أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 122920
تحميل: 9224

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122920 / تحميل: 9224
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم*

وأفضل الصلوات على سيّد الخلق وخلفائه المعصومين من الميامين. كان الحديث عن الإمام سيّد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد ذكرنا في المحاضرات السابقة أنّ الإمام الحسين وقف ليعالج مرضاً من أمراض الأمّة، كما وقف من قبله أخوه الإمام الحسن - عليه أفضل الصلاة والسلام - ليعالج مرضاً آخر من أمراض الأُمّة، بينما قدّر للإمام الحسن أن يعالج مرض الشكّ في الأُمّة الإسلاميّة التي بدأت في عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام تشكّ في الخطّ الرسالي الذي سار عليه قادة أهل البيتعليهم‌السلام ، واستفحل لديها هذا الشكّ حتّى تحوّل إلى حالة مرضيّة في عهد الإمام الحسنعليه‌السلام ، هذه الحالة المرضيّة التي لم يكن بالإمكان علاجها حتّى بالتضحية. عالج الإمام الحسينعليه‌السلام حالةً مرضيّةً أخرى هي حالة انعدام الإرادة مع وضوح الطريق، فالأُمّة الإسلاميّة كانت تشكّ ( أو التي بدأت تشكّ ) في واقع المعركة القائمة داخل الإطار الإسلامي بين الجناحين

____________________

(*) أُلقيت في اليوم ١٦ من شهر صفر سنة ١٣٨٩ ه-.

٣٢١

المتصارعين اتّضح لها بعد هذا الطريق، لكنّ هذا الطريق اتّضحت معالمه لها بعد أن فقدت إرادتها، وبعد أن نامت واستطاع الذين اغتصبوها وسرقوا شخصيّتها وزوّروا إرادتها وأباحوا كرامتها، واستطاعوا أن يخدّروها وأن يجعلوها غير قادرة على مجابهة موقف من هذا القبيل، هذه الحالة المرضية الثانية عالجها الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - بالموقف الذي شرحناه، وقلنا: إنّه كان بالإمكان عدّة بدائل للموقف الذي اتّخذه الإمام الحسين، إلاّ أنّ كلّ البدائل الممكنة والمتصوّرة لم تكن تحقّق الهدف في علاج هذه الحالة المرضيّة، وكان الطريق الوحيد لعلاج هذه الحالة المرضيّة هو الخطّ الذي سار عليه سيّد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام.

مشاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني:

نحاول الآن أن نستعرض عمق هذا المرض في جسم الأُمّة الإسلاميّة؛ حتّى نعرف أنّه بقدر عمق هذا المرض في جسم الأُمّة الإسلاميّة لا بدّ وأن يفكّر في العلاج أيضاً بتلك الدرجة من العمق، وإذا كان من المقدّر أنّ العلاج الوحيد للحالة المرضيّة الثانية هذه هي التضحية، فبقدر ما يكون هذا المرض عميقاً في جسم الأُمّة يجب أن تكون التضحية أيضاً عميقةً مكافئةً لدرجة عمق هذا المرض في جسم الأُمّة، وهذا المرض كان يشمل كلّ قطّاعات الأُمّة عدا بصيصٍ هنا وهناك تجمّع مع الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام.

المشهد الأوّل - التخويف بالموت من عقلاء المسلمين:

خلال خطّ عمله وحركته لاحظنا كيف أنّ الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - حينما قرّر السفر من المدينة إلى مكّة، أو في النهاية حينما قرّر الهجرة

٣٢٢

من الحجاز متّجهاً إلى العراق، إلى تسلّم مسئوليّاته كشخص ثائر حاكم على طواغيت بني أُمية كان يتلقّى من كلّ صوب وحدب النصائح من عقلاء المسلمين، أو مَن يسمّون يومئذٍ بعقلاء المسلمين، الذين يؤثرون التعقّل على التهوّر، كيف أنّ هؤلاء العقلاء أجمعت كلمتهم على أنّ هذا التصرّف من الإمام الحسين ليس تصرّفاً طبيعيّاً، كانوا يخوّفونه بالموت، كانوا يقولون له: كيف تثور على بني أُميّة وبنو أُميّة بيدهم السلطان، والرجال، والمال، وكلّ وسائل الإغراء والترغيب والترهيب؟!

