أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية14%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131709 / تحميل: 10282
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

من اعتقد منهم خطأه، ومن اعتقد منهم صوابه، ما لم يتغيّر الحاكم بظروفٍ أخرى؛ وذلك لأنّ معنى الحاكمية والولاية هو إنفاذ تقديره للأمور، وكون تقديره للأمور هو التقدير المحكم على الأُمّة من دون أن يسمح لكلّ فردٍ من أفراد الأُمّة أن يعمل بتقديره، ويتصرّف حسب تقديره للموقف.

وأمّا الحالة الثالثة وهي: أن يكون الحاكم قائماً على أساس قاعدةٍ هي الإسلام ولكن شخص الحاكم منحرف، كما هو الحال في الخلفاء الذين اغتصبوا الخلافة من الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وإلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ فإنّ الحكم الذي كان هؤلاء يمارسونه كان حكماً قائماً على أساس قاعدةٍ إسلامية، إلاّ أنّ هؤلاء الأشخاص الممارسين لهذا الحكم كانوا متحدِّين بوصفهم، بوجودهم في أكثر الحكم لمقاييس تلك القاعدة ولاعتبارتها في تعيين الحاكم.

فهنا الانحراف في شخص الحاكم ولا انحراف في القاعدة.

ظروف انحراف الحاكم:

وفي هذه الحالة يوجد ظرفان:

الظرف الأوّل : أن يشكّل هذا الانحراف الموجود عند الحاكم خطراً على القاعدة، وأنّها بالرغم من أنّ الحكم قائم على أساس القاعدة إلاّ أنّ بعض ألوان الانحراف وأشكاله وبعض مؤامرات المنحرفين تشكّل خطراً على كيان القاعدة ذاتها.

وأخرى : يفرض أنّ هذا الانحراف بالرغم من كونه خروجاً جزئياً على القاعدة إلاّ أنّه لا يشكّل خطراً على القاعدة وعلى المعالم الرئيسية للمجتمع الإسلامي.

٣٠١

فإن كان هذا الانحراف الذي يمارسه الحاكم ممّا لا يشكّل خطراً رئيسياً على القاعدة ومعالم المجتمع الإسلامي ففي مثل ذلك يتحقّق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بدّ للأمّة أن تمارس حقّها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه، وأيضاً من ناحيةٍ أخرى تمارس حقّها في الدفاع عن حقوقها، لو افترضنا أنّ انحراف الحاكم كان يمسّ حقوق الأُمّة حينئذٍ من حقّ الأُمّة ككلٍّ أن تمارس حقّها الشرعي في الدفاع عن حقوقها، كما أنّ أيّ شخصٍ يتعرّض لظلمٍ من شخصٍ آخر، محاولة سرقة من شخص آخر مثلاً فمن حقّه أن يدافع عن نفسه وعن ماله وعن كرامته في مقابل ذلك، في حدود هذين الحكمين: الحكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحكم بجواز دفع الظلم عن الإنسان.

أمّا إذا افترضنا أنّ هذا الانحراف كان يشكّل خطراً على القاعدة ذاتها وعلى المعالم الرئيسية للشخصية الإسلامية للمجتمع ففي مثل ذلك يصبح الحكم حكماً جهادياً؛ لأنّ الرسالة - في ظلّ انحرافٍ من هذا القبيل - افترضنا أنّها في خطر، وكونها في خطر يعني لزوم الحفاظ عليها مهما كلّف الأمر، فلا بدّ في مثل هذه الحالة من مقاومة انحراف هذا الحاكم في الحدود التي لا بدّ لإيقافه ولتخليص القاعدة الإسلامية من خطر هذا الانحراف.

هذه هي أحكام الحالات الثلاثة التي صنّفها إليها القسم الأوّل.

الإسلام في ضوء الحكم الكافر:

وأمّا القسم الثاني: وهو ما إذا كان الحكم قائماً على أساس قاعدةٍ كافرةٍ، من البدء لم يكن الحاكم يمارس حكمه على أساس الإسلام سواء كان محقّاً أو

٣٠٢

مبطلاً، بل كان يمارس الحكم على أساس نظريةٍ من نظريات الجاهلية البشرية التي وضعها إنسان الأرض، في مثل ذلك يصبح الحكم كافراً، ويصبح الخطر على الإسلام مخيفاً حتماً، ولا يمكن في مثل هذه الحالة أن نفترض ظرفين: أن نفترض ظرفاً يكون الانحراف مهدّداً للإسلام. وظرفاً آخر يكون الإسلام في منجىً من الانحراف. هذا غير ممكنٍ هنا؛ لأنّ معنى أنّ الحكم يقوم على أساس قاعدةٍ من قواعد الجاهلية البشرية، معنى هذا الحكم: أنّه يتبنى هذه القاعدة، ويدافع عن مفاهيمها وأفكارها، ويبشّر بأطروحتها وصيغتها في الحياة، وهذا تعبير آخر عن أنّ هذا الحكم يجنّد كلّ طاقاته وإمكانياته كحكمٍ لإبعاد الأُمّة عن رسالتها الحقيقية، والفصل بينها وبين مفاهيم دينها، وهذا هو الخطر الماحق الذي يهدّد الإسلام، ففي مثل هذا القسم يكون الحكم دائماً مشابهاً للظرف الثاني الذي وجدناه في الحالة الثالثة من القسم السابق.

انسحاب خطّ الإمام عليّعليه‌السلام مؤقّتاً عن الميدان:

على ضوء هذا الفهرست العامّ للأحكام لا بدّ أن نعيش الآن لحظاتٍ مع سيرة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وقد تركنا في المحاضرات السابقة خطّ الحسن وخطّ عليٍّعليه‌السلام ، وقد انسحب عن الميدان وعن المعترك السياسي مؤقّتاً في هدنةٍ أعلنها الإمام الحسنعليه‌السلام ومعاوية، وقد تبيّنا في المحاضرات السابقة أنّه هذه الهدنة كانت نتيجة عجزٍ كاملٍ من قيادة خطّ الإمام عليعليه‌السلام على مواصلة تجربتها وأطروحتها نتيجةً لأسباب متعدّدة، ولتفاقم وتضاعف الشكّ، الشكّ الذاتي لدى الأُمّة الإسلامية والقواعد الشعبية التي كانت تعتمد عليها تجربة الإمام

٣٠٣

عليعليه‌السلام ، هذه القواعد تضاعف باستمرارٍ - ووفق ظروفٍ شرحناها - تضاعف شكّها في هذه القيادة، حتّى أصبحت هذه القيادة غير قادرةٍ على مواصلة خطّ جهادها قبل أن تكشف أعداءها.

ولهذا كان من المحتوم أن يتوقّف العمل السياسي والعسكري الواضح الصريح مدّةً من الزمن لكي تسترجع قيادة الإمام عليعليه‌السلام ثقة الجماهير بها وإيمانها، وأنّها تدافع عن أُطروحة الله في الأرض، تدافع عن رسالة السماء، كان لا بدّ لكي تعبّأ الجماهير، هذه الجماهير التي لم تكن تُعبّأ إلاّ على مستوى الحبّ كان لا بدّ أن تعيش على مستوى الحسّ الأُطروحة المقابلة.

وهكذا كان، وخلال المدّة التي حكم فيها معاوية تكشّفت فيها أُطروحة معاوية، تكشّف فيها أُطروحة هذه الجاهلية التي تزعّمها معاوية بن أبي سفيان، حتّى أنّه في يوم مات فيه معاوية، حينما صعد الضحّاك على المنبر لينعى للمسلمين خليفتهم، وكان يزيد مسافراً، وحينما صعد يزيد نفسه على المنبر ليعلن نبأ وفاة أبيه لم يستطع لا الضحّاك - ولا يزيد بنفسه - أن يمدح معاوية بكلمة واحدة، قال: إنّ معاوية قد مات قد مات ذهب هو وعمله(١) ، يزيد بن معاوية يقول هذا الكلام.

خطّة معاوية لتثبيت حكمه:

معاوية بن أبي سفيان فقد كلّ رصيده الروحي وكلّ المبرّرات الاصطناعية التي كان يحاول تزييفها في نفوس المسلمين، حتّى أنّ وليّ عهده لم يستطع أن

____________________

(١) وقعة الطفّ: ٧٠.

٣٠٤

يترحّم عليه أو أن يشايع عهده بكلمة ثناءٍ واحدة.

معاوية حينما سيطر على العالم الإسلامي نتيجةً للهدنة التي شرحناها، بدأ يعمل من أجل تثبيت أطروحته وخطّه وقيادته؛ قام بعملين:

أحدهما : على مستوى النظرية لطمس معالم النظرية الإسلامية الحقيقية.

وبعملٍ آخر : على مستوى الأُمّة لتمييع الأُمّة وجعلها تتعوّد على التنازل عن وجودها وكرامتها وإراداتها في مقابل الحاكم.

