أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 122873
تحميل: 9224

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122873 / تحميل: 9224
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مستوى الجماهير عن خليفته الإمام الحسنعليه‌السلام له في المركز السياسي هو تفادي مثل هذا التصوّر؛ ولهذا أوصى الحواريين الذين يؤمنون بالنظرية الإسلامية الصحيحة للإمامة، أوصى إليهم بإمامة الحسنعليه‌السلام وعرّفهم بأنّ الحسنعليه‌السلام هو الإمام وهو الحجّة من قبل الله والوصيّ من بعده. إلاّ أنّه بوصفه حاكماً ورئيساً للدولة لم يعلن إعلاناً رسمياً سياسياً أنّ الحسنعليه‌السلام هو الذي يتسلّم الأمر من بعده.

العامل الخامس:

من عوامل تعمّق الشكّ في نفوس المسلمين هو: أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام لظروفٍ - سوف نشرحها - لم يكن قد تسرّع للإعلان عن عزمه على الحرب مع معاوية والاشتباك المسلّح مع معاوية، عدم إعلان الإمام الحسنعليه‌السلام وعدم تسرّعه بالإعلان عن عزمه على الاشتباك المسلّح مع معاوية استغلّه معاوية، وأشاع على أساسه أنّ الحسنعليه‌السلام يفكّر في الصلح، كانت هذه الإشاعة القائمة على أساس هذه النقطة، وكانت لهذه الإشاعات مساهمة كبيرة جدّاً في توسيع نطاق الشكّ عند المسلمين وتردّدهم في أن تكون هذه القضية التي يحاربون من أجلها قضيةً يشكّ فيها القائد نفسه.

هذه العوامل الخمسة أدّت إلى توسيع نطاق هذا الشكّ المصطنع بعد وفاة الإمام لتسلّم الإمام الحسنعليه‌السلام مقاليد الحكم والزعامة، وهذا الشكّ المصطنع الذي اشتدّ على أساس هذه العوامل تحوّل - كما قلنا - كيفياً من طاقةٍ سلبيةٍ إلى طاقةٍ إيجابية، وتحوّل كمّياً من شكٍّ يعيشه بعض الأفراد والجماعات إلى شكٍّ تعيشه الجماهير في مختلف قطاعات هذا المجتمع الذي كان يحكمه الإمام الحسنعليه‌السلام .

٢٦١

هذا الشكّ يبدو بكلّ وضوحٍ منذ اللحظة الأُولى لتسلّم الإمام الحسنعليه‌السلام مقاليد الحكم، منذ اللحظة الأُولى التي فوجئ بها الإمامعليه‌السلام باستشهاد والدهعليه‌السلام إلى اللحظة الأخيرة التي تمّ فيها تسليم الأمر لمعاوية، في كلّ هذه الفترة القصيرة منذ اللحظة الأُولى إلى اللحظة الأخيرة نحن نجد الشواهد تلو الشواهد، والدلائل تلو الدلائل على هذا الشكّ المرير المتزايد المتنامي في نفوس الجماهير في القائد، وفي الأُطروحة، وفي الأهداف، وفي الرسالة.

ظروف بيعة الإمام الحسنعليه‌السلام :

الإمام عليعليه‌السلام يستشهد، ويعلن الإمام الحسنعليه‌السلام عن وفاة الإمام العظيم، ولم يعلن عن مسألة الخليفة ليعيّنوا ما يملأ به الفراغ السياسي الذي تركه الإمام عليعليه‌السلام ، يذهب الإمام الحسنعليه‌السلام إلى المسجد يؤبّن الإمام عليّاً ويقرّر(١) أباه وينعاه، وفي هذا التقرير يحاول أن يدفع الشكّ بقدر ما يمكن بكلماتٍ تدفع الشكّ، أراد أن يستعرض صورةً ملخّصةً عن هذا الإمام العظيم الذي خرّ شهيداً في المسجد بين المسلمين، أراد أن يقدّم بين المسلمين صورةً موجزةً عن هذا الرجل النظيف الذي لم يعش لحظةً إلاّ لرسالته ولإسلامه بعد أن ألقى [ الخطبة ] التي أراد فيها أن يدفع الشكّ بقدر ما يمكن لخطبته أن تدفع الشكّ عن الإمام عليّعليه‌السلام . بعد هذا وقف ساكتاً يتأمّل ليرى ماذا سيكون ردّ الفعل ؟ ماذا يكون موقف المسلمين من هذه اللحظة، من ملء الفراغ، من القضية المطروحة الآن ؟ وهي قضية ملء الفراغ الذي تركه الإمام عليعليه‌السلام . لمن يتوجّه المسلمون الآن ؟

____________________

(١) كذا في الأصل.

