أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية4%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122963 / تحميل: 9225
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بسم الله الرحمن الرحيم*

الأُمّة حينما تنهزم ويُنتزع منها شخصيّتها وتموت إرادتها تنسج بالتدريج - كما قلنا - أخلاقيةً معيّنةً تنسجم مع الهزيمة النفسيّة التي تعيشها بوصفها اُمّة بدون إرادة، اُمّة لا تشعر بكرامتها وشخصيّتها. بالرغم من وضوح الطريق وجلاء الأهداف وقدرتها على التمييز المنطقي بين الحقّ والباطل، وبالرغم من أنّ أُطروحة معاوية قد تكشّفت كأُطروحةٍ جاهليّةٍ في ثوب الإسلام، وأنّ أُطروحة عليّ -عليه‌السلام - قد اتّضحت أنّها التعبير الأصيل عن الإسلام في معركة ثانية مع الجاهليّة، بالرغم من وضوح كلّ ذلك بعد الهدنة التي أعلنها الإمام الحسنعليه‌السلام بدأت الأُمّة نتيجةً لفقدان إرادتها تنسج أخلاقيّةً معيّنةً تنسجم مع هزيمتها النفسيّة والروحيّة والأخلاقيّة.

الإمام الحسينعليه‌السلام بين أخلاقيتين:

وبهذا كان الإمام الحسينعليه‌السلام بين أخلاقيّتين: بين أخلاقيّة الهزيمة التي

____________________

(*) ألقيت في اليوم ١٧ من شهر صفر سنة ١٣٨٩ ه-.

٣٤١

تعيشها الأُمّة الإسلاميّة قبل أن تُهزم فعليّاً يوم عاشوراء، والأخلاقيّة الأخرى التي كان يريد أن يبثّها وينشرها في الأُمّة الإسلاميّة هي أخلاقيّة الإرادة والتضحية والعزيمة والكرامة. كان الإمام الحسينعليه‌السلام يواجه تلك الأخلاقيّة التي ترسّخت، ورسّخت من المفاهيم عن العمل، والسلب والإيجاب، والإثبات والنفي ما يشلّ طاقات التحرّك، وكان يريد أن يغيّر تلك الأخلاقيّة دون أن يستفزّها.

كان يواجه الأخلاقية التي تمثّلت في كلام للأحنف بن قيس حينما وصف المتحرّكين في ركاب الإمام الحسينعليه‌السلام بأنّهم أولئك الذين لا يوقنون. وأولئك الأشخاص الذين يتسرّعون قبل أن يثبّتوا من وضوح الطريق، هذا المفهوم من الأحنف بن قيس كان يعبّر عن موقف أخلاقيّة الهزيمة من التضحية...

إنّ التضحية والإقدام على طريق قد يؤدّي إلى الموت نوع من التسرّع وقلّة الأناة، والخروج عن العرف المنطقي للسلوك. هذا المفهوم هو معطى أخلاقيّة الهزيمة. هذا المفهوم الذي تبدّد بعد حركة الحسين - عليه الصلاة والسلام - واحتلّ بديله مفهوم التضحية الذي على أساسه قامت حركة التوّابين، حركة أربعة آلاف لا يرون لهم هدفاً في طريقهم إلاّ التضحية، لكي يكفّروا بذلك عن سيّئاتهم وموقفهم السلبي تجاه الإمام الحسينعليه‌السلام .

أخلاقيّة الهزيمة هي هذه الأخلاقيّة التي انعكست في كلام لأخي الحسين، عمر الأطراف حينما قال للإمام الحسينعليه‌السلام : إن تبايع يزيد خيرٌ لك من أن تُقتل(١) ، من أن تموت. هذه أخلاقيّة الهزيمة التي تبدّلت بعد هذا خلال خطّ حركة الحسينعليه‌السلام ، وانعكست في مفهوم لعليّ بن الحسينعليه‌السلام حينما قال لأبيه:

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام : ١٤٨ - ١٤٩.

٣٤٢

أَوَلسنا على الحق ؟ قال: بلى، قال: إذن، لا نبالي أوَقعنا على الموت أو وقع الموت علينا(١) ...

أخلاقيّة الهزيمة التي كان يواجهها الإمام الحسينعليه‌السلام هي الأخلاقية التي انعكست في كلامٍ لمحمّد بن الحنفيّة حينما كان ينصح الإمام الحسين ويقول له: إنّ أخشى ما أخشى أن تدخل إلى مصر وبلدٍ من بلاد المسلمين فيختلف عليك المسلمون، فبعض يقفون معك وبعض يقفون ضدّك، ويقع القتال بين أنصارك وأعدائك فتكون أضيع الناس دماً، الأفضل من ذلك أن تقف بعيداً عن المعترك، ثمّ تبثّ رسُلك وعيونك في الناس، فإن استجابوا فهو، وإلاّ كنت في أمن من عقلك ودينك وفضلك ورجاحتك(٢) . هذه هي أخلاقية الهزيمة التي تحوّلت فيما بعد، حيث أصبح دم الحسينعليه‌السلام - هذا الدم الذي كان يتصوّره محمّد بن الحنفيّة أنّه سوف يكون أضيع دم - مفتاح تحريك الأُمّة حينما قال المختار في سجن عبيد الله بن زياد: إنّي أعرف كلمةً أستطيع بها أن أملك العرب(٣) . هذا الدم الذي كان يتصوّره أنّ أضيع دمٍ أصبح هو مفتاح السلطات والسيطرة على المنطقة كلّها.

