أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 122892
تحميل: 9224

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122892 / تحميل: 9224
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الزعامة لم يكن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام يحصلون عليها صدفة أو على أساس مجرّد الانتماء إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّهم منتسبون إلى الرسول، كلاّ بل على أساس العطاء، وللدور الإيجابي الذي يمارسه الإمام في الأُمّة بالرغم من إقصائه عن منصب الحكم، فإنّ الأُمّة لا تمنح أحداً على الأغلب الزعامة مجاناً، ولا يمتلك الفرد قيادتها ويحتلّ قلوبها بدون عطاء سخيّ منه تستشعره الأُمّة في مختلف مجالاتها وتستفيد منه في حلّ مشكلاتها والحفاظ على رسالتها.

إنّ تلك الزعامة الواسعة التي كانت نتيجةً لإيجابية الأئمّةعليهم‌السلام في الحياة الإسلامية هي التي جعلت لعليٍّعليه‌السلام المثل الأعلى للثوّار الذين قضوا على عثمان، وهي التي كانت تتمثّل بمختلف العلاقات التي عاشها الأئمّةعليهم‌السلام مع الأُمّة.

اُنظروا إلى الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام كيف يقول لهارون الرشيد:أنت إمام الأجسام، وأنا إمام القلوب (١) .

اُنظروا إلى عبد الله بن الحسن حين أراد أن يأخذ البيعة لابنه محمّد كيف يقول للإمام الصادق: واعلم - فديتك - أنّك إذا أجبت لم يختلف عن ابني أحد من أصحابك، ولم يختلف عليّ اثنان من قريش ولا من غيرهم(٢) .

ولاحظوا مدى ثقةّ الأُمّة بقيادة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام نتيجةً لما يعيشون من دورٍ إيجابيٍّ في حماية الرسالة وتطبيق مصالح الأُمّة.

لاحظوا المناسبة الشهيرة التي أنشأ فيها الفرزدق قصيدته في الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، كيف أنّ هيبة الحكم وجلال السلطان لم يستطع أن يشقّ

____________________

(١) راجع: إحقاق الحقّ ١٩: ٥٤٣ و ٥٤٨.

(٢) أصول الكافي ١: ٣٥٩، كتاب الحجّة، باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل، الحديث ١٧.

٦١

لهشام طريقاً لاستلام الحجر بين الجموع المحتشدة من أفراد الأُمّة في موسم الحجّ، حينما استطاعت زعامة أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أن تجذب الجماهير في لحظةٍ وهي تحسّ بمقدم الإمام القائد وتشقّ الطريق بين يديه نحو الحجر !(١)

لاحظوا قصّة الهجوم الشعبي الهائل الذي تعرّض له قصر المأمون نتيجة لإغضابه الإمام الرضاعليه‌السلام ، فلم يكن للمأمون مناص من الالتجاء إلى الإمام لحمايته من غضب الأمّة، فقاله له الإمامعليه‌السلام : اتّقِ الله في اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما وليت من هذا الأمر وخصصت به، إنّك قد ضيّعت أمور المسلمين وفوّضت ذلك إلى غيرك يحكم فيه بغير حكم الله(٢) .

إنّ كلّ هذه النماذج والمظاهر للزعامة الشعبية التي عاشها أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على طول الخطّ تبرهن على إيجابيّتهم وشعور الأُمّة بدورهم الفعّال في حماية الرسالة.

الإيجابية تتكشّف في علاقات الأئمة بالحكّام، ويمكننا أن ننظر من زاوية جديدة لنصل إلى نفس النتيجة من زاوية علاقات الزعامات المنحرفة مع الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام على طول الخطّ، فإنّ هذه العلاقات كانت تقوم على أساس الخوف الشديد من نشاط الأئمةعليهم‌السلام ودورهم في الحياة الإسلامية، حتّى يصل الخوف لدى الزعامات المنحرفة أحياناً إلى درجة الرعب، وكان لحصول ذلك باستمرار تطويق إمام الوقت بتحفّظ شديد، ووضع رقابة محكمة عليه، ومحاولة فصله عن قواعده الشعبيّة، ثمّ التآمر على حياته، ووفاته شهيداً بقصد التخلّص من خطره.

____________________

(١) رجال الكشي: ١٢٩ - ١٣٢، والمناقب ٤: ١٦٩.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٦٠، الباب ٤٠، الحديث ٢٤.

