بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) 27%

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مؤلف:
الناشر: فاروس
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 207

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103709 / تحميل: 10646
الحجم الحجم الحجم
بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

مؤلف:
الناشر: فاروس
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وعن تفسير فرات بن إبراهيم، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم على فاطمةعليها‌السلام وهي حزينة، فقال لها: وساق الحديث في أحوال القيامة، إلى أن قال: فإذا بلغت باب الجنّة تلقّتك اثنا عشر ألف حوراء لم يتلقّين أحداً قبلك ولا يتلقّين أحداً بعدك بأيديهم حراب من نور، على نجائب من نور حائلها ( جلّها خ ل ) من الذهب الأصفر والياقوت الأحمر، أزمّتها من لؤلؤ رطب، على كل نجيب أبرقة من سندس منضود، فإذا دخلت الجنّة تباشر بها أهلها، ووضع لشيعتك موائد من جوهر على عمد من نور، فيأكلون منها والناس في الحساب وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، وإذا استقرّ أولياء الله في الجنّة زارك آدم، ومن دونه من النبييّن. الخبر(١) .

ورُوي عنها (سلام الله عليها)، قالت: لما نزلت( لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً ) ، هِبْتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقول له يا أبه، فكنت أقول يا رسول الله، فأعرض عنّي مرّة أو ثنتين أو ثلاثاً ثم أقبل عَليّ، فقال: يا فاطمة، إنّها لم تنزل فيك، ولا في أهلك، ولا نسلك، وأنت منّي وأنا منك، إنّما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش، أصحاب البذخ والكبر، قولي يا أبه، فإنّها أحيى للقلب، وأرضى للرب(٢) .

وعن مصباح الأنوار، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، عن فاطمة (سلام الله عليها) قالت: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( مَن صلّى عليك غفر الله تعالى له، وألحقه بي حيث كنت من الجنّة )(٣) .

الكليني، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد فاطمةعليها‌السلام ، وأنا معه، فلمّا انتهينا إلى الباب وضع يده عليه فدفعه، ثم قال: ( السلام عليكم ) فقالت فاطمةعليها‌السلام : عليك

____________________

(١) تفسير فرات: ص١٧٢ - ١٧١.

(٢) تفسير نور الثقلين: ج٣ ص٦٢٩، البرهان: ج٣ ص١٥٤.

(٣) بحار الأنوار: ج٤٣ ص٥٥.

٤١

السلام يا رسول الله قال: أدخل؟ قالت: ادخل يا رسول الله، قال: أدخل أنا ومَن معي؟ فقالت: يا رسول الله ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنّعي به رأسك، ففعلت، ثم قال: السلام عليكم، فقالت: وعليك السلام يا رسول الله قال: أدخل؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: أنا ومَن معي؟ قالت: أنت ومَن معك، قال جابر: فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخلت أنا، وإذا وجه فاطمةعليها‌السلام أصفر، كأنّه بطن جرادة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما لي أرى وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول الله، الجوع، فقال: ( اللّهمّ مشبع الجوعة، ودافع الضيعة، أشبع فاطمة بنت محمد الخ )(١) .

وعن أبي سعيد الخدري، قال: أصبح علي بن أبي طالبعليه‌السلام ذات يوم ساغباً، فقال: يا فاطمة، هل عندك شيء تغذينيه؟ قالت: لا والذّي أكرم أبي بالنبوّة وأكرمك بالوصيّة، ما أصبح الغداة عندي شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي، وعلى ابنيّ هذين الحسن والحسين، فقال عليعليه‌السلام يا فاطمة ألا كنت أعلمتني، فأبغيكم شيئاً، فقالت يا أبا الحسن: إنّي لأستحي من إلهي أن أكلف نفسك ما لا تقدر عليه(٢) .

وعن قرب الإسناد، عن أبي عبد الله، عن أبيهعليه‌السلام قال: تقاضى علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الخدمة، فقضىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فاطمةعليها‌السلام بخدمة ما دون الباب، وقضى على عليعليه‌السلام بما خلفه، قال: فقالت فاطمة (صلوات الله عليها): فلا يعلم ما داخلني من السرور إلاّ الله بإكفائي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمّل رقاب الرجال(٣) .

____________________

(١) الكافي: ج٥ ص٥٣٨ كتاب النكاح باب الدخول على النساء: ح٥. وبمعناه روى العلاّمة الدولابي في كتاب الكنى والأسماء: ٢/ ١٢٢، عن عمران بن الحصين.

(٢) البحار: ج٤٣ ص٥٩ نقلاً عن تفسير فرات.

(٣) قرب الإسناد: ص٢٥.

٤٢

عن الخرائج روي أنّ سلمان (رضي الله عنه)، قال: كانت فاطمةعليها‌السلام جالسة قدّامها رحى، تطحن بها الشعير وعلى عمود الرّحى دم سائل، والحسينعليه‌السلام في ناحية الدّار، يتضوّر من الجوع، فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفّاك وهذه فضّة، فقالتعليها‌السلام : أوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون الخدمة لها يوماً فكان أمس يوم خدمتها، قال سلمان: قلت إنّي مولى عتاقه، إمّا أنا أطحن الشعير، أو أُسكت الحسينعليه‌السلام لك؟ فقالت: أنا بتسكينه أرفق، وأنت تطحن الشعير، فطحنت شيئاً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصلّيت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا فرغت، قلت لعليعليه‌السلام ما رأيت، فبكى وخرج، ثم عاد، فتبّسم، فسأله عن ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: دخلت على فاطمة، وهي مستلقية لقفاها والحسين نائم على صدرها وقدّامها رحى تدور من غير يد، فتبسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال ( يا علي، أما علمت أنّ لله ملائكة سيّارة في الأرض يخدمون محمّداً وآل محمّد إلى أن تقوم الساعة )(١) .

وروي أنّه دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عليعليه‌السلام ، فوجده هو وفاطمةعليها‌السلام يطحنان في الجاروس، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أيكّما أعيى؟ فقال عليعليه‌السلام : فاطمة يا رسول الله، فقال لها: قومي يا بنيّة، فقامت وجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضعها مع عليعليه‌السلام فواساه في الطحن(٢) .

وعن بعض كتب المناقب، عن جابر بن عبد الله: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شقّ ذلك عليه، وطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منهنّ شيئاً، فأتى فاطمةعليها‌السلام فقال: يا بنية هل عندك شيء آكله فإنّي جائع؟ فقالت: لا والله بأبي أنت وأُمّي. فلمّا خرج من عندها بعثت إليها

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢٨ الخرائج: ج٢ ص٥٣٠. ورُوي هذا الحديث الطبري في ذخائر العقبى، عن أنس، عن بلال مؤذِّن الرسول فراجع: ص٥١ منه.

(٢) البحار: ج٤٣ ص٥٠.

