أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 122871
تحميل: 9224

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122871 / تحميل: 9224
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

البحث في حياة الإمام الباقرعليه‌السلام ، الإمام الخامس، محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.

الإمام الباقر يشكّل تقريباً شبه بدايةٍ للدور الثاني من الأدوار التي قام بها الأئمّة، فإنّ حياة الأئمّة عليهم الصلاة والسلام يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أدوار:

الدور الأوّل من حياة الأئمّةعليهم‌السلام :

هو الدور الذي ركّزت فيه الجهود وصرفت فيه الأتعاب والطاقات في سبيل تحصين الإسلام بالقدر الممكن ضدّ صدمة الانحراف التي حصلت بعد وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

صدمة الانحراف التي حصلت بعد وفاة القائد الأعظم كان من الممكن أن تأتي على الإسلام كلّه، وفي هذه المرحلة التي حدثت هذه الصدمة، كان من المهمّ قبل كلّ شيءٍ أن يحصّن الإسلام ولو بالقدر الذي يجعل منه شريعةً باقيةً إن لم يجعل منه مجتمعاً باقياً، أو دستوراً باقياً، أو دولةً باقية.

وهذا الدور بحسب الحقيقة هو الدور الذي مارسه أمير المؤمنين والحسن والحسينعليهم‌السلام حتّى انتهى إلى الإمام السجّادعليه‌السلام . وكان من أواخر ملامح هذا

٣٦١

الدور هو الدم الطاهر الذي أراقه السفّاكون في يوم عاشوراء، دم سيّد الشهداء وأهل بيته الطيّبين الطاهرين.

المركز الرئيسي للنشاط في هذا الدور كان هو أخذ احتياطاتٍ تحصّن وتحمي الإسلام ضدّ هذه الصدمة غير المترقَّبة وغير المخطّطة بعد أن حصّن الإسلام ولو كشريعةٍ ضدّ هذه الصدمة، واطمأنّ من هذه الناحية، بتفاصيل تذكر تباعاً لأحوال هؤلاء الأئمّة الأربعة.

الدور الثاني من حياة الأئمّةعليهم‌السلام :

بعد هذا انتهى العمل عند الأئمّة إلى الدور الثاني، وتحوّل المركز الرئيس للنشاط من تلك الناحية بعد الاطمئنان إليها إلى ناحيةٍ أخرى، والمركز الرئيس للنشاط الذي يكون مميّزاً للدور الثاني من الأدوار التي مرّ بها الأئمّة هو دور إعطاء الإطار التفصيلي الخاصّ للشيعة بوصفهم النخبة المؤمنة المحافظة على التراث الحقيقي للإسلام وللشريعة ولأحكام القرآن. هذا الإطار التفصيلي والخطوط التفصيليّة لهذه الكتلة - يعني للفرقة الناجية - لم يكن قد أُعطي بشكلٍ واضحٍ محدّدٍ في أيام الأئمّة الأربعة، لأنّ الخطّ الرئيسي لم يكن هذا في أيامهم، بل كان الخطّ الرئيسي هو حماية الإسلام كشريعةٍ وإنعاش معنويات هذا المجتمع الإسلامي بعد أن انهار من أثر الصدمة التي خطّطها الانحراف بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولهذا يرى أنّ في الخط الشيعي الخاصّ الواضح أخذ ينمو أسرع فأسرع في كلمات الأئمّة في الدور الثاني ممّا يتجلّى في كلمات الأئمّة من الدور الأوّل، وليس هذا في الحقيقة عبارةً عن التدرّج في التكوّن في نفس التشيّع كما قد يتخيّل للسالكين غير المرتبطين باُصول هذه الاُسرة، لم ينشأ التشيّع بالتدريج ولم يتدرّج، لأنّ هذا الشيء الذي أُعطي أخيراً هو الذي أُعطي أوّلاً لكن على

٣٦٢

المستوى الخاصّ والضيّق جداً، هذا الشيء الذي كان يعطيه الإمام الباقرعليه‌السلام على مستوىً عامٍّ للكتلة كان يعطيه أمير المؤمنينعليه‌السلام بالنصوص الثابتة عنه لكن على مستوىً خاصٍّ جداً من الكتلة، على مستوى سلمان وأبي ذرّ ونحوهما. فالتشيّع هو التشيّع، ولكنّ التخطيط الذي مارسه الأئمّة كان يختلف اتّجاهه العامّ وتركيبه وتكوينه وفقاً لمتطلّبات القضيّة الإسلاميّة في كلّ مرحلة.

فالإمام الباقر يبدأ بحسب الحقيقة شبه بدايةٍ لهذا الدور الثاني الذي هو دور إعطاء الإطار التفصيلي للفرقة الناجية، وهذا الدور ينتهي بالإمام الرضا، لأنّه من خلال أتعاب وجهود هؤلاء الأئمّة: الإمام الباقر ثمّ الإمام الصادق ثمّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، من خلال أتعابهم، خلال إعطاء الإطار بأروع ما يمكن، وفي أدقّ ظرفٍ يتصوّر بالنسبة إلى الداعية والدعاة، عظم هذا الإطار، واتّضح هذا الإطار وأصبح واضحاً إنّ المسألة ليست مسألة شخصٍ غيورٍ على الإسلام فحسب، بل هي مسألة عقيدةٍ وكتلةٍ وطريقةٍ خاصّةٍ في تفسير الإسلام، وإنّ هذه الطريقة هي الطريقة التي يجب أن تقود المجتمع الإسلامي كلّه.

