بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) 27%

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مؤلف:
الناشر: فاروس
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 207

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103743 / تحميل: 10652
الحجم الحجم الحجم
بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

مؤلف:
الناشر: فاروس
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وعن تفسير فرات بن إبراهيم، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم على فاطمةعليها‌السلام وهي حزينة، فقال لها: وساق الحديث في أحوال القيامة، إلى أن قال: فإذا بلغت باب الجنّة تلقّتك اثنا عشر ألف حوراء لم يتلقّين أحداً قبلك ولا يتلقّين أحداً بعدك بأيديهم حراب من نور، على نجائب من نور حائلها ( جلّها خ ل ) من الذهب الأصفر والياقوت الأحمر، أزمّتها من لؤلؤ رطب، على كل نجيب أبرقة من سندس منضود، فإذا دخلت الجنّة تباشر بها أهلها، ووضع لشيعتك موائد من جوهر على عمد من نور، فيأكلون منها والناس في الحساب وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، وإذا استقرّ أولياء الله في الجنّة زارك آدم، ومن دونه من النبييّن. الخبر(١) .

ورُوي عنها (سلام الله عليها)، قالت: لما نزلت( لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً ) ، هِبْتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقول له يا أبه، فكنت أقول يا رسول الله، فأعرض عنّي مرّة أو ثنتين أو ثلاثاً ثم أقبل عَليّ، فقال: يا فاطمة، إنّها لم تنزل فيك، ولا في أهلك، ولا نسلك، وأنت منّي وأنا منك، إنّما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش، أصحاب البذخ والكبر، قولي يا أبه، فإنّها أحيى للقلب، وأرضى للرب(٢) .

وعن مصباح الأنوار، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، عن فاطمة (سلام الله عليها) قالت: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( مَن صلّى عليك غفر الله تعالى له، وألحقه بي حيث كنت من الجنّة )(٣) .

الكليني، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد فاطمةعليها‌السلام ، وأنا معه، فلمّا انتهينا إلى الباب وضع يده عليه فدفعه، ثم قال: ( السلام عليكم ) فقالت فاطمةعليها‌السلام : عليك

____________________

(١) تفسير فرات: ص١٧٢ - ١٧١.

(٢) تفسير نور الثقلين: ج٣ ص٦٢٩، البرهان: ج٣ ص١٥٤.

(٣) بحار الأنوار: ج٤٣ ص٥٥.

٤١

السلام يا رسول الله قال: أدخل؟ قالت: ادخل يا رسول الله، قال: أدخل أنا ومَن معي؟ فقالت: يا رسول الله ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنّعي به رأسك، ففعلت، ثم قال: السلام عليكم، فقالت: وعليك السلام يا رسول الله قال: أدخل؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: أنا ومَن معي؟ قالت: أنت ومَن معك، قال جابر: فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخلت أنا، وإذا وجه فاطمةعليها‌السلام أصفر، كأنّه بطن جرادة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما لي أرى وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول الله، الجوع، فقال: ( اللّهمّ مشبع الجوعة، ودافع الضيعة، أشبع فاطمة بنت محمد الخ )(١) .

وعن أبي سعيد الخدري، قال: أصبح علي بن أبي طالبعليه‌السلام ذات يوم ساغباً، فقال: يا فاطمة، هل عندك شيء تغذينيه؟ قالت: لا والذّي أكرم أبي بالنبوّة وأكرمك بالوصيّة، ما أصبح الغداة عندي شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي، وعلى ابنيّ هذين الحسن والحسين، فقال عليعليه‌السلام يا فاطمة ألا كنت أعلمتني، فأبغيكم شيئاً، فقالت يا أبا الحسن: إنّي لأستحي من إلهي أن أكلف نفسك ما لا تقدر عليه(٢) .

وعن قرب الإسناد، عن أبي عبد الله، عن أبيهعليه‌السلام قال: تقاضى علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الخدمة، فقضىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فاطمةعليها‌السلام بخدمة ما دون الباب، وقضى على عليعليه‌السلام بما خلفه، قال: فقالت فاطمة (صلوات الله عليها): فلا يعلم ما داخلني من السرور إلاّ الله بإكفائي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمّل رقاب الرجال(٣) .

____________________

(١) الكافي: ج٥ ص٥٣٨ كتاب النكاح باب الدخول على النساء: ح٥. وبمعناه روى العلاّمة الدولابي في كتاب الكنى والأسماء: ٢/ ١٢٢، عن عمران بن الحصين.

(٢) البحار: ج٤٣ ص٥٩ نقلاً عن تفسير فرات.

(٣) قرب الإسناد: ص٢٥.

٤٢

عن الخرائج روي أنّ سلمان (رضي الله عنه)، قال: كانت فاطمةعليها‌السلام جالسة قدّامها رحى، تطحن بها الشعير وعلى عمود الرّحى دم سائل، والحسينعليه‌السلام في ناحية الدّار، يتضوّر من الجوع، فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفّاك وهذه فضّة، فقالتعليها‌السلام : أوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون الخدمة لها يوماً فكان أمس يوم خدمتها، قال سلمان: قلت إنّي مولى عتاقه، إمّا أنا أطحن الشعير، أو أُسكت الحسينعليه‌السلام لك؟ فقالت: أنا بتسكينه أرفق، وأنت تطحن الشعير، فطحنت شيئاً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصلّيت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا فرغت، قلت لعليعليه‌السلام ما رأيت، فبكى وخرج، ثم عاد، فتبّسم، فسأله عن ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: دخلت على فاطمة، وهي مستلقية لقفاها والحسين نائم على صدرها وقدّامها رحى تدور من غير يد، فتبسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال ( يا علي، أما علمت أنّ لله ملائكة سيّارة في الأرض يخدمون محمّداً وآل محمّد إلى أن تقوم الساعة )(١) .

وروي أنّه دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عليعليه‌السلام ، فوجده هو وفاطمةعليها‌السلام يطحنان في الجاروس، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أيكّما أعيى؟ فقال عليعليه‌السلام : فاطمة يا رسول الله، فقال لها: قومي يا بنيّة، فقامت وجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضعها مع عليعليه‌السلام فواساه في الطحن(٢) .

وعن بعض كتب المناقب، عن جابر بن عبد الله: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شقّ ذلك عليه، وطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منهنّ شيئاً، فأتى فاطمةعليها‌السلام فقال: يا بنية هل عندك شيء آكله فإنّي جائع؟ فقالت: لا والله بأبي أنت وأُمّي. فلمّا خرج من عندها بعثت إليها

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢٨ الخرائج: ج٢ ص٥٣٠. ورُوي هذا الحديث الطبري في ذخائر العقبى، عن أنس، عن بلال مؤذِّن الرسول فراجع: ص٥١ منه.

