بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) 27%

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مؤلف:
الناشر: فاروس
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 207

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103742 / تحميل: 10652
الحجم الحجم الحجم
بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

مؤلف:
الناشر: فاروس
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وكلّ أهلٍ له قُربى ومنزلةٌ

عند الإله على الأَدنين مقتربُ

أبدَتْ رجالٌ لنا نجوى صدورهم

لمّا مضيت وحالت دونك التربُ

تجهَّمتنا رجالٌ واستُخفَّ بنا

لمّا فُقِدتَ وكلُّ الأرض مغتصبُ

وكنتَ نوراً وبدراً يُستضاء به

عليك تُنزل من ذي العزّة الكتبُ

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا

فقد فُقِدتَ وكلّ الخير محتجبُ

فليت قبلك كان الموت صَادفنا

لمّا مضيت وحالت دونك الكثبُ

إنّا رزئنا بما لم يُرْزَ ذو شجنٍ

من البريّة لا عُجمٌ ولا عربُ(١)

وفي الدّر النظيم، قال: ووصلت ذلك بأن قالت:

قد كنت ذا حمية ما عشت لي

أعشى البراح وأنت كنت جناحي

فاليوم أخضع للذليل وأتّقي

منه وأدفع ظالمي بالراحِ

وإذا بكت قمريّةٌ شجناً لها

ليلاً على غصنٍ بكيت صباحي

وروى الشيخ بسنده، عن زينب بنت علي بن أبي طالبعليهما‌السلام ، قالت: لما اجتمع رأي أبي بكر على منع فاطمةعليها‌السلام فدك والعوالي، وأيست عن إجابته لها؛ عدلت إلى قبر أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فألقت نفسها عليه وشكت إليه ما فعله القوم بها، وبكت حتّى بلّت تربتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدموعها وندبته، ثم قالت في آخر ندبها: قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثةٌ، الأبيات(٢) .

وفي رواية الاحتجاج، ثم انكفأتعليها‌السلام وأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يتوقّع رجوعها إليه ويتطلّع طلوعها عليه، فلمّا استقرت بها الدّار قالت لأمير المؤمنينعليه‌السلام : يا ابن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حُجرة الظنين(٣) نقضت قادمة الأجدل(٤) ، فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي

____________________

(١) الاحتجاج: ج١ ص١٤٥.

(٢) الأمالي للشيخ المفيد ( ره ): ص٤٠ ط الغفاري.

(٣) قال العلاّمة المجلسي ( ره ): والمعنى: اختفيت عن الناس كالجنين، وقعدت عن طلب الحق، ونزلت منزلة الخائف المتّهم.

(٤) الأجدل: الصقر. والأعزل من الطير: ما لا يقدر على الطيران.

١٦١

قحافة يبتزّني نِحْلة أبي وبلغة ابنيّ، لقد أجهر [ أجهد خ ] في خصامي وألفيته ألدّ في كلامي، حتّى حبستني قيلة(١) نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضّت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولا مانع.

خرجتُ كاظمة، وعدتُ راغمة، أضرعتَ(٢) خدك يوم أضعت حدّك [ يوم اغصب حقك خ ]، افترست الذئاب وافترشتَ التراب، ما كففت قائلاً ولا أغنيت باطلاً [ طائلاً - خ ل ] ولا خيار لي، ليتني متّ قبل هنيئتي ودون ذلتي، عذيري الله منك عادياً(٣) ومنك حامياً، ويلاي في كل شارق، ويلاي في كل غارب، مات العَمَدُ ووهت العضد، شكواي إلى أبي وعدواي إلى ربّي، اللّهمّ أنت أشدّ قوّةً وحولاً، وأشدّ بأساً وتكيلاً.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : لا ويل عليك بل الويل لشانئك، نهنهي عن وجدك(٤)، يا ابنة الصفوة وبقية ّالنبوّة، فما ونيت عن ديني ولا أخطأت مقدوري، فإن كنت تريدين البلغة، فرزقك مضمون وكفيلك مأمون، وما أُعِدَّ لَكِ أفضل ممّا قُطع عنك، فاحتسبي الله، فقالت: حسبي الله، وأمسكت(٥) .

____________________

(١) قيلة نصرها: اسم قبيلة، للأنصار ينسبون إلى أُمّهم قيلة.

(٢) ضرع: خضع وذل.

(٣) العذير: بمعنى أي والله قابل عذري عادياً ومتجاوزاً.

(٤) نهنهي عن وجدك: أي كفّي عن حزنك.

(٥) الاحتجاج: ج١ ص١٤٥ - ١٤٤. ولا بأس بالإشارة هنا إلى ما ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ١٦ / ٢٨٤، قال: وسألت علي ابن الفارقي مدرّس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم. قلت: فلمـَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسّم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليومَ فدك بمجرّد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء؛ لأنّه يكون قد سجّل على نفسه أنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنةٍ ولا شهود.

١٦٢

فصل

كلام أبي بكر للناس بعد مقولة فاطمةعليها‌السلام

روى ابن أبي الحديد في سياق أخبار فدك، عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري، أنّ أبا بكر لما سمع خطبة فاطمةعليها‌السلام في فدك، شقّ عليه مقالتها فصعد المنبر فقال:

أيّها الناس، ما هذه الرِعة إلى كل قالة: أين كانت هذه الأمانيّ في عهد رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ألا مَن سمع فليقل ومَن شهد فليتكلَّم، إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه، مُرِبٌّ لكلّ فتنة، هو الذي يقول كرّوها جذعة بعدما هرمت تستعينون بالضعفة وتستنصرون بالنساء، كأمّ طحال أحبّ أهلها إليها البغي، ألا إنّي لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لبُحت إنّي ساكت ما تركت، ثمّ التفت إلى الأنصار، فقال:

قد بلغني يا معاشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق مَن لزم عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا وإنّي لست باسطاً يداً ولساناً على مَن لم يستحق ذلك منّا، ثم نزل، فانصرفت فاطمةعليها‌السلام إلى منزلها.

ثم قال ابن أبي الحديد: قرأت هذا الكلام على النقيب يحيى ابن أبي

١٦٣

زيد البصري فقلت له: بمَن يعرِّض؟ فقال: بل يصرّح، قلت: لو صرّح لم أسأل، فضحك وقال: بعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قلت: أهذا الكلام كلّه لعليّعليه‌السلام يقوله؟ قال: نعم إنّه الملك يا بنيّ، قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذكر عليعليه‌السلام ، فخاف من اضطراب الأمر عليه فنهاهم. فسألته عن غريبه؟ فقال: أمّا الرِّعة بالتخفيف، أي الاستماع والإصغاء، والقالة: القول، وثعالة: اسم للثعلب علم غير مصروف مثل ذؤالة للذئب، وشهيده ذنبه: أي لا شاهد له على ما يدعي إلاّ بعضه وجزء منه، وأصله مَثَلٌ قالوا: إنّ الثعلب أراد أن يغري الأسد بالذئب فقال: إنّه أكل الشاة التي كنت أعددتها لنفسك وكنتُ حاضراً، قال: فمَن يشهد بذلك؟ فرفع ذنبه وعليه دم، وكان الأسد قد افتقد الشاة فقبل شهادته وقتل الذئب. ومَرَبّ: ملازم أرِبَّ بالمكان، وكرّوها جَذَعة: أعيدوها إلى الحال الأُولى يعني الفتنة والهرج، وأُمّ طحال: امرأة بغيّ في الجاهلية ويضرب بها المثل، يقال: أََزنى من أُمّ طحال، انتهى(١).