الدور الثالث من حياة الأئمّةعليه‌السلام :

بعد هذا ننتقل إلى الدور الثالث الذي قرأنا في المجلس السابق شيئاً من مراحله المتوسّطة أو شبه الأوّليّة من حياة الإمام الجواد؛ لأنّ المرحلة الثالثة تبدأ من الإمام الرضا، وفي هذه المرحلة أصبحت الشيعة في مستوىً يقربّهم إلى التسلّم لزمام الحكم، وأصبحت لهم من القواعد الشعبيّة ما يشكّل خطراً سياسيّاً حقيقيّاً على الخلفاء، وهذا هو الذي جعل هناك تغيّراً أساسيّاً في وجه سياسية الخلفاء مع هؤلاء الأئمّة، بدءاً من الإمام الرضا على النحو الذي أشرنا إليه في حياة الإمام الجوادعليه‌السلام ، وسوف نتكلّم عنه أكثر في حياة الرضاعليه‌السلام

٣٦٣

وبقية أئمة ذلك الدور.

الإمام الباقرعليه‌السلام في مطلع الدور الثاني:

الآن نحن نتكلّم عن إمامٍ هو في مطلع الدور الثاني من هذه الأدوار الثلاثة، وهو الإمام الباقرعليه‌السلام الذي جاء بعد انتهاء الدور الأوّل، وعرف المسلمون جميعاً أنّ آباء هذا الرجل هم الأشخاص الذين ضحّوا بأرواحهم ودمائهم وأقاربهم، هم الأشخاص الذين ضحّوا بنعيم الدنيا وبانفتاحها وأبعادها، كلّ ذلك في سبيل أن يقفوا في وجه هذا الانحراف، ويكون للناس على أقلّّ تقديرٍ أنّ هذا ليس هو الإسلام، بل هذا غير الإسلام. التطبيق غير النظريّة، الواقع الخارجي غير المدّعى، المفهوم المعطى في الكتاب والسنّة غير هذا الذي تجسّد في كيان هؤلاء الزعماء المنحرفين، هذا المطلب بعد أن أُنجز خلال الدور الأوّل جاء الإمام الباقر يقول: إنّ هذا الدور الذي أُنجز لم يكن مجرّد أعمالٍ شخصيّةٍ يقوم بها أشخاص متفرّقون لأجل مصلحة الإسلام تجمعهم الغيرة على الإسلام فحسب، بل هذا في الحقيقة هو وجه ومظهر لتكتّلٍ واعٍ يؤمن بالإسلام إيماناً صحيحاً واعياً، وأنّ هذا التكتّل وهذه الفرقة هي الفرقة الناجية التي ذكرها رسول الله(١) ، ولها معالمها الخاصّة، وإطارها الخاصّ، وشروطها الخاصّة، وموقعها الخاصّ تجاه مختلف الشؤون للمعرفة الإسلامية التي كانت رائجةً وقتئذٍ؛ بحكم تكفّله للمسؤوليات في نهاية الدور الأوّل هو بطبيعة الحال سوف يبني على ما بنى عليه آباؤه السابقون، وطبعاً سوف يستفيد من المكاسب الكبيرة التي حقّقها آباؤه السابقون.

____________________

(١) راجع: بحار الأنوار ٢٨: ٤ - ٣٦، الباب الأوّل، باب افتراق الأُمّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على ثلاث وسبعين فرقة...

٣٦٤

منزلة الإمام الباقرعليه‌السلام في نفوس الأُمّة:

الخطّ التأريخي الممتدّ هذا أعطى للإمام الباقر مقاماً كبيراً في نفوس الأُمّة الإسلاميّة، هذا المقام الكبير قرّره كونه وريث أولئك الذين وقفوا في وجه الانحراف، وصانوا الإسلام في مقابل تلك الصدمة التي سبّبها ذلك الانحراف. هذا المقام الكبير هنا يتجلّى في نصوصٍ تأريخيّةٍ كثيرةٍ عديدةٍ وافرةٍ يمكن الاطّلاع عليها في تراجم الإمام الباقرعليه‌السلام .

الإمام الباقر يعبّر عنه في سؤال ابن هشام حينما يراه في الحجّ يقول: من هذا ؟ فيقال له: هذا من افتتن به أهل العراق(١) ، أو هذا إمام أهل العراق(٢) ، وبتعبير فقيةٍ سنّيٍّ آخر في مقام استهزاءٍ يقول: هذا نبيّ أهل الكوفة(٣) ، على أساس أنّ الناس غَلَوْا في هذا الشخص إلى هذه الدرجة.

تصوير حياته الدينية في موسم الحجّ، وكيف أنّ الآلاف من مختلف الجهات كانوا يأتون إليه ويستفتونه، من العراق، ومن خراسان، ومن غيرها(٤) ، ويعطي في المقام الامتداد الروحي الشعبي الواسع النطاق الذي كان يتمتّع به الإمام الباقر، محاولات الأسئلة ومحاولات الامتحان من قبل كبار فقهاء

____________________

(١) كشف الغمّة: ١٢٦.

(٢) بحار الأنوار ٤٦: ٣٥٨، تاريخ الإمام الصادقعليه‌السلام ، باب مناظراته مع المخالفين، الباب ٩، الحديث ١٢.