٢٦٢

كلّ المسلمين سكتوا، لم يقم أحد، لم يجب أحد، لم يبرز أحد شيئاً، هؤلاء المسلمون المجتمعون في المسجد، هؤلاء هم الأمناء على التجربة، هم أصحاب عليّ، هم قادة هذا المجتمع، هم الطليعة التي كان بها يصول وبها يكافح وبها يجاهد هذا الإمام العظيم، كلّهم سكتوا، لم يجب واحد لم يقل شيئاً أبداً.

قال ابن عمّه عبد الله بن عبّاس: نقدّم أطروحة خلافة الإمام، قال بأنّ علياًعليه‌السلام إن كان قد ذهب فهناك ابنه الحسنعليه‌السلام (١) ، سوف يواصل طريقه، سوف يسير في خطّه، سوف يحمل اللواء، سوف نسير في كنفه.

حينما قدّم هذا الشعار أو هذه الأطروحة بدأ شخص من زاوية المسجد، وشخص من زاوية أُخرى، وهكذا فاستجابوا مع هذا الشعار وبويع الإمامعليه‌السلام .

لماذا قَبِل الإمام الحسنعليه‌السلام أن يبايع ؟

وهنا قد يقول القائل: إنّ الإمام الحسن لماذا قبل أن يبايع وهو يشعر بهذا الشكّ المتزايد المتنامي، هذا الشكّ الذي يُعجز القيادة عن إنجاح أهدافها والوصول إلى أغراضها ؟ لماذا وافق أن يبايع وأن يتسلّم زمام الحكم في لحظةٍ يائسة ؟

الجواب : أنّه لو لم يقبل بذلك، لو أنّه رفض أن يبايع، لو أنّه لم يتسلّم مقاليد الحكم بعد الإمام عليّعليه‌السلام لقيل بأنّ هذا الشكّ الذي يعيشه المسلمون يتسرّب إلى القادة أنفسهم، إلى الحسنعليه‌السلام نفسه. إنّ الحسنعليه‌السلام أصبح يعيش هذا الشكّ في صحّة هذه المعركة، في ضرورة هذه المعركة، في أهمية هذه المعركة، فكان لا بدّ لكي يثبت الإمام الحسنعليه‌السلام أنّ القادة لا يزالون يؤمنون بقضيتهم وأطروحتهم

____________________

(١) إعلام الورى ١: ٤٠٧، وكشف الغمّة ١: ٥٣٢، ٥٣٣.

٢٦٣

على المستوى الذي يؤمنون به من الساعة الأولى، فيبادر ويقبل البيعة التي عرضها المسلمون وقتئذٍ ويتحمّل المسؤولية، مسؤولية الحكم، وهكذا كان، تحمّل مسؤولية الحكم بالرغم من هذا الشكّ؛ لأن لا يتّهم القائد أيضاً بهذا الشكّ.

أنا اُقدّر وأظنّ أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام حينما تسلّم مسؤولية الحكم كان عازماً أن لا يتسرّع في خوض معركةٍ مسلّحةٍ مع معاوية، كان يودّ أن تؤجّل المعركة إلى أمدٍ طويل، وذلك لكي يصفّي أو لكي يحاول أن يصفّي هذا الشكّ جدّاً، لكي يتفرّغ إلى الظروف الداخلية وإلى المجتمع الذي يحكمه، ويحاول أن يخفّف من حدّة هذا الشكّ، ويقضي على منابعه، ويعالج بعض أسبابه وينعش من جديد نفسيّة الفرد المسلم في داخل هذا المجتمع، حتّى إذا استطاع في نهاية الشوط أن يكسب درجةً معقولةً من الاقتناع بالأطروحة حينئذٍ يبدأ معركته المسلّحة مع معاوية، وهذا هو الذي جعله لا يعلن عزمه على الحرب من اللحظة الأولى.

جاءه بعض خواصّه طلبوا منه الإعلان السريع عن الحرب والسفر السريع إلى ميدان القتال قبل أن يتقدّم معاوية وقبل أن يخرج معاوية من بلاده. إلاّ أنّه رفض ذلك(١) ، وكان رفضه مرتبطاً - على ما أظنّ - ارتبطاً وثيقاً بالظروف النفسية التي يعيشها المجتمع الإسلامي وقتئذٍ. كانت هذه الظروف النفسية إلى علاجٍ أكبر ممّا هي بحاجة إلى الحرب، بحاجةٍ توعية أكثر ممّا هي بحاجةٍ إلى قتال، بحاجةٍ إلى نوع إعطاء فرصةٍ جديدةٍ لكي يدرسوا من جديدٍ الأطروحة ونبلها وأهدافها وخيراتها وبركاتها قبل أن يكلّفوا بقتالٍ جديد؛ ولهذا تمهَّل الإمام

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٢٩، تاريخ الإمام الزكي الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٨، باب العلّة التي من أجلها صالح الحسنعليه‌السلام معاوية.

٢٦٤

الحسن وتضيّق في موضوع القتال، إلاّ أنّ معاوية بن أبي سفيان لم يتمهّل ولم يتضيّق.