كانوا يحدّثونه عن النتائج التي وصل إليها الإمام عليّعليه‌السلام في صراعه مع بني أُميّة، والتي وصل إليها الإمام الحسنعليه‌السلام في صراعه معهم. كانوا يمنّونه السلامة، كانوا لا يتصوّرون أنّ التضحية يمكن أن تكون بديلاً لحياة بالإمكان الاحتفاظ بأنفاسها مهما كانت هذه الأنفاس، ومهما كانت كانت ملابسات هذه الأنفاس، هذه النصائح لم يتلقّها الإمام الحسينعليه‌السلام من رعاع أو من عوام، وإنّما تلقّاها من سادة المسلمين، من الأشخاص الذين كان بيدهم الحلّ والعقد في المجتمع الإسلامي، تلقّاها من أشخاصٍ من قبيل: عبد الله بن عبّاس(١) ، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب(٢) ، وعبد الله بن جعفر الطيّار(٣) ، ومن قبل أخيه محمّد بن الحنفيّة(٤) ، ومن قبل غيرهم من سادة الرأي في المجتمع الإسلامي، حتّى أنّ عبد الله بن جعفر الذي هو ابن عمّه، ( الذي هو ابن أخي عليّ بن أبي طالب ) ،

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٥٠.

(٢) مقتل الحسين للمقرّم: ١٥٥.

(٣) وقعة الطفّ: ١٥٤.

(٤) المصدر السابق: ١٨٣ - ١٨٥.

٣٢٣

بالرغم من ارتباطه النسبي الوثيق بالخطّ كان منهاراً نفسياً إلى الدرجة التي أرسل فيها رسالة إلى الإمام الحسين حينما سمع بعزمه على سرعة الخروج من مكّة: أن انتظر حتّى ألحق بك، وماذا كان يريد من هذا الانتظار ؟ الإمام الحسين لم ينتظره، فحينما وصل عبد الله بن جعفر إلى مكّة كان الإمام الشهيد قد خرج منها، فذهب عبد الله بن جفعر رأساً إلى والي بني أُميّة في مكّة وأخذ منه كتاب الأمان للحسين، وذهب بالكتاب إلى الحسين وهو يرى أنّه قد استطاع بهذا أن يقضي على كلّ مبرّرات خروج الحسين، لماذا يخرج الحسين من مكّة ؟ لأنّه خائف فيها وقد جاء الأمان له من سلاطين بني أُميّة.

هذه النصائح كانت تعبّر عن نوعٍ من الانهيار النفسي الكامل الذي شمل زعماء وسادة المسلمين فضلاً عن الجماهير التي كانت تعيش هذا الانهيار مضاعفاً في أخلاقها وسلوكها وأطماعها ورغباتها، هذه السلبيّة والبرود المطلق الذي كان يواجهه الإمام الحسينعليه‌السلام ، أو تواجهه حركة الإمام الحسينعليه‌السلام بالرغم من قوّة المثيرات، هذا البرود المطلق في لحظات ترقّب العطاء الحقيقي كان يعبّر عن ذلك الانهيار النفسي على مختلف المستويات.

المشهد الثاني - موقف عبيد الله بن الحرّ الجعفي:

الحسين - عليه الصلاة والسلام - بنفسه يقصد عبيد الله بن الحرّ الجعفي إلى خيمته ويتوسّل به إلى أن يرتبط بهذا الخطّ، ويتّصل به وهو أعرف الناس بصحّة هذا الخطّ وصوابه، فيعزّ عليه أن يقدّم قطرةً من دمه، ويعزّ عليه أن يقدّم شيئاً سوى الفرس(١) فقط، لم يستطع أن يذوق طعم التضحية إلاّ على مستوى تقديم

____________________

(١) وقعة الطف، منزل قصر بني مقاتل: ١٧٦.

٣٢٤

فرس واحدة فقط.

المشهد الثالث - موقف زعماء البصرة:

الإمام الحسينعليه‌السلام يكتب إلى ستّة من زعماء البصرة يختارهم من أولئك الذين لهم ارتباطات مع خطّ الإمام عليّعليه‌السلام ، فإنّ زعماء البصرة على قسمين: زعماء مرتبطون مع خطّ بني أُميّة وخطّ عائشة وطلحة والزبير، وزعماء يرتبطون مع خطّ الإمام عليّ ومدرسته، فيختار الإمام الشهيد ستّةً من الأشخاص الذين يرتبطون بمدرسة الإمام عليّعليه‌السلام ويشعرون بالولاء لمفاهيم هذه المدرسة وشعاراتها وأهدافها، ويكتب إليهم يستنصرهم ويستصرخهم ويشعرهم بالخطر الداهم الذي تواجهه الأُمّة الإسلاميّة ممثّلاً في كسرويّة وقيصريّة يزيد بن معاوية.

فماذا يكون ردّ الفعل لهذه الرسالة ؟ يكون ردّ الفعل - إذا استثنينا شخصاً واحداً وهو عبد الله بن مسعود النهشلي الذي كتب مستجيباً - هو البرود المطلق أو الخيانة، إذ يبعث أحدهم برسول الحسين إلى عبيد الله بن زياد وكان وقتئذٍ والياً على البصرة ( صدّقوا: أنّ هذا الشخص الذي قام بهذا العمل هو من شيعة عليّ بن أبي طالب، ولم يكن عثمانيّاً، بل كان علويّاً، ولكنّه علويّ فقد كلّ مضمونه، فقد كلّ معناه، فقد كلّ إرادته ).