٤٣

جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها ووضعته في جفنة لها، وغطّت عليها وقالت: لأؤثرنّ بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نفسي ومَن عندي. وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع إليها فقالت: بأبي أنت وأُمّي قد أتانا الله بشيء فخبّأته، قال: هلمّي، فأتته، فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلما نظرت إليه بهتت، فعرفت أنّها كرامة من الله عزّ وجل، فحمدت الله، وصلّت على نبيّه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أين لك هذا يا بنيّة؟ فقالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب. فحمد الله عزّ وجلّ وقال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء العالمين في نساء بني إسرائيل في وقتهم، فإنّها كانت إذا رزقها الله تعالى فسئلت عنه قالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق مَن يشاء بغير حساب.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليعليه‌السلام ، ثم أكل رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، وجميع أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته جميعاً وشبعوا، وبقيت الجفنة كما هي، قالت فاطمةعليها‌السلام : فأوسعت منها على جميع جيراني، وجعل الله فيها البركة والخير كما فعل الله بمريم(١) .

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢٧ ص٦٨. وروى جزءاً منه مع اختلاف في ألفاظه محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٤٦.

٤٤

فصل

في كثرة عبادتها

قال الحسن البصري: ما كان في هذه الأُمّة أعبد من فاطمةعليها‌السلام كانت تقوم حتّى تورّم قدماها(١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها: أيّ شيء خير للمرأة؟ قالت: ( أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل ) فضمّها إليه وقال: ذريّة بعضها من بعض(٢) .

وقال الحسن بن عليعليه‌السلام : رأيت أُمّي فاطمةعليها‌السلام قامت في محرابها ليلة جُمُعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أُمّاه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بنيّ، الجار ثم الدار(٣) .

وروى الصدوق عن فاطمة (صلوات الله عليها) قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ في الجمعة ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله عزّ وجلّ فيها خيراً إلاّ أعطاه إيّاه، قالت: فقلت يا رسول الله أيّة ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف

____________________

(١) المناقب: ج٣ ص٣٤١. وقد روى بمعناه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء: ٢/ ٤٠ عن أنس. وراجع أيضاً في الحديث الأوّل كتاب ربيع الأبرار للزمخشري.

(٢) المصدر السابق.

(٣) علل الشرايع: ج١ ص١٨٢، البحار: ج٤٣ ص٨٢.

٤٥

عين الشمس للغروب، قال: فكانت فاطمةعليها‌السلام تقول لغلامها: اصعد على الضراب، فإذا رأيت نصف عين الشمس تدلى للغروب فأعلمني حتّى أدعو(١) .

وروي أنّها (سلام الله عليها)، كانت إذا قامت في محرابها، زهر نورها لأهل السمّاء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض(٢) .

وروي الصدوق (رحمه الله)، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال لرجل من بني سعد: ألا أحدِّثك عنّي وعن فاطمة، إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله إليه، وأنّها استقت بالقربة حتّى أثَّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبّرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد.

فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حر [ ضرّ - خ ] ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدت عنده حداثاً فاستحت فانصرفت. قال: فعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها جاءت لحاجة،قال: فغدا علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن في لفاعنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثمّ قال: السلام عليكم، فسكتنا، ثمّ قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك، يسلّم ثلاثاً فإن أذن له وإلاّ انصرف، فقلت: وعليك السلام يا رسول الله، ادخل، فلم يعدُ أن جلس عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة: ما كانت حاجتك أمس عند محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قالعليه‌السلام : فخشيت إن لم تجبه أن يقوم، قال فأخرجت رأسي، فقلت: أنا والله أُخبرك يا رسول الله، إنّها استقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت

____________________

(١) وسائل الشيعة: ج٣ أبواب صلاة الجمعة وآدابها: ص٦٩. الضراب: الجبل الصغير، ولعلّ المراد هنا المكان المرتفع منه.

(٢) علل الشرايع: ص١٨٠. كما أورده (رضوان الله عليه) في كتاب معاني الأخبار عن أبي عبد اللهعليه‌السلام .

٤٦

ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادماً يكفيك حر [ ضرّ - خ - البحار ] ما أنت فيه من هذا العمل.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفلا أعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما، فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين، قال: فأخرجتعليها‌السلام رأسها، فقالت: رضيت عن الله ورسوله، ثلاث دفعات(١) .

المناقب، عن كتاب الشيرازي، أنّهاعليها‌السلام لما ذكرت حالها وسألت جارية، بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا فاطمة، والذي بعثني بالحق إنّ في المسجد أربعمائة رجل، ما لهم طعام ولا ثياب، ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت، يا فاطمة، إنّي لا أريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية الخ(٢) .

تفسير الثعلبي، عن جعفر بن محمدعليه‌السلام ، وتفسير القشيري، عن جابر الأنصاري، أنّه رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمةعليها‌السلام وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة. فقالت: ( يا رسول الله: الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه )(٣) .

____________________

(١) علل الشرايع: ص٣٦٦، البحار: ج٤٣ ص٨٢، كما رواه الحافظ أبو داود السجستاني في كتاب السنن: ٢/ ٢٠٦، وأبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، وغيرهم، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه. مجلت يدها: أي ثخن جلدها من العمل. دكن الثوب إذا اتّسخ واغبرّ لونه. اللفاع: ثوب يجلّلُ به الجسد. حُدّاثاً أي جماعة يتحدّثون. ولم يَعْدُ أن جلس: أي لم يتجاوز عن الجلوس. وكذلك رواه محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٥٠. وقال بعده: خرّجه أبو داود.

(٢) المناقب: ج٣ ص٣٤٢، ورواه أيضاً العلاّمة شهاب الدين النوري في نهاية الأرب: ٥/ ٢٦٠، والعلاّمة الزبيدي الحنفي في إتحاف السادة المتّقين، والعلاّمة ابن حمزة في البيان والتعريف: ص١٠١. طبع حلب، مع اختلاف يسير في ألفاظه.

(٣) المصدر السابق.

٤٧

فصل

في فضل فضّة خادمتها

أبو القاسم القشيري في كتابه، قال بعضهم: انقطعت في البادية عن القافلة فوجدت امرأة، فقلت لها: مَن أنت؟ فقالت:( وقل سلام فسوف يعلمون ) (١) ، فسلّمت عليها، فقلت: ما تصنعين ها هنا؟ قالت:( مَن يهدي الله فما له من مضلّ ) (٢) ، فقلت: أمن الجن أنت أم من الإنس؟ قالت: ( يا بني آدم خذوا زينتكم ) (٣) ، فقلت: من أين أقبلت؟ قالت:( ينادَوْنَ من مكانٍ بعيد ) (٤) ، فقلت: أين تقصدين؟ قالت:( ولله على الناس حج البيت ) (٥) ، فقلت: متى انقطعت؟ قالت: ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) (٦) ، فقلت: أتشتهين طعاماً؟ فقالت: ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) (٧) ، فأطعمتها.

____________________

(١) الزخرف: ٨٩.

(٢) الزمر: ٣٧.

(٣) الأعراف: ٣١.

(٤) فصّلت: ٤٤.