٦٢

فهل كان كلّ هذا من الصدفة أو مجرّد تسليةٍ تتّخذ الزعامات المنحرفة كلّ هذه الإجراءات تجاه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بالرغم من أنّها تكلّفها ثمناً بالغاً من سمعتها وكرامتها، أو كان ذلك نتيجةً لشعور الحكّام المنحرفين بخطورة الدور الإيجابي الذي يمارسه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وإلاّ فلماذا كلّ هذا القتل والتشريد أو النفي والسجن ؟ !

الأئمّةعليهم‌السلام ومسألة تسلّم الحكم:

هل كان الأئمّة يحاولون تسلّم الحكم ؟ يبقى سؤال واحد قد يتبادر إلى الأذهان، وهو: أنّ إيجابية الأئمّةعليهم‌السلام هل كانت تصل إلى مستوى العمل لتسلّم زمام الحكم من الزعامات المنحرفة، أو تقتصر على حماية الرسالة ومصالح الأمّة من التردّي إلى الهاوية وتفاقم الانحراف ؟

والجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى توسّع في الحديث يضيق عنه هذا المجال، غير أنّ الفكرة الأساسية في الجواب المستخلصة من بعض النصوص والأحاديث المتعدّدة: أنّ الأئمة لم يكونوا يرون الظهور بالسيف والانتصار المسلّح أمراً كافياً لإقامة دعائم الحكم الصالح على يد الإمام، إنّ إقامة هذا الحكم وترسيخه لا يتوقّف في نظرهم على مجرّد تهيئة حملة عسكرية، بل يتوقّف قبل ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وعصمته إيماناً مطلقاً، ويعبّئ أهدافه الكبيرة، ويدعم تخطيطه في مجال الحكم، ويحدث ما يحقّق للاُمّة من مقاصد.

وكلّكم تعلمون قصّة الخراساني الذي جاء إلى الإمام الصادقعليه‌السلام يعرض عليه تبنّي حركة الثوار الخراسانيين، فاستمهل جوابه، ثمّ أمره بدخول التنوّر ،

٦٣

فرفض، وجاء أبو بصير فأمره بذلك فسارع إلى الامتثال، فالتفت الإمامعليه‌السلام إلى الخراساني وسأله: كم لكم من أمثال أبي بصير ؟ وكان هذا هو الردّ العملي من الإمامعليه‌السلام على اقتراح الخراساني(١) .

وعلى هذا الأساس تسلّم أمير المؤمنين زمام الحكم في وقت توفّر ذلك الجيش العقائدي، متمثّلاً في صفوة من المهاجرين والأنصار والتابعين.

رعاية الشيعة بوصفها الكتلة المؤمنة بالإمام:

عرفنا أنّ الدور المشترك الذي كان الأئمّةعليهم‌السلام يمارسونه في حياتهم الإسلامية كدور الوقوف دون المزيد من الانحراف وإمساك المقياس عن التردّي إلى الحضيض والهبوط إلى الهاوية.

غير أنّ هذا في الحقيقة يعبّر عن بعض ملامح الدور المشترك، وهناك جانب آخر في هذا الدور المشترك لم نشر إليه حتّى الآن، وهو جانب الإشراف المباشر على الشيعة بوصفهم الجماعة المرتبطة مع الإمام والتخطيط لسلوكها، وحماية وجودها، وتنمية وعيها، وإمدادها بكلّ الأساليب التي تساعد على صمودها في المحن، وارتفاعها إلى مستوى الحاجة الإسلامية إلى جيش عقائدي وطليعة واعية.

ولدينا عدد كبير من الشواهد من حياة الأئمّةعليهم‌السلام على أنّهم كانوا يباشرون نشاطاً واسعاً في مجال الإشراف على الكتلة المرتبطة بهم والمؤمنة بإمامتهم، حتّى أنّ الإشراف كان يصل أحياناً إلى درجة تنظيم أساليب لحلّ

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤: ٢٣٧، وعنه في بحار الأنوار ٤٧: ١٢٣، تاريخ الإمام الصادقعليه‌السلام ، الباب ٥، باب معجزاته واستجابة دعواتهعليه‌السلام ، الحديث ١٧٢.

٦٤

الخلافات الشخصية بين أفراد الكتلة، ورصد الأموال لها، كما يحدّث بذلك المعلّى ابن خنيس عن الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم عدداً من النصوص بوصفها تعليم أساليب للجماعة التي يشرفون على سلوكها، وقد تختلف الأساليب باختلاف ظروف الشيعة بالملابسات التي يمرّون بها.

أيّها الإخوة، ما قدّمته كافٍ للنقاط التي أحببت إثارتها والتي يجب أن نتربّى عليها في دراسات الأئمّةعليهم‌السلام .