أخذ الرسول مع الرسالة إلى عبيد الله بن زياد لكن لا حبّاً لعبيد الله بن زياد، ولا إيماناً بخطّ عبيد الله بن زياد، بل حفاظاً على نفسه، وابتعاداً بنفسه عن أقلّ مواطن الخطر، خشية أن يطلّلع في يومٍ مّا عبيد الله بن زياد على أنّ ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب إليه يستصرخه وهو لم يكشف هذه الورقة للسلطة

٣٢٥

الحاكمة وقتئذٍ، فيُتّخذ هذا نقطة ضعف عليه، فلكي يبتعد عن أقلّ نقاط الضعف، ولكي يوفّر له كلّ عوامل السلامة، وكلّ ضمانات البقاء الذليل أخذ رسول الإمام والرسالة وقدّمها بين يدي عبيد الله بن زياد، فأمر عبيد الله بن زياد بالرسول فقتل(١) رضوان الله عليه.

شخص آخر من هؤلاء الزعماء، الأحنف بن قيس الذي عاش مع خطّ جهاد الإمام عليّ وعاش مع حياة الإمام عليّ عن قرب، وتربّى على يديه، ماذا كان جوابه لابن الإمام عليّعليه‌السلام ؟ أمره بالتصبّر والتريّث وقال له في رسالة أجاب بها على رسالته:( وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (٢) ، معرّضاً بالطلبات التي كان الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - يتلقّاها من شيعته.

وفي الواقع كانت رسالة الأحنف تعبّر عن أخلاقيّة الأُمّة المهزومة، فإنّ الأُمّة في حالة تعرّضها للهزيمة النفسيّة، وفي حالة فقدانها لإرادتها وعدم شعورها بوجودها كأمّة تنشأ لديها بالتدريج أخلاقيّة معيّنة هي أخلاقية هذه الهزيمة. وأخلاقيّة هذه الهزيمة تصبح قوّة كبيرة جدّاً بيد صانعي هذه الهزيمة لإبقاء هذه الهزيمة وإمرارها، وتعميقها وتوسيعها، ويصبح العمل الشجاع تهوّراً، والتفكير في شؤون المسلمين استعجالاً، ويصبح الاهتمام بما يقع على الإسلام والمسلمين من مصائب وكوارث نوعاً من الخفّة واللا تعقّل، نوعاً من العجلة وقلّة الأناة، نوعاً من التسرّع في العمل أو التفكير.

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٠٣ - ١٠٧، وبحار الأنوار ٤٤: ٣٣٩، تاريخ الحسينعليه‌السلام ، الباب ٣٧، باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد، ومقتل الحسين للمقرّم: ١٥٩، ١٦٠.

(٢) بحار الأنوار ٤٤: ٣٤٠، تاريخ الإمام الحسينعليه‌السلام ، الباب ٣٧، باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد، راجع ترجمته في هوامش وقعة الطفّ: ١٠٤ و ١٠٥.

٣٢٦

هذه الأخلاقيّة هي أخلاقيّة الهزيمة التي تصطنعها الأُمّة؛ لكي تبرّر هذه الهزيمة حينما تُهزم وتشعر بأنّها قد انتهت مقاومتها، فتنسج بالتدريج مفاهيم غير مفاهيمها الأولى، وقيماً وأهدافاً ومُثُلاً غير القيم والمثل والأهداف التي كانت تتبنّاها في الأوّل، لكي تبرّر أخلاقيّاً ومنطقيّاً وفكريّاً الموقف الذي تقفه.

فالإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - كان يريد في الواقع أن يبدّل هذه الأخلاقيّة ويصنع أخلاقيةً جديدةً لهذه الأُمّة تنسجم مع القدرة على التحرّك والإرادة حينما كان يقول: ( لا أرى... والحياة مع الظالمين إلاّ برماً )(١) ، لم يكن هذا مجرّد شكوى، وإنّما كان عمليّة تغيير لأجل إيجاد أو - في الواقع - إرجاع هذه الأخلاقيّة الأخرى التي فقدها الأحنف بن قيس، وفقدها كلّ الناس الذين مشوا مع الأحنف بن قيس.

