أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 122872
تحميل: 9224

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122872 / تحميل: 9224
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كلّه لأنّه يوجد هناك أب آخر لهذا الابن وهو المجتمع.

إذن، فالتربية الكاملة لا يمكن أن تكون لهذا الفرد إلاّ إذا هيمن المربّي عليه وعلى علاقاته الاجتماعية وروابطه مع غيره أيضاً ليصبح تمام هذا الموجود تحت سيطرة هذا المربّي، تمام نشاطاته وتصرّفاته تحت سيطرة هذا المربّي، شخص واحد يكون هو الأب ويكون هو المجتمع، حينئذٍ يصبح هذا مربّياً كاملاً مطلقاً بالنسبة إلى هذا الابن.

وكيف يمكن الهيمنة على هذه العلاقات الاجتماعية ؟ هذا ما صنعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه هيمن على العلاقات الاجتماعية، لأنّه تزعّم بنفسه المجتمع، لأنّه أنشأ مجتمعاً وقاده بنفسه، ووقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطّط لهذا المجتمع ويرسم لهذا المجتمع، ويبني كلّ العلاقات داخل هذا الإطار الاجتماعي، علاقة الإنسان مع نفسه، علاقته مع ربّه، علاقته مع عائلته، علاقته مع بقية أبناء مجتمعه، علاقاته في مختلف المجالات ومختلف الحقول الاجتماعية والشخصية، كان هو الذي يخطّط. إذن كلّ هذه الأُمور صارت تحت هيمنته، ولمّا صارت تحت هيمنته استكمل هذا الشوط الأساس للتربية الناجحة.

ولا شكّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان قد امتدّ به العمر، وكان قد امتدّت التجربة الإسلامية بعده على أيدي خلفائه الميامين المعصومين من أهل بيته من أمير المؤمنين وأولادهعليهم‌السلام . إذن لأمكن لهذه التربية أن تؤتي ثماراً عجيبةً جداً، هذه الثمار نقرؤها الآن بعنوان المعجزات والكرامات عن أحوال الناس بعد ظهور الحجّة، تلك المعجزات والكرامات ليست معجزاتٍ ولا كرامات، وإنّما هي نتيجة تربية، هل يمكن أن يبلغ المجتمع البشري إلى مستوىً من التعاون والتعاضد، إلى مستوىً من التوحّد والترفّع بحيث يستغني عن النقد، بحيث يستغني عن التعبير المادّي القاسي جدّاً في حياة الإنسان ؟

٢٢١

الروايات تقول بأنّ هذا سوف يقع في عهد الحجّةعليه‌السلام ، هذا الذي سوف يقع هو نتيجة هذه التربية المخطّطة على يد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويد الخلفاء المعصومين من أهل بيته.

عناصر التجربة الإسلاميّة وآثار انهدامها:

إذن فالتجربة الإسلامية كانت تشتمل على عناصر ثلاثة باعتبار أنّها عملية تربية:

- من القائد، المربّي.

- ومن تنظيم مستمدٍّ من قبل الشريعة الإسلامية.

- ومن حقلٍ لهذا التنظيم، وهو الأُمّة أو المجتمع.

هذه هي العناصر الثلاثة المزدوجة في هذه التجربة.

إذن الانحراف كيف بدأ ؟ الانحراف هنا بدأ بتغيير هذه العناصر الثلاثة الرئيسية لهذه التجربة.

أحد عناصر هذه التجربة تهدّم بعد وفاة الرسول الأعظم، يعني ثلث التجربة الإسلامية تهدّم، ثلث البناء الذي لأجله جاء أربع وعشرون ألف رسالة من السماء، جزء واحد من ثلاثة أجزاء تهدّم بذلك من هذه التجربة، وكان تهدّم هذا الجزء الواحد كفيلاً بطبيعة الحال لأن يهدم الجزأين الآخرين؛ لأنّ هذه التجربة متفاعلة في عناصرها، بعدما انهدّ جزء من هذا، ينهدّ الجزآن الآخران حتماً.

لا ندري أنّ المسلمين وقتئذٍ هل كانوا يتصوّرون عمق هذا الانحراف بعد هذا ؟ أكبر الظنّ أنّهم لم يكونوا يتصوّرون غايته، كانوا يتصوّرون أنّ المسألة مسألة تغيير حكمٍ من أحكام الله لا أكثر. إنّ الله جعل علياًعليه‌السلام وهم جعلوا أبا بكر، أمّا باقي الجهات بقي الوضع على حاله، بقيت العلاقة على حالها، بقيت

٢٢٢

الزكاة تجبى، بقي الفقراء يعطون منها، بقي كتاب الله يُقرأ في المساجد، بقيت الجماعات تقام ظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً، بقي بيت الله الحرام يحجّ إليه عشرات الآلاف، بقي الجنود، بقي المرابطون للجهاد يفتحون بلاد الله بلداً بعد بلد، إذن لم يتغيّر شيء، إلاّ أنّ شخصاً كان اسمه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام هو أعدل وأعلم وأرفع من أبي بكر، هذا أُقصي عن المقام؛ لغلبة الأهواء والشهوة ولأمور أخرى سوف نذكرها في حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وجعل مكانه أبو بكر؛ لا أكثر من هذا المقدار.