أخلاقيّة الهزيمة هي الأخلاقيّة التي عبّر عنها الأمير الاُموي يزيد بن معاوية في رسالةٍ له إلى عبيد الله بن زياد، يقول في الرسالة: إنّ آل أبي طالب هؤلاء أسرع ما يكونون إلى سفك الدماء(٤) . هذا التعبير في الواقع هو ظاهرة من

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٧٦ - ١٧٧.

(٢) وقعة الطفّ: ٨٣ - ٨٥، ومقتل الحسين: ١٤٩ - ١٥٠.

(٣) راجع مروج الذهب ٣: ٧٣.

(٤) راجع مقتل الحسين للمقرّم: ١٣٩ - ١٤٠، وفيه أنّ الرسالة إلى الوليد بن عتبة عامل يزيد على المدينة وليس لعبيد الله بن زياد.

٣٤٣

ظواهر أخلاقيّة الهزيمة، حينما تبرز أخلاقيّة الهزيمة وتترسّخ وتتعمّق تتحوّل كلّ محاولة جدّيّة لمقابلة الظلم والظالمين إلى نوع من السفك والقتل في نظر المثبّطين والمجمّدين. هذه الأخلاقيّة التي يريد الإمام الحسينعليه‌السلام أن يحوّلها إلى أخلاقيّة التضحية والإرادة، إلى الأخلاقيّة الإسلاميّة الصحيحة التي تمكّن الإنسان المسلم من أن يقف موقفه الإيجابي والسلبي وفقاً لما تقرّره الشريعة الإسلاميّة إيجاباً وسلباً.

دقّة التحرّك في عمليّة التحويل:

وفي عمليّة التحويل هذه كان الإمام الحسينعليه‌السلام يواجه أدقّ مراحل عمله؛ وذلك لأنّه في نفس الوقت الذي يريد أن يبثّ في جسم الأُمّة وفي ضميرها ووجدانها أخلاقيّةً جديدةً كان يحافظ في نفس الوقت على أن لا يخرج خروجاً واضحاً عن الأخلاقيّة التقليديّة التي عاشتها الأُمّة نتيجةً لهزيمتها الروحيّة، كان يحرص على أن لا يخرج بشكلٍ واضحٍ ومثيرٍ عن تلك الأخلاقيّة الجديدة عن طريق هزّ ضمير الأُمّة الإسلاميّة، ولم يكن بإمكانه أن يهزّ ضمير الأُمّة الإسلاميّة إلاّ إذا قام بعملٍ مشروعٍ في نظر هذه الأُمّة الإسلاميّة التي ماتت إرادتها وتغيّرت أخلاقيّتها، والتي أصبحت تعيش هذه المفاهيم التي انعكست في كلمات هؤلاء الذين تحدّثنا عنهم. كان لا بدّ أن يراعي الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - في سيره وتخطيطه هذه الأخلاقيّة، وأن لا يستفزّها لكي يبقى محتفظاً لعمله بطابع المشروعيّة في نظر المسلمين الذين ماتت أخلاقيّتهم الحقيقيّة وتبدّلت مفاهيمهم عن العمل والسلب والإيجاب.

٣٤٤

الإمام الحسينعليه‌السلام يخطّط لعمليّة التحويل:

الإمام الحسينعليه‌السلام في الواقع قد اتّخذ منذ البدء موقفاً إيجابيّاً واضحاً صريحاً بينه وبين ربّه، كان قد صمّم منذ اللحظة الأولى على أن يخوض المعركة مهما كلّفة الأمر، وعلى جميع الأحوال والتقادير، وأن يخوضها إلى آخر الشوط، وإلى أن يضحّي بآخر قطرةٍ من دمه، كان يفكّر تفكيراً إيجابيّاً مستقلاًّ في ذلك، لم يكن يتحرّك نتيجةً لردود فعلٍ من الأُمّة، بل كان هو يحاول أن يخلق ردود الفعل المناسبة لكي يتحرّك.