المشهد الرابع - مغادرة بني أسد محلّ سكناهم:

حبيب بن مظاهر يستأذن من الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - أن يذهب ويدعو عشيرته للالتحاق بخطّ سيّد الشهداء، وكلّ المسلمين يعرفون من هو حبيب بن مظاهر في مواقفه وجهاده، وفي بياض تأريخه وصفاء سيرته، وفي ورعه وتقواه. يذهب حبيب بن مظاهر لطلب العون والمدد من عشيرة بني أسد للإمام عليه الصلاة والسلام، وتكون النتيجة لذلك أن تغادر عشيرة بني أسد بأجمعها تلك الليلة المنطقة، وتنسحب هذه العشيرة انسحاباً جماعيّاً، ويرجع

____________________

(١) وقعة الطف: ٢٠٩.

٣٢٧

حبيب بن مظاهر ليبلّغ الإمام الحسين هذه النتيجة الغريبة، هي: أنّ عشيرته تخشى أن تبقى بعد اليوم، تخشى أن تبقى حتّى حياديّة، لأنّه قد لا يكتفي عمر بن سعد بهذا الحياد، فتغادر المنطقة نهائيّاً، ولم يكن جواب سيّد الشهداء على ذلك إلاّ أن قال: ( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم )(١) .

هذا البرود والسكون، هذه الهزيمة النفسيّة قبل الهزيمة الخارجيّة هي مرض الأُمّة الذي كان يعالجه الإمام الحسينعليه‌السلام .

المشهد الخامس - موقف أهل الكوفة من مقتل رسول الحسينعليه‌السلام :

الصيداوي - وأظنّه قيس بن مسهر - الذي أرسله الإمام الحسينعليه‌السلام لكي يبلّغ رسالته إلى أهل الكوفة يعطي لهم إشعاراً بأنّه في الطريق، وأنّه على الأبواب... هذا الرسول يدخل الكوفة بعد أن انقلبت، وبعد أن تغيّرت الكوفة غير الكوفة، وسيطر عبيد الله بن زياد على كلّ القطّاعات العسكريّة في الكوفة، يؤخذ ( قيس بن مسهر ) أسيراً إلى عبيد الله بن زياد وقبل أن يصل إليه يمزّق الكتاب، ويقف بين يدي عبيد الله بن زياد يقول له: لماذا مزّقت الكتاب ؟ يقول: لأنّي لا أريد أن تطلّع عليه، يقول له: وماذا كان فيه ؟ فيقول: لو كنت أريد أن أخبرك لما مزّقت الكتاب، يقول له: إنّي أقتلك إلاّ إذا صعدت على هذا المنبر وقلت بالصراحة شيئاً في سبّ عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين، هذا الرسول الأمين يغتنمها فرصة، ويصعد على المنبر في هذه اللحظة الحاسمة، في آخر لحظة من حياته، في هذا الإطار العظيم

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام : ٢٥٤.

٣٢٨

من البطولة والشجاعة والتضحية أمام عبيد الله بن زياد وشرطته وجيشه يوجّه خطابه إلى أهل الكوفة ويقول: أنا رسول الحسين إليكم، إنّ الحسين على الأبواب، فيؤدّي هذه الرسالة بكلّ بطولة، وبكلّ شجاعة، فيأمر عبيد الله بن زياد به فيقتل(١) .

وماذا يكون الصدى لمثل هذه الدفعة المثيرة القويّة ! الآن رسول الإمام الحسين - الذي كتبوا له أهل الكوفة يطلبونه - على المنبر بهذا الشكل غير الاعتيادي والسيف فوق رقبته وهو يودّع الحياة في آخر لحظة من اللحظات، وهو يبلّغهم الرسالة بكلّ أمانة وشجاعة، ويضحّي في سبيل تقديمها بدمه وروحه، فماذا يكون أثر ذلك ؟ يكون أثر ذلك: أنّه حينما يأمر عبيد الله بن زياد به أن يُقتل يأتي شخص من أهل الكوفة فيقطع رأسه، فيقال له: لماذا قطعت رأسه ؟ فيقول: لكي أريحه بذلك(٢) .

هذه الأُمّة لا تفكّر إلاّ على هذا المستوى من الشفقة في حياتها، الشفقة التي تشعر بها هي الشفقة على هذا المستوى، أمّا الشفقة على الوجود الكلّي، الشفقة على الكيان، الشفقة على العقيدة قد انتزعت من قلوبها؛ لأنّها تكلّف ثمناً غالياً، الشفقة التي لا تكلّف ثمناً هي أن تقطع رقبة هذا الشخص، وأن يريحه من هذه الحياة في ظلّ عبيد الله بن زياد.

هذه المظاهر من البرود والسكون بالرغم من قوّة الإثارة هي دليل على عمق ما وصلت إليه الأُمّة من انحلال.

____________________

(١) مقتل الحسين: ٢١٩ - ٢٢٠.

(٢) انظر: وقعة الطف: ١٦٠، وقصّة ابن يقطر الحميري، وهو الذي أراحه عبد الملك بن عمير اللخمي بذبحه: ١٦٣.