(٥) آل عمران: ٩٧.

(٦) ق: ٣٨.

(٧) الأنبياء: ٨.

٤٨

ثم قلت: هرولي وتعجّلي، فقالت:( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وُسْعَها ) (١) فقلت: أردفك؟ فقالت: ( لو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٢) ، فنزلت فأركبتها، فقالت:( سبحان الّذي سخّر لنا هذا ) (٣) ، فلما أدركنا القافلة، قلت: ألك أحد فيها؟ قالت:( يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض ) (٤) ،( وما محمّد إلاّ رسول ) (٥) ،( يا يحيى خذ الكتاب ) (٦) ،( يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ ) (٧) ، فصحت بهذه الأسماء، فإذا أنا بأربعة شباب متوجّهين نحوها، فقلت: مَن هؤلاء منك؟ قالت:( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) (٨) ، فلمّا أتوها، قالت( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) (٩) ، فكافؤني بأشياء، فقالت: ( والله يضاعف لمـَن يشاء ) (١٠) ، فزادوا عليّ، فسألتهم عنها؟ فقالوا هذه أُمنّا فضّة جارية الزهراءعليها‌السلام ، ما تكلّمت منذ عشرين سنة إلاّ بالقرآن(١١) .

____________________

(١) البقرة: ٢٨٦.

(٢) الأنبياء: ٢٢.

(٣) الزخرف: ١٣.

(٤) ص: ٢٦.

(٥) آل عمران: ١٤٤.

(٦) مريم: ١٢.

(٧) طه: ١١ و ١٤.

(٨) الكهف: ٤٦.

(٩) القصص: ٢٦.

(١٠) البقرة: ٢٦١.

(١١) المناقب: ج٣ ص٣٤٣.

٤٩

فصل

في فضيلتها وفضيلة شيعتها

روى الشيخ الأجلّ عماد الدين، أبو جعفر محمد بن أبي القاسم ابن محمد بن علي الطبري في بشارة المصطفى بإسناده عن همام أبي علي، قال: قلت لكعب الحبر: ما تقول في هذه الشيعة، شيعة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؟ قال يا همام: إنّي لأجد صفتهم في كتاب الله المنزل، إنّهم حزب الله، وأنصار دينه، وشيعة وليّه، وهم خاصّة الله من عباده، ونجباؤه من خلقه. اصطفاهم لدينه، وخلقهم لجنّته، مسكنهم الجنّة إلى الفردوس الأعلى في خيام الدر، وغرف ( غرفهم خ م ) اللؤلؤ وهم في المقرّبين الأبرار، يشربون من الرّحيق المختوم، وتلك عين يقال لها تسنيم، لا يشرب منها غيرهم، وإنّ تسنيماً(١) عين وهبها الله لفاطمة بنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، تخرج من تحت قائمة قبّتها على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك، ثم تسيل، فيشرب منها شيعتها وأحباؤها، وإنّ لقبّتها أربع قوائم، قائمة من لؤلؤ بيضاء تخرج من تحتها عين، [ تسيل في سبل أهل الجنّة يقال لها السلسبيل وقائمة من دُرّة صفراء تخرج من تحتها عين ] يقال لها طهور، [ وهي التي قال الله تعالى في كتابه:( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ) (٢) ] وقائمة من زمرّدة

____________________

(١) فإنّ التسنيم: خ م.

(٢) الإنسان: ٢١.

٥٠

خضراء تخرج من تحتها عينان نضّاختان من خمر وعسل، فكل عين منها تسيل إلى أسفل الجنان، إلاّ التّسنيم فإنّها تسيل إلى عليّين، فيشرب منها خاصة أهل الجنذة وهم شيعة عليعليه‌السلام وأحبّاؤه، وتلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ - إلى قوله -المقرّبون ) (١) ، فهنيئاً لهم، ثمّ قال كعب: والله لا يحبّهم إلاّ مَن أخذ الله عزّ وجلّ منه الميثاق.

ثمّ قال المصنِّف (قدّس الله روحه): قال محمد بن أبي القاسم: لَحَريّ أن تكتب الشيعة هذا الخبر بالذهب لإنمائه(٢) ، وتحفظه وتعمل بما فيه بما تدرك به هذه الدرجات العظيمة، لا سيّما رواية روتها العامّة فتكون أبلغ في الحجّة، وأوضح في الصحّة، رزقنا الله العلم والعمل بما أدّوا إلينا الهداة الأئمّةعليهم‌السلام ( نقلته من البحار )(٣) .

وفيه أيضاً عن كنز، بإسناده عن أبي ذر (رضي الله عنه)، قال رأيت سلمان وبلالاً يقبلان إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ انكبّ سلمان على قدم رسول الله يقبّلها، فزجره النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ثم قال له: يا سلمان لا تصنع بي ما تصنع الأعاجم بملوكها، أنا عبد من عبيد الله، آكل كما يأكل العبد، وأقعد كما يقعد العبد، فقال له سلمان: يا مولاي سألتك بالله إلاّ أخبرتني بفضل فاطمة يوم القيامة؟ قال: فأقبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضاحكاً مستبشراً، ثم قال: ( والذي نفسي بيده، إنّها الجارية التي تجوز في عرصة القيامة على ناقة رأسها من خشية الله، وعيناها من نور الله ) إلى أن قال: جبرئيل عن يمينها، وميكائيل عن شمالها، وعليّ أمامها، والحسن والحسين وراءها، والله يكلأها ويحفظها فيجوزون في عرصة القيامة فإذا النداء من قِبل الله جلّ جلاله: معاشر الخلايق، غضّوا أبصاركم ونكّسوا رؤوسكم، هذه فاطمة بنت محمّد نبيّكم، زوجة علي

____________________

(١) المطففين: ٢٥ - ٢٦ - ٢٧ - ٢٨.

(٢) لإيمانهم خ م.

(٣) بشارة المصطفى: ص٥٠.

٥١

إمامكم، أُمّ الحسن والحسين، فتجوز الصراط، وعليها ريطتان بيضاوان، فإذا دخلت الجنّة ونظرت إلى ما أعدّ الله لها من الكرامة، قرأت:( بسم الله الرّحمن الرّحيم * وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) (١) ، قال: فيوحي الله عزّ وجلّ إليها: يا فاطمة سليني أعطك وتمنّي عليّ أرضك.

فتقول: إلهي أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تعذّب محبّي ومحبّي عترتي بالنار، فيوحي الله إليها: ( يا فاطمة، وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام، أن لا أعذّب محبّيك ومحبّي عترتك بالنار )(٢) .

____________________

(١) فاطر: ٣٤ - ٣٥.

(٢) تفسير البرهان: ج٣ ص٣٦٥، وقد روى بعض فقراته محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٤٨.