ومن أدلّة ذلك : أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام بدأ بنفسه الكتابة إلى زعماء قواعده الشعبيّة في البصرة. نعم، لم يروِ لنا التاريخ أنّه كتب ابتداءً بشكلٍ مكشوفٍ واضح إلى زعماء قواعده الشعبيّة في الكوفة، ولكنّ التاريخ حدّث بأنّه كتب وابتدأ بالحديث والتحريك لقواعده الشعبيّة في البصرة، وأعلن في رسالته لهم أنّه قد قرّر الخروج على سلطان بني أُميّة. قال لهم بأنّ هذا الخطّ الذي يمثّله هو يمثّله أخوه وأبوهعليهما‌السلام هو الحقّ، إلاّ أنّه سكت وسكت أبوه وأخوه حينما كان الكتاب والسنّة تراعى حرمتهما. أمّا حينما انتهكت حرمة الكتاب وحرمة السنّة، حينما أُميتت السنّة، حينما أُحييت البدع، حينما انتشر الظلم لا بدّ لي أن أتحرّك، ولا بدّ لي أن أغيّر، ولا بدّ لكم أن تحقّقوا في هذا الموقف درجة تفاعلكم مع رسالتكم. قال ذلك بوضوح، وطلب منهم بشكلٍ ابتدائيٍّ الالتفاف حول حركته(١) .

وهذا يعني أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن في موقفه يعبّر عن مجرّد

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٠٣ - ١٠٧.

٣٤٥

استجابةٍ لردود فعلٍ عاطفيّةٍ أو منطقيّةٍ في الأُمّة، بل كان هو قد بدأ منذ اللحظة الأولى في تحريك الأُمّة نحو خطّته وخطّ عمله.

موقفه من والي المدينة أيضاً واضح في ذلك، حينما استدعي من قبل والي المدينة وعرض عليه الوالي في نصف الليل أن يبايع يزيد بن معاوية، وحينما تكشّف لوالي المدينة أنّ امتناع الحسينعليه‌السلام عن البيعة هو بحسب الحقيقة لون من ألوان الرفض، صرّح بعد هذا الإمام الحسين بكلّ وضوح عن إيمانه بحقّه في الخلافة، وقال: نصبح وتصبحون، وننظر وت-نظرون أيّنا أحقّ بالخلافة(١) .

وكان هذا واضحاً في إعلانه العزم والتصميم على حركة مسلّحة ضدّ السلطان القائم وقتئذٍ. هذا التهديد وتلك الرسالة الابتدائيّة لزعماء قواعده الشعبيّة في البصرة - إلى غير هذا وذاك من القرائن والدلائل - يعبّر عن أنّ الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - كان يخطّط تخطيطاً ابتدائيّاً لتحريك الأُمّة، وكان قد صمّم على أن يتحرّك مهما كانت الظروف والأحوال. هذا واقع التخطيط.

شعارات الإمام الحسينعليه‌السلام في تبرير مخطّطه:

ولكنّ الإمام الحسينعليه‌السلام حينما كان يُلقي شعارات هذا التخطيط على هذه الأُمّة الإسلاميّة المهزومة أخلاقيّاً، المهزومة روحيّاً، المتميّعة نفسيّاً، الفاقدة لإرادتها، حينما كان يلقي شعارات هذا التحرّك على هذه الأُمّة لم يكن في كلّ إلقاءاته صريحاً واضحاً محدّداً، وذلك لأنّه كان يجامل تلك الأخلاقيّة التي عاشتها الأُمّة الإسلاميّة، وكانت هذه المجاملة جزءاً ضروريّاً من إنجاح الحسين

____________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي عن ابن الأعثم الكوفي: ١٨٤.

٣٤٦

في هدفه؛ لأنّه إذا خرج عن هذه الأخلاقيّة فسوف يفقد بذلك عمله طابع المشروعيّة في نظر أولئك المسلمين، وبذلك يصبح هذا العمل غير قادر على أن يهزّ ضمير إنسان الأُمّة الإسلاميّة كما كان من المفروض أن يهزّه.

الشعار الأوّل - حتميّة القتل:

كان الإمام الحسينعليه‌السلام يُعترض عليه، ويقال: لِمَ تخرج ؟ يعترض عليه عبد الله بن الزبير وغيره، فيقول له: بأنّي أنا اُقتل على كلّ حال سواء خرجت أو لم أخرج، إنّ بني أُميّة لا يتركونني، ولو كنت في هامة من هذه الهوام لأخرجوني وقتلوني، إنّ بني أُميّة يتعقبّوني أينما كنت، فأنا ميّت على أيّ حال سواء بقيت في مكّة أو خرجت منها، ومن الأفضل أن لا اُقتل في مكّة لكي لا تنتهك بذلك حرمة هذا الحرم الشريف(١) .

فتراه طرح هذا الشعار، وهذا الشعار بالرغم من واقعيّته منسجم مع أخلاقيّة الأُمّة المعاشة أيضاً، فأخلاقيّة الهزيمة التي تعيشها الأُمّة الإسلاميّة لا تجد منطقاً تنفذ منه للتعبير عن نقد مثل هذا التحرّك من الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام، فهوعليه‌السلام يقول: أنا مقتول على كلّ حال، والظواهر كلّها تشهد بذلك، الدلائل والأمارات والملابسات تشهد بأنّ بني أُميّة قد صمّموا على قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولو عن طريق الاغتيال، ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، إذن فطرح مثل هذا الشعار لأجل تفسير هذا الموقف كان مناسباً جدّاً مع إقناع أخلاقيّة الهزيمة، مع كونه شعاراً واقعيّاً في نفس الوقت.