أقول: وفي كتاب الدّر النظيم لجمال الدين يوسف بن حاتم الفقيه الشامي، تلميذ المحقق الحلّي، أنّه قال: قالت أُمّ سلمة حيث سمعت ما جرى لفاطمةعليها‌السلام : ألمِثل فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُقال هذا القول؟ هي والله الحوراء بين الإنس، والنفس للنفس، رُبّيت في حجور الأتقياء، وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطّاهرات، ونشأت خير نشاءِ، وربيت خير مربّى.

أتزعمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم عليها ميراثه ولم يُعْلمها؟!!! وقد قال الله تعالى:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٢) ، أفأنذرها وخالفت متطلّبه؟

____________________

(١) شرح النهج: ج١٦ ص٢١٤ - ٢١٥.

(٢) الشعراء: ٢١٤.

١٦٤

وهي خيرة النسوان، وأُمّ سادة الشبّان، وعديلة ابنة عمران، تمّت بأبيها رسالات ربّه، فو الله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر، ويوسّدها بيمينه، ويلحفها بشماله، رويداً، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمرأى منكم، وعلى الله تَرِدون، واهاً لكم فسوف تعلمون؛ فحُرِمت أم سلمة عطاءَها في تلك السنة، انتهى.

وروى ابن أبي الحديد أيضاً، عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: قالت فاطمةعليها‌السلام لأبي بكر: إنّ أُمّ أيمن تشهد لي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاني فدك، فقال لها: يا ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله ما خَلَقَ الله خلقاً أحبّ إليّ من رسول الله أبيك، ولوددت أنّ السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك!!! والله لئن تفتقر عائشة أحبّ إليّ من أن تفتقري!! أتراني أعطي الأسود والأحمر والأبيض حقّه وأظلمك حقّك!! وأنت بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ هذا المال لم يكن للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما كان مالاً من أموال المسلمين، يحمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به الرجال، وينفقه في سبيل الله، فلمّا تُوفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليته كما كان يليه.

قالت: والله لا كلّمتك أبداً، قال: والله لا هجرتك أبداً، قالت: والله لأدعونّ الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك، فلمّا حضرتها الوفاة، أوصت أن لا يصلّيَ عليها، فدُفنت ليلاً وصلّى عليها العباس بن عبد المطلب، وكان بين وفاتها ووفاة أبيها اثنتان وسبعون ليلة(١) .

نقل كلام للجاحظ

أقول: قال أبو عثمان الجاحظ على ما حكى عنه علم الهدى المرتضى (رضي الله عنه) وقد زعم ناس أنّ الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر وعمر في منع الميراث، وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النكير عليهما، ثم قال: فيقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلاً على صدقهما، ليكونن

____________________

(١) شرح النهج: ج١٦ ص٢١٤.

١٦٥

ترك النكير على المتظلّمين منهما والمحتجّين عليهما والمطالبين لهما [ بدليل ]، دليلاً على صدق دعواهم واستحسان مقالتهم، لا سيّما وقد طالت المشاحات [ المحاجات خ م ] وكثرت المراجعة والملاحاة، وظهرت الشكيّة واشتدّت المـَوْجدة، وقد بلغ ذلك من فاطمةعليها‌السلام ، حتّى أوصت أن لا يصلّي عليها أبو بكر.

ولقد كانت قالت له، حين أتته طالبة بحقّها ومحتجّة برهطها: مَن يرثك يا أبا بكر إذا متّ؟ قال: أهلي وولدي، قالت فما بالنا لا نرث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا منعها ميراثها، وبخسها حقّها، واعتلّ عليها وجَلَجَ(١) في أمرها، وعاينت التهضّم، وأيست من النزوع، ووجدت مسّ الضعف وقلّة الناصر، قالت: والله لأدعونّ الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك. قالت: والله لا أكلمّك أبداً، قال: والله لا أهجرك أبداً، فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منه، كان في ترك النكير على فاطمةعليها‌السلام دليلاً على صواب طلبها، وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك، تعريفها ما جهلت، وتذكيرها ما نسيت، وصرفها عن الخطأ ورفع قدرها عن البذاء، وأن تقول هُجراً، أو تجوّز عادلاً أو تقطع واصلاً، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعاً، فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم، وأوجب علينا وعليكم.

ثم قال: فإن قالوا كيف تظن به ظلمها والتعدّي عليها، وكلما ازدادت فاطمةعليها‌السلام عليه غلظة ازداد لها ليناً ورقّة، حيث تقول: والله لا أكلّمك أبداً، فيقول: والله لا أهجرك أبداً، ثم تقول: والله لأدعون عليك، فيقول: والله لأدعون الله لك.

ثم يحتمل هذا الكلام الغيظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصّحابة، مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه، وما يجب لها من

____________________

(١) جَلَج: جاهز.

١٦٦

الرفعة والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذراً ومتقرّباً، كلام المعظِّم لحقّها، المكبر لمقامها، والصاين لوجهها، والمتحنّن عليها: ما أحد أعزّ عليّ منك فقراً، ولا أحب إليّ منك غناً، ولكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة.

قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم، والسلامة من الجور ( العمد خ م ) وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً، وللخصومة معتاداً، أن يُظهر كلام المظلوم وذلّة المنتصف وجدة [ وحَدَب ] الوامق المحق، انتهى(١) .

روي أنّ الطبري والثقفي قالا في تاريخيهما: جاءت عائشة إلى عثمان فقالت: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر، قال: لا أجد له موضعاً في الكتاب ولا في السنّة، ولكن كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما وأنا لا أفعل، قالت: فأعطني ميراثي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: أولم تجئ فاطمة تطلب ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشهدت أنت ومالك بن أوس البصري: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورِّث، وأبطلت حقّ فاطمةعليها‌السلام ، وجئت تطلبينه؟ لا أفعل.

وزاد الطبري، وكان عثمان متكئاً فاستوى جالساً، وقال: ستعلم فاطمة أيّ ابن عمّ لها منّي اليوم، ألستِ وأعرابي يتوضأ ببوله، شهدتِ عن أبيك(٢) .

____________________

(١) الشافي: ج١ ص٢٣٣ ط الحجري.

(٢) البحار: ج٨ ط ق ص٣٢٠.

١٦٧

فصل

إقامة الشهود لطلب حقّهاعليها‌السلام

عن الاختصاص، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: لما قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجلس أبو بكر مجلسه، بعث أبو بكر إلى وكيل فاطمةعليها‌السلام فأخرجه من فدك، فأتته فاطمةعليها‌السلام فقالت: يا أبا بكر، ادّعيت أنّك خليفة أبي وجلست مجلسه، وأنت بعثت إلى وكيلي فأخرجته من فدك، وقد تعلم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدّق بها عليّ وأنّ لي بذلك شهوداً، فقال: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يورّث.

فرجعت إلى عليعليه‌السلام فأخبرته فقال: ارجعي إليه وقولي له: زعمت أنّ النبيّ لا يورّث، وورث سليمان داود، وورث يحيى زكريا، وكيف لا أرث أنا أبي؟ فقال عمر: أنتِ معلَّمة، قالت: وإن كنت معلّمة فإنّما علّمني ابن عمّي وبعلي، فقال أبو بكر: فإنّ عائشة تشهد وعمر أنّهما سمعا!!! رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول: النبيّ لا يورّث فقالت: هذه أوّل شهادة زور شهدا بها في الإسلام.