٥٢

فصل

في زهدهاعليها‌السلام

السيد ابن طاووس من كتاب زهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي جعفر أحمد القمّي، أنّه لَمّا نزلت هذه الآية على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ) (١) بكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكاءً شديداً وبكت صحابته لبكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرئيل ولم يستطع أحد من صحابته أن يكلّمه، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا رأى فاطمةعليها‌السلام فرح بها، فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها فوجد بين يديها شعيراً وهي تطحن فيه وتقول:( وما عند الله خير وأبقى ) (٢) فسلّم عليها، وأخبرها بخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكائه، فنهضت والتفّت بشملة لها خَلِقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل، فلمّا خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة وبكى وقال: وا حزناه، إنّ بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير، وابنة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً! فلمّا دخلت فاطمةعليها‌السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت: يا رسول الله: إنّ سلمان تعجّب من لباسي، فو الّذي بعثك بالحق، مالي وعليعليه‌السلام منذ خمس سنين إلاّ

____________________

(١) الحجر: ٤٣ - ٤٤.

(٢) القصص: ٦٠.

٥٣

مسك كبش نعلف عليه بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإنّ مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا سلمان، إنّ ابنتي لفي الخيل السوابق.

ثم قالت: يا أبتاه فديتك، ما الذي أبكاك؟ فذكر لها ما نزل به جبرئيل من الآيتين المتقدّمتين، قال: فسقطت فاطمةعليها‌السلام على وجهها وهي تقول: ( الويل ثم الويل لمن دخل النار )، فسمع سلمان، فقال: يا ليتني كنت كبشاً لأهلي، فأكلوا لحمي ومزّقوا جلدي، ولم أسمع بذكر النّار، وقال أبو ذر: يا ليت أمّي كانت عاقراً ولم تلدني ولم أسمع بذكر النار، وقال المقداد: يا ليتني كنت طائراً في القفار، ولم يكن عليَّ حساب ولا عقاب ولم أسمع بذكر النار، وقال عليعليه‌السلام : يا ليت السّباع مزّقت لحمي، وليت أُمّي لم تلدني ولم أسمع بذكر النار.

ثم وضع يده على رأسه وجعل يبكي ويقول: وا بعد سفراه، وا قلة زاداه في سفر القيامة، يذهبون في النّار ويتخطّفون، مرضى لا يعاد سقيمهم، وجرحى لا يداوى جريحهم، وأسرى لا يفكّ أسرهم، من النار يأكلون، ومنها يشربون، وبين أطباقها يتقلبون، وبعد لبس القطن مقطّعات النار يلبسون، وبعد معانقة الأزواج مع الشياطين مقرنون(١) .

كشف الغمّة من مسند أحمد بن حنبل، عن ثوبان مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمةعليها‌السلام ، وأوّل مَن يدخل عليه إذا قدم فاطمةعليها‌السلام ، قال: فقدم من غزاة فأتاها، فإذا هو بمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسينعليهما‌السلام قُلبين من فضّة(٢) ، فرجع ولم يدخل عليها، فلمّا رأت ذلك، ظنّت أنّه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القُلبين من الصبيّين فقطعتهما، فبكى الصبيّان

____________________

(١) البحار: ج٣ ص٨٧. تفسير البرهان: ج٢ ص٣٦٤.

(٢) القُلب بالضم: السوار.

٥٤

فقسّمته بينهما، فانطلقا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما يبكيان، فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهما، وقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان - أهل بيت بالمدينة - واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج ( فإنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أحبّ أن يأكلوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا )(١).

روى الشيخ الجليل أبو جعفر بن جرير الطبري في الدلائل بإسناده إلى ابن مسعود، أنّه جاء إلى فاطمةعليها‌السلام ، فقال: يا ابنة رسول الله، هل ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندك شيئاً تطرفينيه؟ فقالت (سلام الله عليها): يا جارية هات ( هاتي ظ ) تلك الجريدة، فطلبتها فلم تجدها، فقالت (سلام الله عليها): ويحكِ اطلبيها فإنّها تعدل عندي حسناً وحسيناً، فطلبتها فإذا هي قد قمّمتها في قمامتها(٢) فإذا فيها:

قال محمّد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من المؤمنين مَن لم يأمن جاره بوائقة، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت، إنّ الله تعالى يحبّ الخيّر الحليم المتعفّف، ويبغض الفاحش البذّاء السئّال الملحف، إنّ الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة، وإنّ الفحش من البذاء والبذاء في النار(٣) .

____________________

(١) البحار: ج٣٤ ص٨٩، وأورده محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٥١ - ٥٢ وقال: خرجه أحمد. والعصب: سن دابة بحرية تسمّى فرس فرعون ويكون أبيض.

(٢) القمامة: كناسة الدار وأشباهها.

(٣) دلائل الإمامة: ص١.

٥٥

فصل

روى الشيخ الصدوق عن ابن عباس، في خبر طويل في إخبار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بظلم أهل البيت، فمّما أخبر به أن قال: وأمّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الأنسيّة، متى قامت في محرابها بين يدي ربّها جلّ جلاله، زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزّ وجلّ لملائكته: ( يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة سيّدة إمائي، قائمة بين يديّ ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها إلى عبادتي، أشهدكم أنّي قد أمنت شيعتها من النار ).

أقول: ثم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وإنّي لَمّا رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذّل بيتها، وانتهكت حرمتها وغصب حقّها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمّداه فلا تُجاب، وتستغيث فلا تُغاث، فلا تزال بعدي محزونة، مكروبة، باكية، تتذكّر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة، وتتذكّر فراقي أُخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل لفقد صوتي الّذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدتُ بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيّام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران فتقول: ( يا فاطمة، إنّ الله اصطفاك وطهرّك

٥٦

واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين ).

ثم يبتدي بها الوجع فتمرض، فيبعث الله عزّ وجلّ إليها مريم بنت عمران تمرضها وتؤنسها في علّتها، فتقول عند ذلك: يا رب إنّي قد سئمت الحياة وتبرّمت بأهل الدنيا، فألحقني بأبي، فيلحقها الله عزّ وجلّ بي، فتكون أوّل مَن يلحقني من أهل بيتي، فتُقْدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة، مغصوبة، مقتولة فأقول عند ذلك: ( اللّهمّ العن مَن ظلمها، وعاقب مَن غصبها، وأذلّ مَن أذلّها، وخلّد في نارك مَن ضرب جنينها حتّى ألقت ولدها ) فتقول الملائكة عند ذلك آمين(١) .

____________________

(١) الأمالي للصدوق: ص١١٣. كما رواه الديلمي في إرشاد القلوب، والمجلسي في البحار، والجويني في فرائد السمطين: ٢ / ٣٤ - ٣٥.

٥٧

فصل

حديث تزويج فاطمة لعليٍّعليه‌السلام

في البحار عن أمالي الشيخ بسنده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: لَمّا زوّج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمةعليها‌السلام عليّاًعليه‌السلام دخل عليها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك، فو الله لو كان في أهل بيتي خير منه زوّجتك، وما أنا زوّجتك، ولكنّ الله زوّجك وأصدق عنك الخمس ما دامت السموات والأرض.

