أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية9%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131622 / تحميل: 10277
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مستوى الجماهير عن خليفته الإمام الحسنعليه‌السلام له في المركز السياسي هو تفادي مثل هذا التصوّر؛ ولهذا أوصى الحواريين الذين يؤمنون بالنظرية الإسلامية الصحيحة للإمامة، أوصى إليهم بإمامة الحسنعليه‌السلام وعرّفهم بأنّ الحسنعليه‌السلام هو الإمام وهو الحجّة من قبل الله والوصيّ من بعده. إلاّ أنّه بوصفه حاكماً ورئيساً للدولة لم يعلن إعلاناً رسمياً سياسياً أنّ الحسنعليه‌السلام هو الذي يتسلّم الأمر من بعده.

العامل الخامس:

من عوامل تعمّق الشكّ في نفوس المسلمين هو: أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام لظروفٍ - سوف نشرحها - لم يكن قد تسرّع للإعلان عن عزمه على الحرب مع معاوية والاشتباك المسلّح مع معاوية، عدم إعلان الإمام الحسنعليه‌السلام وعدم تسرّعه بالإعلان عن عزمه على الاشتباك المسلّح مع معاوية استغلّه معاوية، وأشاع على أساسه أنّ الحسنعليه‌السلام يفكّر في الصلح، كانت هذه الإشاعة القائمة على أساس هذه النقطة، وكانت لهذه الإشاعات مساهمة كبيرة جدّاً في توسيع نطاق الشكّ عند المسلمين وتردّدهم في أن تكون هذه القضية التي يحاربون من أجلها قضيةً يشكّ فيها القائد نفسه.

هذه العوامل الخمسة أدّت إلى توسيع نطاق هذا الشكّ المصطنع بعد وفاة الإمام لتسلّم الإمام الحسنعليه‌السلام مقاليد الحكم والزعامة، وهذا الشكّ المصطنع الذي اشتدّ على أساس هذه العوامل تحوّل - كما قلنا - كيفياً من طاقةٍ سلبيةٍ إلى طاقةٍ إيجابية، وتحوّل كمّياً من شكٍّ يعيشه بعض الأفراد والجماعات إلى شكٍّ تعيشه الجماهير في مختلف قطاعات هذا المجتمع الذي كان يحكمه الإمام الحسنعليه‌السلام .

٢٦١

هذا الشكّ يبدو بكلّ وضوحٍ منذ اللحظة الأُولى لتسلّم الإمام الحسنعليه‌السلام مقاليد الحكم، منذ اللحظة الأُولى التي فوجئ بها الإمامعليه‌السلام باستشهاد والدهعليه‌السلام إلى اللحظة الأخيرة التي تمّ فيها تسليم الأمر لمعاوية، في كلّ هذه الفترة القصيرة منذ اللحظة الأُولى إلى اللحظة الأخيرة نحن نجد الشواهد تلو الشواهد، والدلائل تلو الدلائل على هذا الشكّ المرير المتزايد المتنامي في نفوس الجماهير في القائد، وفي الأُطروحة، وفي الأهداف، وفي الرسالة.

ظروف بيعة الإمام الحسنعليه‌السلام :

الإمام عليعليه‌السلام يستشهد، ويعلن الإمام الحسنعليه‌السلام عن وفاة الإمام العظيم، ولم يعلن عن مسألة الخليفة ليعيّنوا ما يملأ به الفراغ السياسي الذي تركه الإمام عليعليه‌السلام ، يذهب الإمام الحسنعليه‌السلام إلى المسجد يؤبّن الإمام عليّاً ويقرّر(١) أباه وينعاه، وفي هذا التقرير يحاول أن يدفع الشكّ بقدر ما يمكن بكلماتٍ تدفع الشكّ، أراد أن يستعرض صورةً ملخّصةً عن هذا الإمام العظيم الذي خرّ شهيداً في المسجد بين المسلمين، أراد أن يقدّم بين المسلمين صورةً موجزةً عن هذا الرجل النظيف الذي لم يعش لحظةً إلاّ لرسالته ولإسلامه بعد أن ألقى [ الخطبة ] التي أراد فيها أن يدفع الشكّ بقدر ما يمكن لخطبته أن تدفع الشكّ عن الإمام عليّعليه‌السلام . بعد هذا وقف ساكتاً يتأمّل ليرى ماذا سيكون ردّ الفعل ؟ ماذا يكون موقف المسلمين من هذه اللحظة، من ملء الفراغ، من القضية المطروحة الآن ؟ وهي قضية ملء الفراغ الذي تركه الإمام عليعليه‌السلام . لمن يتوجّه المسلمون الآن ؟

____________________

(١) كذا في الأصل.

٢٦٢

كلّ المسلمين سكتوا، لم يقم أحد، لم يجب أحد، لم يبرز أحد شيئاً، هؤلاء المسلمون المجتمعون في المسجد، هؤلاء هم الأمناء على التجربة، هم أصحاب عليّ، هم قادة هذا المجتمع، هم الطليعة التي كان بها يصول وبها يكافح وبها يجاهد هذا الإمام العظيم، كلّهم سكتوا، لم يجب واحد لم يقل شيئاً أبداً.

قال ابن عمّه عبد الله بن عبّاس: نقدّم أطروحة خلافة الإمام، قال بأنّ علياًعليه‌السلام إن كان قد ذهب فهناك ابنه الحسنعليه‌السلام (١) ، سوف يواصل طريقه، سوف يسير في خطّه، سوف يحمل اللواء، سوف نسير في كنفه.

حينما قدّم هذا الشعار أو هذه الأطروحة بدأ شخص من زاوية المسجد، وشخص من زاوية أُخرى، وهكذا فاستجابوا مع هذا الشعار وبويع الإمامعليه‌السلام .

لماذا قَبِل الإمام الحسنعليه‌السلام أن يبايع ؟

وهنا قد يقول القائل: إنّ الإمام الحسن لماذا قبل أن يبايع وهو يشعر بهذا الشكّ المتزايد المتنامي، هذا الشكّ الذي يُعجز القيادة عن إنجاح أهدافها والوصول إلى أغراضها ؟ لماذا وافق أن يبايع وأن يتسلّم زمام الحكم في لحظةٍ يائسة ؟

الجواب : أنّه لو لم يقبل بذلك، لو أنّه رفض أن يبايع، لو أنّه لم يتسلّم مقاليد الحكم بعد الإمام عليّعليه‌السلام لقيل بأنّ هذا الشكّ الذي يعيشه المسلمون يتسرّب إلى القادة أنفسهم، إلى الحسنعليه‌السلام نفسه. إنّ الحسنعليه‌السلام أصبح يعيش هذا الشكّ في صحّة هذه المعركة، في ضرورة هذه المعركة، في أهمية هذه المعركة، فكان لا بدّ لكي يثبت الإمام الحسنعليه‌السلام أنّ القادة لا يزالون يؤمنون بقضيتهم وأطروحتهم

____________________

(١) إعلام الورى ١: ٤٠٧، وكشف الغمّة ١: ٥٣٢، ٥٣٣.

٢٦٣

على المستوى الذي يؤمنون به من الساعة الأولى، فيبادر ويقبل البيعة التي عرضها المسلمون وقتئذٍ ويتحمّل المسؤولية، مسؤولية الحكم، وهكذا كان، تحمّل مسؤولية الحكم بالرغم من هذا الشكّ؛ لأن لا يتّهم القائد أيضاً بهذا الشكّ.

أنا اُقدّر وأظنّ أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام حينما تسلّم مسؤولية الحكم كان عازماً أن لا يتسرّع في خوض معركةٍ مسلّحةٍ مع معاوية، كان يودّ أن تؤجّل المعركة إلى أمدٍ طويل، وذلك لكي يصفّي أو لكي يحاول أن يصفّي هذا الشكّ جدّاً، لكي يتفرّغ إلى الظروف الداخلية وإلى المجتمع الذي يحكمه، ويحاول أن يخفّف من حدّة هذا الشكّ، ويقضي على منابعه، ويعالج بعض أسبابه وينعش من جديد نفسيّة الفرد المسلم في داخل هذا المجتمع، حتّى إذا استطاع في نهاية الشوط أن يكسب درجةً معقولةً من الاقتناع بالأطروحة حينئذٍ يبدأ معركته المسلّحة مع معاوية، وهذا هو الذي جعله لا يعلن عزمه على الحرب من اللحظة الأولى.

جاءه بعض خواصّه طلبوا منه الإعلان السريع عن الحرب والسفر السريع إلى ميدان القتال قبل أن يتقدّم معاوية وقبل أن يخرج معاوية من بلاده. إلاّ أنّه رفض ذلك(١) ، وكان رفضه مرتبطاً - على ما أظنّ - ارتبطاً وثيقاً بالظروف النفسية التي يعيشها المجتمع الإسلامي وقتئذٍ. كانت هذه الظروف النفسية إلى علاجٍ أكبر ممّا هي بحاجة إلى الحرب، بحاجةٍ توعية أكثر ممّا هي بحاجةٍ إلى قتال، بحاجةٍ إلى نوع إعطاء فرصةٍ جديدةٍ لكي يدرسوا من جديدٍ الأطروحة ونبلها وأهدافها وخيراتها وبركاتها قبل أن يكلّفوا بقتالٍ جديد؛ ولهذا تمهَّل الإمام

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٢٩، تاريخ الإمام الزكي الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٨، باب العلّة التي من أجلها صالح الحسنعليه‌السلام معاوية.

٢٦٤

الحسن وتضيّق في موضوع القتال، إلاّ أنّ معاوية بن أبي سفيان لم يتمهّل ولم يتضيّق.