ثم قالت: فإنّ فدك إنّما هي صدق بها عليَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولي بذلك بيِّنة، فقال لها؛ هلمي بيِّنتك.

قال: فجاءت بأُمّ أيمن وعليعليه‌السلام ، فقال أبو بكر: يا أُمّ أيمن، إنّك

١٦٨

سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لفاطمة؟ فقالا: سمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، ثم قالت أُمّ أيمن: فمَن كانت سيدة نساء أهل الجنة تدّعي ما ليس لها؟ وأنا امرأة من أهل الجنّة ما كنت لأشهد بما لم أكن سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عمر: دعينا يا أُمّ أيمن [ من ] هذه القصص، بأي شيء تشهدين؟

فقالت: كنت جالسة في بيت فاطمةعليها‌السلام ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس حتّى نزل جبرئيل فقال: يا محمّد قم، فإن الله تبارك وتعالى أمرني أن أخطّ لك فدكاً بجناحي، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جبرئيل فما لبث أن رجع، فقالت فاطمةعليها‌السلام : يا أبة أين ذهبت؟ فقال: خط جبرئيلعليه‌السلام لي فدكاً بجناحه وحدّ لي حدودها. فقالت: يا أبة إنّي أخاف العيلة والحاجة من بعدك، فصدّق بها عليّ، فقال: هي صدقة عليك، فقبضتها.

قالت: نعم، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم أيمن، اشهدي، ويا علي اشهد، فقال عمر: أنتِ امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها، وأمّا علي فيجرّ إلى نفسه، قال: فقامت مغضبة، وقالت: إنّهما ظلما ابنة نبيّك حقّها، فاشدد وطأتك عليهما، ثم خرجت، وحملها عليعليه‌السلام على أتان عليه كساء له خمل(١) ، فدار بها أربعين صباحاً في بيوت المهاجرين والأنصار: انصروا الله وابنة نبيكم، إلى أن قال:

فقال عليعليه‌السلام لها: ايتي أبا بكر وحده، فإنّه أرقّ من الآخر وقولي له: ادّعيت مجلس أبي، وأنّك خليفته، وجلستَ مجلسه، ولو كانت فدك لك ثم استوهبتها منك لوجب ردّها عليّ، فلمّا أتته وقالت له ذلك، قال: صدقت، قال فدعا بكتاب فكتبه لها بردّ فدك، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: يا بنت محمّد ما هذا الكتاب الذي معك؟

____________________

(١) الخمل بالتحريك: هدب القطيفة ونحوها.

١٦٩

فقالت: كتاب كتب لي أبو بكر بردّ فدك، فقال: هلمّيه إليّ، فأبت أن تدفعه إليه، فرفسها برجله فكانت حاملة بابن اسمه المحسّن، فأسقطت المحسنعليه‌السلام من بطنها، ثم لطمها فكأنّي أنظر إلى قرط في أذنها حين نُقف [ نقفت ](١) ، ثم أخذ الكتاب فخرقه، فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوماً مريضة ممّا ضربها عمر، ثم قُبضت.

فلمّا حضرتها الوفاة، دعت عليّاً (صلوات الله عليه)، فقالت: إمّا تضمن وإلاّ أوصيت إلى ابن الزبير، فقال عليعليه‌السلام : أنا أضمن وصيّتك يا بنت محمّد، فقالت: سألتك بحقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا أنا مت، أن لا يشهداني، ولا يصلّيا عليّ، قال: فلك ذلك، فلمّا قبضت (صلوات الله عليها) دفنها ليلاً في بيتها، الخ(٢) .

أقول: هذا الخبر ليس عندي في درجة اعتبار سائر الأخبار المذكورة، إلاّ أنّه لما كان العلاّمة المجلسي (رحمه الله) نقله في البحار، أحببت أن لا أخلي كتابي منه فاقتديت به ونقلته منه، وقولها (صلوات الله عليها): وإلاّ أوصيت إلى ابن الزبير، أظنّ أن لفظة ابن زيد من النساخ، وكان الأصل أوصيت إلى الزّبير، هذا إذ صدق الظنّ، وأما إذ كان لفظ ابن صحيحاً، فالمراد به عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب أحد التسعة الهاشميين الذي ثبتوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين، وفرّ جميع أصحابه ولم يبق منهم سوى هولاء، وأيمن بن أُمّ أيمن وكان عاشرهم، فقتل أيمن، وبقي هؤلاء التسعة، حتى تاب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كان انهزم، وكان (رحمه الله) شجاعاً جريئاً، قتل يوم أجنادين في خلافة أبي بكر.

وأمّا عبد الله بن الزبير بن العوام، فليس المراد به قطعاً؛ لأنّه كان طفلاً صغيراً غير قابل للإشارة والتوجّه إليه، فضلاً عن أن توصي فاطمة (صلوات الله

____________________

(١) قوله حين نقف: على بناء المجهول أي كسر من لطم اللعين. البحار.

(٢) الاختصاص: ص١٧٩ - ١٨٠.

١٧٠

عليها إليه، فإنه كانت ولادته في السنة الأولى من الهجرة، وقيل في السنة الثانية في شوال كما قال ابن الأثير، مع أنه كان منحرفاً عن أهل البيتعليهم‌السلام ، قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشوم(١) ، والله العالم.

____________________

(١) بهجة الآمال في شرح زبدة المقال: ج٥ ص٢٢٧.

١٧١

فصل

بعث زينب بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بفداءٍ لأبي العاص زوجها

رُوي عن أرباب السِيَر ونقلة الآثار، أنّه لما سارت قريش إلى بدر، سار أبو العاص ابن أخت خديجة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم، فأُصيب في الأسرى يوم بدر، فأُتي به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان عنده مع الأُسارى، فلمّا بعث أهل مكّة في فداء أُساراهم، بعثت زينب في فداء أبي العاص - بعلها - بمال، وكان فيما بعثت به قلادة كانت لخديجة أُمّها (رضي الله عنها)، أدخلتها بها على أبي العاص ليلة زفافها عليه، فلمّا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقّ لها رقّةً شديدة وقال للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا أسيرها وتردّوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله، نفديك بأنفسنا وأموالنا، فردّوا عليها ما بعثت به وأطلقوا لها أبا العاص بغير فداء(١) .

قال ابن أبي الحديد: قرأت على النقيب أبي جعفر يحيى ابن أبي زيد البصري العلوي هذا الخبر فقال: أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد؟!! أما كان يقتضي التكرّم والإحسان أن يطيّب قلب فاطمةعليها‌السلام بفدك ويستوهب لها من المسلمين؟ أتقصر منزلتها عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من

____________________

(١) بحار الأنوار: ج١٩ ص٣٤٩.

١٧٢

منزلة زينب أُختها؟!! وهي سيّدة نساء العالمين!!! هذا إذا لم يثبت لها حقّ لا بالنِحْلة ولا بالإرث، فقلت له: فدك بموجب الخبر الّذي رواه أبو بكر، قد صار حقّاً من حقوق المسلمين فلم يجز له أن يأخذه منهم، فقال: وفداء أبي العاص قد صار حقاً من حقوق المسلمين وقد أخذه رسول الله منهم، فقلت: رسول الله صاحب الشّريعة، والحكم حكمه، وليس أبو بكر كذلك.

فقال: ما قلت: هلاّ أخذه أبو بكر من المسلمين قهراً فدفعه إلى فاطمةعليها‌السلام وإنّما قلت هلاّ استنزل المسلمين عنه واستوهب منهم لها كما استوهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فداء أبي العاص، أتراه لو قال: هذه بنت نبيّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حضرت تطلب هذه النخلات، أفتطيبون عنها نفساً، كانوا منعوه ذلك؟ فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو ذلك، قال: إنّهما لم يأتيا بحسن في شرع التكرّم، وإن كان ما أتياه حسناً في الدّين. انتهى(١) .

