أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية14%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131814 / تحميل: 10293
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الزعامة لم يكن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام يحصلون عليها صدفة أو على أساس مجرّد الانتماء إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّهم منتسبون إلى الرسول، كلاّ بل على أساس العطاء، وللدور الإيجابي الذي يمارسه الإمام في الأُمّة بالرغم من إقصائه عن منصب الحكم، فإنّ الأُمّة لا تمنح أحداً على الأغلب الزعامة مجاناً، ولا يمتلك الفرد قيادتها ويحتلّ قلوبها بدون عطاء سخيّ منه تستشعره الأُمّة في مختلف مجالاتها وتستفيد منه في حلّ مشكلاتها والحفاظ على رسالتها.

إنّ تلك الزعامة الواسعة التي كانت نتيجةً لإيجابية الأئمّةعليهم‌السلام في الحياة الإسلامية هي التي جعلت لعليٍّعليه‌السلام المثل الأعلى للثوّار الذين قضوا على عثمان، وهي التي كانت تتمثّل بمختلف العلاقات التي عاشها الأئمّةعليهم‌السلام مع الأُمّة.

اُنظروا إلى الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام كيف يقول لهارون الرشيد:أنت إمام الأجسام، وأنا إمام القلوب (١) .

اُنظروا إلى عبد الله بن الحسن حين أراد أن يأخذ البيعة لابنه محمّد كيف يقول للإمام الصادق: واعلم - فديتك - أنّك إذا أجبت لم يختلف عن ابني أحد من أصحابك، ولم يختلف عليّ اثنان من قريش ولا من غيرهم(٢) .

ولاحظوا مدى ثقةّ الأُمّة بقيادة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام نتيجةً لما يعيشون من دورٍ إيجابيٍّ في حماية الرسالة وتطبيق مصالح الأُمّة.

لاحظوا المناسبة الشهيرة التي أنشأ فيها الفرزدق قصيدته في الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، كيف أنّ هيبة الحكم وجلال السلطان لم يستطع أن يشقّ

____________________

(١) راجع: إحقاق الحقّ ١٩: ٥٤٣ و ٥٤٨.

(٢) أصول الكافي ١: ٣٥٩، كتاب الحجّة، باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل، الحديث ١٧.

٦١

لهشام طريقاً لاستلام الحجر بين الجموع المحتشدة من أفراد الأُمّة في موسم الحجّ، حينما استطاعت زعامة أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أن تجذب الجماهير في لحظةٍ وهي تحسّ بمقدم الإمام القائد وتشقّ الطريق بين يديه نحو الحجر !(١)

لاحظوا قصّة الهجوم الشعبي الهائل الذي تعرّض له قصر المأمون نتيجة لإغضابه الإمام الرضاعليه‌السلام ، فلم يكن للمأمون مناص من الالتجاء إلى الإمام لحمايته من غضب الأمّة، فقاله له الإمامعليه‌السلام : اتّقِ الله في اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما وليت من هذا الأمر وخصصت به، إنّك قد ضيّعت أمور المسلمين وفوّضت ذلك إلى غيرك يحكم فيه بغير حكم الله(٢) .

إنّ كلّ هذه النماذج والمظاهر للزعامة الشعبية التي عاشها أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على طول الخطّ تبرهن على إيجابيّتهم وشعور الأُمّة بدورهم الفعّال في حماية الرسالة.

الإيجابية تتكشّف في علاقات الأئمة بالحكّام، ويمكننا أن ننظر من زاوية جديدة لنصل إلى نفس النتيجة من زاوية علاقات الزعامات المنحرفة مع الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام على طول الخطّ، فإنّ هذه العلاقات كانت تقوم على أساس الخوف الشديد من نشاط الأئمةعليهم‌السلام ودورهم في الحياة الإسلامية، حتّى يصل الخوف لدى الزعامات المنحرفة أحياناً إلى درجة الرعب، وكان لحصول ذلك باستمرار تطويق إمام الوقت بتحفّظ شديد، ووضع رقابة محكمة عليه، ومحاولة فصله عن قواعده الشعبيّة، ثمّ التآمر على حياته، ووفاته شهيداً بقصد التخلّص من خطره.

____________________

(١) رجال الكشي: ١٢٩ - ١٣٢، والمناقب ٤: ١٦٩.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٦٠، الباب ٤٠، الحديث ٢٤.

٦٢

فهل كان كلّ هذا من الصدفة أو مجرّد تسليةٍ تتّخذ الزعامات المنحرفة كلّ هذه الإجراءات تجاه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بالرغم من أنّها تكلّفها ثمناً بالغاً من سمعتها وكرامتها، أو كان ذلك نتيجةً لشعور الحكّام المنحرفين بخطورة الدور الإيجابي الذي يمارسه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وإلاّ فلماذا كلّ هذا القتل والتشريد أو النفي والسجن ؟ !

الأئمّةعليهم‌السلام ومسألة تسلّم الحكم:

هل كان الأئمّة يحاولون تسلّم الحكم ؟ يبقى سؤال واحد قد يتبادر إلى الأذهان، وهو: أنّ إيجابية الأئمّةعليهم‌السلام هل كانت تصل إلى مستوى العمل لتسلّم زمام الحكم من الزعامات المنحرفة، أو تقتصر على حماية الرسالة ومصالح الأمّة من التردّي إلى الهاوية وتفاقم الانحراف ؟

والجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى توسّع في الحديث يضيق عنه هذا المجال، غير أنّ الفكرة الأساسية في الجواب المستخلصة من بعض النصوص والأحاديث المتعدّدة: أنّ الأئمة لم يكونوا يرون الظهور بالسيف والانتصار المسلّح أمراً كافياً لإقامة دعائم الحكم الصالح على يد الإمام، إنّ إقامة هذا الحكم وترسيخه لا يتوقّف في نظرهم على مجرّد تهيئة حملة عسكرية، بل يتوقّف قبل ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وعصمته إيماناً مطلقاً، ويعبّئ أهدافه الكبيرة، ويدعم تخطيطه في مجال الحكم، ويحدث ما يحقّق للاُمّة من مقاصد.

وكلّكم تعلمون قصّة الخراساني الذي جاء إلى الإمام الصادقعليه‌السلام يعرض عليه تبنّي حركة الثوار الخراسانيين، فاستمهل جوابه، ثمّ أمره بدخول التنوّر ،

٦٣

فرفض، وجاء أبو بصير فأمره بذلك فسارع إلى الامتثال، فالتفت الإمامعليه‌السلام إلى الخراساني وسأله: كم لكم من أمثال أبي بصير ؟ وكان هذا هو الردّ العملي من الإمامعليه‌السلام على اقتراح الخراساني(١) .

وعلى هذا الأساس تسلّم أمير المؤمنين زمام الحكم في وقت توفّر ذلك الجيش العقائدي، متمثّلاً في صفوة من المهاجرين والأنصار والتابعين.

رعاية الشيعة بوصفها الكتلة المؤمنة بالإمام:

عرفنا أنّ الدور المشترك الذي كان الأئمّةعليهم‌السلام يمارسونه في حياتهم الإسلامية كدور الوقوف دون المزيد من الانحراف وإمساك المقياس عن التردّي إلى الحضيض والهبوط إلى الهاوية.

غير أنّ هذا في الحقيقة يعبّر عن بعض ملامح الدور المشترك، وهناك جانب آخر في هذا الدور المشترك لم نشر إليه حتّى الآن، وهو جانب الإشراف المباشر على الشيعة بوصفهم الجماعة المرتبطة مع الإمام والتخطيط لسلوكها، وحماية وجودها، وتنمية وعيها، وإمدادها بكلّ الأساليب التي تساعد على صمودها في المحن، وارتفاعها إلى مستوى الحاجة الإسلامية إلى جيش عقائدي وطليعة واعية.

ولدينا عدد كبير من الشواهد من حياة الأئمّةعليهم‌السلام على أنّهم كانوا يباشرون نشاطاً واسعاً في مجال الإشراف على الكتلة المرتبطة بهم والمؤمنة بإمامتهم، حتّى أنّ الإشراف كان يصل أحياناً إلى درجة تنظيم أساليب لحلّ

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤: ٢٣٧، وعنه في بحار الأنوار ٤٧: ١٢٣، تاريخ الإمام الصادقعليه‌السلام ، الباب ٥، باب معجزاته واستجابة دعواتهعليه‌السلام ، الحديث ١٧٢.

٦٤

الخلافات الشخصية بين أفراد الكتلة، ورصد الأموال لها، كما يحدّث بذلك المعلّى ابن خنيس عن الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم عدداً من النصوص بوصفها تعليم أساليب للجماعة التي يشرفون على سلوكها، وقد تختلف الأساليب باختلاف ظروف الشيعة بالملابسات التي يمرّون بها.

أيّها الإخوة، ما قدّمته كافٍ للنقاط التي أحببت إثارتها والتي يجب أن نتربّى عليها في دراسات الأئمّةعليهم‌السلام .

