بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) 27%

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مؤلف:
الناشر: فاروس
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 207

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103717 / تحميل: 10650
الحجم الحجم الحجم
بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

مؤلف:
الناشر: فاروس
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وعن تفسير فرات بن إبراهيم، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم على فاطمةعليها‌السلام وهي حزينة، فقال لها: وساق الحديث في أحوال القيامة، إلى أن قال: فإذا بلغت باب الجنّة تلقّتك اثنا عشر ألف حوراء لم يتلقّين أحداً قبلك ولا يتلقّين أحداً بعدك بأيديهم حراب من نور، على نجائب من نور حائلها ( جلّها خ ل ) من الذهب الأصفر والياقوت الأحمر، أزمّتها من لؤلؤ رطب، على كل نجيب أبرقة من سندس منضود، فإذا دخلت الجنّة تباشر بها أهلها، ووضع لشيعتك موائد من جوهر على عمد من نور، فيأكلون منها والناس في الحساب وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، وإذا استقرّ أولياء الله في الجنّة زارك آدم، ومن دونه من النبييّن. الخبر(١) .

ورُوي عنها (سلام الله عليها)، قالت: لما نزلت( لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً ) ، هِبْتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقول له يا أبه، فكنت أقول يا رسول الله، فأعرض عنّي مرّة أو ثنتين أو ثلاثاً ثم أقبل عَليّ، فقال: يا فاطمة، إنّها لم تنزل فيك، ولا في أهلك، ولا نسلك، وأنت منّي وأنا منك، إنّما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش، أصحاب البذخ والكبر، قولي يا أبه، فإنّها أحيى للقلب، وأرضى للرب(٢) .

وعن مصباح الأنوار، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، عن فاطمة (سلام الله عليها) قالت: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( مَن صلّى عليك غفر الله تعالى له، وألحقه بي حيث كنت من الجنّة )(٣) .

الكليني، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد فاطمةعليها‌السلام ، وأنا معه، فلمّا انتهينا إلى الباب وضع يده عليه فدفعه، ثم قال: ( السلام عليكم ) فقالت فاطمةعليها‌السلام : عليك

____________________

(١) تفسير فرات: ص١٧٢ - ١٧١.

(٢) تفسير نور الثقلين: ج٣ ص٦٢٩، البرهان: ج٣ ص١٥٤.

(٣) بحار الأنوار: ج٤٣ ص٥٥.

٤١

السلام يا رسول الله قال: أدخل؟ قالت: ادخل يا رسول الله، قال: أدخل أنا ومَن معي؟ فقالت: يا رسول الله ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنّعي به رأسك، ففعلت، ثم قال: السلام عليكم، فقالت: وعليك السلام يا رسول الله قال: أدخل؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: أنا ومَن معي؟ قالت: أنت ومَن معك، قال جابر: فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخلت أنا، وإذا وجه فاطمةعليها‌السلام أصفر، كأنّه بطن جرادة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما لي أرى وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول الله، الجوع، فقال: ( اللّهمّ مشبع الجوعة، ودافع الضيعة، أشبع فاطمة بنت محمد الخ )(١) .

وعن أبي سعيد الخدري، قال: أصبح علي بن أبي طالبعليه‌السلام ذات يوم ساغباً، فقال: يا فاطمة، هل عندك شيء تغذينيه؟ قالت: لا والذّي أكرم أبي بالنبوّة وأكرمك بالوصيّة، ما أصبح الغداة عندي شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي، وعلى ابنيّ هذين الحسن والحسين، فقال عليعليه‌السلام يا فاطمة ألا كنت أعلمتني، فأبغيكم شيئاً، فقالت يا أبا الحسن: إنّي لأستحي من إلهي أن أكلف نفسك ما لا تقدر عليه(٢) .

وعن قرب الإسناد، عن أبي عبد الله، عن أبيهعليه‌السلام قال: تقاضى علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الخدمة، فقضىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فاطمةعليها‌السلام بخدمة ما دون الباب، وقضى على عليعليه‌السلام بما خلفه، قال: فقالت فاطمة (صلوات الله عليها): فلا يعلم ما داخلني من السرور إلاّ الله بإكفائي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمّل رقاب الرجال(٣) .

____________________

(١) الكافي: ج٥ ص٥٣٨ كتاب النكاح باب الدخول على النساء: ح٥. وبمعناه روى العلاّمة الدولابي في كتاب الكنى والأسماء: ٢/ ١٢٢، عن عمران بن الحصين.

(٢) البحار: ج٤٣ ص٥٩ نقلاً عن تفسير فرات.

(٣) قرب الإسناد: ص٢٥.

٤٢

عن الخرائج روي أنّ سلمان (رضي الله عنه)، قال: كانت فاطمةعليها‌السلام جالسة قدّامها رحى، تطحن بها الشعير وعلى عمود الرّحى دم سائل، والحسينعليه‌السلام في ناحية الدّار، يتضوّر من الجوع، فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفّاك وهذه فضّة، فقالتعليها‌السلام : أوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون الخدمة لها يوماً فكان أمس يوم خدمتها، قال سلمان: قلت إنّي مولى عتاقه، إمّا أنا أطحن الشعير، أو أُسكت الحسينعليه‌السلام لك؟ فقالت: أنا بتسكينه أرفق، وأنت تطحن الشعير، فطحنت شيئاً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصلّيت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا فرغت، قلت لعليعليه‌السلام ما رأيت، فبكى وخرج، ثم عاد، فتبّسم، فسأله عن ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: دخلت على فاطمة، وهي مستلقية لقفاها والحسين نائم على صدرها وقدّامها رحى تدور من غير يد، فتبسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال ( يا علي، أما علمت أنّ لله ملائكة سيّارة في الأرض يخدمون محمّداً وآل محمّد إلى أن تقوم الساعة )(١) .

وروي أنّه دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عليعليه‌السلام ، فوجده هو وفاطمةعليها‌السلام يطحنان في الجاروس، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أيكّما أعيى؟ فقال عليعليه‌السلام : فاطمة يا رسول الله، فقال لها: قومي يا بنيّة، فقامت وجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضعها مع عليعليه‌السلام فواساه في الطحن(٢) .

وعن بعض كتب المناقب، عن جابر بن عبد الله: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شقّ ذلك عليه، وطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منهنّ شيئاً، فأتى فاطمةعليها‌السلام فقال: يا بنية هل عندك شيء آكله فإنّي جائع؟ فقالت: لا والله بأبي أنت وأُمّي. فلمّا خرج من عندها بعثت إليها

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢٨ الخرائج: ج٢ ص٥٣٠. ورُوي هذا الحديث الطبري في ذخائر العقبى، عن أنس، عن بلال مؤذِّن الرسول فراجع: ص٥١ منه.

(٢) البحار: ج٤٣ ص٥٠.

٤٣

جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها ووضعته في جفنة لها، وغطّت عليها وقالت: لأؤثرنّ بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نفسي ومَن عندي. وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع إليها فقالت: بأبي أنت وأُمّي قد أتانا الله بشيء فخبّأته، قال: هلمّي، فأتته، فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلما نظرت إليه بهتت، فعرفت أنّها كرامة من الله عزّ وجل، فحمدت الله، وصلّت على نبيّه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أين لك هذا يا بنيّة؟ فقالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب. فحمد الله عزّ وجلّ وقال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء العالمين في نساء بني إسرائيل في وقتهم، فإنّها كانت إذا رزقها الله تعالى فسئلت عنه قالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق مَن يشاء بغير حساب.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليعليه‌السلام ، ثم أكل رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، وجميع أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته جميعاً وشبعوا، وبقيت الجفنة كما هي، قالت فاطمةعليها‌السلام : فأوسعت منها على جميع جيراني، وجعل الله فيها البركة والخير كما فعل الله بمريم(١) .

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢٧ ص٦٨. وروى جزءاً منه مع اختلاف في ألفاظه محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٤٦.

٤٤

فصل

في كثرة عبادتها

قال الحسن البصري: ما كان في هذه الأُمّة أعبد من فاطمةعليها‌السلام كانت تقوم حتّى تورّم قدماها(١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها: أيّ شيء خير للمرأة؟ قالت: ( أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل ) فضمّها إليه وقال: ذريّة بعضها من بعض(٢) .

وقال الحسن بن عليعليه‌السلام : رأيت أُمّي فاطمةعليها‌السلام قامت في محرابها ليلة جُمُعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أُمّاه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بنيّ، الجار ثم الدار(٣) .

وروى الصدوق عن فاطمة (صلوات الله عليها) قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ في الجمعة ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله عزّ وجلّ فيها خيراً إلاّ أعطاه إيّاه، قالت: فقلت يا رسول الله أيّة ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف

____________________

(١) المناقب: ج٣ ص٣٤١. وقد روى بمعناه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء: ٢/ ٤٠ عن أنس. وراجع أيضاً في الحديث الأوّل كتاب ربيع الأبرار للزمخشري.

(٢) المصدر السابق.

(٣) علل الشرايع: ج١ ص١٨٢، البحار: ج٤٣ ص٨٢.

٤٥

عين الشمس للغروب، قال: فكانت فاطمةعليها‌السلام تقول لغلامها: اصعد على الضراب، فإذا رأيت نصف عين الشمس تدلى للغروب فأعلمني حتّى أدعو(١) .

وروي أنّها (سلام الله عليها)، كانت إذا قامت في محرابها، زهر نورها لأهل السمّاء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض(٢) .

وروي الصدوق (رحمه الله)، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال لرجل من بني سعد: ألا أحدِّثك عنّي وعن فاطمة، إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله إليه، وأنّها استقت بالقربة حتّى أثَّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبّرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد.

فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حر [ ضرّ - خ ] ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدت عنده حداثاً فاستحت فانصرفت. قال: فعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها جاءت لحاجة،قال: فغدا علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن في لفاعنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثمّ قال: السلام عليكم، فسكتنا، ثمّ قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك، يسلّم ثلاثاً فإن أذن له وإلاّ انصرف، فقلت: وعليك السلام يا رسول الله، ادخل، فلم يعدُ أن جلس عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة: ما كانت حاجتك أمس عند محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قالعليه‌السلام : فخشيت إن لم تجبه أن يقوم، قال فأخرجت رأسي، فقلت: أنا والله أُخبرك يا رسول الله، إنّها استقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت

____________________

(١) وسائل الشيعة: ج٣ أبواب صلاة الجمعة وآدابها: ص٦٩. الضراب: الجبل الصغير، ولعلّ المراد هنا المكان المرتفع منه.

(٢) علل الشرايع: ص١٨٠. كما أورده (رضوان الله عليه) في كتاب معاني الأخبار عن أبي عبد اللهعليه‌السلام .

٤٦

ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادماً يكفيك حر [ ضرّ - خ - البحار ] ما أنت فيه من هذا العمل.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفلا أعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما، فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين، قال: فأخرجتعليها‌السلام رأسها، فقالت: رضيت عن الله ورسوله، ثلاث دفعات(١) .