وختاماً لا بدّ أن يكون هذا منطلقاً للباحثين في حياة أهل البيتعليهم‌السلام . وأبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من التابعين والسائرين على هداهم، والملتزمين بكلّ حدودهم والمطبّقين لأوامرهم، والثائرين لإعادة الإسلام على مسرح الوجود.

____________________

(١) راجع: أصول الكافي ٢: ٢٠٩، كتاب الإيمان والكفر، باب الإصلاح بين الناس، الحديث ٣ و ٤، والراوي فيهما هو المفضل وليس المعلّى.

٦٥

٦٦

الأُمّة الإسلاميّة:

طاقة حراريّة أم وعي مستنير ؟

٦٧

٦٨

بسم الله الرحمن الرحيم

قلنا: إنّه حينما وجد الانحراف بعد وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن الأُمّة على مستوى المراقبة، الأُمّة بوصفها المجموعي لم تكن قادرةً على ضمان عدم وقوع هذا الحاكم المنحرف بطبيعته في سلوكٍ منحرف؛ لأنّ كون الأُمّة على مستوى هذا الضمان إنّما يكون فيما إذا وصلت الأُمّة بوصفها المجموعي إلى درجة العصمة، أي إذا أصبحت الأُمّة كاُمّةٍ تعيش الإسلام عيشاً كاملاً عميقاً مستوعباً مستنيراً منعطفاً على مختلف مجالات حياتها. وهذا ما لم يكن بالرغم من أنّ الأُمّة الإسلامية وقتئذٍ كانت تشكّل أفضل نموذجٍ للاُمّة في تأريخ الإنسان على الإطلاق. يعني نحن الآن لا نعرف في تأريخ الإنسان أنّها بلغت في مناقبها وفضائلها وقوّة إرادتها وشجاعتها وإيمانها وصبرها وجلالتها وتضحيتها، ما بلغته هذه الأُمّة العظيمة حينما خلّفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الذي يقرأ تأريخ هؤلاء الناس، هذه الحفنة، الناس التي عاشت مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تبهره أنوارهم، أنوارهم في المجال الروحي والفكري والنفسي، في مجال الجهاد والتضحية في سبيل العقيدة، ولكنّ هذه الأنوار التي تظهر للمطالع لم تكن نتيجة وعي معمّقٍ تعيشه الأُمّة في أبعادها الفكريّة والنفسيّة، بل كانت نتيجة

٦٩

طاقةٍ حراريّةٍ هائلةٍ اكتسبتها هذه الأُمّة بإشعاع النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله عليها، هذه الأُمّة التي عاشت مع أكمل قائدٍ للبشريّة اكتسبت عن طريق الإشعاع من هذا القائد درجةً كبيرةً من الطاقة الحراريّة.

هذه الطاقة الحراريّة صنعت المعاجز، وصنعت البطولات، وصنعت التضحيات التي يقلّ نظيرها في تأريخ الإنسان، ولا أريد الآن أن أعطي الأرقام.

طبعاً وبمراجعة غزوات الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وقوائم روحيّة المجاهدين في أيام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإيثار كلّ واحدٍ منهم للإسلام وللعقيدة، إيثاره بكلّ وجوده، بكلّ طاقاته وإمكانيّاته، هذه النماذج الرفيعة إنّما هي نتائج هذه الطاقة الحراريّة، هذه الطاقة الحراريّة هي التي جعلت الأُمّة الإسلاميّة تعيش أيام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحمل لواء الإسلام بكلّ شجاعةٍ وبطولةٍ إلى مختلف أرجاء الأرض والعالم، هذه هي طاقة حرارية وليست وعياً.

الفرق بين الوعي والطاقة الحراريّة:

ويجب أن نفرّق ونميّز بين الطاقة الحرارية والوعي:

الوعي عبارة عن الفهم الفعّال الإيجابي المحرّك للإسلام في نفس الأُمّة، الذي يستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالاً كاملاً، ويحوّل تمام مرافق الإنسان، يحوّلها من مرافق للفكر الجاهلي، للعاصمة الجاهلية، للذوق الجاهلي إلى مرافق الفكر الإسلامي والعاصمة الإسلاميّة والذوق الإسلامي، هذا هو الوعي.

أمّا الطاقة الحرارية فهي عبارة عن توهّجِ عاطفيٍّ حارّ، شعور يبلغ في

٧٠

مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره، بحيث يختلط الأمر فلا يميّز بين الأمة التي تحمل مثل الطاقة الحرارية وبين اُمّةٍ تتمتّع بذلك الوعي إلاّ بعد التبصّر.