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٥٢.

٣٤٧

الشعار الثاني - غيبيّة قرار التحرّك:

بأتي أشخاص آخرون إليه يعترضون عليه، يقولون: لِمَ تتحرّك ؟ يأتي محمّد بن الحنفيّة ينصحه في أوّل الليل بنصائح عديدة فيقول له: أنظرُ، أُفكر فيما تقول، فيذهب محمّد بن الحنفيّة وفي آخر الليل يسمع بأنّ الإمام الحسين قد تحرّك، فيسرع إليه ويأتي ويأخذ براحلته ويقول له: يا أخي قد وعدتني أن تفكّر، قال: نعم، ولكنّي بِتُّ في هذه الليلة فرأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: إنّك مقتول(١) . فتراهعليه‌السلام يجيب بهذا الجواب، يجيب بقرار غيبي [ صادر ] من أعلى، وهذا القرار الغيبي من أعلى لا يمكن لأخلاقيّة الهزيمة أن تنكره ما دام صاحب هذه الأخلاقيّة مؤمناً بالحسين، ومؤمناً برؤيا الحسين. طبعاً هو لم يحدّث بهذه الرؤيا عبد الله بن الزبير(٢) الذي لم يكن مؤمناً برؤيا الحسين. بل حدّث بذلك محمّد بن الحنفيّة وأمثال محمّد بن الحنفيّة، فهذا شعار آخر كان يطرحه، وهو شعار حتميّة الموت من أعلى، وأنّ هناك قراراً من أعلى يفرض عليه أن يموت، أن يضحّي، أن يغامر، أن يقدم على هذه السفرة التي قد تؤدّي إلى القتل، وهذا الشعار أيضاً كان بالرغم من واقعيّته ينسجم مع أخلاقيّة الهزيمة، وهو في نفس الوقت شعار واقعي.

الشعار الثالث - ضرورة إجابة دعوات أهل الكوفة:

وكان في مرّةٍ ثالثةٍ يطرح شعاراً ثالثاً، كان يقول للأشخاص الذين يمرّ بهم في طريقه من مكّة إلى العراق، في منازله المتعدّدة حينما كانوا ينصحونه بعدم

____________________

(١) انظر: وقعة الطفّ: ١٨٣ - ١٨٥، وقارن: ١٥٥، ١٥٦.

(٢) انظر: وقعة الطفّ: ١٥٥، ١٥٦.

٣٤٨

التوجّه إلى العراق، كان يقول لهم: إنّي قد تلقّيت من أهالي الكوفة دعوةً للذهاب إليهم، وقد تهيّأت الظروف الموضوعيّة في الكوفة لكي أذهب، ولكي أُقيم حقّاً وأُزيل باطلاً(١) ، فكان يعكس ويفسّر سفرته على أساس أنّها استجابة وأنّها ردّ فعل، وأنّها تعبير عن إجابة طلب أنّ الأُمّة تحرّكت وأرادت، وأنّه قد تمّت الحجّة عليه، ولا بدّ أن يتحرّك.

الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن في واقعه يقتصر في مرحلته الجهاديّة هذه على أن تطلب منه الأُمّة فيتحرّك، وإلاّ لما راسل ابتداءً زعماء قواعده الشعبيّة بالبصرة ويطلب منهم التحرّك، ولكنّه في نفس الوقت كان يعكس هذا الجانب أكثر ممّا يعكس ذلك الجانب؛ لأنّ هذا الجانب أقرب انسجاماً مع أخلاقيّة الهزيمة، ماذا تقول أخلاقيّة الهزيمة أمام شخص يقول لها بأنّي قد تلقّيت دعوة، وإنّ ظروف هذه الدعوة ملائمة للجواب والتحرّك نحو الداعي.

وبطبيعة الحال هناك فرق كبير بين إنسان يتحرّك تحرّكاً ابتدائيّاً وإنسان آخر يتحرّك إجابةً لجماهير آمنت به وبقيادته وزعامته، فهناك قول أخلاقيّة الهزيمة: إنّ هذا متسرّع، وإنّ هذا لا يفكّر في العواقب، وإنّه ألقى بنفسه في المخاطر. أمّا حينما يكون العمل إجابةً لدعوةٍ من جماهير قد هيّأت كلّ الأجواء اللازمة لهذه الدعوة، فهذه الأخلاقيّة المهزومة لا تقول عن هذا العمل وهذا التحرّك: إنّه عمل طائش، إنّه عمل صبياني، إنّه عمل غير مدروس.

هذه الشعارات التي طرحها الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - كانت كلّها واقعيّة، وفي نفس الوقت كانت منسجمةً مع أخلاقيّة الأُمّة المهزومة

____________________

(١) انظر: وقعة الطفّ: ١٥٨ - ١٧٦، ١٨٤ - ١٨٥.

٣٤٩

روحيّاً وفكريّاً ونفسيّاً.