أمّا العمل على المستوى الأوّل ، على مستوى النظريّة، والقضاء على النظرية الإسلامية الحقّة التي كان يمثّلها جناح الإمام عليعليه‌السلام والقواعد الواعية من أبنائه النسبيّين أو الروحيين في الأُمّة الإسلامية، كان يحاول أن يقضي على هذه النظرية عن طريق شراء الأكاذيب من الأشخاص الذين كانوا على استعداد للكذب في الحديث على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن ناحية أخرى: بممارسة ضغطٍ على الآخرين ليسكتوا عن المفاهيم والأفكار التي هي تعبير عن شعار هذه النظرية في الحكم، وعن أسلوبها في القيادة. بعث معاوية إلى ولاته وحكّامه في مختلف أقطار العالم الإسلامي: أنّه برئت الذمّة ممّن يتكلّم بشيء عن خطّ الإمام عليعليه‌السلام (١) .

ومن ناحيةٍ أخرى وضع كلّ وسائل الإغراء والترغيب في سبيل أن يتبارى الكذبة في النقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبريكات رسول الله للوضع المنحرف وللسقيفة ولتبعات السقيفة ولمضاعفات هذه السقيفة، كلّ هذا كان يحاول فيه أن يطمس النظرية ذاتها، لا أن يكون حاكماً فقط، بل أن يشلّ من الأُمّة الإسلامية

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣: ١٥ عن كتاب الأحداث للمؤرّخ المدائني.

٣٠٥

آخر أملٍ في أن ترتبط بأُطروحة صحيحةٍ عن الإسلام، في أن يجعلها تعيش الإسلام في هذا الثوب أو البرقع الذي برقع فيه معاوية جاهليّته والراسب الجاهلي. هذا على مستوى النظريّة.

وأمّا على مستوى الأُمّة فإنّه أيضاً مارس ألواناً كثيرةً من الإذلال للأمّة وتمييع شخصيّتها وصناعة الضغائن والأحقاد القومية والإقليمية والقبلية في داخل العالم الإسلامي، فأشغل هذه الأُمّة القائدة الرائدة التي من المفروض أن تحمل هموم البشرية على وجه الأرض، هذه الأُمّة أشغلها بأرخص الهموم وأتفه الهموم، بأضيق النزاعات والخلافات فيما بينها لكي يواصل حكمه، ولكي يعيش على النحو الذي يحلو له.

وإذا بابن الأُمّة الإسلامية الذي كان يزحف إلى طاغوت كسرى ليقول له: نحن لم نأتِ إليك طمعاً في غنمك ولا في دراهمك ودنانيرك، وإنّما جئنا لأنّ مظلوماً في بلادك نريد أن نخلّصه من الظالم، ولأنّ انحرافاً في بلادك نريد أن نعيده إلى طبيعة التوحيد.

ابن الأُمّة الإسلامية الذي كان يعيش هموم المظلوم في أقصى بلدٍ لم يعرفه ولم يره بعينه هذا ينقلب بين عشيّة وضحاها بفعل هذه المؤامرة إلى شخصٍ لا تهمّه إلاّ الدراهم التي يقبضها في نهاية الشهر أو في السنة ثلاث مرّات، تحوّل رؤساء العشائر في الكوفة ذاتها إلى عيونٍ ورقباء على خطّ الإمام عليعليه‌السلام ، كانوا يشون بشبابهم وأولادهم الذين ينفتحون على خطّ الإمام عليعليه‌السلام فيقادون قسراً إلى القتل والسجن.

هذه هي مؤامرة معاوية بن أبي سفيان على مستوى النظرية وعلى مستوى الأُمّة.

٣٠٦

وكان لا بدّ للإمام الحسينعليه‌السلام أن يتّخذ موقفاً تجاه هاتين المؤامرتين.

موقف الإمام الحسينعليه‌السلام تجاه تآمر معاوية:

موقفهعليه‌السلام على مستوى النظريّة:

أمّا الموقف الذي اتّخذه تجاه المؤامرة الأولى على النظرية: فقد جمع الإمام الحسينعليه‌السلام في أحرج اللحظات وأشدّ الظروف من تبقّى من المهاجرين والأنصار في موقف عرفات، في ذلك الموقف الذي يتورّع فيه أيّ إنسانٍ مسلمٍ اعتياديٍّ عن أن يكذب على الله أو على رسوله، أو أن لا يؤدّي الأمانة كما هي، جمع البقيّة الباقية من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم من حملة تراث محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ووقف فيهم خطيباً، وقال ما مضمونه: إنّ تراث النبيّ وإنّ مفهوم الإمام عليّ يعيش الآن في خطر، وعليكم أن تنقذوا هذا التراث وهذا المفهوم من الخطر، وإنقاذهم ذلك بأن تشهدوا بكلّ ما سمعتم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الخطّ، ولو تحمّلتم في هذا السبيل كلّ ما تحمّلتم من وسائل الإخافة والتهديد والحرمان من قبل طاغوت هذا الزمان(١) .

هؤلاء البقية الباقية من المهاجرين والأنصار الذين استجابوا لدعوة الإمام الحسينعليه‌السلام هدّدهم الإمام الحسينعليه‌السلام وحدّثهم عن هذه المظلومية التي يعيشها خطّ الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهزّهم في موقف عرفات ويوم عرفة الزمان والمكان والشخص، فثار هؤلاء، وانطلقت ألسنتهم بالحديث مع المسلمين، فكان يقف كلّ واحدٍ منهم تلو الآخر وينقل ما يتذكّره وقتئذٍ من أحاديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) الاحتجاج ٢: ٨٧ - ٨٨.

٣٠٧

وكلّ حديثٍ من هذه الأحاديث كانت قيمته الواقعية والنفسية وقيمته الموضوعية أكير بكثيرٍ من مئاتٍ من الروايات التي تنقل في الحالة الاعتيادية؛ لأنّ هذا حديث يتحدّث به إنسان وأمامه جبروت معاوية وسيف معاوية وسيف معاوية وظلم معاوية بن أبي سفيان، بهذا استطاع الإمام الحسينعليه‌السلام أن يثبت معالم النظرية، وأن يرسّخ في أذهان الأُمّة الإسلامية أنّه لا يزال هناك بقية من تراث محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله . يعبّرون عن الخطّ الصالح، ويتحدّون بذلك سيف الحاكم وجبروت هذا الحاكم. هذا على مستوى النظرية.

موقفهعليه‌السلام على مستوى الأُمّة:

موقفه على مستوى الأُمّة: هذه الأُمّة التي شفيت من مرضها الأوّل، أو بدأت تشفى، ولكنّها مُنيت بمرضٍ آخر، مرض الشكّ شفيت منه أو كادت أن تشفى، استطاع الإمام الحسنعليه‌السلام بذلك المعترك السياسي مؤقّتاً أن يعطيها فرصةً لتجد بأمّ أعينها أبعاد المؤامرة وحدودها، وواقع معاوية وما يمثّله معاوية من أفكارٍ ومفاهيم، استطاعت أن تعرف ذلك، فأصبحت الأُمّة الإسلامية تلعن معاوية، وأصبحت تعيش علي بن أبي طالب، ثبت من أعلى(١) كأملٍ، كحكمٍ، كرجلٍ قد مرّ في تأريخ هذه الأُمّة، ثمّ وقعت بعده في أشدّ المصائب والنكبات والويلات، أصبحت تعيش هذه الأزمة تجاه واقعها، وهذه العاطفة تجاه ماضيها، هذا شفيت منه، لم يبق هناك إلاّ أغبياء ممّن في ظنّه أنّ عليّ بن أبي طالب كان يعمل لنفسه، كان يعمل لزعامته، كان يعمل لقبيلته، فأصبح واضحاً أنّ

____________________

(١) كذا في الأصل.

٣٠٨

معركة عليعليه‌السلام مع معاوية كانت معركة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع الجاهلية التي اضطرّت أن تلبس الإسلام ثوباً لها لكي تبرز من جديد على المعترك السياسي. هذا أصبح واضحاً.

إلاّ أنّ الأُمّة نتيجة لمؤامرة ابن أبي سفيان - بعد أن نجحت هذه المؤامرة وبعد أن تنازلت الأُمّة عبر هذه المؤامرة عن وجودها وعن شخصيّتها - مُنيت بمرضٍ آخر، وهذا المرض الذي هو أدهى وأمرّ، هو أنّها فقدت إرادتها وفقدت بذلك أن تقول كلمتها، أصبحت تدرك لكنّها لا تستطيع أن تتخلّص، أصبحت تتألّم لكنّها لا تستطيع أن تنبثق؛ لأنّ هذه الأُمّة رخص عندها كلّ شيء إلاّ حياتها المحسوسة، إلاّ هذه الأنفاس التي تعلو وتهبط، في ذلٍّ وفي عبوديةٍ وفي حرمان، غاية همّ إنسانٍ من هؤلاء أن يحافظ على هذه الأنفاس لكي يصل إلى نهاية الشهر ثمّ يقبض عطاءً عن يدٍ وهو صاغر من عاملٍ من عمّال بني أميّة، ماتت الأُمّة، وماتت الإرادة، وماتت تلك الأُمّة الشامخة التي أعدّها لكي تمثّل خلافة الله في الأرض.