المناقب، عن كتاب الشيرازي، أنّهاعليها‌السلام لما ذكرت حالها وسألت جارية، بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا فاطمة، والذي بعثني بالحق إنّ في المسجد أربعمائة رجل، ما لهم طعام ولا ثياب، ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت، يا فاطمة، إنّي لا أريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية الخ(٢) .

تفسير الثعلبي، عن جعفر بن محمدعليه‌السلام ، وتفسير القشيري، عن جابر الأنصاري، أنّه رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمةعليها‌السلام وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة. فقالت: ( يا رسول الله: الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه )(٣) .

____________________

(١) علل الشرايع: ص٣٦٦، البحار: ج٤٣ ص٨٢، كما رواه الحافظ أبو داود السجستاني في كتاب السنن: ٢/ ٢٠٦، وأبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، وغيرهم، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه. مجلت يدها: أي ثخن جلدها من العمل. دكن الثوب إذا اتّسخ واغبرّ لونه. اللفاع: ثوب يجلّلُ به الجسد. حُدّاثاً أي جماعة يتحدّثون. ولم يَعْدُ أن جلس: أي لم يتجاوز عن الجلوس. وكذلك رواه محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٥٠. وقال بعده: خرّجه أبو داود.

(٢) المناقب: ج٣ ص٣٤٢، ورواه أيضاً العلاّمة شهاب الدين النوري في نهاية الأرب: ٥/ ٢٦٠، والعلاّمة الزبيدي الحنفي في إتحاف السادة المتّقين، والعلاّمة ابن حمزة في البيان والتعريف: ص١٠١. طبع حلب، مع اختلاف يسير في ألفاظه.

(٣) المصدر السابق.

٤٧

فصل

في فضل فضّة خادمتها

أبو القاسم القشيري في كتابه، قال بعضهم: انقطعت في البادية عن القافلة فوجدت امرأة، فقلت لها: مَن أنت؟ فقالت:( وقل سلام فسوف يعلمون ) (١) ، فسلّمت عليها، فقلت: ما تصنعين ها هنا؟ قالت:( مَن يهدي الله فما له من مضلّ ) (٢) ، فقلت: أمن الجن أنت أم من الإنس؟ قالت: ( يا بني آدم خذوا زينتكم ) (٣) ، فقلت: من أين أقبلت؟ قالت:( ينادَوْنَ من مكانٍ بعيد ) (٤) ، فقلت: أين تقصدين؟ قالت:( ولله على الناس حج البيت ) (٥) ، فقلت: متى انقطعت؟ قالت: ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) (٦) ، فقلت: أتشتهين طعاماً؟ فقالت: ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) (٧) ، فأطعمتها.

____________________

(١) الزخرف: ٨٩.

(٢) الزمر: ٣٧.

(٣) الأعراف: ٣١.

(٤) فصّلت: ٤٤.

(٥) آل عمران: ٩٧.

(٦) ق: ٣٨.

(٧) الأنبياء: ٨.

٤٨

ثم قلت: هرولي وتعجّلي، فقالت:( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وُسْعَها ) (١) فقلت: أردفك؟ فقالت: ( لو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٢) ، فنزلت فأركبتها، فقالت:( سبحان الّذي سخّر لنا هذا ) (٣) ، فلما أدركنا القافلة، قلت: ألك أحد فيها؟ قالت:( يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض ) (٤) ،( وما محمّد إلاّ رسول ) (٥) ،( يا يحيى خذ الكتاب ) (٦) ،( يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ ) (٧) ، فصحت بهذه الأسماء، فإذا أنا بأربعة شباب متوجّهين نحوها، فقلت: مَن هؤلاء منك؟ قالت:( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) (٨) ، فلمّا أتوها، قالت( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) (٩) ، فكافؤني بأشياء، فقالت: ( والله يضاعف لمـَن يشاء ) (١٠) ، فزادوا عليّ، فسألتهم عنها؟ فقالوا هذه أُمنّا فضّة جارية الزهراءعليها‌السلام ، ما تكلّمت منذ عشرين سنة إلاّ بالقرآن(١١) .

____________________

(١) البقرة: ٢٨٦.

(٢) الأنبياء: ٢٢.

(٣) الزخرف: ١٣.

(٤) ص: ٢٦.

(٥) آل عمران: ١٤٤.

(٦) مريم: ١٢.

(٧) طه: ١١ و ١٤.

(٨) الكهف: ٤٦.

(٩) القصص: ٢٦.

(١٠) البقرة: ٢٦١.

(١١) المناقب: ج٣ ص٣٤٣.

٤٩

فصل

في فضيلتها وفضيلة شيعتها

روى الشيخ الأجلّ عماد الدين، أبو جعفر محمد بن أبي القاسم ابن محمد بن علي الطبري في بشارة المصطفى بإسناده عن همام أبي علي، قال: قلت لكعب الحبر: ما تقول في هذه الشيعة، شيعة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؟ قال يا همام: إنّي لأجد صفتهم في كتاب الله المنزل، إنّهم حزب الله، وأنصار دينه، وشيعة وليّه، وهم خاصّة الله من عباده، ونجباؤه من خلقه. اصطفاهم لدينه، وخلقهم لجنّته، مسكنهم الجنّة إلى الفردوس الأعلى في خيام الدر، وغرف ( غرفهم خ م ) اللؤلؤ وهم في المقرّبين الأبرار، يشربون من الرّحيق المختوم، وتلك عين يقال لها تسنيم، لا يشرب منها غيرهم، وإنّ تسنيماً(١) عين وهبها الله لفاطمة بنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، تخرج من تحت قائمة قبّتها على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك، ثم تسيل، فيشرب منها شيعتها وأحباؤها، وإنّ لقبّتها أربع قوائم، قائمة من لؤلؤ بيضاء تخرج من تحتها عين، [ تسيل في سبل أهل الجنّة يقال لها السلسبيل وقائمة من دُرّة صفراء تخرج من تحتها عين ] يقال لها طهور، [ وهي التي قال الله تعالى في كتابه:( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ) (٢) ] وقائمة من زمرّدة

____________________

(١) فإنّ التسنيم: خ م.

(٢) الإنسان: ٢١.

٥٠

خضراء تخرج من تحتها عينان نضّاختان من خمر وعسل، فكل عين منها تسيل إلى أسفل الجنان، إلاّ التّسنيم فإنّها تسيل إلى عليّين، فيشرب منها خاصة أهل الجنذة وهم شيعة عليعليه‌السلام وأحبّاؤه، وتلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ - إلى قوله -المقرّبون ) (١) ، فهنيئاً لهم، ثمّ قال كعب: والله لا يحبّهم إلاّ مَن أخذ الله عزّ وجلّ منه الميثاق.

ثمّ قال المصنِّف (قدّس الله روحه): قال محمد بن أبي القاسم: لَحَريّ أن تكتب الشيعة هذا الخبر بالذهب لإنمائه(٢) ، وتحفظه وتعمل بما فيه بما تدرك به هذه الدرجات العظيمة، لا سيّما رواية روتها العامّة فتكون أبلغ في الحجّة، وأوضح في الصحّة، رزقنا الله العلم والعمل بما أدّوا إلينا الهداة الأئمّةعليهم‌السلام ( نقلته من البحار )(٣) .

وفيه أيضاً عن كنز، بإسناده عن أبي ذر (رضي الله عنه)، قال رأيت سلمان وبلالاً يقبلان إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ انكبّ سلمان على قدم رسول الله يقبّلها، فزجره النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ثم قال له: يا سلمان لا تصنع بي ما تصنع الأعاجم بملوكها، أنا عبد من عبيد الله، آكل كما يأكل العبد، وأقعد كما يقعد العبد، فقال له سلمان: يا مولاي سألتك بالله إلاّ أخبرتني بفضل فاطمة يوم القيامة؟ قال: فأقبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضاحكاً مستبشراً، ثم قال: ( والذي نفسي بيده، إنّها الجارية التي تجوز في عرصة القيامة على ناقة رأسها من خشية الله، وعيناها من نور الله ) إلى أن قال: جبرئيل عن يمينها، وميكائيل عن شمالها، وعليّ أمامها، والحسن والحسين وراءها، والله يكلأها ويحفظها فيجوزون في عرصة القيامة فإذا النداء من قِبل الله جلّ جلاله: معاشر الخلايق، غضّوا أبصاركم ونكّسوا رؤوسكم، هذه فاطمة بنت محمّد نبيّكم، زوجة علي

____________________

(١) المطففين: ٢٥ - ٢٦ - ٢٧ - ٢٨.

(٢) لإيمانهم خ م.

(٣) بشارة المصطفى: ص٥٠.

٥١

إمامكم، أُمّ الحسن والحسين، فتجوز الصراط، وعليها ريطتان بيضاوان، فإذا دخلت الجنّة ونظرت إلى ما أعدّ الله لها من الكرامة، قرأت:( بسم الله الرّحمن الرّحيم * وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) (١) ، قال: فيوحي الله عزّ وجلّ إليها: يا فاطمة سليني أعطك وتمنّي عليّ أرضك.

فتقول: إلهي أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تعذّب محبّي ومحبّي عترتي بالنار، فيوحي الله إليها: ( يا فاطمة، وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام، أن لا أعذّب محبّيك ومحبّي عترتك بالنار )(٢) .

____________________

(١) فاطر: ٣٤ - ٣٥.

(٢) تفسير البرهان: ج٣ ص٣٦٥، وقد روى بعض فقراته محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٤٨.

٥٢

فصل

في زهدهاعليها‌السلام

السيد ابن طاووس من كتاب زهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي جعفر أحمد القمّي، أنّه لَمّا نزلت هذه الآية على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ) (١) بكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكاءً شديداً وبكت صحابته لبكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرئيل ولم يستطع أحد من صحابته أن يكلّمه، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا رأى فاطمةعليها‌السلام فرح بها، فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها فوجد بين يديها شعيراً وهي تطحن فيه وتقول:( وما عند الله خير وأبقى ) (٢) فسلّم عليها، وأخبرها بخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكائه، فنهضت والتفّت بشملة لها خَلِقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل، فلمّا خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة وبكى وقال: وا حزناه، إنّ بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير، وابنة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً! فلمّا دخلت فاطمةعليها‌السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت: يا رسول الله: إنّ سلمان تعجّب من لباسي، فو الّذي بعثك بالحق، مالي وعليعليه‌السلام منذ خمس سنين إلاّ

____________________

(١) الحجر: ٤٣ - ٤٤.

(٢) القصص: ٦٠.

٥٣

مسك كبش نعلف عليه بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإنّ مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا سلمان، إنّ ابنتي لفي الخيل السوابق.