قال عليعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قم فبع الدِّرع، فقمت فبعته وأخذت الثّمن ودخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسكبت الدًّراهم في حجره، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته، ثم قبض قبضة ودعا بلالاً فأعطاه فقال: ابتع لفاطمة طيباً، ثم قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الدَّراهم بكلتا يديه فأعطاه أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، وأردفه بعمّار بن ياسر وبعدَّة من أصحابه.

فحضروا السوق، فكانوا يعترضون الشيء ممّا يصلح فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر، فإن استصلحه اشتروه، قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبريّة، وسرير مزمَّل(١)

____________________

(١) مزمّل أي ملفوف، والشريط خوص مفتول يشرط به السرير، والخيش: ثياب في نسجها رقّة وخيوطها غلاظ. قوله: من جزّ الغنم أي من الصوف الذي جزّ من الغنم.

٥٨

بشريط، وفراشين من خيش مصر، حشو أحدهما ليف وحشو الأخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها أذخر، وستر من صوف، وحصير هجري(١) ورحىّ لليد، ومِخْضَب(٢) من نحاس، وسقاء من أدم، وقعب(٣) للبن، وشنّ للماء، ومطهرة مزفَّتة، وجرة خضراء، وكيزان خزف، حتّى إذا استكمل الشراء، حمل أبو بكر بعض المتاع، وحمل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين كانوا معه الباقي، فلمّا عرض المتاع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل يقلّبه بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت.

قال عليعليه‌السلام : فأقمت بعد ذلك شهراً أُصلّي مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرجع إلى منزلي ولا أذكر شيئاً من أمر فاطمةعليها‌السلام ، ثم قلن أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألاَ نطلب لك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخول فاطمةعليه‌السلام عليك؟ فقلت: افعلن، فدخلن عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت أم أيمن: يا رسول الله، لو أن خديجة باقية لقرَّت عينها بزفاف فاطمة، وإنّ عليّاً يريد أهله، فقرَّ عين فاطمة ببعلها واجمع شملها، وقرَّ عيوننا بذلك، فقال: ما بال عليّ لا يطلب منّي زوجته، فقد كنّا نتوقّع ذلك منه، قال عليعليه‌السلام : فقلت الحياء يمنعني يا رسول الله.

فالتفت إلى النّساء فقال: مَن ها هنا، فقالت أُمّ سلمة: أنا أمُّ سلمة: وهذه زينب وهذه فلانة وفلانة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هيّئن لابنتي وابن عمّي في حُجري بيتاً، فقالت أُمّ سلمة: في أي حجرة يا رسول الله؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في حجرتك، وأمر نساءه أن يزيَّن ويصلحن من شأنها.

قالت أُمّ سلمة: فسألت فاطمة، هل عندك طيب ادّخرتيه لنفسك؟ قالت: نعم. فأتت بقارورة فسكبت منها في راحتي، فشممت منها رائحة ما

____________________

(١) هَجَر محرّكة: بلدة باليمن، وقرية كانت قرب المدينة راجع هامش البحار.

(٢) المخصب كمنبر: المركن.

(٣) القعب: قدح من خشب.

٥٩

شممت مثلها قطّ، فقلت: ما هذا؟ فقالت: كان يدخل دحية الكلبي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول لي: يا فاطمة: هات الوسادة فاطرحيها لعمّك، فأطرح له الوسادة فيجلس عليها، فإذا نهض سقط من بين ثيابه شيء فيأمرني بجمعه، فسأل عليّعليه‌السلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك؟ فقال هو عنبر يسقط من أجنحة جبرئيل.

قال عليعليه‌السلام : ثمّ قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي، اصنع لأهلك طعاماً فاضلاً، ثم قال: من عندنا اللّحم والخبز، وعليك التمر والسّمن، فاشتريت تمراً وسمناً، فحسر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذراعه وجعل يشدخ(١) التّمر في السّمن حتّى اتّخذه حيساً(٢) ، وبعث إلينا كبشاً سميناً فذُبح وخُبزَ لنا خبز كثير.

ثم قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادع مُن أحببت، فأتيت المسجد وهو مشحن بالصّحابة، فحييت أن أشخص قوماً وأدع قوماً، ثمّ صعدت على ربوة هناك وناديت: أجيبوا إلى وليمة فاطمة، فأقبل الناس أرسالاً فاستحييت من كثرة الناس وقلّة الطعام، فعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تداخلني، فقال: يا عليُّ، إنّي سأدعو الله بالبركة.

قال عليعليه‌السلام : فأكل القوم عن آخرهم طعامي، وشربوا شرابي، ودعوا لي بالبركة، وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل ولم ينقص من الطعام شيء.

ثم دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصّحاف فمُلِئَت، ووجّه بها إلى منازل أزواجه، ثم أخذ صحفة وجعل فيها طعاماً وقال: هذا لفاطمة وبعلها، حتى إذا انصرفت الشمس للغروب، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أُمّ سلمة، هلمّي فاطمة، فانطلقت فأتت بها وهي تسحب أذيالها، وقد تصبّبت عرقاً حياءً من

____________________

(١) الشدخ: كسر الشيء.

(٢) الحيس: هو تمر يخلط بسمن وأقط. وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت.

٦٠

أصحابه وهم مجزّرون كالأضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس، وسمع عويل الأطفال، وهم ينادون العطش العطش، وسمع صراخ عقائل الوحي، وهنّ يندبن قتلاهنّ، ورأى وحدة أخيه سيّد الشهداء، وقد أحاط به أنذال أهل الكوفة يبغون قتله تقرّباً لسيّدهم ابن مرجانة، رأى أبو الفضل كل هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى، مبتغياً الأجر من عنده.

٥ ـ الوفاء:

ومن خصائص أبي الفضلعليه‌السلام الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة وبلغ أسمى حدّ لها، وكان من سمات وفائه ما يلي:

أ ـ الوفاء لدينه:

وكان أبو الفضل العباسعليه‌السلام من أوفى الناس لدينه، ومن أشدّهم دفاعاً عنه، فحينما تعرّض الإسلام للخطر الماحق من قبل الطغمة الأموية الذين تنكّروا كأشدّ ما يكون التنكّر للإسلام، وحاربوه في غلس الليل وفي وضح النهار، فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الأرض، وقد قطعت يداه، وهوى إلى الأرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية.