مظاهر موت الضمير وفقدان الإرادة:

وسير وقعة سيّد الشهداء، وسير قصّة الشهداء فيه مئات الشواهد على هذا الموت، على فقدان الأُمّة بفقدان الإرادة، فسيّد الشهداء يعتزم أن يتحرّك، يعتزم أن يسافر من المدينة إلى مكّة، ثمّ يعتزم بعد هذا أن يسافر من مكّة إلى العراق فيتبارى الأشخاص يأتون إليه من كلّ جانب، يأتي إليه عبد الله بن عبّاس(١) ،

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٤٨ - ١٥٠.

٣٠٩

يأتي إليه عبد الله بن جعفر(١) ، يأتي إليه عبد الله بن عمر(٢) ، يأتي إليه نساء بني هاشم(٣) ، يأتي إليه عبد الله بن الزبير(٤) ، يأتي إليه مختلف الأشخاص من مختلف الطبقات يقولون له: الله الله في دمك لا تخرج إنّك تقتل، أصبح القتل شيئاً مخيفاً مرعباً مذهلاً لا يمكن التصوّر فيه.

عبد الله بن جعفر ابن عمّ الحسين من قبيلة الحسين يبعث برسالةٍ إلى الإمام الحسينعليه‌السلام مع ولديه: أرجوك أن تمسك عن الحركة حتّى آتيك، فإنّي آتيك قريباً.

يأتي عبد الله بن جعفر بكتاب أمانٍ من والي يزيد على مكّة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام يستأمنه، يقول للإمام: ما دمت في أمانٍ هنا فلماذا تسافر ؟ !

أصبح الشخص لا يفكّر إلاّ في أن يكون في أمان، أن يكون دمه في أمان وأن يكون ماله المحدود في أمان، ثمّ ماذا عليه ؟! ماذا عليه من الأُمّة ؟! من الإسلام ؟! من الأهداف الكبيرة ؟! من الهموم العظيمة ؟! ما دام هو في أمان، ما دام يعيش في أمانها في ظلّ السلاطين، وهؤلاء الطغاة الجبابرة.

قالعليه‌السلام : أنا لا أعيش في أمانٍ من أمر هذه الأمّة يا عبد الله، فقال: يا سيّدي، أخاف أن تقتل إذا خرجت، قالعليه‌السلام : وإنّي أعلم سوف أُقتل. سكت عبد الله بن جعفر(٥) .

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٥٤.

(٢) أمالي الصدوق، المجلس ٣٠، والملهوف على قتلى الطفوف: ١٧.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ١٥٢.

(٤) وقعة الطفّ: ١٤٧.

(٥) راجع: وقعة الطفّ: ١٥٤ - ١٥٥.

٣١٠

قصّة مسلم شاهد آخر لموت إرادة الأُمّة. مسلم بن عقيل حينما اضطّر إلى مراجعة الأحداث، حينما يجيء عبيد الله بن زياد ويخطّط للاشتباك في معركةٍ مع مسلم ويقضي على مسلم، مسلم خرج إلى الجامع يريد أن يصلّي مع شيعته، تقول الرواية: بأنّ واحداً تلو الآخر من هؤلاء كان ينسحب، يأتي إليه أخوه أو أبوه أو أُمّه أو أُخته تقول: أنت ما عليك وشغل السلاطين ؟! هذا شغل السلاطين، أنت ذاهب إلى عملك، إلى شغلك، إلى كسبك، إلى متجرك، هؤلاء - مسلم وعبيد الله بن زياد - سلاطين فيما بينهم يتعاركون ويتخالفون، أنت ذاهب إلى حظّك(١) .

أصبح الإنسان لا يعيش إلاّ هذا الوضع المحدود، لا يعيش الإنسان إلاّ مصالحه الخاصّة، فكان لا بدّ في وضع من هذا القبيل، ماتت فيه الإرادة، كان لا بدّ فيه من هزّ ضمير الأُمّة وإحياء هذه الإرادة وإعادتها من جديد.

هزّ الضمير وإحياء الإرادة:

وهكذا قرّر الإمام الحسينعليه‌السلام أن يخرج لمواجهة هذه المؤامرة على شخصيّة الأُمّة محاولاً بذلك، لا أن يقضي على السلطان السياسي لبني أُميّة، فإنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان يحتمل أن يوفّق للقضاء على السلطان السياسي لبني أُميّة على ما يبدو من الروايات لمجرّد احتمالٍ بدا لا أكثر، وإلاّ كانت الأخبار العامّة توضّح له بأنّه سوف يقتل، والظروف الموضوعية كانت كلّها توضّح له أنّه سوف يقتل، وكيف يمكنه أن يتغلّب على السلطان السياسي لبني أُميّة وهو يعيش

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٢٥.

٣١١

في أمّة ميّتة ؟

كان لا بدّ لشخصٍ هو أبعد هؤلاء الناس عن الظلم وعن الغبن في مصالحه الشخصيّة، كان لشخصٍ من هذا القبيل أن يثأر لظلم المظلومين؛ لكي يحسّ هؤلاء المظلومين بأنّ هناك هدفاً أكبر من هذه الحدود الصغيرة، الحسينعليه‌السلام لم يعش هذا الظلم الفردي الذي عاشه كلّ مسلمٍ ومسلمة؛ لأنّ الحسينعليه‌السلام كان أعزّ الناس جاهاً وأمنعهم جانباً، ومن أكثرهم مالاً وأوسعهم حياةً، كلّ الدنيا كانت متوفّرةً للحسينعليه‌السلام وكلّ المسلمين كانوا يحوطون الحسينعليه‌السلام بكلّ تجليلٍ وتقديسٍ وتكريم، لم يكن بحاجةٍ إلى جاه وإلى مالٍ وإلى تكريم، لم يكن يعيش أيّ ظلمٍ من بني أُميّة، كان خلفاء بني أُميّة يجاملونه ويدارونه ويخشونه ويخافونه. لكنّه بالرغم من هذا تحرّك ولم يتحرّك أولئك الذين التهبت السياط فوق ظهورهم، تحرّك لكي يحسّ أولئك الذين التهبت السياط فوق ظهورهم أنّهم لا بدّ أن يتحرّكوا.

وقد استطاع الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحاول أن يُشعر الأُمّة باستمرارٍ أنّه يتحرّك وهو يعلم أنّه مقتول، يتحرّك وهو يعلم أنّه يستشهد، في المدينة قال للمحتجّين عليه بأنّه سوف يقتل في مكّة، وقف خطيباً يودّع بيت الله الحرام وقال بأنّه سوف يقتل؛ لكي يجعل الأُمّة تعيش هذه الأسطورة، أسطورة أنّ شخصاً يتقدّم نحو الموت وهو ثابت الجأش، قوي القلب، واضح اليقين في أنّ هذه الطريق يريدها الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن فالموت ليس خطراً إذا كان هذا الموت هو طريق إنقاذ المسلمين، هو طريق تخليص الأُمّة من مؤامرة الجبابرة والطواغيت، كان يشيع في نفوس المسلمين أنّ الموت شيء هيّن في سبيل هذه الأهداف الكبيرة، نعم

٣١٢

أنا سوف أموت، نعم أنا سوف اُقتل على أيّ حال، سوف اُقتل لأنّ هذا طريق واجب، لا بدّ لي أن أسلك هذا الطريق لكي أستطيع بذلك أن أُؤدّي الأمانة. هذا من ناحية.

ومن ناحيةٍ أحكم كلّ ظروف حركته بشكلٍ لا يبعث في ذهن هذه الأُمّة المسلمة المائعة أي نقدٍ في أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام استعجل الظروف، أو أنّه استبق أوانه، تحرّك بحركةٍ ابتدائية بدون مبرّر، حشّد كلّ المبرّرات المنطقية والمعقولة لحركته، لم يكن هناك إنسان يمكنه أن يقول: إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد استعجل الموقف قبل أن يتأكّد من الظروف.

كيف يقال: إنّه استعجل الموقف قبل أن يتأكّد من الظروف وقد بقي في مكّة طويلاً والكتب تأتي ولا يجب عليها، إلى أن اجتمعت عنده آلاف من الكتب، وبعد هذا أيضاً لا يجيب جواباً قاطعاً، يبعث ابن عمّه مسلم بن عقيل، لا يوصيه بقتالٍ، ولا بحرب، وإنّما يوصيه أن يذهب إلى الكوفة ليرى أنّ أهل الكوفة هل هم مزمعون حقيقةً على أن يبايعوا خطّ الإمام عليّعليه‌السلام ، وعلى أي يضحّوا في سبيل خطّ الإمامعليه‌السلام ؟

يذهب مسلم بن عقيل إلى الكوفة، يبقى الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة، حتّى يبعث إليه مسلم بن عقيل مؤكّداً أنّ جميع أهل الكوفة وشيوخ أهل الكوفة قد اتّفقوا على زعامتك وإمامتك وقيادتك وهم لك منتظرون(١) ، كلّ هذه الظروف هيّأها الإمام الحسينعليه‌السلام وصبر حتّى يتهيّأ؛ لكي لا يبقى هناك نقد لمنتقدٍ، لكي لا يقول شخص يريد أن يخلق المبرّرات بأنّ الحسينعليه‌السلام استعجل.