إلاّ أنّ الفرق بين الأمّة الواعية والأمّة التي تحمل الطاقة الحرارية فرق كبير، فإنّ الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالابتعاد عن مركز هذه الطاقة الحرارية. المركز الذي يؤمّن الأُمّة بهذه الطاقة هو شخص القائد عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان بطبيعة الحال أن يكون حال الأُمّة بعده في تناقضٍ مستمرّ، حال الشخص الذي يتزوّد من الطاقة الحرارية للشمس أو النار ثمّ يبتعد عن الشمس أو النار، فإنّ هذه الحالة تتناقص عنده باستمرار. وهكذا كان.

تأريخ الإسلام يثبت أنّ الأُمّة الإسلامية كانت في حالة تناقصٍ مستمرٍّ من هذه الطاقة الحرارية التي خلّفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمته حين وفاته.

بخلاف الوعي، فإنّ الوعي بذلك المعنى الشامل والمركز المستأصل لجذور ما قبله، والذي يخلق جميع المفاهيم والأفكار المسبقة، ذلك الوعي من طبيعته الثبات والاستقرار، بل التعمّق على مرّ الزمن؛ لأنّ هذا الوعي بطبيعته يمتدّ ويخلق له بالتدريج خيالاتٍ جديدةً وفقاً لخطّ العمل ولخطّ الأحداث، فإنّ الأُمّة الواعية هي اُمّة تسير في طريق التعمّق في وعيها، والأُمّة التي تحمل طاقةً حراريةً هائلةً هي الأُمّة التي لو بقيت هي وحدها مع هذه الطاقة الحرارية فسوف تتناقص هذه الطاقة الحرارية بالاستمرار.

والفرق الآخر: أنّ الوعي لا تهزّه الانفعالات، الوعي يجمد أمام الانفعالات، أمّا الطاقة الحرارية فتهزّها الانفعالات، الانفعال حينئذٍ يفجّر المشاعر الباطنيّة المستترة، يبرز ما وراء الستار، ما وراء سطح النفس، كأنّ الطاقة الحرارية طاقة تبرز على سطح النفس البشرية، وأمّا الوعي فهو شيء يثبت مع

٧١

أعماق هذه النفس البشرية، ففي حالة الانفعال سواء كان الانفعال انفعالاً معاكساً يعني حزناً وألماً، أو كان انفعالاً موافقاً فرحاً ولذّةً وانتصاراً، في كلا الحالين يتفجّر ما وراء الستار، ويبرز ما كان كامناً وراء الستار، هذه الطاقة الحرارية في الأُمّة المزوّدة بهذه الطاقة.

أمّا الأُمّة الواعية فوعيها يجمد ويتقوّى على مرّ الزمن، كلّما مرّ بها انفعال جديد أكّدت شخصيّتها الواعية في مقابل هذا الانفعال، وصبغته بما يتطلّبه وعيها من موقف، هذا هو الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية.

الأُمّة الإسلامية كانت تحمل الطاقة الحراريّة لا الوعي المستنير:

نحن ندّعي: أنّ الأُمّة الإسلامية العظيمة التي خلّفها القائد العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله والتي ضربت أعظم مثلٍ للأمّة في تأريخ الإنسان إلى يومنا هذا، هذه الأُمّة كانت تحمل طاقةً حراريةً كثيرة، ولم تكن اُمّةً تحمل وعياً مستنيراً مستوعباً مجتثّاً لأصول الجاهلية فيها. والدليل على هذا كلّه واضح من تأريخ الأُمّة نفسها، من يقرأ تأريخ الأُمّة يعرف أنّ الأُمّة كانت اُمّةَ طاقةٍ حرارية، ولم تكن اُمّةَ وعيٍ مستنيرٍ يُجتثّ به أصول الجاهلية في حالات الانفعال: الانفعال الموافق، والانفعال المخالف، يبدو أنّ هذه الأُمّة لم تكن إلاّ اُمّة طاقةٍ حراريةٍ ولم تكن اُمّة وعي.