خروج معاوية لقتال الإمامعليه‌السلام :

معاوية بعد قتل الإمام عليٍّ بشهرٍ أو أقلّ أو شهرين أو ثلاثة - على اختلاف التقادير في الروايات - خرج مع جيشٍ ليغزو العراق. معاوية كان يقدّر فهمه للظروف وقتئذٍ، كان يقدّر أنّ الظروف مؤاتية باعتبار ما خلّفه الإمام عليّعليه‌السلام من فراغاتٍ سياسيةٍ ونفسيةٍ وفكريةٍ، الظروف مؤاتية بأن يوقع ضرراً كبيراً بالمجتمع الذي يحكمه عليّ، أن يحقّق مكسباً سياسياً جديداً له، قد يمكن ارتفاع هذا المكسب إلى درجة تصفية المعركة نهائياً. إلاّ أنّه مع هذا لم يكن عنده فكرة كاملة عن كلّ الظروف النفسية، والأبعاد التي يعيشها المجتمع الإسلامي الذي يحكمه الإمام عليعليه‌السلام ولهذا في نفس الوقت الذي تهيّأ للمعركة المسلّحة كان يحاول إلى جانب المعركة المسلّحة أن يستخدم الوسائل الأخرى التي بإمكانه أن ينتصر بها على عدوّه.

الإمامعليه‌السلام يستنفر المسلمين للجهاد:

وفي الرسالتين الأخيرتين المتبادلتين بين معاوية والحسنعليه‌السلام انتهى النقاش وقُرّر من قبل الإمام الحسنعليه‌السلام الحرب. خرج الإمام الحسنعليه‌السلام إلى مسجد الكوفة وأعلن أنّ معاوية قد اتّجه مع جيشه لمحاربتهم واستنفر المسلمين للجهاد.

إلاّ أنّ هذا الشكّ الذي قلناه ظهر من جديدٍ ظهوراً سلبياً في تلك اللحظة، حيث إنّه لم يجب الإمام الحسن أحدٌ بكلمةٍ سوى شخص واحد، هذا الشخص

٢٦٥

الواحد هو عديّ بن حاتم رضوان الله عليه، قال لهؤلاء المسلمين: بأنّ هذا الإمام يأمر وأنا أطيع، وليس على الجندي إلاّ أن يطيع، وهذه دابّتي بباب المسجد ثمّ أركبها وأخرج إلى النُّخيلة ولا أرجع إلى منزلي وخرج. وكان أوّل من خرج للجهاد وتبعه ألف من عشيرته.

يقول في البحار: وجهّز الإمام الحسن جماعةً معه، وخرج إلى النُّخيلة، وبقي عشرة أيامٍ في النُّخيلة، واستخلف ابن عمّه(١) على الكوفة لكي يعبّئ باقي القوى المقاتلة فلم يرد أحد، بقي الإمام الحسن عشرة أيامٍ في النُّخيلة ينتظر عسكراً وجيشاً، فلم يرد جيش، فاضطرّ الإمامعليه‌السلام إلى أن يرجع إلى الكوفة مرّةً أخرى، فرجع مرّةً أخرى ليعبّئ جيشاً.

عبّأ جيشاً - تقول بعض الروايات: إنّه بلغ اثني عشر ألفاً - واتّجه هذا الجيش إلى مسكن، واتّجه هو مع أربعة آلاف أو ستّة آلاف إلى المدائن، هذا الجيش الذي عبّأه وبلغ اثني عشر ألفاً واتّجه إلى مسكن وقعت فيه ثلاث خيانات متتالية:

الخيانات والتراجعات في جيش الإمامعليه‌السلام :

الخيانة الأولى كانت على يد شخص من مُرّة، هذا الشخص كان في طليعة هذا الجيش قبل أن يتكامل، أرسله مع أربعة آلاف.

يقول صاحب البحار: فراسله معاوية قبل أن يصل إلى مسكن، وأعطاه كذا وكذا مقداراً من المال، وفرّ هو مع صفوةٍ من أصحابه وخونته إلى عسكر معاوية ،

____________________

(١) وهو المغيرة بن نوفل بن الحارث، بحار الأنوار ٤٤: ٥١، تاريخ الإمام الزكي الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحه الحسنعليه‌السلام ومعاوية.

٢٦٦

ثمّ فرّ أربعة آلافٍ أخرى مع شخصٍ آخر قبل أن يصل إلى مسكن، فرّ مع بعض الخونة إلى جيوش معاوية، ثمّ أرسل ابن عمّه عبيد الله بن عبّاس مع اثني عشر ألف نسمةٍ على أكثر الروايات، فدخل إلى مسكن، فترك العسكر وذهب إلى خطّ معاوية(١) .