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١١٣.

٣١٣

الحسين لم يستعجل.

من ناحية ثالثة: أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام حشّد كلّ الظروف العاطفيّة في حركته أيضاً؛ كي يستعين بهذه الظروف العاطفيّة في سبيل أن يهزّ ضمير الأُمّة. لعلّ ذاك الشخص لم يفهم، لعلّ عبد الله بن عمر(١) لم يفهم حينما قال له الإمام الحسينعليه‌السلام : إنّي أعلم سوف اُقتل. قال له عبد الله بن عمر يا سيّدي ما بال النسوة ؟ لماذا تأخذ معك حريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال: لأنّ الله أراد أن يراهنّ سبايا(٢) .

ولم تكن هذه الإرادة إرادةً تكوينيّة، وإنّما كانت إرادةً تشريعية، يعني أراد أن يصحب معه النسوة من حريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يشاركن في المحنة، ويشاركن في اعتداء طواغيت بني أُميّة؛ لكي يكون هذا عاملاً مساعداً في هزّ ضمير الأُمّة، هذه الظروف العاطفيّة أيضاً حشّدها باستمرار، وكان يحاول باستمرار أن يستثير كلّ من يجده، حتّى عبد الله بن عمر، حتّى أعداءه وخصومه بعد أن قال:

يا عبد الله بن عمر لا تترك نصرتي(٣) ، يعني: ليست نصرتي بأن تقبّلني(٤) وأن تكرمني، وإنّما نصرتي بأن تمشي في خطّي، بأن تبذل دمك في الخطّ الذي أبذل فيه دمي، أمّا التقبيل، أمّا هذا النوع من التكريم الرخيص هذا ليس له قيمة عند

____________________

(١) الظاهر أنّ هذا الحوار جرى بين الإمام ومحمّد بن الحنفيّة، لا عبد الله بن عمر.

(٢) بحار الأنوار ٤٤: ٣٦٤، تاريخ الحسين بن عليّعليه‌السلام ، الباب ٣٧، باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس الناس ليزيد.

(٣) الملهوف على قتلى الطفوف لابن طاووس: ١٧، وفيه: يا أبا عبد الرحمن اتّقِ الله ولا تدعنّ نصرتي !

(٤) أمالي الصدوق، المجلس ٣٠.

٣١٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يحاول أن يهزّ ضمير الأُمّة، يهزّ ضمير كلّ فردٍ من أفراد الأُمّة، لكنّ الأُمّة كانت في سبات، هذه الأُمّة التي ماتت إرادتها.

عبيد الله بن الحرّ الجعفي الذي وصل إلى منزلٍ من المنازل وكان الإمام الحسينعليه‌السلام في ذلك المنزل، واطّلع الإمام الحسينعليه‌السلام على أنّ عبيد الله بن الحرّ الجعفي، وعبيد الله بن الحرّ الجعفي له سوء سابقة في تأريخ جهاد الإمام عليعليه‌السلام ، لكنّ الإمام الحسينعليه‌السلام حاول أن يهزّ ضميره، بعث إليه برسول. ذهب رسول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى عبيد الله بن الحرّ الجعفي قال له: جئتك بالكرامة، جئتك بكرامة لا يوجد فوقها كرامة بأن تستشهد بين يدي ابن رسول الله، إنّ الحسين يدعوك لنصرته، والاستشهاد بين يديه فظهر الغضب في وجه عبيد الله ابن الحرّ الجعفي والضيق وقال: إنّي خرجت من الكوفة خوفاً من أن يأتي الحسين وأن تقوم المعركة، ويتأزّم حينئذٍ موقعي، خرجت فراراً من أن أعيش هذه اللحظة التي جعلتني أعيشها الآن، ثمّ اعتذر من الاستجابة للإمام الحسينعليه‌السلام .

الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكتفِ بهذا، قام بنفسه وجاء إلى عبيد الله بن الحرّ الجعفي يستصرخه ويطلب منه، ويحاول أن ينفذ إلى أعماقه، أن يحرّك ضميره ووجدانه، أن ينبّهه إلى الأخطار التي تكتنف الرسالة والإسلام، يقول الناقل: ما رقّ قلبي كما رقّ يومئذٍ والحسينعليه‌السلام حوله الصبية من أطفاله يطوفون به، ويمشي إلى عبيد الله بن الحرّ الجعفي يستصرخه ويناديه، فيعتذر عبيد الله بن الحرّ يقول له: هذه فرسي خذها بدلاً عنّي.

يقولعليه‌السلام إنّي لست بحاجةٍ إلى فرسك، إن كنت قد بخلت بدمك على الإسلام فلا حاجة في فرسك، لكن عندي وصيّة قال: وما الوصيّة ؟

٣١٥

قال: إن قدرت على أن لا تسمع واعيتنا فافعل؛ لأنّه ما سمع واعيتنا شخص ثمّ لم ينصرنا إلاّ أكبّه الله على وجهه يوم القيامة في جنّهم(١) .

وهذه الواعية واعية الإمام الحسين، واعية الإسلام، لأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام استشهد في سبيل الإسلام، ولم يكن يعيش تلك اللحظة إلاّ للإسلام، فواعية الإمام الحسينعليه‌السلام هي واعية الإسلام، والأخطار التي كان من أجلها يضحّي الإمام الحسينعليه‌السلام وقتئذٍ هي الأخطار التي تعيشها الأُمّة الإسلامية عبر كلّ هذه القرون إلى يومنا هذا.

قتل الإمام الحسينعليه‌السلام واستشهد في سبيل الحيلولة دون الأخطار التي عاشها المسلمون ويعيشونها إلى يومنا هذا.

إنّ واعية الحسينعليه‌السلام لم تنقطع يوم عاشوراء، إنّ واعية الحسينعليه‌السلام حيث إنّها واعية رسالية، وليست واعية شيخ عشيرةٍ أو قبيلة، فواعية الرسالة لا تنقطع ما دامت الأخطار تكتنف هذه الرسالة، وقد قال هذا الإمام الشهيد الصادق: إنّه ما سمع واعيتنا شخص ولم ينصرنا إلاّ أكبّه الله على وجهه يوم القيامة.

نحن يجب علينا أن نعرف أنّ هذه الواعية نواجهها اليوم كما واجهها عبيد الله بن الحرّ الجعفي. إن لم نواجهها من فم الحسينعليه‌السلام فنواجهها من دم الحسين، ومن تأريخ الحسين ومن بطولة الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء ومواقفه المتعدّدة. نواجه هذه الواعية من كلّ الأخطار التي تكتنف الرسالة، وتكتنف الإسلام، وتكتنف الأُمّة الإسلامية من كلّ صوبٍ وحدب، كلّ هذا

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٧٦.

٣١٦

الضياع في القيم والأخلاق في المبادئ والمثل، كلّ هذا التمييع كلّ هذا هو واعية الإسلام.

نحن نواجه هذه الواعية في كلّ مكان، في كلّ زمانٍ من كلّ صوب وحدب.

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام حينما ثار حينما بدأ يبذل دمه في سبيل الإسلام لأن يواجه بداية خطٍّ من الانحراف، هذا الخطّ نحن الآن نعيش قمّته، نعيش أمّته، نعيش كلّ تصوّراته، كلّ أبعاده.

إذن فواعية الإسلام اليوم أوسع وأكبر، ونحن وأيّ فردٍ من المسلمين لا يزال اليوم مدعوّاً كما كان عبيد الله بن الحرّ الجعفي مدعوّاً أنّ يغضّ النظر عن مصالحه عن وجوده، عن كيانه، عن شهواته، عن رغباته الشخصية في سبيل أن يساهم في إنقاذ الإسلام، في إنقاذ المسلمين، في إعادة الإسلام إلى الحياة، في رفع هذا الوهن عن وجود المسلمين وعن كرامات المسلمين.

إنّ كلّ مسلمٍ قادر على أن يساهم في هذه العلمية بقليلٍ أو كثيرٍ في حدود إمكانيّاته وقابلياته.. المساهمة ليس شكلها الوحيد حمل السيف، وحمل السيف لا يمكن أن يكون إلاّ بعد مساهمات طويلة الأمد.

إذن فهناك نوع من المساهمة قبل حمل السيف، ولو أنّ كلّ واحد منّا يقول بأنّي لا أستطيع أن أحمل السيف إذن فأنا لا تكليف عليَّ، ولا مسئولية عليّ، فمعنى هذا أنّه سوف لن يمكن حمل السيف في يوم من الأيام، إنّ حمل السيف هو شكل من أشكال المساهمة، وهو شكل أعلى من أشكال المساهمة، ولا يمكن أن يوجد هذا الشكل فجأة، لا بدّ لكلّ واحد مسلم أو مسلمة أن يساهم بقدر إمكانه وظروفه الفكرية العلمية والاجتماعية في جواب هذه الواعية، في الردّ على هذه الواعية، في إنقاذ هذا الجرح الذي يضرب في كلّ يوم

٣١٧

ويستهزأ منه في كلّ يوم، وتتحدّى أحكامه في كلّ يوم وتضرب تشريعاته عرض الحائط في كلّ يوم.

