خطر كبير جدّاً يواجه كلّ شخصٍ يحمل هذه الأهداف الكبيرة، حيث يواجه خطر الضياع في نفسه، وخطر أن تنتصر أنانيّته على هذه الأهداف الكبيرة فيسقط في أثناء الطريق.

عليّعليه‌السلام الذي يصرّ دائماً أن يكون زعيماً ويصرّ أنّه هو الأحقّ بالزعامة، عليّ الذي يتألّم، الذي يتحسّر؛ لأنّه لم يصبح زعيماً للتجربة بعد محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي يقول: ( لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرَّحا )(١) . فإنّه في غمرة هذا التأسّف، في غمرة هذا الألم، في غمرة هذه الحساسيّة يجب أن لا ينسى أنّ هذا الألم ليس لنفسه، وأنّ هذه الحسّاسيّة ليست لنفسه، أنّ كلّ هذا العمل وكلّ هذا الجهد ليس لأجل نفسه. وعدم الاهتمام هذا في غمرة هذه المشاكل هو الذي يولّد المشكلة الكبيرة، هذه المشكلة تحتاج إلى ترويضٍ كبيرٍ من قبل العامل، فإنّ العامل دائماً يثير نفسه، ويسأل نفسه بأنّه ليس ملكاً لنفسه، وإنّما هو ملك لتلك الأهداف، ومن ثمّ يحدّث أصحابه، ويبقى

____________________

(١) نهج البلاغة: ٤٨، الخطبة ٣.

١٩٥

أصحابه الذين يشاركون معه في العمل بأنّهم ليسوا أصحابه، وإنّما هم أصحاب تلك الأهداف الكبيرة، ويربيّهم دائماً على أنّهم هم أصحاب الرسالة لا أصحابه هو وذلك حتّى يصبح هؤلاء ملك تلك الأهداف لا ملك نفسه.

أيّ زعيمٍ يمكن أن ينحرف خلال خطّ عمله إذا افترضنا أنّ هذا الزعيم قد ربّى أصحابه على أنّهم أصحابه هو، فإنّهم قد لا يستطيعون تقويمه بعد هذا. وأمّا إذا ربّى أصحابه على أنّهم أصحاب أهدافه لا أصحاب نفسه فإنّهم سوف ينظرون إلى هذا الشخص المربّي من خلال تلك الأهداف، ويحكمون عليه من خلالها، ويقيّمونه على أساسها.

نجاح الإمام عليّعليه‌السلام في التوفيق بين الوجهين:

وقد انتصر عليٌّعليه‌السلام انتصاراً عظيماً في تلكما الناحيتين، انتصر عليّعليه‌السلام على نفسه، وانتصر في إعطائه عمله الإطار الرسالي والطابع العقائدي انتصاراً كبيراً.

عليّعليه‌السلام ربّى أصحابه على أنّهم أصحاب الأهداف لا أصحاب نفسه، كان يدعو دائماً إلى أنّ الإنسان يجب أن يكون صاحب الحقّ قبل أن يكون صاحب شخصٍ بعينه، عليّعليه‌السلام هو الذي قال: ( اعرف الحقّ تعرف أهله )(١) . هو الذي كان يقول للمقداد وأبي ذرّ وسلمان وعمّار وغيرهم: اعرفوا الحقّ ثمّ احكموا على عليّعليه‌السلام هل هو مع الحقّ أو لا، لا تأخذوا عليّاً أو عمر أو أبو بكر أو سعداً أو

____________________

(١) أمالي المفيد: ٥، ووسائل الشيعة ٢٧: ١٣٥، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٣٢.

١٩٦

أيّ شخصٍ وتجعلوه مقياساً للحقّ، بل خذوا الحقّ ثمّ احكموا على عليٍّ وغيره في إطار ذلك الحقّ.

وهذا غاية ما يمكن أن يقدّمه الزعيم من إخلاصٍ في سبيل أهدافه، أن يؤكّد دائماً لأصحابه، لأنصاره - وهذا ما يجب على كلّ المخلصين أن يؤكّدوا عليه في أنفسهم ويؤكّدوا عليه بين أتباعهم - أنّ المقياس هو الحقّ وليس هو الشخص، أنّ المقياس هو الأهداف، وليس هو الفرد مهما كان هذا الفرد عظيماً.