خروج معاوية لقتال الإمامعليه‌السلام :

معاوية بعد قتل الإمام عليٍّ بشهرٍ أو أقلّ أو شهرين أو ثلاثة - على اختلاف التقادير في الروايات - خرج مع جيشٍ ليغزو العراق. معاوية كان يقدّر فهمه للظروف وقتئذٍ، كان يقدّر أنّ الظروف مؤاتية باعتبار ما خلّفه الإمام عليّعليه‌السلام من فراغاتٍ سياسيةٍ ونفسيةٍ وفكريةٍ، الظروف مؤاتية بأن يوقع ضرراً كبيراً بالمجتمع الذي يحكمه عليّ، أن يحقّق مكسباً سياسياً جديداً له، قد يمكن ارتفاع هذا المكسب إلى درجة تصفية المعركة نهائياً. إلاّ أنّه مع هذا لم يكن عنده فكرة كاملة عن كلّ الظروف النفسية، والأبعاد التي يعيشها المجتمع الإسلامي الذي يحكمه الإمام عليعليه‌السلام ولهذا في نفس الوقت الذي تهيّأ للمعركة المسلّحة كان يحاول إلى جانب المعركة المسلّحة أن يستخدم الوسائل الأخرى التي بإمكانه أن ينتصر بها على عدوّه.

الإمامعليه‌السلام يستنفر المسلمين للجهاد:

وفي الرسالتين الأخيرتين المتبادلتين بين معاوية والحسنعليه‌السلام انتهى النقاش وقُرّر من قبل الإمام الحسنعليه‌السلام الحرب. خرج الإمام الحسنعليه‌السلام إلى مسجد الكوفة وأعلن أنّ معاوية قد اتّجه مع جيشه لمحاربتهم واستنفر المسلمين للجهاد.

إلاّ أنّ هذا الشكّ الذي قلناه ظهر من جديدٍ ظهوراً سلبياً في تلك اللحظة، حيث إنّه لم يجب الإمام الحسن أحدٌ بكلمةٍ سوى شخص واحد، هذا الشخص

٢٦٥

الواحد هو عديّ بن حاتم رضوان الله عليه، قال لهؤلاء المسلمين: بأنّ هذا الإمام يأمر وأنا أطيع، وليس على الجندي إلاّ أن يطيع، وهذه دابّتي بباب المسجد ثمّ أركبها وأخرج إلى النُّخيلة ولا أرجع إلى منزلي وخرج. وكان أوّل من خرج للجهاد وتبعه ألف من عشيرته.

يقول في البحار: وجهّز الإمام الحسن جماعةً معه، وخرج إلى النُّخيلة، وبقي عشرة أيامٍ في النُّخيلة، واستخلف ابن عمّه(١) على الكوفة لكي يعبّئ باقي القوى المقاتلة فلم يرد أحد، بقي الإمام الحسن عشرة أيامٍ في النُّخيلة ينتظر عسكراً وجيشاً، فلم يرد جيش، فاضطرّ الإمامعليه‌السلام إلى أن يرجع إلى الكوفة مرّةً أخرى، فرجع مرّةً أخرى ليعبّئ جيشاً.

عبّأ جيشاً - تقول بعض الروايات: إنّه بلغ اثني عشر ألفاً - واتّجه هذا الجيش إلى مسكن، واتّجه هو مع أربعة آلاف أو ستّة آلاف إلى المدائن، هذا الجيش الذي عبّأه وبلغ اثني عشر ألفاً واتّجه إلى مسكن وقعت فيه ثلاث خيانات متتالية:

الخيانات والتراجعات في جيش الإمامعليه‌السلام :

الخيانة الأولى كانت على يد شخص من مُرّة، هذا الشخص كان في طليعة هذا الجيش قبل أن يتكامل، أرسله مع أربعة آلاف.

يقول صاحب البحار: فراسله معاوية قبل أن يصل إلى مسكن، وأعطاه كذا وكذا مقداراً من المال، وفرّ هو مع صفوةٍ من أصحابه وخونته إلى عسكر معاوية ،

____________________

(١) وهو المغيرة بن نوفل بن الحارث، بحار الأنوار ٤٤: ٥١، تاريخ الإمام الزكي الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحه الحسنعليه‌السلام ومعاوية.

٢٦٦

ثمّ فرّ أربعة آلافٍ أخرى مع شخصٍ آخر قبل أن يصل إلى مسكن، فرّ مع بعض الخونة إلى جيوش معاوية، ثمّ أرسل ابن عمّه عبيد الله بن عبّاس مع اثني عشر ألف نسمةٍ على أكثر الروايات، فدخل إلى مسكن، فترك العسكر وذهب إلى خطّ معاوية(١) .

كان لمثل هذه التراجعات، لمثل هذه الخيانات المتلاحقة المتتابعة، أثرها المشئوم في تلك النفوس المليئة بالشكّ المليئة بالتردّد. تصوّروا نفوساً كانت بصورةٍ سابقةٍ مليئةً بالشكّ والتردّد والتغيّر، ثمّ تقع مثل هذه الخيانات الناتجة عن مثل ذلك الشكّ، فسوف يتعمّق الشكّ لا محالة، هذا الشكّ كلّما يتّخذ صورةً إيجابيةً يكون لهذه الصيغة الإيجابية ردّ فعلٍ نفسيٍّ من الشُكّاك بحيث يزيد درجة الشكّ عندهم أكثر، وهكذا كان.

فعاش جيش الإمام الحسنعليه‌السلام في مسكن وهو يفقد بالتدريج القوى المقاتلة، حتّى بلغ عدد المحاربين من جيش الإمام الحسن في مسكن ثمانية آلاف، والإمام الحسن كان وقتئذٍ في المدائن، وتصل إليه الأخبار، وتنعكس هذه الأخبار إلى جيشه.

رُسُل معاوية إلى الإمامعليه‌السلام :

ثمّ معاوية أرسل في هذه اللحظات الحرجة العصيبة ثلاثةً من أصحابه، أحدهم المغيرة بن شعبة أرسلهم إلى الإمام الحسنعليه‌السلام برسالةٍ(٢) ، وكان في هذه

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٥١ - ٥٢، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث ٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢١٥.

٢٦٧

الرسالة مجموع الكتب التي وصلت إلى معاوية من أصحاب الإمام في الكوفة، هذه الكتب تقول لمعاوية: أقدم، فلك السمع والطاعة، وسوف نسلّم لك الحسن يداً بيد، هذه الكتب أرسلها معاوية إلى الإمام الحسن ليقرأها بنفسه محاولاً بذلك أن يكسر من تصميم الإمام الحسنعليه‌السلام على مواصلة الخطّ والجهاد والمعركة(١) .

دخل هؤلاء الثلاثة على الإمامعليه‌السلام بعد أن حاولوا أن يستقطبوا أنظار الجيش، وبطبيعة الحال هناك وفد مفاوض من قبل معاوية يأتي إلى الحسن، وسوف ينعكس هذا الوفد، وسوف تشخص الأبصار إلى نتائج مباحثات هذا الوفد مع الإمام الحسنعليه‌السلام ، يدخلون إلى الإمام الحسن، ويعرضون له الكتب، كتب الخونة من أصحابه، هؤلاء الذين أعماهم ذلك الشكّ الذي تكلّمنا عنه، فكتبوا إلى معاوية هذه الكتب، الإمام الحسن يقرأ هذه الكتب واحداً بعد الآخر، ثمّ بعد هذا توجد رسالة من معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام يقول له: إن شئت أن تحقن الدماء وأن توقف القتال ولك الأمر من بعدي.

الإمامعليه‌السلام بعد أن ينهي قراءة الكتب لا يعطي أيّ كلمةٍ فاصلةٍ في الموضوع، وإنّما يتّجه إلى هؤلاء الثلاثة فيعظهم ويذكّرهم الله والنار وأيام الله، ويذكّرهم بأنّ هذه اللحظات هي جزء قصير جدّاً من عمرهم، يجب أن يقيموه على أساس الشوط الطويل الذي يعيشونه، يقف منهم كواعظٍ فقط ثمّ يسكت، وإنّما يسكت لأنّه يحاول أن يقوم بآخر تجربةٍ مع قاعدته الشعبية، ليرى أنّه هل بقي في هذه القاعدة الشعبية قدرة على مواصلة هذه المعركة مهما كلّف الثمن ؟

يخرج هؤلاء الثلاثة من عند الإمام فيحاولون أن يكذّبوا الإمام

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٤٨، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث٥.

٢٦٨

الحسنعليه‌السلام ، فينشروا في الجيش وهم يستطرقون أنّ الله قد فرّج عن هذه الأُمّة، وقد حقنت الدماء بابن بنت رسول الله، إنّ ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله استجاب للصلح.

بطبيعة الحال هذا الإخبار الكاذب كان له مفعول كبير جدّاً في التخدير، وفي إيقاف العزائم والهمم، وفي توسيع نطاق الشكّ الذي تكلّمنا عنه.

بعد هذا يخرج الإمام الحسنعليه‌السلام يقف خطيباً يقول ما مضمونه: بأنّ معاوية دعانا إلى ما لا يكون فيه خيرنا ولا خيركم فماذا أنتم فاعلون ؟ وكانوا كلّهم يعرفون أنّ هذا الشيء الذي ليس فيه خيره ولا خير الناس، فصاحوا بصوتٍ واحد: الصلح الصلح !

ضرورة انحسار الإمام عن المعركة:

كانت هذه اللحظة هي اللحظة التي أحسّ فيها الإمام الحسنعليه‌السلام بأنّ بقاء التجربة الإسلامية العلوية أصبح شيئاً متعذّراً غير ممكن، وأنّ انحساره عن الميدان أصبح شيئاً ضرورياً لأجل الإسلام نفسه، وذلك لأنّ هذه التجربة مع هذا الشكّ لا يمكن أن تعيش، فلا بدّ أن يقضى على هذا الشكّ ثمّ تستأنف التجربة.