الشعار الرابع - ضرورة الثورة ضدّ السلطان الجائر:

وكان يطرح أيضاً إلى جانب كلّ هذه الشعارات الشعار الواقعي حينما كان يؤكّد على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ( من رأى سلطاناً جائراً يحكم بغير ما أنزل الله فلم يغيّر من ذلك السلطان بفعل أو قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله )(١) . فكان إلى جانب تلك الشعارات التي يسبغ عليها طابع المشروعيّة على عمله في مستوى أخلاقيّة الأُمّة كان يعطي أيضاً باستمرار ودائماً الشعار الواقعي الحيّ الذي لا بدّ وأن يكون هو الأساس للأخلاقيّة الجديدة التي كان يبنيها في كيان هذه الأُمّة الإسلاميّة.

أساليب كسب أخلاقيّة الهزيمة:

الأسلوب الأوّل - طرح الشعارات المنسجمة مع أخلاقيّة الهزيمة:

من جملة الأساليب التي اصطنعها - عليه أفضل الصلاة والسلام - للتوفيق بين الأخلاقيّتين، لمجاملة أخلاقيّة الهزيمة لكي يحولّها بالتدريج إلى أخلاقيّة التضحية أنّه طرح شعار: أن لا يبدأ الآخرين بقتال(٢) . هذا الشعار كان قد طرحه أمير المؤمنين عليّ عليه الصلاة والسلام، ولكنّ فرقاً كبيراً بين الشعار الذي طرحه الإمام عليّعليه‌السلام والشعار الذي طرحه الإمام الحسينعليه‌السلام . الإمام عليّعليه‌السلام كان رئيس دولة، ورئيس الدولة من المفروض أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتال إلاّ

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٧٢.

(٢) وقعة الطفّ: ١٧٩ و ٢٠٥.

٣٥٠

إذا بدأه المواطن بشقّ عصا الطاعة والتمرّد عليه والقتال، فكان من المفروض أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لا يبدأ عائشة مثلاً بقتال، لا يبدأ الزبير أو طلحة بقتال؛ لأنّهم مواطنون في دولة هو رئيسها، ما لم يخرجوا عن الخطّ، يحاربوا الوضع الشرعي الحاكم في تلك الدولة، فكان شعار: أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتال مفهوماً وواضحاً.

أمّا على مستوى حركة الحسينعليه‌السلام الذي خرج ثائراً على دولة قائمة وسلطان قائم فليس من المنطقي أن يقال: إنّ شخصاً يثور على سلطان قائم لا يبدأ هذا السلطان القائم بقتال، ولكنّ هذا الشعار قد طرحه - عليه أفضل الصلاة والسلام - لكي يكون منسجماً مع أخلاقيّة الهزيمة التي عاشتها الأُمّة الإسلاميّة أيضاً، لكي يسبغ على عمله طابع المشروعيّة على مستوى هذه الأخلاقيّة.

حينما التقى - عليه أفضل الصلاة والسلام - مع طليعة جيش عبيد الله بن زياد بقيادة الحرّ، وكانت الطليعة عبارة عن ألف جندي اقترح عليه زهير بن القين ( على ما أظنّ ) أن يبدأهم بقتال، وقال: إنّ هؤلاء أوهن علينا ممّن يجئ بعدهم، فلنبدأ بقتال هؤلاء، ولنفتح الطريق إلى الكوفة، قال عليه الصلاة والسلام: إنّي لا أبدأهم بقتال(١) .

ومن مصاديق تطبيق هذا الشعار كان وضع مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، فإنّ مسلم بن عقيل قد ذهب إلى الكوفة رسولاً من قبل الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام، إلاّ أنّه ذهب في إطار هذا الشعار، وهذا هو الذي يفسّر لنا عدم قيام مسلم بن عقيل بأيّ عمل إيجابي سريع خلال الأحداث التي مرّت به في الكوفة.

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٧٩.

٣٥١

قد يخطر على ذهن البعض أنّ مسلم بن عقيل لم يستطع أن يزن الأحداث أو أن يقدّر الظروف تقديرها اللازم، وأنّ مسلم بن عقيل كان مدعوّاً إلى نوع من المبادرة لكي يستلم زمام الموقف. إلاّ أنّ هذا التصوّر إنّما ينتج عن تخيّل أنّ مسلم بن عقيل قد ذهب من قبل الإمام الحسين إلى الكوفة والياً، حاكماً سلطاناً، وليس في نصوص التاريخ أيّ دلالة على ذلك، الإمام الحسين حينما أرسل مسلم بن عقيل وكتب معه كتاباً لم يكن هناك في الكتاب أدنى إشارة إلى إعطاء مسلم بن عقيل صفة الولاية والحاكميّة والسلطان، وإنّما قال لأهل الكوفة: إنّي أرسلت إليكم ثقتي من أهل بيتي لكي يستطلع أحوالكم ويتأكّد من إخلاصكم، ويكتب إليّ بذلك، فإن كتب إليّ بما جاءت به كتبكم ورسلكم استجبت لدعوتكم وجئتكم(١) .