كان لمثل هذه التراجعات، لمثل هذه الخيانات المتلاحقة المتتابعة، أثرها المشئوم في تلك النفوس المليئة بالشكّ المليئة بالتردّد. تصوّروا نفوساً كانت بصورةٍ سابقةٍ مليئةً بالشكّ والتردّد والتغيّر، ثمّ تقع مثل هذه الخيانات الناتجة عن مثل ذلك الشكّ، فسوف يتعمّق الشكّ لا محالة، هذا الشكّ كلّما يتّخذ صورةً إيجابيةً يكون لهذه الصيغة الإيجابية ردّ فعلٍ نفسيٍّ من الشُكّاك بحيث يزيد درجة الشكّ عندهم أكثر، وهكذا كان.

فعاش جيش الإمام الحسنعليه‌السلام في مسكن وهو يفقد بالتدريج القوى المقاتلة، حتّى بلغ عدد المحاربين من جيش الإمام الحسن في مسكن ثمانية آلاف، والإمام الحسن كان وقتئذٍ في المدائن، وتصل إليه الأخبار، وتنعكس هذه الأخبار إلى جيشه.

رُسُل معاوية إلى الإمامعليه‌السلام :

ثمّ معاوية أرسل في هذه اللحظات الحرجة العصيبة ثلاثةً من أصحابه، أحدهم المغيرة بن شعبة أرسلهم إلى الإمام الحسنعليه‌السلام برسالةٍ(٢) ، وكان في هذه

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٥١ - ٥٢، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث ٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢١٥.

٢٦٧

الرسالة مجموع الكتب التي وصلت إلى معاوية من أصحاب الإمام في الكوفة، هذه الكتب تقول لمعاوية: أقدم، فلك السمع والطاعة، وسوف نسلّم لك الحسن يداً بيد، هذه الكتب أرسلها معاوية إلى الإمام الحسن ليقرأها بنفسه محاولاً بذلك أن يكسر من تصميم الإمام الحسنعليه‌السلام على مواصلة الخطّ والجهاد والمعركة(١) .

دخل هؤلاء الثلاثة على الإمامعليه‌السلام بعد أن حاولوا أن يستقطبوا أنظار الجيش، وبطبيعة الحال هناك وفد مفاوض من قبل معاوية يأتي إلى الحسن، وسوف ينعكس هذا الوفد، وسوف تشخص الأبصار إلى نتائج مباحثات هذا الوفد مع الإمام الحسنعليه‌السلام ، يدخلون إلى الإمام الحسن، ويعرضون له الكتب، كتب الخونة من أصحابه، هؤلاء الذين أعماهم ذلك الشكّ الذي تكلّمنا عنه، فكتبوا إلى معاوية هذه الكتب، الإمام الحسن يقرأ هذه الكتب واحداً بعد الآخر، ثمّ بعد هذا توجد رسالة من معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام يقول له: إن شئت أن تحقن الدماء وأن توقف القتال ولك الأمر من بعدي.

الإمامعليه‌السلام بعد أن ينهي قراءة الكتب لا يعطي أيّ كلمةٍ فاصلةٍ في الموضوع، وإنّما يتّجه إلى هؤلاء الثلاثة فيعظهم ويذكّرهم الله والنار وأيام الله، ويذكّرهم بأنّ هذه اللحظات هي جزء قصير جدّاً من عمرهم، يجب أن يقيموه على أساس الشوط الطويل الذي يعيشونه، يقف منهم كواعظٍ فقط ثمّ يسكت، وإنّما يسكت لأنّه يحاول أن يقوم بآخر تجربةٍ مع قاعدته الشعبية، ليرى أنّه هل بقي في هذه القاعدة الشعبية قدرة على مواصلة هذه المعركة مهما كلّف الثمن ؟

يخرج هؤلاء الثلاثة من عند الإمام فيحاولون أن يكذّبوا الإمام

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٤٨، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث٥.

٢٦٨

الحسنعليه‌السلام ، فينشروا في الجيش وهم يستطرقون أنّ الله قد فرّج عن هذه الأُمّة، وقد حقنت الدماء بابن بنت رسول الله، إنّ ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله استجاب للصلح.

بطبيعة الحال هذا الإخبار الكاذب كان له مفعول كبير جدّاً في التخدير، وفي إيقاف العزائم والهمم، وفي توسيع نطاق الشكّ الذي تكلّمنا عنه.

بعد هذا يخرج الإمام الحسنعليه‌السلام يقف خطيباً يقول ما مضمونه: بأنّ معاوية دعانا إلى ما لا يكون فيه خيرنا ولا خيركم فماذا أنتم فاعلون ؟ وكانوا كلّهم يعرفون أنّ هذا الشيء الذي ليس فيه خيره ولا خير الناس، فصاحوا بصوتٍ واحد: الصلح الصلح !

ضرورة انحسار الإمام عن المعركة:

كانت هذه اللحظة هي اللحظة التي أحسّ فيها الإمام الحسنعليه‌السلام بأنّ بقاء التجربة الإسلامية العلوية أصبح شيئاً متعذّراً غير ممكن، وأنّ انحساره عن الميدان أصبح شيئاً ضرورياً لأجل الإسلام نفسه، وذلك لأنّ هذه التجربة مع هذا الشكّ لا يمكن أن تعيش، فلا بدّ أن يقضى على هذا الشكّ ثمّ تستأنف التجربة.