(٢) البحار: ج٤٣ ص٥٠.

٤٣

جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها ووضعته في جفنة لها، وغطّت عليها وقالت: لأؤثرنّ بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نفسي ومَن عندي. وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع إليها فقالت: بأبي أنت وأُمّي قد أتانا الله بشيء فخبّأته، قال: هلمّي، فأتته، فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلما نظرت إليه بهتت، فعرفت أنّها كرامة من الله عزّ وجل، فحمدت الله، وصلّت على نبيّه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أين لك هذا يا بنيّة؟ فقالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب. فحمد الله عزّ وجلّ وقال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء العالمين في نساء بني إسرائيل في وقتهم، فإنّها كانت إذا رزقها الله تعالى فسئلت عنه قالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق مَن يشاء بغير حساب.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليعليه‌السلام ، ثم أكل رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، وجميع أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته جميعاً وشبعوا، وبقيت الجفنة كما هي، قالت فاطمةعليها‌السلام : فأوسعت منها على جميع جيراني، وجعل الله فيها البركة والخير كما فعل الله بمريم(١) .

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢٧ ص٦٨. وروى جزءاً منه مع اختلاف في ألفاظه محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٤٦.

٤٤

فصل

في كثرة عبادتها

قال الحسن البصري: ما كان في هذه الأُمّة أعبد من فاطمةعليها‌السلام كانت تقوم حتّى تورّم قدماها(١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها: أيّ شيء خير للمرأة؟ قالت: ( أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل ) فضمّها إليه وقال: ذريّة بعضها من بعض(٢) .

وقال الحسن بن عليعليه‌السلام : رأيت أُمّي فاطمةعليها‌السلام قامت في محرابها ليلة جُمُعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أُمّاه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بنيّ، الجار ثم الدار(٣) .

وروى الصدوق عن فاطمة (صلوات الله عليها) قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ في الجمعة ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله عزّ وجلّ فيها خيراً إلاّ أعطاه إيّاه، قالت: فقلت يا رسول الله أيّة ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف

____________________

(١) المناقب: ج٣ ص٣٤١. وقد روى بمعناه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء: ٢/ ٤٠ عن أنس. وراجع أيضاً في الحديث الأوّل كتاب ربيع الأبرار للزمخشري.

(٢) المصدر السابق.

(٣) علل الشرايع: ج١ ص١٨٢، البحار: ج٤٣ ص٨٢.

٤٥

عين الشمس للغروب، قال: فكانت فاطمةعليها‌السلام تقول لغلامها: اصعد على الضراب، فإذا رأيت نصف عين الشمس تدلى للغروب فأعلمني حتّى أدعو(١) .

وروي أنّها (سلام الله عليها)، كانت إذا قامت في محرابها، زهر نورها لأهل السمّاء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض(٢) .

وروي الصدوق (رحمه الله)، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال لرجل من بني سعد: ألا أحدِّثك عنّي وعن فاطمة، إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله إليه، وأنّها استقت بالقربة حتّى أثَّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبّرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد.

فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حر [ ضرّ - خ ] ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدت عنده حداثاً فاستحت فانصرفت. قال: فعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها جاءت لحاجة،قال: فغدا علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن في لفاعنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثمّ قال: السلام عليكم، فسكتنا، ثمّ قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك، يسلّم ثلاثاً فإن أذن له وإلاّ انصرف، فقلت: وعليك السلام يا رسول الله، ادخل، فلم يعدُ أن جلس عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة: ما كانت حاجتك أمس عند محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قالعليه‌السلام : فخشيت إن لم تجبه أن يقوم، قال فأخرجت رأسي، فقلت: أنا والله أُخبرك يا رسول الله، إنّها استقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت

____________________

(١) وسائل الشيعة: ج٣ أبواب صلاة الجمعة وآدابها: ص٦٩. الضراب: الجبل الصغير، ولعلّ المراد هنا المكان المرتفع منه.

(٢) علل الشرايع: ص١٨٠. كما أورده (رضوان الله عليه) في كتاب معاني الأخبار عن أبي عبد اللهعليه‌السلام .

٤٦

ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادماً يكفيك حر [ ضرّ - خ - البحار ] ما أنت فيه من هذا العمل.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفلا أعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما، فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين، قال: فأخرجتعليها‌السلام رأسها، فقالت: رضيت عن الله ورسوله، ثلاث دفعات(١) .

المناقب، عن كتاب الشيرازي، أنّهاعليها‌السلام لما ذكرت حالها وسألت جارية، بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا فاطمة، والذي بعثني بالحق إنّ في المسجد أربعمائة رجل، ما لهم طعام ولا ثياب، ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت، يا فاطمة، إنّي لا أريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية الخ(٢) .

تفسير الثعلبي، عن جعفر بن محمدعليه‌السلام ، وتفسير القشيري، عن جابر الأنصاري، أنّه رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمةعليها‌السلام وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة. فقالت: ( يا رسول الله: الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه )(٣) .

____________________

(١) علل الشرايع: ص٣٦٦، البحار: ج٤٣ ص٨٢، كما رواه الحافظ أبو داود السجستاني في كتاب السنن: ٢/ ٢٠٦، وأبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، وغيرهم، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه. مجلت يدها: أي ثخن جلدها من العمل. دكن الثوب إذا اتّسخ واغبرّ لونه. اللفاع: ثوب يجلّلُ به الجسد. حُدّاثاً أي جماعة يتحدّثون. ولم يَعْدُ أن جلس: أي لم يتجاوز عن الجلوس. وكذلك رواه محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٥٠. وقال بعده: خرّجه أبو داود.

(٢) المناقب: ج٣ ص٣٤٢، ورواه أيضاً العلاّمة شهاب الدين النوري في نهاية الأرب: ٥/ ٢٦٠، والعلاّمة الزبيدي الحنفي في إتحاف السادة المتّقين، والعلاّمة ابن حمزة في البيان والتعريف: ص١٠١. طبع حلب، مع اختلاف يسير في ألفاظه.

(٣) المصدر السابق.