ثم قالت: يا أبتاه فديتك، ما الذي أبكاك؟ فذكر لها ما نزل به جبرئيل من الآيتين المتقدّمتين، قال: فسقطت فاطمةعليها‌السلام على وجهها وهي تقول: ( الويل ثم الويل لمن دخل النار )، فسمع سلمان، فقال: يا ليتني كنت كبشاً لأهلي، فأكلوا لحمي ومزّقوا جلدي، ولم أسمع بذكر النّار، وقال أبو ذر: يا ليت أمّي كانت عاقراً ولم تلدني ولم أسمع بذكر النار، وقال المقداد: يا ليتني كنت طائراً في القفار، ولم يكن عليَّ حساب ولا عقاب ولم أسمع بذكر النار، وقال عليعليه‌السلام : يا ليت السّباع مزّقت لحمي، وليت أُمّي لم تلدني ولم أسمع بذكر النار.

ثم وضع يده على رأسه وجعل يبكي ويقول: وا بعد سفراه، وا قلة زاداه في سفر القيامة، يذهبون في النّار ويتخطّفون، مرضى لا يعاد سقيمهم، وجرحى لا يداوى جريحهم، وأسرى لا يفكّ أسرهم، من النار يأكلون، ومنها يشربون، وبين أطباقها يتقلبون، وبعد لبس القطن مقطّعات النار يلبسون، وبعد معانقة الأزواج مع الشياطين مقرنون(١) .

كشف الغمّة من مسند أحمد بن حنبل، عن ثوبان مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمةعليها‌السلام ، وأوّل مَن يدخل عليه إذا قدم فاطمةعليها‌السلام ، قال: فقدم من غزاة فأتاها، فإذا هو بمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسينعليهما‌السلام قُلبين من فضّة(٢) ، فرجع ولم يدخل عليها، فلمّا رأت ذلك، ظنّت أنّه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القُلبين من الصبيّين فقطعتهما، فبكى الصبيّان

____________________

(١) البحار: ج٣ ص٨٧. تفسير البرهان: ج٢ ص٣٦٤.

(٢) القُلب بالضم: السوار.

٥٤

فقسّمته بينهما، فانطلقا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما يبكيان، فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهما، وقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان - أهل بيت بالمدينة - واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج ( فإنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أحبّ أن يأكلوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا )(١).

روى الشيخ الجليل أبو جعفر بن جرير الطبري في الدلائل بإسناده إلى ابن مسعود، أنّه جاء إلى فاطمةعليها‌السلام ، فقال: يا ابنة رسول الله، هل ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندك شيئاً تطرفينيه؟ فقالت (سلام الله عليها): يا جارية هات ( هاتي ظ ) تلك الجريدة، فطلبتها فلم تجدها، فقالت (سلام الله عليها): ويحكِ اطلبيها فإنّها تعدل عندي حسناً وحسيناً، فطلبتها فإذا هي قد قمّمتها في قمامتها(٢) فإذا فيها:

قال محمّد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من المؤمنين مَن لم يأمن جاره بوائقة، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت، إنّ الله تعالى يحبّ الخيّر الحليم المتعفّف، ويبغض الفاحش البذّاء السئّال الملحف، إنّ الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة، وإنّ الفحش من البذاء والبذاء في النار(٣) .

____________________

(١) البحار: ج٣٤ ص٨٩، وأورده محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٥١ - ٥٢ وقال: خرجه أحمد. والعصب: سن دابة بحرية تسمّى فرس فرعون ويكون أبيض.

(٢) القمامة: كناسة الدار وأشباهها.

(٣) دلائل الإمامة: ص١.

٥٥

فصل

روى الشيخ الصدوق عن ابن عباس، في خبر طويل في إخبار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بظلم أهل البيت، فمّما أخبر به أن قال: وأمّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الأنسيّة، متى قامت في محرابها بين يدي ربّها جلّ جلاله، زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزّ وجلّ لملائكته: ( يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة سيّدة إمائي، قائمة بين يديّ ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها إلى عبادتي، أشهدكم أنّي قد أمنت شيعتها من النار ).

أقول: ثم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وإنّي لَمّا رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذّل بيتها، وانتهكت حرمتها وغصب حقّها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمّداه فلا تُجاب، وتستغيث فلا تُغاث، فلا تزال بعدي محزونة، مكروبة، باكية، تتذكّر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة، وتتذكّر فراقي أُخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل لفقد صوتي الّذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدتُ بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيّام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران فتقول: ( يا فاطمة، إنّ الله اصطفاك وطهرّك

٥٦

واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين ).

ثم يبتدي بها الوجع فتمرض، فيبعث الله عزّ وجلّ إليها مريم بنت عمران تمرضها وتؤنسها في علّتها، فتقول عند ذلك: يا رب إنّي قد سئمت الحياة وتبرّمت بأهل الدنيا، فألحقني بأبي، فيلحقها الله عزّ وجلّ بي، فتكون أوّل مَن يلحقني من أهل بيتي، فتُقْدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة، مغصوبة، مقتولة فأقول عند ذلك: ( اللّهمّ العن مَن ظلمها، وعاقب مَن غصبها، وأذلّ مَن أذلّها، وخلّد في نارك مَن ضرب جنينها حتّى ألقت ولدها ) فتقول الملائكة عند ذلك آمين(١) .

____________________

(١) الأمالي للصدوق: ص١١٣. كما رواه الديلمي في إرشاد القلوب، والمجلسي في البحار، والجويني في فرائد السمطين: ٢ / ٣٤ - ٣٥.

٥٧

فصل

حديث تزويج فاطمة لعليٍّعليه‌السلام

في البحار عن أمالي الشيخ بسنده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: لَمّا زوّج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمةعليها‌السلام عليّاًعليه‌السلام دخل عليها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك، فو الله لو كان في أهل بيتي خير منه زوّجتك، وما أنا زوّجتك، ولكنّ الله زوّجك وأصدق عنك الخمس ما دامت السموات والأرض.

قال عليعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قم فبع الدِّرع، فقمت فبعته وأخذت الثّمن ودخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسكبت الدًّراهم في حجره، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته، ثم قبض قبضة ودعا بلالاً فأعطاه فقال: ابتع لفاطمة طيباً، ثم قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الدَّراهم بكلتا يديه فأعطاه أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، وأردفه بعمّار بن ياسر وبعدَّة من أصحابه.

فحضروا السوق، فكانوا يعترضون الشيء ممّا يصلح فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر، فإن استصلحه اشتروه، قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبريّة، وسرير مزمَّل(١)

____________________

(١) مزمّل أي ملفوف، والشريط خوص مفتول يشرط به السرير، والخيش: ثياب في نسجها رقّة وخيوطها غلاظ. قوله: من جزّ الغنم أي من الصوف الذي جزّ من الغنم.

٥٨

بشريط، وفراشين من خيش مصر، حشو أحدهما ليف وحشو الأخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها أذخر، وستر من صوف، وحصير هجري(١) ورحىّ لليد، ومِخْضَب(٢) من نحاس، وسقاء من أدم، وقعب(٣) للبن، وشنّ للماء، ومطهرة مزفَّتة، وجرة خضراء، وكيزان خزف، حتّى إذا استكمل الشراء، حمل أبو بكر بعض المتاع، وحمل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين كانوا معه الباقي، فلمّا عرض المتاع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل يقلّبه بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت.

قال عليعليه‌السلام : فأقمت بعد ذلك شهراً أُصلّي مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرجع إلى منزلي ولا أذكر شيئاً من أمر فاطمةعليها‌السلام ، ثم قلن أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألاَ نطلب لك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخول فاطمةعليه‌السلام عليك؟ فقلت: افعلن، فدخلن عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت أم أيمن: يا رسول الله، لو أن خديجة باقية لقرَّت عينها بزفاف فاطمة، وإنّ عليّاً يريد أهله، فقرَّ عين فاطمة ببعلها واجمع شملها، وقرَّ عيوننا بذلك، فقال: ما بال عليّ لا يطلب منّي زوجته، فقد كنّا نتوقّع ذلك منه، قال عليعليه‌السلام : فقلت الحياء يمنعني يا رسول الله.

فالتفت إلى النّساء فقال: مَن ها هنا، فقالت أُمّ سلمة: أنا أمُّ سلمة: وهذه زينب وهذه فلانة وفلانة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هيّئن لابنتي وابن عمّي في حُجري بيتاً، فقالت أُمّ سلمة: في أي حجرة يا رسول الله؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في حجرتك، وأمر نساءه أن يزيَّن ويصلحن من شأنها.

قالت أُمّ سلمة: فسألت فاطمة، هل عندك طيب ادّخرتيه لنفسك؟ قالت: نعم. فأتت بقارورة فسكبت منها في راحتي، فشممت منها رائحة ما

____________________

(١) هَجَر محرّكة: بلدة باليمن، وقرية كانت قرب المدينة راجع هامش البحار.

(٢) المخصب كمنبر: المركن.

(٣) القعب: قدح من خشب.

٥٩

شممت مثلها قطّ، فقلت: ما هذا؟ فقالت: كان يدخل دحية الكلبي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول لي: يا فاطمة: هات الوسادة فاطرحيها لعمّك، فأطرح له الوسادة فيجلس عليها، فإذا نهض سقط من بين ثيابه شيء فيأمرني بجمعه، فسأل عليّعليه‌السلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك؟ فقال هو عنبر يسقط من أجنحة جبرئيل.

قال عليعليه‌السلام : ثمّ قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي، اصنع لأهلك طعاماً فاضلاً، ثم قال: من عندنا اللّحم والخبز، وعليك التمر والسّمن، فاشتريت تمراً وسمناً، فحسر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذراعه وجعل يشدخ(١) التّمر في السّمن حتّى اتّخذه حيساً(٢) ، وبعث إلينا كبشاً سميناً فذُبح وخُبزَ لنا خبز كثير.

ثم قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادع مُن أحببت، فأتيت المسجد وهو مشحن بالصّحابة، فحييت أن أشخص قوماً وأدع قوماً، ثمّ صعدت على ربوة هناك وناديت: أجيبوا إلى وليمة فاطمة، فأقبل الناس أرسالاً فاستحييت من كثرة الناس وقلّة الطعام، فعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تداخلني، فقال: يا عليُّ، إنّي سأدعو الله بالبركة.

قال عليعليه‌السلام : فأكل القوم عن آخرهم طعامي، وشربوا شرابي، ودعوا لي بالبركة، وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل ولم ينقص من الطعام شيء.

ثم دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصّحاف فمُلِئَت، ووجّه بها إلى منازل أزواجه، ثم أخذ صحفة وجعل فيها طعاماً وقال: هذا لفاطمة وبعلها، حتى إذا انصرفت الشمس للغروب، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أُمّ سلمة، هلمّي فاطمة، فانطلقت فأتت بها وهي تسحب أذيالها، وقد تصبّبت عرقاً حياءً من

____________________

(١) الشدخ: كسر الشيء.