ولم يكن بالإمكان أن يقضى على هذا الشكّ المرير المستعصي إلاّ بأن ينحسر الحسن وخطّ عليّعليه‌السلام عن المعركة ثمّ تنكشف أطروحة معاوية وأهداف معاوية، بعد هذا يرى المسلمون بأُمّ أعينهم، هؤلاء الذين يعيشون الحسّ أكثر ممّا يعيشون العقل، يعيشون بعيونهم أكثر ممّا يعيشون بعقولهم، يرون بعيونهم أنّ المعركة التي كان يقودها الإمام عليّعليه‌السلام مع معاوية هي معركة الإسلام مع الجاهلية، لا معركة شخصٍ مع شخص، ولا مصلحة مع مصلحة، ولا عشيرة مع عشيرة، كان لا بدّ في منطق التجربة من أن يحارب هذا الشكّ ثمّ يستأنف التجربة.

٢٦٩

ولم يكن بالإمكان ولا بإمكان اليوم وليس بإمكان أيّ يومٍ أن تنجح تجربة رسالية يقودها قائد يحمل بيده رسالةً هي أكبر من وجودات الأشخاص، وأكبر من مصالحهم الخاصّة ما لم يكسب مسبقاً الاقتناع بصحّة هذه الرسالة وبأهدافها وبضرورتها، ولم يكن بإمكان التجربة السياسية وقتئذٍ من مواصلة وجودها في المعركة أن تكسب هذا الاقتناع، هذا الاقتناع الذي لم يستطع الإمام الحسنعليه‌السلام أن يكسبه أو أن يحول دون فقدانه بالتدريج؛ ولهذا كان من الضروري أن ينحسر ظلّ الإمام عليّعليه‌السلام عن ميدان الحكم لكي تنكشف أُطروحة معاوية، وبعد ذلك يعرف المسلمون أنّ هذه الأُطروحة التي جاهد في سبيلها الإمام عليعليه‌السلام هي أُطروحة وجودهم وعقيدتهم ورسالتهم ومصالحهم الحقيقية غير المنظورة لهم، وعندئذٍ يكون بالإمكان استئناف العمل من جديدٍ على أساس اقتناع مسبق.

هذا خلاصة ما أردنا أن نقوله، وله تتمّة تأتي في اليوم الآتي.

٢٧٠

خلافة الإمام الحسنعليه‌السلام وظروفها

(القسم الثاني)

٢٧١

٢٧٢

بسم الله الرحمن الرحيم(*)

طريقان بين يدي الإمام الحسنعليه‌السلام :

على أساس الظروف التي شرحناها بالأمس والتي عقّدت الطريق بين يدي الإمام الحسنعليه‌السلام والتي ضاعفت من قوّة الشكّ وحوّلته من طاقة سلبية إلى طاقة إيجابية ممتدّة واسعة النطاق، على أساس ذلك كان بين يدي الإمام الحسنعليه‌السلام طريقان: إمّا أن يواصل العمل في الساحة حتّى يخرّ صريعاً كما خرّ صريعاً بعد ذلك أخوه الحسين شهيداً في ساحة كربلاء. وإمّا أن يوقف خطّ العمل نزولاً على الأمر الواقع.

الاعتبارات المتمثّلة في الإمام الحسنعليه‌السلام :

وكان لا بدّ للإمام الحسن وهو يدرس أفضل هذين الطريقين من أن يدخل في حسابه كلّ اعتباراته وكلّ جوانب وجوده؛ لأنّ الإمام الحسن كانت تتمثّل فيه عدّة اعتبارات: كان من ناحيةٍ هو:

____________________

(*) أُلقيت في يوم الأحد ١٢ من شهر رجب سنة ١٣٨٨ ه-.

٢٧٣

أوّلاً : الأمين على النظرية، هو الأمين على الصيغة الإسلامية الكاملة على الحياة بوصفها خطّاً فكرياً وروحياً يجب أن يعيش، ويجب أن يستقطب بالتدريج، ويجب أن يمتدّ إلى أكبر قدرٍ ممكنٍ من القلوب والنفوس والعقول.

وكان من ناحيةٍ أخرى: الأمين على التجربة، يعني الأمين على كيانٍ جسّد تلك الصيغة الإسلامية الكاملة، هذا الكيان الذي أنشأه الإمام عليعليه‌السلام واستأنف به حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعصره، هذا الكيان خلّفه الإمام عليعليه‌السلام ليتزعّمه الإمام الحسنعليه‌السلام ، فكان الإمام الحسنعليه‌السلام بالاعتبار الثاني أميناً على الواقع الحيّ الذي جسّد تلك الصيغة الإسلامية الكاملة، أي هو أمين على النظرية والتطبيق معاً، أمين ووريث للمفهوم والخطّ ولتجسيد هذا الخطّ من واقع الحياة.