ولم يكن بالإمكان أن يقضى على هذا الشكّ المرير المستعصي إلاّ بأن ينحسر الحسن وخطّ عليّعليه‌السلام عن المعركة ثمّ تنكشف أطروحة معاوية وأهداف معاوية، بعد هذا يرى المسلمون بأُمّ أعينهم، هؤلاء الذين يعيشون الحسّ أكثر ممّا يعيشون العقل، يعيشون بعيونهم أكثر ممّا يعيشون بعقولهم، يرون بعيونهم أنّ المعركة التي كان يقودها الإمام عليّعليه‌السلام مع معاوية هي معركة الإسلام مع الجاهلية، لا معركة شخصٍ مع شخص، ولا مصلحة مع مصلحة، ولا عشيرة مع عشيرة، كان لا بدّ في منطق التجربة من أن يحارب هذا الشكّ ثمّ يستأنف التجربة.

٢٦٩

ولم يكن بالإمكان ولا بإمكان اليوم وليس بإمكان أيّ يومٍ أن تنجح تجربة رسالية يقودها قائد يحمل بيده رسالةً هي أكبر من وجودات الأشخاص، وأكبر من مصالحهم الخاصّة ما لم يكسب مسبقاً الاقتناع بصحّة هذه الرسالة وبأهدافها وبضرورتها، ولم يكن بإمكان التجربة السياسية وقتئذٍ من مواصلة وجودها في المعركة أن تكسب هذا الاقتناع، هذا الاقتناع الذي لم يستطع الإمام الحسنعليه‌السلام أن يكسبه أو أن يحول دون فقدانه بالتدريج؛ ولهذا كان من الضروري أن ينحسر ظلّ الإمام عليّعليه‌السلام عن ميدان الحكم لكي تنكشف أُطروحة معاوية، وبعد ذلك يعرف المسلمون أنّ هذه الأُطروحة التي جاهد في سبيلها الإمام عليعليه‌السلام هي أُطروحة وجودهم وعقيدتهم ورسالتهم ومصالحهم الحقيقية غير المنظورة لهم، وعندئذٍ يكون بالإمكان استئناف العمل من جديدٍ على أساس اقتناع مسبق.

هذا خلاصة ما أردنا أن نقوله، وله تتمّة تأتي في اليوم الآتي.

٢٧٠

خلافة الإمام الحسنعليه‌السلام وظروفها

(القسم الثاني)

٢٧١

٢٧٢

بسم الله الرحمن الرحيم(*)

طريقان بين يدي الإمام الحسنعليه‌السلام :

على أساس الظروف التي شرحناها بالأمس والتي عقّدت الطريق بين يدي الإمام الحسنعليه‌السلام والتي ضاعفت من قوّة الشكّ وحوّلته من طاقة سلبية إلى طاقة إيجابية ممتدّة واسعة النطاق، على أساس ذلك كان بين يدي الإمام الحسنعليه‌السلام طريقان: إمّا أن يواصل العمل في الساحة حتّى يخرّ صريعاً كما خرّ صريعاً بعد ذلك أخوه الحسين شهيداً في ساحة كربلاء. وإمّا أن يوقف خطّ العمل نزولاً على الأمر الواقع.

الاعتبارات المتمثّلة في الإمام الحسنعليه‌السلام :

وكان لا بدّ للإمام الحسن وهو يدرس أفضل هذين الطريقين من أن يدخل في حسابه كلّ اعتباراته وكلّ جوانب وجوده؛ لأنّ الإمام الحسن كانت تتمثّل فيه عدّة اعتبارات: كان من ناحيةٍ هو:

____________________

(*) أُلقيت في يوم الأحد ١٢ من شهر رجب سنة ١٣٨٨ ه-.

٢٧٣

أوّلاً : الأمين على النظرية، هو الأمين على الصيغة الإسلامية الكاملة على الحياة بوصفها خطّاً فكرياً وروحياً يجب أن يعيش، ويجب أن يستقطب بالتدريج، ويجب أن يمتدّ إلى أكبر قدرٍ ممكنٍ من القلوب والنفوس والعقول.

وكان من ناحيةٍ أخرى: الأمين على التجربة، يعني الأمين على كيانٍ جسّد تلك الصيغة الإسلامية الكاملة، هذا الكيان الذي أنشأه الإمام عليعليه‌السلام واستأنف به حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعصره، هذا الكيان خلّفه الإمام عليعليه‌السلام ليتزعّمه الإمام الحسنعليه‌السلام ، فكان الإمام الحسنعليه‌السلام بالاعتبار الثاني أميناً على الواقع الحيّ الذي جسّد تلك الصيغة الإسلامية الكاملة، أي هو أمين على النظرية والتطبيق معاً، أمين ووريث للمفهوم والخطّ ولتجسيد هذا الخطّ من واقع الحياة.

وكان هناك اعتبار ثالث من الاعتبارات التي يمثّلها الإمام الحسن: فهو أمين على كتلة، هذه الكتلة هي التي نسمّيها بالشيعة، هذه الكتلة هي الجانب أو الجزء الذي أخذ نظرية الإسلام من عليعليه‌السلام ، ومن إمامة عليعليه‌السلام ، ومن خطّ أهل البيتعليهم‌السلام ، هذه الكتلة التي وضع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذورها، ثمّ نمّاها عليعليه‌السلام خصوصاً على عهد خلافته، وأخذها الإمام الحسنعليه‌السلام ليتسلّم زعامتها وقيادتها، كتلة يجب أن تنمو على مرّ الزمن، وتشكّل الطليعة الواعية القادرة على قيادة المسلمين ككلٍّ في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيد.

هذه اعتبارات ثلاثة كان يمثّلها جمعياً هذا الإمام الشابّ، فكان لا بدّ حينما يدرس أفضل الطريقين: طريق التضحية والموت أو طريق تجميد الحركة والخطّ إلى وقتٍ ما، دون أن يدخل إلى جانب هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبار رابع يطلق عليه عادةً أيّ اسمٍ من الأسماء العاطفية أو الخلقية التي لا ترتبط بمصالح الرسالة، من قبيل أن يقال: إباء الضيم، عدم الاستعداد لمصافحة الأعداء، الشعور

٢٧٤

بالعزّة.

كلّ هذه المشاعر هي اعتبارات عاطفية يجب أن لا تأخذ طريقها إلى قلب الإنسان الحقّ الذي يريد دائماً أن يرسم طريقه على أساس الاعتبارات الرسالية، كإباء الضيم - مثلاً - الذي ينسب إلى الإمام الحسينعليه‌السلام .

هذا الإباء يجب أن يراد به حينما ينسب إلى إمامِ حقٍّ كالإمام الحسينعليه‌السلام أو الإمام الحسنعليه‌السلام إباء هذا الإمام عن أن تنتهك حرمة الرسالة، وعن أن تذلّ الرسالة، وعن أن تفقد الرسالة مكسباً كان بالإمكان أن يتحقّق بالنسبة إلى هذه الرسالة.

أمّا المفهوم العاطفي لإباء الضيم فهو مفهوم جاهلي لا يقرّه الإسلام، فإنّ إباء الضيم حيث تقتضي الرسالة من الرسالي أن يمتحن تحمّل هذه القيم مثل هذا الإباء يكوم موقفاً لا رسالياً ولا إنسانياً، كما أنّ العكس صحيح، فأيّ اعتبارٍ عاطفيٍّ أو خلقيٍّ غير نابعٍ من واقع الرسالة وقيمها وأهدافها يجب أن لا يدخل في حساب الإنسان الحقّ. وأيّ إنسانٍ أحقّ بهذا الوصف من هؤلاء القادة الذين اؤتمنوا على أشرف الرسالات السماوية، وهذا ليس مجرّد مفهومٍ تأريخي، إنّما هو أيضاً يجب أن يكون قاعدةً لعمل كلّ واحدٍ منّا، كلّ إنسانٍ يريد أن يسير على خطّ هؤلاء القادة يجب في البداية دراسة كلّ نقطةٍ من نقاط سلوكه على مفترق الطريق، يجب أن يدرس سلوكه واختياره على مفترق الطريق على أساس اعتبارات الرسالة، لا على أساس نوعٍ من العواطف التي يعيشها الإنسان الاعتيادي بقلبه لا برسالته، وهكذا كان للإمام الحسنعليه‌السلام ثلاثةٍ خطوطٍ لا بدّ من أن يدرس موقفه على أساسها:

الأوّل : كونه أميناً على الرسالة، أي على أُطروحة النظرية، أي على الصيغة

٢٧٥

الإسلامية الكاملة للحياة نظرياً وروحياً.

الاعتبار الثاني : كونه أميناً على التجربة السياسية التي جسّدت تلك الأُطروحة.

الاعتبار الثالث : كونه أميناً على الكتلة التي بذرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ونمّاها الإمام عليعليه‌السلام كان من المفروض أن تمتدّ مع تأريخ الإسلام.

أمّا على الاعتبار الأوّل بوصفه أميناً على الأُطروحة النظرية، على الصيغة الإسلامية للحياة بوصفها خطّاً يجب أن يعيش في عقول وأرواح ونفوس المسلمين، فقد كان أقسى المفارقات هذه المفارقة التي بيّناها فيما سبق، حينما رأينا هذه الصيغة الإسلامية الكاملة للحياة كان وصولها إلى درجة الحكم وممارستها للحكم، كان هذا بنفسه وبصورةٍ غير مباشرةٍ السبب في زوال الاقتناع بها من قبل القواعد الشعبية بالتدريج، لا لأنّ وصولها إلى الحكم كشف عن وجهٍ منحرفٍ عن سلوكٍ غير منطبقٍ على النظرية، غير منسجمٍ مع قيمها وأهدافها، بل لأنّ القاعدة الشعبية التي وصل على أكتافها قائد هذه النظرية إلى الحكم لم تكن تستطيع أن تعيش حياة الكفاح والجهاد إلاّ إلى مرحلةٍ قصيرةٍ من الزمن.