الشواهد على ذلك:

(١) اُنظر غزوة هوازن بعد فتح مكّة، ماذا صنعت هذه الأُمّة العظيمة بتلك الطاقة الحرارية في لحظة الانفعال ؟

٧٢

رسول الله خرج بجيشٍ مزيجٍ من الأنصار ومن قريش من أهل مكّة، فانتصر في معركته، وأخذ غنائم كثيرة، وكان من قرارهصلى‌الله‌عليه‌وآله توزيع هذه الغنائم جميعاً على من خرج من مسلمي مكّة، فوزّعها جميعاً على مسلمي مكّة، ولم يعطِ من مسلمي الأنصار شيئاً منها، هذه لحظة انفعال، لحظة انفعالٍ نفسيٍّ أنّ هؤلاء يرون أنفسهم أنّهم خرجوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة ليفتحوا مكّة، وفتحوا مكّة وحقّقوا للأمّة أعظم الانتصارات في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح مكّة، وبعد هذا يدخل معه في الدعوة أناس جدد، فهؤلاء الأناس الجدد يستقلّون بتمام الغنائم ويأخذونها على يدي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذه لحظة انفعال، في هذه اللحظة من لحظات الانفعال لا تكفي الطاقة الحرارية، هنا نحتاج إلى وعيٍ ليثبّت هذه الأُمّة، لتستطيع أن تتغلّب على لحظة الانفعال، فهل كان مثل هذا موجوداً ؟ لا، لم يكن موجوداً.

فإنّ الأنصار أخذ يثير ما بينهم هذا الحسّ القائل: بأنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله لقي أهله وقومه وعشيرته فنسي أنصاره وأصحابه ! هؤلاء الذين شاركوه في محنته، هؤلاء الذين ضحّوا في سبيله، هؤلاء الذين قاوموا عشيرته في سبيل دعوته، نسيهم وأهملهم وأعرض عنهم؛ لأنّه رأى أحبّاءه وأقرباءه وأولاد عمّه، رأى عشيرته. أُنظروا إلى هذا التفسير، يبدو أنّ الأنصار كان المفهوم القَبَلي مركّزاً في نظرهم، متمركّزاً في نفوسهم إلى درجةٍ يبدو لهم أنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الرجل الأشرف الأكمل الذي عاشوا معه، وعاشوا مع تمام مراحل حياته الجهادية ولم يبدوا في كلّ مراحلهم الجهادية أيّ لونٍ من ألوان الانحراف، يعطي شعوراً قبليّاً قوميّاً، بالرغم من هذا وبالرغم من خلوّ حياته من أيّ إشعارٍ سابقٍ بذلك في لحظة انفعالٍ

٧٣

قالوا: بأنّه وقع تحت تأثير العاطفة القبليّة، تحت تأثير العاطفة القوميّة. هذه العاطفة القومية القبلية، هذا الترابط القبلي كيف كان قوياً في أنفسهم بحيث إنّهم اصطنعوه تفسيراً للموقف في لحظةٍ من لحظات الانفعال.

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سمع بالحسّ، اطّلع على أنّ هناك بذوراً فكريّة ضدّه في الأنصار. أرسل على كبار الأنصار من الأوس والخزرج، جمعهم عنده، التفت إليهم وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما مقالة تبلغني عن بعضكم في هذا الموضوع: أنّ محمّداً نسي أصحابه وأنصاره حينما التقى بقومه ؟ ! فسكت الجميع واعترف البعض بهذه المقالة. حينئذٍ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ يعالج الموقف الآني، المشكلة الآنية يعالجها أيضاً بإعطاء مزيدٍ من الطاقة الحرارية؛ لأنّ هذه المشكلة ذات حدّين: حدّ آنيّ، وحدّ على مدى طويل، الحدّ على المدى الطويل يجب أن يعالج عن طريق التوعية على الخطّ الطويل، وهو الشيء الذي كان يمارسهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأمّا المشكلة بحدّها الآني يجب أن تعالج أيضاً معالجةً آنية، والمعالجة الآنية لا تكون إلاّ عن طريق إعطاء مزيد من هذه الطاقة الحرارية للسيطرة على لحظة الانفعال.

ماذا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ؟ وكيف ألهب عواطفهم ؟ قال لهم: ألا ترضون أن يذهب أهل مكّة إلى بلادهم بمجموعة من الأموال الزائفة وأنتم ترجعون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة. هؤلاء يرجعون لمكّة بكومةٍ من الأموال لا تنفعهم إلاّ برهةً من الزمن، هذه كانت دفعةً حراريةً جدّاً تحوّل الموقف في لحظة، هذه الأُمّة التي تعيش اللحظات العاطفيّة هكذا أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يستغفرون ويعلنون ولاءهم واستعدادهم ويقينهم به.

أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعمّق الموقف أكثر عاطفياً، فبعد أن سكن بكاؤهم وهدأت

٧٤

عواطفهم قال لهم: ألا تقولون لي في مقابل هذا ؟! أخذ يترجم بعض الأحاسيس المستترة في نفوسهم لأجل أن يهيّج عواطفهم تجاهه، ولأجل أن يشيع في ذلك المجلس جوّاً عاطفياً روحياً بتغلّبه على الموقف إلى آخر القصّة(١) .