وكان هناك اعتبار ثالث من الاعتبارات التي يمثّلها الإمام الحسن: فهو أمين على كتلة، هذه الكتلة هي التي نسمّيها بالشيعة، هذه الكتلة هي الجانب أو الجزء الذي أخذ نظرية الإسلام من عليعليه‌السلام ، ومن إمامة عليعليه‌السلام ، ومن خطّ أهل البيتعليهم‌السلام ، هذه الكتلة التي وضع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذورها، ثمّ نمّاها عليعليه‌السلام خصوصاً على عهد خلافته، وأخذها الإمام الحسنعليه‌السلام ليتسلّم زعامتها وقيادتها، كتلة يجب أن تنمو على مرّ الزمن، وتشكّل الطليعة الواعية القادرة على قيادة المسلمين ككلٍّ في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيد.

هذه اعتبارات ثلاثة كان يمثّلها جمعياً هذا الإمام الشابّ، فكان لا بدّ حينما يدرس أفضل الطريقين: طريق التضحية والموت أو طريق تجميد الحركة والخطّ إلى وقتٍ ما، دون أن يدخل إلى جانب هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبار رابع يطلق عليه عادةً أيّ اسمٍ من الأسماء العاطفية أو الخلقية التي لا ترتبط بمصالح الرسالة، من قبيل أن يقال: إباء الضيم، عدم الاستعداد لمصافحة الأعداء، الشعور

٢٧٤

بالعزّة.

كلّ هذه المشاعر هي اعتبارات عاطفية يجب أن لا تأخذ طريقها إلى قلب الإنسان الحقّ الذي يريد دائماً أن يرسم طريقه على أساس الاعتبارات الرسالية، كإباء الضيم - مثلاً - الذي ينسب إلى الإمام الحسينعليه‌السلام .

هذا الإباء يجب أن يراد به حينما ينسب إلى إمامِ حقٍّ كالإمام الحسينعليه‌السلام أو الإمام الحسنعليه‌السلام إباء هذا الإمام عن أن تنتهك حرمة الرسالة، وعن أن تذلّ الرسالة، وعن أن تفقد الرسالة مكسباً كان بالإمكان أن يتحقّق بالنسبة إلى هذه الرسالة.

أمّا المفهوم العاطفي لإباء الضيم فهو مفهوم جاهلي لا يقرّه الإسلام، فإنّ إباء الضيم حيث تقتضي الرسالة من الرسالي أن يمتحن تحمّل هذه القيم مثل هذا الإباء يكوم موقفاً لا رسالياً ولا إنسانياً، كما أنّ العكس صحيح، فأيّ اعتبارٍ عاطفيٍّ أو خلقيٍّ غير نابعٍ من واقع الرسالة وقيمها وأهدافها يجب أن لا يدخل في حساب الإنسان الحقّ. وأيّ إنسانٍ أحقّ بهذا الوصف من هؤلاء القادة الذين اؤتمنوا على أشرف الرسالات السماوية، وهذا ليس مجرّد مفهومٍ تأريخي، إنّما هو أيضاً يجب أن يكون قاعدةً لعمل كلّ واحدٍ منّا، كلّ إنسانٍ يريد أن يسير على خطّ هؤلاء القادة يجب في البداية دراسة كلّ نقطةٍ من نقاط سلوكه على مفترق الطريق، يجب أن يدرس سلوكه واختياره على مفترق الطريق على أساس اعتبارات الرسالة، لا على أساس نوعٍ من العواطف التي يعيشها الإنسان الاعتيادي بقلبه لا برسالته، وهكذا كان للإمام الحسنعليه‌السلام ثلاثةٍ خطوطٍ لا بدّ من أن يدرس موقفه على أساسها:

الأوّل : كونه أميناً على الرسالة، أي على أُطروحة النظرية، أي على الصيغة

٢٧٥

الإسلامية الكاملة للحياة نظرياً وروحياً.

الاعتبار الثاني : كونه أميناً على التجربة السياسية التي جسّدت تلك الأُطروحة.

الاعتبار الثالث : كونه أميناً على الكتلة التي بذرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ونمّاها الإمام عليعليه‌السلام كان من المفروض أن تمتدّ مع تأريخ الإسلام.

أمّا على الاعتبار الأوّل بوصفه أميناً على الأُطروحة النظرية، على الصيغة الإسلامية للحياة بوصفها خطّاً يجب أن يعيش في عقول وأرواح ونفوس المسلمين، فقد كان أقسى المفارقات هذه المفارقة التي بيّناها فيما سبق، حينما رأينا هذه الصيغة الإسلامية الكاملة للحياة كان وصولها إلى درجة الحكم وممارستها للحكم، كان هذا بنفسه وبصورةٍ غير مباشرةٍ السبب في زوال الاقتناع بها من قبل القواعد الشعبية بالتدريج، لا لأنّ وصولها إلى الحكم كشف عن وجهٍ منحرفٍ عن سلوكٍ غير منطبقٍ على النظرية، غير منسجمٍ مع قيمها وأهدافها، بل لأنّ القاعدة الشعبية التي وصل على أكتافها قائد هذه النظرية إلى الحكم لم تكن تستطيع أن تعيش حياة الكفاح والجهاد إلاّ إلى مرحلةٍ قصيرةٍ من الزمن.