٤٧

فصل

في فضل فضّة خادمتها

أبو القاسم القشيري في كتابه، قال بعضهم: انقطعت في البادية عن القافلة فوجدت امرأة، فقلت لها: مَن أنت؟ فقالت:( وقل سلام فسوف يعلمون ) (١) ، فسلّمت عليها، فقلت: ما تصنعين ها هنا؟ قالت:( مَن يهدي الله فما له من مضلّ ) (٢) ، فقلت: أمن الجن أنت أم من الإنس؟ قالت: ( يا بني آدم خذوا زينتكم ) (٣) ، فقلت: من أين أقبلت؟ قالت:( ينادَوْنَ من مكانٍ بعيد ) (٤) ، فقلت: أين تقصدين؟ قالت:( ولله على الناس حج البيت ) (٥) ، فقلت: متى انقطعت؟ قالت: ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) (٦) ، فقلت: أتشتهين طعاماً؟ فقالت: ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) (٧) ، فأطعمتها.

____________________

(١) الزخرف: ٨٩.

(٢) الزمر: ٣٧.

(٣) الأعراف: ٣١.

(٤) فصّلت: ٤٤.

(٥) آل عمران: ٩٧.

(٦) ق: ٣٨.

(٧) الأنبياء: ٨.

٤٨

ثم قلت: هرولي وتعجّلي، فقالت:( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وُسْعَها ) (١) فقلت: أردفك؟ فقالت: ( لو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٢) ، فنزلت فأركبتها، فقالت:( سبحان الّذي سخّر لنا هذا ) (٣) ، فلما أدركنا القافلة، قلت: ألك أحد فيها؟ قالت:( يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض ) (٤) ،( وما محمّد إلاّ رسول ) (٥) ،( يا يحيى خذ الكتاب ) (٦) ،( يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ ) (٧) ، فصحت بهذه الأسماء، فإذا أنا بأربعة شباب متوجّهين نحوها، فقلت: مَن هؤلاء منك؟ قالت:( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) (٨) ، فلمّا أتوها، قالت( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) (٩) ، فكافؤني بأشياء، فقالت: ( والله يضاعف لمـَن يشاء ) (١٠) ، فزادوا عليّ، فسألتهم عنها؟ فقالوا هذه أُمنّا فضّة جارية الزهراءعليها‌السلام ، ما تكلّمت منذ عشرين سنة إلاّ بالقرآن(١١) .

____________________

(١) البقرة: ٢٨٦.

(٢) الأنبياء: ٢٢.

(٣) الزخرف: ١٣.

(٤) ص: ٢٦.

(٥) آل عمران: ١٤٤.

(٦) مريم: ١٢.

(٧) طه: ١١ و ١٤.

(٨) الكهف: ٤٦.

(٩) القصص: ٢٦.

(١٠) البقرة: ٢٦١.

(١١) المناقب: ج٣ ص٣٤٣.

٤٩

فصل

في فضيلتها وفضيلة شيعتها

روى الشيخ الأجلّ عماد الدين، أبو جعفر محمد بن أبي القاسم ابن محمد بن علي الطبري في بشارة المصطفى بإسناده عن همام أبي علي، قال: قلت لكعب الحبر: ما تقول في هذه الشيعة، شيعة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؟ قال يا همام: إنّي لأجد صفتهم في كتاب الله المنزل، إنّهم حزب الله، وأنصار دينه، وشيعة وليّه، وهم خاصّة الله من عباده، ونجباؤه من خلقه. اصطفاهم لدينه، وخلقهم لجنّته، مسكنهم الجنّة إلى الفردوس الأعلى في خيام الدر، وغرف ( غرفهم خ م ) اللؤلؤ وهم في المقرّبين الأبرار، يشربون من الرّحيق المختوم، وتلك عين يقال لها تسنيم، لا يشرب منها غيرهم، وإنّ تسنيماً(١) عين وهبها الله لفاطمة بنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، تخرج من تحت قائمة قبّتها على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك، ثم تسيل، فيشرب منها شيعتها وأحباؤها، وإنّ لقبّتها أربع قوائم، قائمة من لؤلؤ بيضاء تخرج من تحتها عين، [ تسيل في سبل أهل الجنّة يقال لها السلسبيل وقائمة من دُرّة صفراء تخرج من تحتها عين ] يقال لها طهور، [ وهي التي قال الله تعالى في كتابه:( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ) (٢) ] وقائمة من زمرّدة

____________________

(١) فإنّ التسنيم: خ م.

(٢) الإنسان: ٢١.

٥٠

خضراء تخرج من تحتها عينان نضّاختان من خمر وعسل، فكل عين منها تسيل إلى أسفل الجنان، إلاّ التّسنيم فإنّها تسيل إلى عليّين، فيشرب منها خاصة أهل الجنذة وهم شيعة عليعليه‌السلام وأحبّاؤه، وتلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ - إلى قوله -المقرّبون ) (١) ، فهنيئاً لهم، ثمّ قال كعب: والله لا يحبّهم إلاّ مَن أخذ الله عزّ وجلّ منه الميثاق.

ثمّ قال المصنِّف (قدّس الله روحه): قال محمد بن أبي القاسم: لَحَريّ أن تكتب الشيعة هذا الخبر بالذهب لإنمائه(٢) ، وتحفظه وتعمل بما فيه بما تدرك به هذه الدرجات العظيمة، لا سيّما رواية روتها العامّة فتكون أبلغ في الحجّة، وأوضح في الصحّة، رزقنا الله العلم والعمل بما أدّوا إلينا الهداة الأئمّةعليهم‌السلام ( نقلته من البحار )(٣) .

وفيه أيضاً عن كنز، بإسناده عن أبي ذر (رضي الله عنه)، قال رأيت سلمان وبلالاً يقبلان إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ انكبّ سلمان على قدم رسول الله يقبّلها، فزجره النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ثم قال له: يا سلمان لا تصنع بي ما تصنع الأعاجم بملوكها، أنا عبد من عبيد الله، آكل كما يأكل العبد، وأقعد كما يقعد العبد، فقال له سلمان: يا مولاي سألتك بالله إلاّ أخبرتني بفضل فاطمة يوم القيامة؟ قال: فأقبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضاحكاً مستبشراً، ثم قال: ( والذي نفسي بيده، إنّها الجارية التي تجوز في عرصة القيامة على ناقة رأسها من خشية الله، وعيناها من نور الله ) إلى أن قال: جبرئيل عن يمينها، وميكائيل عن شمالها، وعليّ أمامها، والحسن والحسين وراءها، والله يكلأها ويحفظها فيجوزون في عرصة القيامة فإذا النداء من قِبل الله جلّ جلاله: معاشر الخلايق، غضّوا أبصاركم ونكّسوا رؤوسكم، هذه فاطمة بنت محمّد نبيّكم، زوجة علي

____________________

(١) المطففين: ٢٥ - ٢٦ - ٢٧ - ٢٨.