ب ـ الوفاء لأمّته:

رأى سيّدنا العبّاسعليه‌السلام الأمّة الإسلامية ترزح تحت كابوس مظلم من الذلّ والعبودية قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الأمويين فنهبت

٦١

ثرواتها، وتلاعبت في مقدراتها، وكان أحد أعمدتهم السياسية يعلن بلا حياء ولا خجل قائلاً: ( إنما السواد بستان قريش ) فأي استهانة بالأمة مثل هذه الاستهانة، ورأى أبو الفضلعليه‌السلام أن من الوفاء لأمّته أن يهبّ لتحريرها وإنقاذها من واقعها المرير، فانبرى مع أخيه أبي الأحرار والكوكبة المشرقة من فتيان أهل البيت:، ومعهم الأحرار الممجدون من أصحابهم، فرفعوا شعار التحرير، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ والعبودية، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لهم، حتى استشهدوا من أجل هذا الهدف السامي النبيل، فأي وفاء للاَمة يضارع مثل هذا الوفاء؟

ج ـ الوفاء لوطنه:

وغمرت الوطن الإسلامي محن شاقّة وعسيرة أيام الحكم الأموي، فقد استقلاله وكرامته، وصار بستاناً للأمويين وسائر القوى الرأسمالية من القرشيين وغيرهم من العملاء، وقد شاع البؤس والحرمان، وذلّ فيه المصلحون والأحرار، ولم يكن فيه أي ظلّ لحرية الفكر والرأي، فهبّ العباس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداءعليه‌السلام إلى مقاومة ذلك الحكم الأسود وتحطيم أروقته وعروشه، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم، فكان حقاً هذا هو الوفاء للوطن الإسلامي.

د ـ الوفاء لأخيه:

ووفى أبو الفضل ما عاهد الله عليه من البيعة لأخيه ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمنافح الأول عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومن المقطوع به أنه ليس في سجلّ الوفاء الانساني

٦٢

أجمل ولا أنظر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكل إنسان حرّ شريف.

٦ ـ قوّة الإرادة:

أمّا قوّة الإرادة فانّها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كُتب لهم النجاح في أعمالهم إذ يستحيل أن يحقق من كان خائر الإرادة، وضعيف الهمّة أي هدف اجتماعي، أو يقوم بأي عمل سياسي.

لقد كان أبو الفضلعليه‌السلام من الطراز الأول في قوة بأسه، وصلابة إرادته، فانظمّ إلى معسكر الحق، ولم يهن، ولم ينكل، وبرز على مسرح التأريخ كأعظم قائد فذّ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر والخلود على امتداد الأيّام.

٧ ـ الرأفة والرحمة:

وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين، والمضطهدين وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الأمويين حوض الفرات لحرمان أهل البيت من الماء حتى يموتوا أو يستسلموا لهم، ولما رأى العباسعليه‌السلام أطفال أخيه، وسائر الصبية من أبناء اخوته، وقد ذبلت شفاهم، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب قلبه حناناً وعطفاً عليهم، فاقتحم الفرات، وحمل الماء إليهم، وسقاهم، وفي اليوم العاشر من المحرّم، سمع الأطفال ينادون العطش العطش، فتفتت كبده رحمة ورأفة عليهم، فأخذ القربة، والتحم مع أعداء

٦٣

الله حتى كشفهم عن نهر الفرات، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه فأبت رحمته أن يشرب قبل أخيه وأطفاله، فرمى الماء من يده.

فتّشوا في تاريخ الأمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة والرحمة، التي تحلَّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان.

هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد التي ارتقى إليها أبوه.

* * *

٦٤

مع الأحداث

٦٥

٦٦

ورافق أبو الفضل العباسعليه‌السلام منذ نعومة أظفاره كثيراً من الأحداث الجسام التي لم تكن ساذجة، ولا سطحية، وانّما كانت عميقة كأشدّ ما يكون العمق، فقد أحدثت اضطراباً شاملاً في الحياة الفكرية والعقائدية بين المسلمين، كما استهدفت بصورة دقيقة إبعاد أهل البيتعليهم‌السلام عن المراكز السياسية في البلاد، واخضاعهم لرغبات السلطة، وما تعمله على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، من أعمال لا تتفق في كثير من بنودها مع التشريع الإسلامي، وقد تجلّى ذلك بوضوح أيّام حكومة عثمان وما سلكته من التصرفات في المجالات الإدارية، فقد عمدت إلى منح مناصب الدولة، وسائر الوظائف العامة إلى بني أميّة وآل معيط، وحرمان بني هاشم، ومن يتّصل بهم من أبناء الصحابة من أي منصب من المناصب العامة، وقد استولى الأمويون على جميع أجهزة الدولة، وراحوا يعملون عامدين أو غير عامدين إلى خلق الأزمات الحادّة بين المسلمين، ومن المقطوع به أنّه لم تكن لأكثرهم أيّة نزعة إسلامية، كما لم تكن لهم أيّة دراية بأحكام القانون الإسلامي، وما تتطلّب إليه الشريعة الإسلامية من إيجاد مجتمع إسلامي متطوّر قائم على المودّة والتعاون وبعيد كلّ البعد عن التأخّر.

لقد أشاعت حكومة عثمان الرأسمالية في البلاد، فقد منحت الأمويين وبعض أبناء القرشيين الامتيازات الخاصة، وفتحت لهم الطريق لكسب

٦٧

الأموال، وتكديسها بغير وجه مشروع، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى خلق اضطراب شامل لا في الحياة الاقتصادية فحسب، وانّما في جميع مناحي الحياة، وأشاعت القلق والتذمّر في جميع الأوساط الإسلامية، فاتجهت قطعات من الجيوش المرابطة في العراق ومصر إلى يثرب، وطالبت عثمان بالاستقامة في سياسته، وإبعاد الأمويين عن جهاز الدولة، كما طالبوه بصورة خاصة بإبعاد مستشاره ووزيره مروان بن الحكم الذي كان يعمل بصورة مكشوفة لتأجيج نار الفتنة في البلاد.

ولم يستجب عثمان لمطالب الثوّار، ولم يخضع لرأي الناصحين له، والمشفقين عليه، وظلّ متمسّكاً بأسرته، ومحتضناً لبطانته، تتوافد عليه الأخبار بانحرافهم عن الطريق القويم، واقترافهم لما حرّمه الله، فلم يعن بذلك، وراح يسدّدهم ويلتمس لهم المعاذير، ويتّهم الناصحين بالعداء لأسرته.

وبعدما اختفت جميع الوسائل الهادفة لاستقامة عثمان لم يجد الثوار بُدّاً من قتله، فقَتل شرّ قتلة، ويقول المؤرّخون انّه تولّى قتله خيار أبناء الصحابة كمحمد بن أبي بكر، كما أقرّ قتله كبار الصحابة وعظماؤهم، وفي طليعتهم الصحابي الجليل صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخليله عمّار بن ياسر.

وانتهت بذلك حكومة عثمان وهي من أهمّ الأحداث الجسام التي جرت في عصر أبي الفضلعليه‌السلام وبمرأى ومسمع منه، فقد كان في شرخ الشباب وعنفوانه وقد رأى كيف تذرع الانتهازيّون من الأمويين بمقتل عثمان فطبّلوا له، ورفعوا قميصه الملطّخ بدمائه فجعلوه شعاراً لتمرّدهم على حكم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ذلك الحكم القائم على الحق والعدل.