(٣) المصدر السابق: ٣٥٥، الحديث ٩.

(٤) المصدر السابق: ٢٥٨ - ٢٥٩، تاريخ الإمام الباقرعليه‌السلام ، الباب ٥، باب معجزاته ومعالي أمورهعليه‌السلام ، الحديث ٥٩٦٠و، الباب ٦، الحديث ١٧، ٢٠.

٣٦٥

المسلمين الذين بدأوا ذلك الوقت مدارسهم الفقهيّة، محاولة تحدّي الإمام الباقر، والسفر من بلدٍ إلى بلدٍ لأجل أن يحاجّوه بسؤالٍ، أو لأجل أن يحرجوه في مسألة(١) ، هذا يدلّ على الصيت الذائع وعلى الفكر الواسع الذي أوجد مثل هذه الردود الفعليّة المختلفة أنحاء العالم الإسلامي.

والذي يبدو في هذه النصوص أنّ هذه الزعامة الشعبيّة الروحيّة كانت فوق الحدود والانقسامات، فلم يكن زعيم شعبٍ دون شعب، بل كانت الشعوب الجديدة الداخلية في الإسلام أيضاً تعترف به وتؤمن به وترتبط به على حدّ ارتباط أهل الكوفة والبصرة من أبناء الشعب العربي، وكذلك في داخل الشعب العربي لم يكن هناك فَرق من حيث الارتباط الروحي بالرغم من التناقض العنصري أو القبلي الذي كان موجوداً في حياة العرب في أيام الخلافة الأموية بين المضريّين والحميريّين، مع هذا نرى في غرّة أصحاب الإمام الباقر من هؤلاء وأولئك بالرغم من العداء الشديد المستمرّ الذي امتلأت به صفحات تأريخ بني أُميّة بين الحميريين والمضريين حتّى أصبح الشعراء الشيعة الرسميّون للإمام من هذين الطرفين، ولا ننسى بهذه المناسبة الفرزدق التميمي المضري(٢) والكميت الأسدي

____________________

(١) كشف الغمّة ٢: ١٢٦ - ١٢٧.

(٢) وهو همام بن غالب بن صعصعة التميمي المعروف بأبي فراس، ( ت ١١٠ ه- )، شاعر مشهور، لولا شعره لذهب ثلث لغة العرب، أشار عليه الإمام عليعليه‌السلام بحفظ القرآن ففعل، وقد فاز بحبّ أهل البيتعليهم‌السلام ، وله الأبيات المشهورة في الإمام زين العابدينعليه‌السلام التي أوّلها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحلّ والحرم

قالها بمسمع هشام بن عبد الملك، له ديوان مطبوع ونقائض معروفة مع جرير ومجموعة من الشعراء، نسمة السحر ٣: ٣١١ - ٣٢٣.

٣٦٦

الحميري(١) ، بالرغم من اتّجاههما القبليين المتعاديين، اتّفقا على الولاء للإمام الباقر ولأهل البيت؛ كلّ هذا رصيد ورثه الإمام الباقر من تلك الجهود والأتعاب التي تجسّدت في الدور الأوّل من الأدوار الثلاثة، ورثها حينما بدأ الدور الثاني من هذه الأدوار الثلاثة.

وقلنا: إنّ الطابع العامّ لهذا الدور الذي دشّنه الباقر وابتدأه هو [إعطاء] طابع إطارٍ تفصيليٍّ للتشيّع، يعني وضع النقاط على الحروف لإعطاء الإطار الواضح الحدود والمعالم.

مسئوليات الإمام الباقرعليه‌السلام :

في هذا المقام كان يواجه الإمام مسئولياتٍ كبيرةً جدّاً ومهمّةً جدّاً. أوّلاً وقبل كلّ شيء وهي المسألة الرئيسيّة في هذا الدور: مسألة إعطاء هذا الإطار وإعطاء هذه الملامح المحدّدة التفصيليّة للتشيّع، وإخراج العمل من كونه عملاً يقوم به شخص أو شخصين أو ثلاثة إلى عملٍ يمثّل فرقةً تمثّل الإسلام بوجهه الحقيقي.

هذا المطلب كان الإمام الباقر يمارسه تارةً عن طريق التثقيف الموسّع المتنوّع داخل مدرسته، وأخرى عن طريق مجابهة الأُمّة بهذا الإطار لأوّل مرّةٍ تقريباً في حياة الأئمّة. الإمام الباقر كان يجابه الأُمّة بهذا الإطار، ويتحدّى ذهنيّة

____________________

(١) أبو المستهل الكميت بن زيد بن حبيش الأسدي ( ٦٠ - ١٢٦ ه- ) شاعر سبق في القريض والبيت، دان لله بحبّه لأهل البيت ونصرهم بلسانه ودمه. أوّل شعره الهاشميات. وأوّلها:

وما لي إلاّ آل أحمَدَ شيعةٌ وما لي إلاّ مذهبَ الحقّ مذهبُ

دعا له الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام . نسمة السحر ٢: ٥٤٥ - ٥٥٥.

٣٦٧

أكثر أفراد ا لأُمّة الذين لم يكونوا يؤمنون بهذا الإطار بالرغم من أنّهم كانوا يؤمنون بالإمام كشخص، وأنّه رجل عظيم، لكن لم يكونوا يؤمنون بهذا الإطار. الإمام كان يعطي الشعار على مستوى الأُمّة إعطاءً واضحاً صريحاً، بنحوٍ غير مألوفٍ بالنسبة إلى آبائه.