(٢) الحيس: هو تمر يخلط بسمن وأقط. وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وأمطر في كل البلاد صواعقاً

وهبت له ريح من الشر زعزع

فلم ينج منهم غير من باع دينه

وقال بما يرضي الضلوع ويقنع

ولا عز إلّا من أتى بنميمة

ولا ذل إلّا مؤون متورع

منازل أهل الجور في كل بلدة

عمار وأهل العدل في تلك بلقع

يقولون في أرض العراق مشعشع

وهل بقعة إلّا وفيها مشعشع

فلا فرق إلّا عجزهم واقتداره

وظلمهم فيما يطيقون اشنع

لقد صاقت الآفاق وارتق الفضا

فليس لأهل الدين في الأرض موضع

فهل عامر في الأرض بل أو مفازة

وليس لها في الظلم جمع مجمع

وما سن فيها الظلم إلّا عصابة

تقول على آل النّبي تجمع

فأولهم نسل القحافي حبتر

لئيم له في اللؤم أصل وموضع

أبوه دعى لابن جذعان خادم

وحبترة أدنى محل وأوضع

وتابعه ابن الصهاكي أدلم

عتل زنيم فاجر متبدع

إذا كان منسوباً لسبع

فهل عجب فيما يقول ويصنع

وتابعه في الظلم آل اُميّة

تواطوا على ظلم الوصي وأجمعوا

فلم يتركوا للدين أصلاً يقله

ولم يتركوا فرعاً له يتفرع

وقادوا عليّاً في حمائل سيفه

وكسر أسيافاً لقوم وأضلع

كسيف زبير ثمّ ضلع ابن ياسر

وضلع ابن مسعود وللصحف قطع

إذا فعلوا هذا بأصحاب أحمد

وقالوا لنا إن الصحابة أجمعوا

على حبتر ثمّ ارتضوه أميرهم

فهل عاقل يرضى بهذا ويقنع

وفاطمة الزّهراء حازوا تراثها

عناداً فجاءت حبتراً تتشفع

فقال أبوك المصطفى قال معلناً

بأن أولي القربى من الإرث يمنعوا

فقالت فهاتوا نحلتي وعطيتي

فقالوا لها هل شاهد لك يسمع

فقالت شهودي أذهب الرجس عنهم

لهم آية التطهير ما فيه مدفع

هم حيدر وابناه مع اُمّ أيمن

فهل لك في رد الشهادة مطمع

فقال لها ظلماً وكفراً وقسوة

فلسنا بقول البعل والابن نقنع

فلما رأت تصميمه في ضلاله

وليس عن العصيان أو الظلم يقلع

١٤١

فقامت وأنت عند ذلك أنة

يكاد لها صم الصفا يتصدع

وتابعت الزفرات والنوح والبكا

إلى أن قضت لم يرق للطهر مدمع

فيا عجباً من رده لشهودها

وقول أناس ليس في الكفر تطمع

ألم يفقهوا أقواله وفعاله

ألم ينظروا يا ويلهم ثمّ يسمعوا

فهل رد إلّا من نفى الرجس عنهم

ورد الذي قد جاء بالوحي يصدع

يزكي إله العالمين وأحمد

أناساً ويأتي نغل تيم ويمنع

فتباً لها من اُمة ضل سعيها

توالي كفراً بالإله وتتبع

وأعظم من كل الرزايا رزية

مصارع يوم الطّفّ أدهى واشنع

بها لبس الدين الحنيفي خلعة

من الذل لا تبلى ولا تتقطع

فما أنس لا أنس الحُسين ورهطه

وعترته بالطف ظلماً تصرع

ولم أنسه والشمر من فوق رأسه

يهشم صدراً وهو للعلم مجمع

ولم أنس مظلوماً ذبيحاً من القنا

وقد كان نور الله في الأرض يلمع

يقبله الهادي النّبي بنحره

وموضع تقبيل النّبي يقطع

إذا حز عضو منه نادى بجده

وشمر على تصميمه ليس يرجع

وميز عنه الرأس ظلماً وقسوة

ولا عينه تندو ولا القلب يخشع

تزلزلت الأفلاك من كل جانب

تكاد السما تنقض والأرض تقلع

وعرج جبرائيل ينوح بحرقة

ويشجي أملاك السما ويفجع

وضجت أملاك السّماء وتناوحت

طيور الفلا والوحش والجن أجمع

وجئن كريمات الرّسول حواسراً

ولم يبق جيب لا يشق ويرقع

تقبل جثمان الحُسين سكينة

وشمر لها بالسوط ضرباً يقنع

فيؤلمها ضرب السياط فتلتجي

لعمتها من حيث بالضرب توجع

تقول له يا شمر ويحك خلها

إذا كان بالتقبيل ترضى وتقنع

وترفع صوتاً اُمّ كلثوم بالبكا

وتشكو إلى الله العلي وتضرع

وتندب من عظم الرزية جدها

فلو جدنا ينظر إلينا ويسمع

أيا جدنا نشكو إليك اُميّة

فقد بالغوا في ظلمنا وتبدعوا

أيا جدنا لو أن رأيت مصابنا

لكنت ترى أمراً له الصخر يصدع

أيا جدنا هذا الحُسين معفراً

على الترب محزوز الوريدين مقطع

١٤٢

فجثمانه تحت الخيول ورأسه

عناداً بأطراف الأسنة برقع

أيا جدنا لم يتركوا من رجالنا

كبيراً ولا طفلاً على الثدي يرضع

أيا جدنا لم يتركوا لنسائنا

خماراً ولا ثوباً ولم يبق برقع

أيا جدنا سرنا عرايا حواسرا

كأنا سبايا الروم بل نحن أوضع

أيا جدنا لو أن ترانا أذلة

أسارى إلى أعدائنا نتضرع

ايا جدنا نسترحم القوم لم نجد

شفيعاً ولا من ذي الإساءة يدفع

أيا جدنا شمر يبز قناعنا

ويضربنا ضرب الإماء ويوجع

أيا جدنا زين العباد مكبل

عليل سقيم مدنف متوجع

إذا ما رآنا حاسرات بلا غطا

تكاد الحشا تنفت والروح تنزع

فيصرف عنا الوجه من غير بغضة

ويرنو إلى الرأسُ الحُسينُ فيجزع

فما فعلت عاد كفعل اُميّة

ولكنهم آثار قوم تتبع

فما قتل السبط الشهيد ورهطه

سوى عصبة يوم السقيفة أجمعوا

وما ذاك إلّا سامري وعجله

أهم أصلوا للظلم والقوم فرعوا

ألا لعن الله الذين توازروا

على ظلم آل المصطفى وتجمعوا

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

بكم مفلح مستعصم متمنع

وأنتم ملاذي عند كل كريهة

وأنتم له حصن منيع ومفزع

إذا كنتم درعي ورمحي ومنصلي

فلا اختشي بأساً ولا أتروع

بك أتقي هول المهمات في الدنا

وأهوال روعات القيامة أدفع

فدونكموها من محب ومبغض

له كبد حرى وقلب مفجع

ولا طاقتي إلّا المدائح والهجا

وليس بهذا علة القلب تنفع

الا ساعة فيها أجرد صارماً

وأضرب هام القوم حتّى يصرع

فحينئذ يشفي الفؤاد وحزنه

مقيم ولو لم يبق للقوم موضع

فكيف ولو بالحر قسنا جميعهم

لزاد عليهم للرياحي اصبع

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

ويا من بهم يعطي الإله ويمنع

ألا فاقبلوا من عبدكم ومحبكم

قليلاً فإن الحر يرضى ويقنع

فإن كان تقصير بما قد أتيته

فساحة غدري يا موالي مهيع

فلست بقوال ولست بشاعر

ولكن من فرط الأسى أتولع

١٤٣

الباب الثّالث

أيّها الإخوان , كيف تخفي زفرات الأحزان ؟ أم كيف تطفي لهبات الأشجان ؟ أتراكم ما تعلمون ما جرى على سادات الزّمان في تلك الأماكن والأوطان ؟ قسماً بالبيت العتيق , لو فكّر المؤمن فيما اصابهم من المحن , لغدى روحه أن تخرج من البدن , كيف لا وهم أنوار الله في أرضه وسمائه , وأصفياء الله وأبناء أصفيائه ! اجتروا عليهم فقطّعوا منهم الأوصال , وجدّلوهم على الرّمال , وجرّعوهم كؤوس الحتوف بأرض الطّفوف , وأخذوا نساءهم سبايا على أقتاب المطايا , عرايا حفايا على أيدي أهل العناد وأشرّ العباد , أمر تكاد السّماوات أن يتفطّرن منه , وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا :

والله ما عاد بأعظم جرأة

منهم ولا فعلت ثمود وتبع

وناداهم لما به حفوا معاً

زمراً ولم يك من لقاهم يجزع

يا شر خلق الله ما من مسلم

منكم له دين يكف ويردع

حرم النّبي تموت من حر الظما

والوحش في ماء الشريعة يترع

ألكم طلائب عندنا تبغونها ؟

أم ما عرفتم ويلكم ما يصنع

فيا لهف نفسي على الكهول والشّبان ! ويا تأسّفي على تلك الأجسام والأبدان ! فيا ليتني كنت تراباً لأقدامهم , وخادماً من جملة خدّامهم.

روي عن المفضل بن عمر , قال : قُلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام ) : كيف كانت ولادة فاطمة (عليها‌السلام ) ؟ فقال : (( نعم , إنّ خديجة لمـّا تزوج بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , هجرتها نساء مكّة , وكنّ لا يدخلنّ إليها ولا يسلّمنّ عليها ولا يتركن امرأة تدخل إليها , فاستوحشت خديجة لذلك , فلمّا حملت بفاطمة , كانت فاطمة تحدّثها في بطنها وتصبّرها , وكانت تكتم ذلك عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فدخل يوماً فسمع خديجة تحدّث فاطمة , فقال لها : يا خديجة , مَن تحدثين ؟ قالت : الجنين في بطني يحدّثني ويؤنسني .قال : يا خديجة , هذا جبرائيل يبشّرني أنّها ابنتي , وأنّها النّسلة الطّاهرة الميمونة , وأنّ الله سيجعل نسلي منها , وسيجعل من نسلها أئمة , ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه.