٣٢٩

المشهد السادس - الاندفاع نحو خطّ السلطة:

إلى جانب ذلك - أو في عكس ذلك - يوجد الاندفاع المحموم نحو خطّ السلطان، نحو خطّ الحكم القائم، استطاع عبيد الله بن زياد خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع - على أكثر تقدير - بعد مقتل مسلم بن عقيل إلى أوّل المحرّم أن يجنّد عشرات الألوف من أبناء هذا البلد الذي كان وما زال - إلى ذلك الوقت - يحمل رسالة عليّعليه‌السلام ، والولاء له، جنّد من هذا البلد عشرات الآلاف، واستجاب له مئات من الأشخاص الذين كانوا قد حاربوا مع الإمام عليّ في صفّين، وحاربوا مع الإمام عليّ في سائر مراحل جهاده، استجاب له شخص من قبيل عمرو بن الحجّاج.

ومن هو عمرو بن الحجّاج ؟ هو من أولئك الذين اضطهدوا في سبيل الإمام عليّعليه‌السلام ، من أولئك الذين عاشوا المحنة أيّام زياد، ولكنّه لم يستطع أن يواصل المحنة، طلّق عقيدته قبل أن يصل إلى آخر الشوط، لأنّه شعر أنّ هذه العقيدة تكلّف ثمناً غالياً، وأنّه إذا طلّقها أمكنه أن يشتري بدلاً عنها دنياً واسعة. هذا الشخص الذي رافق الإمام علياًعليه‌السلام في جهاده انهار أخيراً وانتهت إرادته، انتهت شخصيّته كإنسان مسلم يفكّر في الإسلام. عمرو بن الحجّاج نفسه كلّفه عمر بن سعد بأسوأ عملٍ يمكن أن يُكلّف به إنسان، كلّفه بالحيلولة دون سيّد الشهداءعليه‌السلام والماء، بقي واقفاً على الماء يمنع ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والبقيّة من ثقل النبوّة عن أن يشربوا من الماء(١) .

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٩٠ - ١٩٢.

٣٣٠

واستجاب لذلك شبث بن ربعي.

ومن هو شبث من ربعي ؟ هو الرجل الذي عاش مع جهاد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الرجل الذي كان يعي مدلول حرب صفّين، وكان يدرك أنّ الإمام عليّاً في حرب صفّين يمثّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة بدر، ولكنّ الدنيا، الانهيار النفسي، ولكنّ النفس القصير خنقه في النهاية، فذاب وتميّع، واشتدّ تميّعه بالتدريج إلى أن وصل إلى حدّ أنّ عبيد الله بن زياد يبعث إليه ليقاتل الحسين ابن رسول الله، فماذا يكون العذر ؟ ماذا يكون الجواب ؟ لا يملك أن يعتذر بعذرٍ من الأعذار إلاّ أن يقول: ( أنا مريض )، كلمة باردة جداً على مستوى بروده النفسي، عبيد الله بن زياد يبعث إليه الرسول مرّة أخرى ليقول له: المسألة حدّية، لا مرض في هذه الحالة، إمّا أن تكون معنا، وإمّا أن تكون عدوّنا، وبمجرّد أن يتلقّى هذه الرسالة - ويعرف أنّ المسألة حدّية - يقوم شبث بن ربعي ويلبس ما كان يلبسه، ثمّ يخرج متّجهاً إلى عبيد الله بن زياد وهو يقول: لبّيك(١) ... هذه الاستجابات من هذا الطرف، وذاك البرود، وتلك السلبّية من ذلك الطرف لهو أكبر دليل على هذا المرض.

المشهد السابع - محنة مسلم وهاني:

والدليل الذي هو أكبر من هذا محنةُ مسلم وهاني التي يقلّ نظيرها في التاريخ، هذه المحنة تصوّر هذا المرض وهو في قمّته، وهو في شدّته بأروع تصوير، أو بأفضع تصوير، قد يذهب وهم الإنسان إلى أنّ مسلم بن عقيل كيف

____________________

(١) وقعة الطفّ: ٩٣.

٣٣١

اتّفق له أن يفرّط بكلّ هذه القوى الضخمة التي كانت بين يديه ؟! كيف فرّط بهذه القوى الشعبيّة التي بين يديه بين عشيّة وضحاها وبقي وحيداً فريداً يتسكّع في الطرقات ؟ ! كيف لم يستثمر هذه القوى في معركته مع عبيد الله بن زياد ؟!