إنّ أسوأ ما تركت حكومة عثمان أنّها ألقت الفتنة بين المسلمين،

٦٨

وحصرت الثروة عند الأمويين وآل أبي معيط، وعملائهم من القرشيين الحاقدين على العدل الاجتماعي، وبذلك استطاعوا القيام بعصيان مسلّح ضدّ حكومة الامام أمير المؤمنينعليه‌السلام التي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّ حال فلنترك حديث عثمان، ونتوجّه إلى ذكر بقيّة الأحداث التي جرت في عصر أبي الفضلعليه‌السلام .

* * *

٦٩

حكومة الامام

والشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب، فقد سارعت القوات المسلحة التي أطاحت بحكومته إلى مبايعته كما بايعته الجماهير العامة في مختلف الأقاليم الإسلامية سوى الشام، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وبعض الأمويين الذين أيقنوا أن الإمامعليه‌السلام يبسط العدالة الاجتماعية في الأرض، ويحقق المساواة الكاملة بين المسلمين فلا امتياز لأحد على أحد، وبذلك تفوت مصالحهم، فلم يبايعوه، ولم يقف الإمام معهم موقفاً معادياً فلم يوعز إلى السلطات القضائية والتنفيذية باتخاذ الإجراءات الحاسمة ضدّهم، وذلك عملاً بما منحه الإسلام من الحريّات العامة لجميع الناس، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو من المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الأرض، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فانّها تكون مضطرّة إلى اتخاذ الاجراءات القانونية ضدّهم.

وعلى أيّ حال فقد بويع الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بيعة عامة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الإسلامية، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه.

وفور تقلّد الإمامعليه‌السلام للخلافة تبنى بصورة إيجابية وشاملة العدل الخالص، والحق المحض، وتنكّر لكل مصلحة شخصية تعود بالنفع عليه

٧٠

أو على ذويه، وقدم مصالح الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الأخرى كانت سعادته أن يرى الأوساط الشعبية تنعم بالخير والسعادة، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين.

ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الإمامعليه‌السلام فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضلعليه‌السلام فانّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله، كما يكشف عن الأسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة، والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الإمامعليه‌السلام ، ومناهضتهم لأبنائه من بعده، وفيما يلي ذلك:

منهج حكم الإمام:

أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الإمامعليه‌السلام فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقومات الارتقاء، والنهوض للشعوب الإسلامية، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الإنسانية في جميع أدوارها نظاماً سياسياً تبنّى العدل الاجتماعي، والعدل الاقتصادي والسياسي مثل ما تبّناه الإمام، وسنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ونشير إلى بعضها:

١ ـ بسط الحريّات:

وآمن الإمامعليه‌السلام بضرورة منح الحريّات العامة لجميع أبناء الأمّة، وان ذلك من اولوّيات حقوقها، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكل فرد من أبناء

٧١

الشعب، وان حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسية، ويمنع من التقدّم الفكري، والتطوّر الاجتماعي في أبنائها، ويخلد لهم الخنوع والخمول، ويعود عليهم بالاضرار البالغة، أمّا مدى هذه الحرية وسعتها فهي:

أ ـ الحريّة الدينية:

يرى الإمامعليه‌السلام أن الناس أحرار فيما يعتقدون ويذهبون من أفكار دينية، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينية، وانهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الأحوال الشخصية، وانّما يتّبعون ما قنن من تشريع عند فقائهم.

ب ـ الحريّة السياسية:

ونعني بها منح الناس الحرية التامة في اعتناق المذاهب السياسية التي تتفق مع رغباتهم وميولهم، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسياً مخالفاً لما يذهبون إليه، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الإقلاع عن آرائهم السياسية الخاصة، وانّما عليها أن تقيم لهم الأدلة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب، وعدم صحّته، فان رجعوا إلى الرشاد فذاك، وإلاّ فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الأرض، أو يخلّوا بالأمن العام، كما اتفق ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكرية، والركائز العلمية، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرضون الناس للقتل والإرهاب، فاضطرّ الإمامعليه‌السلام إلى مقاومتهم بعد أن أعذر فيهم.

ومن الجدير بالذكر أن مما يتفرّع على الحرية السياسية حريّة النقد لرئيس الدولة وجميع أعضائها، فالناس أحرار فيما يتولّون، وينقدون، وقد كان الخوراج يقطعون على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام خطابه، ويخدشون

٧٢

عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعياً، وانّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة، فلم يتّخذ الإمام أي إجراء ضدّهم، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم، وبذلك فقد عهد الإمام إلى نشر الوعي العام، وبناء الشخصية المزدهرة للإنسان المسلم.

هذه بعض صور الحرية التي طبّقت أيام حكم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطور والابداع.

٢ ـ نشر الوعي الديني:

واهتم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بصورة إيجابية بنشر الوعي الديني، وإشاعة المثل الإسلامية بين المسلمين، باعتبارها الركيزة الأولى لإصلاح المجتمع وتهذيبه.

انّ من أُولى معطيات الوعي الديني اقصاء الجريمة، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع، وإذا لم يتلوّث بذلك، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم.

ومن المقطوع به انّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عني بالتربية الدينية كما عُني الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة، واعتناق الفضائل، وابعادها عن اقتراف الجرائم، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم، قاوموا الانهيار الأخلاقي، وناهضوا التفسخ والتحلل الذي شاع أيام حكم الأمويين، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري وميثم التمّار وعمرو بن الحمق الخزاعي، وغيرهم من بناة الفكر الإسلامي.

٧٣

٣ ـ نشر الوعي السياسي:

أمّا نشر الوعي السياسي في أوساط المجتمع الإسلامي فهو من أهمّ الأهداف السياسية التي تبنّاها الإمامعليه‌السلام في أيّام حكومته.

ونعني بالوعي السياسي هو تغدية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤولية أمام الله تعالى، على مراقبة الأوضاع العامة في الدولة وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعية للمسلمين حتى لا يقع أيّ تمزّق في صفوفهم، أو ايّ تأخّر أو ضعف في حياتهم الفردية والاجتماعية، وقد ألزم الإسلام بذلك، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته » ألقى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله المسؤولية على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم، والعمل على حفظ مصالحهم، ودرأ الفساد عنهم.

ومن بين الاَحاديث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الأحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة قال: « أيّها الناس: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله »(١) .

وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداءعليه‌السلام على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الأموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله، ونكث عهده، وخالف سنّة رسوله، وعمل في عباد الله بالإثم والعدوان.

__________________

(١) حياة الامام الحسين ٣: ٨٠.

٧٤

انّ الوعي السياسي الذي أشاعه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثورياً ضد الظالمين والمستبدّين، فقد انبرى المجاهدون الأبطال ممن غذّاهم الإمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة، وكان على رأسهم أبو الأحرار سيّد الشهداء واخوه البطل الفذّ أبو الفضل العباسعليه‌السلام ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيتعليهم‌السلام وأصحابهم المجاهدين، فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عديّ الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي ورُشيد الهجري، وميثم التمّار وغيرهم من أعلام الحرية ودعاة الإصلاح الاجتماعي، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهلية، ورأس العناصر المعادية للإسلام، وعلى أي حال فقد غرس الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم.