ولهذا حينما مارس الإمام العظيم أبو الأئمّةعليهم‌السلام تطبق نظريته على كلّ مستويات الحياة الإسلامية: اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وخلقياً بدأت المتاعب والمصائب، بدأ الناس يشكّون، بدؤوا يرهقون، يرهقون بهذه النظرية، وبهذا زال الاقتناع بالتدريج من صحّة هذه النظرية، وكان لا بدّ للنظرية لكي تعيش في الأُمّة الإسلامية من أن تسترجع هذا الاقتناع بأيّ ثمن، وكان ثمن استرجاعها هذا الاقتناع هو أن ينحسر هذا الحكم الذي يمثّل هذه الأُطروحة ،

٢٧٦

وأن يخلي الميدان لحكمٍ آخر مثّله معاوية، ومثّلته كلّ القوى المتبقيّة من السقيفة، كان لا بدّ لذلك من أن يبرز على الميدان، من أن يظهر واقعه، ومضمونه، وحقيقة أهدافه، وكلّ أبعاده، وحينئذٍ تسترجع الأُطروحة اقتناع المسلمين بها وبصحّتها وضرورتها.

هل قدّر على كلّ نظريّة صالحة أن تفقد قواعدها الشعبيّة بعد التطبيق ؟

هنا قد يبدو سؤال : أنّه هل هناك قدر لازم على كلّ نظريةٍ صالحة أنّها حينما تأخذ مجراها في التطبيق تفقد اقتناع قواعدها الشعبية بها بالتدريج، وحينئذٍ تبدأ من جديدٍ مضطرّةً إلى أن تتخلّى عن الحكم ليفسح المجال للآخرين أن يمارسوا الحكم على أساس نظريةٍ أخرى باطلةٍ كافرةٍ، حتّى يكون ذلك مثبتاً للمسلمين صحّة النظرية الأولى ؟

هل هذا قدر مفروض على النظرية الإسلامية دائماً أنّها تدخل إلى الحياة فتقود وتحكم ثمّ سرعان ما تهدم وسرعان ما تضطرّ إلى الانسحاب، لكي تسترجع مرّةً أخرى الاقتناع الذي فقدته خلال التطبيق ؟

هل هذا قدر لازم على النظرية الإسلامية في الظروف الموضوعية الخاصّة التي تفتّق عنها حكم الإمام عليعليه‌السلام ، ذلك لأنّ الإمام علياًعليه‌السلام حينما حكم وحينما جاء ليمارس تصديق هذه النظرية كاملةً غير منقوصةٍ جاء معتمداً على شعبٍ لم يتفاعل معه ساعة، لم يعش معه يوماً، لم يصرف معه في سبيل إعداد هذه النظرية جهداً ؟

الشعب الذي قام بحماية هذا التطبيق، وشكّل الجيش المحارب للإمام كان شعب العراق، وبالرغم من أنّ الشعب العراقي وقتئذٍ كان يبدو من أكثر الشعوب

٢٧٧

- شعوب الأُمّة الإسلامية - استجابةً إخلاصاً للإمام عليعليه‌السلام ، ولهذا نادى أهل العراق للإمام عليهعليه‌السلام بأنّه خليفة، إلاّ أنّ استجابة هذا الشعب واستجابة قطاعاتٍ أخرى مصريةٍ ومن الجزيرة العربية للإمام كان استجابةً على أساس الرصيد الذي كان يتمتّع به الإمام عليعليه‌السلام ، على أساس هذا النوع من التأريخ الكبير الذي يعيشه الإمام في أذهان المسلمين.

المسلمون حينما عاشوا محنة انحراف عثمان، ثمّ بعد هذه المحنة مقتل عثمان، وحينها وجدوا أمامهم مشاكل كبيرة فوق الحلّ من الإنسان الاعتيادي اتّجهوا بأنظارهم بطبيعتهم إلى صحابي كبير، اتّجهوا ليفتّشوا عن صحابيٍّ كبيرٍ يستطيع بما يحمل من تراث محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتغلّب على هذه المشاكل الكبيرة، ويملأ هذا الفراغ الكبير، ويعيد الأمور إلى أوضاعها الطبيعية، فكان أن وقع اختيار المسلمين بطبيعتهم على الإمام عليعليه‌السلام ؛ لأنّه كان أبرز صحابيٍّ على المسرح السياسي يتمتّع بما لا يتمتّع به أيّ صحابيٍّ آخر من سوابق وفضلٍ وشهرة.

إذن فالاستجابة منذ البدء كانت استجابةً عاطفيةً قائمةً على أساس الشهرة، لا على أساس التفاعل، لا على أساس التقديس الذاتي، لا على أساس القربة المباشرة لهذه القواعد الشعبية، ومن الطبيعي أن تكون هذه الاستجابة العاطفية القائمة على أساس الشهرة، وعلى أساس السوابق، وعلى أساس الفضل، ومن الطبيعي أن تكون هذه الاستجابة استجابةً ذات شوطٍ قصير، ذات موجةٍ قصيرةٍ ثمّ تبدأ بالذوبان، تبدأ بعد هذا بالتميّع حينما تصطدم بما تصطدم به أعباء الجهاد من المصالح الشخصية للأفراد.

أمّا حينما تجيء النظرية الإسلامية إلى الحياة على أعقاب تفاعلٍ واسع النطاق مع جزء كبيرٍ من الأُمّة، حينما تجيء ويكون هناك جزء كبير من الأُمّة

٢٧٨

مقتنعاً بهذه النظرية اقتناعاً واعياً مدبّراً صحيحاً، في مثل تلك الحالة سوف لن تحتاج هذه النظرية مرّةً أخرى إلى أن تتنازل عن الحكم لكي تكسب اقتناعه، الاقتناع العاطفي هو الذي يتزحزح خلال غبار الجهاد، أمّا الاقتناع الواعي فهو الذي يتعمّق ويترسّخ خلال غبار الجهاد.

على أيّ حالٍ كانت الظروف الموضوعية وقتئذٍ تفرض هذا التلاشي وهذا الانحسار في الاقتناع حتّى فقد خطّ عليعليه‌السلام وهي النظرية الإسلامية الكاملة الصحيحة اقتناع المسمين بها، وحينما فقدت هذا الاقتناع لا بدّ لها أن تسترجعه، وكان لا بدّ لكي تسترجعه من أن تفسح المجال لأعدائها لكي يعبّروا عن ذواتهم وعن أنفسهم، ولكي يقول معاوية بالذات وبكلّ وضوح وبكلّ صراحة على المنبر الذي كان يجسّد آمال المسلمين يصعد على ذلك المنبر ويقول: إنّي حاربتكم لا لكي تصلّوا أو تصوموا، وإنّما لكي أتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم لذلك كارهون(١) .

إلاّ أنّ انحسار حكم الإمام عليٍّعليه‌السلام وإعطاء الفرصة لمعاوية أو للأعداء لكي يمارسوا وجودهم على المسرح كان يمكن أن يتمّ بطريقٍ أو بطريقين، وقف الإمام الحسنعليه‌السلام على مفترقها.

لماذا لم يختر الإمام الحسنعليه‌السلام طريق الجهاد ؟

كان يمكن أن يواصل الإمام الحسنعليه‌السلام مهمّته العسكرية حتّى يخرّ صريعاً في ميدان الجهاد، وحينئذٍ يفسح المجال لمعاوية لكي يعيش وجوده

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٥٣، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث٥.

٢٧٩

كحاكم.

وكان يمكن أن يتحقّق ذلك بتجميد حركته وإيقاف العمل ضدّ معاوية.

كان يمكن أن يتحقّق بكلّ من هذين الأسلوبين، ومن هنا قد يقفز إلى الذهن هذا السؤال: أنّه لماذا لم يختر الإمام الحسنعليه‌السلام الطريق الأوّل من هذين الطريقين بعد أن كان كلّ من هذين الطريقين محقّقاً لحاجة الرسالة بالانسحاب المؤقّت لكي تكسب الاقتناع ؟ ويزداد هذا السؤال جولاناً في الذهن حينما يقارن موقف الإمام الحسنعليه‌السلام بموقف الإمام الحسينعليه‌السلام حينما وقف بين الطريقين فاختار أن يخرّ صريعاً بدلاً من أن يوقف العمل ولو مؤقّتاً.

الفرق الأساسي بين موقفي الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام :

إلاّ أنّنا قلنا ونقول أيضاً: إنّ فرقاً أساسياً كبيراً بين موقف الحسنعليه‌السلام وموقف الإمام الحسينعليه‌السلام ، سوف يتبيّن هذا الفرق على مستوى الاعتبارات الثلاثة، سوف يبرز على أساسها موقف الحسينعليه‌السلام على كلّ واحدٍ من هذه الاعتبارات الثلاثة، يبدو هناك فرق كبير بين موقف الإمام الحسنعليه‌السلام وموقف الحسينعليه‌السلام ، بين الظروف الموضوعية لموقف الإمام الحسنعليه‌السلام والظروف الموضوعية لموقف الإمام الحسنعليه‌السلام .

على مستوى الاعتبار الأوّل:

أمّا على الاعتبار الذي سوف نعالجه على مستوى الرسالة فهناك فرق كبير حتّم على الإمام الحسينعليه‌السلام أن يختار الطريق الأوّل، ولم يكن هناك هذا التحتّم للإمام الحسنعليه‌السلام ، الأمر الذي كان يتحتّم على الإمام الحسينعليه‌السلام

٢٨٠

أن يختار الطريق الأوّل، وهو أن يواصل حتّى يخرّ صريعاً، هو أنّ الأُمّة وقتئذٍ لم تكن تعيش حالة الشكّ، بل كانت تعيش موت الإرادة وفرق بين الموضعين هناك.