النتيجة هي: أنّ هذه الأُمّة التي تحمل الطاقة الحرارية تنهار أمام لحظة الانفعال.

(٢) لحظة انفعالٍ أخرى أيضاً في تأريخ هذه الأُمّة بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . لحظة انفعالٍ كبيرة، لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رحل وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يشكّل هزّةً نفسيّة هائلة بالنسبة إلى الأُمّة الإسلامية التي لم تكن قد تهيّأت بعد ذهنياً وروحياً لأن تفقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه اللحظة من الانفعال، أيضاً المشاعر التي كانت في الأعماق برزت على السطح. الشاهد الأوّل كان بالنسبة إلى الأنصار.

وهذا شاهدٌ بالنسبة إلى المهاجرين: ماذا قال المهاجرون في لحظة الانفعال ؟ هؤلاء المهاجرون الذين هاجروا من بلادهم وتركوا دورهم وعوائلهم وقومهم في سبيل الإسلام ماذا قالوا ؟ ماذا كان موقفهم ؟

كان موقفهم أنّهم قالوا: إنّ السلطان سلطان قريش ! إنّ سلطان محمّد وسلطان قريش نحن أولى به من بقيّة العرب، أولى من بقيّة المسلمين(٢) .

هنا أيضاً برز الشعور القَبَلي، أو الشعور القومي، برز في لحظة انفعال؛ لأنّ هذه اللحظة من الانفعال من طبيعتها أن تشكّل صدمةً بالنسبة إلى الطاقة الحراريّة، يصبح الإنسان في حالةٍ غير طبيعيّة، وفي هذه الحالة غير الطبيعيّة حيث لا يوجد

____________________

(١) الإرشاد ١: ١٤٥، ١٤٦، وعنه في بحار الأنوار ٢١: ١٥٨ - ١٥٩، تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الباب ٢٨، باب غزوة حنين والطائف و...، الحديث ٦.

(٢) راجع: تاريخ الطبري ٢: ٤٥٧، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ٨ - ٩.

٧٥

وعي عاصم ينهار فيها أمام تلك الأفكار المستترة، أمام تلك العواطف المختفية، وراء الستار تبرز هذه الأفكار وهذه العواطف. إذن لحظة الانفعال هي التي تحدّد أنّ هذه الأُمّة هل تحمل وعياً، أو تحمل طاقةً حراريّة ؟!

صحيح أنّعبادة بن الصامت حينما واجه ملك القبط في مصر واجهه بطاقةٍ حراريةٍ كبيرةٍ هائلة، حينما سأله عن هدفه هل يريد مالاً ؟ هل يريد جاهاً ؟ هل يريد مقاماً ؟ قال: لا أريد شيئاً من ذلك، وإنّما نريد أن ننقذ المظلوم من الظالم في أيّ مكانٍ على وجه الأرض، ونريد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى(١) ، هذه طاقة حراريّة، هذه الطاقة الحرارية تشبه الوعي تماماً، لأنّ عبادة بن الصامت لو كان يمثّل الأُمّة الواعية لقال نفس هذا الكلام في تقسيم الغنائم.

لكنّ الفرق في لحظة الانفعال، في لحظة الانتصار، ماذا صنع المسلمون في لحظة الانتصار والاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر ؟ الاستيلاء على العالم ؟ المسلمون في هذه اللحظة أخذوا يفكّرون في الدنيا، أخذوا يفكّرون في أن يقتنص كلّ واحدٍ منهم أفضل قدرٍ ممكنٍ من هذه الدنيا.

(٣) والأزمة التي مرّت بعمر بن الخطّاب في تحقيق حال الأرض المفتوحة عنوة، وأنّ الأرض المفتوحة عنوة هل تقسم على المقاتلين، أو أنّها تجعل لبيت

____________________

(١) لم نعثر في أخبار فتوح مصر على نحو هذا الخبر، بل لم نجد لعبادة بن الصامت خبراً في فتح مصر، ولم يكن في فتح مصر مواجهة مع ملك القبط هكذا، وإنّما كان الإرسال المشابه لهذا في حرب القادسيّة بطلب من ملك الفرس، فأرسلوا إليهم عشرة مع المغيرة بن شعبة الثقفي ليس فيهم عبادة بن الصامت. اُنظر الكامل لابن الأثير ٢: ٤٦٢ - ٤٦٨، وتاريخ الطبري ٣: ٧٦ - ٧٧.