ولنعم ما قال السيد الخدوعي ولله درّه:

وأتت فاطمٌ تطالب بالإرث

من المصطفى فما ورّثاها

ليت شعري لِم خالفا سنن

القرآن فيها والله قد أبداها

نُسخت آية المودّة منها

أم هما بعد فرضها بدّلاها

أم ترى آية المودّة لم

تأتِ بودّ الزهراء في قرباها

ثم قالا أبوك جاء بهذا

حجّة من عنادهم نصباها

قال للأنبياء حكم بأن لا

يُورِثُوا في القديم وانتهراها

أفبنتُ النبيّ لم تدر إن كا

ن نبَيّ الهدى بذلك فاها

بضعة من محمّدٍ خالفت ما

قال حاشا مولاتنا حاشاها

سمعته يقول ذاك وجاءت

تطلب الإرث ضلةً وسفاها؟!

هي كانت لله أتقى وكانت

أفضل الخلق عفّةً ونزاها

____________________

(١) شرح النهج: ج١٤ ص١٩٠ - ١٩١ بحار الأنوار: ج١٩ ص٣٤٩.

١٧٣

سَلْ بإبطال قولهم سورةَ النمل

وسَلْ مريمَ التي قبل طه

فهما ينبآن عن إرث يحيى

وسليمان مَن أراد انتباها

فدعت واشتكت إلى الله من ذا

ك وفاضت بدمعها مقلتاها

ثم قالت فنِحْلة ليَ من

والدي المصطفى ولم ينحلاها

فأقامت بها شهوِداً فقالوا

بعلها شاهدٌ لها وابناها

لم يجيزوا شهادة ابنَي رسول

الله هادي الأنام إذ ناصباها

لم يكن صادقاً عليّ ولا فا

طمة عندهم ولا ولداها

أهل بيتٍ لم يعرفوا سنن الجور

التباساً عليهمُ واشتباها

كان أتقى لله منهم عتيق

قبح القائل المحال وشاها

جرّعاها من بعد والدها

الغيظَ مراراً فبئس ما جرّعاها

ليت شعري ما كان ضرّهما

حفظاً لعهد النبيّ لو حفظاها

كان إكرام خاتم الرسل الها

دي البشير النذير لو أكراماها

ولكان الجميل أن يعطياها

فدكاً لا الجميل أن يقطعاها

أترى المسلمين كانوا يلومو

نهما في العطاء لو أعطياها؟!

بنت مَن أُمُّ مَن حليلة مَن

ويلٌ لمـَن سنّ ظلمها وأذاها

١٧٤

الباب الرابع

في كثرة حزنها وبكائها على أبيها ( صلّى الله عليه وعليها )

وبدءِ مرضها، ومدّة مكثها في الدنيا بعد أبيها،

وإخفاء أمير المؤمنينعليه‌السلام قبرها بوصيّةٍ منهاعليها‌السلام

١٧٥

١٧٦

فصل

لما قُبضَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، افتجع له الصغير والكبير، والرجال والنساء، وكثر عليه العويل والبكاء، فصارت المدينة ضجّة واحدة تذري الدموع عليه بالأسجام(١) ، ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلّوا بالإحرام، فلم يكن إلاّ باكٍ وباكية، ونادبٍ ونادبة، وعظم رزؤه على أهل بيته الطيّبين، سيّما عليّ ابن عمّه وأخيه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فنزل به من وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يكن يظنّ الجبال لو حملته كانت تنهض به، وكان أهل بيته ما بين جازعٍ لا يملك جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به؛ قد اذهب الجزع صبره، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والاستماع.

وساير الناس - من غير بني عبد المطلب - بين معزٍّ يأمر بالصبر، وبين مساعدٍ باكٍ لبكائهم، جازعٍ لجزعهم، ولم يكن بين الجميع أشدّ حزناً من مولاتنا فاطمة الزّهراء (صلوات الله عليها)، فقد دخل عليها من الحزن ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ، وكان حزنها يتجدّد وبكاؤها يشتد، فلا يهدأ لها أنين، ولا يسكن منها الحنين، وكلّ يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأوّل.

____________________

(١) سجم: أي سال.

١٧٧

قال الراوي: فجلسَتْ سبعة أيام، فلمّا كان اليوم الثامن، خرجت لزيارة قبر أبيها، فأقبلت نادبةً وهي تتعثّر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها ومن تواتر دمعتها، حتّى دنت من القبر الشريف فأُغمي عليها، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها حتّى أفاقت، فلمّا أفاقت من غشيتها؛ قالت: رفعت قوَّتي، وخانني جلدي، وشمت بي عدوّي، والكمد قاتلي، يا أبتاه، بقيت والهةً وحيدة، وحيرانةً فريدة، فقد انخمد صوتي وانقطع ظهري، وتنغّص عيشي وتكدَّر دهري، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيساً لوحشتي، ولا رادّاً لدمعتي، ثم نادت: يا أبتاه:

إنّ حزني عليكَ حزنٌ جديد

وفؤادي والله صبٌّ عنيدُ

كلّ يومٍ يزيد فيه شجوني

واكتئابي عليك ليس يبيدُ

يا أبتاه مَن للأرامل والمساكين، ومَن للأمة إلى يوم الدين، يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفين، يا أبتاه أصبحت الناس عنّا معرضين، فأيّ دمعة لفراقك لا تنهمل، وأيّ حزن بعدك لا يتّصل، وأيّ جفنٍ بعدك بالنوم يكتحل، رميت يا أبتاه بالخطب الجليل، ولم تكن الرزيّة بالقليل، فمنبرك بعدك مستوحش، ومحرابك خالٍ من مناجاتك، وقبرك فرح بمواراتك، فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عليك. ثمّ زفرت زفرة وأنّت أنّة كادت روحها أن تخرج، ثم قالت:

قلّ صبري وبان عنّي عزائي

بعد فقدي لخاتمِ الأنبياءِ

عين يا عين اسكبي الدمع سحّاً(١)

وَيْكِ لا تبخلي بفيض الدماءِ

يا رسول الإله يا خيرة الله

وكهف الأيتام والضعفاءِ

لو ترى المنبر الذي كنت تعلو

ه علاه الظلام بعد الضياءِ

____________________

(١) السّح: الصب الكثير.

١٧٨

يا إلهي عجّل وفاتي سريعاً

قد تنغّصت الحياة يا مولائي

قال الراوي: ثم رجعت إلى منزلها وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها، وهي لا ترقأ دمعتها ولا تهدأ زفرتها، فاجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فقالوا له: يا أبا الحسن، إنّ فاطمة تبكي اللّيل والنهار، فلا أحد منّا يتهنّأ بالنوم في الليل على فراشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا، وطلب معايشنا، وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً أو نهاراً، فقالعليه‌السلام : حبّاً وكرامة.