لكنّ الأمر لم يكن كذلك، هذا كان نذير الشؤم والويل والدمار بالنسبة إلى التجربة الإسلامية كلّها، لما بُدِّل شخص الحاكم وجُعل حاكم، هذا الحاكم الآخر لم يكن مصمّماً من قِبل واضع التجربة، ومعناه أنّ هذا الإنسان على أقلّ تقديرٍ، حتّى لو أخذنا بمفهوم السنّة عن أبي بكر لا بمفهومنا عن أبي بكر، لو أخذنا بمفهوم أخلص المخلصين لأبي بكر، لا بمفهوم أهل البيت عن أبي بكر، ، فهو إنسان تحتشد في نفسه أفكار كثيرة خاطئة، وتحتشد في نفسه شهوات كثيرة تعرّضه للانحراف، هذا على أقلّ تقديرٍ لم يكن إنساناً معصوماً لا من الناحية الفكريّة، ولا من الناحية العملية، قصوراً لا تقصيراً، هذا الإنسان جاء ليتسلّم زمام التجربة الإنسانية بدلاً عن ذلك الإنسان المعصوم، فحينئذٍ أبو بكر تسلّم زمام الأمر.

ومن أبو بكر ؟ هو مجموعة هذه الأفكار والمشاعر والعواطف والانفعالات. هذا هو أبو بكر، إذن فالحاكم هو هذه الكومة، نفرض أنّ السنّة صدقت، وأنّ هذه الحفنة خمسون بالمئة من الأفكار والعواطف فيها كانت إسلامية، لكن فيها خمسون بالمئة ليس إسلامياً، إذن فقد أصبح الحكم مزدوج الشخصية، أصبح الحاكم في الظاهر عبارةً عن خمسين بالمئة من الأفكار والعواطف الإسلامية من وجهة الرأي السنّية، وخمسين بالمئة من العواطف

٢٢٣

والأفكار غير إسلامية بل جاهلية في المقام، فبطبيعة الحال أنّ هذا النصف الثاني على أقلّ تقديرٍ، لو لم نقل بأنّ كلا النصفين حاله هكذا، وأخذنا بنظرية من يقول بأنّ القصّة قصّة مناصفة لا أقلّ من أن يكون هذا الشخص عرضةً للانحراف، فمن هو الضامن لعدم هذا الانحراف ؟ هل الضامن هو الأُمّة ؟ الأُمّة لم تكن في مستوى العصمة وقتئذٍ، كما أنّ أبا بكر لم يكن معصوماً، كذلك الأُمّة بوصفها المجموعي لم تكن معصومة، من الممكن أن تبلغ الأُمّة درجة العصمة خلال تربيةٍ طويلة الأمد، لو أنّ رسول الله والأئمّة الاثني عشرعليه‌السلام قد توالوا على اُمّةٍ واحدةٍ ومارسوا عملية التربية كان من الجائز أن تبلغ الأُمّة بوصفها المجموعي في مستوى العصمة بحيث لا تحتاج بعد هذا إلى قائدٍ معصوم، بل هي تحكم نفسها بنفسها؛ لأنّها بوصفها المجموعي تكون معصومة، هذا أمر جائزٌ عقلاً، ولكنّه بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن الأُمّة بوصفها المجموعي معصومة، والدليل على هذا سيأتي بعد ذلك.

فإذن لم تكن الأُمّة على مستوى العصمة، ولم يكن أبو بكر على مستوى العصمة، إذن فسوف ينفتح من هذا الحاكم غير المعصوم الخطر على الأجزاء الأخرى للتجربة، المقوّمات الأساسية للرسالة الإسلامية، سوف ينفتح الخطر على المصادر الأخرى، على الكتاب والسنّة.

ومن البديهي أنّه لم يكن الكتاب والسنّة في عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله مكتوباً في كتاب، نعم الكتاب كان مكتوباً ولكنّه لم يكن مكتوباً ومطبوعاً على النحو الذي نعرفه الآن، لم يكن هذا الكتاب في أيدي المسلمين بوصفه كتاباً وقرآناً محدوداً من ألفه إلى يائه. وأنتم تعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مات والسنّة لم تكن مكتوبةً أصلاً، لا بشكلٍ موزّعٍ كالقرآن، ولا بشكلٍ غير موزّغ، وإنّما كانت محفوضةً في صدور المسلمين وقتئذٍ، والسنّة كانت هي المصدر الثاني للإسلام.