وختاماً لا بدّ أن يكون هذا منطلقاً للباحثين في حياة أهل البيتعليهم‌السلام . وأبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من التابعين والسائرين على هداهم، والملتزمين بكلّ حدودهم والمطبّقين لأوامرهم، والثائرين لإعادة الإسلام على مسرح الوجود.

____________________

(١) راجع: أصول الكافي ٢: ٢٠٩، كتاب الإيمان والكفر، باب الإصلاح بين الناس، الحديث ٣ و ٤، والراوي فيهما هو المفضل وليس المعلّى.

٦٥

٦٦

الأُمّة الإسلاميّة:

طاقة حراريّة أم وعي مستنير ؟

٦٧

٦٨

بسم الله الرحمن الرحيم

قلنا: إنّه حينما وجد الانحراف بعد وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن الأُمّة على مستوى المراقبة، الأُمّة بوصفها المجموعي لم تكن قادرةً على ضمان عدم وقوع هذا الحاكم المنحرف بطبيعته في سلوكٍ منحرف؛ لأنّ كون الأُمّة على مستوى هذا الضمان إنّما يكون فيما إذا وصلت الأُمّة بوصفها المجموعي إلى درجة العصمة، أي إذا أصبحت الأُمّة كاُمّةٍ تعيش الإسلام عيشاً كاملاً عميقاً مستوعباً مستنيراً منعطفاً على مختلف مجالات حياتها. وهذا ما لم يكن بالرغم من أنّ الأُمّة الإسلامية وقتئذٍ كانت تشكّل أفضل نموذجٍ للاُمّة في تأريخ الإنسان على الإطلاق. يعني نحن الآن لا نعرف في تأريخ الإنسان أنّها بلغت في مناقبها وفضائلها وقوّة إرادتها وشجاعتها وإيمانها وصبرها وجلالتها وتضحيتها، ما بلغته هذه الأُمّة العظيمة حينما خلّفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الذي يقرأ تأريخ هؤلاء الناس، هذه الحفنة، الناس التي عاشت مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تبهره أنوارهم، أنوارهم في المجال الروحي والفكري والنفسي، في مجال الجهاد والتضحية في سبيل العقيدة، ولكنّ هذه الأنوار التي تظهر للمطالع لم تكن نتيجة وعي معمّقٍ تعيشه الأُمّة في أبعادها الفكريّة والنفسيّة، بل كانت نتيجة

٦٩

طاقةٍ حراريّةٍ هائلةٍ اكتسبتها هذه الأُمّة بإشعاع النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله عليها، هذه الأُمّة التي عاشت مع أكمل قائدٍ للبشريّة اكتسبت عن طريق الإشعاع من هذا القائد درجةً كبيرةً من الطاقة الحراريّة.

هذه الطاقة الحراريّة صنعت المعاجز، وصنعت البطولات، وصنعت التضحيات التي يقلّ نظيرها في تأريخ الإنسان، ولا أريد الآن أن أعطي الأرقام.

طبعاً وبمراجعة غزوات الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وقوائم روحيّة المجاهدين في أيام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإيثار كلّ واحدٍ منهم للإسلام وللعقيدة، إيثاره بكلّ وجوده، بكلّ طاقاته وإمكانيّاته، هذه النماذج الرفيعة إنّما هي نتائج هذه الطاقة الحراريّة، هذه الطاقة الحراريّة هي التي جعلت الأُمّة الإسلاميّة تعيش أيام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحمل لواء الإسلام بكلّ شجاعةٍ وبطولةٍ إلى مختلف أرجاء الأرض والعالم، هذه هي طاقة حرارية وليست وعياً.

الفرق بين الوعي والطاقة الحراريّة:

ويجب أن نفرّق ونميّز بين الطاقة الحرارية والوعي:

الوعي عبارة عن الفهم الفعّال الإيجابي المحرّك للإسلام في نفس الأُمّة، الذي يستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالاً كاملاً، ويحوّل تمام مرافق الإنسان، يحوّلها من مرافق للفكر الجاهلي، للعاصمة الجاهلية، للذوق الجاهلي إلى مرافق الفكر الإسلامي والعاصمة الإسلاميّة والذوق الإسلامي، هذا هو الوعي.

أمّا الطاقة الحرارية فهي عبارة عن توهّجِ عاطفيٍّ حارّ، شعور يبلغ في

٧٠

مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره، بحيث يختلط الأمر فلا يميّز بين الأمة التي تحمل مثل الطاقة الحرارية وبين اُمّةٍ تتمتّع بذلك الوعي إلاّ بعد التبصّر.

إلاّ أنّ الفرق بين الأمّة الواعية والأمّة التي تحمل الطاقة الحرارية فرق كبير، فإنّ الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالابتعاد عن مركز هذه الطاقة الحرارية. المركز الذي يؤمّن الأُمّة بهذه الطاقة هو شخص القائد عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان بطبيعة الحال أن يكون حال الأُمّة بعده في تناقضٍ مستمرّ، حال الشخص الذي يتزوّد من الطاقة الحرارية للشمس أو النار ثمّ يبتعد عن الشمس أو النار، فإنّ هذه الحالة تتناقص عنده باستمرار. وهكذا كان.

تأريخ الإسلام يثبت أنّ الأُمّة الإسلامية كانت في حالة تناقصٍ مستمرٍّ من هذه الطاقة الحرارية التي خلّفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمته حين وفاته.

بخلاف الوعي، فإنّ الوعي بذلك المعنى الشامل والمركز المستأصل لجذور ما قبله، والذي يخلق جميع المفاهيم والأفكار المسبقة، ذلك الوعي من طبيعته الثبات والاستقرار، بل التعمّق على مرّ الزمن؛ لأنّ هذا الوعي بطبيعته يمتدّ ويخلق له بالتدريج خيالاتٍ جديدةً وفقاً لخطّ العمل ولخطّ الأحداث، فإنّ الأُمّة الواعية هي اُمّة تسير في طريق التعمّق في وعيها، والأُمّة التي تحمل طاقةً حراريةً هائلةً هي الأُمّة التي لو بقيت هي وحدها مع هذه الطاقة الحرارية فسوف تتناقص هذه الطاقة الحرارية بالاستمرار.

والفرق الآخر: أنّ الوعي لا تهزّه الانفعالات، الوعي يجمد أمام الانفعالات، أمّا الطاقة الحرارية فتهزّها الانفعالات، الانفعال حينئذٍ يفجّر المشاعر الباطنيّة المستترة، يبرز ما وراء الستار، ما وراء سطح النفس، كأنّ الطاقة الحرارية طاقة تبرز على سطح النفس البشرية، وأمّا الوعي فهو شيء يثبت مع

٧١

أعماق هذه النفس البشرية، ففي حالة الانفعال سواء كان الانفعال انفعالاً معاكساً يعني حزناً وألماً، أو كان انفعالاً موافقاً فرحاً ولذّةً وانتصاراً، في كلا الحالين يتفجّر ما وراء الستار، ويبرز ما كان كامناً وراء الستار، هذه الطاقة الحرارية في الأُمّة المزوّدة بهذه الطاقة.

أمّا الأُمّة الواعية فوعيها يجمد ويتقوّى على مرّ الزمن، كلّما مرّ بها انفعال جديد أكّدت شخصيّتها الواعية في مقابل هذا الانفعال، وصبغته بما يتطلّبه وعيها من موقف، هذا هو الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية.

الأُمّة الإسلامية كانت تحمل الطاقة الحراريّة لا الوعي المستنير:

نحن ندّعي: أنّ الأُمّة الإسلامية العظيمة التي خلّفها القائد العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله والتي ضربت أعظم مثلٍ للأمّة في تأريخ الإنسان إلى يومنا هذا، هذه الأُمّة كانت تحمل طاقةً حراريةً كثيرة، ولم تكن اُمّةً تحمل وعياً مستنيراً مستوعباً مجتثّاً لأصول الجاهلية فيها. والدليل على هذا كلّه واضح من تأريخ الأُمّة نفسها، من يقرأ تأريخ الأُمّة يعرف أنّ الأُمّة كانت اُمّةَ طاقةٍ حرارية، ولم تكن اُمّةَ وعيٍ مستنيرٍ يُجتثّ به أصول الجاهلية في حالات الانفعال: الانفعال الموافق، والانفعال المخالف، يبدو أنّ هذه الأُمّة لم تكن إلاّ اُمّة طاقةٍ حراريةٍ ولم تكن اُمّة وعي.