في الواقع أنّ هذه القوى لم تكن قوىً إلاّ على الورق، لم تكن هذه القوى قوىً إلاّ في سجّل تسجيل الأسماء حينما سجّل الأسماء فبلغت ثمانية عشر ألف(١) ، أو بلغت عشرين ألف، أو بلغت ثلاثين ألف(٢) ، كانت قوىً على الورق؛ وذلك لأنّ هؤلاء الثمانية عشر أو العشرين ألف كانوا جزءاً من هذه الأُمّة الميّتة، من هذه الأُمّة المنهارة، هذا الانهيار العجيب المفاجئ في لحظة، هذا الانهيار العجيب المفاجئ يعكس تلك الهزيمة المسبقة، هزيمة النفس، هزيمة الوجدان، هزيمة الضمير، وتلك الهزيمة - أي هزيمة النفس والوجدان والضمير - هي أساس هذه الهزيمة(٣) .

عبيد الله بن زياد يبعث إلى هاني بن عروة يقول له: تعالَ زر الأمير، الأمراء لا يطيقون الجفاء، لماذا أنت منقطع عن الأمير ؟ هذا في الوقت الذي كان مسلم بن عقيل في بيت لهاني بن عروة، والشيعة يذهبون إليه متستّرين، هاني بن عروة يؤتى به إلى عبيد الله بن زياد فيتّهمه بأنّ مسلماً موجود عندك، وأنّك تفكّر في

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١١١، ١١٢.

(٢) إنّما جاء ثلاثون ألف في أعداد أعداء الإمام الحسينعليه‌السلام على لسان أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام في المجلس ٢٤ من أمالي الصدوق وعلى لسان ابنه عليّ بن الحسينعليه‌السلام في المجلس السبعين.

(٣) أي: هزيمة تلك القوى الشعبيّة الضخمة التي كانت بين يدي مسلمعليه‌السلام وتشتّتها بن عشيّة وضحاها.

٣٣٢

الخروج وشقّ عصا الطاعة، هاني بن عروة ويصطدم مع عبيد الله بن زياد ويقول له بأنّي لا أدري أين مسلم، يقول عبيد الله: لا بدّ لك أن تجده. فيقول هاني: لو أنّ مسلماً كان تحت قدمي لما رفعت قدمي، ثمّ يقدّم هاني له نصيحة بكلّ قوّة، وبكلّ شجاعة - هو من الأفراد القلائل الذين استطاعت حركة الحسينعليه‌السلام أن تكشفهم في مجموع هذه الأُمّة الميّتة - فقال: لي نصيحة لك، قال عبيد الله: وما هي هذه النصيحة ؟ قال النصيحة أن تذهب أنت وأهل بيتك، وتحمل معك كلّ ما لديك من أموال إلى الشام سالماً صحيحاً، لا شغل لنا بك.

كان هاني بن عروة يتكلّم وهو يتخيّل أنّ له رصيداً، وأنّ عشرات الآلاف من خلفه سوف تنفّذ إرادته إذا أصبحت هذه الإرادة بحاجة إلى النتفيذ حينما اشتدّ غضب عبيد الله بن زياد، وحينما غضب هاني، حينما أمر بأن يحبس هاني انعكس الخبر في الكوفة بأنّ هانياً قتل أو في معرض القتل، جاء عمرو بن الحجّاج وجاء معه أربعة آلاف شخصٍ من عشيرته لكي يتفقّدوا أحوال هاني بن عروة، ووقفوا بباب القصر يطالبون بحياة هاني بن عروة، عبيد الله بن زياد يبعث على شريح القاضي باعتباره قاضياً لا بدّ أن تتوفّر فيه شرائط، فهو يعتبر شاهداً ثقة إذا استعمل شهادة، فقال له: تعال ادخل إلى الغرفة التي سجن فيها هاني، اُنظر إليه حيّاً، واشهد أمام هؤلاء بأنّ هانياً حيّ، فدخل شريح القاضي إلى الغرفة فرأى أنّ هانياً حيّ، يقول شريح القاضي - لعنة الله عليه - بمجرّد أن دخلت إلى الغرفة ورأيت هاني بن عروة صاح في وجهي: أين ذهب المسلمون ؟! لو أنّ عشيرةً يهجمون على القصر الآن لأنقذوني، لأنّ القصر ليس فيه جيش، يعني لو أنّ عشرة فقط كانوا مستعدّين لأن يموتوا في سبيل الله لتغيّر وجه الكوفة يومئذٍ؛ لأنّ البيت ليست فيه شرطة، ولكنّ الشرطة

٣٣٣

كانت أوهام هذه الأُمّة التي فقدت شجاعتها وإرادتها. هذه الأُمّة التي فقدت شخصيّتها خيّل لها أنّ هذا القصر هو جبروت، هذا القصر هو المعقل الذي لا يمكن اجتيازه، بينما هذا القصر كان أجوف لم يكن فيه جيش، ولم يكن فيه سلاح بالقدر الكافي الذي يمكن أن يصمد أمام عشرة فقط، لذا قال هاني: أين ذهب المسلمون ؟ عشرة فقط يكفون لإنقاذي، يكفون للقضاء على هذا القصر، يكفون لاحتلال هذا القصر.