٢٢٤

ماذا يعني انحراف الحاكم ؟

ماذا يترقّب في شخص حاكمٍ منحرفٍ في المقام أن يفقه من هذين المصدرين وأن يعمل في حماية هذين المصدرين ؟ لو لم يكن هناك تحصين من الخارج من قادة أهل البيتعليهم‌السلام بالنحو الذي سوف نشرحه، إنّه كان من الطبيعي أن يترقّب أنّ الكتاب والسنّة - ولا أقلّ من السنّة - سوف تكون عرضةً للضياع والانحراف والتزوير على أساس الانحراف في هذا الحاكم، فالمقوّمات الأساسية للإسلام سوف تطوّر وتزوّر، النظريّة الأساسية للإسلام سوف تشوّه، الإسلام له نظرية للحياة، هذه النظرية سوف تطوّر وتشوّه بشكلٍ آخر، بشكلٍ جاهليٍّ لا يختلف عن النظرية الجاهلية؛ لأنّ المصادر الأساسية للإسلام فرضنا أنّها عرضة للتحريف وللإقصاء عن مجالات الذهنيّة الإسلامية، وحتّى لو لم تكن عرضة، فالنصوص الموجودة في أُمهات الكتب لم تكن تعطي النظرية الحقيقية للناس.

الناس حسّيون أكثر منهم منطقيّون، الناس يعيشون ما يرون، لا يعيشون ما يقرؤون حبراً على ورق، إذن فيعيشون ويرون النظرية التي يمارسها أبو بكر، ويمارسها الخلفاء الذين توالوا من بعده، يمارسها هذا الخطّ المنحني من الانحراف، الذي اشتدّ انحناؤه بالتدريج حتّى بلغ إلى الهاوية من الانحراف، إذن فسوف يعيشون هذا الواقع، وهذا المجسّد للنظرية الإسلامية للحياة، وسوف لن يبقى هناك أطروحة أخرى للنظرية الإسلامية للحياة، وبذلك يفقد الإسلام أطروحته على المستوى النظري، وعلى المستوى النضالي بعد أن فقده على المستوى الواقعي، فالمستوى الاجتماعي الخارجي بعد هذا ماذا سوف يكون ؟ بعد هذا سوف ينعكس فيها بعد إقصاء

٢٢٥

مصادر الرسالة عنها، وبعد تشويه معالم النظرية الإسلامية في وجهها، وبعد تعمّق الحاكم في انحرافه، فمعنى انحراف الحاكم أنّه سوف يتميّع في حفظ مصالح الأُمّة، وسوف يتجبّر في حاكميّته.

ردّ الفعل لتميّعه في حفظ مصالح الأُمّة ما هو ؟ كيف ينعكس هذا التميّع على الأُمّة ؟

ينعكس هذا التميّع في الظلم والفساد والتناحر والصراع فيما بين أفراد الأُمّة؛ لأنّ الوالي لا يحفظ مصالحه الحقيقية، والتجربة في الحاكم كيف تنعكس على الأُمّة ؟ سوف تنعكس على الأُمّة في الضياع، في الانحلال وفقدان الإرادة، وفقدان الشعور بالمسئولية، إذن فسوف تصبح الأُمّة بعد شوطٍ طويلٍ من الزمان اُمّةً ملؤها الفساد، وملؤها انعدام الإرادة، وهذه التجربة الإسلامية المنحرفة سوف تسقط حتماً في يومٍ من الأيام؛ لأنّها منحرفة، ولو كانت إسلاميةً يجب أن تسقط يوماً ما.

إذن هذه التجربة سوف تسقط في يومٍ ما، وسوف تجيء تجربة أُخرى كافرة وصريحة مكانها، وحينما تجيء تلك التجربة الكافرة الصريحة مكانها سوف تواجه اُمّةً متميّعةً لا يوجد لديها أي مناعةٍ ضدّ الكفر، وسوف تندمج هذه الأُمّة اندماجاً كاملاً للتجربة الكافرة الصريحة، وبذلك يضيع الإسلام والرسالة والنظرية الإسلامية للحياة، وتضيع الأُمّة نفسها، هذه هي الأخطار التي كان يترّقب أن تنجم عن منطلق الانحراف يوم السقيفة.

٢٢٦

مواجهة أئمّة المرحلة الأولى

للانحراف

٢٢٧

٢٢٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام السجّادعليه‌السلام ومواجهة قمّة الانحراف:

هذه الساعة نعيشها في ظلال الإمام زين العابدينعليه‌السلام آخر أئمّة المرحلة الأولى من المراحل الثلاث التي أشرنا إليها في حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، نعيشها في ظلال هذا الإمام الممتحن الذي عانى أقسى فترةٍ من الفترات التي مرّت على قادة أهل البيتعليهم‌السلام ، لأنّه عاصر بداية قمّة الانحراف، هذا الانحراف الذي بدأ عقيب وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً وقد تحدّثنا عنه في الأيّام السابقة. هذا الانحراف بدأ يتكشّف بشكلٍ صريحٍ واضحٍ سافرٍ، لا على مستوى المضمون فحسب بل على مستوى الشعارات، وعلى مستوى الكلمات المطروحة من قبل الحكّام في العمل والتنفيذ، فكان الحكم نظرياً وعملياً قد بدأت تتكشّف حقيقته.

الإمام السجّادعليه‌السلام ولد قبل وفاة أمير المؤمنينعليه‌السلام بثلاث سنين(١) ، نعني ولد وأمير المؤمنين في خطّ الجهاد في حرب الجمل، أو على أبواب خطّ الجهاد في حرب الجمل، وعاش طفولته مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في محنته، ثمّ عاش مع الحسنعليه‌السلام في محنته، ثمّ عاش مع الحسينعليه‌السلام في محنته، ثمّ استقلّ في المحنة

____________________

(١) كانت ولادتهعليه‌السلام سنة ٣٨ ه-.