هناك مرضان وجدا في الأُمّة. مرض الشكّ، وهو أنّ الأُمّة كانت قد فقدت إيمانها واعتقادها برسالية الأُطروحة، وموضوعية الأُطروحة، حينما اصطدم موقف الحسنعليه‌السلام مع معاوية، وفي مثل هذا الحال لو واصل الإمام الحسنعليه‌السلام الحرب حتّى يخرَّ صريعاً لم يحقّق شيئاً من المكاسب التي حقّقها الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّه حينما يخرّ صريعاً في الميدان والأُمّة تشكّ في دوافعه، تشكّ في نظافة رسالته، تشكّ في صحّة موقفه، تشكّ في إلهيّة أطروحته، حينما يخرّ صريعاً والأُمّة تشكّ في كلّ هذا سوف لن يفعل هذا الدم الطاهر الذي يسكب على الأرض ما فعله الدم الطاهر الذي سكب على أرض كربلاء، سوف لن يحرّك ضميراً في الأُمّة، سوف لن يغيّر شيئاً من الأوضاع الحقيقية للأمّة.

عبد الله بن الزبير أيضاً كان له موقف في وجه جيش عبد الملك بن مروان، كان له موقف يعتبر بالمقاييس الشخصية وبقطع النظر عن الرسالة كان يعتبر موقفاً بطولياً، واصل الحرب إلى أن خرّ صريعاً في الميدان، إلى أن قُتل وقُتل معه كلّ أهله وكلّ ذويه القادرين على حمل السلاح تقريباً(١) . إلاّ أن عبد الله ماذا ترك في ضمير الأُمّة ماذا حرّك في نفوس المسلمين هل استطاع عبد الله بن الزبير أن يحقّق المكسب الذي حقّقه الإمام الحسينعليه‌السلام .

عثمان بن عفّان واصل الحكم، واصل التجربة كلّما قال له أعداؤه: استقل

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٦٧.

٢٨١

تنحّ عن الحكم، قال: لا أنزع ثوباً ألبسني الله إيّاه !(١) ، حتّى قتل وهو يعلم أنّه لو تنحّى عن الحكم لما قتل، بذل دمه ونفسه في سبيل الحكم، لكن هل كان هناك إنسان يتجاوب مع مثل هذه الشجاعة ؟ هل استطاعت هذه الشجاعة أن تحرّك ضمير الأُمّة الإسلامية أو أن تحرّك شيئاً من أوضاع المسلمين ؟ لا، لماذا ؟ لأنّ عبد الله بن الزبير، أو لأنّ عثمان بن عفّان، أو لأنّ أيّ شخصٍ آخر من هذا القبيل كان يحارب وكان يقاتل لنفسه لا للاُمّة، وكانت الأُمّة على أقلّ تقديرٍ تشكّ في هذا، وتحتمل أنّ عبد الله بن الزبير كان يقاتل لنفسه، هل كان قد استسلم للموت لأنّه أبى الضيم، لأنّه أبى أن يطأطئ أمام عدوّه، أو أنّه واصل القتال لأجل الأُمّة، لأجل المظلومين والبائسين والمضلّلين الذين كان يحكمهم عبد الملك بن مروان ؟ الأُمّة لم تكن تعيش ذلك الاقتناع بالنسبة إلى عبد الله بن الزبير أو بالنسبة إلى أمثاله.

وهكذا ذهبت ميتة عبد الله بن الزبير دون أن تخلق أثراً حقيقياً في محتوى الأُمّة النفسي أو الفكري أو الروحي، وكان مصير مقتل الإمام الحسنعليه‌السلام نفس المصير تقريباً لو أنّه واصل القتال، لو اختار الطريق الأوّل من الطريقين والأُمّة على الحالة التي مرّ معنا، والشكّ الذي تحوّل إلى طاقةٍ إيجابيةٍ ممتدّةٍ في أوسع نطاق، كان هذا الشكّ يجعل المسلمين ينظرون إلى هذه الاستماتة من الإمام الحسنعليه‌السلام أنّها استماتة من لون استماتة أيّ شخصٍ آخر يأبى الضيم، يأبى أن يطأطئ أمام عدوّه من الناحية العاطفية، ولهذا واصل المعركة حتّى قتل... لَما حرّك هذا الدم الطاهر شيئاً من نفوس المسلمين، ولَما غيّر شيئاً من أوضاعهم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٤٠٤.

٢٨٢

النفسية والروحية.

بينما الإمام الحسين حينما اختار الطريق الأوّل كانت الأُمّة حين كانت القواعد الشعبية التي ترتبط بالإمام عليعليه‌السلام كانت قد تخلّصت من المرض الأوّل، من مرض الشكّ؛ لأنّ الأسطورة - أسطورة معاوية - قد تجلّت بكلّ وضوح، لأنّ الجاهلية التي كان يمثّلها معاوية قد أسفرت عن وجهها على المسرح السياسي والاجتماعي وعلم الناس بأنّ علياًعليه‌السلام كان يحارب جاهلية الأصنام والأوثان، ولم يكن يحارب مع معاوية خصماً قبليّاً أو شخصاً معادياً له بالذات، هذا عرفه المسلمون وعرفته القواعد الشعبية المرتبطة بالإمام، تخلّصت هذه القواعد الشعبية من المرض. لكنّها منيت بالمرض الثاني وهو موت الإرادة.

أصبحت الأُمّة الإسلامية لا تملك إرادتها، نعم هي تفهم أنّ عليّاًعليه‌السلام هو الطريق الواضح، هو طريق الكفاح والجهاد، أنّ عليّاًعليه‌السلام هو أرض الأُطروحة الصالحة، أنّ حكم عليّعليه‌السلام هو المثل الأعلى الذي يجب على المسلمين أن يكافحوا في سبيل تحقيقه، كلّ هذا أصبح واضحاً.

شعار ( لا نريد إلاّ حكم عليّ ) كان يتردّد على ألسنة الناس الثائرين في أكثر الثورات التي وقعت في خطّ أهل البيتعليهم‌السلام ، ولكن مع هذا لم يكن هؤلاء يملكون إرادتهم، كانوا قد فقدوا ضميرهم وإرادتهم، كانوا قد استكانوا، كانوا قد ضاعت مُثُلهم وقيمهم واعتباراتهم، لم يكن الشكّ في الكبرى، بل كان العيب في الصغرى، كانت الإرادة قد انطفأت، كانت الشعلة قد ماتت، كانت الدريهمات الصغيرة هي أكبر همّ هذا الإنسان الصغير، هذا الإنسان القزم، فكان لا بدّ من أن يحرّك ضمير هذا الإنسان لكي يسترجع إرادته.

قلت فيما سبق: إنّ أكبر وأروع تمثيل لفقدان الإرادة قول ذلك الرجل

٢٨٣

للإمام الحسينعليه‌السلام : سيوفهم مع عدوّك وقلوبهم معك(١) . قمّة فقدان الإرادة أن يكون الإنسان حبيباً لك يحبّك ولكنّه يحمل السيف عليك، يعني قلبه لا يستطيع أن يمسك به، هذه قمّة فقدان الإرادة، حينما تبلغ الأُمّة إلى قمّة فقدان الإرادة فكان لا بدّ لشخص أن يُرجع للأمّة إرادتها، الإمام الحسنعليه‌السلام بانحساره عن ميدان الحكم وفسح المجال للأُطروحة الأخرى لكي تبرز بكلّ وضوح أبعادها أرجع للأمّة اقتناعها بموضوعيّة أُطروحة عليّعليه‌السلام ، والإمام الحسينعليه‌السلام بمواصلة الطريق الأوّل حتّى خرّ صريعاً، أرجع إلى الأُمّة إرادتها، نَبَّه الإنسان المسلم الاعتيادي الذي كان أكبر همّه هو هذه الدريهمات، والذي حوّله بنو أُميّة من إنسان يحمل هموم شرق الأرض وغرب الأرض، من إنسان يحمل هموم المظومين والممتحنين في أقصى الأرض إلى إنسان لا يعيش إلاّ همّ راتبه الشهري وهمّ مصالحه الشخصية، هذا الإنسان الذي تحوّل إلى هذا المسخ، هذا بمقتل الحسين قال: أنا الذي لا أتحرّك، أنا الذي أرى الإسلام ينتهك، أرى الشريعة تمزّق، أرى المسلمين تهدر كرامتهم، أرى الآلاف بعد الآلاف يعذّبون ويهانون ويشرّدون ثمّ أسكت، وذلك طمعاً وحرصاً على حياة رخيصة ؟!

إنّ مع هذا الرجل الذي توفّرت له كلّ مُتع الحياة، هذا الرجل الذي هو من أغنى الناس مالاً، من أكثر الناس جاهاً، هذا الرجل الذي إذا خرج إلى المسلمين يتسابق عشرات الآلاف من المسلمين إلى تقبيل يديه، هذا الرجل الذي لم يكن متعطشّاً، لا إلى شهرة، ولا إلى مجد، ولا إلى مال، كان شخصاً منعّماً، كان شخصاً لم يعش أي ظلامةٍ من الظلامات التي عاشها المسلمون؛ لأنّ معاوية لم يكن

____________________

(١) وقعة الطف: ١٥٨.

٢٨٤

يحاول أن يمتدّ بظلمه إلى شخص الحسين مثلاً، كان معاوية يرضخ إلى شخص الحسين وأمثال الحسين من السادة الإسلاميين الكبار، كان الناس تحت السياط، أمّا الحسينعليه‌السلام لم يكن تحت السياط، لم ينله سوط واحد من تلك السياط التي نالت الناس، بالرغم من هذا خرج الحسين بنفسه، بذل دمه في سبيل أولئك الذين كانوا تحت سياط، الذين لم يفكّر واحد منهم في أن يبذل دمه في سبيل الآخرين الذين يشاركونه؛ لأنّهم تحت السياط، من هنا تحرّك الضمير الإسلامي، من هنا تحرّكت الإرادة في نفوس المسلمين، من هنا فجّر الإمام الحسينعليه‌السلام الثورة في يوم عاشوراء، وبقيت الثورة متفجّرةً على التعاقب إلى أن طاح عرش بني أُميّة.