(٢) لإيمانهم خ م.

(٣) بشارة المصطفى: ص٥٠.

٥١

إمامكم، أُمّ الحسن والحسين، فتجوز الصراط، وعليها ريطتان بيضاوان، فإذا دخلت الجنّة ونظرت إلى ما أعدّ الله لها من الكرامة، قرأت:( بسم الله الرّحمن الرّحيم * وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) (١) ، قال: فيوحي الله عزّ وجلّ إليها: يا فاطمة سليني أعطك وتمنّي عليّ أرضك.

فتقول: إلهي أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تعذّب محبّي ومحبّي عترتي بالنار، فيوحي الله إليها: ( يا فاطمة، وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام، أن لا أعذّب محبّيك ومحبّي عترتك بالنار )(٢) .

____________________

(١) فاطر: ٣٤ - ٣٥.

(٢) تفسير البرهان: ج٣ ص٣٦٥، وقد روى بعض فقراته محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٤٨.

٥٢

فصل

في زهدهاعليها‌السلام

السيد ابن طاووس من كتاب زهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي جعفر أحمد القمّي، أنّه لَمّا نزلت هذه الآية على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ) (١) بكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكاءً شديداً وبكت صحابته لبكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرئيل ولم يستطع أحد من صحابته أن يكلّمه، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا رأى فاطمةعليها‌السلام فرح بها، فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها فوجد بين يديها شعيراً وهي تطحن فيه وتقول:( وما عند الله خير وأبقى ) (٢) فسلّم عليها، وأخبرها بخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكائه، فنهضت والتفّت بشملة لها خَلِقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل، فلمّا خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة وبكى وقال: وا حزناه، إنّ بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير، وابنة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً! فلمّا دخلت فاطمةعليها‌السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت: يا رسول الله: إنّ سلمان تعجّب من لباسي، فو الّذي بعثك بالحق، مالي وعليعليه‌السلام منذ خمس سنين إلاّ

____________________

(١) الحجر: ٤٣ - ٤٤.

(٢) القصص: ٦٠.

٥٣

مسك كبش نعلف عليه بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإنّ مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا سلمان، إنّ ابنتي لفي الخيل السوابق.

ثم قالت: يا أبتاه فديتك، ما الذي أبكاك؟ فذكر لها ما نزل به جبرئيل من الآيتين المتقدّمتين، قال: فسقطت فاطمةعليها‌السلام على وجهها وهي تقول: ( الويل ثم الويل لمن دخل النار )، فسمع سلمان، فقال: يا ليتني كنت كبشاً لأهلي، فأكلوا لحمي ومزّقوا جلدي، ولم أسمع بذكر النّار، وقال أبو ذر: يا ليت أمّي كانت عاقراً ولم تلدني ولم أسمع بذكر النار، وقال المقداد: يا ليتني كنت طائراً في القفار، ولم يكن عليَّ حساب ولا عقاب ولم أسمع بذكر النار، وقال عليعليه‌السلام : يا ليت السّباع مزّقت لحمي، وليت أُمّي لم تلدني ولم أسمع بذكر النار.

ثم وضع يده على رأسه وجعل يبكي ويقول: وا بعد سفراه، وا قلة زاداه في سفر القيامة، يذهبون في النّار ويتخطّفون، مرضى لا يعاد سقيمهم، وجرحى لا يداوى جريحهم، وأسرى لا يفكّ أسرهم، من النار يأكلون، ومنها يشربون، وبين أطباقها يتقلبون، وبعد لبس القطن مقطّعات النار يلبسون، وبعد معانقة الأزواج مع الشياطين مقرنون(١) .

كشف الغمّة من مسند أحمد بن حنبل، عن ثوبان مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمةعليها‌السلام ، وأوّل مَن يدخل عليه إذا قدم فاطمةعليها‌السلام ، قال: فقدم من غزاة فأتاها، فإذا هو بمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسينعليهما‌السلام قُلبين من فضّة(٢) ، فرجع ولم يدخل عليها، فلمّا رأت ذلك، ظنّت أنّه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القُلبين من الصبيّين فقطعتهما، فبكى الصبيّان

____________________

(١) البحار: ج٣ ص٨٧. تفسير البرهان: ج٢ ص٣٦٤.

(٢) القُلب بالضم: السوار.

٥٤

فقسّمته بينهما، فانطلقا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما يبكيان، فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهما، وقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان - أهل بيت بالمدينة - واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج ( فإنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أحبّ أن يأكلوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا )(١).

روى الشيخ الجليل أبو جعفر بن جرير الطبري في الدلائل بإسناده إلى ابن مسعود، أنّه جاء إلى فاطمةعليها‌السلام ، فقال: يا ابنة رسول الله، هل ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندك شيئاً تطرفينيه؟ فقالت (سلام الله عليها): يا جارية هات ( هاتي ظ ) تلك الجريدة، فطلبتها فلم تجدها، فقالت (سلام الله عليها): ويحكِ اطلبيها فإنّها تعدل عندي حسناً وحسيناً، فطلبتها فإذا هي قد قمّمتها في قمامتها(٢) فإذا فيها:

قال محمّد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من المؤمنين مَن لم يأمن جاره بوائقة، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت، إنّ الله تعالى يحبّ الخيّر الحليم المتعفّف، ويبغض الفاحش البذّاء السئّال الملحف، إنّ الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة، وإنّ الفحش من البذاء والبذاء في النار(٣) .

____________________

(١) البحار: ج٣٤ ص٨٩، وأورده محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٥١ - ٥٢ وقال: خرجه أحمد. والعصب: سن دابة بحرية تسمّى فرس فرعون ويكون أبيض.

(٢) القمامة: كناسة الدار وأشباهها.

(٣) دلائل الإمامة: ص١.

٥٥

فصل

روى الشيخ الصدوق عن ابن عباس، في خبر طويل في إخبار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بظلم أهل البيت، فمّما أخبر به أن قال: وأمّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الأنسيّة، متى قامت في محرابها بين يدي ربّها جلّ جلاله، زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزّ وجلّ لملائكته: ( يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة سيّدة إمائي، قائمة بين يديّ ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها إلى عبادتي، أشهدكم أنّي قد أمنت شيعتها من النار ).