ولهذا حينما مارس الإمام العظيم أبو الأئمّةعليهم‌السلام تطبق نظريته على كلّ مستويات الحياة الإسلامية: اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وخلقياً بدأت المتاعب والمصائب، بدأ الناس يشكّون، بدؤوا يرهقون، يرهقون بهذه النظرية، وبهذا زال الاقتناع بالتدريج من صحّة هذه النظرية، وكان لا بدّ للنظرية لكي تعيش في الأُمّة الإسلامية من أن تسترجع هذا الاقتناع بأيّ ثمن، وكان ثمن استرجاعها هذا الاقتناع هو أن ينحسر هذا الحكم الذي يمثّل هذه الأُطروحة ،

٢٧٦

وأن يخلي الميدان لحكمٍ آخر مثّله معاوية، ومثّلته كلّ القوى المتبقيّة من السقيفة، كان لا بدّ لذلك من أن يبرز على الميدان، من أن يظهر واقعه، ومضمونه، وحقيقة أهدافه، وكلّ أبعاده، وحينئذٍ تسترجع الأُطروحة اقتناع المسلمين بها وبصحّتها وضرورتها.

هل قدّر على كلّ نظريّة صالحة أن تفقد قواعدها الشعبيّة بعد التطبيق ؟

هنا قد يبدو سؤال : أنّه هل هناك قدر لازم على كلّ نظريةٍ صالحة أنّها حينما تأخذ مجراها في التطبيق تفقد اقتناع قواعدها الشعبية بها بالتدريج، وحينئذٍ تبدأ من جديدٍ مضطرّةً إلى أن تتخلّى عن الحكم ليفسح المجال للآخرين أن يمارسوا الحكم على أساس نظريةٍ أخرى باطلةٍ كافرةٍ، حتّى يكون ذلك مثبتاً للمسلمين صحّة النظرية الأولى ؟

هل هذا قدر مفروض على النظرية الإسلامية دائماً أنّها تدخل إلى الحياة فتقود وتحكم ثمّ سرعان ما تهدم وسرعان ما تضطرّ إلى الانسحاب، لكي تسترجع مرّةً أخرى الاقتناع الذي فقدته خلال التطبيق ؟

هل هذا قدر لازم على النظرية الإسلامية في الظروف الموضوعية الخاصّة التي تفتّق عنها حكم الإمام عليعليه‌السلام ، ذلك لأنّ الإمام علياًعليه‌السلام حينما حكم وحينما جاء ليمارس تصديق هذه النظرية كاملةً غير منقوصةٍ جاء معتمداً على شعبٍ لم يتفاعل معه ساعة، لم يعش معه يوماً، لم يصرف معه في سبيل إعداد هذه النظرية جهداً ؟

الشعب الذي قام بحماية هذا التطبيق، وشكّل الجيش المحارب للإمام كان شعب العراق، وبالرغم من أنّ الشعب العراقي وقتئذٍ كان يبدو من أكثر الشعوب

٢٧٧

- شعوب الأُمّة الإسلامية - استجابةً إخلاصاً للإمام عليعليه‌السلام ، ولهذا نادى أهل العراق للإمام عليهعليه‌السلام بأنّه خليفة، إلاّ أنّ استجابة هذا الشعب واستجابة قطاعاتٍ أخرى مصريةٍ ومن الجزيرة العربية للإمام كان استجابةً على أساس الرصيد الذي كان يتمتّع به الإمام عليعليه‌السلام ، على أساس هذا النوع من التأريخ الكبير الذي يعيشه الإمام في أذهان المسلمين.

المسلمون حينما عاشوا محنة انحراف عثمان، ثمّ بعد هذه المحنة مقتل عثمان، وحينها وجدوا أمامهم مشاكل كبيرة فوق الحلّ من الإنسان الاعتيادي اتّجهوا بأنظارهم بطبيعتهم إلى صحابي كبير، اتّجهوا ليفتّشوا عن صحابيٍّ كبيرٍ يستطيع بما يحمل من تراث محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتغلّب على هذه المشاكل الكبيرة، ويملأ هذا الفراغ الكبير، ويعيد الأمور إلى أوضاعها الطبيعية، فكان أن وقع اختيار المسلمين بطبيعتهم على الإمام عليعليه‌السلام ؛ لأنّه كان أبرز صحابيٍّ على المسرح السياسي يتمتّع بما لا يتمتّع به أيّ صحابيٍّ آخر من سوابق وفضلٍ وشهرة.