اللهمّ اجعلنا من شيعة الإمام الحسين والسائرين في خطّه والمجيبين لواعيته.

٣١٨

التخطيط الحسيني

لتغيير أخلاقيّة الهزيمة

٣١٩

٣٢٠

فقام اسيد بن حضير ـ وهو ابن عم سعد بن معاذ ـ وقال : كذبت والله لنقتلنّه وأنفك راغم. فانك منافق تجادل عن المنافقين ، والله لو نعلم ما يهوى رسول الله من ذلك في رهطي الأدنين ما رام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكانه حتى آتيك برأسه ، ولكني لا أدري ما يهوى رسول الله.

ثم تغالظوا ، وقام آل الخزرج من جانب ، وآل الأوس من جانب آخر ، وكادوا أن يشتبكوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر ، فأشار رسول الله إلى الحيّين جميعا أن اسكتوا ، ونزل عن المنبر فهدّأهم وخفضهم حتى انصرفوا ...

هذا القسم من القصة المذكورة في رواية البخاري غير صحيح ، ولا يتلاءم مع التاريخ الثابت الصحيح لأن « سعد بن معاذ » كان قد مات بعد إصدار حكمه في بني قريظة متأثرا بجرح أصابه في معركة « الاحزاب » ، وقد وقعت حادثة « الإفك » بعد واقعة بني قريظة ، وقد صرّح البخاري نفسه بهذا في صحيحه ( ج ٥ ص ١١٣ ) في باب « معركة الاحزاب وبني قريظة » ، فكيف يمكن والحال هذه أن يحضر مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجادل سعد بن عبادة في قصة الإفك التي وقعت بعد واقعة بني قريظة بعدة شهور؟!(١)

لقد ذهب المؤرخون الى أن معركة الخندق ثم واقعة بني قريظة وقعتا في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، فتكون النتيجة ان قضية بني قريظة انتهت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة ، وقد توفي سعد بن معاذ في أعقاب هذه الحادثة مباشرة لمّا انفجر به جرحه(٢) في حين وقعت غزوة بني المصطلق في شهر شوال

__________________

القبيلتين منافسة قديمة ، وكان « عبد الله بن أبي » خزرجيا ، فاعتبر « سعد بن عبادة » كلام « سعد بن معاذ » تعريضا بالخزرج وحطا من شأنهم.

(١) نفس المصدر السابق ، والجدير بالذكر أن ابن هشام لم يذكر في سيرته « سعد بن معاذ » ، ولكنه روى جدال اسيد مع سعد بن عبادة راجع السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٠٠ ، وهكذا فعل ابن الاثير في الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٣٤ ، ولكن المغازي ذكر القصة كاملة ، واتى باسم سعد بن معاذ راجع : ج ٢ ص ٤٣١.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٥٠.

٣٢١

من السنة السادسة(١) .

أجل إنّ ما هو مهمّ في المقام هو أن نعرف أنّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس ، ويبلبلها ببهت امرأة صالحة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي يومذاك.

وقد فسر قوله : « الّذي تولى كبره » أي الذي تحمل القسط الاكبر من هذه العملية الخبيثة بعبد الله بن ابي ، فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة والخطرة كما صرحت بذلك عائشة نفسها أيضا.

الرواية الاخرى في سبب النزول :

وتقول هذه الرواية أن الآيات الحاضرة نزلت في « مارية القبطيّة » زوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووالدة إبراهيم.

فان هذه الرواية تقول : لما مات إبراهيم بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزن عليه حزنا شديدا ، فقالت عائشة : ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلاّ ابن جريح ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا صلوات الله عليه وأمره بقتله ، فذهب علي صلوات الله عليه ومعه السيف ، وكان جريح القبطي في حائط ( أي بستان ) ، فضرب « علي » باب البستان ، فأقبل جريح له ليفتح الباب ، فلما رأى عليّا صلوات الله عليه ، عرف في وجهه الغضب ، فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان ، فوثب عليعليه‌السلام على الحائط ونزل إلى البستان ، وأتبعه ، وولّى جريح مدبرا ، فلما خشي أن يرهقه ( أي يدركه ) صعد في نخلة وصعد « علي » في أثره ، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة ، فبدت عورته ، فاذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء ، فانصرف عليّعليه‌السلام إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٧ ، ولعلّه فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ ، بينما غفل عنها البخاري في صحيحه ، راجع شروح البخاري منها : فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر : ج ٨ ص ٤٧١ و ٤٧٢ للوقوف على اضطراب الشرّاح في معالجة هذا التناقض.

٣٢٢

فقال له : يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبّت؟

قال : لا بل تثبت.

قال : والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء.

فقال : الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.

وهذه الرواية التي نقلها « المحدث البحراني » في « تفسير البرهان » ج ٢ ص ١٢٦ ـ ١٢٧ و « الحويزي » في تفسير « نور الثقلين » ج ٣ ص ٥٨١ ـ ٥٨٢ ضعيفة وغير مستقيمة من حيث المفاد ، وهو ضعف ظاهر لا يحتاج الى البيان ولذلك.

ومن هنا لا يمكن القبول بها في شأن نزول هذه الآيات.

فالمهم هو وقوع أصل هذه الحادثة ، كان من كان المتّهم في هذه الحادثة.

٣٢٣

٤٢

رحلة سياسيّة دينيّة

كانت السنة الهجرية السادسة بكل حوادثها المرة والحلوة تقترب من نهايتها عند ما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام أنه دخل البيت ( الكعبة ) وحلق رأسه ، وأخذ مفتاح البيت ، وعرّف مع المعرفين ، فقصّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الرؤيا على أصحابه وتفاءل به خيرا(١) .

ولم يلبث أن أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة ، ودعا القبائل المجاورة التي كانت لا تزال على شركها وكفرها الى مرافقة المسلمين في هذه السفرة ، ولهذا شاع في جميع أنحاء الجزيرة العربية أن المسلمين سيتجهون في شهر ذي القعدة صوب مكة يريدون العمرة.

ولقد كانت هذه السفرة الروحانية تنطوي ـ مضافا إلى العطاء الروحاني والمعنوي ـ على مصالح اجتماعية وأهداف سياسية ، فقد عززت مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربية ، وتسببت في انتشار دين التوحيد في أوساط المجتمع العربي آنذاك ، وذلك :

أولا : لأنّ القبائل العربية المشركة كانت تتصوّر أن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخالف كل عقائد العرب ، وتقاليدهم الشعبية ، والدينية حتى فريضة الحج ، والعمرة التي كانت تعد من ذكريات الاسلاف ومواريثهم.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ١٢٦.

٣٢٤

من هنا كانوا يخافون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتوجسون خيفة من دينه ، وعقيدته ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استطاع في هذه المناسبة ـ باشتراكه ، واشتراك أصحابه في مراسيم العمرة أن يخفف هذا الخوف لدى القبائل المشركة إلى حدّ كبير ، وأن يوضح بعمله أنّ رسول الإسلام لا يعارض زيارة بيت الله الحرام ، والفريضة المذكورة التي تعد من طقوسهم الدينية ، وتقاليدهم المذهبية ، بل يعتبرها فريضة مقدسة ، فهو مثل والد العرب الاكبر « إسماعيل بن إبراهيم الخليل »عليهما‌السلام يعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية ، وبهذا استطاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستقطب قلوب من كان يتوهم أن رسالة « محمّد » ودعوته ، ودينه يعارض جميع شئونهم وتقاليدهم وأعرافهم الدينية ، والشعبية ، ويخالفها مخالفة مطلقة ، ويقلّل من خوفهم ، واستيحاشهم.

ثانيا : إذا استطاع المسلمون أن يحرزوا في هذا السبيل نجاحا ، ويؤدوا مناسك العمرة في المسجد الحرام بحرية ، أمام أعين الآلاف من المشركين ، فان عملهم هذا بنفسه سيكون تبليغا ناجحا للإسلام ، لأن أخبار المسلمين ستنتشر بواسطة المشركين الذين قدموا مكة من جميع المناطق لاداء مناسك العمرة ، فسيحملون أنباء ما رأوه وشاهدوه من أفعال المسلمين الرشيدة ، وأخلاقهم الفاضلة ، إلى أوطانهم لدى عودتهم من مكة إلى بلادهم ، وبهذا ينتشر نداء الإسلام في تلكم المناطق التي لم يستطع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يبعث إليها الدعاة والمبلغين حتى ذلك الحين ، ويترك هذا الأمر أثره المطلوب.