شريح القاضي يقول: أنا رجعت إلى عمرو بن الحجّاج وأنا مكلّف بأن أؤدي الشهادة الشرعيّة بأنّ هاني بن عروة حيّ حتّى يرجع عمرو بن الحجّاج، لأنّ عمرو بن الحجّاج والأربعة آلاف الذين جاؤوا معه قصارى همّهم أن يكون هذا حيّاً، ليس لهم همّ وراء أن يكون هذا حيّاً، يقول: رجعت فهممت أن اُبلّغ عبارة هاني بن عروة لعمرو بن الحجّاج، أن أقول له: إنّ هانياً يطلب عشرة فقط، يقول: لو أنّ عشرةً يهجمون على هذا ( البُعبُع )(١) ، على هذا الشبح الضئيل الذي يكمن فيه عبيد الله بن زياد لتمزّق هذا الشبح وتحطّم هذا ( البُعبُع )، يقول: هممت ثمّ التفتّ إلى أنّ شرطي عبيد الله بن زياد واقف إلى جنبي فسكتّ ! وأدّى الشهادة المطلوبة منه رسميّاً وحكوميّاً بأنّ هانياً حيّ، ورجع عمرو بن الحجّاج، وقتل هاني في اليوم الثاني(٢) .

مسلم بن عقيل بنفسه يخرج مع أربعة آلاف شخصٍ يطوّقون قصر الإمارة وعبيد الله بن زياد ليس معه إلاّ ثلاثون على ما تقول الرواية، وعشرون من

____________________

(١) يراد بها الأمر المخيف والمرعب.

(٢) وقعة الطف ّ: ١٢١ - ١٢٣.

٣٣٤

أشراف الكوفة. مسلم بن عقيل معه أربعة آلاف لكن أربعة آلاف ليس لهم قلوب، ليس لهم أيدي، ليس لهم إرادة، اقرؤوا أسماء قادة مسلم بن عقيل في هذه المعركة، هؤلاء الأربعة آلاف فيهم جماعة من كبار يوم عاشوراء لكنّهم انهزموا جميعاً، لم يبقَ مع مسلم واحداً أبداً، يعني أنّ حركة الحسين هي بنفسها صنعت هؤلاء، هي بنفسها صعّدت هؤلاء، حتّى هؤلاء السبعون الذين استشهدوا مع الحسينعليه‌السلام كان عدد منهم نتاج محنة حركة سيّد الشهداء، وإلاّ فلماذا انهزموا ؟ على الأقلّ يبقى مع مسلم هذا الشخص الذي يعرف الطريق. صلّى في المسجد وتفرّق الناس.

يقول التاريخ: كانت تأتي المرأة فتنتزع زوجها وأباها وأخاها وتقول: ما لك وعمل السلاطين(١) . هذا نهاية فقدان الإرادة، إنّ الرجل يذوب ويتميّع لأنّ امرأةً واحدةً تأتي وتنتزعه انتزاعاً. هذه المرأة هي نفسها تلك المرأة التي وقفت بعد الإمام الحسينعليه‌السلام الوقفات العظيمة على طول الخطّ، هذه المرأة هي نفس تلك المرأة التي أحبطت مؤامرة إمارة عمر بن سعد، حينما مات يزيد بن معاوية، وبويع من قبل الاُمويّين في الكوفة لعمر بن سعد مؤقّتاً، فأصبح أميراً على الكوفة، من الذي أسقط إمارته ؟ أسقطته تلك المرأة التي كانت تذهب إلى زوجها وأبيها وأخيها تنتزعهم انتزاعاً، وتقول لهم: لا شغل لك مع السلاطين، هذه المرأة بنفسها قامت بمظاهرة وقفت أمام عمر بن سعد تندب الحسين وتصيح: إنّ قاتل الحسين لا يمكن أن يكون أميراً في الكوفة حتّى سقط عمر بن سعد(٢) .

____________________

(١) المصدر السابق: ١١١ - ١٢٥.

(٢) راجع مروج الذهب ٣: ٨٥.