فأقبل أمير المؤمنينعليه‌السلام حتّى دخل على فاطمة (صلوات الله عليها) وهي لا تفيق من البكاء، ولا ينفع فيها العزاء، فلمّا رأته سكتت هنيئة له، فقال لها: يا بنت رسول الله، إنّ شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إمّا تبكين أباك ليلاً وإمّا نهاراً، فقالت يا أبا الحسن:

ما أقلَّ مكثي بينهم، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فو الله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً، أو ألحق بأبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال لها عليعليه‌السلام : افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك، ثم إنّهعليه‌السلام بنى لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يُسمّى (بيت الأحزان ) وكانتعليها‌السلام إذا أصبحت قدّمت الحسن والحسينعليهما‌السلام أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية، فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء اللّيل، أقبل أمير المؤمنينعليه‌السلام إليها وساقها بين يديه إلى منزلها(١) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ج٤٣ ص ١٧٥ - ١٧٨. وقد ورد في الروايات عن شدّة بكائهاعليها‌السلام على أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فراجع الباب ٨٧ من أبواب الدفن من كتاب الطهارة من وسائل الشيعة، كما أنّ ابن جبير ( أوائل القرن السابع ) ذكر بيت الأحزان هذا في رحلته فقال:

ويلي القبّة العباسية بيت فاطمة الزهراء بنت رسول الله ويُعرف ببيت الأحزان، ويقال إنّه هو البيت الذي أوت والتزمت فيه منذ وفاة أبيها إلى أن لحقت به.

ويقول الإمام شرف الدين في النص والاجتهاد: ص٣٠٢: وكنّا سنة ١٣٣٩ تشرّفنا بزيارة هذا البيت.

١٧٩

فصل

أشعارها عند قبر أبيها ( صلّى الله عليه وآله )

رُوي أنّه لما قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونال فاطمةعليها‌السلام ، من القوم ما نالها، لزمت الفراش، ونحل جسمها، وذاب لحمها، وجفّ جلدها على عظمها وصارت كالخيال(١).

ورُوي أيضاً أنها (صلّى الله عليها) ما زالت بعد أبيها معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدَّة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرّة بعد مرّة، أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقةً عليكما؟ فلا يدعكما تمشيان على الأرض، ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً، ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما(٢) .

فكانت (سلام الله عليها) كما أخبر أبوها عن يومها ذلك محزونة مكروبة باكية، تتذكّر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة، وتتذكّر فراق والدها أُخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل لفقد صوته الذي كانت تستمع إليه إذا تهجّد

____________________

(١) والخيال: ما تشبّه لك في اليقظة والحلم من صورة، وكساء أسود يُنصب على عودٍ يخيّلُ به للبهائم.

(٢) المناقب: ج٣ ص٣٦٢.

١٨٠

فصمد الحجاز في ثورته أو في تنكره لبني اُميّة إلى أيّام عبد الملك بن مروان، وكان أخرج الفريقين من سبق إلى أحرج العملين. وأحرج العملين ذاك الذي دفع إليه - أو اندفع إليه - الحجاج عامل عبد الملك فنصب المنجنيق على جبال مكّة، ورمى الكعبة بالحجارة والنيران فهدمها، وعفى على ما تركه منها جنود يزيد بن معاوية، فقد كان قائده الذي خلّف مُسلم بن عقبة وذهب لحصار مكّة أوّل مَن نصب لها المنجنيق وتصدى لها بالهدم والإحراق.

وما زالت الجرائر تتلاحق حتّى تقوض من وطأتها ملك بني اُميّة، وخرج لهم السّفاح الأكبر وأعوانه في دولة بني العبّاس فعمّوا بنقمتهم الأحياء والموتى، وهدموا الدور، ونبشوا القبور، وذكر المنكوبون بالرّحمة فتكات المختار بن أبي عبيد، وتجاوز الثأر كلّ مدى خطر على بال هاشم واُميّة يوم مصرع الحُسينعليه‌السلام .

لقد كانت ضربة كربلاء، وضربة المدينة، وضربة البيت الحرام، أقوى ضربات اُميّة لتمكين سلطانهم وتثبيت بنيانهم وتغليب ملكهم على المنكرين والمنازعين فلم ينتصر عليهم المنكرون والمنازعون بشيء كما انتصروا عليهم بضربات أيديهم ولم يذهبوا بها ضاربين حقبة حتّى ذهبوا بها مضروبين إلى آخر الزمان.

وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء فإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد الأيّام، وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب إذا وضعت الأعمار المنزوعة في الكفتين

١٨١

١٨٢

نهاية المطاف

مَن الظافِر؟

غبن أن يفوت الإنسان جزاؤه الحقّ على عمله وخُلقه وأثقل منه في الغبن أن ينقلب الأمر فيُجزى المحسن بالإساءة، ويُجزى المسيء بالإحسان.

وقد تواضع النّاس منذ كانوا على معنى للتاريخ والأخلاق، ووجهة للشريعة والدين والجزاء الحقّ هو الوجهة الواحدة التي تلتقي فيها كلّ هذه المقاصد الرفيعة فإذا بطل الجزاء اُلحق ففي بطلانه الإخلال كلّ الإخلال بمعنى التاريخ والأخلاق، ولباب الشرائع والأديان، وفيه حكم على الحياة بالعبث وعلى العقل الإنساني بالتشويه والخسار.

والجزاء الحقّ غرض مقصود لذاته يحرص عليه العقل الإنساني كرامة لنفسه ويقيناً من صحته وحسن أدائه، كالنّظر الصحيح نحسبه

١٨٣

هو غرضاً للبصر يرتاح إلى تحقيقه ويحزن لفواته وإن لم يكن وراء ذلك ثواب أو عقاب؛ لأنّ النّظر الصحيح سلامة محبوبة والإخلال به داء كريه.

ولا يستهدف هذا القسطاس المستقيم لمحنة من محنه التي تزري بكرامة العقل الإنساني، كاستهدافه لها وهو في مصطدم التضحية والمنافع، أو في الصراع بين الشُهداء وأصحاب الطمع والحيلة ففي هذا المصطدم يبدو للنظرة الأولى أنّ الرجل قد أضاع كلّّ شيء وانهزم، وهو في الحقيقة غانم ضافر.

ويبدو لنا أنّه قد ربح كلّ شيء وانتصر وهو في الحقيقة خاسر مهزوم؛ ومن هُنا يدخل التاريخ ألزم مداخله وأبينها عن قيمة البحث فيه؛ لأنّه المدخل الذي يفضي إلى الجزاء الحقّ والنتيجة الحقّة، وينتهي بكلّ عامل أفلح أو أخفق في ظاهر الأمر إلى نهاية مطافه وغاية مسماه في الأمد الطويل.

وقد ظفر التاريخ في الصراع بين الحُسين بن عليّ ويزيد بن معاوية بميزان من أصدق الموازين التي تُتاح لتمحيص الجزاء الحقّ في أعمال الشُهداء وأصحاب الطمع والحيلة، فقلّما تُتاح في أخبار الاُمم شرقاً أو غرباً عبرة

١٨٤

كهذه العبرة بوضوح معالمها أو أشواطها، وفي تقابل النصر والهزيمة فيها بين الطوالع والخواتم، على اختلاف معارض النصر والهزيمة فيزيد في يوم كربلاء هو صاحب النصر المؤزّر الذي لا يشوبه خذلان، وحُسين في ذلك اليوم هو المخذول الذي لم يطمح خاذله من وراء الظفر به إلى مزيد ثمّ تنقلب الآية أيما انقلاب، ويقوم الميزان، فلا يختلف عارفان بين كفّة الرّجحان وكفّة الخسران وهذا الذي قصدنا إلى تبيينه وجلائه بتسطير هذه الفصول.

* * *

وما من عبرة أولى من هذه بالتبيين والجلاء لدارس التاريخ ودارس الحياة وطالب المعنى البعيد في أطوار هذا الوجود.