إذن فكان هناك فرق كبير موضوعي بين الظرف الذي عاشه الإمام الحسنعليه‌السلام والظرف الذي سوف يعيشه بعد عشرين عاماً الإمام الحسينعليه‌السلام . كان هناك فرق في نوعية مرض الأُمّة. مرض الأُمّة في المرحلة الأولى كان هو الشكّ، وأمّا مرض الأُمّة في المرحلة الثانية كان هو فقدان الإرادة، وكان لا بدّ في المرض الثاني أن يختار الطريق الأوّل، بينما المرض الأوّل كان هو الشكّ لم يكن اختيار الطريق الأوّل في ظلّ مرضٍ من هذا القبيل يحقّق ذلك المكسب الذي حقّقه اختيار الطريق الأوّل من قبل الإمام الحسينعليه‌السلام . إذن فعلى أساس الاعتبار الأوّل من الاعتبارات الثلاثة التي كان يمثّلها الإمام الحسن بوصفه أميناً على النظرية على التراث الفكري على الإسلام، بوصفه خطّاً يجب أن يمتدّ مع الأجيال روحياً وجسمياً، بهذا الاعتبار كان لا بدّ أن يكسب الاقتناع بهذا الخطّ.

قلنا: بأنّ هذا الاقتناع توقّف على أن ينحسر، فكان لا بدّ أن ينحسر، لا بدّ أن يخلي الميدان لعدوّه. وكان هذا الإخلاء يكون بطريقين: إمّا أن يواصل حتّى يخرّ صريعاً في ميدان المعركة، وإمّا أن يوقف، وكان الطريق الأوّل سلبياً تجاه

٢٨٥

المكاسب التي حقّقها الإمام الحسينعليه‌السلام حينما سلك نفس هذا الطريق. هذا كلّه على الاعتبار الأوّل.

على مستوى الاعتبار الثاني:

وأمّا على الاعتبار الثاني من اعتبارات الإمام الحسنعليه‌السلام اعتباره بوصفه أميناً على التجربة، أميناً على الواقع السياسي الحيّ الذي كان يجسّد تلك الصبغة الإسلاميّة الكاملة للحياة، بوصفه أميناً على هذه التجربة، كان لا بدّ أن يدرس موقفه ليختار أحد هذين الطريقين، أصبح واضحاً ممّا سبق أنّ التجربة كان من المستحيل أن تبقى، أن يواصل وجودها، كان من المستحيل افتراض النصر في هذه المعركة الذي هو معنى بقاء التجربة لمواصلة وجودها؛ لأنّ أيّ تجربةٍ بأُطروحة رساليةٍ تعيش مستوىً أكبر من مستوى مصالح هذا الفرد بالذات، ولا يمكن أن تواصل وجودها ولن يمكن فيما يأتي من الزمان أن تواصل وجودها إلاّ إذا كانت قد حظيت باقتناعٍ كبيرٍ واسع النطاق من قواعد شعبيةٍ قادرةٍ أن تحمل هذه التجربة، وأن تسند هذه التجربة، وأن تضحّي بدمها في سبيل هذه التجربة، أمّا حينما تفتقد التجربة هذا الاقتناع، حينما تصبح حالة الاقتناع بالنسبة إلهيا صفراً تصبح هذه التجربة مشلولةً عن العمل، وغير قادرةٍ على الدفاع عن ذاتها، وعن نفسها؛ لأنّها بِمَ تستهوي الناس ؟ هل تستهوي الناس بالمصالح إلى حدّ، وهذا خروج عن مضمونها الحقيقي.

نعم، كان بالإمكان أن يستهوي الإمام الحسنعليه‌السلام الناس عن طريق مصالحهم الخاصّة، كان للإمام أن يدخل المداخل التي دخلها معاوية، أن يشتري ضمائر الناس، أن يكتب إلى رؤساء الشام كما كتب معاوية إلى رؤساء العراق، أن

٢٨٦

يخدع، أن يماطل، أن يكون توزيع الأموال على غير الأساس الإسلامي الصحيح.

إلاّ أنّ هذا الخروج عن المضمون الحقيقي للنظرية، إذن فكان يتوقّف بقاء التجربة ويتوقّف بقاء كلّ تجربةٍ رساليةٍ طاهرةٍ نظيفةٍ على أن يوجد هناك ناس يؤمنون بنظافتها، يؤمنون بطهارتها، مستعدّون للدفاع عنها. وحيث إنّ هذا الاقتناع لم يكن موجوداً في ظروف الشكّ الذي شرحناه فكان محتّماً ومقضيّاً على هذه التجربة أن تنتهي.

هل تنتهي بأن يواصل الإمام الحسنعليه‌السلام الطريق الأوّل ليواصل الكفاح والجهاد حتّى يخرّ صريعاً فيمسكَن أوالمدائن ، أو تنتهي بطريقٍ آخر ؟

كان لا بدّ أن تبرز مصلحة هذه التجربة بتحديد أحد الطريقين. الإمام الحسنعليه‌السلام في هذا أيضاً نجده يختلف اختلافاً كبيراً عن الإمام الحسينعليه‌السلام . الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن قائداً لتجربةٍ سياسيةٍ قائمةٍ بالفعل، لم يكن رئيساً لدولةٍ قائمةٍ بالفعل، لم يكن أميناً على حكمٍ قائمٍ بالفعل، وإنّما كان شخصاً مضطهداً في الأرض لم يكن معه إلاّ ثلّة من أصحابه.

أمّا الإمام الحسنعليه‌السلام فكان يمثّل جبهةً سياسيةً قائمةً بالفعل، إلاّ أنّ هذه الجبهة بالرغم من ضخامتها المظهرية، بالرغم من تخوّف معاوية منها، بالرغم من أنّ معاوية بقي يفكّر مئة مرّةٍ أن لا يدخل إلى ساحة المعركة، كان يشكّ، كان يحتمل أن تكون الجبهة ملتفّةً عليه إلى حدٍّ ما، هذه الجبهة بالرغم من ضخامتها الظاهرة كانت منكوبةً من الداخل، كانت فراغاً من الداخل، إلاّ أنّ هذه الضخامة الظاهرية لهذه التجربة كانت تعطي الحقّ للإمام الحسنعليه‌السلام أن يدخل مع معاوية في تحقيق أكبر قدرِ ممكن من المكسب لهذه التجربة، ولأهداف هذه التجربة ،

٢٨٧

ولرسالة هذه التجربة.

لم يكن هناك بالإمكان أن يدخل الحسينعليه‌السلام في تحقيق مكاسب عن طريق المفاوضة السياسية مع يزيد، والحسينعليه‌السلام شخص عادي من أفراد المسلمين، بينما كان بالإمكان للإمام الحسنعليه‌السلام وهو يتزعّم جبهةً مخفيةً لمعاوية من هذا القبيل لا تزال حتّى الآن تذكّر معاوية بسيوف ليلة الهرير، هذه الجبهة كانت تذكّر معاويةَ بسيوف ليلة الهرير، كان بإمكان زعيمها أن يفرض على معاوية بعض التنازلات في مقابل إيقاف العمل مؤقّتاً، وهكذا كان في الأقرب بالنسبة إلى مصلحة هذه التجربة أن توقف، وأن تنحسر مع ضمان رجوعها ولو رسمياً وقانونياً على أن تنتهي انتهاءً كاملاً باستمرار القتال واستشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام .

كان هناك طريقان:

إمّا أن يواصل الإمام الحسنعليه‌السلام الجهاد فيقتل دون قيد أو شرط؛ لأنّه يعلم أنّ التجربة يقضى عليها بالتمام سواء علم بذلك معاوية أو لم يعلم، فالإمام الحسنعليه‌السلام الذي يعيش الأوضاع الداخليّة في مجتمعه هو أعلم بهذا وأدرى به، ولهذا كان معنى المواصلة أن يقتل، ومعنى أن يقتل يعني: أن تنتهي التجربة دون أن يكون هناك أيّ أساسٍ بإمكانية رجوعها بعد هذا، يعني أيّ أساسٍ قانوني.

وبين أن يدخل الإمام الحسنعليه‌السلام عن طريق هذه الهيبة المظهريّة لهذه الجبهة يدخل في حديثٍ مع معاوية لاستيفاء ما يمكن استيفاؤه من مكاسب هذه التجربة، وحينها اختار الإمام الحسنعليه‌السلام الطريق الثاني، وكان لا بدّ لكلّ من يعيش ظروف الإمام الحسنعليه‌السلام أن يختار الطريق الثاني، إلاّ إذا حصل بتلك الاعتبارات العاطفية التي أدخلناها في بداية الحديث وقلنا: إنّه لا يدخل في

٢٨٨

حساب إنسان حقّ. وهذا الإمام الحسنعليه‌السلام اشترط لمعاوية على نفسه أن ينسحب عن ميدان الحكم، ولم ينصّ هذا الشرط على نوعٍ من البيعة والتبعيّة السياسية الصريحة في الروايات الصحيحة الواردة عنهم، فلا يوجد في الروايات الواردة عن الإمام الحسنعليه‌السلام أنّه اشترط لمعاوية على نفسه البيعة والتبعيّة السياسيّة بالمعنى الذي كان موجوداً لعليّعليه‌السلام بالنسبة إلى أبي بكر وعمر وعثمان، وإنّما كان هناك إيقاف للعمل، إيقاف للمعركة والقتال، وفي مقابل هذا الإيقاف كان هناك تعهّدات اشترطها معاوية، بعض هذه التعهدات ترجع إلى الكتلة، وهذا هو الاعتبار الثالث الذي نتكلّم عنه فيما بعد، وبعضها ترجع إلى التجربة، وترجع إلى التجربة يعني ترجع إلى الحكم وإلى الكيان السياسي.