٢٢٩

حتّى رأى جيوش الخطّ المنحرف تدخل إلى مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فتربط خيلها بأُسطوانات المسجد(١) .

هو يحدّثعليه‌السلام بأنّه كان يدخل إلى مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا المسجد الذي كان من المفروض أن يكون منطلقاً للرسالة في أفكارها ومفاهيمها ونورها إلى العالم كلّه، هذا المسجد قاسى على عهد الإمام زين العابدينعليه‌السلام هذا المستوى من الذلّ والهوان، وجيش الانحراف، جيش بني أميّة حينما يأتي إلى المدينة، ويعلن إباحتها ويهتك كلّ حرمات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة، ويدخل إلى مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويربط خيله بأسطوانات المسجد.

الإمام السجّادعليه‌السلام عاش هذه المحنة، محنة الزمن إلى حين دخول جيوش الانحراف إلى المسجد، واستهتاره بحرمات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا المستوى. يمكن أن نعتبر أنّ الفترة التي عاشها الإمام السجّادعليه‌السلام هي أقسى فترةٍ مرّت على إمام؛ لأنّها بداية تكشّف قمّة الانحراف.

صحيح أنّ هذه القمّة لم تنحسر بعده وإنّما بقيت، ولكن البداية كانت على عهده هو، وبهذا كنّا نعتبر الإمام السجّادعليه‌السلام ممتحناً أكثر من سائر الأئمّةعليهم‌السلام ، في ظلال هذا الإمام الذي سوف نتحدّث عنه مفصّلاً، عن وضعه وحياته وعن تفاصيله.

عودٌ على بدء:

ونعود الآن تسلسل حديثنا السابق، حيث إنّا كنّا بدأنا بتسلسلٍ لعرض

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٦: ١٣١، تاريخ عليّ بن الحسين السجّادعليه‌السلام ، الباب ٨، باب أحوال أهل زمانه من الخلفاء وغيرهم، الحديث ٢١.

٢٣٠

حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، وهذا التسلسل بدأناه من حين وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانتهينا إلى حين وصول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الخلافة وتسلّمه زمام المسئولية في المجتمع الإسلامي. فنعود إلى ما كنّا فيه حفاظاً على تسلسل الحديث.

طبيعة الموقفين وصراع الأطروحتين:

أتذكّر أنّي قلت في ما سبق: إنّ الإمامعليه‌السلام كان يوجد منذ البدء في طبيعة موقفه، وطبيعة موقف معاوية، الذي كان يمثّل خطّ الانحراف، كان يوجد في طبيعة الموقفين ما يقرب من النتيجة التي انتهى إليها الصراع بين الإمامعليه‌السلام ومعاوية.

هناك عدّة نقاطٍ لا بدّ من الالتفات إليها تفصيلاً سأُوجزها إجمالاً، لأنّي شرحتها في ما سبق:

الأولى - اختلاف الموقفين على مستوى الغزو والدفاع:

إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كانت عمليّته على مستوى الغزو، وكانت عملية معاوية على مستوى الدفاع، كان أمير المؤمنينعليه‌السلام بعد أن تسلّم زمام الحكم في الدولة الإسلامية يرى نفسه مسئولاً عن تصفية الانحراف وهذا الانشقاق غير الشرعي الذي أوجده خطّ بني أُميّة والموالين لبني أُميّة في جسم الأُمّة الإسلامية. وكان يرى أنّ من همّه ومن واجب الأُمّة الإسلامية القضاء على هذا الانشقاق، وهو حينما ركّز عاصمته، وقاعدته الشعبيّة في العراق كان مطلبه السياسي الذي يريد أن يعبّئ هذه القاعدة الشعبية لتحقيقه، ولبذل الجهد والتضحية في سبيله هو تصفية هذه التجزئة السياسية غير المشروعة في جسم الأُمّة الإسلامية، وكان معنى هذه التصفية أن يبدأ أميرُ المؤمنينعليه‌السلام معاويةَ بالهجوم والغزو، يعني ذلك

٢٣١

أن ينقل قاعدته الشعبية ويكلّفها بأن تقوم وتتحرّك وتخرج من بلادها مهاجرةً في سبيل الله تعالى؛ لكي تقضي على زمرة الانحراف التي قدّر لها أن تتمركز في ثغرٍ من ثغور المسلمين وهو الشام.

بينما معاوية لم يكن همّه على مستوى الغزو، ولم يكن موقفه يتطلّب فيه أن يغزو، وإنّما كان موقفه يتطلّب منه أن يمسك الشام، كان يتطلّب منه أن يحاول فصل الشام عن باقي أجزاء الوطن الإسلامي الكبير.