هل يوجد شخص أعظم من عليّ بن أبي طالب ؟ لا يوجد هناك شخص أعظم منه إلاّ أستاذهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن مع هذا جعل المقياس هو الحقّ لا المقياس هو نفسه. لمّا جاء ذلك الشخص وسأله عن الحقّ في حرب الجمل هل هو مع هذا الجيش - كان هذا الرجل يعيش في حالة تردّدٍ بين عائشة وعليّ - يريد أن يوازن بين عائشة وعليّ، أيّهما أفضل حتّى يحكم بأنّ عائشة مع الحقّ أو عليّ مع الحقّ، أجهود عائشة أفضل للإسلام أم جهود عليّ ؟ قال له الإمام: ( اعرف الحقّ تعرف أهله ).

عليعليه‌السلام كان يصرّ دائماً على أن يعطي العمل الشخصي طابعه الرسالي، لا طابع المكاسب الشخصيّة بالنسبة إليه، وهذا هو الذي يفسّر لنا أنّ عليّاًعليه‌السلام بعد أن فشل في تعبئته الفكريّة عقيب وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعارض أبا بكر وعمر معارضةً واضحةً سافرةً طيلة حياتهما؛ ذلك أنّ أوّل موقفٍ اعتزم فيه على المعارضة والمواجهة بعد تلك التعبئة الفكريّة وإعطائها الشكل الواضح والصريح كان عقيب وفاة عمر، وذلك يوم الشورى، حيث حطّم صنميّة أبي بكر وعمر عندما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على كتاب الله وسنّة رسوله

١٩٧

وسيرة الشيخين فإنّه أبى أن يبايع على ذلك، وقال: بل على كتاب الله وسنّة نبيّه واجتهاد رأيي(١) . هنا أعلن عليّعليه‌السلام عن معارضة عمر.

في حياة أبي بكر وعمر بعد تلك التعبئة لم يبدُ من الإمام موقف إيجابي واضح في معارضة أبي بكر وعمر، والوجه في هذا هو: أنّ عليّاً كان يريد أن تكون المعارضة دائماً في إطارها الرسالي، وأن ينعكس هذا الإطار الرسالي على المسلمين؛ حتّى يفهموا أنّ معارضته ليست لنفسه وإنّما هي للرسالة، وحيث إنّ أبا بكر وعمر كانا قد بدءا الانحراف، هذا الانحراف الذي لم يكن قد تعمّق بعد، والمسلمون القصيرو النظر الذين قدّموا أبا بكر ثمّ عمر على عليّعليه‌السلام لم يكن باستطاعتهم أن يعمّقوا النظر إلى هذه الجذور من الانحراف التي نشأت في أيام أبي بكر وعمر، فكان معنى مواصلة العمليّة ومواصلة المعارضة بشكلٍ شديدٍ أيام أبي بكر وعمر، معنى أن يبدأ عمله الذي بدأه أيّام عثمان، أيام أبي بكر وعمر، معناه أن يفسّر من أكثر المسلمين على أنّه عمل شخصي ومنافسة شخصيّة مع أبي بكر وعمر، أبو بكر وعمر وإن بدأت بذور الانحراف في عهدهما إلاّ أنّه حتّى هذه البذور كانت من الأغلب مصبوغةً بالصبغة الحراريّة الإيمانيّة، كانا يربطانها بالحرارة الإيمانية الموجودة لدى الأُمّة. وحيث إنّها حرارة إيمانيّة بدون وعيٍ رساليٍّ لم تكن الأُمّة تميّز أنّ هذا هو عبارة عن الانحراف.

عمر حينما ميّز بين المسلمين وأنشأ نظام الطبقات، حينما أثرى قبيلةً أو جماعةً دون غيرها وعلى حساب غيرها حينما أثرى قبيلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث

____________________

(١) انظر: تاريخ اليعقوبي ٢: ١٦٢، والطبري ٣: ٣٠١.

١٩٨

أغنى زوجاته، أغنى عمّه، أغنى أهل بيته، حينما كان يعطي لزوجات النبيّ لكلٍّ عشرة آلاف، ويعطي عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله العبّاس اثني عشر ألفاً(١) ، حينما قسّم الأموال الضخمة على هذه الأسرة، لم يكن هذا الانحراف مختلفاً عن انحراف عثمان في جوهره عندما ميّز عثمان أهل بيته وعشيرته، إلاّ أنّ عمر ربط هذا الانحراف بالحرارة الإيمانيّة عند الأُمّة. هذه الحرارة غير الواعية عند الأُمّة كانت تقبل مثل هذا الانحراف، لأنّ هؤلاء أهل النبيّ وزوجاته، العبّاس مثلاً يمكنه أن يثري على حساب النبيّ، وكذا عائشة وحفصة و...، ولا تحسّ الأُمّة بأساً بذلك، لكن عثمان حينما جاء لم يزد على هذا الانحراف في جوهره شيئاً، إلاّ أنّه لم يربط تصرّفاته بالحرارة الإيمانيّة عند الأُمّة، بدّل عشيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعشيرته هو فقط(٢) .