ولسنا نقول إنّ الصراع بين الحُسين ويزيد مثل جامع لكلّ ألوان الصراع بين الشّهادة والمنفعة أو بين الإيمان والمآرب الأرضية؛ فإنّ لهذا الصراع لألواناً تتعدّد ولا تتكرر على هذا المثال، وإنّ له لَعناصر لم تجتمع

١٨٥

كلّها في طرفي الخصومة بين الرّجلين، وأشواطاً لم تتخذ الطريق الذي اتخذته هذه الخصومة في البداية أو النّهاية.

ولسنا نقول إنّ الصراع بين الحُسين ويزيد مثل جامع لكلّ ألوان الصراع وتفرّدها بارزة ماثلة للتأمل والتعقيب، وهي أنّ مسألة الحُسين ويزيد قد كانت صراعاً بين خلقين خالدين، وقد كانت جولة من جولات هذين الخلقين اللذين تجاولا أحقاباً غابرات، ولا يزالان يتجاولان فيما يلي من الأحقاب، وقد أسفرا عن نتيجة فاصلة ينفرد لها مكان معروف بين سائر الجولات، وليست جولة اُخرى منهن بأحقّ منها بالتعليق والتصديق.

ووجهتنا من هذه العبرة أن يُعطى كلّ خُلق من أخلاق العاملين حقّه بمعيار لا غبن فيه، فإذا سعى أحد بالحيلة فخدع النّاس وبلغ مأربه فليكن ذلك مغنمه وكفى، ولا ينفعه ذلك في استلاب السمعة المحبوبة والعطف الخالص والثناء الرفيع وإذا خسر أحد حياته في سبيل إيمانه فلتكن تلك خسارته وكفى، ولا ينكب فوق ذلك بخسارة في السمعة والعطف والثناء.

فلو جاز هذا لكان العطف الإنساني أزيف ما عرفناه في هذه الدُنيا من الزيوف؛ لأنّ خديعة واحدة تشتريه وتستبقيه، وما من زيف في

١٨٦

العروض الاُخرى إلاّ وهو ينطلي يوماً وينكشف بقية الأيّام.

* * *

وإذا كان احتيال الإنسان لنفسه معطيه كلّ ما تهبه الدُنيا من غنم النفع والمحبّة والثناء، فقد ربح المحتالون وخسر نوع الإنسان، وإذا كانت خسارة المرء في سبيل إيمانه تجمع عليه كلّ خسارة، فالأحمق الفاشل من يطلب الخير للناس ويغفل عن نفسه في طلابه.

فكفى الواصل ما وصل إليه وكثير عليه أن يطمع عند الخلف والسلف فيما ادخرته الإنسانيّة من الثناء والعطف لِمن يكرمونها بفضيلة الشّهادة والتضحية، ويخسرون. وهذا الفيصل العادل أعدل ما يكون فيما بين الحُسين ويزيد

فإذا قيل: إنّ معاوية قد عمل وقد أفلح بالحيلة والدهاء، فيزيد لم يعمل ولم يفلح بحيلة ولا دهاء، ولكنّه ورث المنافع التي يشتري بها الأيدي والسّيوف، فجال بها جولة رابحة في كفاح الضمائر والقلوب، فينبغي ألاّ يربح بهذه الوسيلة؛ فأمّا وقد ربح فينبغي أن يقف الرّبح عند ذاك، وينبغي للعذر الكاذب والثناء المأجور ألاّ يحسبا على النّاس بحساب العذر الصادق والثناء الجميل.

وقد تزلّف إلى يزيد مَن يتزلفون إلى أصحاب المال والسُلطان ثمّ

١٨٧

أخذوا اُجورهم، فينبغي أن يقوم ذلك الثناء بقيمة تلك الاُجور وأن يكون ما قبضوه من أجرٍ غاية ما استحقوه إنْ كانوا مستحقيه؛ أمّا أنّ يُضاف ثناء الخلود إلى صفقة اُولئك المأجورين، فقد أصبح ثناء الخلود إذن صفقة بغير ثمن، أو هو علاوة مضمونة على صفقة كلّ مأجور.

إنّ صاحب الثناء المبذول لا يسأل عن شيء غير العطاء المبذول، ولكن التاريخ خليق أن يسأل عن أعمال وأقوال قبل أن يبذل ما لديه من ثناء. وليس في تاريخ يزيد عمل واحد صحيح أو مدعى، ولا كلمة واحدة صحيحة أو مدعاة تقيمه؛ بحيث أراده المأجورون من العذر الممهد والمدح المعقول، أو تخوّله مكان الترجيح في الموازنة بينه وبين الحُسين

كلّ أخطائه ثابتة عليه، ومنها - بل كلّها - خطؤه في حقّ نفسه ودولته ورعاياه، وليس له فضل واحد ثابت ولا كلمة واحدة مأثورة تنقض ما وصفه به ناقدوه وعائبوه؛ فقد كانت له ندحة عن قتل الحُسين، وكان يخدم نفسه ودولته لو أنّه استبقاه حيث يتقيه ويرعاه

وكانت له ندحة عن ضرب الكعبة، واستباحة المدينة، وتسليط أمثال مُسلم بن عقبة وعبيد الله بن زياد على خلائق الله. وكانت له ندحة عن السمعة التي لصقت به ولم تلصق به افتراء ولا

١٨٨

ادعاء كما يزعم صنائعه ومأجوروه؛ لأنّ واصفيه بتلك السمعة لم يلصقوا مثلها بأبيه ومَن كان حقّه في النعمة التي نعم بها مغتصباً ينتزعه عنوة، لا يكن حقّه في الفضل والكرامة جزافاً لا حسيب عليه.

* * *

وتسديد العطف الإنساني هُنا فرض من أقدس الفروض على الناظرين في سير الغابرين؛ لأنّ العطف الإنساني هو كلّ ما يملك التاريخ من جزاء، وهو الثروة الوحيدة التي يحتفظ بها الخلود

وإنّنا لندع الخطأ في سياسة النفعيين، وننظر إليهم كأنّهم مصيبون في السّياسة بُصراء بمواقع التدبير. فعلى هذه الصفة - لو تمّت لهم - لا يحقّ لخادم زمانه أن ينازع الشُهداء في ذخيرة العطف الخالد، وهُم خدام العقائد التي تتخطى حياة الأجيال كما تتخطى حياة الأفراد؛ فإنّ حرمان الشُهداء حقّهم في عطف الأسلاف خطأ في الشّعور، وخطأ كذلك في التفكير

والنّاس خاسرون إذا بطل عطفهم على الشُهداء، وليس قُصارى أمرهم أنّهم قُساة أو جاحدون؛ لأنّ الشّهادة فضيلة تروح وتأتي وتكثر

١٨٩

حيناً وتندر في غير ذلك من الأحيان. أمّا حبّ المنفعة فإن سميته فضيلة فهو من الفضائل التي لن تفارق الأحياء أجمعين، من ناطقة وعجماء.

* * *

على أن الطبائع الآدمية قد أشربت حبّ الشُهداء والعطف عليهم وتقديس ذكرهم بغير تلقين ولا نصيحة، وإنّما تنحرف عن سواء هذه السنّة لعوارض طارئة أو باقية تمنعها أن تستقيم معها، وأكثر ما تأتي هذه العوارض من تضليل المنفعة والهوى القريب، أو من نكسة في الطبع تغريه بالضغن على كلّ خلق سوي وسجية سمحة محببة إلى النّاس عامّة، أو من الأفراد في حبّ الدعة حتّى يجفل المرء من الشّهادات؛ استهوالاً لتكاليفها واستعظاماً للقدوة بها، فيتّهم الشُهداء بالهوج ويتعقب أعمالهم بالنقد؛ لكيلا يتهم نفسه بالجبن والضعة ويستحقّ المذمة واللوم في رأي ضميره، وإن لم يتهمهم بالهوج ولم يتعقبهم بالنقد، وقف من فضائلهم موقف ازورار وفتور، وجنح إلى معذرة الآخرين والتفاهم بينه وبين مَن لا يستشهدون، ثمّ يعارضون الشُهداء فيما يطمحون إليه.