وفرق كبير بين قائدٍ يأمر جيشه بأن يتحرّك من بلاده ليخوض معركةً لا يوجد أيّ اعتبارٍ لخوضها سوى اعتبار الرسالة فقط، كان يعلم بأنّ العراقيين لم يكونوا موتورين من الشاميين بما هم شامييّون، ولم تكن مصالحهم الخاصّة قد تعطّلت عن طريق انفصال الشام عن جسم الدولة الإسلامية، وإنّما كان هناك اعتبار الرسالة، اعتبار الإسلام الذي يستصرخهم ويناديهم ليقوموا هذا الانشقاق والقضاء على هذه التجزئة، فهم يجب أن يكونوا مدفوعين في هذه المعركة بدافعٍ رساليٍّ كبير، ويجب أن يصلوا إلى مستوىً عظيمٍ من فهم القضيّة وإدراك أبعادها وتبيين مضمونها؛ حتّى يكونوا على مستوى العطاء لها، عطاء النفوس والأرواح والأموال والأوقات، بينما هذا المستوى من العطاء لم يكن هو أُطروحة معاوية لجيشه. معاوية لم يكن يقول لجيشه: تعالوا نحتلّ العراق، تعالوا لنغزو باقي أرجاء الوطن الإسلامي، وإنّما كان يمنّيهم بالسيادة والاستقلال، وفي النهاية وعلى الخطّ الطويل يجعل زعامة الوطن الإسلامي في الشام.

والأشخاص الذين كانوا يدورون في فلك الإمامعليه‌السلام كان فيهم عدد كبير من الواعين، وأنصاف الواعين، والحارّين وأنصاف الحارّين، على المصطلحات التي وضعناها فيما سبق، وهذه الكتلة الكبيرة من الواعين وأنصاف الواعين، والحارّين وأنصاف الحارّين استجابت لمطالب الرسالة منذ اللحظة الأولى ،

٢٣٢

استجابت مع الإمامعليه‌السلام وشعرت بأنّ من واجبها الإسلامي أن تصفّي هذه التجزئة، وأعطت هذه الكتلة من التضحيات ما أعطت، وخاضت عدّة معارك ضاربة. هؤلاء أعطوا للقضيّة التي طرحها أمير المؤمنينعليه‌السلام عطاءً لا يستهان به، ولكنّ هذا العطاء كان ولا بدّ أن يتناقض بالتدريج وفقاً لمستوى وعي هؤلاء على ما سوف أشرح في نهاية الحديث.

إذن فهنا لم تكن الأطروحتان متكافئتين من حيث درجة الجهة، من حيث درجة الطلب، من حيث درجة الدفع والتحريك. أُطروحة تريد منك أن تخرج من بيتك مهاجراً تغزو في سبيل الله، وأُخرى تريد منك أن تبقى في بيتك، وأن تحافظ على استقلال بيتك في بيتك. هذا الفرق الكبير بين الدرجتين لهاتين الأُطروحتين، بين درجة الجهد التي تفرضها هذه الأُطروحة، ودرجة الجهد التي تفرضها الأُطروحة الأُخرى، كان له دور كبير في طبيعة الموقف الذي سوف نتحدّث عنه في نهاية هذا الحديث.

الثانية - الإمام عليّعليه‌السلام يواجه إفرازات الماضي:

إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كما كان بصدد تغطية التجزئة السياسية المنحرفة التي وقعت في العالم الإسلامي وقتئذٍ، كان أيضاً يواجه انحرافاً في داخل المجتمع الإسلامي الذي حكمه نتيجةً للظروف السياسية التي فرضته، وكان لا بدّ له أن يخوض معركةً ضدّ هذا الانحراف الذي كان يعيشه المجتمع العراقي والحجازي والمجتمع الإسلامي بشكلٍ عام، فعليّعليه‌السلام كان يواجه معركتين: معركةً ضدّ التجزئة السياسية بجسم الأُمّة الإسلاميّة، ومعركةً أُخرى ضدّ الانحراف الداخلي في المجتمع الإسلامي، والذي كان يمثّل سياسة الخلفاء الذين سبقوه، كان يتمثّل في:

٢٣٣

- التمييز غير الشرعي وغير الإسلامي.

- وفي الأفكار والخواطر الكثيرة اللا إسلامية.

- وفي الاستئثار بالأموال وإقامة الثروات على أساس غير مشروع.

- ويتمثّل في إسناد الولايات ومراتب النفوذ إلى أناس لا ينسجمون مع خطّ الرسالة.

كان لا بدّ لهعليه‌السلام أن:

- يقلّم أظافر المنحرفين.

- وأن يسترجع الأموال من الخائنين.

- وأن يحارب الأفكار والمفاهيم المنحرفة وغير المتّفقة مع خطّ الإسلام.

وهذه المعركة كبيرة في داخل مجتمعه، كان لا بدّ له أن يخوضها إلى جانب معركته الخارجيّة.