وأهمّ هذه التعهّدات: أنّه اشترط على معاوية أن لا يوصي لأحدٍ غير الإمام بالأمر من بعده. وفي روايةٍ أخرى: أن يوصي للإمام الحسنعليه‌السلام (١) ، ولهذا كان الإمام الحسنعليه‌السلام يريد أن ينحسر عن الحكم لكي يكسب اقتناع المسلمين بصحّة الأُطروحة، ثمّ لكي يضع أساساً جديداً، على هذا الأساس الجديد يمكن للأُطروحة أن ترجع مرّةً أخرى للميدان السياسي، وتصارع على أساسها على هذا الحقّ المعتضد من ناحية هذا الشرط.

وأنتم تعلمون - كما ذكرنا بالأمس - أنّه كانت هناك شكوك البعض في شرعية خلافة الإمام الحسنعليه‌السلام بالنحو الذي شرحناه، وكان هذا الشرط يقضي على كلّ شكٍّ في نظر الجماهير في صحّة خلافة الإمام الحسنعليه‌السلام ، لو كان معاوية قد أصيب بسكتة تامّة بعد هذا الشرط بشهر أو شهرين وانتهى الأمر

____________________

(١) تاريخ الخلفاء ( للسيوطي ): ١٩١، الإمامة والسياسية ( للدينوري ): ١٨٤ - ١٨٥.

٢٨٩

لاسترجع الإمام الحسنعليه‌السلام في ذهنيّة الجماهير كلّ المبرّرات الشرعية لأنْ يحكم ولأن يُستخلف، فكان معنى هذا الاختيار تجميد التجربة مؤقّتاً، ووضع قاعدةٍ شرعيةٍ وقانونيةٍ يمكن على أساسها مواصلة الكفاح والجهاد على هذا لإرجاعها إلى مستوى الحياة، إلى مسرح الحياة، بعد أن تكون قد استرجعت الاقتناع المطلوب بها من قواعدها الشعبية التي فقدت الاقتناع في ظلّ الظروف السابقة.

إذن فعلى أساس الاعتبار الثاني أيضاً كان هذا الاعتبار الثاني يحتّم على الإمام الحسنعليه‌السلام أن يفضّل الطريق الثاني على الطريق الأوّل، بينما الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن يوجد لديه مثل هذا الاعتبار لكي يبرز طريقه على هذا الأساس.

على مستوى الاعتبار الثالث:

الاعتبار الثالث هو اعتباره زعيماً للكتلة التي بذر بذورها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ونمّاها الإمام عليعليه‌السلام . هذه الكتلة التي تمثّل الجزء الواعي من الأُمّة الإسلامية التي تسمّى اليوم بالشيعة، والتي كانت من المفروض أن تكون طليعة الأُمّة الإسلامية على مرّ التأريخ، تحمل للأجيال الإسلام بكامل صيغه ومضمونه، هذا الاعتبار الثالث أيضاً لا بدّ من إدخاله في الحساب حينما يبرز أفضل الطريقين، أفضلية الأوّل أو الثاني، وفي هذا المجال كان يبدو حينما تدرس المسألة على هذا الضوء الجديد أنّ هناك فرقاً كبيراً بين الإمام الحسن والحسينعليهما‌السلام ، الإمام الحسينعليه‌السلام كان مشاركاً للإمام الحسنعليه‌السلام في هذا الاعتبار؛ لأنّ الإمام الحسين كان هو الزعيم الثالث لهذه الكتلة، كان هو

٢٩٠

الأمين على هذه الكتلة في مرحلته كما كان الإمام الحسنعليه‌السلام هو الأمين على هذه الكتلة في مرحلته، إلاّ أنّ بينهما فرقاً، وحاصل هذا الفرق أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام كان يستقطب كلّ هذه الكتلة، بينما الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن يستقطب كلّ هذه الكتلة، الإمام الحسنعليه‌السلام كان يحارب، وكانت هذه الكتلة داخلةً ضمن إطار دولته، ولم يكن من المعقول أن يحارب رئيس دولةٍ وأن يواصل الحرب إلاّ بأن تستنفد كلّ قواه وطاقاته، وكلّ رصيده الشعبي الموجود في هذه الدولة حتّى يخرّ صريعاً.

الإمام الحسينعليه‌السلام لم يخرّ صريعاً إلاّ بعد أن استنفدت كلّ قواه الصغيرة المتمثّلة في تلك المجموعة الطاهرة حتّى خرّ الأبطال صرعى، ثمّ خرّ الإمام الحسينعليه‌السلام صريعاً.

وكيف برئيس دولة يريد أن يواصل الحرب إلى الموت ؟ كان لا بدّ لكي يواصل الحرب إلى الموت من أن يستنفد كلّ طاقاته من قواعده الشعبية، وكلّ ما يملك من هذه القواعد الشعبية، وكان معنى هذا أنّه سوف لن يبقى هناك وجود إسلامي قادر على أن يسترجع ذلك الاقتناع الذي فقد، ذلك الاقتناع بالأُطروحة عند حجر بن عدي وأمثاله، هؤلاء أوّل من يقنع بعد أن شكّ لو قلنا بأنّ حِجراً شكّ(١) .

هؤلاء الأشخاص الذين عاشوا ضدّ معاوية وقتلوا بسيف معاوية، هؤلاء هم أوّل جزءٍ من القواعد الشعبيّة التي رجع إليهم الاقتناع، وعن طريق دمهم وعن طريق إيمانهم وعن طريق اقتناعهم سرى هذا الاقتناع إلى الأكثرين، وسرى هذا

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٥٧، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث٦.

٢٩١

الاقتناع عبر الأجيال، وسرى إلينا، فكلّنا يفضّل هذا الاقتناع ويفضّل هذه الدماء ويفضّل هذا الإصرار المستميت من هؤلاء الأمناء على أُطروحتهم وعقيدتهم، غير أنّ هذا الجزء الذي كان فيه استعداد لأن يرجع إلى الاقتناع بنحوٍ أفضل، غير أنّّ هذا الجزء الأكثر ضماناً والذي كان لا يزال مقتنعاً بالفعل إلى حدٍّ ما، غير أنّ هذه الأجزاء الصغيرة التي كانت مقتنعةً بالفعل بدرجاتٍ ضئيلةٍ، لو أنّ الإمام الحسن كان قد أهدر كلّ هذه الأجزاء، قد أعطى كلّ هذه الأجزاء، إذن بهذا كان يعطي كلّ إمكانيات استرجاع هذا الاقتناع إلى الأُمّة الإسلامية. فكان لا بدّ [ من الحفاظ ] على قاعدة يمكن أن يرجع على أساسها اقتناع الأُمّة بالأُطروحة في يوم ما، ويمكن أن تسترجع اعتقادها الراسخ بأنّ خطّ عليٍّعليه‌السلام هو خطّ الإسلام استرجاعاً يدفعها إلى بذل الدم واسترخاص الروح في هذا السبيل، كان لا بدّ للإمام الحسنعليه‌السلام من أن يفكّر في حفظ أجزاء وقطاعاتٍ من هذه القاعدة الشعبية، هذا هو الذي كان يعبّر عنه بحقن الدماء، وكان يعبّر عنه بحفظ الشيعة ونحو ذلك من التعابير.

الإمام الحسين أُخذ في معزلٍ من صفوةٍ من خيرة خلق الله. إنّ هذه الصفوة لم تكن تستوعب كلّ القواعد الشعبية الواعية، ولهذا عقيب شهادته بدأت ثورة التوّابين، ثمّ بدأت الثورات الأخرى من قبل أناس كانوا يتزعّمون لعددٍ كبيرٍ من الشيعة الواعين والمؤمنين بأهداف الحسينعليه‌السلام .

ملخّص القول: إنّه كان لا بدّ للإمام الحسنعليه‌السلام أن يدرس تجربته على أساس هذه الاعتبارات الثلاثة، أو كان لا بدّ أن لا يدخل في حسابه أيّ اعتبارٍ غير هذه الاعتبارات، وقد رأينا أنّ هذه الاعتبارات الثلاثة بمجموعها ككلٍّ تشير إلى تعيين الطريق الثاني، ولا يشير شيء منها إلى تعيين الطريق الأوّل ،

٢٩٢

فكان لا بدّ من اختيار الطريق الثاني بدلاً عن الأوّل مهما كان هذا الطريق قاسياً أو صعباً، ومهما كان فيه ألوان التحدّي للنفس البشرية الاعتيادية التي لم تعتد سلوك الحقّ في كلّ سلوكها وتصوّراتها وأفكارها ومشاعرها، إلاّ أنّ هذا الشاب العظيم الذي كان يمثّل دور الحقّ في كلّ آناته وخلجاته لم يتردّد لحظةً ولم يتأمّل لحظةً في أن يتحمّل هذا الأذى وكلّ هذا الضيم في سبيل أن يحقّق أقصى درجةٍ ممكنةٍ من المكاسب للاعتبارات الثلاثة، أو أن يبعد عن أقصى درجةٍ ممكنةٍ من الضرر.