انحراف عثمان استمرار لانحراف عمر إلاّ أنّه انحراف مكشوف. وذلك الانحراف مقنّع؛ ذاك الانحراف مرتبط بالحرارة الإيمانيّة عند الأُمّة، وهذا الانحراف يتحدّى مصالح الأُمّة، ويتحدّى المصالح الحسّية للأمّة، ولهذا استطاعت الأُمّة أن تلتفت إليه، بينما لم تلتفت بوضوحٍ إلى انحراف أبي بكر وعمر، ولذا لم يستطع عليّعليه‌السلام أن يعلن ذلك إلاّ بعد أن مات أبو بكر وعمر، في الوقت الذي لا يفسّر فيه عمله على أنّه منازعة للسلطان والزعامة مع أبي بكر وعمر، بينما مع عثمان عندما تمّ لعثمان الأمر يوم الشورى لم يكن كذلك، ولذا

____________________--

(١) شرح نهج البلاغة ( ابن أبي الحديد ) ١٢: ٢١٤، عن ابن الجوزي في كتابه: أخبار عمر وسيرته.

(٢) بحار الأنوار ٣١: ٢٦٥ - ٢٦٧ عن مروج الذهب ٢: ٢٤١ - ٣٥٢، وشرح نهج البلاغة ( ابن أبي الحديد ) ٣: ٣٣، وتلخيص الشافي ٤: ٩٤ - ٩٨.

١٩٩

قوّض خلافة عثمان بأن قال: إنّي سوف أسكت ما سلمت أمور المسلمين ومصالحهم(١) ما دام الغبن عليّ وحدي، ما دمت أنا المظلوم وحدي، وما دام حقّي وحده هو الضائع. إنّي سوف أسكت وأُبايع وأُطيع. لكن إذا تهدّمت مصالح المسلمين وقضاياهم وكرامتهم وإسلامهم، إذا واجهوا مصائبهم نتيجةً لهذه الزعامة المنحرفة فلن أستطيع الصبر والسكوت، وهو الذي كان. ولم يصبرعليه‌السلام في حياة عثمان؛ لأنّ الانحراف تكشّف، وارتفعت تلك الأقنعة، وفقد الارتباط بالحرارة الإيمانيّة التي ارتبط بها الانحراف في أيام الخليفة الأوّل والثاني. ولهذا أسفر عليّعليه‌السلام عن المعارضة وواجه عثمان بما سنتحدّث عنه بعد ذلك.

فعليّعليه‌السلام في محاولته تسلّم زمام التجربة وزعامة القضيّة الإسلامية كان يريد أن يوفّق بين هذا الوجه الظاهري للعمل وبين الوجه الواقعي للعمل، ولقد استطاع ذلك، واستطاع أن يوفّق بينهما توافقاً كاملاً، واستطاع هذا في توفيقه للعمل وفي تربيته لأصحابه، حيث ربّاهم على أنّهم أصحاب الأهداف لا أصحاب الأشخاص. واستطاع هذا في كلّ الشعارات التي طرحها، واستطاع أن يثبت هذا مع أنّ رغبته في أن يصبح الحاكم كانت في القمّة، لكن مع ذلك لم يكن مستعدّاً أبداً لأن يصبح حاكماً مع وجود الشروط التي وضعت. ألم تعرض عليه الحاكميّة بعد موت عمر ؟ ولكن عندما وجد شرطاً من الشروط قد اختلّ في هذه الرسالة رفض هذه الحاكميّة(٢) .

____________________

(١) نهج البلاغة: ١٠٢، الخطبة ٧٤، وفيه: ( لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري، ووالله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة ).

(٢) انظر: الإمامة والسياسة للدينوري ١: ٣٠ بتحقيق د. الزيني، وتاريخ اليعقوبي ٢: ١٦٢، والطبري ٤: ٢٣٣ عن عمر بن شبة وأبي مخنف.

٢٠٠