وهذا على عكس معاوية بن أبي سفيان الذي لم يكن يعيش معركةً في داخل مجتمعه؛ لأنّ الشام بالرغم من أنّه داخل في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية بالفتح العسكري فإنّه لم يدخل الإسلام إلى الشام دخولاً كبيراً، بل دخل الإسلام بشعاراته الأوّلية فقط، وكذلك لم يدخل بمضمونه الحقيقي إلى قلوب أهل الشام، بل كانوا لا يزالون يعيشون الرواسب الجاهلية بدرجةٍ كبيرة، حيث إنّهم كانوا يتأطّرون بالأفكار التي آمنوا بها قبل الإسلام، وكذلك لم تكن أوضاعهم الاجتماعية والفكرية والسياسية تختلف بدرجةٍ كبيرةٍ عمّا كانت عليه قبل الإسلام، حتّى التشريعات الشكلية للوضع السياسي كانت هي التشريعات الشكلية للوضع السياسي قبل الإسلام.

عمر بن الخطّاب بالرغم من صرامته الشكلية ضدّ هذه التشريعات في العالم الإسلامي قد أمضى هذه التشريعات عند معاوية، وأبقاه على وضعه حينما عرض عليه معاوية أن يعيش في الشام كخليفةٍ للقياصرة، ويجب أن يواصل أُبّهة

٢٣٤

القياصرة وجلالهم، لقد أمضى عمر هذا بكلّ وقاحة، أمضى مواصلة معاوية لخطّ القياصرة.

فالشام كانت تعيش إلى درجةٍ كبيرةٍ الجاهلية التي كانت عليها قبل الإسلام، ومعاوية لم يكن يرى أيّ تناقضٍ بين أهدافه وأُطروحته وبين المجتمع الشامي بوضعه الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، هذا المجتمع الذي كان مؤهلاً تماماً لتقبّل أُطروحة معاوية، وهو أن يتزعّم الشام زعامةً ملكيةً قيصريةً لا تؤمن بالارتباط الحقيقي لله تعالى، ومن هنا نجد الفارق بين وضع كلٍّ من الإمامعليه‌السلام ومعاوية في مجتمعه الذي يحكمه.

الثالثة - قناعة المجتمع بالإمام عليّعليه‌السلام ومعاوية:

إنّ مركز أمير المؤمنينعليه‌السلام يختلف بدرجةٍ كبيرةٍ عن مركز معاوية قبل خوض المعركة مع الإمام عليعليه‌السلام ، فإنّ أمير المؤمنين قبل خوض المعركة، قبل تسلّم زمام المسئولية كان قد تكوّن له في نظر المسلمين المفهوم الرسمي الذي أعطته السقيفة للإمام عليعليه‌السلام ، هذا المفهوم الرسمي للإمام عليهعليه‌السلام هو عبارة عن أنّ الإمامعليه‌السلام ليس إلاّ صحابياً جليلاً له خدمات في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحاله كحال غيره من الصحابة الأجلاّء ذوي الخدمات الجليلة في عصر النبوّة، هذا هو المفهوم الرسمي الذي أعطته السقيفة ثمّ أكّدته الشورى.

المسلمون بدأوا بالتدريج وبحكم السياسة الحاكمة أيام أبي بكر وعمر وعثمان يعاملون علي بن أبي طالب على هذا الأساس، على أساس أنّه صحابي جليل ذو سوابق، لا أكثر من هذا المقدار، كان هذا شأن عليعليه‌السلام ، وبحكم هذا الشأن كان يوجد هناك رؤوس كبيرة من الصحابة ممّن كانوا يرون أنّهم لا يقلّون عن عليّعليه‌السلام أو يقلّون بدرجةٍ عن عليّعليه‌السلام ، يرونه على أحسن تقديرٍ أنّ الفارق

٢٣٥

بينه وبينهم فارق درجة، هم صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو كذلك، صحيح أنّهم أخذوا العلم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو كذلك، نعم هو أفضل منهم وأروع، هو أكثر منهم جهاداً في أيام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذا على خلاف وضع معاوية بن أبي سفيان بالنسبة إلى المجتمع الشامي، هذا المجتمع الذي لم يكن يعرف غير معاوية. المجتمع الشامي هو عبارة عن أُناس كفرةٍ دخلوا الإسلام على يد أخ معاوية الذي ولاّه أبو بكر على الشام، وهو يزيد بن أبي سفيان، ثمّ لمّا مات يزيد ولّى أبو بكر معاوية أخاه؛ ولذا فإنّ أهل الشام الذين دخلوا الإسلام على يد معاوية وأخيه، ينظرون إلى إسلامهم أنّه ناتج من هذا الرجل، هو همزة الوصل بينهم وبين الإسلام، وهو الذي عن طريقه وصلت الشريعة إليهم؛ ولذا كانت نظرة أهل الشام ورجالاته إلى معاوية تختلف عن نظرة رجال أمير المؤمنينعليه‌السلام وعن نظرة رجال المدينة والعراق إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهذا الاختلاف في النظرة أوجد في حياة الإمامعليه‌السلام تناقضاً ومثاراً من الآراء والاجتهادات المتضاربة، وامتناعاً في كثيرٍ من الأحيان عن قبول رأي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بينما كان أهل الشام يلقون معاوية بالطاعة الكاملة والخضوع الأعمى.