ولهذا وعلى هذا الأساس تمّ نوع من إيقاف العمل. جسّده ذلك الموقف المشئوم في مسجد الكوفة حينما دخل معاوية إلى مسجد الإمام عليّعليه‌السلام وصعد على هذا المنبر الذي كان يجسّد آمال المسلمين وحكم الإسلام، إلى هذا المنبر الذي كان يصعده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوده الثاني، وهو عليّعليه‌السلام ، صعد عليه معاوية ليستهين بمثل هذا المنبر، وشرف هذا المنبر، وليقل صريحاً ومكشوفاً من [ بعد ] الشخص الذي كان يعيش فوق هذا المنبر كلّ هموم المسلمين وكلّ آمال المسلمين، الذي كان يعيش من فوق هذا المنبر كلّ قضيّةٍ من قضايا الرسالة، وكلّ اعتبارٍ من اعتباراتها، هذا الشخص صعد إلى هذا المنبر ليقول لكلّ الناس بكلّ وقاحة وجرأة وصراحة: إنّي حاربتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم لذلك كارهون(١) ، وكان من منطق هذه الجلسة أن يخطب كلّ الطرفين المتنازعين في هذا المسجد، لكن بِمَ يخطب الإمام الحسنعليه‌السلام في مقابل هذا النوع من الاستهتار ؟

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٥٣، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث ٥.

٢٩٣

في مقابل ضيعة الآمال، في مقابل تهدّم كلّ ما كان يفترضه الإنسان المسلم من قيمٍ ومثلٍ واعتبارات.

ماذا يقول الإمام الحسنعليه‌السلام ؟ وبِمَ يجيب هذا الاعتداء ؟ حينما انتهى معاوية من خطابه قام فقال: يا معاوية، أنت معاوية وأنا الحسن، وأنت ابن أبي سفيان وأنا ابن علي، وأنت حفيد حرب وأنا حفيد رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت ابن هند وأنا ابن فاطمة، وأنت حفيد فلانة وأنا حفيد خديجة ! اللهمّ فالعن ألأمنا حسباً.

فقال الناس: آمّين(١) .

____________________

(١) الاحتجاج ٢: ٥٣ - ٥٤، وكشف الغمّة ١: ٥٧٣.

٢٩٤

طمس معالم النظرية الإسلاميّة

وتمييع الأُمّة

وموقف الإمام الحسينعليه‌السلام من ذلك

٢٩٥

٢٩٦

بسم الله الرحمن الرحيم*

في استعراض حياة الأئمّةعليهم‌السلام أشرنا إلى دور سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام بعد أن عشنا محنة الهدنة التي مارسها الإمام الحسنعليه‌السلام مع خصومه من أعداء الإسلام.

الثورة على الحكم أو الحاكم التي هي: أساس موقف الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام تجاه معاصريه من أعداء الإسلام، هذه الثورة ترتبط بمفهوم الإسلام عن درجات حكم الإسلام بمعارضة الحاكم، وحكمه الشرعي الذي يتفاوت من حكمٍ إلى حكم ومن وضع حاكمٍ إلى وضع حاكمٍ آخر.

أقسام الحكم:

فإنّ الحكم الذي يعاش:

إمّا أن يكون حكماً قائماً على أساس قاعدةٍ هي الإسلام، ومعنى قيام الحكم على أساس قاعدة هي الإسلام: أنّ هذا الحكم يتبنّى الإسلام كنظريةٍ للحياة، وكأساسٍ للتشريع والتقنين، وكرسالةٍ يحملها في كلّ مجالات نشاطه

____________________

(*) ألقيت في ٢٥ شهر شوّال المكرّم ١٣٨٨ ه-.

٢٩٧

ووجوده.

وأخرى يقوم الحكم على أساس قاعدةٍ أخرى غير الإسلام، يُقصى الإسلام عن مركزه كأساسٍ للحكم، ويفترض أنّ الإسلام لا دخل له ولا شأن له بالقيمومة على حياة الناس وتنظيمها وتدبير شؤونها، وأنّ هذه القيمومة يجب أن تعطى لقاعدةٍ فكريّةٍ أخرى من القواعد التي صنعتها الأرض، فيكون الحكم قائماً على أساس قاعدةٍ فكريةٍ كافرة؛ لأنّ أيّ قاعدةٍ فكريةٍ غير الإسلام كفر، فيكون الحكم القائم على أساس تلك القاعدة الفكرية حكماً كافراً، سواءٌ كان الإنسان الممارس للحكم مسلماً أو كافراً، إذ لا يوجد ارتباط بين إسلام الحاكم وإسلام الحكم، إسلام الحاكم بأن يشهد: أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن لا يبدو منه ما يتعارض مع إيمانه القلبي بهاتين الشهادتين. وأمّا الحكم بوصفه شخصيّةً معنويّةً فإسلامه عبارة عن ارتباطه بالإسلام، وقيامه على أساس قاعدةٍ هي الإسلام، فقد يكون الحكم كافراً وإن كان شخص الحاكم مسلماً.

إذن فبصورةٍ رئيسيةٍ يمكن تقسيم الحكم إلى قسمين:

إلى حكمٍ يقوم على أساس قاعدة قيمومة الله على الناس وخضوع الأرض لشريعة السماء، أي لقاعدةٍ هي الإسلام، فيكون الحكم حكماً مؤمناً مسلماً متعبّداً بين يدي الله تعالى.

وأُخرى يقوم الحكم على أساس قاعدةٍ أُخرى غير الإسلام، فيكون الحكم كافراً.

أقسام الحاكم في ظرف الحكم الإسلامي:

ثمّ ذلك القسم الأوّل الذي يقوم على أساس قاعدةٍ هي الإسلام يفترض فيه:

٢٩٨

تارةً: أنّ الشخص الذي يمارس هذا الحكم يمثّل هذه القاعدة ويتبنّى هذه الرسالة. وتارةً: نفترض أنّ هذا الشخص معصوم في منطق تلك القاعدة لا يشذّ عنها في سلوكٍ أو قولٍ أو فعل، كما هو الحال في الإمام علي وأولاده المعصومينعليهم‌السلام الذين لا يشذّون عن القرآن حتّى يردوا عليه الحوض، كما شهد بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وأخرى : يمكن أن نفترض أنّ الشخص الذي يمثّل القاعدة إنساناً غير معصوم، إلاّ أنّه يستمدّ صلاحيّته هنا من وضعٍ شرعيٍّ صحيح، كما إذا افترضنا أنّ هذا الإنسان كان نائباً عن الإمام المعصومعليه‌السلام ومنسجماً مع نظرية الحكم في الإسلام.

وثالثةً : يفترض أنّ هذا الشخص الذي يمثّل القاعدة ويتزعّم التجربة ليس إنساناً معصوماً ولا إنساناً متشرّعاً، بل هو إنسان يحمل نفسه على القاعدة من دون أن تقرّه مقاييس القاعدة عن الحكم.

إذن فنحن نواجه ثلاث حالاتٍ في القسم الأوّل:

حالة يكون الحاكم فيها معصوماً بمقاييس القاعدة الإسلامية.

حالةً يكون الحاكم فيها منسجماً مع قاعدة المقاييس الإسلاميّة وإن لم يكن معصوماً، كنائب المعصومعليه‌السلام .

وثالثةً يفترض أنّ الحاكم غير منسجمٍ مع مقاييس القاعدة، إنسان لا معصوم ولا مشروع يتولّى زعامة وتمثيل القاعدة وتطبيقها، فهنا حالات ثلاث:

____________________

(١) انظر: الغدير ١: ٧٨، ٨٣، ٨٤، و ٣: ٢٥١، ٢٥٢، ٢٥٥، وينابيع المودّة ١: ١٢٤، ٢٦٩، و ٢: ٩٦، ٣٩٦، ٤٠٣.

٢٩٩

أمّا الحالة الأولى : أن يقوم الحكم في المجتمع على أساس قاعدةٍ هي الإسلام، وهذه القاعدة الإسلامية تكون أساساً لحكمٍ يمارسه شخص معصوم، فمتى وقع من هذا القبيل لا يمكن افتراض الانحراف والخطر؛ لأنّ المفروض أنّ شخص الحاكم الذي تسلّم مسؤوليات قيادة المجتمع، وتطبيق النظرية الإسلامية عليه، المفروض في شخص هذا الحاكم أنّه معصوم، أي أنّه متفاعل مع الرسالة والإسلام إلى أبعد حدٍّ ممكنٍ في سلوكه وقوله وفعله، ولا يفترض فيه خطأ ولا انحراف، وبالنتيجة لا يكون لدى الأُمّة تجاه الحاكم من هذا القبيل إلاّ المواكبة لخطّه ولحركته، ولتصعيد العمل في سبيل الإسلام.

وأمّا الحالة الثانية : أن يكون الحاكم الذي يمارس حكماً قائماً على أساس القاعدة الإسلامية حاكماً مشروعاً بمقاييس تلك القاعدة، إلاّ أنّه غير معصوم كما إذا فرض أنّه كان من نوّاب المعصوم، ففي مثل ذلك هذا الحاكم ما دام ملتزماً بمقاييس تلك القاعدة لا يمكن أن نفترض فيه الانحراف؛ لأنّ الانحراف يسلب عنه صفة المشروعيّة، وإنّما يمكن أن نفترض في حاكمٍ من هذا القبيل أن يخطئ، وأن يقدّر المصلحة الإسلامية على خلاف ما هي في الواقع، أن يجتهد في موضعٍ إسلامي ولا يكون اجتهاده مصيباً للواقع.

في مثل هذه الحالة حينما يصدر الخطأ في حاكمٍ من هذا القبيل ما هو موقف من يكشف منه الخطأ من الأُمّة ؟ من يرتكب هذا الخطأ من الأُمّة لا بدّ له أن ينبّه الحاكم قدر الإمكان على خطئه، ويوضّح وجهة النظر الأخرى التي يؤمن بأنّها أكثر تمثيلاً للإسلام، وأصدق تعبرياً عن حاجات الرسالة والأُمّة في ذلك الوقت، فإن أمكن تنبيه الجهاز الحاكم إلى ذلك الخطأ فهو، وإن لم يمكن تنبيهه إلى ذلك، أي بقي الجهاز مصرّاً على وجهة نظره ففي مثل ذلك لا بدّ للأمّة من اتّباعه ،

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419