الشواهد على ذلك:

(١) اُنظر غزوة هوازن بعد فتح مكّة، ماذا صنعت هذه الأُمّة العظيمة بتلك الطاقة الحرارية في لحظة الانفعال ؟

٧٢

رسول الله خرج بجيشٍ مزيجٍ من الأنصار ومن قريش من أهل مكّة، فانتصر في معركته، وأخذ غنائم كثيرة، وكان من قرارهصلى‌الله‌عليه‌وآله توزيع هذه الغنائم جميعاً على من خرج من مسلمي مكّة، فوزّعها جميعاً على مسلمي مكّة، ولم يعطِ من مسلمي الأنصار شيئاً منها، هذه لحظة انفعال، لحظة انفعالٍ نفسيٍّ أنّ هؤلاء يرون أنفسهم أنّهم خرجوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة ليفتحوا مكّة، وفتحوا مكّة وحقّقوا للأمّة أعظم الانتصارات في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح مكّة، وبعد هذا يدخل معه في الدعوة أناس جدد، فهؤلاء الأناس الجدد يستقلّون بتمام الغنائم ويأخذونها على يدي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذه لحظة انفعال، في هذه اللحظة من لحظات الانفعال لا تكفي الطاقة الحرارية، هنا نحتاج إلى وعيٍ ليثبّت هذه الأُمّة، لتستطيع أن تتغلّب على لحظة الانفعال، فهل كان مثل هذا موجوداً ؟ لا، لم يكن موجوداً.

فإنّ الأنصار أخذ يثير ما بينهم هذا الحسّ القائل: بأنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله لقي أهله وقومه وعشيرته فنسي أنصاره وأصحابه ! هؤلاء الذين شاركوه في محنته، هؤلاء الذين ضحّوا في سبيله، هؤلاء الذين قاوموا عشيرته في سبيل دعوته، نسيهم وأهملهم وأعرض عنهم؛ لأنّه رأى أحبّاءه وأقرباءه وأولاد عمّه، رأى عشيرته. أُنظروا إلى هذا التفسير، يبدو أنّ الأنصار كان المفهوم القَبَلي مركّزاً في نظرهم، متمركّزاً في نفوسهم إلى درجةٍ يبدو لهم أنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الرجل الأشرف الأكمل الذي عاشوا معه، وعاشوا مع تمام مراحل حياته الجهادية ولم يبدوا في كلّ مراحلهم الجهادية أيّ لونٍ من ألوان الانحراف، يعطي شعوراً قبليّاً قوميّاً، بالرغم من هذا وبالرغم من خلوّ حياته من أيّ إشعارٍ سابقٍ بذلك في لحظة انفعالٍ

٧٣

قالوا: بأنّه وقع تحت تأثير العاطفة القبليّة، تحت تأثير العاطفة القوميّة. هذه العاطفة القومية القبلية، هذا الترابط القبلي كيف كان قوياً في أنفسهم بحيث إنّهم اصطنعوه تفسيراً للموقف في لحظةٍ من لحظات الانفعال.

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سمع بالحسّ، اطّلع على أنّ هناك بذوراً فكريّة ضدّه في الأنصار. أرسل على كبار الأنصار من الأوس والخزرج، جمعهم عنده، التفت إليهم وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما مقالة تبلغني عن بعضكم في هذا الموضوع: أنّ محمّداً نسي أصحابه وأنصاره حينما التقى بقومه ؟ ! فسكت الجميع واعترف البعض بهذه المقالة. حينئذٍ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ يعالج الموقف الآني، المشكلة الآنية يعالجها أيضاً بإعطاء مزيدٍ من الطاقة الحرارية؛ لأنّ هذه المشكلة ذات حدّين: حدّ آنيّ، وحدّ على مدى طويل، الحدّ على المدى الطويل يجب أن يعالج عن طريق التوعية على الخطّ الطويل، وهو الشيء الذي كان يمارسهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأمّا المشكلة بحدّها الآني يجب أن تعالج أيضاً معالجةً آنية، والمعالجة الآنية لا تكون إلاّ عن طريق إعطاء مزيد من هذه الطاقة الحرارية للسيطرة على لحظة الانفعال.

ماذا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ؟ وكيف ألهب عواطفهم ؟ قال لهم: ألا ترضون أن يذهب أهل مكّة إلى بلادهم بمجموعة من الأموال الزائفة وأنتم ترجعون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة. هؤلاء يرجعون لمكّة بكومةٍ من الأموال لا تنفعهم إلاّ برهةً من الزمن، هذه كانت دفعةً حراريةً جدّاً تحوّل الموقف في لحظة، هذه الأُمّة التي تعيش اللحظات العاطفيّة هكذا أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يستغفرون ويعلنون ولاءهم واستعدادهم ويقينهم به.

أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعمّق الموقف أكثر عاطفياً، فبعد أن سكن بكاؤهم وهدأت

٧٤

عواطفهم قال لهم: ألا تقولون لي في مقابل هذا ؟! أخذ يترجم بعض الأحاسيس المستترة في نفوسهم لأجل أن يهيّج عواطفهم تجاهه، ولأجل أن يشيع في ذلك المجلس جوّاً عاطفياً روحياً بتغلّبه على الموقف إلى آخر القصّة(١) .

النتيجة هي: أنّ هذه الأُمّة التي تحمل الطاقة الحرارية تنهار أمام لحظة الانفعال.

(٢) لحظة انفعالٍ أخرى أيضاً في تأريخ هذه الأُمّة بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . لحظة انفعالٍ كبيرة، لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رحل وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يشكّل هزّةً نفسيّة هائلة بالنسبة إلى الأُمّة الإسلامية التي لم تكن قد تهيّأت بعد ذهنياً وروحياً لأن تفقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه اللحظة من الانفعال، أيضاً المشاعر التي كانت في الأعماق برزت على السطح. الشاهد الأوّل كان بالنسبة إلى الأنصار.

وهذا شاهدٌ بالنسبة إلى المهاجرين: ماذا قال المهاجرون في لحظة الانفعال ؟ هؤلاء المهاجرون الذين هاجروا من بلادهم وتركوا دورهم وعوائلهم وقومهم في سبيل الإسلام ماذا قالوا ؟ ماذا كان موقفهم ؟

كان موقفهم أنّهم قالوا: إنّ السلطان سلطان قريش ! إنّ سلطان محمّد وسلطان قريش نحن أولى به من بقيّة العرب، أولى من بقيّة المسلمين(٢) .

هنا أيضاً برز الشعور القَبَلي، أو الشعور القومي، برز في لحظة انفعال؛ لأنّ هذه اللحظة من الانفعال من طبيعتها أن تشكّل صدمةً بالنسبة إلى الطاقة الحراريّة، يصبح الإنسان في حالةٍ غير طبيعيّة، وفي هذه الحالة غير الطبيعيّة حيث لا يوجد

____________________

(١) الإرشاد ١: ١٤٥، ١٤٦، وعنه في بحار الأنوار ٢١: ١٥٨ - ١٥٩، تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الباب ٢٨، باب غزوة حنين والطائف و...، الحديث ٦.

(٢) راجع: تاريخ الطبري ٢: ٤٥٧، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ٨ - ٩.

٧٥

وعي عاصم ينهار فيها أمام تلك الأفكار المستترة، أمام تلك العواطف المختفية، وراء الستار تبرز هذه الأفكار وهذه العواطف. إذن لحظة الانفعال هي التي تحدّد أنّ هذه الأُمّة هل تحمل وعياً، أو تحمل طاقةً حراريّة ؟!

صحيح أنّعبادة بن الصامت حينما واجه ملك القبط في مصر واجهه بطاقةٍ حراريةٍ كبيرةٍ هائلة، حينما سأله عن هدفه هل يريد مالاً ؟ هل يريد جاهاً ؟ هل يريد مقاماً ؟ قال: لا أريد شيئاً من ذلك، وإنّما نريد أن ننقذ المظلوم من الظالم في أيّ مكانٍ على وجه الأرض، ونريد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى(١) ، هذه طاقة حراريّة، هذه الطاقة الحرارية تشبه الوعي تماماً، لأنّ عبادة بن الصامت لو كان يمثّل الأُمّة الواعية لقال نفس هذا الكلام في تقسيم الغنائم.

لكنّ الفرق في لحظة الانفعال، في لحظة الانتصار، ماذا صنع المسلمون في لحظة الانتصار والاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر ؟ الاستيلاء على العالم ؟ المسلمون في هذه اللحظة أخذوا يفكّرون في الدنيا، أخذوا يفكّرون في أن يقتنص كلّ واحدٍ منهم أفضل قدرٍ ممكنٍ من هذه الدنيا.

(٣) والأزمة التي مرّت بعمر بن الخطّاب في تحقيق حال الأرض المفتوحة عنوة، وأنّ الأرض المفتوحة عنوة هل تقسم على المقاتلين، أو أنّها تجعل لبيت

____________________

(١) لم نعثر في أخبار فتوح مصر على نحو هذا الخبر، بل لم نجد لعبادة بن الصامت خبراً في فتح مصر، ولم يكن في فتح مصر مواجهة مع ملك القبط هكذا، وإنّما كان الإرسال المشابه لهذا في حرب القادسيّة بطلب من ملك الفرس، فأرسلوا إليهم عشرة مع المغيرة بن شعبة الثقفي ليس فيهم عبادة بن الصامت. اُنظر الكامل لابن الأثير ٢: ٤٦٢ - ٤٦٨، وتاريخ الطبري ٣: ٧٦ - ٧٧.