مسلم بن عقيل كان مكلّفاً في نصّ هذا الكتاب باستطلاع أحوال تلك القواعد الشعبيّة التي راسلت الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولم يكن مكلّفاً بأزيد من ذلك، وبالفعل لم يقم مسلم بأزيدَ من ذلك، دخل الكوفة ونزل ضيفاً في بيت المختار رحمة الله عليه، وبقي في بيت المختار مكشوف الحال تزوره الشيعة ويتجمّعون عنده، فيتحدّث إليهم، ويؤكّد لهم أهداف الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويؤكّدون له إخلاصهم واستعدادهم للعمل في تلك الأهداف، حتّى يدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فيتوتّر الجوّ ويغيّر الموقف بشكلٍ عامّ.

مسلم بن عقيل يرى أنّ من المصلحة أن ينتقل إلى بيتٍ آخر ويكون مكثه في الكوفة سرّيّاً؛ لأنّ عبيد الله بن زياد بدأ عمليّة التعقيب والتفتيش عن مسلم بن

____________________

(١) وقعة الطفّ: ٩٦.

٣٥٢

عقيل، فبينما الوالي السابق كان سلبيّاً أصبح عبيد الله بن زياد يفكّر في مجابهة هذا التجمّع وبذرة هذا التجمّع، حينئذٍ انتقل مسلم بن عقيل من بيت المختار إلى بيت هاني بن عروة رضوان الله عليه، وبقي هناك متكتّماً بمكثه، وأخذ الشيعة يزورونه متكتّمين، وكان ظهور مسلم بن عقيل في اليوم المشهود مع أربعة آلاف، وكان العمل الذي مارسه حينما ذهب إلى قصر الإمارة مع هذا العدد من الشيعة وحاول أن يحتلّ قصر الإمارة وأن يسيطر على مقاليد الموقف خارج نطاق التخطيط المتّفق عليه بين مسلم والحسينعليه‌السلام ، كان هذا العمل بملاك الدفاع؛ لأنّ مسلم بن عقيل - رضوان الله عليه - وقع في موقع الدفاع، عبيد الله بن زياد بدأ بالهجوم، أخذ يحاول أن يتعقّب مسلم بن عقيل وأن يقضي على هذه البذرة، فكان مسلم بن عقيل في حالة دفاع، ولم يكن في حالة غزو أو هجوم، يعني أنّ الظروف اضطرّته إلى أن يقف موقف المدافع، ولو لم يبدأ بهذه العمليّة إذن لهجم عليه عبيد الله بن زياد وهجم على شيعته وهم في البيوت، فكان على مسلم بن عقيل لا بمنطق رسالته من قبل الحسين، لا بمنطق الحاكميّة والسلطان والولاية، بل بمنطق الدفاع أن يبدأ بمثل هذه العمليّة كدفاع عن نفسه وعن قواعده التي التفّت حوله حينما يحاول عبيد الله بن زياد أن يبدأ بالهجوم.

اقرؤوا رسالة الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - التي بعثها مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة، كان في الرسالة يقول: ( إنّي سوف أرد إليكم قريباً، فانكمشوا على أمركم حتّى آتي)(١) . الرسالة واضحة في أنّ الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - لم يكن قد خطّط لمسلم بن عقيل أن يملك الكوفة، وأن يسيطر

____________________

(١) وقعة الطفّ: ١٦٠.

٣٥٣

على الكوفة كحاكم ووالٍ وسلطان، يقول: انكمشوا في أمركم، يعني حاولوا أن تحفظوا هذا التجمّع إلى أن آتي، فكان تحويل هذا التجمّع إلى مجتمع، إلى سلطان، إلى دولة، كان كلّ هذا موقوفاً على دخول الحسين عليه الصلاة والسلام، ولهذا أوصى بأن ينكمشوا في أمرهم.

إذن فرسالة مسلم بن عقيل لم تكن إلاّ عبارةً عن استطلاع أحوال تلك القواعد الشعبيّة، وتزويد الإمام الحسينعليه‌السلام بالمعلومات الواضحة المؤكّدة عن تلك القواعد الشعبيّة، ولم يكن مسلم بن عقيل مكلّفاً بحرب، وإنّما قام بما قام به في اللحظة الأخيرة كدفاع عن النفس، حيث لم يكن هناك طريق آخر للاستمراريّة غير أنّ يتّخذ هذا الموقف الدفاعي. كلّ هذا يعبّر في الواقع عن شعار عدم الابتداء بالقتال، هذا الشعار الذي كان من المفروض على الإمام الحسين - عليه الصلاة والسلام - أن يطرحه لكي يشعر الناس جميعاً بأنّ العمليّة عمليّة فوق الشكّ، وأنّها مشروعة حتّى على مستوى تصوّرات الإنسان المسلم المهزوم روحيّاً وأخلاقيّاً.