فلم تزل خديجة (عليها‌السلام ) على ذلك حتّى حضرت ولادتها , فوجّهت إلى نساء قُريش

١٤٤

وبني هاشم : أن تعالين لتلين منّي ما تلي النّساء من النّساء .فأرسلنّ إليها : عصيتينا ولم تقبلي قولنا , وتزوجت مُحمّداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له , فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً .فاغتمّت خديجة (عليها‌السلام ) لذلك , فبينما هي كذلك , إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنّهن من نساء بني هاشم , ففزعت منهنّ لمـّا رأتهن , فقالت إحداهنّ : لا تحزني يا خديجة , إنّا رسل ربّك ونحن أخواتك ؛ أنا سارة , وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنّة , وهذه مريم بنت عمران , وهذه كلثم أخث موسى بن عمران , بعثنا الله إليك ؛ لنلي منك ما تلي النّساء من النّساء .فجلست واحدة عن يمينها واُخرى عن يسارها, والثّالثة بين يديها والرّابعة من خلفها , فوضعت فاطمة (عليها‌السلام ) طاهرة مطهّرة , فلمّا سقطت إلى الأرض , أشرق منها النّور حتّى دخل بيوت مكّة , ولم يبق في شرق الأرض ولا في غربها إلّا أشرق فيه ذلك النّور , ودخل عشر من الحور العين , كلّ واحدة منهنّ معها طشت من الجنّة وإبريق من الجنّة , وفي الإبريق ماء من ماء الكوثر , فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها , فغسّلتها بماء الكوثر , وأخرجت خرقتين بيضاوين , أشدّ بياضاً من اللبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر , فلفّتها بواحدة وقنّعتها بالثّانية , ثمّ استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها‌السلام ) بالشّهادتين , فقالت : أشهد أن لا إله إلّا الله , وأنّ أبي مُحمّد رسول الله سيّد الأنبياء , وأنّ بعلي سيّد الأوصياء , وولدي سادة الأسباط , ثمّ سلّمت عليهنّ واحدة وسمّت كلّ واحدة باسمها , وأقبلنّ يضحكن إليها , وتباشرت الحور العين , وبشّر أهل السّماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة , وحدث في السّماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك , ثمّ قالت النّسوة : خذيها يا خديجة , طاهرة مطهّرة زكية ميمونة , بورك فيها وفي نسلها .فتناولتها فرحة مستبشرة , وألقمتها ثديها فدرّ عليها , وكانت فاطمة تنمو في اليوم كما ينمو الصّبي في الشّهر , وفي الشّهر كما ينمو الصّبي في السّنة )).

وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال : (( فاطمة سيدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين , وأنّها لتقوم في محرابها , فيسلّم عليها سبعون ألف مَلك من الملائكة المقرّبين , وينادونها بما نادت به الملائكة مريم , فيقولون : يا فاطمة , إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين .ثمّ يلتفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فيقول له : يا عليّ , فاطمة بضعة منّي وهي نور عيني وثمرة فؤادي , يسوءني ما ساءها

١٤٥

ويسرّني ما سرّها , وإنّها أوّل من يلحقني من أهل بيتي , فأحسن إليها بعدي )) .:

يا نفس إن تتلقي صبراً فقد ظلمت

بنت النّبي رسول الله وإبناها

تلك التي أحمد المختار والدها

وجبرائيل أمين الله رباها

الله طهرها من كل فاحشة

من كل ريب وزكاها وصفاها

فهذا يا إخوان الدّين ما وصل إلينا في ولادة بنت سيّد المرسلين.

وأمّا ولادة الحُسين بن عليّ (عليهما‌السلام ) , فقد روي فيها عن ابن عبّاس , قال : لمـّا أراد الله أن يهب لفاطمة الزّهراء , وكان في رجب في اثني عشر ليلة خلت منه ، فلمّا وقعت في طلقها , أوحى الله عزّ وجلّ إلى لعيا ( وهي : حوراء من الجنّة ) وأهل الجنان إذا أرادوا أن ينظروا إلى شيء حسن نظروا إلى لعيا ، قال : ولها سبعون ألف وصيفة , وسبعون ألف قصر , وسبعون ألف مقصورة , وسبعون ألف غرفة مكلّلة بأنواع الجواهر والمرجان , وقصر لعيا أعلا من تلك القصور ومن كلّ القصور في الجنّة , إذا أشرفت على الجنّة , نظرت جميع ما فيها وأضاءت الجنّة من ضوء خدّها وجبينها , فأوحى الله إليها : (( أن اهبطي إلى دار الدّنيا , إلى بنت حبيبي مُحمّد فآنسي لها )) .فأوحى الله إلى رضوان خازن الجنان : (( أن زخرف الجنّة وزيّنها ؛ كرامة لمولود يولد في دار الدّنيا )) .وأوحى الله إلى الملائكة : (( أن قوموا صفوفاً بالتّسبيح والتّقديس والثّناء على الله تعالى )) .وأوحى إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل : (( أن اهبطوا إلى الأرض في قنديل من الملائكة )) .قال ابن عباس : والقنديل ألف ألف ملك , فبينما هبطوا من سماء إلى سماء , إذا في السّماء الرّابعة ملك يُقال له (صلصائيل) , له سبعون ألف جناح قد نشرها من المشرق إلى المغرب , وهو شاخص نحو العرش ؛ لأنّه ذكر في نفسه فقال : ترى الله يعلم ما في قرار هذا البحر , وما يسير في ظلمة الليل وضوء النّهار ؟ فعلم الله تعالى في نفسه , فأوحى الله إليه : (( أن أقم مكانك لا تركع ولا تسجد ؛ عقوبة لك لما فكّرت )).

قال : فهبطت لعيا على فاطمة , وقالت لها : مرحباً بك يا بنت مُحمّد كيف حالك ؟ قالت (عليها‌السلام ) لها : (( بخير )) .ولحق فاطمة الحياء من لعيا لم تدري ما تفرش لها , فبينما هي متفكّرة , إذ هبطت حوراء من الجنّة ومعها درنوك من درانيك الجنّة , فبسطته في منزل فاطمة فجلست عليه لعيا , ثمّ إنّ فاطمة (عليها‌السلام ) ولدت الحُسين (عليه‌السلام ) في وقت الفجر , فقبّلته لعيا وقطعت سرّته ونشّفته بمنديل من

١٤٦

مناديل الجنّة , وقبّلت عينيه وتفلت في فيه , وقالت له : بارك الله فيك من مولود وبارك في والديك .وهنأت الملائكة جبرائيل , وهنأ جبرائيل مُحمّداً سبعة أيّام بلياليها , فلمّا كان في اليوم السّابع , قال جبرائيل : يا مُحمّد , آتنا بابنك هذا حتّى نراه .قال : فدخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأخذ الحُسين وهو ملفوف بقطعة صوف صفراء , فأتى به إلى جبرائيل , فحلّه وقبّله بين عينيه وتفل في فيه , وقال : بارك الله فيك من مولود , وبارك في والديك يا صريع كربلاء ! ونظر إلى الحُسين وبكى , وبكى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبكت الملائكة , وقال جبرائيل : اقرأ فاطمة ابنتك السّلام , وقُل لها : تُسمّيه الحُسين , فقد سمّاه الله جلّ إسمه , وإنّما سُمّي الحُسين ؛ لأنّه لم يكُن في زمانه أحسن منه وجهاً .فقال رسول الله (ص) : (( يا جبرائيل , تهنيني وتبكي ؟! )) .قال: نعم يا مُحمّد , آجرك الله في مولودك هذا .فقال (ص) : (( يا حبيبي جبرائيل ومَن يقتله ؟ )) .قال : شراذمة من اُمّتك يرجون شفاعتك لا أنالهم الله ذلك .فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) .قال جبرائيل : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخاضت في عذاب الله .ودخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأقرأها من الله السّلام , وقال لها : (( يا بنيّة , سمّيه الحُسين فقد سمّاه الله الحُسين )) .فقالت : (( من مولاى السّلام وإليه يعود السّلام , والسّلام على جبرائيل )) .وهنأها النّبي وبكى ، فقالت : (( يا أبتاه ! تهنئني وتبكي ؟ )) .قال : (( نعم يا بنيّة ! آجرك الله في مولودك هذا )) .فشهقت شهقة وأخذت في البكاء وساعدتها لعيا ووصائفها , وقالت : (( يا أبتاه ! مَن يقتل ولدي وقرّة عيني وثمرة فؤادي ؟ )) .قال : (( شراذمة من اُمّتي يرجون شفاعتي لا أنالهم الله ذلك )) قالت فاطمة : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) .قالت لعيا : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخابت في عذابه .(( يا أبتاه ! اقرىء جبرائيل عنّي السّلام , وقُل له في أيّ موضع يُقتل ؟ )).قال : (( في موضع يُقال له كربلاء , فإذا نادى الحُسين لم يجبه أحد منهم , فعلى القاعد من نصرته لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ، ألا أنّه لن يُقتل حتّى يخرج من صلبه تسعة من الأئمة , ثمّ سمّاهم بأسمائهم إلى آخرهم , وهو الذي يخرج آخر الزّمان مع عيسى بن مريم ، فهؤلاء مصابيح الرّحمن وعروة السّلام , محبّهم يدخل الجنّة ومبغضهم يدخل النّار )).

قال : وعرج جبرائيل وعرج الملائكة وعرجت لعيا , فبقي الملك صلصائيل , فقال : يا حبيبي , أقامت القيامة على أهل

١٤٧

الأرض ؟ قال : لا ، ولكن هبطنا إلى الأرض , فهنئنا مُحمّداً بولده الحُسين .قال : حبيبي جبرائيل , فاهبط إلى الأرض , فقل له: يا مُحمّد , اشفع إلى ربّك في الرّضا عنّي ؛ فإنّك صاحب الشّفاعة .قال : فقام النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ودعا بالحُسين (عليه‌السلام ) , فرفعه بكلتا يديه إلى السّماء , وقال : (( اللّهمّ , بحقّ مولودي هذا عليك إلّا رضيت على الملك )) .فإذا النّداء من قبل العرش : (( يا مُحمّد , قد فعلت وقدرك كبير عظيم )) .قال ابن عباس : والذي بعث مُحمّداً بالحقّ نبيّاً , إنّ صلصائيل يفخر على الملائكة؛ أنّه عتيق الحُسين , ولعيا تفخر على الحور العين ؛ بأنّها قابلة الحُسين.