٧٦

المال وتجعل ملكاً عاماً ؟ هذه الأزمنة تعطي في المقام كيف أنّ هذه الأُمّة تردّدت في لحظة الانفعال ؟ لأنّ وجوه المهاجرين والأنصار، هؤلاء الأبرار المجاهدون، هؤلاء الذين عاشوا كلّ حياتهم في الكفاح والجهاد في سبيل الله، هؤلاء أخذوا يصرّون إصراراً مستميتاً على أنّ هذه الأراضي يجب أن توزّع عليهم، وعلى أنّ كلّ واحدٍ منهم يجب أن ينال أكبر قدرٍ ممكنٍ من هذه الأرض، إلى أن أفتى علي ابن أبي طالبعليه‌السلام بأنّ الأرض للمسلمين جميعاً، لمن هو موجود الآن، ولمن يوجد بعد اليوم إلى يوم القيامة(١) .

هذه اللحظات لحظات الانفعال والانفعالية، هي التي تحدّد أنّ الأُمّة ككلٍّ تحمل طاقةً حراريةً أو تحمل وعياً.

إذن فالأُمّة كانت تحمل وعياً، ولكن وراء هذا الوعي يوجد قدر كبير من الرواسب الفكرية والعاطفية والنفسية التي لم تكن قد استؤصلت بعد.

لماذا لم تُستأصل الرواسب الجاهليّة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قد يقول قائل: إذن ماذا كان يصنع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا لم تكن قد استؤصلت هذه الرواسب ؟!

الجواب على ذلك هو: أنّ هذه الرواسب ليس استئصالها شيئاً سهلاً يسيراً، وذلك:

أمّا أوّلاً فلأنّ الدعوة الإسلامية التي جاء بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن مجرّد خطوة إلى الأمام، بل كانت طفرةً بين الأرض والسماء، إذا لاحظنا حال العرب

____________________

(١) انظر: تاريخ اليعقوبي ٢: ١٥١ - ١٥٢، وبحار الأنوار ٣١: ١٦٤ - ١٦٧.

٧٧

قبل الإسلام ولاحظنا مستوى الرسالة الإسلامية نرى أنّ المستوى هو مستوى الطفرة بين الأرض والسماء، لا مستوى الحركات الإصلاحيّة التي توجد في المجتمعات العالمية، وهي مستوى الخطوة إلى الأمام، أيّ حركة إصلاحية تنبع من الأرض وتنبع من عبقرية الإنسان بما هو إنسان، هي تزحف بالمجتمع خطوةً إلى الأمام لا أكثر، فالمجتمع كان قد وصل إلى الخطوة السابقة، هذه الحركة الإصلاحية التي تبع من الأرض تتقدّم به خطوة واحدة أو خطوتين أو ثلاث خطوات في خطّ التقدّم، وحينئذٍ من الممكن في زمن قصير أن تستأصل رواسب الخطوة السابقة بعد الدخول في الخطوة الثانية؛ لأنّ الفرق الكيفي بين الخطوة السابقة والتالية فرق قليل، فرق ضئيل، التشابه بين الخطوة السابقة والتالية تشابه كبيرٌ جدّاً. هذا التشابه الكبير وذاك التفاوت اليسير يعطي في المقام إمكانية التحويل، إمكانية اجتثاث تلك الأصول الموروثة من الخطوة السابقة.

ولكن ماذا ترون وماذا تقدّرون لو أنّ شخصاً جاء إلى شخصٍ آخر فقام به إلى السماء ؟ في لحظةٍ من اللحظات جاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مجتمعٍ متأخّرٍ يعيش الفكرة القبلية بأشدّ ألوانها وبأحطّ معارفها ونتائجها وأخسّ مفاهيمها وأفكارها، جاء فألقى فيها فكرة المجتمع العالي، الذي لا فرق فيه بين قبيلةٍ وقبيلة، وبين شعبٍ وشعب، بين اُمّةٍ وأمّة، وقال بأنّ: الناس سواسية كأسنان المشط(١) ، وأنّ هؤلاء الناس يجب أن يشكّلوا اُمّةً واحدة، ومجتمعاً واحداً، ودولةً واحدة، تضمّ العالم كلّه.

___________________

(١) بح ار الأنوار ٢٢: ٣٤٨، تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الباب ١٠، باب فضائل سلمان وأبي ذر و...، الحديث ٦٤، عن الاختصاص: ٢٢٢.

٧٨

هذه الطفرة الهائلة بكلّ ما تضمّ من تحوّلٍ فكريٍّ وانقلابٍ اجتماعيٍّ وتغيّرٍ في المشاعر والمفاهيم والانفعالات، هذه الطفرة لم تكن شيئاً عادياً في حياة الإنسان، إذن فكيف يمكن أن نتصوّر أنّ هذا المجتمع الذي طفر بهذه الطفرة، مهما كان هذا المجتمع ذكياً، ومهما كان صبوراً على الكفاح، ومهما كان قوياً مؤمناً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ كيف يمكن أن نتصوّر في الحالات الاعتيادية أنّ هذا المجتمع يودّع تمام ما كان عنده من أفكارٍ ومشاعرَ ومن انفعالات، ويقلّب صفحةً جديدةً كاملةً دون أيٍّ التفاتٍ لموروثات الجاهلية ( العهد السابق ) ؟

هذا أمر غير ممكنٍ لا في فترة عشرة سنوات، بل في فترةٍ أطول من عشر سنوات، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعش كمجتمعٍ ودولةٍ، كمربٍّ تربيةً كاملةً في المدينة إلاّ عشر سنوات فقط، كيف وأنّ جزءاً كبيراً من المجتمع الإسلامي الذي دخل الأحداث بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً هو مجتمع مكّة الذي كان قد دخل في حظيرة الدولة الإسلامية وقتئذٍ ؟ ومكّة لم تكن قد دخلت في الإسلام إلاّ قبل سنتين من وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف يمكن أن نتصوّر في خلال هذه الأزمنة القصيرة ومع تلك الطفرة الهائلة الكبيرة اجتثاث تلك الأصول ؟ إذن فالأصول كان من المنطقي والطبيعي أن تبقى. وكان من المنطقي والطبيعي أن لا يجتثّ إلاّ في خلال أمد طويل، وخلال عمليةٍ طويلةٍ مع خلفاء الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الرسول.

إلاّ أنّ هذه العملية قطعت بالانحراف بتحوّل خطّ الخلافة من علي (عليه‌السلام ) إلى الخلفاء الذين تولّوا الأمر بعد رسول الهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن فهذا لا يعطي نقطة استغراب، أو نقطة ضعفٍ بالنسبة إلى عمل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ينسجم مع عظمة الرسالة أو مع جلالها ومع

٧٩

تخطيط النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذاً فهذه هي الأُمّة. إنّها تحمل طاقةً حراريةً، ولكنّها اُمّة غير واعية، إذا كانت هي اُمّة تحمل طاقةً حراريةً ولكنّها اُمّة غير واعية، إذن فهي غير قادرةٍ على حماية التجربة الإسلامية وعلى وضع حدٍّ لانحراف الحاكم الذي تولّى الحكم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ بالصيغة الأصولية التي قلناها أنّ الأُمّة بوصفها المجموعي ليست معصومةً ما دامت هي تحمل طاقةً حراريةً فقط، ولا تحمل وعياً مستنيراً يجتثّ الأصول الجاهلية، إذن فهي بوصفها المجموعي ليست معصومة، وإذا لم تكن معصومةً بوصفها المجموعي إذن فلا تقف في وجه هذا الانحراف؛ ولا يمكن أن تكون ضماناً لهذا الانحراف. يبقى الحاكم الذي قلنا: إنّه بنفسه - حتّى لو أخذنا الحاكم بغير المفهوم الشيعي - مع هذا تبقى طبيعة الأشياء وطبيعة الأحداث تبرز أن يكون هذا الحاكم عرضةً للانحراف وعرضةً لتحطيم التجربة الإسلامية، وبالتالي تحطيم جميع الأصول الموضوعيّة والإطار العامّ لهذه التجربة الشريفة المباركة، فإنّ الحاكم أوّلاً هو جزء من هذه الأُمّة - جزء عادي - التي قلنا بأنّها لم تكن تحمل وعياً مستنيراً، بل كانت تحمل طاقةً حرارية.

الحاكم جزءٌ من هذه الأُمّة:

ولنفرض أنّ هذا الحاكم لم يكن شخصاً متميّزاً من هذه الأُمّة بانحرافٍ خاصٍّ أو بتخطيطٍ سابق على الاستيلاء على الحكم، أو بتصميمٍ على قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في سبيل الاستيلاء على الحكم، فلنفرض أنّ كلّ هذا لم يكن، وإنّما هو جزء عادي من هذه الأُمّة التي كانت تحمل طاقةً حراريةً على أحسن تقدير، ولم تكن تحمل وعياً مستنيراً، إذن فمعنى كونه جزءاً من هذه الأُمّة يعني: أنّ

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وإن لم يحتمله ، كما لو باع شقصاً مستوعباً يساوي ألفين بألف ، فإن ردّه الورثة ، بطل البيع في بعض المحاباة ، وهو ما زاد على الثلث. وفي صحّة البيع في الباقي للشافعيّة طريقان :

أحدهما : التخريج على الخلاف في تفريق الصفقة.