أقول: ثم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وإنّي لَمّا رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذّل بيتها، وانتهكت حرمتها وغصب حقّها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمّداه فلا تُجاب، وتستغيث فلا تُغاث، فلا تزال بعدي محزونة، مكروبة، باكية، تتذكّر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة، وتتذكّر فراقي أُخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل لفقد صوتي الّذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدتُ بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيّام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران فتقول: ( يا فاطمة، إنّ الله اصطفاك وطهرّك

٥٦

واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين ).

ثم يبتدي بها الوجع فتمرض، فيبعث الله عزّ وجلّ إليها مريم بنت عمران تمرضها وتؤنسها في علّتها، فتقول عند ذلك: يا رب إنّي قد سئمت الحياة وتبرّمت بأهل الدنيا، فألحقني بأبي، فيلحقها الله عزّ وجلّ بي، فتكون أوّل مَن يلحقني من أهل بيتي، فتُقْدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة، مغصوبة، مقتولة فأقول عند ذلك: ( اللّهمّ العن مَن ظلمها، وعاقب مَن غصبها، وأذلّ مَن أذلّها، وخلّد في نارك مَن ضرب جنينها حتّى ألقت ولدها ) فتقول الملائكة عند ذلك آمين(١) .

____________________

(١) الأمالي للصدوق: ص١١٣. كما رواه الديلمي في إرشاد القلوب، والمجلسي في البحار، والجويني في فرائد السمطين: ٢ / ٣٤ - ٣٥.

٥٧

فصل

حديث تزويج فاطمة لعليٍّعليه‌السلام

في البحار عن أمالي الشيخ بسنده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: لَمّا زوّج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمةعليها‌السلام عليّاًعليه‌السلام دخل عليها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك، فو الله لو كان في أهل بيتي خير منه زوّجتك، وما أنا زوّجتك، ولكنّ الله زوّجك وأصدق عنك الخمس ما دامت السموات والأرض.

قال عليعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قم فبع الدِّرع، فقمت فبعته وأخذت الثّمن ودخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسكبت الدًّراهم في حجره، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته، ثم قبض قبضة ودعا بلالاً فأعطاه فقال: ابتع لفاطمة طيباً، ثم قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الدَّراهم بكلتا يديه فأعطاه أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، وأردفه بعمّار بن ياسر وبعدَّة من أصحابه.

فحضروا السوق، فكانوا يعترضون الشيء ممّا يصلح فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر، فإن استصلحه اشتروه، قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبريّة، وسرير مزمَّل(١)

____________________

(١) مزمّل أي ملفوف، والشريط خوص مفتول يشرط به السرير، والخيش: ثياب في نسجها رقّة وخيوطها غلاظ. قوله: من جزّ الغنم أي من الصوف الذي جزّ من الغنم.

٥٨

بشريط، وفراشين من خيش مصر، حشو أحدهما ليف وحشو الأخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها أذخر، وستر من صوف، وحصير هجري(١) ورحىّ لليد، ومِخْضَب(٢) من نحاس، وسقاء من أدم، وقعب(٣) للبن، وشنّ للماء، ومطهرة مزفَّتة، وجرة خضراء، وكيزان خزف، حتّى إذا استكمل الشراء، حمل أبو بكر بعض المتاع، وحمل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين كانوا معه الباقي، فلمّا عرض المتاع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل يقلّبه بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت.

قال عليعليه‌السلام : فأقمت بعد ذلك شهراً أُصلّي مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرجع إلى منزلي ولا أذكر شيئاً من أمر فاطمةعليها‌السلام ، ثم قلن أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألاَ نطلب لك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخول فاطمةعليه‌السلام عليك؟ فقلت: افعلن، فدخلن عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت أم أيمن: يا رسول الله، لو أن خديجة باقية لقرَّت عينها بزفاف فاطمة، وإنّ عليّاً يريد أهله، فقرَّ عين فاطمة ببعلها واجمع شملها، وقرَّ عيوننا بذلك، فقال: ما بال عليّ لا يطلب منّي زوجته، فقد كنّا نتوقّع ذلك منه، قال عليعليه‌السلام : فقلت الحياء يمنعني يا رسول الله.

فالتفت إلى النّساء فقال: مَن ها هنا، فقالت أُمّ سلمة: أنا أمُّ سلمة: وهذه زينب وهذه فلانة وفلانة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هيّئن لابنتي وابن عمّي في حُجري بيتاً، فقالت أُمّ سلمة: في أي حجرة يا رسول الله؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في حجرتك، وأمر نساءه أن يزيَّن ويصلحن من شأنها.

قالت أُمّ سلمة: فسألت فاطمة، هل عندك طيب ادّخرتيه لنفسك؟ قالت: نعم. فأتت بقارورة فسكبت منها في راحتي، فشممت منها رائحة ما

____________________

(١) هَجَر محرّكة: بلدة باليمن، وقرية كانت قرب المدينة راجع هامش البحار.

(٢) المخصب كمنبر: المركن.

(٣) القعب: قدح من خشب.

٥٩

شممت مثلها قطّ، فقلت: ما هذا؟ فقالت: كان يدخل دحية الكلبي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول لي: يا فاطمة: هات الوسادة فاطرحيها لعمّك، فأطرح له الوسادة فيجلس عليها، فإذا نهض سقط من بين ثيابه شيء فيأمرني بجمعه، فسأل عليّعليه‌السلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك؟ فقال هو عنبر يسقط من أجنحة جبرئيل.

قال عليعليه‌السلام : ثمّ قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي، اصنع لأهلك طعاماً فاضلاً، ثم قال: من عندنا اللّحم والخبز، وعليك التمر والسّمن، فاشتريت تمراً وسمناً، فحسر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذراعه وجعل يشدخ(١) التّمر في السّمن حتّى اتّخذه حيساً(٢) ، وبعث إلينا كبشاً سميناً فذُبح وخُبزَ لنا خبز كثير.

ثم قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادع مُن أحببت، فأتيت المسجد وهو مشحن بالصّحابة، فحييت أن أشخص قوماً وأدع قوماً، ثمّ صعدت على ربوة هناك وناديت: أجيبوا إلى وليمة فاطمة، فأقبل الناس أرسالاً فاستحييت من كثرة الناس وقلّة الطعام، فعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تداخلني، فقال: يا عليُّ، إنّي سأدعو الله بالبركة.

قال عليعليه‌السلام : فأكل القوم عن آخرهم طعامي، وشربوا شرابي، ودعوا لي بالبركة، وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل ولم ينقص من الطعام شيء.