٤ ـ إلغاء المحسوبيات:

وكان مما عني به الإمامعليه‌السلام في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيات إلغاءً مطلقاً، فالقريب والبعيد عنده سواء، فليس للقريب امتياز خاص، وانّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات كما ساوى بصورة موضوعية بين العرب والموالي مما جعل الموالي يدينون له بالولاء، ويؤمنون بإمامته.

لقد ألغى الإمام جميع صنوف المحسوبيات، وصور العنصريات، وساوى بين المسلمين على اختلاف قومياتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الأمم والشعوب، فقد حملت مساواته روح الإسلام

٧٥

وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين، فهي التي تجمع ولا تفرّق ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة يسلك فيها أعداء الإسلام لتشتيت شملهم، وتصديع وحدتهم.

٥ ـ القضاء على الفقر:

أمّا فلسفة الإمامعليه‌السلام في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم اقصاء شبحه البغيض عن الناس لأنّه كارثة مدمّرة للمواهب والأخلاق، ولا يمكّن الأمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافية والصحيّة وهي فقيرة بائسة، إن الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الأمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها ومن الجدير بالذكر أن من بين المخططات التي تزيل شبح الفقر وتوجب نشر الرخاء بين الناس، والتي عني بها الإسلام بصورة موضوعية وهي:

أ ـ توفير المسكن.

ب ـ إقامة الضمان الاجتماعي.

ج ـ توفير العمل.

د ـ القضاء على الاستغلال.

ه‍ ـ سدّ أبواب المرابين.

و ـ القضاء على الاحتكار.

هذه بعض الوسائل التي عني بها الإسلام في اقتصاده، وقد تبنّاها الإمام في أيّام حكومته، وقد ناهضتها القوى الرأسمالية القرشية ودفعت بجميع إمكانياتها للإجهاز على حكم الإمام، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة، وبهذا نطوي الحديث عن منهج الإمام وفلسفته في الحكم.

٧٦

القوى المعارضة للإمام:

ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الإمام، التي لم تكن لها أيّة أهداف نبيلة، وانّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ، وفيما يلي ذلك.

السيّدة عائشة:

وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الأسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسينعليهما‌السلام واشادته دوماً بفضلهم، وسموّ منزلتهم عند الله، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك، قال تعالى:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية، وفي كثير من الأحيان كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يشير إلى أفعالها، فقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله لنسائه: أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : من ها هنا يتولّد الشرّ وأشار إلى بيتها، وغير ذلك مما أثار عواطفها.

وثمّة سبب في كراهية عائشة للإمام وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر، ومقاطعته لانتخابه، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها، وهي على يقين أن

٧٧

الخلافة إذا رجعت للإمامعليه‌السلام فإنّها سوف تعامل كغيرها من أبناء الشعوب الإسلامية، ولا تحظى بأيّة ميّزة، فان جميع الشؤون السياسية والاقتصادية عند الإمامعليه‌السلام لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة، ولا مجال عنده للأهواء والعواطف، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته، وقد انضمّ إليها كل من الزبير وطلحة والامويين وذوي الاطماع والمنحرفين عن الحق من القبائل القرشية الذين ناهضوا الدعوة الإسلامية من حين بزوغ نورها.

وعلى أيّ حال فقد كانت عائشة من أوثق الأسباب في الإطاحة بحكومة عثمان، وقد أفتت بوجوب قتله، ولما أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة، وهي تتطلع إلى الأخبار، فلما وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى، ولكنها لمّا فوجئت بالبيعة للإمامعليه‌السلام انقلب وضعها رأساً على عقب، وراحت تقول بحرارة:

«قتل عثمان مظلوماً والله لأطلبنّ بدمه .. ».

وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعية التي أعلنت حقوق الإنسان، وتبنّت مصالح المحرومين والمضطهدين والتي كانت أمتداداً لحكومة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعقدت عائشة في مكّة الندوات مع أعضاء حزبها البارزين كطلحة والزبير، وسائر الامويين، وأخذت تتداول معهم الآراء أي بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم، ويتّخذوا منه قاعدة لانطلاقهم في محاربة الإمام، والإجهاز على حكومته، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الإسلامية أجمع رأيهم على احتلال البصرة لأن لهم بها شيعة وأنصاراً،

٧٨

وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح، وزحفوا نحو البصرة، وقد التحق بهم بهائم البشر، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي، وساروا لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى البصرة، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزية فيها استطاعوا احتلالها، وألقوا القبض على حاكمها سهل بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة فأمرت بنتف لحيته، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شاباً أمرد.

ولما وافت الأنباء الامام أمير المؤمنينعليه‌السلام بتمرّد عائشة، واحتلالها لمدينة البصرة، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الأمصار الإسلامية، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الإسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، ومالك الأشتر، وحجر بن عدي، وابن التيهان وغيرهم ممن ساهموا في بناء الإسلام، وإقامة ركائزه في الأرض.

وسرت جيوش الإمام حتى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثفة، وهم يعلنون الطاعة والولاء لأمّهم عائشة، فأرسل الإمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكرية في جيش عائشة كطلحة والزبير، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الامام حقناً لدماء المسلمين، فأبوا، وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين ـ بوقاحة ـ بدم عثمان، وهم الذين أطاحوا بحكومته، وأجهزوا عليه.

ولما نفدت جميع الوسائل التي اتخذها الإمامعليه‌السلام للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل، وأخيراً نصر الله الإمام على أعدائه، فقد قُتل طلحة والزبير، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم، وقذف الله الرعب في قلوب

٧٩

الأحياء منهم فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار.

واستولى جيش الإمام على عائشة القائدة العامة للمتمرّدين، وحملت بحفاوة إلى بعض بيوت البصرة، ولم يتّخذ الإمام معها الإجراءات الصارمة، وعاملها معاملة المحسن الكريم، وسارع الإمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه، ولا تتدخّل بمثل هذه الأمور التي ليست مسؤولة عنها.

وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون ( بحرب الجمل ) وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحداد، ومزّقت صفوفهم، وألقتهم في شرّ عظيم ومن المؤكّد أن دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقية، وانّما كانت من أجل المطامع، والكراهية الشديدة لحكم الإمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصة، وعاملهم الإمام كما يعامل سائر المسلمين.

لقد شاهد أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هذه الحرب الدامية، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشية له واستبان له أن الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم، وانّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم.

معاوية وبنو أميّة:

وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الإمام والمعادية له، معاوية بن أبي سفيان، وبنوا أميّة، فقد نزع الله الإيمان من قلوبهم، وأركسهم في الفتنة ركساً، فكانوا من ألدّ أعداء الإمام، كما كانوا من قبل من أعداءً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهم الذين ناهضوا دعوته، وكفروا برسالته، وكادوا له في غلس الليل، وفي وضح النهار، حتى أعزّه الله وأذلّهم، ونصره وقهرهم، وقد

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207