والثاني : القطع بالصحّة(١) .

وهو مذهبنا ، لكنّ المشتري بالخيار ؛ لتبعّض الصفقة عليه ، فإن اختار الشفيع أن يأخذه ، لم يكن للمشتري الردُّ. وإن لم يرض الشفيع بالأخذ ، فللمشتري الخيارُ بين أخذ الباقي وبين الردّ.

وعلى الصحّة ففيما يصحّ البيع؟ للشافعيّة قولان :

أحدهما : أنّه يصحّ في قدر الثلث والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن.

والثاني : أنّه لا يسقط من المبيع شي‌ء إلّا ويسقط ما يقابله من الثمن(٢) .

وهذا الأخير هو الأقوى عندي ، وقد تقدّم(٣) بيانه.

فإن قلنا بالأوّل ، صحّ البيع - في الصورة المفروضة - في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن. وإن قلنا بالثاني ، دارت المسألة.

وطريقه أن نقول : صحّ البيع في شي‌ء من الشقص بنصف شي‌ء ، يبقى مع الورثة ألفان يعادل شيئاً ونصفاً والشي‌ء من شي‌ء ونصف ثلثاه ، فعلمنا صحّة البيع في ثلثي الشقص ، وقيمته ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث بثلثي الثمن ، وهو نصف هذا ، فتكون المحاباة بستّمائة وستّة وستّين‌

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٣) في ص ٢٤ ، المسألة ٥٦٠.

٢٤١

وثلثين ، يبقي للورثة ثلث الشقص وثلثا الثمن وهُما ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث ، وذلك ضِعْف المحاباة.

وعلى القولين(١) للمشتري الخيارُ حيث لم يسلم له جميع المثمن(٢) . فإن اختار ، أخذ الشفيع خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن على الأوّل ، وثلثيه بثلثي الثمن على الثاني.

ولو فسخ المشتري قبل طلب الشفيع ، لم تبطل الشفعة عندنا. وللشافعي قولان(٣) .

ولو أجاز الورثة ، صحّ البيع في الجميع.

ثمّ إن قلنا : إنّ إجازتهم تنفيذ لما فعله المورّث ، أخذ الشفيع الكلَّ بكلّ الثمن. وإن قلنا : إنّها ابتداء عطيّة منهم ، لم يأخذ الشفيع القدر النافذ بإجازتهم ، وأخذ القدر المستثنى عن إجازتهم. وفيه القولان المذكوران عند الردّ.

وإن كانا وارثين أو كان المشتري وارثاً ، فهي محاباة للوارث ، وهي عندنا صحيحة ، فالحكم فيه كما في الأجنبيّ.

أمّا الجمهور : فإنّهم منعوا من المحاباة للوارث ، فتكون المحاباة مردودةً(٤) .

ثمّ للشافعي قولان ، فإن لم يفرّق الصفقة ، بطل البيع في الجميع. وإن قال بالتفريق ، فإن قال في القسم الأوّل على ما سبق من التصوير : إنّ البيع‌

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « التفريق » بدل « القولين ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الثمن » بدل « المثمن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٤ ، المغني ٥ : ٤٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣٥.

٢٤٢

يصحّ في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن ، فهنا في مثل تلك الصورة يصحّ البيع في نصفه بجميع الثمن. وإن قلنا هناك : يصحّ في ثلثيه بثلثي الثمن ، فهنا يبطل البيع في الكلّ ؛ لأنّ البيع لا يبطل في شي‌ء إلاّ ويسقط بقدره من الثمن ، فما من جزء يصحّ فيه البيع إلاّ ويكون بعضه محاباةً ، وهي مردودة.

وفيه كلامان :

أحدهما : أنّ المفهوم من هذا التوجيه شيوع المعاوضة والمحاباة في جميع الشقص ، وذلك لا يمنع تخصيص قدر المحاباة بالإبطال ، كما أنّه لم يمنع في القسم الأوّل تخصيص ما وراء القدر المحتمل من المحاباة بالإبطال.

والثاني : أنّ الوصيّة للوارث - عندهم(١) - موقوفة على إجازة باقي الورثة على رأي ، كما أنّ الوصيّة بما زاد على الثلث موقوفة على إجازة الورثة على رأي ، فلنفرّق هنا أيضاً بين الإجازة والردّ ، كما في الأوّل.

إذا عرفت هذا وقلنا بالأوّل ، تخيّر المشتري بين أن يأخذ النصف بكلّ وبين أن يفسخ ، لأنّ الصفقة تفرّقت عليه ، ويكون للشفيع أن يأخذ ذلك وإن كان وارثا ، لأنّه لا محاباة فيه.

وإن أراد المشتري الردَّ وأراد الشفيع الأخذَ ، كان حقّ الشفيع مقدّماً ؛ لأنّه لا ضرر على المشتري ، وجرى مجرى المبيع المعيب إذا رضيه الشفيع لم يكن للمشتري ردّه.

وإن كان الشفيع وارثاً دون المشتري ، فعندنا يصحّ البيع فيما يحتمل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢

٢٤٣

الثلث ، ويكون للشفيع أخذه بالشفعة.

وقالت الشافعيّة : إن احتمل الثلث المحاباة أو لم يحتمل وصحّحنا البيع في بعض المحاباة في القسم الأوّل ومكّنّا الشفيع من أخذه ، ففيه وجوه :

أ - أنّه يصحّ البيع في الجميع ، ولا يأخذه الوارث بالشفعة ، وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة.

أمّا صحّة البيع : فلأنّ المشتري أجنبيّ.

وأمّا بطلان الشفعة : فلأنّها لو ثبتت ، لكان المريض قد نفع وارثه بالمحاباة ؛ لأنّ الشفعة تستحقّ بالبيع ، فقد تعذّرت الشفعة ، فلم نعد ذلك بإبطال البيع ، لأنّها فرع عليه ، وإذا بطل بطلت ، فلم تبطل لأجلها - وهو أصحّ الوجوه عندهم - لأنّا إذا أثبتنا الشفعة ، فقد جعلنا للوارث سبيلاً إلى إثبات حقٍّ له في المحاباة. ويفارق الوصيّة ممّن له عليه دَيْنٌ ؛ لأنّ استحقاقه للآخَر إنّما هو بدَيْنه ، لا من جهة الوصيّة ، وهذا استحقاقه حصل بالبيع ، فافترقا.

ب - أنّه يصحّ البيع ويأخذه الوارث بالشفعة ؛ لأنّ محاباة البائع مع المشتري ، وهو أجنبيّ عنه ، والشفيع يتملّك على(١) المشتري ، ولا محاباة معه من المريض.

ج - أنّه لا يصحّ البيع أصلاً ؛ لأنّه لو صحّ لتقابلت فيه أحكام متناقضة ؛ لأنّا إن لم نثبت الشفعة ، أضررنا بالشفيع ، وإن أثبتناها ، أوصلنا إليه المحاباة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مع » بدل « على ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

٢٤٤

د - يصحّ البيع في الجميع ويأخذ الشفيع ما يقابل الثمن منه ، ويبقى الباقي للمشتري مجّاناً ؛ لأنّ المحاباة تصحّ مع الأجنبيّ دون الوارث ، ويُجعل كأنّه باع بعض الشقص منه ووهب بعضه ، فيأخذ المبيع دون الموهوب.

ه- أنّه لا يصحّ البيع إلّا في القدر الموازي للثمن ؛ لأنّه لو صحّ في الكلّ فإن أخذه الشفيع ، وصلت إليه المحاباة ، وإن أخذ ما وراء قدر المحاباة ، كان إلزاماً بجميع الثمن ببعض المبيع ، وهو على خلاف وضع الشفعة(١) .

ويضعّف بأنّ صحّة البيع لا تقف على اختيار الشفيع للشفعة.

وقد يقال في العبارة عن هذا الوجه : إن ترك الشفيع الشفعة ، صحّت المحاباة مع المشتري ، وإلّا فهو كما لو كان المشتري وارثاً ، فلا تصحّ المحاباة.

ووجه ترتيب هذه الأقوال أن يقال : في صحّة البيع وجهان ، إن صحّ فيصحّ في الجميع أو فيما وراء قدر المحاباة؟ وجهان ، إن صحّ في الجميع فيأخذ الجميع بالشفعة أو ما وراء قدر المحاباة أو لا يأخذ شيئاً؟ ثلاثة أوجه(٢) .

وهذا - عندنا - كلّه ساقط.

مسالة ٧٣٥ : من شرط الشفعة : تقدّم ملك الآخذ على ملك المأخوذ منه على ما سبق ، فلو كان في يد اثنين ملك اشترياه بعقدين وادّعى كلٌّ

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٧٨ - ٧٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٧ - ٣٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ - ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣.