ثم دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصّحاف فمُلِئَت، ووجّه بها إلى منازل أزواجه، ثم أخذ صحفة وجعل فيها طعاماً وقال: هذا لفاطمة وبعلها، حتى إذا انصرفت الشمس للغروب، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أُمّ سلمة، هلمّي فاطمة، فانطلقت فأتت بها وهي تسحب أذيالها، وقد تصبّبت عرقاً حياءً من

____________________

(١) الشدخ: كسر الشيء.

(٢) الحيس: هو تمر يخلط بسمن وأقط. وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فصمد الحجاز في ثورته أو في تنكره لبني اُميّة إلى أيّام عبد الملك بن مروان، وكان أخرج الفريقين من سبق إلى أحرج العملين. وأحرج العملين ذاك الذي دفع إليه - أو اندفع إليه - الحجاج عامل عبد الملك فنصب المنجنيق على جبال مكّة، ورمى الكعبة بالحجارة والنيران فهدمها، وعفى على ما تركه منها جنود يزيد بن معاوية، فقد كان قائده الذي خلّف مُسلم بن عقبة وذهب لحصار مكّة أوّل مَن نصب لها المنجنيق وتصدى لها بالهدم والإحراق.

وما زالت الجرائر تتلاحق حتّى تقوض من وطأتها ملك بني اُميّة، وخرج لهم السّفاح الأكبر وأعوانه في دولة بني العبّاس فعمّوا بنقمتهم الأحياء والموتى، وهدموا الدور، ونبشوا القبور، وذكر المنكوبون بالرّحمة فتكات المختار بن أبي عبيد، وتجاوز الثأر كلّ مدى خطر على بال هاشم واُميّة يوم مصرع الحُسينعليه‌السلام .

لقد كانت ضربة كربلاء، وضربة المدينة، وضربة البيت الحرام، أقوى ضربات اُميّة لتمكين سلطانهم وتثبيت بنيانهم وتغليب ملكهم على المنكرين والمنازعين فلم ينتصر عليهم المنكرون والمنازعون بشيء كما انتصروا عليهم بضربات أيديهم ولم يذهبوا بها ضاربين حقبة حتّى ذهبوا بها مضروبين إلى آخر الزمان.

وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء فإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد الأيّام، وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب إذا وضعت الأعمار المنزوعة في الكفتين

١٨١

١٨٢

نهاية المطاف

مَن الظافِر؟

غبن أن يفوت الإنسان جزاؤه الحقّ على عمله وخُلقه وأثقل منه في الغبن أن ينقلب الأمر فيُجزى المحسن بالإساءة، ويُجزى المسيء بالإحسان.

وقد تواضع النّاس منذ كانوا على معنى للتاريخ والأخلاق، ووجهة للشريعة والدين والجزاء الحقّ هو الوجهة الواحدة التي تلتقي فيها كلّ هذه المقاصد الرفيعة فإذا بطل الجزاء اُلحق ففي بطلانه الإخلال كلّ الإخلال بمعنى التاريخ والأخلاق، ولباب الشرائع والأديان، وفيه حكم على الحياة بالعبث وعلى العقل الإنساني بالتشويه والخسار.

والجزاء الحقّ غرض مقصود لذاته يحرص عليه العقل الإنساني كرامة لنفسه ويقيناً من صحته وحسن أدائه، كالنّظر الصحيح نحسبه

١٨٣

هو غرضاً للبصر يرتاح إلى تحقيقه ويحزن لفواته وإن لم يكن وراء ذلك ثواب أو عقاب؛ لأنّ النّظر الصحيح سلامة محبوبة والإخلال به داء كريه.

ولا يستهدف هذا القسطاس المستقيم لمحنة من محنه التي تزري بكرامة العقل الإنساني، كاستهدافه لها وهو في مصطدم التضحية والمنافع، أو في الصراع بين الشُهداء وأصحاب الطمع والحيلة ففي هذا المصطدم يبدو للنظرة الأولى أنّ الرجل قد أضاع كلّّ شيء وانهزم، وهو في الحقيقة غانم ضافر.

ويبدو لنا أنّه قد ربح كلّ شيء وانتصر وهو في الحقيقة خاسر مهزوم؛ ومن هُنا يدخل التاريخ ألزم مداخله وأبينها عن قيمة البحث فيه؛ لأنّه المدخل الذي يفضي إلى الجزاء الحقّ والنتيجة الحقّة، وينتهي بكلّ عامل أفلح أو أخفق في ظاهر الأمر إلى نهاية مطافه وغاية مسماه في الأمد الطويل.

وقد ظفر التاريخ في الصراع بين الحُسين بن عليّ ويزيد بن معاوية بميزان من أصدق الموازين التي تُتاح لتمحيص الجزاء الحقّ في أعمال الشُهداء وأصحاب الطمع والحيلة، فقلّما تُتاح في أخبار الاُمم شرقاً أو غرباً عبرة

١٨٤

كهذه العبرة بوضوح معالمها أو أشواطها، وفي تقابل النصر والهزيمة فيها بين الطوالع والخواتم، على اختلاف معارض النصر والهزيمة فيزيد في يوم كربلاء هو صاحب النصر المؤزّر الذي لا يشوبه خذلان، وحُسين في ذلك اليوم هو المخذول الذي لم يطمح خاذله من وراء الظفر به إلى مزيد ثمّ تنقلب الآية أيما انقلاب، ويقوم الميزان، فلا يختلف عارفان بين كفّة الرّجحان وكفّة الخسران وهذا الذي قصدنا إلى تبيينه وجلائه بتسطير هذه الفصول.

* * *

وما من عبرة أولى من هذه بالتبيين والجلاء لدارس التاريخ ودارس الحياة وطالب المعنى البعيد في أطوار هذا الوجود.

ولسنا نقول إنّ الصراع بين الحُسين ويزيد مثل جامع لكلّ ألوان الصراع بين الشّهادة والمنفعة أو بين الإيمان والمآرب الأرضية؛ فإنّ لهذا الصراع لألواناً تتعدّد ولا تتكرر على هذا المثال، وإنّ له لَعناصر لم تجتمع

١٨٥

كلّها في طرفي الخصومة بين الرّجلين، وأشواطاً لم تتخذ الطريق الذي اتخذته هذه الخصومة في البداية أو النّهاية.