ثالثا : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكّر الناس في المدينة بحرمة الأشهر الحرم وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأمر المسلمين بأن لا يحملوا معهم من الاسلحة شيئا إلاّ السيف الذي يحمله كل مسافر معه.

ولقد جلب هذا الامر عواطف كثير من الغرباء عن الإسلام نحو هذا الدين ، وغيّر من نظرتهم السلبية تجاه دعوة الإسلام ، لأنهم شاهدوا بام أعينهم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرّم القتال في هذه الاشهر ، ويدافع بنفسه عن

٣٢٥

هذه السنّة الدينية القديمة ويدعو إلى رعايتها خلافا لكل الدعايات التي كانت تبثها قريش عن أن الاسلام لا يحترم هذه الأشهر ، ويجيز الاقتتال وسفك الدماء فيها.

لقد فكر القائد الاسلاميّ مع نفسه بانه لو أصاب المسلمون في هذا السبيل أيّ نجاح ، فانهم يكونون قد حققوا أملا قديما من آمالهم التي طالما تشوقوا إلى تحقيقها.

كما أنه سوف يستطيع المهاجرون الذي طال بعدهم عن وطنهم ، وأهليهم ، أن يزوروا ذويهم وأقربائهم. هذا إذا سمحت قريش لهم بدخول مكة.

وأمّا إذا منعتهم قريش عن الدّخول في الحرم فان مكانة قريش ستتعرض ـ حينئذ ـ لخطر السقوط في العالم العربي ، وسيلومهم العرب على ذلك ، لأن جميع ممثلي القبائل العربية المحايدة سترى كيف عاملت قريش جماعة مسالمة أرادت دخول مكة لأداء مراسيم العمرة ، وزيارة الكعبة المعظمة ، ولا تحمل معها أيّ سلاح إلاّ ما يحمله المسافر في سفره عادة ، في حين يرتبط المسجد الحرام بالعرب كافة ، وانما تقوم قريش بمجرّد سدانته ، وادارة شئونه.

وهنا تتجلى حقانية المسلمين بشكل واضح ، ويتضح عدوان قريش وينكشف للجميع بطلان مواقفها ، فلا تستطيع قريش بعد ذلك أن تواصل تأليبها للقبائل العربية ضدّ الإسلام ، وعقد تحالفات عسكرية واتحاد نظاميّ مع قواها المحاربة المسلمين لانها قد منعت الزوّار المسلمين أمام أعين الآلاف من الحجيج والزائرين من حقهم المشروع.

لقد لا حظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ هذه الجوانب وغيرها فامر المسلمين بالتوجّه نحو مكة ، وأحرم الف واربعمائه(١) أو الف وستمائة(٢) أو الف وثمانمائة(٣) في « ذي الحليفة » وقلّد سبعين بدنة ( بعيرا ) وبهذا أعلن عن هدفه من تلك الرحلة.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٠٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٢ ص ٢٨٨.

(٣) روضة الكافي : ص ٣٢٢.

٣٢٦

ولقد أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينا له ليخبره عن قريش إذا وجدهم في أثناء الطريق.

ولما كان رسول الله بعسفان ( وهي منطقة بين الجحفة ومكة ) أتاه رجل خزاعيّ كان يتقصى الاخبار لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فعاهدوا الله أن لا تدخلها أبدا وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم ( وكانوا مائتين ) قد قدّموها الى كراع الغميم. ( وهي موضع بين مكة والمدينة أمام عسفان بثمانية أميال ).

فلما سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعزم قريش على منعه ومنع اصحابه من العمرة قال :

« يا ويح قريش ، لقد أكلتهم الحرب ما ذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فان هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظنّ قريش ، فو الله لا أزال اجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله به ، أو تنفرد هذه السالفة(١) ( أي أقتل أو أموت ).

ثم طلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يدلّه على طريق آخر غير الطريق الذي هم بها لكي يتجنب مواجهة طليعة قريش بقيادة « خالد بن الوليد ».

فتعهّد رجل من بني أسلم بذلك فسلك برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه طريقا وعرا كثيرة الحجارة بين شعاب حتى انتهوا إلى منطقة سهلة تدعى بالحديبية ، فبركت هناك ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما هذا لها عادة ، ولكن حبسها حابس الفيل بمكة »(٢) .

ثم أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس أن ينزلوا في ذلك المكان فنزلوا.

__________________

(١) السالفة : صفحة العنق ، وكنى بهذه الجملة عن الموت لأنّها لا تنفرد عمّا يليها الاّ بالموت.

(٢) بحار الانوار : ج ٢٠ ص ٣٢٩ وغيره. وقد أشار بهذا الكلام إلى واقعة الفيل.

٣٢٧

ولما علمت طليعة قريش بمسير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لحقت به ، حتى اقتربت منه وحاصرت موكبه ورجاله فكان على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذا أراد أن يواصل سيره باتجاه مكة ان يخترق صفوف رجال قريش ، فيسفك دماءهم ، ويعبر على أجسادهم ، وحينئذ كان الجميع يرى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يهدف العمرة والزيارة بل يريد الحرب والقتال ، فكان مثل هذا العمل يسيء إلى سمعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويضر بهدفه السلميّ.

ثم إن قتل هؤلاء النفر من طليعة قريش لا يزيل جميع الموانع من طريقه ، لأن قريشا كانت تبعث بإمدادات مستمرة ، ولم يكن لينته إلى هذا الحدّ.

هذا مضافا إلى أن المسلمين ما كانوا يحملون معهم حينذاك ـ إلاّ ما يحمله المسافر العاديّ من السلاح ، ومع هذه الحال لم يكن القتال أمرا صحيحا ، وحكيما بل كان يجب ان تحلّ المشكلة عن طريق التفاوض.

ولهذا عند ما نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المنطقة قال :

« لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها »(١) .

ولقد بلغ كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا مسامع الناس ، وكان من الطبيعي أن يسمع به العدو أيضا ، ولهذا بعثوا برجال من شخصيّاتهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتعرفوا على هدفه الاصلي من هذا السفر.

مندوبو قريش عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

بعثت قريش بعدة مندوبين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتعرفوا على مقصده وهدفه في هذا السفر.

وكان أول أولئك المبعوثين هو : « بديل بن ورقاء الخزاعي » الذي أتى

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٧٠ ـ ٢٧٢.

٣٢٨

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجال من خزاعة فكلّموه نيابة عن قريش وسألوه : ما الذي جاء به؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إنّا لم نجيء لقتال أحد ، ولكنّا جئنا معتمرين ».

فرجعوا إلى قريش وأخبروهم بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يات لقتال وإنما جاء معتمرا زائرا لبيت الله ، ولكن قريشا لم يصدقوهم وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

ثم بعثوا « مكرز بن حفص » فسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سمعه سابقه ، فعاد وصدّق ما أخبر بديل قريشا به ، ولكن قريشا لم تصدق مكرزا أيضا كما لم تصدّق سابقه.

فبعثت في المرة الثالثة الحليس بن علقمة(١) وكبير رماة العرب ، لحسم الموقف ، فلما رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقبلا قال :

« إن هذا من قوم يتألّهون ( أي يعظمون أمر الله ) فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ».

فلما رأى الحليس ، الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محلّه ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعظاما لما رأى ، فقال لهم : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا الّذي عاقدناكم ، أيصدّ عن بيت الله من جاء معظما له وقد ساق الهدي معكوفا إلى محلّه؟! ، والذي نفس الحليس بيده لتخلّنّ بين محمّد وما جاء له ، أو لأنفّرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد ، وهكذا امتنع الحليس من مواجهة رسول الله بالقوة واستخدام العنف معه لصده ، وقد لاحظ بأم عينيه ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين لا يريدون إلاّ العمرة والزيارة لا القتال

__________________

(١) لقد جاء الحليس إلى النبي بعد عروة الثقفي حسب رواية الطبري في تاريخه : ج ٢ ص ٢٧٦.

٣٢٩

والحرب ، بل عاد يهدد قريشا اذا هي أرادت صدّه عن ذلك.

فشق هذا الكلام وهذا التهديد على قريش وخافوا من مخالفته ، فقالوا : مه ، كفّ عنا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثمّ بعثوا أخيرا « عروة بن مسعود الثقفي » وكان رجلا لبيبا تطمئن قريش إلى درايته وحكمته وخيره وكان لا يحبّ أن يمثّل قريشا في هذه المفاوضات لما رآه من معاملتهم مع الممثلين السابقين ، ولكن قريشا تعهدت له بان تقبل بما تقول ، وأعلنت له عن ثقتها الكاملة به ، وبما سيخبر به ، وبأنه غير متّهم عندهم.

فخرج من عندهم حتى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلس بين يديه ثم قال : يا محمّد جمعت أو شاب الناس ( أي أخلاطهم ) ثم جئت بهم إلى أهلك وقبيلتك ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وأيم الله لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا ، ( أو قال : أن يفرّوا عنك ويدعوك ).