٢٤٥

منهما سبق عقده على عقد صاحبه ، وأنّه يستحقّ الشفعة عليه ، فمن أقام البيّنة منهما على دعواه حُكم له بها ، وسقطت دعوى الآخر.

ولو أقاما بيّنتين على السبق - بأن شهدت بيّنة هذا بسبق عقده على عقد صاحبه ، وشهدت بيّنة صاحبه بسبق عقده على العقد الأوّل ، أو شهدت إحداهما لأحدهما أنّه اشترى يوم السبت وصاحبه اشترى يوم الأحد ، وشهدت الاُخرى للآخَر أنّه اشترى يوم السبت والآخَر يوم الأحد - تعارضتا ، وينبغي أن يُحكم لأكثرهما عدداً وعدالةً ، فإن تساويا ، احتُمل القرعة ؛ لأنّه أمر مشكل ، وكلّ أمر مشكل ففيه القرعة ، والقسمة بينهما.

وللشافعي هنا قولان :

أحدهما : تساقط البيّنتين كأنّه لا بيّنة لواحد منهما.

والثاني : أنّهما تُستعملان ، وفي كيفيّته أقوال :

أحدها : القرعة ، فعلى هذا مَنْ خرجت قرعته أخذ نصيب الآخَر بالشفعة.

والثاني : القسمة ، ولا فائدة لها إلاّ مع تفاوت الشركة ، فيكون التنصيف تعبّدا(١) .

والثالث : الوقف ، وعلى هذا يوقف حقّ التملّك إلى أن يظهر الحال(٢) .

ومن الشافعيّة مَنْ لا يجري قول الوقف هنا ؛ لانتفاء معناه مع كون الملك في يدهما(٣) .

____________________

(١) كذا ، وفي المصدر : « مقيّداً » بدل « تعبّداً ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣ - ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧ - ١٦٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٦

ولو عيّنت كلّ واحدة من البيّنتين وقتاً واحداً ، فلا تنافي بينهما ؛ لاحتمال وقوع العقدين معاً ، ولا شفعة لواحدٍ منهما ؛ لأنّا تبيّنّا وقوع العقدين دفعةً.

وللشافعيّة وجه : أنّهما تسقطان ؛ لأنّ كلّ واحدة منهما لم تتعرّض لمقصود مقيمها فكأنّه لا بيّنة(١) .

البحث الرابع : في كيفيّة الأخذ بالشفعة.

مسالة ٧٣٦ : يملك الشفيع الأخذ بالعقد إمّا بالفعل بأن يأخذ الحصّة ويدفع الثمن إلى المشتري ، أو يرضى بالصبر فيملكه حينئذٍ ، وإمّا باللفظ ، كقوله : أخذته ، أو : تملّكه ، أو : اخترت الأخذ ، وما أشبه ذلك ؛ عملاً بالأصل من عدم اشتراط اللفظ.

وقال بعض الشافعيّة : لا بدّ من لفظٍ ، ك‍ « تملّكت » وما تقدّم ، وإلّا فهو من باب المعاطاة(٢) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ المعاطاة تتوقّف على رضاهما ، ولا يتوقّف الأخذ بالشفعة على رضا المشتري.

ولا يكفي أن يقول : لي حقّ الشفعة وأنا مطالب بها ، عنده(٣) ؛ لأنّ المطالبة رغبة في الملك ، والملك(٤) لا يحصل بالرغبة المجرّدة(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٣) أي : عند البعض من الشافعيّة ، المتقدّم قوله آنفاً.

(٤) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فالملك ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٧

وقال بعضهم(١) بقولنا.

ولا يملك الشفيع بمجرّد اللفظ ، بل يعتبر مع ذلك أحد اُمور :

إمّا أن يسلّم العوض إلى المشتري ، فيملك به إن تسلّمه ، وإلّا خلّى بينه وبينه ، أو رفع الأمر إلى الحاكم حتى يلزمه التسليم.

و [إمّا ](٢) أن يسلّم المشتري الشقص ، ويرضى بكون الثمن في ذمّته.

ولو كان المبيع داراً عليها صفائح من أحد النقدين والثمن من الآخَر ، وجب التقابض فيما قابَلَه خاصّةً.

ولو رضي بكون الثمن في ذمّته ولم يسلّم الشقص ، حصل الملك عندنا - وهو أحد وجهي الشافعيّة - لأنّه معاوضة ، والملك في المعاوضات لا يتوقّف على القبض.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، وقول المشتري ما لم يتّصل به القبض في حكم الوعد.

وإمّا أن يحضر في مجلس القاضي ، ويثبت حقّه في الشفعة ، ويختار التملّك ويقضي القاضي له بالشفعة - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة - لأنّ الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري حتى كأنّ العقد له ، إلّا أنّه مخيّر بين الأخذ والترك ، فإذا طلب وتأكّد طلبه بالقضاء ، وجب أن يحكم له بالملك.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، ويستمرّ ملك المشتري إلى أن يصل إليه عوضه ، أو يرضى بتأخيره.

وإمّا أن يشهد عدلان على الطلب واختيار الشفعة ، فإن لم نثبت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٢٤٨

الملك بحكم القاضي ، فهنا أولى ، فإن(١) أثبتناه ، فوجهان لهم ؛ لقوّة قضاء القاضي(٢) .

وهذا كلّه غير معتبر عندنا.

مسالة ٧٣٧: لا يشترط في تملّك الشفيع بالشفعة حكمُ الحاكم ولا حضور الثمن أيضاً ولا حضور المشتري ورضاه ، عند علمائنا - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّ حكم الشفعة يثبت بالنصّ والإجماع ، فيستغني عن حكم الحاكم ، كمدّة الإيلاء والردّ بالعيب. ولأنّه تملّك بعوض ، فلا يفتقر إلى إحضار العوض ، كالبيع ، ولا إحضار المشتري ورضاه به ، كالردّ بالعيب.

وقال أبو حنيفة : يعتبر حضور المشتري أو حكم الحاكم ، ولا يحكم الحاكم إلّا إذا اُحضر الثمن(٤) .

وعن الصعلوكي أنّ حضور المأخوذ منه أو وكيله شرط(٥) . وهو ممنوع.

وإذا ملك الشفيع بغير تسليم الثمن - بل إمّا بتسليم المشتري الشقص ويرضى بكون الثمن في ذمّته ، أو بحضوره في مجلس القاضي وإثبات حقّه في الشفعة ويختار الملك فيقضي له القاضي - لم يكن له أن يتسلّم الشقص حتى يؤدّي الثمن إلى المشتري وإن سلّمه المشتري قبل أداء الثمن ، ولا يلزمه أن يؤخّر حقّه بأن أخّر البائع حقّه.

مسالة ٧٣٨ : يجب على الشفيع دفع الثمن معجّلاً ، فإن تعذّر تعجيله‌

____________________

(١) الظاهر : « وإن ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٩

أو ادّعى غيبته ، اُجّل ثلاثة أيّام لإحضاره ؛ لأنّ تحصيله في الحال يتعذّر في غالب العادات ، فلو شرط إحضاره في الحال ، أدّى إلى إسقاط الشفعة ، وذلك إضرار بالشفيع ، فإن أحضر الثمن في مدّة الثلاثة ، فهو أحقّ ، وإلاّ بطلت شفعته بعدها.

ولو ذكر أنّ الثمن في بلد آخر ، أجّل بقدر وصوله من ذلك البلد وثلاثة أيّام بعده ما لم يتضرّر المشتري.

ولو هرب الشفيع بعد الأخذ ، كان للحاكم فسخ الأخذ ، وردّه إلى المشتري وإن لم يكن له ذلك في البيع لو هرب المشتري أو أخّر الدفع ؛ لأنّ البيع حصل باختيارهما ، فلهذا لم يكن للحاكم فسخه عليهما ، وهنا أخذه الشفيع بغير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه ، فإذا اشتمل على إضرار بالمشتري ، مَنَعه الحاكم وردّه.

ولو هرب قبل الأخذ ، فلا شفعة له ، وكذا العاجز عن الثمن.

وقال بعض الشافعيّة : إذا قصّر في الأداء ، بطل حقّه من الشفعة. وإن لم يوجد ، رفع إلى الحاكم ( وفسخ منه )(١) (٢) .

والمعتمد : الأوّل ؛ لما قلناه.

ولما روى عليّ بن مهزيار أنّه سأل الجوادَعليه‌السلام : عن رجل طلب شفعة أرض ، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها أيبيعها أو ينتظر مجي‌ء شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال‌

____________________

(١) ورد ما بين القوسين سهواً في النسخ الخطّيّة والحجريّة بعد تمام الرواية الآتية في نفس المسألة. وموضعه هنا تتمّةً لقول بعض الشافعيّة كما في « العزيز شرح الوجيز » و « روضة الطالبين ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

٢٥٠

وإلّا فليبع وبطلت شفعته في الأرض ، وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه ، وإلّا فلا شفعة له »(١) .