ففي الرواية: أنّ الإمام الباقر حجّ بيت الله الحرام ومعه ولده الإمام الصادق، حتّى إذا بلغا المسجد يقف الإمام الصادق في قبال أبيه ويعلن ويقول: نحن ونحن ونحن، فيعطي المفهوم الشيعي عن أهل البيت بشكلٍ واضحٍ محدّد، ويبيّن أمام هذا الملأ، ملأ هشام بن عبد الملك، ويعلن نحن نتمتّع بهذه الخصوصيّات وبهذه الصفات التي مرجعها إلى أنّ أهل البيت هم أصحاب الزعامة الروحيّة والاجتماعيّة في مجتمع الإسلام ونحن ورّاث الإسلام الحقيقيّون(١) .

هذا الإعلان على هذا المستوى الجماهيري وتكييف ساعةٍ له يكون فيها هشام حاضراً هذا ليس مجازفةً، وإنّما هو وفق متطلّبات هذا الدور، لأنّه في هذا الدور يجب أن يسمع المسلمون أنّ المسألة ليست مسألة الإمام الحسين بن عليّعليهم‌السلام حارب مخلصاً للإسلام وقتل، أو مسألة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام حارب وقتل، وإنّما هي مسألة اتّجاهٍ عامّ، وزعامةٍ لها تخطيط واضح المعالم، وأنّ هذه الزعامة هي التي برزت في عليٍّعليه‌السلام تارة وفي الحسينعليه‌السلام أخرى، وسوف تبرز وتبقى تبرز على مختلف العصور والأجيال، هذا المطلب كان لا بدّ من تنبيه الأُمّة إليه تنبيهاً يهزّها هزّاً عميقاً.

____________________

(١) دلائل الإمامة: ١٠٤، وبحار الأنوار ٤٦: ٣٠٦، تاريخ الإمام الباقرعليه‌السلام ، باب خروجه إلى الشام، الباب ٧، الحديث الأوّل.

٣٦٨

نظير هذا وقع أيضاً حينما أُشخص الإمام الباقرعليه‌السلام إلى الخليفة الأموي، وأشكل على الخليفة والخليفة سأله قال له: هل أنت من ولد أبي تراب ؟ أنت ترابي ؟ ثمّ شرع في كلام يعاب به والاستخفاف بالإمام، بعد هذا وقف الإمام خطيباً في وجه الخليفة وأعلن نفس هذا المفهوم، المفهوم الشيعي الواضح أعلنه هناك(١) . والحسينعليه‌السلام لم يعلن هذا المفهوم مع أنّه ثار على يزيد، مع هذا لم يعلن هذا المفهوم في مجلس والي يزيد، لم يقل له نحن، وإنّما قال له: إنّ يزيد شارب الخمر ومثلي لا يبيايع مثله(٢) ، لماذا ؟ لأنّ الحسين كان يعيش مسئوليات الدور الأوّل الذي قلناه، والدور الأوّل كان لا بدّ فيه قبل كلّ شيءٍ من الحفاظ على أصل الإسلام، من إنقاذ سمعة الإسلام من شارب الخمر، كان هذا هو الواجب واللازم قبل كلّ شيء، إنّ الإسلام يُنقى ويبعد عن مستوى شارب الخمر، وهذا هو الذي قاله الحسينعليه‌السلام .

أمّا الإمام الباقرعليه‌السلام بالرغم من أنّه لم يكن قد حمل السيف في تلك الساعة كما حمله الحسين قال بالمفهوم الشيعي الخالص عن زعامة أهل البيتعليهم‌السلام ، هذا كلّه يعطي أنّ الدور دورٌ جديد، وعلى أبواب دورٍ جديدٍ له تخطيط جديد، وله هدف رئيسي جديد يختلف عن الهدف الرئيسي في الدور السابق، وليس معناه أنّ الهدف السابق عطّل في هذا الدور، وإنّما معناه أنّ العناية أُوليت بهذا الهدف أوّلاً مع الحفاظ على سائر الأهداف الأخرى، إذن فهكذا كانت هي المسألة الرئيسيّة في هذا الدور.

والإمام الباقر في مقام إعطاء هذه الملامح التفصيليّة وهذا الإطار المحدّد

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٦: ٣١٧، نفس الباب، الحديث ٣.

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي: ١٨٤.

٣٦٩

المعالم للفرقة الناجية كان يصطدم من الخارج بعقبة، وكان يصطدم من الداخل بعقبة.

العقبات التي كان يواجهها الإمام الباقرعليه‌السلام من الخارج:

أمّا العقبات التي كان يصطدم بها من الخارج فهي: أنّ الحياة الإسلاميّة كانت وقتئذٍ تتمخّض عن إعطاء إطارٍ آخر ومبدأٍ آخر محدّد المعالم معاكسٍ مع هذا المبدأ الذي حاول الإمام الباقر أن يعطيه. الإمام عاصر حالة تمخّض مبدأ جديدٍ فكريٍّ تجسّد فيه الانحراف السياسي، أليس الدور الأوّل عاش الانحراف السياسي ؟ هذا الانحراف السياسي كان قد بدأ يتمخّض عن مبدأ فكري، كما أنّ العمل السياسي في الدور الأوّل لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بدأ من الدور الثاني في إعطاء ملامح تفصيليةٍ للفرقة الناجية.