وعند ما بلغ ابن مسعود في كلامه إلى هذا قال له أبو بكر وكان جالسا خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنحن ننكشف عنه ، وندعه؟

لقد كان « عروة » كأيّ دبلوماسيّ ماكر ، يحاول إضعاف معنويات أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامه ، وروغانه.

وأخيرا انتهت المباحثات دون جدوى. وهنا جعل « عروة » يتناول لحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ازدراء بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمغيرة بن شعبة ـ وكان واقفا على رأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقرع يده إذا تناول لحية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول اكفف يدك عن وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن لا تصل إليك.

فسأل عروة : يا محمّد من هذا؟ فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ( ويبدو أن جميع من كان حول النبي آنذاك أو بعضهم كانوا مقنعين رعاية للظروف الأمنية ).

٣٣٠

فغضب عروة وقال : « أي غدر ، وهل غسلت سوءتك إلاّ بالأمس » وكان المغيرة قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف فودى عروة المقتولين وأصلح الأمر.

فقطع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام على عروة وقال له مثل ما قال لبديل ورفيقيه ، وأنه لم يات يريد حربا ، بل جاء يريد العمرة ، ولاجل أن يرى عروة مكانته بين أصحابه وأتباعه ، قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضأ أمامه ، فرأى عروة بام عينيه كيف أنه لا يتوضّأ إلاّ وتسابق أصحابه على التقاط القطرات المتناثرة من وضوئه ، فرجع إلى قريش وقال لهم : يا معشر قريش إنّي قد جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشيّ في ملكه ، وإنّي والله ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمّد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء قط فروا رأيكم(١) .

رسول الله يبعث مندوبا الى قريش :

لم تثمر الاتصالات التي جرت بين مبعوثي قريش ، وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان من الطبيعي أن يتصور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ مبعوثي قريش لم يستطيعوا نقل هدفه إلى قريش ، وإسماعهم الحقيقة ، وأن اتهامهم لهم بالجبن والكذب منعهم من قبول ما قد أخبروا به ، ولهذا قرّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث هو مندوبا عنه إلى رءوس الشرك ليوضّح لهم هدف رسول الاسلام من هذا السفر ، وأنه ليس إلاّ زيارة بيت الله وأداء مناسك العمرة لا غير.

فاختار رجلا لبيبا حازما من بني خزاعة يدعى « خراش بن اميّة » فبعثه إلى قريش بمكّة وحمله على بعير يقال له « الثعلب ». ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له من

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٥٩٨ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٨٧.

٣٣١

الزيارة والعمرة ، فدخل مكة ، وبلّغ سادة قريش رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن قريشا ـ خلافا لكل الأعراف الدولية والاجتماعية قديما وحديثا. والقاضية بحصانة السفراء وضرورة احترام كل مما يمت إليهم بصلة من ممتلكاتهم عمدت الى جمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي امتطاه سفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكة فعقروه عدوانا ، وكادوا أن يقتلوا سفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، ولكن وساطة جماعة من قادة العرب ادت إلى أن تخلّي قريش سبيله حتى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إن هذا العمل الدنيء أثبت ـ بوضوح ـ أن قريشا لم تكن تريد السلام بل كانت دائما في صدد اشعال قتيل الحرب.

ولم تلبث قريش أن كلّفت خمسين رجلا من فتيانها بالطواف بعسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية أخذ شيء من أمواله ، أو أسر بعض أصحابه لو أتيح لهم ذلك ، ارعابا للمسلمين وتخويفا لهم. ولكن هذه الخطة فشلت فشلا ذريعا ، فان هؤلاء لم يصيبوا شيئا بل أسرهم المسلمون جميعا وأتى بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعفا عنهم ، وخلّى سبيلهم مع أنهم كانوا قد رموا في عسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحجارة والنبل.

وبهذا ثبت رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة اخرى أنه يحب السلام ويسعى إليه ، وانه جاء معتمرا لا معتديا ولا محاربا(١) .

النبي يبعث سفيرا آخر الى قريش :

رغم كل هذه الامور ورغم كلّ التصلّب والتعصّب الذي أبدته القيادة القرشية المشركة ضدّ الاسلام والمسلمين وضد محاولات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلميّة لم ييأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تحقيق السلام

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٧٨.

٣٣٢

فقد كان يريد ـ واقعا ـ أن يعالج المشكلة من طريق المفاوضات ، ومن طريق تغيير التصورات التي كان يحملها اشراف قريش وسادتها المتعنتين المتصلبين عن رسول الله ودعوته.

ومن هنا كان يجب هذه المرّة أن يختارصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا لم تخض يده في دماء قريش ، ولهذا لم يصلح « علي بن أبي طالب » ولا « الزبير » ولا غير هم من فرسان الاسلام وشجعانه الذين جالدوا صناديد قريش في ميادين القتال وأردوا فريقا منهم صرعى ، لمثل هذه السفارة ، وهذه المهمة.

ولهذا تقرر ـ بعد التأمل. انتداب « عمر بن الخطاب » لهذه المهمة ، أي الذهاب الى مكة ، والتحدث الى سادة قريش ، ورؤسائها ، لأنه لم يكن قد أراق من المشركين حتى ذلك اليوم ولا قطرة دم ، ولكن « عمر » اعتذر عن تحمل هذه المسئولية ، والقيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر قائلا : يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عديّ ( وهم عشيرته ) من يمنعني ، ولكني ادلّك على رجل أعزّ بها مني ، « عثمان بن عفان ». ( لكونه أمويا بينه وبين أبي سفيان زعيم قريش قرابة )(١) .

فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عثمان بن عفان » فبعثه إلى « أبي سفيان » وأشراف قريش ، ليخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه انما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.

فخرج عثمان الى مكة ، فلقيه « أبان بن سعيد بن العاص » حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانطلق « عثمان » حتى أتى أبا سفيان وأشراف قريش فبلغهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ،

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣١٥.

٣٣٣

فامتنع عثمان عن الطواف احتراما لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثم إن قريشا احتبست عثمان عندها ، ولعلّهم فعلوا ذلك ريثما يتوصلوا إلى حلّ ثم يطلقوه ليبلّغ الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيهم.

بيعة الرضوان :

إلاّ أن إبطاء مبعوث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن العودة من مكة أوجد قلقا شديدا في نفوس المسلمين ، خاصّة وأنه شاع أن عثمان قد قتل ، فثارت ثائرة المسلمين ، واستعدّوا للانتقام من قريش وعمد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا إلى مخاطبتهم قائلا :

« لا نبرح حتى نناجز القوم ».

وذلك تقوية لارادة المسلمين ، وتحريكا لمشاعرهم الطاهرة.

وفي هذه اللحظات الخطيرة ، وفي ما كان الخطر على الابواب ، وبينما لم يكن المسلمون متهيئين للقتال قرر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجدّد بيعته مع المسلمين.

فجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت شجرة ، وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحدا واحدا ، ويحلفون له أن لا يتخلوا عنه أبدا ، وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير ، وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة « الرضوان » التي جاء ذكرها في قوله تعالى :

«لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً »(١) .

فاتضح موقف المسلمين بعد هذه البيعة ، فإمّا أن تسمح لهم قريش بدخول مكة لزيارة بيت الله المعظّم ، وإمّا أن تتصلّب في موقفها الرافض فيكون بينهم

__________________

(١) الفتح : ١٨.

٣٣٤

القتال والحرب(١) .

وبينما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحال اذ طلع عليهم « عثمان بن عفان » ، وكان ذلك بنفسه طليعة سلام كان يريده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأخبر عثمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الذي يمنع قريشا من السماح لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدخول مكة هو اليمين التي الزموا بها انفسهم أن لا يدعوه يدخل مكة هذا العام وانهم سيبعثون إليه من يتفاوض معه بهذا الشأن.

سهيل بن عمرو يفاوض رسول الله :

بعثت قريش ـ في المرة الخامسة ـ « سهيل بن عمرو » الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كلّفته بانهاء المشكلة ضمن شروط خاصّة سنقرؤها في ما يأتي.

فأقبل « سهيل بن عمرو » على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما رآه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فلما انتهى « سهيل » إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكلّم في المسألة كما يتكلّم أي دبلوماسيّ بارع ، فقال وهو يحاول إثارة عواطف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاسيسه :

يا أبا القاسم إن مكة حرمنا وعزّنا ، وقد تسامعت العرب بك إنك قد غزوتنا ومتى ما تدخل علينا مكة عنوة تطمع فينا فنتخطّف ، وإنا لنذكّرك الحرم ، فان مكة بيضتك التي تفلّقت عن رأسك.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فما تريد »؟

__________________

(١) ولقد كان لهذه البيعة في نفسها أثرا سياسيا مهما في نفس العدو ، يقول الواقدي : فلما رأت عيون قريش سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية ( ج ٢ ص ٦٠٤ ). وراجع امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٩١ أيضا.