٣٣٥

المشهد الثامن - التناقض بين عمل الأُمّة وعواطفها:

وأعجب مظهر من مظاهر هذا الانهيار هو التناقض الذي كان يوجد بين قلب الأُمّة وعواطف الأُمّة وعملها، هذا التناقض الذي عبّر عنه الفرزدق بقوله للإمام الحسين عليه الصلاة والسلام: إنّ قلوبهم معك وسيوفهم عليك(١) ، لا أنّ جماعةً قلوبهم معك وجماعة أخرى سيوفهم عليك، بل الوحدات الثمانية في التناقض كلّها محفوظة، ولكن مع هذا لا تناقض؛ لأنّ هذا الشخص الذي لا يملك إرادته يمكن أن تتحرّك يده على خلاف قلبه وعاطفته، ولهذا كنّا نراهم يبكون ويقتلون الإمام الحسين، لأنّهم يشعرون بأنّهم بقتلهم للإمام الحسينعليه‌السلام يقتلون مجدهم، يقتلون آخر آمالهم، يقتلون البقيّة الباقية من تراث الإمام عليّعليه‌السلام ، هذه البقيّة التي كان يعقد عليها كلّ الواعين من المسلمين الأمل في إعادة حياة الإسلام، في إعادة الحياة إلى الإسلام، كانوا يشعرون بأنّهم يقتلون بهذا الأمل الوحيد الباقي للتخلّص من الظلم القائم، ولكنّهم مع هذا الشعور لم يكونوا يستطيعون إلاّ أن يقفوا هذا الموقف ويقتلوا الإمام الحسين. قتلوا الإمام الحسين وهم يبكون.

وأسأل الله أن لا يجعلنا نقتل الإمام الحسين ونحن نبكي، أن لا يجعلنا نقتل أهداف الحسينعليه‌السلام ونحن نبكي. الإمام الحسين ليس إنساناً محدوداً عاش من سنة كذا ومات في سنة كذا، الإمام الحسينعليه‌السلام هو الإسلام ككلّ، الإمام الحسين هو كلّ هذه الأهداف التي ضحّى من أجلها هذا الإمام العظيم، هذه الأهداف هي

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٥٨.

٣٣٦

الإمام الحسين؛ لأنّها هي روحه، وهي فكره، وهي قلبه وهي عواطفه، كلّ مضمون الإمام الحسينعليه‌السلام هي هذه الأهداف، هي هذه القيم المتمثّلة في الإسلام.

فكما أنّ أهل الكوفة كانوا يقتلون الحسين وهم يبكون فهناك خطر كبير في أن نُمنى نحن بنفس المحنة، أن نقتل الحسين ونحن نبكي. يجب أن نشعر بأنّنا يجب أن لا نكون على الأقلّ قتلةً للحسين ونحن باكون، البكاء لا يعني أنّنا غير قاتلين للحسين؛ لأنّ البكاء لو كان وحده يعني أنّ الإنسان غير قاتل للحسين إذن لما كان عمر بن سعد قاتلاً للحسين، لأنّ عمر بن سعد بنفسه بكى حينما مرّت زينب - عليها الصلاة والسلام - في موكب السبايا، في الضحايا، حينما التفتت إلى أخيها، حينما اتّجهت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تستنجده وتستصرخه، أو تخيره عن جثّة الإمام الحسين وهي بالعراء، عن السبايا وهم مشتّتون، عن الأطفال وهم مقيّدون، حينما أخبرت جدّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله بكلّ ذلك ضجّ القتلة كلّهم بالبكاء(١) ، بكى السفّاكون، بكى هؤلاء الذين أوقعوا هذه المجازر، بكوا بأنفسهم، إذن فالبكاء وحده ليس ضماناً، العاطفة وحدها ليست ضماناً لإثبات أنّ هذا صاحب العاطفة هو لا يقف موقفاً يقتل فيه الإمام ا لحسين ، أو يقتل فيه أهداف الإمام الحسين.

لا بدّ من امتحان، لا بدّ من تأمّل، لا بدّ من تدبّر لا بدّ من تعقّل لكي نتأكّد من أنّنا لسنا قتلةً للإمام الحسين، ومجرّد أنّنا نحبّ الإمام الحسين، مجرّد أنّنا نزور الإمام الحسين، مجرّد أنّنا نبكي على الإمام الحسين، مجرّد أنّنا نمشي إلى زيارة الإمام الحسين، كلّ هذا عظيم، شيء جيّد، شيء ممتاز، شيء راجح ،

____________________

(١) وقعة الطفّ: ٢٥٩.

٣٣٧

لكنّ هذا الشيء الراجح لا يكفي ضماناً ودليلاً لكي يثبت أنّنا لا نساهم في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، لأنّ بإمكان إنسانٍ أن يقوم بكلّ هذا عاطفيّاً وفي نفس الوقت يساهم في قتل الإمام الحسين.

يجب أن نحاسب أنفسنا، يجب أن نتأمّل في سلوكنا، يجب أن نعيش موقفنا بدرجة أكبر من التدبّر والعمق والإحاطة والانفتاح على كلّ المضاعفات والملابسات، لكي نتأكّد من أنّنا لا نمارس من قريبٍ أو بعيدٍ بشكلٍ مباشرٍ أو بشكلٍ غير مباشرٍ قتل الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام.

٣٣٨

التحوّل من أخلاقيّة الهزيمة

إلى أخلاقيّة الإرادة

٣٣٩

٣٤٠