ما هو ذلك المبدأ ؟ مبدأ مرجعية الصحابة، أو مرجعية الصحابة والتابعين. تعلمون بأنّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى المرجعية السياسية والمرجعية الفكرية لعليّ بن أبي طالب ولخلفاء عليعليهم‌السلام ، وتعلمون أنّ المرجعية السياسيّة انتزعت من أمير المؤمنينعليه‌السلام إثر وفاة النبيّ، وأمّا المرجعية الفكرية كمرجعيةٍ رسميةٍ فهذه بقيت شاغرةً ومعطّلة، ولم يكن هناك تخطيط واضح لملء هذا الفراغ في عهد الخلفاء الثلاثة، وهذا ما نبحثه في ترجمة أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وبعد انتهاء عصر الصحابة وبدء عصر التابعين، وانقراض كثيرٍ من الناس التابعين وبدء تابعي التابعين في هذا العصر واجهت الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي ضرورة ملء هذا الفراغ؛ وذلك لأنّهم ابتعدوا عن مصادر الإسلام، ابتعدوا عن الكتاب والسنّة وعن عصر النبيّ، ابتعدوا عن لغة الكتاب ومناسباته وظروف الكتاب، وأصبح الكتاب لا يخلو عن غموضٍ في نظرهم باعتبار البعد

٣٧٠

الزمني، وكذلك النبيّعليه‌السلام لم يبقَ لهم شخصٌ ينقل لهم النصوص عن النبيّ مباشرةً، واتّسعت الحياة الإسلامية، واستجدّت في الحياة الإسلامية أنواع وأحداث وملابسات وتعقيدات، وفتحت الأبواب على مجالاتٍ جديدةٍ لم تكن بحسبان، في كلّ ذلك كان يحتاج إلى مرجعٍ فكري، ما هو المرجع الفكري هناك ؟

بطبيعة الحال لم يكن من الممكن للخلفاء أن تقرّر المرجعية الفكرية لأهل البيت؛ لأنّهم وإن كان لا شغل لهم بالمرجعية الفكرية ولكن المرجعية الفكرية كانت تمهيداً للمرجعية السياسية، ولو أنّهم أعطوا المرجعية الفكرية لأهل البيت لأعطوهم أقوى سلاحٍ يمكن أن يصلوا به إلى الحكم، وأن يرجعوا من جديدٍ في المرجعية السياسية.

فكان لا بدّ من تسليط الأضواء إلى جهةٍ أُخرى، وكان لا بدّ إذن من إشغال الرأي العام عن أهل البيت مهما أمكن، وكان لا بدّ إذن من تجميد منابع الصلة بين أهل البيت وبين المسلمين لكي لا يفكّر هؤلاء في استرجاع الحكم بعد ذلك هناك.

كان يتمخّض الفكر المنحرف في حياة الأُمّة الإسلامية عن وضع مبدأ، وهو مبدأ مرجعية الصحابة، وأن يكون قول الصحابي حجّة، وأن يكون أصيلاً برأسه باعتبار أنّ الصحابي يعرف ذوق الإسلام وقد فهم الإسلام وعاش قضايا الإسلام، فلا بدّ وأن لا يكون في أقواله وانطباعاته مخالفاً مع الإسلام، وكان مثل هذا المبدأ مقبولاً من الناحية الذوقية بحسب الظاهر.

وحيث إنّ المبدأ بنفسه أيضاً لم يكن يملأ كلّ الفراغ؛ لأنّ الصحابة أنفسهم في معالجاتهم للمشاكل وفي أحكامهم وقضاياهم لم يكونوا يستوعبون الفراغ هذا أيضاً، كانت الحياة الإسلامية، الفكر المنحرف في الحياة الإسلامية كان يتمخّض عن وضع متمّم الجعل لمرجعية الصحابة، ومتمّم الجعل كان هو الاجتهاد

٣٧١

والرأي، هذا المبدأ الذي قامت على أساسه بعد هذا مدارس القياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، ونحو ذلك من المدارس التي استحدثها فقهاء المسلمين من السنّة.

هذا كان يتمخّض حينما كان الإمام الباقرعليه‌السلام يعلن عن المبدأ الصحيح، حينما كان يواجه المسلمين بالإطار الحقّ للفرقة الناجية، ويعطي هذا الإطار المعالم المحدّدة، وهذا الإمام كان يواجه صعوبةً كثيرةً من هذا الناحية، وفي الروايات الواردة عن مناقشة الإمام الباقرعليه‌السلام بأنّك ترسل عن رسول الله، وكيف يصحّ هذا الإرسال ؟ هذه المناقشة استبطان لمرجعيّة الصحابة، بالآخرة المرجع هو الصحابة، ولا بدّ أن نستفيد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبالرغم من أنّ الإمام الباقرعليه‌السلام تحدّى الفكرة العامة، وأعطى فكرة مرجعية أهل البيت بشكلٍ واضح، وصرّح بذلك في أقصى المجالس من وجهةٍ سياسيّةٍ في حالاته الاعتيادية، هو ومن جاء بعده كانوا في تقيّةٍ شديدةٍ من ناحية هذا المبدأ بالذات.