ولسنا نقول إنّ الصراع بين الحُسين ويزيد مثل جامع لكلّ ألوان الصراع وتفرّدها بارزة ماثلة للتأمل والتعقيب، وهي أنّ مسألة الحُسين ويزيد قد كانت صراعاً بين خلقين خالدين، وقد كانت جولة من جولات هذين الخلقين اللذين تجاولا أحقاباً غابرات، ولا يزالان يتجاولان فيما يلي من الأحقاب، وقد أسفرا عن نتيجة فاصلة ينفرد لها مكان معروف بين سائر الجولات، وليست جولة اُخرى منهن بأحقّ منها بالتعليق والتصديق.

ووجهتنا من هذه العبرة أن يُعطى كلّ خُلق من أخلاق العاملين حقّه بمعيار لا غبن فيه، فإذا سعى أحد بالحيلة فخدع النّاس وبلغ مأربه فليكن ذلك مغنمه وكفى، ولا ينفعه ذلك في استلاب السمعة المحبوبة والعطف الخالص والثناء الرفيع وإذا خسر أحد حياته في سبيل إيمانه فلتكن تلك خسارته وكفى، ولا ينكب فوق ذلك بخسارة في السمعة والعطف والثناء.

فلو جاز هذا لكان العطف الإنساني أزيف ما عرفناه في هذه الدُنيا من الزيوف؛ لأنّ خديعة واحدة تشتريه وتستبقيه، وما من زيف في

١٨٦

العروض الاُخرى إلاّ وهو ينطلي يوماً وينكشف بقية الأيّام.

* * *

وإذا كان احتيال الإنسان لنفسه معطيه كلّ ما تهبه الدُنيا من غنم النفع والمحبّة والثناء، فقد ربح المحتالون وخسر نوع الإنسان، وإذا كانت خسارة المرء في سبيل إيمانه تجمع عليه كلّ خسارة، فالأحمق الفاشل من يطلب الخير للناس ويغفل عن نفسه في طلابه.

فكفى الواصل ما وصل إليه وكثير عليه أن يطمع عند الخلف والسلف فيما ادخرته الإنسانيّة من الثناء والعطف لِمن يكرمونها بفضيلة الشّهادة والتضحية، ويخسرون. وهذا الفيصل العادل أعدل ما يكون فيما بين الحُسين ويزيد

فإذا قيل: إنّ معاوية قد عمل وقد أفلح بالحيلة والدهاء، فيزيد لم يعمل ولم يفلح بحيلة ولا دهاء، ولكنّه ورث المنافع التي يشتري بها الأيدي والسّيوف، فجال بها جولة رابحة في كفاح الضمائر والقلوب، فينبغي ألاّ يربح بهذه الوسيلة؛ فأمّا وقد ربح فينبغي أن يقف الرّبح عند ذاك، وينبغي للعذر الكاذب والثناء المأجور ألاّ يحسبا على النّاس بحساب العذر الصادق والثناء الجميل.

وقد تزلّف إلى يزيد مَن يتزلفون إلى أصحاب المال والسُلطان ثمّ

١٨٧

أخذوا اُجورهم، فينبغي أن يقوم ذلك الثناء بقيمة تلك الاُجور وأن يكون ما قبضوه من أجرٍ غاية ما استحقوه إنْ كانوا مستحقيه؛ أمّا أنّ يُضاف ثناء الخلود إلى صفقة اُولئك المأجورين، فقد أصبح ثناء الخلود إذن صفقة بغير ثمن، أو هو علاوة مضمونة على صفقة كلّ مأجور.

إنّ صاحب الثناء المبذول لا يسأل عن شيء غير العطاء المبذول، ولكن التاريخ خليق أن يسأل عن أعمال وأقوال قبل أن يبذل ما لديه من ثناء. وليس في تاريخ يزيد عمل واحد صحيح أو مدعى، ولا كلمة واحدة صحيحة أو مدعاة تقيمه؛ بحيث أراده المأجورون من العذر الممهد والمدح المعقول، أو تخوّله مكان الترجيح في الموازنة بينه وبين الحُسين

كلّ أخطائه ثابتة عليه، ومنها - بل كلّها - خطؤه في حقّ نفسه ودولته ورعاياه، وليس له فضل واحد ثابت ولا كلمة واحدة مأثورة تنقض ما وصفه به ناقدوه وعائبوه؛ فقد كانت له ندحة عن قتل الحُسين، وكان يخدم نفسه ودولته لو أنّه استبقاه حيث يتقيه ويرعاه

وكانت له ندحة عن ضرب الكعبة، واستباحة المدينة، وتسليط أمثال مُسلم بن عقبة وعبيد الله بن زياد على خلائق الله. وكانت له ندحة عن السمعة التي لصقت به ولم تلصق به افتراء ولا

١٨٨

ادعاء كما يزعم صنائعه ومأجوروه؛ لأنّ واصفيه بتلك السمعة لم يلصقوا مثلها بأبيه ومَن كان حقّه في النعمة التي نعم بها مغتصباً ينتزعه عنوة، لا يكن حقّه في الفضل والكرامة جزافاً لا حسيب عليه.

* * *

وتسديد العطف الإنساني هُنا فرض من أقدس الفروض على الناظرين في سير الغابرين؛ لأنّ العطف الإنساني هو كلّ ما يملك التاريخ من جزاء، وهو الثروة الوحيدة التي يحتفظ بها الخلود

وإنّنا لندع الخطأ في سياسة النفعيين، وننظر إليهم كأنّهم مصيبون في السّياسة بُصراء بمواقع التدبير. فعلى هذه الصفة - لو تمّت لهم - لا يحقّ لخادم زمانه أن ينازع الشُهداء في ذخيرة العطف الخالد، وهُم خدام العقائد التي تتخطى حياة الأجيال كما تتخطى حياة الأفراد؛ فإنّ حرمان الشُهداء حقّهم في عطف الأسلاف خطأ في الشّعور، وخطأ كذلك في التفكير

والنّاس خاسرون إذا بطل عطفهم على الشُهداء، وليس قُصارى أمرهم أنّهم قُساة أو جاحدون؛ لأنّ الشّهادة فضيلة تروح وتأتي وتكثر

١٨٩

حيناً وتندر في غير ذلك من الأحيان. أمّا حبّ المنفعة فإن سميته فضيلة فهو من الفضائل التي لن تفارق الأحياء أجمعين، من ناطقة وعجماء.