ونحن إذا لاحظنا الإمام الحسينعليه‌السلام في مسيره من مكّة إلى العراق نرى أنّه كان باستمرارٍ يؤكّد على ضرورة مواصلة السير والسفر لأنّه مدعوّ، ولا بدّ له أن يجيب هذه الدعوة.

بلغه في الطريق أنّ مسلم بن عقيل قُتل ولم يغيّر من موقفه، أي يسقط هذا الشعار، بل بقي هذا الشعار مرفوعاً، وهو شعار أنّه مدعوّ من قبل الكوفة، ولا بدّ له أن يجيب بالرغم من أنّه اطّلع على أنّ مسلم بن عقيل وهاني بن عروة قد قتلا، بعد هذا اطّلع على أنّ قيس بن مسهر الصيداوي قد قتل من قِبَل عبيد الله بن زياد، مع هذا لم يغيّر هذا الشعار، بل بقي يؤكّد أنّه مدعوّ من قِبَل أهل الكوفة ولا بدّ له أن

٣٥٤

يجيب هذه الدعوة، حتّى التقى مع الحرّ بن يزيد الرياحي، جاءه الطرمّاح قال له: الحقْ بالجبل الفلاني، وأنا أجمع لك عشرين ألف نفر من العشيرة الفلانيّة يلتفّون حولك، والله يغنيك بذلك عن الكوفة، قالعليه‌السلام : بيننا وبين القوم عهد، ولا بدّ لي أن أسير إليهم(١) .

بعد كلّ هذه الدلائل من أهالي الكوفة على نكث العهد، مع هذا بقي الإمام الحسينعليه‌السلام يواصل تأكيده على هذا الشعار، إذن القصّة في الواقع لم تكن قصّة أن يقتنع الحسين، ولم يكن تحرّكهعليه‌السلام بينه وبين نفسه كنتيجةٍ لردّ فعلٍ لطلب قواعده الشعبيّة في الكوفة؛ لأنّه اطّلع في أثناء الطريق على أنّ القواعد الشعبيّة في الكوفة قد خانته، قد قتلت رسوله، قد قتلت ثقته من أهل بيته، ومع هذا كان يواصل السفر إليها، كان هذا الشعار شعاراً منسجماً مع الأخلاقيّة التي تعيشها الأُمّة الإسلاميّة، وكان لا بدّ له أن يطرح هذا الشعار لكي يسبغ على العمليّة طابع المشروعيّة في نظر أولئك الذين يحبّون السلامة، أولئك الذين يرون في التضحية لوناً من ألوان التهوّر واللا معقوليّة وقلّة الأناة.

الأسلوب الثاني - حشد كلّ المثيرات العاطفيّة في المعركة:

وكان من الأساليب التي اتّخذها أيضاً - عليه أفضل الصلاة والسلام - لكسب هذه الأخلاقيّة ومجاملتها أنّه حشّد في المعركة كلّ القوى والإمكانيّات، لم يكتفِ - عليه أفضل الصلاة والسلام - بأن يعرّض نفسه للقتل، عسى أن تقول أخلاقيّة الهزيمة: إنّ شخصاً حاول أن يطلب سلطاناً فقتل، بل أراد أن يعرّض

____________________

(١) راجع مقتل الحسين للمقرّم: ٢٢٢، وتاريخ الطبري ٤: ٣٠٦، وبحار الأنوار ٤٤: ٣٦٩، تاريخ الحسين بن عليّعليه‌السلام ، الباب ٣٧، باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد.

٣٥٥

أولاده وأهله للقتل، ونساءه للسبي، أراد أن يجمع على نفسه كلّ ما يمكن أن يجتمع على إنسان من مصائب وتضحيات وآلام؛ لأنّ أخلاقيّة الهزيمة مهما شكّكت في مشروعيّة أن يخرج إنسان للقتل فهي لا تشكّك في أنّ هذا العمل الفظيع الذي قامت به جيوش بني أُميّة، قامت به جيوش الانحراف ضدّ بقيّة النبوّة لم يكن عملاً صحيحاً على كلّ المقاييس وبكلّ الاعتبارات.

كان لا بدّ للإمام الحسينعليه‌السلام أن يُدخِل في المعركة دمه وأولاده وأطفاله ونساءه وحريمه وكلّ الاعتبارات العاطفيّة والاعتبارات التاريخيّة، حتّى الآثار التي كانت قد تبقّت له من عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى العمامة، حتّى السيف، لبس عمامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تقلّد سيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أدخل كلّ هذه المثيرات التاريخيّة والعاطفيّة إلى المعركة؛ وذلك لكي يسدّ على أخلاقيّة الهزيمة كلّ منفذٍ وكلّ طريقٍ إلى التعبير عن هزيمتها، وعن نوعٍ من أنواع الاحتجاج على هذا العمل؛ لكي يهزّ بذلك ضمير ذلك الإنسان المسلم المهزوم الذي تميّعت إرادته، وهكذا كان... قد استطاع - عليه الصلاة والسلام - بهذا التخطيط الدقيق الرائع أن يهزّ ضمير ذلك الإنسان المسلم.