الرابعة - الاختلاف في مستوى الدعويين:

والنقطة التي لا بدّ من الالتفات إليها في المقام هي أنّ دعوى الإمامعليه‌السلام في معاوية لم تكن على مستوى الحسّ، بل كانت على مستوى الوعي، والواعون لم يكونوا جميع المسلمين. وأمّا دعوى معاوية في عليٍّعليه‌السلام فقد صوّرها وكأنّها على مستوى الحسّ، والناس كلّهم يعيشون الحسّ.

عليّعليه‌السلام كان يقول بأنّ معاوية لا يمثّل خطّاً من خطوط الإسلام، بل يمثّل

٢٣٦

جاهلية أبيه وجدّه، معاوية يريد أن يقضي على الكيان الإسلامي، ويريد أن يحوّل المجتمع الإسلامي إلى مجتمعٍ آخر لا يؤمن بالإسلام وبالقرآن، بل يؤمن بالقيصرية والكسروية، هذا هو مدّعى الإمامعليه‌السلام في معاوية.

ومدّعى معاوية في الإمامعليه‌السلام : أنّ الإمام قد هيّج الناس على عثمان وعلى الخليفة الحاكم وقتئذٍ؛ لأنّ أصحابه وأهله هم طليعة الثوّار على عثمان، وأنّ عليّاً عن طريق هؤلاء الأصحاب والطلائع الواعية قتل عثمان، ثمّ تربّع على كرسيّه بعده، ما أقرب هذه الدعوى إلى التفكير على مستوى الحسّ !

هل هناك شخص يعيش الأرقام التي كان يقدّمها معاوية عن هذه الطلائع العلوية التي باشرت بنفسها قتل عثمان، أو التي ساعدت وحرّضت على عثمان من قبيل محمّد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر وأبي ذرّ، وغيرهم من أقطاب المسلمين رضوان الله عليهم، هؤلاء الذين باشروا وحرّضوا على قتل عثمان ثمّ يأتي عليعليه‌السلام بعده فيتسلّم زمام الحكم بعد عثمان.

هل هناك تفكير أقرب إلى الحسّ من أن يكون علياً في المقام قد قتل عثمان بيدٍ ثمّ أخذ الحكم باليد الأخرى ؟

تفسير معاوية كان مقبولاً إلى حدٍّ ما؛ لأنّه كان قريباً من الحسّ، وأمّا تفسير الإمامعليه‌السلام لموقف معاوية كان يحتاج إلى قدرٍ من الوعي.

نحن الآن ننظر إلى معاوية بعد أن تكشّف، وبعد أن صعد على منبر الكوفة في عام الجماعة لقول:( ما حاربتكم لتصلّوا أو تصوموا، وإنّما حاربتكم لأتأمّر عليكم ) (١) .

ننظر إلى معاوية بعد أن قتل حجر بن عديّ والأبطال الأبرار من إخوان

____________________

(١) الإرشاد ( للشيخ المفيد ) ٢: ١٤.

٢٣٧

حجر بن عدي(١) ، وبعد سمّ الحسنعليه‌السلام ، وبعد أن أعطى ولاية العهد لابنه الفاسق يزيد. ننظر إلى معاوية بعد أن انتهى معاوية، لكنّ أولئك المسلمين، الجماهير الكبيرة من أولئك المسلمين لم يكونوا ينظرون إلى معاوية بعد أن انتهى، ولم يكونوا ينظرون إلى معاوية من هذا المنظار؛ لأنّهم لم يعيشوا بعد هذه الأحداث.

أنظروا أيّها الإخوة بمنظار تلك الجماهير غير الواعية، تلك الجماهير التي عاشت مع أبي بكر وعمر وفضّلتهما على عليٍّعليه‌السلام ، وتأمّلت في تفضيل عثمان على عليّعليه‌السلام . انظروا بمنظار هذه الجماهير غير الواعية وتساءلوا عن معاوية، من هو معاوية ؟

معاوية شخص كامن من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان معتمداً لأبي بكر وعمر، وكان من الواضح أنّ عمر كان يوليه درجةً كبيرةً من ثقته، وعمر هو هذا الشخص الذي تقدّسه هذه الجماهير، ومعاوية بحسب الظاهر كان ملتزماً للشكليات التي هي مقياس الإسلام عند هذه الجماهير غير الواعية، ولم يكن قد صدر منه إلى ذلك الوقت انحراف واضح جليّ على مستوى الجماهير، ولم تكن قد صدرت منه معصية واضحة محدّدة على المستوى المطلوب. إذن فمعاوية بذلك المنظار ليس هو معاوية الذي يُنظر إليه اليوم.

بينما معاوية ماذا يقول ؟ معاوية يقول: إنّ عليّاً قتل عثمان، وإن لم يكن قد قتل عثمان فمن الذي قتله ؟ على كلّ حال، فإن كان عليّ قادراً على أن يقيم الحدّ على قاتل عثمان فليسلّم للناس القاتل حتّى نقتله، وإن لم يكن قادراً على ذلك فهو إذن عاجز عن تطبيق الشرع، فليعتزل الخلافة وليأتِ شخص قادر آخر للخلافة، هذا ما كان يدّعيه معاوية بن أبي سفيان.