فيا إخواني , يحقّ لـمَن فارقته ساداته الذين بهم سعادته , ولم يتمكّن من الوصول إليهم , ولبذل نفسه في الجهاد بين يديهم, أن تسيل دموعه الهاطلة وتزيد حرقته المواصلة , ويواصل النّوح بالعويل لا سيّما لو كان بذاك رضا الجليل ، فنوحوا يا إخواني على ساداتكم الكرام , وتمثّلوا ما أصابهم من الكفرة اللئام , قتلوا رجالهم وذبحوا أطفالهم ونهبوا أموالهم ، فعلى مثلهم فليبك الباكون , وعلى مثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة لابن المتوج (رحمه ‌الله ت عالى)

ألا نوحوا وضجوا بالبكاء

على السبط الشهيد بكربلاء

ألا نوحوا بسكب الدمع حزناً

عليه وامزجوه بالدماء

الا نوحوا على من قد بكاه

رسول الله خير الأنبياء

ألا نوحوا على من قد بكاه

عليّ الطهر خير الأوصياء

ألا نوحوا على من قد بكته

حبيبة أحمد ست النساء

ألا نوحوا على من قد بكاه

لعظم الشجو أملاك السماء

ألا نوحوا على قمر منير

عراه الخسف من بعد الضياء

ألا نوحوا على غصن رطيب

ذوي بعد النظارة والبهاء

ألا نوحوا لخامس آل طه

وياسين وأصحاب العباء

ألا نوحوا على شرف القوافي

ومتخرة المرائي والثناء

ألا نوحوا عليه وقد أحاطت

به خيل البغاء الأشقياء

١٤٨

إذ أقبل واعظاً فيهم خطيباً

وبالغ في النصيحة والدعاء

ألا يا قوم أنشدكم فردوا

جوابي هل يحل لكم دمائي

وجدي أحمد وأبي عليّ

وأمي فاطم ست النساء

فقالوا هل نطقت بقول صدق

وقد أخبرت بالحق السواء

ولكن قد أمرنا لا نخلي

سبيلك أو تبايع بالوفاء

وإلّا بالقواضب والعوالي

نجرعكم بها غصص الظماء

فقال أبالقتال تخوفوني

وهل تخشى الأسود من الظباء

فنادوا للقتال معاً ونادى

أخيل الله هبي للقاء

فكافحهم على غصص إلى أن

أبادوا ناصريه ذوي الوفاء

وصادفهم بمهجته إلى أن

أتاه سهم أشقى الأشقياء

فخرّ وبادر الملعون شمر

وحز وريده بعد ارتقاء

وعلا رأسه في رأس رمح

وخلى الجسم شلواً بالعراء

ومالوا في الخيام فحرقوها

وعاثوا في الذراري والنساء

وساقوا الطاهرات مهتكات

على قتب الجمال بلا وطاء

ألا يا آل ياسين فؤادي

لذكري مصابكم حلف الضناء

فأنتم عدتي لي في يوم معادي

إذا حشر الخلائق للجزاء

وما أرجو لآخرتي سواكم

وحاشا أن يخيب بكم رجائي

أنا ابن متوج توجتموني

بتاج الفخر طراً والبهاء

صلاة الخلق والخلاق تترى

عليكم بالصباح وبالمساء

ولعنته على قوم أباحوا

دماءكم بظلم وافتراء

١٤٩

المجلس الثّامن

في اليوم الرّابع من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب

الباب الأول

تفكّروا أيّها الإخوان في أهل الظّلم والعدوان , كيف حملتهم الأحقاد والغلّ الكامن في الفؤاد , على انتهاك حرمة الرّسول وذرّيّة الزّهراء البتول , فصرعوهم على الرّمال ولم يراقبوا الكبير المتعال , ولا بما قيل وقال , بل رفعوا رؤوس آل النّبي على الرّماح , وتركوا أجسادهم شاحبة تسفى عليها الرّمال ، فهم ما بين قتيل يجري منه الصّديد وأسير مكبّل بالحديد ، وامرأة تحنّ ومريض يئنّ ، وسبايا كسبي العبيد ، يُقادون بالعنف إلى يزيد , كأنّهم اُسارى بني الأصفر وليسوا من ذرّيّة النّبي المطهّر :

قليل لهذا الرزء تكوير شمسها

وإن تفطر السبع الشداد له قطرا

مصاب بكت منه السّماء وأهلها

وأشقت به الشم الرعان على المسرى

وخطب جليل قليل حين حلوله

لدمع رسول الله من عينه أجرى

ليبك بنو السلام طراً عليهم

كما بكت الآيات والملّة الغرا

حملتهم الدُنيا الدّنيّة على قتل العترة النّبوية .وقد ورد في الخبر عن سادات البشر , حبّها من أعظم الأخطار الموجبة للسخط ودخول النّار.

وفي الحديث القدسي : (( لو صلّى عبدي صلاة أهل السّماوات وأهل الأرضين , وصام صيام أهل السّماوات وأهل الأرضين , وحجّ حجيج أهل السّماوات وأهل الأرضين

١٥٠

وطوى عن أكل الطّعام مثل الملائكة المقرّبين , ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدّنيا ذرّة , أو من سمعتها أو من رئاستها , أو من محمدتها أو من حليتها , أو من زينتها أدنى من ذرّة , فإنّه لا يجاورني في دار كرامتي ، ولأنزعنّ من قلبه محبّتي , ولأظلمنّ قلبه حتّى ينسى ذكري ؛ حتّى لا أذيقه رحمتي يوم القيامة )).

وفي الخبر عن الصّادق (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا كان يوم القيامة , يمرّ رسول الله بشفير جهنّم , ومعه عليّ بن أبي طالب والحسن والحُسين (عليهم‌السلام ) , فيراهم المختار وهو يومئذ في النّار , فينادي بصوت عال : يا شفيع المذنبين ! أنقذني من النّار .فلم يجبه ، فينادي : يا عليّ ! أغثني من النّار .فلم يجبه ، فينادي : يا حسن يا سيّد شباب أهل الجنّة ! أدركني .فلم يجبه ، فينادي : يا حُسين يا سيّد الشّهداء ! أنا الذي قتلت أعداءك وأخذت لك بالثأر , أنقذني من النّار .فيقول النّبي : يا حُسين , إنّ المختار قد احتجّ عليك بأخذ الثّأر من أعدائك , فأنقذه من النّار .قال : فينتفض الحُسين (عليه‌السلام ) سريعاً كالبرق الخاطف , ويخرجه من النّار , ويغمسه في نهر الحيوان , ويدخله الجنّة مع الأخيار ببركة النّبي المختار )).

فسُئل الصّادق (ع) : يابن رسول الله , فلِمَ اُدخل المختار النّار وهو من الأخيار والشّيعة الأبرار , وأفضل الأنصار لأهل بيت النّبي المختار ؟! فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّ المختار كان يحبّ السّلطنة , وكان يحبّ الدّنيا وزينتها وزخرفها , وأنّ حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة ؛ لأنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : والذي بعثني بالحقّ نبياً , لو أنّ جبرائيل أو ميكائيل كان في قلبهما ذرّة من حبّ الدّنيا , لأكبّهما الله على وجوههما في نار جهنّم )).

فنزّهوا أيّها الإخوان أنفسكم عن الرّاكعون إلى الدُنيا , وإيّاكم وطلب الرّئاسة والعليا ؛ فإنّها دار لا يدوم فيها نعيم , ولم يبق أحد من شرّها سليم , وكيف يرضى العاقل بالدّنيا دار بعد آل الرّسول وسلالة الطّاهرة البتول ؟! هذه والله دار غدرت بمواليها , فلا خير والله فيها إلّا مَن اتخذ فيها الزّاد ليوم المعاد ، ولعمري , لا عمل فيها أفضل من موالاة الآل , الدّافعة لتلك الأهوال يوم الحشر والمآل :

هم السادة الأطهار آل محمد

هم الدين والدنيا لمن يتعقل

هم الطور والأعراف والنور والضحى

وياسين والأحقاف والمترمل

مهابط وحي الله في حجراتهم

وتبيان برهان الكتاب المنزل

١٥١

فما مثلهم في الكون إن عد مفخر

أعد نظراً يا صاح إن كنت تعقل

خلت منهم أرض العقيق وعطلت

منازل آيات بها الوحي ينزل

منازل تنزيل بها الحزن قد ثوى

ومجلس أنس قد خلا منه نزل

حدا بهم حادي المنايا معجلا

وسارت بهم عنفاً على الابن نزل

أصابتهم أيدي المصائب فاغتدوا

أماثيل في الدّنيا لمن يتمثل

فما منهم إلّا قتيل وهالك

بسم ومذبوح وذاك مكبل

على مثلهم فليبك بالمدى المدى

ويذرف دمعاً كالمسيل مسبل

روي عن عليّ بن عاصم الكوفي الأعمى , قال : دخلت على سيدي ومولاي الحسن العسكري (عليه‌السلام ) , فسلّمت عليه , فردّ عليّ السّلام وقال : (( مرحباً بك يابن عاصم , اجلس مكانك , هنيئاً لك يابن عاصم , أتدري ما تحت قدميك ؟ )).فقلت : يا مولاي , إنّي أرى تحت قدمي هذا البساط , كرّم الله وجه صاحبه .فقال لي : (( يا بن عاصم , اعلم أنّك على بساط جلس عليه كثير من النّبيين والمرسلين )) .فقلت : يا سيدي , ليتني لا أفارقك ما دمت في دار الدّنيا .ثمّ قلت في قلبي : ليتني أرى هذا البساط .فعلم الإمام ما في ضميري , فقال : (( ادن منّي )) .فدنوت منه , فمسح يده على وجهي , فصرت بصيراً بإذن الله ، ثمّ قال لي : (( هذا قدم أبينا آدم , وهذا أثر هابيل , وهذا أثر شيث , وهذا أثر إدريس , وهذا أثر هود , وهذا أثر صالح , وهذا أثر لقمان , وهذا أثر إبراهيم , وهذا أثر لوط , وهذا أثر شعيب , وهذا أثر موسى , وهذا أثر داود , وهذا أثر سُليمان , وهذا أثر الخضر , وهذا أثر دانيال , وهذا أثر ذي القرنين الاسكندر , وهذا أثر عدنان , وهذا أثر عبد الـمُطّلب , وهذا أثر عبد الله , وهذا أثر عبد مُناف , وهذا أثر جدّي رسول الله , وهذا أثر جدّي عليّ بن أبي طالب ))

قال عليّ بن عاصم : فأهويت على الأقدام كلّها وقبّلتها , وقبّلت يد الإمام العسكري (عليه‌السلام ) , وقلت له : يا سيدي , إنّي عاجز عن نصرتكم بيدي , وليس أملك غير موالاتكم , والبراءة من أعدائكم واللعن لهم في خلواتي , فكيف حالي يا سيدي ؟ فقال : (( حدّثني أبي عن جدّي عن رسول الله , قال : مَن ضعف عن نصرتنا أهل البيت , ولعن في خلواته أعداءنا , بلغ الله صوته إلى جميع الملائكة , فكلّما لعن أحدكم أعداءنا , ساعدته الملائكة ولعنوا من لا يلعنهم ، فإذا بلغ صوته إلى الملائكة , استغفروا له

١٥٢

وأثنوا عليه , وقالوا : اللّهمّ صلّ على روح عبدك , هذا الذي بذل في نصرة أوليائه جهده , ولو قدر على أكثر من ذلك لفعل.فإذا النّداء من قبل الله تعالى يقول : يا ملائكتي , إنّي قد أجبت دعائكم في عبدي هذا , وسمعت نداءكم , وصلّيت على روحه مع أرواح الأبرار , وجعلته من الـمُصطفين الأخيار )).

وكذلك قال عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) لأصحابه الذين كانوا معه لمـّا غُصبت الخلافة منه , حيث قال : (( يا أصحابي , الزموا بيوتكم واصبروا على البلاء , ولا تحرّكوا بأيديكم وسيوفكم وأهواء ألسنتكم , ولا تستعجلوا بما يُعجّله الله لكم ؛ فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفة من حقّ ربّه , وحقّ نبيّه وآل نبيّه , كان كمن مات شهيداً , أو أجره على الله , واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله , وقامت النّية مقام صلاته وجهاده بسيفه ويده , وإنّ لكلّ شيء أجلاً وانتهاء )).