الدرس الذي نستفيده من التخطيط الحسيني:

ومن هذا التخطيط يمكننا أن نستفيد درساً عامّاً، وحاصل هذا الدرس: أنّ عمليّة التغيير في أخلاقيّة الأُمّة لا يجوز أن تقوم بأيّ مجابهةٍ واضحةٍ للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الأُمّة؛ لأنّ المجابهة الواضحة الصريحة للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الأُمّة يكون معناها الانعزال عن هذه الأُمّة والانكماش، وعدم القدرة على القيام بعمل مشروع في نظر هذه الأُمّة.

٣٥٦

حينما نريد أن ننفذ إلى ضمير الأُمّة التي ماعت أخلاقيّاً لا بدّ لنا أيضاً في نفس الوقت الذي نفكّر في إنشاء أخلاقيّتها من جديد أن نفكّر في عدم مجابهة الأخلاقيّة القائمة بالشكل الذي يعزل هذا الشخص الذي يريد أن يغيّر أخلاقيّة الأُمّة، فلا بدّ له أن يفكّر في انتهاج طريقٍ في التغيير يستطيع به أن ينفذ إلى ضمير الأُمّة، وهو لا يمكنه أن ينفذ إلى ضمير الأُمّة إلاّ إذا حافظ باستمرارٍ على معقوليّة ومشروعيّة عمله في نظر الأُمّة، كما عمل الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام.

لم يبقَ لدى شخصٍ من أبناء الأُمّة الإسلاميّة أيّ شكّ في أنّ عمل الإمام الحسينعليه‌السلام كان عملاً مشروعاً صحيحاً، وأنّ عمل بني أُميّة كان عملاً ظالماً عاتياً جبّاراً.

وهذا الوضوح في الرؤية هو الذي جعل المسلمين يدخلون بالتدريج إلى آفاقٍ جديدةٍ من الأخلاقيّة تختلف عن أخلاقيّة الهزيمة، هذا الوضوح هو الذي هزّ ضمير الإنسان المسلم، وهو الذي يهزّه الى يومنا هذا.

فليس دم الإمام الحسينعليه‌السلام رخيصاً بدرجة يُكتفى في ثمنه بأن يهتزّ ضمير الإنسان المسلم في عصر واحد، أو في جيل واحد، لا يمكن أن يكون ثمن دم الإمام الحسينعليه‌السلام أن تتزلزل قواعد بني أُميّة، أو أن يكشف عن حقيقة بني أُميّة، أو أن تنتعش ضمائر جيل من اُمّة الإسلام... هذا لا يكفي ثمناً لدم الإمام الحسين الطاهر، بل إنّ ثمن دم الحسين - الذي هو أغلى دم سفك في سبيل الإسلام - أن يبقى محرّكاً منوّراً، دافعاً، مطهّراً، منقّياً على مرّ التاريخ لكلّ أجيال الأُمّة الإسلاميّة، لا بدّ وأن يهزّ ضميرنا وضمير كلّ واحدٍ منّا اليوم كما كان يهزّ ضمير المسلمين قبل ثلاثة عشر قرناً، لا بدّ أن يهزّ ضمير كلّ واحدٍ منّا حينما نجابه أيّ موقفٍ من مواقف الإغراء، أو الترغيب أو الترهيب، لا بدّ وأن نستشعر

٣٥٧

تلك التضحية العظيمة حينما نلتفت إلى أنّنا مدعوّون إلى تضحيّةٍ جزئيّة بسيطة، حينما يتطّلب منّا الإسلام من التضحية وقدراً بسيطاً وضئيلاً من التضحية، لا بدّ وأن نلتفت دائماً إلى ذلك القدر العظيم غير المحدود من التضحية الذي قام به الإمام الحسينعليه‌السلام لكي نستصغر ولكي يتضائل أمامنا أيّ قدرٍ نواجهه في حياتنا ونكلّف أنفسنا به في سبيل الإسلام.

إنّ الإسلام اليوم يتطلّب منك قدراً قليلاً من التضحية بوقتك، براحتك، بمصالحك الشخصيّة، برغباتك بشهواتك، في سبيل تعبئة كلّ طاقاتك وإمكانيّاتك وأوقاتك لأجل الرسالة. أين هذه التضحية من تلك التضحية العظيمة التي قام بها الإمام الحسينعليه‌السلام ؟ من تضحيته بآخر قطرةٍ من دمه، بآخر شخصٍ من ذريّته، بآخر كرامةٍ من كراماته بحسب مقاييس الإنسان الدنيوي ؟! لا بدّ أن نعيش دائماً هذه التضحية، ونعيش دائماً مدلول هذا الدم الطاهر لكي يكون ثمن دم الإمام الحسينعليه‌السلام حيّاً على مرّ التاريخ.

وغفر الله لنا ولكم.

٣٥٨

دروس

من تاريخ حياة الإمام الباقرعليه‌السلام

٣٥٩

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419