____________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢: ٢٣١ - ٢٣٢.

٢٣٨

مجموع هذه النقاط أوجدت بالتدريج بذرة الشكّ في مجتمع الإمام عليّعليه‌السلام .

سريان الشكّ وتعميقه في مجتمع الإمام عليّعليه‌السلام :

هذا الإمام الذي خاض المعركة على رأس هذا المجتمع لتصفية الانحراف من الداخل وتصفية الانحراف من الخارج، وكان يريد أن يُوعّي الجماهير ويفهمها بأنّ المعركة ليست معركة زعامةٍ شخصية، وليست معركة وجودٍ خاصّ، وليست معركة قبيلته أو عشيرته أو أمجاده، وإنّما هي معركة رسالة السماء، معركة الحفاظ على أمانة الله التي جاهد في سبيلها الآلاف من الأنبياء.

كان يريد أن يوعّي الجماهير على واقع هذه المعركة وطبيعة هذه المعركة، وأنّها معركة السماء لا معركة الأرض، وأنّها معركة الله لا معركة الهوى. هذا الإمام العظيم بدأ المعركة على أساس أنّ الجماهير بدأت تحسّ هذه الأبعاد للمعركة وطبيعتها، ولكن هذه بعد أن تعبت، بعد أن أرهقها خطّ الكفاح، بعد أن قدّمت للإمام عليّعليه‌السلام وللإسلام كثيراً من التضحيات التي قد لا يمكن أن يقدّمها كثير من المجتمعات، إلاّ أنّ النَفَس لم يكن طويلاً، نَفَس هذه الجماهير احتبس، بينما الانحراف كان ذا نَفَسٍ طويل، انقطع نَفَس هذه الجماهير عندما تعبت، وحينما أرهقها خطّ الجهاد، وحينما أخذت تشعر بأنّها في حالةٍ غير طبيعية، وحينما أخذت تشعر بأنّها طلّقت الدنيا، طلّقت الأبناء و الأموال والثروات في سبيل قضيّةٍ لا تمسّ مصالحهم الشخصية، حينما أخذوا يحسّون ويدركون هذا بدأوا لأنفسهم بالشكّ، فإنّ التميّع يوحي بالشكّ، التميّع قد يوحي للإنسان بالشكّ، رغبة هؤلاء في أن يوقفوا هذه الجهود، في أن يجمّدوا أنفسهم، في أن يريحوا أنفسهم، هذه الرغبة النفسيّة تخلق شكّاً، تخلق مبرّراتٍ لا منطقيّة، هذه المبرّرات غير المنطقية

٢٣٩

هي نتيجة الرغبة النفسيّة في أن يتبدّل الحال، في أن يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل أعباء هذا الخطّ، قبل تحمّل مسئوليات هذا الخطّ.

وكانت هناك أشياء كثيرة أيضاً تساهم في هذا الشكّ وفي إشاعته، كان هناك أُناس من الصحابة على قدرٍ كبيرٍ من الورع والتقوى في نظر الناس، كان هؤلاء الناس المؤمنون والذين لم يكونوا واعين رساليين عقائديين يوحون للجماهير بأنّ المعركة ليست صحيحة، إنّ القاعد في المعركة خير من القائم، والقائم فيها خير من السائر والضارب، هذا الإيحاء من قِبل أبي موسى الأشعري - مثلاً - كان له قوّة أكبر بكثيرٍ من الإيحاء المقابل من قِبل عمّار بن ياسر، لأنّ إيحاء عمّار بن ياسر يكلّف الموت، يكلّفك أن تتنازل عن حياتك. أمّا الإيحاء من أبي موسى الأشعري فهو يُكفيك بذل هذه الحياة، يقول لك: حافظ على حياتك، ابتعد عن الأخطار، اذهب واجلس في بيتك ودَعِ الإسلام مع أخطاره ومع أعدائه.

عمّار بن ياسر صحابّي كبير، وأبو موسى الأشعري أيضاً صحابي كبير، هذا يكلّفك بالموت، وذلك يكلّفك بالحياة، ولكن أيّ حياة ؟ هذه الحياة الرخيصة، حياة الذلّ والهوان، الحياة تحت ظلّ معاوية، أو تحت ظلّ الجاهلية ! هذا الإنسان الاعتيادي البسيط الشاكّ يفضّل إيحاء أبي موسى الأشعري وأمثاله على إيحاء عمّار بن ياسر وأمثاله؛ لأنّه يريد أن يحتفظ بحياته. إذن يتعمّق الشكّ على أساسٍ من إيحاء أمثال أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمر.

وممّا ساهم في تعميق الشكّ أيضاً أنّه كان هناك نزاع تقليدي بين بني أُميّة وبني هاشم، نزاع عاشه بنو أُميّة وبنو هاشم قبل الإسلام، والناس حينما أخذت تفتّش عن نقطة ضعفٍ في المعركة بدأت الأذهان تثير الشكّ في أن تكون المعركة بين عليّعليه‌السلام ومعاوية نتيجةً استمراريةً لصراعٍ تقليديٍّ توازنيٍّ بين قبيلتين، بين بني أُميّة وبني هاشم.

٢٤٠