فيا إخوتي , لله درّ الشّيعة الـمُخلصين , والأتباع الـمُتّقين , وأهل الولاية أجمعين , الذين بذلوا قلوبهم في المحبّة , واستعملوها في المودّة والمسبّة.

روي في الخبر عن سيّد البشر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه كان يقول للحسن والحُسين : (( أنتما زينة عرش الرّحمن , أنتما اللؤلؤة والمرجان)) .فقيل له : يا رسول الله , وكيف ذلك , وكيف يكونان تزيين عرش الرّحمن ؟ فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إذا كان يوم القيامة , يزيّن عرش ربّ العالمين بكلّ زينة , ثمّ يؤتى بمنبرين من نور , كلّ منبر طوله مئة ميل , فيوضع أحدهما عن يمين العرش , والآخر عن يسار العرش ، ثمّ يؤتى بالحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) , فيقف الحسن على أحدهما والحُسين على الآخر , يزيّن الرّب تبارك وتعالى بهما عرشه كما تزيّن المرأة قرطاها )) .ثمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ويوضع يوم القيامة منابر تحت العرش لشيعتي , ولشيعة أهل بيتي المخلصين في ولايتنا , فيقول الله عزّ وجلّ : هلمّوا يا عبادي إليّ لأنشر عليكم كرامتي , فقد أوذيتم في دار الدُنيا )).

وقال أيضاً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أنا الشّجرة وفاطمة فرعها وعليّ لقاحها , والحسن والحُسين ثمرها , وشيعتنا أهل البيت أوراقها , قد أفلح من تمسّك بهذه الشّجرة )).

وفي الخبر أيضاً عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه قال : (( يدخل الجنّة من اُمّتي سبعون ألفاً بلا حساب عليهم ولا عذاب يصل إليهم )).ثمّ التفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فقال : (( شيعتك هُم وأنت إمامهم )).

وعن أبي عبد الله (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا بلغت نفس المؤمن الحنجرة , وأهوى ملك الموت بيده إليها , يرى قرّة عين , يُقال له : انظر عن يمينك .فيرى رسول الله

١٥٣

وعليّاً وفاطمة والحسن والحُسين , فيقولون له : إلينا إلى الجنّة .والله لو بلغت روح عدوّنا إلى صدره , وأهوى ملك الموت بيده إليها , لا بدّ أن يُقال : انظر عن يسارك .فيرى مُنكراً ونكيراً يُهدّدانه بالعذاب , نعوذ بالله منه )) .:

مناقبهم بين الورى مستنيرة

لها غرر مجلوة وحجول

مناقب جلت أن يحاط بحصرها

نمتها فروع قد زكت وأصول

مناقب وحي الله أثبتها لهم

بما قام منه شاهد ودليل

مناقب من خلق النّبي وخلقه

ظهرت فما يغتالهن أفول

أمولاي آمالي تؤمل نصركم

وقلبي إليكم بالولاء يميل

وقد طال عمر الصبر في أخذ ثاركم

كما آن للظلم المقيم رحيل

متى يشتفي حر الغليل ويشتفي

فؤاد بآلام المصاب عليل

ويجبر هذا الكسر في ظل دولة

لها النصر جند والأمان دليل

هنالك يضحى دين آل محمد

عزيزاً ويمسي الكفر وهو ذليل

ويطوي بساط الحزن بعد كآبة

وتنشر نشراً للهناء ذيول

فيا آل طه الطاهرين رجوتكم

ليوم به فصل الخطاب طويل

أقيلوا إعثاري يوم فقري وفاقتي

فظهري بأعباء الذنوب ثقيل

فيا إخواني , دعوا التّشاغل عنكم بالأهل والأوطان والأتراب والأخدان , تفكّروا فيما أصاب سادات الزّمان الذين تمّ لكم بهم الإيمان , واستحققتهم بموالاتهم دخول الجنان ورضاء الرّحمن.

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه ‌الله تع الى)

يا عين لا لخلو الربع والدمن

باكي الرزايا سوى الباكي على السكن

وآسى بني الهدى فيما أصيبت به

وساعدي البضعة الزّهراء على الحزن

وقابليها بارض الطف صارخة

على القتيل الغريب النازح الوطن

١٥٤

تشكو إلى الله والأملاك محدقة

بالعرض تستصرخ المولى أبا حسن

من حولها مريم العذراء وآسية

تكرر النوح بالتذكار والحزن

والنوح من نادبات الجن مرتفع

وقلبها موجع بالثكل والمحن

لهفي على قول مولاتي وقد نظرت

شلو الحُسين بلا غسل ولا كفن

ملقى على الأرض عاري الجسم منعفر

الخدين مختضب الأوداج والذقن

لهفي على زينب حرى مجردة

مسلوبة تستر الأكتاف بالردن

تقول يا واحدي من لي إذا نزلت

بي الحوادث يحميني ويكفيني

لهفي على فاطم الصغرى مقرحة

بالدمع أجفانها مسلوبة الوسن

تدعو إلى زينب يا عمتا سلب العلج

القناع ليسبيني ويهتكني

فرمت أستر وجهي عند رؤيته

فظل يشتمني عمداً ويضربني

أين الحماة وأين الناصرون لنا

وا خيبتي جار دهري واعتدى زمني

لهفي على السيد السجاد معتقلاً

في أسرهم مستذلا ناحل البدن

إذا شكا اسمعوه قبح شتمهم

وإن ونى قنعوه فاضل الرسن

وا حسرتاه لكريم السبط مشتهراً

كالبدر يشرق فوق الدل واللدن

فيا لها محنة عمت مصيبتها

ويا لها حسرة في قلب ذي شجن

يهني يزيد برأس طال ما رشف

المختار من ثغره تقبيل مفتتن

وتستحث بنات المصطفى ذللا

على المطايا إلى الأطراف والمدن

قد قابلونا بنو حرب بما صنعوا

ولا شفوا غلل الأحقاد والضغن

بفعلهم كفروا فينا واعتقدوا

أن لا جزاء على قبح ولا حسن

مضوا على سنن الماضين وارتكبوا

نهج الضلال ومالوا عن هدى السنن

كأنني بالبتول الطهر واقفة

في الحشر تشكو إلى الرّحمن ذي المنن

تأتي وقد ضمخت ثوب الحُسين دماً

من نحره وهي تبدي الحزن في حزن

تدعو الا ابن مسمومي ويا أسفي

على قتيلي ويا كربي ويا حزني

يا رب من نوزعت ميراث والدها

مثلي ومن طولبت بالحقد والإحن

ومن ترى جرعت في ولدها غصص

كما ابن مرجانة الملعون جرعني

ومن ترى كذبت قبلي وقد علموا

أن الإله من الأرجاس طهرني

وهل لبنت نبي أضرمت شعل

كما أطيف به بيتي ليحرقني

١٥٥

خرجت أطلب للأطفال بلغتهم

دفعني ظالمي عنها ودافعني

رب انتصف لي ممن خان عهدك

في ولدي وممن زوى إرثي فأفقرني

وتستغيث أمام العرش ساجدة

والمصطفى واقف والدمع كالمزن

فيبرز الأمر أني قد سمعت وقد

نقمت ممن عصى أمري وخالفني

أعظم بها ومنادي الحشر يسمع بالصوت

الرفيع لديها كل ذي أذن

غضوا العيون فخاتون القيامة قد

جاءت لتشفع فيمن بالولاء كنى

من كل محترق من عظم فجعتها

بكى وساعدها بالمدمع والهتن

يا سادتي الهادي النّبي ومن

أخلصت ودي لهم في السر والعلن

عرفتكم بدليل العقل والنظر المهدي

فلم أخش كيد الجاهل اللكني

ظفرت بالكنز في علم اليقين فلم

أخش اعتراضاً لدى شك ينازعني

فلست آسى على من ظل يبعدني

بالقرب منكم ومن بالغت ترحمني

وإنني أرتجي أن سوف يلطف بي

ربي فيصفح عن جرمي ويرحمني

وأن فاطمة الزّهراء تشفع لي

والمرتضى لجنان الخلد يقسمني

فاز الخليعي كل الفوز واتضحت

بكم له سبل الإرشاد والسنن

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون الأخيار , لا تبخلوا بالدّموع الغزار على عترة النّبي الـمُختار ، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ويجزل لديه ثوابكم ؟ أليس هُم شفعاؤكم يوم المعاد إذا وقفتم بين يدي ربّ العباد ؟ أليس هُم العدّة لكم بكلّ شدّة ؟ أليس بهم تحطّ الأوزار ؟ أليس هُم الجنان الواقية من النّار ؟ فمَن بخل منكم عليه بإثارة الأحزان والأشجان , فعلى نفسه بخل ولقدر مواليه وساداته حقر وجهل , أيبكي الباكون منكم على الأهل والأولاد والآباء والأجداد ؟ فيا عجباً لمن أساء إليهم وظلمهم وقصّر في حقّهم وما أكرمهم! وما ارتكب منهم ما يوجب السّخط العظيم , والعدل عن النّهج القويم والصّراط الـمُستقيم ؟! أمر :( تَكَادُ السّماوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الْأَرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً ) (١) :

إن كنت في شك فسل عن حالهم

سنن الرّسول ومحكم التنزيل

فهناك أعدل شاهد لذوي النهى

وبيان فضلهم على التفصيل

____________________

(١) سورة مريم / ٩٠.

١٥٦

ووصية سبقت لأحمد فيهم

جاءت إليه على يدي جبرائيل

روي عن اُمّ سلمة : أنّ الحسن والحُسين دخلا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وكان عنده جبرائيل (عليه‌السلام ) , فجعلا يدوران حوله يشبّهانه بدحية الكلبي , فجعل جبرائيل يومي بيده نحو السّماء كالـمُتناول شيئاً , فإذا بيد جبرائيل تفّاحة وسفرجلة ورمّانة , فناولهما الجميع , فتهلّلت وجوههما فرحاً وسعيا إلى جدّهما , فقبّلهما وقال لهُما : (( اذهبا إلى منزلكما وابدءوا بأبيكما )).ففعلا كما أمرهما جدّهما , ولم يأكلوا منها شيئاً حتّى جاء النّبي إليهم , فجلسوا جميعاً وأكلوا حتّى شبعوا , ولم يزالوا يأكلون من ذلك السّفرجل والتّفّاح والرّمان , وهو يرجع كما كان أوّلاً حتّى قُبض النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ولم يلحقه التّغيير والنّقصان في مدّة أيّام حياة فاطمة (عليها‌السلام ).