تقيّة الأئمّةعليهم‌السلام من ذهنيّة الرأي العامّ:

وأنا أعتقد أنّ الأئمّة كانوا في تقيّةٍ من ذهنية الرأي العام أكثر ممّا كانوا في تقيّةٍ من ناحية خلفاء الجور والظلم، لم يكونوا - الأئمّة - في تقيّةٍ من ناحية خلفاء الجور بتلك الدرجة التي نراها في الروايات والأخبار، ولا أظنّ أنّها بتمامها كانت مستندةً إلى اتّقاء خطر خلفاء الجور، وماذا يهمّ خلفاء الجور أن تكون الفتوى هكذا أو هكذا في مسائل الطهارة والصلاة والصوم وغير ذلك من الأمور التي لا ترتبط بلهوهم وأُنسهم وسياستهم وشهواتهم التي تهمّهم، لم يكونوا يهتمّون بهذه الناحية بالمقدار الذي يجعل الإمام يتّقي هذا الاتّقاء الذي يبدو من الروايات.

٣٧٢

الإمام كان يتّقي في الموارد التي لا ترتبط لا من قريب ولا من بعيد بمسألةٍ سياسية، حتّى في هذه المواضع الإمام كان يتّقي، لماذا كان يتّقي ؟ الإمام كان في نظر المسلمين أجمع رجلاً عالماً كاملاً عاملاً عادلاً متديّناً، وكان لا يشكّ أنّه في طليعة أهل العلم والورع والتقوى، إذن لماذا لم يكن يقول في مسألةٍ: إنّ هذا حرام أو إنّ حلال، ولا يهمّ ذلك الخليفة الجالس في قصره أن يكون هذا حراماً أو أن يكون ذلك حلالاً ما دام الخراج بيده وما دام الأمر أمره ونهيه ؟

الذي أرى أنّ ذهنيّة المسلمين التي غرسها الانحراف السياسي المستمرّ المتدرّج نشأت بنحوٍ تستغرب مرجعية أهل البيت، وتستنكر هذه الفكرة بالرغم من إعظامهم لأشخاص أهل البيتعليهم‌السلام ، ولكنّها تستغرب فكرة أنّ الإسلام قد أعطي أمانةً بيد هذه الأسرة الخاصّة، أو بيد أشخاصٍ متسلسلين من هذه الأسرة الخاصّة، هذه الفكرة أصبحت بعد وفاة النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأربعين أو بخمسين سنة، أصبحت فكرةً تبدو غريبة، وعمق غرابتها في شذوذ معاوية وخلفاء معاوية بقطعهم الصلة بين المسلمين وبين كثيرٍ من الروايات المأثورة عن النبيّ، وفكرة أنّ الإسلام أُعطي أمانةً بيد أهل البيت، وأنّ أهل البيت أُمناء بصورةٍ مباشرةٍ على الإسلام، وعلماء بصورةٍ مباشرةٍ للإسلام. هذا المطلب أصبح شيئاً غريباً، بل أصبح شيئاً تمجّه الطباع وتضيق به.

الإمام الباقرعليه‌السلام أمام طريقين:

الإمام الباقر الذي عاش محنة هذا الدور الثاني الذي نتكلّم عنه، كان له طريقان: إمّا أن ينصب له مدرسةً فقيهةً كما ينصب غيره من الفقهاء مدرسةً فقهية، وبعدئذٍ يفتي على أساس الرواية المسندة عن النبيّ تارةً، وعلى أساس الاجتهاد والمصالح أخرى، غاية الأمر بطبيعة الحال أنّه لا يفتي بخلاف الواقع، يفتي

٣٧٣

بالواقع، لكن يُلبِس الواقع هذه الأثواب المعترف بها بحسب الذهنية العامة، فحينئذٍ هل كان يحقّق خطراً من هذه الناحية، أو كان يحقّق من هذه الناحية شيئاً يستفزّ الخليفة بمجرّد أن خالف فلان الفقيه، مع أنّه نهج نفس المنهج، واتّبع نفس الإطار العامّ الذي اتّبعه الفقيه الآخر ؟ لو كان سلك هذا السلوك لما استفزّ الخليفة، ولما استفزّ السياسة الحاكمة، ولكان هذا يجعله في مصاف بقيّة الفقهاء، بل يجعله أكبر من بقيّة الفقهاء الآخرين، كلّهم كانوا بالنظر العامّ أهبط من مستوى الأُمّة، يقول ذلك الشخص: ما رأيت العلماء أمام شخصٍ هم أصغر وأحقر منهم أمام محمّد الباقرعليه‌السلام (١) . لو كان ينهج نفس المنهج ويتّخذ نفس الإطار، ويلبس الفتوى الواقعية هذه الأثواب، إذاً لنجح ولما وجد هناك تقيّة بهذا المعنى الذي نقول. المهمّ توجد تقيّة في مجالاتٍ خاصةٍ ترتبط بمصالح الحاكم لا أكثر من ذلك.