مسالة ٧٣٩ : ولا يثبت في الشفعة خيار المجلس عند علمائنا‌ ؛ للأصل الدالّ على عدمه.

ولدلالة قولهعليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا »(٢) على اختصاص الخيار بالبيع ؛ لأنّه وصف علّق عليه حكم ، فينتفي بانتفائه.

ولأنّ الخيار لا يثبت للمشتري ؛ لأنّه يؤخذ الملك منه قهراً ، ولا للآخذ ؛ لأنّ له العفو والإسقاط.

نعم ، لو أخذ وثبت الملك له ، لم يكن له الخيار في الفسخ ؛ للأصل.

وللشافعي قولان :

أظهرهما : ثبوت الخيار - وقد تقدّم(٣) - بأن يترك بعد ما أخذ ، أو يأخذ بعد ما ترك ما دام في المجلس ؛ لأنّ ذلك معاوضة ، فكان في أخذها وتركها خيار المجلس ، كالبيع(٤) .

وله قولٌ آخَر : إنّه يسقط ؛ لأنّ الشفعة حقّ له ثبت ، فإذا أخّره أو تركه ، سقط ، كغيره من الحقوق(٥) .

فعلى قوله بالخيار يمتدّ إلى مفارقة المجلس.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٣٩.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٨٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٦٤ / ١٥٣٢ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٤٧ / ١٢٤٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥.

(٣) في ج ١١ ص ١٥ ، ضمن المسألة ٢٢٧.

(٤) الوسيط ٤ : ٨١ ، العزيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩ ، المجموع ٩ : ١٧٧.

٢٥١

وهل ينقطع بأن يفارقه المشتري؟ وجهان : المنع ؛ لأنّه لا حظّ له في الخيار ، فلا اعتبار بمفارقته. والانقطاع ؛ لحصول التفريق(١) .

مسالة ٧٤٠ : يجوز للمشتري التصرّف في الشقص قبل أن يأخذه الشفيع وقبل علمه بالبيع ، فإذا تصرّف ، صحّ تصرّفه ؛ لأنّ ملكه بالعقد إجماعاً ، وفائدة الملك استباحة وجوه الانتفاعات ، وصحّ قبض المشتري له ، ولم يبق إلّا أنّ الشفيع ملك عليه أن يملك ، وذلك لا يمنع تصرّفه ، كما لو كان الثمن معيباً فتصرّف المشتري في المبيع.

وكذا الموهوب له إذا كان الواهب ممّن له الرجوع فيها ، فإنّ تصرّفه يصحّ وإن ملك الواهب [ الرجوع ](٢) فيها.

إذا ثبت هذا ، فإنّ تصرّفه إن كان ممّا تجب به الشفعة - كالبيع خاصّةً عندنا ، وكلّ معاوضة عند الشافعي(٣) ، كجَعْله عوض الصداق أو الخلع أو غير ذلك من المعاوضات - تخيّر الشفيع إن شاء فسخ تصرّفه وأخذ بالثمن الأوّل ؛ لأنّ حقّه أسبق ، وسببه متقدّم ، فإنّ الشفعة وجبت له قبل تصرّف المشتري. وإن شاء أمضى تصرّفه ، وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني ؛ لأنّ هذا التصرّف يُثبت الشفعة ، فلو باعه المشتري بعشرة بعشرين فباعه الآخَر بثلاثين ، فإن أخذ من الأوّل ، دفع عشرة ، ورجع الثالث على الثاني بثلاثين ، والثاني على الأوّل بعشرين ، لأنّ الشقص يؤخذ من الثالث وقد انفسخ عقده ، وكذا الثاني. ولو أخذ من الثاني ، صحّ ، ودفع عشرين ؛ وبطل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

٢٥٢

الثالث ، فيرجع بثلاثين. ولو أخذ من الثالث ، صحّت العقود ، ودفع ثلاثين.

وإن كان تصرّفه لا تثبت به الشفعة كالهبة والوقف وجَعْلِه مسجداً ، فإنّ للشفيع إبطالَ ذلك التصرّف ، ويأخذ بالثمن الأوّل ، ويكون الثمن للمشتري ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال مالك : إنّه يكون الثمن للموهوب له(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ الشفيع أبطل الهبة ، وأخذ الشقص بحكم العقد الأوّل ، ولو لم يكن وهب كان الثمن له ، كذا بعد الهبة المفسوخة.

وكذا للشفيع فسخ الوقف وكونه مسجدا أو غير ذلك من أنواع التصرّفات ، وبه قال أكثر الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : إنّ الوقف يُبطل الشفعة ؛ لأنّ الشفعة إنّما تثبت في المملوك وقد خرج من أن يكون مملوكاً(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ ذلك الاستحقاق سابق والوقف متأخّر ، فلا يبطل السابق ، ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حقّ الغير ، كما لو وقف المريض أملاكه أو أعتق عبيده وعليه دَيْنٌ مستوعب ، فإنّ العتق والوقف صحيحان ، وإذا مات ، فسخا لحقّ الغرماء ، كذا هنا.

مسالة ٧٤١ : إذا ملك الشفيع ، امتنع تصرّف المشتري. ولو طلب الشفيع ولم يثبت الملك بَعْدُ ، لم يمنع الشريك من التصرّف ؛ لبقائه في ملكه.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، الوسيط ٤ : ٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ ، المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

(٢) المغني ٥ : ٤٩١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

(٤) المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

٢٥٣

ويحتمل قويّاً المنع ؛ لتعلّق حقّ الشفيع به وتأكّده بالطلب.

وكلاهما للشافعيّة(١) أيضاً.

ولو تصرّف الشفيع قبل القبض بعد أن سلّم الثمن إلى المشتري ، نفذ.

وللشافعيّة وجهان ، أظهرهما : المنع ، كتصرّف المشتري قبل القبض(٢) .

وهو باطل ؛ لاختصاص ذلك بالبيع ، والشفعة ليست بيعاً. ولأنّه ملك قهريّ كالإرث ، فصحّ تصرّفه فيه ، كالوارث قبل القبض.

ولو ملك بالإشهاد أو بقضاء القاضي ، نفذ تصرّفه.

وقالت الشافعيّة : لا ينفذ(٣) .

وكذا لو ملك برضا المشتري بكون الثمن عنده.

مسالة ٧٤٢ : لا يشترط علم الشفيع بالثمن ولا بالشقص في طلب الشفعة‌ ، بل في الأخذ ، فلا يملك الشقص الذي لم يره بالأخذ ولا بالطلب ؛ لأنّه غرر والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه(٤) ، بل يشترط علم الشفيع في التملّك بالثمن والمثمن معاً ، فلو جهل أحدهما ، لم يصح الأخذ ، وله المطالبة بالشفعة.

ولو قال : أخذته بمهما كان ، لم يصح مع جهالته بالقدر.

وقالت الشافعيّة : في تملّك الشفيع الشقص الذي لم يره طريقان :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٣ / ١٥١٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٩ / ٢١٩٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٥٤ / ٣٣٧٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٣٢ / ١٢٣٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥١ ، الموطّأ ٢ : ٦٦٤ / ٧٥.

٢٥٤

أظهرهما : أنّه على قولي(١) بيع الغائب إن منعناه ، لم يتملّكه قبل الرؤية ، وليس للمشتري منعه من الرؤية. وإن صحّحناه ، فله التملّك.

[ ثمّ ](٢) منهم مَنْ جَعَل خيار الرؤية على الخلاف في خيار المجلس.

ومنهم مَنْ قطع به وقال : المانع هناك - على رأي - بُعْدُ اختصاص ذلك الخيار بأحد الجانبين.

والثاني : المنع ، سواء صحّحنا بيع الغائب أو أبطلناه ؛ لأنّ البيع جرى بالتراضي فأثبتنا الخيار فيه ، وهنا الشفيع يأخذ من غير رضا المشتري ، فلا يمكن إثبات الخيار فيه.

نعم ، لو رضي المشتري بأن يأخذه الشفيع ويكون بالخيار ، فعلى قولي بيع الغائب ، فإذا جوّزنا له التملّك وأثبتنا الخيار ، فللمشتري أن يمتنع من قبض الثمن وإقباض المبيع(٣) حتى يراه ليكون على ثقة فيه(٤) .

وإذا بلغه البيع فقال : قد اخترت أخذ الشقص بالثمن الذي تمّ عليه العقد ، وعلم قدره ونظر إلى الشقص أو وُصف له وصفاً يرفع الجهالة ، صحّ الأخذ وإن لم يجز المشتري ولا حضر.

وقال أبو حنيفة : لا يأخذ بالشفعة حتى يحضر الثمن ، ولا يقضي له القاضي بها حتى يحضر الثمن(٥) .

وقال محمد : إنّ القاضي يؤجّله يومين أو ثلاثة ، ولا يأخذه إلّا بحكم‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « قول ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « البائع » بدل « المبيع ».

والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٥) المغني ٥ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

٢٥٥

الحاكم أو رضا المشتري ؛ لأنّ الشفيع يأخذ الشقص بغير اختيار المشتري ، فلا يستحقّ ذلك إلّا بعد إحضار الثمن ، ولهذا كان المشتري لمـّا كان يستحقّ تسلّم المبيع بغير اختيار البائع لم يكن له إلّا بعد إحضار الثمن(١) .

وقد بيّنّا أنّ الشفيع يأخذ بالعوض ، فلا يشترط حضوره ، كالبيع ، والتسليم في الشفعة كالتسليم في البيع ، فإنّ الشفيع لا يتسلّم الشقص إلّا بعد إحضار الثمن ، وكون التملّك بغير اختياره يدلّ على قوّته ، فلا يمنع من اعتباره في الصحّة بالبيع.

وإذا كان الثمن مجهولاً عند الشفيع ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّه تملّك بعوض ، فلا يصحّ مع جهالة العوض ، كالبيع.

ولو قال : أخذته بالثمن إن كان مائةً فما دونها ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّ مثل هذا لا يجوز أن يكون ثمناً في البيع ، كذا الشفعة.

ولو لم يشاهد الشقص ولا وُصف له بما يرتفع معه الجهالة ، لم يكن له أخذه ، وبه قال بعض الشافعيّة ، سواء قالوا بجواز بيع خيار الرؤية أو لا ؛ لأنّ مع القول بالجواز أثبتوا فيه خيار الرؤية برضا البائع ، لأنّه دخل على ذلك ، وفي مسألتنا يأخذه الشفيع بغير رضا المشتري ، فلا يثبت الخيار(٢) .

و(٣) قال ابن سريج : إلّا أن يرضى المشتري بخيار الرؤية ، فيجوز ذلك على القول الذي يجيز البيع بها(٤) .

وقال بعض الشافعيّة : مَنْ قال من أصحابنا : إنّه يثبت في الشفعة خيار المجلس يجيز أيضاً خيار الرؤية فيها على أحد القولين(٥) .

إذا عرفت هذا ، فإذا أخذ الشقص بالشفعة ، وجب عليه الثمن ،

____________________

(١) بدائع الصنائع ٥ : ٢٤ ، وانظر : المغني ٥ : ٥١٠ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

(٢و٤و٥) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٣) في « س ، ي » لم ترد كلمة « و».

٢٥٦

ولا يجب على المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن.

مسالة ٧٤٣ : إذا كان الشقص في يد البائع ، فقال الشفيع : لا أقبضه إلّا من المشتري‌ ، لم يكن له ذلك ، ولم يكلّف المشتري أخذه من البائع ، بل يأخذه الشفيع من يد البائع ؛ لأنّ هذا الشقص حقّ الشفيع ، فحيثما وجده أخذه. ولأنّ يد الشفيع كيد المشتري ؛ لأنّه استحقّ قبض ذلك من جهته ، كما لو وكّل وكيلاً في القبض ، ألا ترى أنّه لو قال : أعتق عبدك عن ظهاري ، فأعتقه ، صحّ ، وكان الآمر كالقابض له ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ للشفيع ذلك ؛ لأنّ الشفيع بمنزلة المشتري من المشتري ، فيلزمه أن يسلّمه بعد قبضه ، وعلى الحاكم تكليف المشتري أن يتسلّم ويُسلّم ، أو يوكّل في ذلك ، فإن كان المشتري غائباً ، نصب الحاكم مَنْ يقبضه من البائع عن المشتري ويسلّمه إلى الشفيع ، وإذا أخذه الشفيع من المشتري أو من البائع ، فإنّ عهدته على المشتري خاصّةً(١) .

ولو أفلس الشفيع وكان المشتري قد سلّم الشقص إليه راضياً بذمّته ، جاز له الاسترداد ، وكان أحقَّ بعينه من غيره.

مسالة ٧٤٤ : إنّما يأخذ الشفيع بالثمن الذي وقع عليه العقد‌ ؛ لما روى العامّة عن جابر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « فهو أحقّ به بالثمن »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « فهو أحقّ بها من غيره بالثمن »(٣) .

ولأنّ الشفيع إنّما يستحقّ الشفعة بسبب البيع ، فكان مستحقّا له‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ - ٥٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٢.

(٢) سنن البيهقي ٦ : ١٠٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٠.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٨.

٢٥٧

بالثمن ، كالمشتري.

لا يقال : الشفيع استحقّه بغير اختيار مالكه ؛ لحاجته إليه ، فكان يجب أن يستحقّه بالقيمة ، كالمضطرّ إلى طعام الغير.

لأنّا نقول : المضطرّ إنّما استحقّه بسبب الحاجة خاصّةً ، فكان المرجع في بدله إلى القيمة ، والشفيع يستحقّه لأجل البيع ، فإنّه لو كان انتقاله في الهبة أو الميراث ، لم يستحقّ فيه الشفعة ، وإذا اختصّ ذلك بالبيع ، وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع.

إذا ثبت هذا ، فإن بِيع بمثليٍّ - كالنقدين والحبوب - أخذه بمثله.

ثمّ إن قُدِّر بمعيار الشرع ، أخذه به. وإن قُدِّر بغيره كما لو باع بمائة رطل من الحنطة ، أخذه بمثله وزناً تحقيقاً للمماثلة.

وللشافعي قولان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّه يأخذه بالكيل(١) .

ولو تعذّر المثل وقت الأخذ ؛ لانقطاعه أو لغيره ، عدل إلى القيمة ، كما في الغصب.

تذنيب : لا يجب على الشفيع دفع ما غرمه المشتري من دلالة واُجرة وزّان ونقّاد وكيل وغير ذلك من المؤن.

مسالة ٧٤٥ : ولو لم يكن الثمن مثليّاً بل مقوَّماً - كالعبد والثوب وشبههما - أخذه الشفيع بقيمة السلعة التي جُعلت ثمناً - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك(٢) - لأنّه أحد نوعي الثمن ، فجاز أن تثبت الشفعة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٦ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٦ ، المعونة ٢ : ١٢٧٦ ، التفريع ٢ : ٣٠٢ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٨

بالمشتري به ، كالذي له مِثْلٌ.

وقال الشيخرحمه‌الله : تبطل الشفعة(١) - وبه قال الحسن البصري وسوار القاضي(٢) - لما رواه عليّ بن رئاب عن الصادقعليه‌السلام في رجل اشترى داراً برقيق ومتاع وبزّ وجوهر ، قال : « ليس لأحد فيها شفعة »(٣) .

ولأنّ الشفعة إنّما تجب بمثل الذي ابتاعه به ، وهذا لا مثل له ، فلم تجب.

والرواية ضعيفة السند ؛ لأنّ في طريقها الحسن بن محمد بن سماعة وليس منّا.

والمثل قد يكون من طريق الصورة وقد يكون من طريق القيمة ، كما في بدل الإتلاف والغصب.

وتُعتبر القيمة يوم البيع ؛ لأنّه يوم إثبات العوض واستحقاق الشفعة ، فلا اعتبار بالزيادة بعد ذلك ولا النقصان ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال ابن سريج : تُعتبر قيمته يوم استقرار العقد بانقطاع الخيار(٥) .

وقال مالك : الاعتبار بقيمته يوم المحاكمة(٦) .

وليس بجيّد ؛ لما تقدّم من أنّ وقت الاستحقاق وقت العقد‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٤٣٢ ، المسألة ٧.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٤٠.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٥) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ - ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٦) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٩

للمشتري. ولأنّ الثمن صار ملكاً للبائع ، فلا تُعتبر زيادته في حقّ المشتري.

ولو اختلفا في القيمة في ذلك الوقت ، قُدّم قول المشتري مع اليمين.

مسالة ٧٤٦ : لو جعل الشقص رأس مال سَلَمٍ ، أخذ الشفيع بمثل الـمُسْلَم فيه إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً.

ولو صالح من دَيْنٍ على شقص ، لم تكن له شفعة.

وعند الشافعي يأخذه بمثل ذلك الدَّيْن إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً(١) .

ولا فرق بين أن يكون دَيْن إتلافٍ أو دَيْن معاملة.

ولو أمهرها شقصاً ، فلا شفعة عندنا.

وعند الشافعي يأخذ بمهر مثل المرأة ؛ لأنّ البُضْع متقوَّم ، وقيمته مهر المثل. وكذا إذا خالعها على شقص. والاعتبار بمهر مثلها يوم النكاح أو يوم جريان البينونة(٢) .

وخرّج بعض الشافعيّة وجهاً أنّه يأخذه بقيمة الشقص(٣) . والأصل فيه أنّ المرأة إذا وجدت بالصداق عيباً وردّته ، ترجع بقيمته على أحد القولين ، فإذا كان المستحقّ عند الردّ بالعيب بدل المسمّى ، كذا عند الأخذ بالشفعة ، وبه قال مالك(٤) .

ولو متَّع المطلّقة بشقص ، فلا شفعة عندنا.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٣) في « العزيز شرح الوجيز » : « بقيمته يوم القبض ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419