قال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( فلمّا توفّيت اُمّي فاطمة , فقدنا الرّمان وبقي التّفّاح والسّفرجل أيّام حياة أبي ، فلمّا استشهد أبي عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) , فقدنا السّفرجل وبقي التّفاح عليَّ إلى وقت مُنعت فيه شرب الماء , فكنت أشمّها إذا عطشت , فيسكن لهيب عطشي ، فلمّا دنا أجلي , رأيتها قد تغيّرت فأيقنت بالفناء )).

قال عليّ بن الحُسين : (( سمعت أبي يقول ذلك قبل مقتله بساعة , فلمّا قضى نحبه , وجد ريح التّفّاح في مصرعه , فالتمست التّفّاحة فلم أجد لها أثراً , فبقي ريحها بعد مقتله (عليه‌السلام ) , ولقد زرت قبره فشممت منه رائحة التّفّاح تفوحّ من قبره صلوات الله عليه , فمَن أراد ذلك من شيعتنا الصّالحين الزّائرين قبر الحُسين , فيلتمس ذلك في أوقات السَّحر , فإنّه يجد رائحة التّفّاح عند قبر الحُسين إن كان مخلصاً موالياً صادقاً )).

وعن الصّادق (عليه‌السلام ) : (( أنّ جبرائيل نزل إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقال : يا مُحمّد , إنّ الله يقرؤك السّلام ويبشّرك بمولود من ابنتك فاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) , وتقتله اُمّتك من بعدك .فقال : يا جبرائيل , قُل لربّي , لا حاجة لي في مولد يولد من فاطمة وتقتله اُمّتي من بعدي .قال : فعرج جبرائيل (عليه‌السلام ) إلى السّماء في أسرع من طرفة عين , ثمّ هبط وقال : يا مُحمّد , إنّ ربّك يقرأ عليك السّلام , ويبشّرك أنّه جاعل في ذرّيّته الأمانة والولاية والوصيّة .فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : رضيت بذلك .ثمّ أرسل النّبي إلى ابنته فاطمة (عليها‌السلام ) , يقول : إنّ الله يبشّرك بمولود يولد منك وتقتله اُمّتي من بعدي .فجزعت فاطمة وأرسلت إليه تقول : لا حاجة لي في مولود يولد منّي وتقتله اُمّتك من بعدنا .فأرسل إليها يقول : إنّ الله

١٥٧

جاعل من ذرّيّته الإمامة والولاية والوصيّة .فأرسلت إليه تقول : إنّي قد رضيت :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) (١) .[ فلو أنّه قال : اصلح لي ذريتي ، لـ ] كانت ذرّيّته كلّهم أئمة )) .فهذه الآية نزلت في شأن الحُسين (ع).

وروي : أنّ الحُسين لم يرضع من ثدي فاطمة شيئاً , ولا رضع من اُنثى لبناً , ولكنّه كان يؤتى به إلى جدّه رسول الله , فيضع إبهامه في فيه , فيمصّ منها لبناً يكفيه ويُغذّيه يومين أو ثلاثة أيّام , فنبت لحم الحُسين من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ودمه من دمه وعظمه من عظمه , ومخّه من مخّه وشعره من شعره , ولم يولد مولود لستة أشهر , إلّا عيسى بن مريم والحُسين بن فاطمة (عليهم‌السلام ).

وفي خبر آخر : أنّ فاطمة (عليها‌السلام ) لمـّا اغتسلت بعدما ولدت الحُسين , جفّ لبنها , فطلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مرضعة , فلم يجد له مرضعة , فكان يأتيه الحُسين مع اُمّ سلمة فيلقمه إبهامه فيمصّه , ويجعل الله له من إبهام النّبي رزقاً يغذّى به بقدرة الله تعالى.

وفي خبر آخر : بل كان رسول الله يُدخل لسانه في فم الحُسين , فيغّره كما يغّر الطّير فرخه , فيجعل الله له في ذلك رزقاً بقدرة الله تعالى , ففعل ذلك به أربعين يوماً وليلة ، فنبت لحمه من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

أيقتل ظمآناً حُسين بكربلا

وفي كل عضو من أنامله بحر

ووالده الساقي على الحوض في غد

وفاطمة ماء الفرات لها مهر

فوا لهف نفسي للحسين وما جنى

عليه غداة الطف في حربه شمر

سنان سنان خارق منه في الحشا

وصارم شمر في الوريد له شمر

تجر عليه العاصفات ذيولها

ومن نسج أيدي الصافنات له طمر

فيا لك مقتولاً بكته السّماء دماً

فمغبر وجه الأرض بالدم محمر

مصابكم يا آل طة مصيبة

ورزء على السّلام أحدثه الكفر

حكى عبد الله بن العبّاس , قال : جاءني رجل من بني اُميّة , فقال : أريد أن أسألك عن سؤال ؟ فقلت له : سل عمّا تُريد.فقال لي : يا عبد الله , ما تقول في دم البعوضة , هل يُنقض الوضوء أم لا ؟ وهل هو طاهر أم نجس ؟ فقلت له : ثكلتك اُمّك يا عديم الرأي ! تسأل عن دم البعوضة فلِمَ لا سألت عن دم الحُسين ابن بنت

____________________

(١) سورة الأحقاف / ١٥.

١٥٨

رسول الله ؟! سفكتم دمه وقطعتم لحمه وكسرتم عظمه , وقتلتم أولاده وأطفاله وأنصاره , وسبيتم حريمه ومنعتموه من شرب الماء , ألا لعنة الله على الظّالمين .ثمّ التفت عبدالله إلى جلسائه , وقال : انظروا إلى هذا اللعين , كيف يسألني عن دم البعوضة , ولا يخاف أن يسأله الله عن دم الحُسين ابن بنت رسول الله ؟! ثمّ قال لأصحابه : والله , إنّي سمعت بهاتي أذني من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول مراراً كثيرة : (( الحسن والحُسين ريحانتاي في الدُنيا , وهُما منّي وأنا منهُما , أحبّ الله مَن أحبّهما , وأبغض الله مَن أبغضهما , وآذى الله مَن آذاهما , ووصل الله مَن وصلهما , وقطع الله مَن قطعهما , فإنّهما ابناي وسبطاي وقرّتا عيني , وسيّدي شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين )) .فقلت : يا رسول الله , أيّ أهل بيتك أحبّ إليك ؟ فقال : (( الحسن والحُسين أحبّ النّاس إليّ )) .وكان يقول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا فاطمة , ادعى لي ابني )) .فيأتيان إليه فيضمّهما إليه , ويشمّهما ويقبّلهما ويقول : (( أحبّ الله مَن أحبّ الحسن والحُسين ومَن أحبّ ذرّيّتهما , فمَن أحبّهم لم تمس جسده نار جهنّم ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج , إلّا أن يكون له ذنب يخرجه عن الإيمان )).

وعن الأوزاعي , عن عبد الله بن شداد , عن اُمّ الفضل بنت الحرث , أنّها دخلت على رسول الله فقالت : يا رسول الله , رأيت البارحة حلماً مُنكراً شديداً .قال : (( وما هو يا اُمّ الفضل ؟ )) .قالت : رأيت كأنّ قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري .فقال رسول الله : (( يا اُمّ الفضل , ستلد ابنتي فاطمة غُلاماً , فتكون تربيته في حجرك )) .قالت : فولدت فاطمة الحُسين وكان كما قال رسول الله , فربّيته في حجري ، فدخلت به يوماً على النّبي فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي إلتفاتة , فإذا عينا رسول الله تهرقان بالدّموع , فقلت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ، ما لك تبكي ؟! فقال : (( أتاني جبرائيل أخي , وأخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ابني هذا , وأتاني بقبضة من تربة حمراء فأرانيها )).

ومن طرقهم : أنّ عيسى بن مريم (عليه‌السلام ) مرّ بكربلاء , فرأى عدّة من الظّباء هناك مجتمعة , فأقبلت إليه وهي تبكي , وأنّه جلس وجلس الحواريّون , فبكى وأبكى الحواريّين وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى , فقالوا : ياروح الله وكلمته , ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أيّ أرض هذه ؟ قالوا : لا .قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ لرسول أحمد , وفرخ الخيّرة الطّاهرة البتول شبيهة اُمّي , ويُلحد فيها , وهي أطيب من المسك ؛ لأنّها طيبة الفرخ المستشهد , وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء (عليهم‌السلام ) , وهذه الظّباء

١٥٩

تكلّمني وتقول : إنّها ترعى في هذه الأرض ؛ شوقاً إلى تربة الفرخ الـمُبارك .وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض .ثمّ ضرب بيده إلى ثغر تلك الظّباء فشمّها , وقال : اللّهمّ , ابقها حتّى يشمّها أبوه فتكون له عزاء .فبقيت إلى أيّام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , فشمّها وبكى وأخبر بقصّتها.

وعن سلمان الفارسي , أنّه قال : كان سيّدنا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يحدّثنا كثيراً بالأشياء والمغيّبات , التي تحدث على مرور السّنين والأوقات , وأنّه يوم الجُمُعة يخطب على منبره في جامع الكوفة , فقال في خطبته : (( أيّها النّاس , سلوني قبل أن تفقدوني , فو الله , لا تسألوني عن فئة تضلّ مئة وتهدي مئة , إلّا أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة )) قال : فقام إليه رجل فاجر فاسق , وقال له : يا عليّ , أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ؟ فقال له (عليه‌السلام ) : (( والله , لقد أخبرني بسؤالك هذا ابن عمّي رسول الله , ونبّأني بما سألت عنه , وإنّ على كلّ طاقة من شعر رأسك ولحيتك شيطاناً يغويك ويستفزّك , وإنّ على كلّ شعرة من بدنك شيطاناً يلعنك ويلعن ولدك ونسلك , وإنّ لك ولداً رجساً ملعوناً , يقتل ولدي الحُسين بن بنت رسول الله , وأنت وولدك بريئان من الإيمان , ولولا أنّ الذي سألتني عنه يعسر برهانه لأخبرتك به , ولكن حسبك فيما نبأتك به من لعنتك ورجسك , وولدك الملعون الذي يقتل ولدي ومهجة قلبي الحُسين )) قال : وكان له ولد صغير في ذلك الوقت , فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحُسين ما كان , نمى الصّبي وتجبّر وتولّى قتل الحُسين (عليه‌السلام ) .وقيل : إنّ ذلك الصّبي كان اسمه خولّى بن يزيد الأصبحي , وهو الذي طعن الحُسين برمحه , فخرج السّنان من ظهره , فسقط الحُسين على وجهه يخور في دمه ويشكو إلى ربّه :( أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ ) (١) .فيا ويلهم ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حُرمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , كأنّهم ما سمعوا ما ورد في حقّهم , أم سمعوا وهم غافلون ! :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) .

فعلى الأطائب من آل بيت مُحمّد فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ ابن حماد (رحمه‌ الله تعال ى)

أرى الصبر يفنى والهموم تزيد

وجسمي يبلى والسقام جديد

____________________

(١) سورة هود / ١٨.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207