ومعظم المؤرّخين الذين يُعارضون الشُهداء ودعاتهم لغير منفعة أو نكسة هُم من أصحاب الدعة المفرطة وأنصار السّلامة النّاجية، ويغلب على هذه الخلّة أن تسلبهم ملكة التاريخ الصحيح أنّها تعرّضهم للخطأ في الحكم والتفكير، كما تعرّضهم للخطأ في العطف والشّعور.

١٩٠

ومن المعقبين على تاريخ هذه الفترة عندنا - في العربيّة - مؤرخ يُتخذ منه المثل لكلّ من العذر والعطف حين يصل الأمر إلى الاستشهاد كراهة للظلم ودرءاً للمنكرات، وهو الأستاذ مُحمّد الخضري صاحب تاريخ الاُمم الإسلاميّة رحمه الله

ففي تعقيبه على ثورة المدينة - التي قدّمنا الإشارة إليها - يقول: إنّ الإنسان ليعجب من هذا التهور الغريب والمظهر الذي ظهر به أهل المدينة في قيامهم وحدهم بخلع خليفة في إمكانه أن يجرّد عليهم من الجيوش ما لا يمكنهم أن يقفوا في وجهه، ولا ندري ما الذي كانوا يريدونه بعد خلع يزيد؟

أيكونون مستقلين عن بقية الأمصار الإسلاميّة، لهم خليفة منهم يلي أمرهم، أم حمل بقية الاُمّة على الدخول في أمرهم؟ وكيف يكون هذا وهم منقطعون عن بقية الأمصار ولم يكن معهم في هذا الأمر أحد من الجنود الإسلاميّة؟.. إنّهم فتقوا فتقاً وارتكبوا جرماً فعليهم جزء عظيم من تبعة انتهاك حُرمة المدينة، وكان اللازم على يزيد وأمير الجيش أن لا يسرف في معاملتهم بهذه المعاملة؛ فإنّه كان من الممكن أن يأخذهم بالحصار.

* * *

ويخيّل إليك وأنت تقرأ كلام الأستاذ عن هذه الفترة كلّها أنّ لديه أعذاراً ليزيد وليس لديه عذر لأهل المدينة؛ لأنّه يفهم كيف يغضب المرء

١٩١

لما في حوزته، ولا يفهم كيف تضيق به كراهة الظلم وغيرة العقيدة عن الاحتمال، وشعوره هذا يحول بينه وبين الحكم الصحيح على حوادث التاريخ؛ لأنّه يحول بينه وبين انتظار هذه الحوادث حيث تنتظر لا محالة، واستبعادها حيث هي بعيدة عن التقدير.

فلم يحدث قط في مواجهة الظلم وانتزاع الدول المكروهة أن شعر النّاس كما أرادهم الأستاذ أن يشعروا أو فكّروا في الأمر كما أرادهم أن يفكّروا، ومستحيل حدوث هذا أشدّ الاستحالة، وليس قصاراه أنّه لم يحدث من قبل في حركات التاريخ؛ فهذه الحركات التي تواجه الدول المكروهة لا تنتظر - ولا يمكن أن تنتظر - حتّى تربى قوتها وعدتها على ما في أيدي الدولة التي تكرهها من قوة وعدّة

ولكنّها حركة أو دعوة تبدأ بفرد واحد يجترئ على ما يهابه الآخرون، ثمّ يلحق به ثان وثالث ورابع ما شاء له الإقناع وضيق الذرع بالاُمور، ثمّ ما ينالهم من نقمة فيشيع الغضب وينكشف الظُلم عمّن كان في غفلة عنه، ثمّ يشتدّ الحرج بالظالم فيدفعه الحرج إلى التخبط على غير هُدى، ويخرج من تخبط غليظ أحمق إلى تخبط أغلظ منه وأحمق فلا هُم

١٩٢

يقفون في امتعاضهم وتذمرهم ولا هو يقف في بطشه وجبروته، حتّى يغلو به البطش والجبروت فيكون فيه وهنه والقضاء عليه.

على هذا النحو يعرف المؤرّخ الذي يعالج النّفوس الآدمية ما هو من طبعها وما هو خليق أن ينتظر منها، فلا يُعالجها حقّ العلاج على أنّها مسألة جمع وطرح في دفتر الحساب بين هذا الفريق وذاك الفريق، وعلى هذا النحو تكون حركة الحُسين قد سلكت طريقها الذي لا بدّلها أن تسلكه، وما كان لها قط من مسلك سواه.

* * *

وصل الأمر في عهد يزيد إلى حدّ لا يعالج بغير الاستشهاد وما نحا منحاه، وهذا هو الاستشهاد ومنحاه، وهو - بالبداهة التي لا تحتاج إلى مقابلة طويلة - منحى غير منحى الحساب والجمع والطرح في دفاتر التجار، ومع هذا يدع المؤرّخ طريق الشّهادة تمضي إلى نهاية مطافها ثمّ يتناول دفتر التجّار كما يشاء؛ فإنّه لواجد في نهاية المطاف أنّ دفتر التجّار لن يكتب الربح آخراً إلاّ في صفحة الشُهداء.

فالدُعاة المستشهدون يخسرون حياتهم وحياة ذويهم، ولكنّهم يرسلون دعوتهم من بعدهم ناجحة متفاقمة، فتظفر في نهاية مطافها بكلّ شيء حتّى المظاهر العرضية والمنافع الأرضية

وأصحاب المظاهر العرضية والمنافع الأرضية يكسبون في أوّل

١٩٣

الشّوط ثمّ ينهزمون في وجه الدعوة المستشهدة حتّى يخسروا حياتهم أو حياة ذويهم، وتوزن حظوظهم بكلّ ميزان، فإذا هُم بكلّ ميزان خاسرون، وهكذا أخفق الحُسين ونجح يزيد ولكن يزيد ذهب إلى سبيله وعوقب أنصاره في الحياة والحطام والسمعة بعده بشهور، ثمّ تقوضت دولته ودولة خلفائه في عمر رجل واحد لم يجاوز السّتين

وانهزم الحُسين في كربلاء واُصيب هو وذووه من بعده، ولكنّه ترك الدعوة التي قام بها مُلك العبّاسيين والفاطميين وتعلل بها اُناس من الأيوبيّين والعثمانيين، واستظل بها الملوك والاُمراء بين العرب والفرس والهنود، ومثل للناس في حلّة من النّور تخشع لها الأبصار، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان غير مستثنى منهم عربي ولا أعجمي ولا قديم ولا حديث.

أبو الشُهداءعليه‌السلام :

فليس في العالم اُسرة أنجبت من الشُهداء من أنجبتهم اُسرة الحُسين عدّة وقدرة وذكرة، وحسبه أنّه وحده في تاريخ هذه الدُنيا الشّهيد ابن الشّهيد أبو الشُهداء في مئات السّنين

١٩٤

وأيسر شيء على الضعفاء الهازلين أن يذكروا هُنا طلب الملك ليغمروا به شهادة الحُسين وذويه فهؤلاء واهمون ضالون مُغرقون في الوهم والضلال؛ لأنّ طلب الملك لا يمنع الشّهادة، وقد يطلب الرجل الملك شهيداً قدّيساً ويطلبه وهو مجرم بريء من القداسة، وإنّما هو طلب وطلب، وإنّما هي غاية وغاية، وإنّما المعول في هذا الأمر على الطلب لا على المطلوب.