لكن هذا كان يتنافى مع طبيعة الذات؛ لأنّ هذا إمضاء ضمني لهذه الأثواب، إمضاء ضمني لهذا الإطار، إمضاء ضمني لهذه الذهنية العامة المنحرفة عند المسلمين وتعطيل ضمني لمبدأ مرجعية أهل البيتعليهم‌السلام . المسألة الجهادية وقتئذٍ لم تكن هي مسألة أن ينقل الفتوى الواقعية في هذه القضية أو في تلك القضية، وإنّما تعطى في إطار مرجعية أهل البيت، هذه هي كانت المسألة الجهادية، وهذه المسألة الجهادية هي التي تستفزّ السلطان، وتستفزّ الذهنيّة العامة عند المسلمين؛ لأنّ الذهنية العامة للمسلمين غير مستعدّةٍ أن تسمع مثل هذا، نعم مستعدّة أن تسمع من الإمام على قدر ما تسمعه من مالك وأبي حنيفة وغيرهم، ولكن على نحوٍ غيبيٍّ إلهيٍّ حينئذٍ غير مستعدّةٍ أن تسمع ذلك، وإنّما تقول حينئذٍ: إنّ هذا ساحر، إنّ

____________________

(١) تذكرة الأُمّة بخصائص الأئمّة لسبط ابن الجوزي، عن عطاء: ٣٣٦.

٣٧٤

هذا كذّاب، كما قال الجاهليّون عن جدّه !

إذن فكان الإمام في نفس الوقت الذي يجاهد بإعطاء هذا الإطار، في نفس الوقت كان يتّقي عن الإعطاء ضمن هذا الإطار إلاّ في حدودٍ يمكن أن تحقّق مكسباً جديداً للفرقة من دون أن يستفزّ أذواق الآخرين بما يعود على الفرقة من الوبال وبالخسارة، وكثير من الإفتاءات الفقهية أنا أُفكّرها على هذا الأساس؛ لأنّ الأساس كان يدور أمره بين أن يُظهر الواقع لكن في إطارهم، وبين أن لا يُظهر الواقع، في المقامين لم يظهر الواقع وتابعهم بحسب الصورة، بل كان إمّا أن يعطي الواقع بثوبه الإلهي، وإمّا أن يتظاهر بالتبعية المطلقة للفقهاء الآخرين وأنّه ليس له كلام إلاّ كلامهم، كلّ هذا كان لأجل دقّة الموقف بكلا قسميه.

هذه هي المشكلة التي كان يواجهها الإمام الباقر بحسب الخارج، مشكلة تمخّض الانحراف في الحياة الإسلامية عن وضع مبدأً آخر في مقابل هذا المبدأ، وهذا المبدأ عاصره الإمام الباقرعليه‌السلام في حياة مخاض، ثمّ يعاصره الإمام الصادق، وهو في حالة عنفوانه، ويواجهه بعد أن اشتدّ فاعله ونما وأصبح شيئاً رسمياً مقهراً مفروغاً عنه، على ما يأتي في حياة الإمام الصادقعليه‌السلام .

العقبة التي كان يواجهها الإمام الباقرعليه‌السلام من الداخل:

وأمّا المشكلة التي كان يواجهها من الداخل: هي المشكلة التي كان يواجهها من داخل الإطار الشيعي حينما بدأ إعطاء المناهج التفصيلية وإعطاء الخطوط التفصيلية للتشيّع بوصفه الوريث الحقيقي للإسلام ومعبّراً حقيقيّاً للإسلام، في هذا المقام كان من الطبيعي أن يواجه شيئاً من التشويش والاضطراب في داخل كيان الشيعة؛ لأنّ هذه الحدود وهذه المعالم لم تكن تعطى

٣٧٥

بصورةٍ مخصوصةٍ واضحةٍ منشورةٍ بلا خوفٍ ولا تقيّةٍ ولا وجلٍ مع التخطيط اللازم والشرح اللازم، وإنّما كانت تعطى في ظروفٍ جهاديةٍ معقّدةٍ ومحتفّةٍ بالمشاكل التي شرحناها والتي لم نشرحها.

إذن فمن الطبيعي هذا أنّ مثل هذه المعطيات سوف يدخل عليها كثير من التغيير والتبديل والتطوير في داخل الجهاد، في داخل الكتلة، هذا المفهوم حينما ينطلق من عند الإمام لا يسمعه الكلّ على مستوىً واحدٍ وبدرجةٍ واحدة، وإنّما يبقى يمشي من إنسانٍ إلى إنسانٍ في تُؤَدَةٍ وببطءٍ إلى أن يستوعب كلّ الكتلة، هذا المفهوم حينما يمشي شأنه [ شأن ] الماء حينما يمشي على الأرض يأخذ من تراب الأرض ومن أوساخها، وهكذا حتّى يخرج من كونه ماءً مطلقاً إلى كونه ماءً مضافاً أو ماءً متغيّراً، هذه المفاهيم كان حالها هكذا.

في مثل هذا الجوّ وجدت هناك فرصٌ وإمكانيات في داخل جبهة الفرقة الناجية للتحريف والانحراف، ولبناءاتٍ باطلةٍ ضالّةٍ في داخل هذه الفرقة الناجية. والتأريخ يقول بأنّ اتّجاهات جديدةً للغلوّ نشأت في فترةٍ مقارنةٍ مع حياة الإمام الباقرعليه‌السلام وفي حياة الإمام الباقرعليه‌السلام .

وكان من جملة المعمّقين لهذه الاتجاهات في داخل الفرقة هم الأشخاص الذين اكتسبوا بعد ذلك اسم الحنفيّين أو المذهب الحنفي أو نحو ذلك، يعني الأشخاص الذين انتسبوا إلى دعوى إمامة محمّد بن الحنفيّة وبعده أبو هاشم، نفس محمّد بن الحنفية لم يثبت بوجهٍ من الوجوه أنّه ادّعى الإمامة، وإنّما شُوّش عنه بهذا المفهوم في عملٍ قام بهالمختار في الكوفة.