إذن فالاستجابة منذ البدء كانت استجابةً عاطفيةً قائمةً على أساس الشهرة، لا على أساس التفاعل، لا على أساس التقديس الذاتي، لا على أساس القربة المباشرة لهذه القواعد الشعبية، ومن الطبيعي أن تكون هذه الاستجابة العاطفية القائمة على أساس الشهرة، وعلى أساس السوابق، وعلى أساس الفضل، ومن الطبيعي أن تكون هذه الاستجابة استجابةً ذات شوطٍ قصير، ذات موجةٍ قصيرةٍ ثمّ تبدأ بالذوبان، تبدأ بعد هذا بالتميّع حينما تصطدم بما تصطدم به أعباء الجهاد من المصالح الشخصية للأفراد.

أمّا حينما تجيء النظرية الإسلامية إلى الحياة على أعقاب تفاعلٍ واسع النطاق مع جزء كبيرٍ من الأُمّة، حينما تجيء ويكون هناك جزء كبير من الأُمّة

٢٧٨

مقتنعاً بهذه النظرية اقتناعاً واعياً مدبّراً صحيحاً، في مثل تلك الحالة سوف لن تحتاج هذه النظرية مرّةً أخرى إلى أن تتنازل عن الحكم لكي تكسب اقتناعه، الاقتناع العاطفي هو الذي يتزحزح خلال غبار الجهاد، أمّا الاقتناع الواعي فهو الذي يتعمّق ويترسّخ خلال غبار الجهاد.

على أيّ حالٍ كانت الظروف الموضوعية وقتئذٍ تفرض هذا التلاشي وهذا الانحسار في الاقتناع حتّى فقد خطّ عليعليه‌السلام وهي النظرية الإسلامية الكاملة الصحيحة اقتناع المسمين بها، وحينما فقدت هذا الاقتناع لا بدّ لها أن تسترجعه، وكان لا بدّ لكي تسترجعه من أن تفسح المجال لأعدائها لكي يعبّروا عن ذواتهم وعن أنفسهم، ولكي يقول معاوية بالذات وبكلّ وضوح وبكلّ صراحة على المنبر الذي كان يجسّد آمال المسلمين يصعد على ذلك المنبر ويقول: إنّي حاربتكم لا لكي تصلّوا أو تصوموا، وإنّما لكي أتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم لذلك كارهون(١) .

إلاّ أنّ انحسار حكم الإمام عليٍّعليه‌السلام وإعطاء الفرصة لمعاوية أو للأعداء لكي يمارسوا وجودهم على المسرح كان يمكن أن يتمّ بطريقٍ أو بطريقين، وقف الإمام الحسنعليه‌السلام على مفترقها.

لماذا لم يختر الإمام الحسنعليه‌السلام طريق الجهاد ؟

كان يمكن أن يواصل الإمام الحسنعليه‌السلام مهمّته العسكرية حتّى يخرّ صريعاً في ميدان الجهاد، وحينئذٍ يفسح المجال لمعاوية لكي يعيش وجوده

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٥٣، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث٥.

٢٧٩

كحاكم.

وكان يمكن أن يتحقّق ذلك بتجميد حركته وإيقاف العمل ضدّ معاوية.

كان يمكن أن يتحقّق بكلّ من هذين الأسلوبين، ومن هنا قد يقفز إلى الذهن هذا السؤال: أنّه لماذا لم يختر الإمام الحسنعليه‌السلام الطريق الأوّل من هذين الطريقين بعد أن كان كلّ من هذين الطريقين محقّقاً لحاجة الرسالة بالانسحاب المؤقّت لكي تكسب الاقتناع ؟ ويزداد هذا السؤال جولاناً في الذهن حينما يقارن موقف الإمام الحسنعليه‌السلام بموقف الإمام الحسينعليه‌السلام حينما وقف بين الطريقين فاختار أن يخرّ صريعاً بدلاً من أن يوقف العمل ولو مؤقّتاً.

الفرق الأساسي بين موقفي الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام :

إلاّ أنّنا قلنا ونقول أيضاً: إنّ فرقاً أساسياً كبيراً بين موقف الحسنعليه‌السلام وموقف الإمام الحسينعليه‌السلام ، سوف يتبيّن هذا الفرق على مستوى الاعتبارات الثلاثة، سوف يبرز على أساسها موقف الحسينعليه‌السلام على كلّ واحدٍ من هذه الاعتبارات الثلاثة، يبدو هناك فرق كبير بين موقف الإمام الحسنعليه‌السلام وموقف الحسينعليه‌السلام ، بين الظروف الموضوعية لموقف الإمام الحسنعليه‌السلام والظروف الموضوعية لموقف الإمام الحسنعليه‌السلام .

على مستوى الاعتبار الأوّل:

أمّا على الاعتبار الذي سوف نعالجه على مستوى الرسالة فهناك فرق كبير حتّم على الإمام الحسينعليه‌السلام أن يختار الطريق الأوّل، ولم يكن هناك هذا التحتّم للإمام الحسنعليه‌السلام ، الأمر الذي كان يتحتّم على الإمام الحسينعليه‌السلام

٢٨٠