فمَن طلب الملك بكلّ ثمن، وتوسّل له بكلّ وسيلة، وسوّى فيه بين الغصب والحقّ وبين الخداع والصدق وبين مصلحة الرّعية ومفسدتها، ففي سبيل الدُنيا يعمل لا في سبيل الشّهادة، ومَن طلب الملك وأباه بالثمن المعيب، وطلب الملك حقّاً ولم يطلبه؛ لأنّه شهوة وكفى، وطلب الملك وهو يعلم أنّه سيموت دونه لا محالة، وطلب الملك وهو يعتزّ بنصر الإيمان ولا يعتزّ بنصر الجند والسلاح، وطلب الملك دفعاً للمظلمة وجلباً للمصلحة كما وضحت له بنور إيمانه وتقواه، فليس ذلك بالعامل الذي يخدم نفسه بعمله، ولكنّه الشّهيد الذي يلبّي داعي المروءة والأريحية، ويطيع وحي الإيمان والعقيدة، ويضرب للناس مثلاً يتجاوز حياة الفرد الواحد وحياة الأجيال الكثيرة

مَن ثمّ يقيم الآية على حقيقة الحقائق في أمثال هذا الصراع بين الخلقين أو بين المزاجين والتاريخين

١٩٥

وهي أنّ الشّهادة خصم ضعيف مغلوب في اليوم والأسبوع والعام، ولكنّها أقوى الخصوم الغالبين في الجيل والأجيال ومدى الأيّام، وهي حقيقة تُؤيّدها كلّ نتيجة نظرت إليها بعين الأرض أو بعين السّماء على أن تنظر إليها في نهاية المطاف.

ونهاية المطاف هي التي يدخلها نوع الإنسان في حسابه ويوشج عليها وشائج عطفه وإعجابه؛ لأنّه لا يعمل لوجبات ثلاث في اليوم، ولا ينظر إلى عمر واحد بين مهد ولحد، ولكنّه يعمل للدوام وينظر إلى الخلود

١٩٦

في عالم الجمال:

عاشق الجمال

إذا لحقت السيرة بعالم المثال الذي يتطلع إليه خيال الشُعراء وتتغنى به قرائح أهل الفن، فقد تنزهت عن ربقة الجسد وأصبحت صورة من الصور المثلى في عالم الجمال ومن آيات الجمال إنّه يتحدى المنفعة ويؤثر البطولة على السّلامة.

فإذا تعلقت القريحة بالجمال، فلا جرم تزن الاُمور بغير ميزان الحساب والصفقات، فتعرض عن النعمة وهي بين يديها وتقبل على الألم وهي ناظرة إليه، وتلزمها سجية العشق الآخذ بالأعنّة، فتنقاد له ولا تنقاد لنصيحة ناصح أو عذل عاذل؛ لأنّ المشغوف بالجمال ينشده ولا يُبالي ما يلقاه في سبيله.

وقد تمثّلت سجية عاشق الجمال في كلّ شعر نظّمه شُعراء الحُسين وذويه؛ تعظيماً لهم وثناء عليهم لم يتجهوا إليهم ممدوحين وإنّما اتجهوا

١٩٧

إليهم صوراً مُثلى يهيمون بها كما يهيم المحب بصورة حبيبه، ويستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام وإيلام.

وفي معنى كهذا المعنى يقول الكميت شاعر أهل البيتعليهم‌السلام :

طربتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ

ولا لـعباً مـنِّي وذو الشّيبِ يلعبُ

ولـم يـلهني دارٌ ولا رسـمُ منزلِ

ولـم يـتطرّبني بـنانٌ مـخضَّبُ

ولا أنـا مـمَّن يـزجرُ الطيرُ همَّهُ

أصـاحَ غـرابٌ أم تعرّضَ ثعلبُ

ولا الـسانحاتُ الـبارحاتُ عشيّةً

أمـرَّ سليمُ القرنِ أم مرَّ أعضبُ (١)

ولـكنْ إلـى أهلِ الفضائلِ والنّهى

وخـيرِ بـني حوّاءَ والخيرُ يُطلبُ

إلـى الـنفرِ الـبيض الذين بحبِّهمْ

إلى الله فـيما نـالني أتـقرّبُ

____________________

(١) السّانح: الطير الذي يمر من اليسار إلى اليمين وعكسه البارج. والأعضب: المكسور.

١٩٨

بَـنِي هَـاشِمٍ رَهط النَّبِيِّ فإنَّنِي

بِهِم ولَهُم أَرضَى مِرَاراً وأغضَبُ

خـفضتُ لهم منّي جناحَي مودَّة

إلـى كنفِ عِطفاهُ أهلٌ ومرحبُ

يـشيرونَ بـالأيدي إليَّ وقولُهُمْ

ألا خابَ هذا والمشيرون أخيبُ

فـطائفةٌ قـد كـفَّرتني بـحُبّكُمْ

وطـائفةٌ قـالوا مسيءٌ ومُذنبُ

فـما سـاءني تكفيرُ هاتيكَ منهمُ

ولا عيبُ هاتيكَ الّتي هي أعيبُ

يـعيبونني مـنْ خبّهمْ وَضلالِهمْ

على حُبّكم بل يسخرونَ وأعجبُ

وقـالوا تـرابيٌّ (١) هواهُ ورأيُهُ

بـذلك أُدعـى فـيهمُ واُلـقّبُ

على ذاكَ إجريّاي فيكم ضريبتي

وَلـو جمعوا طرّاً عليَّ وأجلبوا

____________________

(١) مِن كُنى عليّ بن أبي طالب (أبو تراب)، وترابي نسبة إليه.

١٩٩

وأحملُ أحقادَ الأقاربِ فيكمُ

وينصبُ لي في الأبعدينَ فأنصبُ

وقد مرّ بنا حديث زين العابدين رضي الله عنه، وهو غلام عليل أوشك أن يتخطفه الموت بكلمة من عبيد الله بن زياد؛ لأنّه استكبر أن تكون به جرأة على جوابه.

فهذا الغلام العليل قد عاش حتّى انعقد له مُلك القلوب؛ حيث انعقد مُلك الأجسام لهشام بن عبد الملك سيّد ابن زياد وآله، وذهب هشام بين جنده وحشمه يحجّ البيت ويترضّى النّاس، فلم يخلص إلى الحجر الأسود لتزاحم الحجيج عليه، وأنّه لجالس على كرسيه ينتظر انفضاض النّاس إذا بزين العابدين يقبل إلى الحجر الأسود في وقاره وهيبته، فيتنحى له الجيج ويحفوا به وهو يستلم الحجر مطمئناً غير معجّل، ثمّ يعود من حيث أتى والنّاس مشيعوه بالتجلّة والدُعاء.

وتهوّل رجلاً من حاشية هشام هذه المهابة التي لم يرها لمولاه فيسأل: مَن هذا الذي هابه النّاس هذه الهيبة؟ ويخشى هشام أن يطّلع جنده على مكانة رجل لم يتطاول إلى مثل مكانته بسلطانه وعتاده فيقول: لا أعرفه ويقتضب الجواب.

وهذا الذي تصدى له شاعر آخر قد غامر بحياته ونواله ليقول بالقصيد المحفوظ ما ثقل على لسان هشام أن يقوله في كلمتين عابرتين

وذلك هو الفرزدق حيث قال:

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207