وبعد محمّد بن الحنفية جاء ابنهأبو هاشم ، ويبدو أنّ أبا هاشم كان رجلاً غير واضح وغير منسجمِ مع خطّ أهل البيتعليه‌السلام ، فقولب هذه الأمور بشكل

٣٧٦

مذهب، ثمّ أخذ يضيف إلى هذا المذهب من المعطيات التي كان يعطيها الأئمّة بعد تحريفها وتشويشها. فالأئمّة كانوا يعطون الحدود الواقعيّة لمرجعيّة أهل البيت، وهو كان يأخذ هذه الحدود ويتفاعل معها ويشوّهها، ثمّ بعد هذا تنعكس في إطارٍ عقائديٍّ بشكلٍ غير صحيحٍ.

والنوبختي في ( فرق الشيعة ) يذكر هناك اضطرار الإمام الباقر عدّة مرّاتٍ أن يصدر قراراً بالكفر والتكفير أو بشيءٍ من هذا القبيل على بعض دعاة الشيعة داخل الإطار الشيعي من أتباع محمّد بن الحنفية، ومن غير أتباع محمّد بن الحنفية(١) ، هؤلاء الذين رأوا في هذه المفاهيم وسيلةً للتشويه والانحراف والجهد من جديد، فأخذوا يدّعون النبوّة تارةً، والإلوهية أخرى، وينسبون الإلوهية له أو لشخصٍ ميّتٍ أو للإمام الحيّ الذي هو يعطي المفاهيم الصحيحة ثالثة، وهكذا حتّى اضطّر الإمام أن يطرد بعض أصحابه ويلعن ويكرّر لعنهم، من قبيل مغيرة بن سعيد. هذا الشخص أخذ المفاهيم وكدّرها وأضاف إليها من عنديّاته، ثمّ انحرف وأخذ يعطي المفهوم الشيعي مع شيءٍ كثيرٍ من الغلوّ، حتّى جعل الإمام يتألّم ويتأثّر ويلعنه(٢) . وكذلك الإمام الصادق فيما بعده(٣) وكان يقول الإمام الباقرعليه‌السلام : ما لهؤلاء يقولون عنّا، ونحن أشخاص ورثنا من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! لكن ما صحبنا معنا براءةً من النار، ونحن نخاف من الله ونهتزّ خوفاً منه كما تهتزّ الورقة من الريح، ونحن إن أطعنا الله أدخلنا الجنّة، ونحن إن عصينا الله أدخلنا النار ،

____________________

(١) انظر: فرق الشيعة: ٢٨.

(٢) رجال الكشّي، ح ٤٠٥ و ٤٠٦، ط مشهد.

(٣) رجال الكشّي، أحاديث: ٣٣٦ و ٣٣٩ و ٤٠٠ - ٤٠٤، ٤٠٧، ٤٠٨، ٥١١، ٥٤٢ - ٥٤٤، ٥٤٩، ٩٠٩.

٣٧٧

ولا براءة من الله تعالى إلاّ على أساس عملنا(١) ، كلّ هذا كان من قبله كعلاجٍ للمشاكل الداخليّة.

قدّروا موقف شخصٍ داعيةٍ يريد أن يعطي الأُمّة مفهوماً، هذا المفهوم يقيم به الدنيا والآخرة، يعارض في هذا المفهوم السلطة الحاكمة، ويعارض الذهنيّة العامّة للمسلمين، التي يريد الإمام أن يبقى محتفظاً بمكانته فيها لأجل أن يحتلّها بالتدريج، فهو يعطي هذا المفهوم في مثل هذا الحدّ، ويعطيه كتلةً متشتّتةً غير مجتمعةٍ، متفرّقةً مكاناً ووضعاً وحالاً، ولا بدّ له أيضاً من الحفاظ على صحّة هذه المفاهيم التي يعطيها، ومن مقاومة الانحرافات التي تنشأ من محاولة حلّ هذه المفاهيم. هذه المهمّة مهمّة من أدقّ المهمّات وأصعبها في التأريخ على الدعاة العقائديّين قد قام بها الإمام الباقرعليه‌السلام .

هذا كلّه في ما يرتبط بالخطّ الرئيسي في هذا الدور الثاني، وهو خطّ إعطاء معالم الحدود والإطار المحدّد للفرقة الناجية ومجابهة المصائب والمشاكل من الخارج والداخل في سبيل إعطاء هذا الإطار. ثمّ هناك نشاطات أخرى متفرقّة ومهمّة قام بها الإمام الباقرعليه‌السلام .

____________________

(١) راجع: أصول الكافي ٢: ٧٤ - ٧٥، كتاب الإيمان والكفر، الحديث ٣ و ٦، وبحار الأنوار ٢٥: ٢٨٩، كتاب الإمامة، باب نفي الغلوّ في النبيّ والأئمّةعليهم‌السلام ، الحديث ٤٦، الصفحة ٣٠٣ و، الحديث ٦٩، الصفحة ٣٠٧و، الحديث ٧٣، الصفحة ٣١٧ و، الحديث ٨٢.

٣٧٨

الإمام الرضاعليه‌السلام

المنعطف التاريخي في حياة الأئمّةعليهم‌السلام

٣٧٩

٣٨٠