٧٦

المال وتجعل ملكاً عاماً ؟ هذه الأزمنة تعطي في المقام كيف أنّ هذه الأُمّة تردّدت في لحظة الانفعال ؟ لأنّ وجوه المهاجرين والأنصار، هؤلاء الأبرار المجاهدون، هؤلاء الذين عاشوا كلّ حياتهم في الكفاح والجهاد في سبيل الله، هؤلاء أخذوا يصرّون إصراراً مستميتاً على أنّ هذه الأراضي يجب أن توزّع عليهم، وعلى أنّ كلّ واحدٍ منهم يجب أن ينال أكبر قدرٍ ممكنٍ من هذه الأرض، إلى أن أفتى علي ابن أبي طالبعليه‌السلام بأنّ الأرض للمسلمين جميعاً، لمن هو موجود الآن، ولمن يوجد بعد اليوم إلى يوم القيامة(١) .

هذه اللحظات لحظات الانفعال والانفعالية، هي التي تحدّد أنّ الأُمّة ككلٍّ تحمل طاقةً حراريةً أو تحمل وعياً.

إذن فالأُمّة كانت تحمل وعياً، ولكن وراء هذا الوعي يوجد قدر كبير من الرواسب الفكرية والعاطفية والنفسية التي لم تكن قد استؤصلت بعد.

لماذا لم تُستأصل الرواسب الجاهليّة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قد يقول قائل: إذن ماذا كان يصنع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا لم تكن قد استؤصلت هذه الرواسب ؟!

الجواب على ذلك هو: أنّ هذه الرواسب ليس استئصالها شيئاً سهلاً يسيراً، وذلك:

أمّا أوّلاً فلأنّ الدعوة الإسلامية التي جاء بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن مجرّد خطوة إلى الأمام، بل كانت طفرةً بين الأرض والسماء، إذا لاحظنا حال العرب

____________________

(١) انظر: تاريخ اليعقوبي ٢: ١٥١ - ١٥٢، وبحار الأنوار ٣١: ١٦٤ - ١٦٧.

٧٧

قبل الإسلام ولاحظنا مستوى الرسالة الإسلامية نرى أنّ المستوى هو مستوى الطفرة بين الأرض والسماء، لا مستوى الحركات الإصلاحيّة التي توجد في المجتمعات العالمية، وهي مستوى الخطوة إلى الأمام، أيّ حركة إصلاحية تنبع من الأرض وتنبع من عبقرية الإنسان بما هو إنسان، هي تزحف بالمجتمع خطوةً إلى الأمام لا أكثر، فالمجتمع كان قد وصل إلى الخطوة السابقة، هذه الحركة الإصلاحية التي تبع من الأرض تتقدّم به خطوة واحدة أو خطوتين أو ثلاث خطوات في خطّ التقدّم، وحينئذٍ من الممكن في زمن قصير أن تستأصل رواسب الخطوة السابقة بعد الدخول في الخطوة الثانية؛ لأنّ الفرق الكيفي بين الخطوة السابقة والتالية فرق قليل، فرق ضئيل، التشابه بين الخطوة السابقة والتالية تشابه كبيرٌ جدّاً. هذا التشابه الكبير وذاك التفاوت اليسير يعطي في المقام إمكانية التحويل، إمكانية اجتثاث تلك الأصول الموروثة من الخطوة السابقة.

ولكن ماذا ترون وماذا تقدّرون لو أنّ شخصاً جاء إلى شخصٍ آخر فقام به إلى السماء ؟ في لحظةٍ من اللحظات جاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مجتمعٍ متأخّرٍ يعيش الفكرة القبلية بأشدّ ألوانها وبأحطّ معارفها ونتائجها وأخسّ مفاهيمها وأفكارها، جاء فألقى فيها فكرة المجتمع العالي، الذي لا فرق فيه بين قبيلةٍ وقبيلة، وبين شعبٍ وشعب، بين اُمّةٍ وأمّة، وقال بأنّ: الناس سواسية كأسنان المشط(١) ، وأنّ هؤلاء الناس يجب أن يشكّلوا اُمّةً واحدة، ومجتمعاً واحداً، ودولةً واحدة، تضمّ العالم كلّه.

___________________

(١) بح ار الأنوار ٢٢: ٣٤٨، تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الباب ١٠، باب فضائل سلمان وأبي ذر و...، الحديث ٦٤، عن الاختصاص: ٢٢٢.