٣٣٥

قال : اريد أن أكتب بيني وبينك هدنة على أن اخلّيها لك في قابل(١) فتدخلها ، ولا تدخلها بخوف ولا فزع ، ولا سلاح إلاّ سلاح الراكب ، السيف في القراب.

فقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعقد مثل هذا الصلح.

وهكذا أدّت مفاوضات « سهيل » مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عقد صلح شامل وواسع بين قريش وبين المسلمين.

ولقد تشدد « سهيل » في شروط هذا الصلح كثيرا ، حتى كاد أن ينتهي هذا التشدّد إلى قطع المفاوضات أحيانا ، ولكن حيث إن الطرفين كانا يرغبان في الصلح والموادعة ، لهذا كانا يستأنفان التحاور والتفاوض مرة اخرى ، بعد كلّ أزمة تطرأ على المباحثات.

وأخيرا انتهت مفاوضات الجانبين ـ رغم كل ما أبداه مندوب قريش من التصلّب ـ الى عقد وثيقة موادعة وهدنة نظّمت في نسختين ووقع عليها الجانبان.

ويروي كافّة المؤرخين وأرباب السير أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استدعى عليّاعليه‌السلام ، وامره أن يكتب تلك الوثيقة قائلا له : اكتب « بسم الله الرحمن الرحيم » فكتب « عليّ » ذلك فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن أكتب : باسمك اللهم!!

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب : باسمك اللهم وامح ما كتبت.

ففعل « علي » ذلك.

ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أكتب « هذا ما صالح عليه رسول الله سهيل بن عمرو ».

فقال سهيل ، لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة فامح هذا الاسم واكتب : محمّد بن عبد الله ( أو قال : لو شهدت انك رسول الله لم اقاتلك.

__________________

(١) أي افرغ لك مكة في العام القادم لتدخلها.

٣٣٦

ولكن أكتب اسمك واسم ابيك ).

ولم يرض بعض من حضر من المسلمين في هذه النقطة بأن يرضخ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمطالب « سهيل » الى هذه الدرجة ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يلاحظ مصالح عليا غفل عنها ذلك البعض كما سنذكرها فيما بعد رضي بمطلب « سهيل » ، وقال لعليّعليه‌السلام : امحها يا عليّ.

فقال عليّعليه‌السلام بأدب بالغ : يا رسول الله إن يديّ لا تنطلق لمحو اسمك من النبوة.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فضع يدي عليها ، فمحى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده كلمة : رسول الله نزولا عند رغبة « سهيل » مفاوض قريش(١) .

ان التسامح الذي أبداه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تنظيم وثيقة الصلح هذه لا يعرف له نظير في تاريخ العالم كله ، لأنه اظهر بجلاء أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقع فريسة بيد الاهواء والاغراض الشخصية والعواطف والاحاسيس العابرة ، وكان يعلم أن الحقائق لا تتبدّل ولا تتغيّر بالكتابة والمحو ، من هنا تسامح مع مفاوض قريش « سهيل » الذي تصلّب في مطاليبه غير المشروعة كثيرا ، حفاظا على أصل الصلح. وحرصا على السلام.

التاريخ يعيد نفسه :

ولقد ابتلي عليعليه‌السلام تلميذ النبي الأول بمثل هذه التجربة المرّة بعد

__________________

(١) الارشاد : ص ٦٠ ، اعلام الورى : ١٠٦ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٦٨ وقد اخطأ الطبري في هذا المقام اذ قال : في احدى رواياته لهذه الحادثة : قال لعلىعليه‌السلام : امح « رسول الله » ، قال : لا والله لا أمحاك أبدا فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس يحسن يكتب فكتب مكان « رسول الله » : محمّد.

وهكذا نسب الكتابة إلى شخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن نعلم انه أمي لا يحسن الكتابة ، وقد حققنا هذه المسألة في المجلد الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن ٣١٩ ـ ٣٧٤.

٣٣٧

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فيوم امتنع عليعليه‌السلام عن محو كلمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اسم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا عليّ إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة فو الّذي بعثني بالحق نبيّا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد »(١)

ولقد بقيت هذه القضية في ذاكرة عليّعليه‌السلام ، حتى إذا كان يوم « صفين » وخدع أصحاب الامام عليّعليه‌السلام بالاسلوب الماكر الذي اتبعه جيش الشّام الذي قاتل عليّاعليه‌السلام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ومساعدة عمرو بن العاص ، وأجبروا الامامعليه‌السلام على عقد الصلح مع معاوية فشكّل الجانبان لجنة لتنظيم وثيقة ذلك الصلح ، كلّف « عبيد الله بن رافع » كاتب الامام من جانب الامام عليّعليه‌السلام بأن يكتب وثيقة الصلح ، فكتب :

« هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي » قال عمرو بن العاص ممثل معاوية في تلك المفاوضات : لو علمنا أنك أمير المؤمنين لم ننازعك!!

وهكذا طالب عمرو بن العاص بحذف عبارة أمير المؤمنين.

وطال الكلام والتشاجر في هذا الموضوع ، ولم يكن الامام علي يريد ان يعطي حجة للبسطاء من أصحابه ، ولهذا لم يرضخ لهذا المطلب ، ولكنه بعد إلحاح من أحد قادة جيشه سمح بأن يمحى لقب « أمير المؤمنين » من اسمه ثم قال : « الله اكبر سنة بسنة ».

وهو بذلك يشير إلى حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له يوم الحديبية(٢) .

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٣٨ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٥٣.

(٢) الكامل في التاريخ : ج ٣ ص ١٦٢ ، راجع المصدر لتقف على القصة بكاملها ولتقف على ما دار بين الامام وابن العاص.

٣٣٨

نصّ صلح الحديبية :

وأخيرا عقدت اتّفاقية صلح وهدنة بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقريش تضمنت المواد والشروط التالية :

١ ـ تعهّد المسلمون ، وقريش بترك الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض.

٢ ـ من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه.

٣ ـ من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده ( أي يتحالف معه ) دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

٤ ـ انّ محمّدا يرجع بأصحابه إلى المدينة عامه هذا ولا يدخل مكة ، وانما يدخل مكة في العام القابل في أصحابه فيقيم فيها ثلاثة أيام ، لا يدخل فيها بسلاح إلاّ سلاح المسافر ، السيوف في القرب(١) .

٥ ـ أن لا يستكره أحد على ترك دينه ويعبد المسلمون الله بمكة علانية وبحرية ، وان يكون الاسلام ظاهرا بمكة وان لا يؤذي أحد ولا يعيّر(٢) .

٦ ـ لا إسلال ( سرقة ) ولا إغلال ( خيانة ) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر ، فلا يخونه ولا يسرق منه(٣) .

٧ ـ أن لا تعين قريش على محمّد وأصحابه أحدا بنفس ولا سلاح(٤) .

هذا هو نص وثيقة « صلح الحديبية » ، وقد جمعنا بنوده من المصادر المتنوعة

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٥٢.

(٣) مجمع البيان : ج ٩ ص ١١٧ أو : « من قدم مكة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام فهو آمن على دمه وماله ».

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٥٢.

٣٣٩

التي أشرنا الى بعضها في الهامش ، وقد كتبت هذه الوثيقة في نسختين ، ثم وقع عليها جماعة من شخصيات قريش ، والمسلمين وشهدوا عليها واعطيت نسخة الى « سهيل بن عمرو » ممثل قريش ، وتركت نسخة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

نشيد الحرية :

لقد كان كل عاقل لبيب يحسن تقدير الامور يسمع نشيد الحريّة من ثنايا هذا الصلح التاريخيّ ، ومع أن كل بنود هذه المعاهدة جديرة بالاهتمام والاكبار ، إلاّ أن النقطة التي تستحق الاهتمام والتقدير أكثر من سواها هي المادّة الثانية في هذا الصلح ، وهي المادّة التي أزعجت بعض الصحابة يوم انعقاد تلك المعاهدة.

فقد انزعج صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا التمييز الصارخ ، وقالوا حول قرار القيادة الحكمية المتمثلة في قائد محنّك كرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان ينبغي أن لا يقولوه ، في حين تعتبر هذه المادة من أعظم بنود الوثيقة إذ تعكس نظرة رسول الاسلام ، وتفكيره حول كيفيّة تبليغ الاسلام ، وإشاعته ونشره ، فانه يظهر منها ـ وبجلاء ـ مدى احترام رسول الاسلام لمبدإ الحرية.

ولقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معرض الاجابة على من اعترض من صحابته على البند القاضي بتسليم كل مسلم فرّ من قريش إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين إلى قريش ، دون العكس قائلا :

« من جاءهم منّا فأبعده الله ومن جاءنا منهم رددناه إليهم فلو علم الله الاسلام من قلبه جعل له مخرجا ».

وأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الذي يهرب من جماعة المسلمين ويلجأ إلى المشركين فلا قيمة لإيمانه وإسلامه ، إذ أن ذلك يدل على أنه لم يؤمن بهذه الدين حق الإيمان فلا داعي لأن يعاد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419