٧٨

هذه الطفرة الهائلة بكلّ ما تضمّ من تحوّلٍ فكريٍّ وانقلابٍ اجتماعيٍّ وتغيّرٍ في المشاعر والمفاهيم والانفعالات، هذه الطفرة لم تكن شيئاً عادياً في حياة الإنسان، إذن فكيف يمكن أن نتصوّر أنّ هذا المجتمع الذي طفر بهذه الطفرة، مهما كان هذا المجتمع ذكياً، ومهما كان صبوراً على الكفاح، ومهما كان قوياً مؤمناً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ كيف يمكن أن نتصوّر في الحالات الاعتيادية أنّ هذا المجتمع يودّع تمام ما كان عنده من أفكارٍ ومشاعرَ ومن انفعالات، ويقلّب صفحةً جديدةً كاملةً دون أيٍّ التفاتٍ لموروثات الجاهلية ( العهد السابق ) ؟

هذا أمر غير ممكنٍ لا في فترة عشرة سنوات، بل في فترةٍ أطول من عشر سنوات، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعش كمجتمعٍ ودولةٍ، كمربٍّ تربيةً كاملةً في المدينة إلاّ عشر سنوات فقط، كيف وأنّ جزءاً كبيراً من المجتمع الإسلامي الذي دخل الأحداث بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً هو مجتمع مكّة الذي كان قد دخل في حظيرة الدولة الإسلامية وقتئذٍ ؟ ومكّة لم تكن قد دخلت في الإسلام إلاّ قبل سنتين من وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف يمكن أن نتصوّر في خلال هذه الأزمنة القصيرة ومع تلك الطفرة الهائلة الكبيرة اجتثاث تلك الأصول ؟ إذن فالأصول كان من المنطقي والطبيعي أن تبقى. وكان من المنطقي والطبيعي أن لا يجتثّ إلاّ في خلال أمد طويل، وخلال عمليةٍ طويلةٍ مع خلفاء الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الرسول.

إلاّ أنّ هذه العملية قطعت بالانحراف بتحوّل خطّ الخلافة من علي (عليه‌السلام ) إلى الخلفاء الذين تولّوا الأمر بعد رسول الهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن فهذا لا يعطي نقطة استغراب، أو نقطة ضعفٍ بالنسبة إلى عمل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ينسجم مع عظمة الرسالة أو مع جلالها ومع

٧٩

تخطيط النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذاً فهذه هي الأُمّة. إنّها تحمل طاقةً حراريةً، ولكنّها اُمّة غير واعية، إذا كانت هي اُمّة تحمل طاقةً حراريةً ولكنّها اُمّة غير واعية، إذن فهي غير قادرةٍ على حماية التجربة الإسلامية وعلى وضع حدٍّ لانحراف الحاكم الذي تولّى الحكم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ بالصيغة الأصولية التي قلناها أنّ الأُمّة بوصفها المجموعي ليست معصومةً ما دامت هي تحمل طاقةً حراريةً فقط، ولا تحمل وعياً مستنيراً يجتثّ الأصول الجاهلية، إذن فهي بوصفها المجموعي ليست معصومة، وإذا لم تكن معصومةً بوصفها المجموعي إذن فلا تقف في وجه هذا الانحراف؛ ولا يمكن أن تكون ضماناً لهذا الانحراف. يبقى الحاكم الذي قلنا: إنّه بنفسه - حتّى لو أخذنا الحاكم بغير المفهوم الشيعي - مع هذا تبقى طبيعة الأشياء وطبيعة الأحداث تبرز أن يكون هذا الحاكم عرضةً للانحراف وعرضةً لتحطيم التجربة الإسلامية، وبالتالي تحطيم جميع الأصول الموضوعيّة والإطار العامّ لهذه التجربة الشريفة المباركة، فإنّ الحاكم أوّلاً هو جزء من هذه الأُمّة - جزء عادي - التي قلنا بأنّها لم تكن تحمل وعياً مستنيراً، بل كانت تحمل طاقةً حرارية.

الحاكم جزءٌ من هذه الأُمّة:

ولنفرض أنّ هذا الحاكم لم يكن شخصاً متميّزاً من هذه الأُمّة بانحرافٍ خاصٍّ أو بتخطيطٍ سابق على الاستيلاء على الحكم، أو بتصميمٍ على قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في سبيل الاستيلاء على الحكم، فلنفرض أنّ كلّ هذا لم يكن، وإنّما هو جزء عادي من هذه الأُمّة التي كانت تحمل طاقةً حراريةً على أحسن تقدير، ولم تكن تحمل وعياً مستنيراً، إذن فمعنى كونه جزءاً من هذه الأُمّة يعني: أنّ

٨٠