* * *

على أن الطبائع الآدمية قد أشربت حبّ الشُهداء والعطف عليهم وتقديس ذكرهم بغير تلقين ولا نصيحة، وإنّما تنحرف عن سواء هذه السنّة لعوارض طارئة أو باقية تمنعها أن تستقيم معها، وأكثر ما تأتي هذه العوارض من تضليل المنفعة والهوى القريب، أو من نكسة في الطبع تغريه بالضغن على كلّ خلق سوي وسجية سمحة محببة إلى النّاس عامّة، أو من الأفراد في حبّ الدعة حتّى يجفل المرء من الشّهادات؛ استهوالاً لتكاليفها واستعظاماً للقدوة بها، فيتّهم الشُهداء بالهوج ويتعقب أعمالهم بالنقد؛ لكيلا يتهم نفسه بالجبن والضعة ويستحقّ المذمة واللوم في رأي ضميره، وإن لم يتهمهم بالهوج ولم يتعقبهم بالنقد، وقف من فضائلهم موقف ازورار وفتور، وجنح إلى معذرة الآخرين والتفاهم بينه وبين مَن لا يستشهدون، ثمّ يعارضون الشُهداء فيما يطمحون إليه.

ومعظم المؤرّخين الذين يُعارضون الشُهداء ودعاتهم لغير منفعة أو نكسة هُم من أصحاب الدعة المفرطة وأنصار السّلامة النّاجية، ويغلب على هذه الخلّة أن تسلبهم ملكة التاريخ الصحيح أنّها تعرّضهم للخطأ في الحكم والتفكير، كما تعرّضهم للخطأ في العطف والشّعور.

١٩٠

ومن المعقبين على تاريخ هذه الفترة عندنا - في العربيّة - مؤرخ يُتخذ منه المثل لكلّ من العذر والعطف حين يصل الأمر إلى الاستشهاد كراهة للظلم ودرءاً للمنكرات، وهو الأستاذ مُحمّد الخضري صاحب تاريخ الاُمم الإسلاميّة رحمه الله

ففي تعقيبه على ثورة المدينة - التي قدّمنا الإشارة إليها - يقول: إنّ الإنسان ليعجب من هذا التهور الغريب والمظهر الذي ظهر به أهل المدينة في قيامهم وحدهم بخلع خليفة في إمكانه أن يجرّد عليهم من الجيوش ما لا يمكنهم أن يقفوا في وجهه، ولا ندري ما الذي كانوا يريدونه بعد خلع يزيد؟

أيكونون مستقلين عن بقية الأمصار الإسلاميّة، لهم خليفة منهم يلي أمرهم، أم حمل بقية الاُمّة على الدخول في أمرهم؟ وكيف يكون هذا وهم منقطعون عن بقية الأمصار ولم يكن معهم في هذا الأمر أحد من الجنود الإسلاميّة؟.. إنّهم فتقوا فتقاً وارتكبوا جرماً فعليهم جزء عظيم من تبعة انتهاك حُرمة المدينة، وكان اللازم على يزيد وأمير الجيش أن لا يسرف في معاملتهم بهذه المعاملة؛ فإنّه كان من الممكن أن يأخذهم بالحصار.

* * *

ويخيّل إليك وأنت تقرأ كلام الأستاذ عن هذه الفترة كلّها أنّ لديه أعذاراً ليزيد وليس لديه عذر لأهل المدينة؛ لأنّه يفهم كيف يغضب المرء

١٩١

لما في حوزته، ولا يفهم كيف تضيق به كراهة الظلم وغيرة العقيدة عن الاحتمال، وشعوره هذا يحول بينه وبين الحكم الصحيح على حوادث التاريخ؛ لأنّه يحول بينه وبين انتظار هذه الحوادث حيث تنتظر لا محالة، واستبعادها حيث هي بعيدة عن التقدير.

فلم يحدث قط في مواجهة الظلم وانتزاع الدول المكروهة أن شعر النّاس كما أرادهم الأستاذ أن يشعروا أو فكّروا في الأمر كما أرادهم أن يفكّروا، ومستحيل حدوث هذا أشدّ الاستحالة، وليس قصاراه أنّه لم يحدث من قبل في حركات التاريخ؛ فهذه الحركات التي تواجه الدول المكروهة لا تنتظر - ولا يمكن أن تنتظر - حتّى تربى قوتها وعدتها على ما في أيدي الدولة التي تكرهها من قوة وعدّة

ولكنّها حركة أو دعوة تبدأ بفرد واحد يجترئ على ما يهابه الآخرون، ثمّ يلحق به ثان وثالث ورابع ما شاء له الإقناع وضيق الذرع بالاُمور، ثمّ ما ينالهم من نقمة فيشيع الغضب وينكشف الظُلم عمّن كان في غفلة عنه، ثمّ يشتدّ الحرج بالظالم فيدفعه الحرج إلى التخبط على غير هُدى، ويخرج من تخبط غليظ أحمق إلى تخبط أغلظ منه وأحمق فلا هُم

١٩٢

يقفون في امتعاضهم وتذمرهم ولا هو يقف في بطشه وجبروته، حتّى يغلو به البطش والجبروت فيكون فيه وهنه والقضاء عليه.

على هذا النحو يعرف المؤرّخ الذي يعالج النّفوس الآدمية ما هو من طبعها وما هو خليق أن ينتظر منها، فلا يُعالجها حقّ العلاج على أنّها مسألة جمع وطرح في دفتر الحساب بين هذا الفريق وذاك الفريق، وعلى هذا النحو تكون حركة الحُسين قد سلكت طريقها الذي لا بدّلها أن تسلكه، وما كان لها قط من مسلك سواه.

* * *

وصل الأمر في عهد يزيد إلى حدّ لا يعالج بغير الاستشهاد وما نحا منحاه، وهذا هو الاستشهاد ومنحاه، وهو - بالبداهة التي لا تحتاج إلى مقابلة طويلة - منحى غير منحى الحساب والجمع والطرح في دفاتر التجار، ومع هذا يدع المؤرّخ طريق الشّهادة تمضي إلى نهاية مطافها ثمّ يتناول دفتر التجّار كما يشاء؛ فإنّه لواجد في نهاية المطاف أنّ دفتر التجّار لن يكتب الربح آخراً إلاّ في صفحة الشُهداء.

فالدُعاة المستشهدون يخسرون حياتهم وحياة ذويهم، ولكنّهم يرسلون دعوتهم من بعدهم ناجحة متفاقمة، فتظفر في نهاية مطافها بكلّ شيء حتّى المظاهر العرضية والمنافع الأرضية

وأصحاب المظاهر العرضية والمنافع الأرضية يكسبون في أوّل

١٩٣

الشّوط ثمّ ينهزمون في وجه الدعوة المستشهدة حتّى يخسروا حياتهم أو حياة ذويهم، وتوزن حظوظهم بكلّ ميزان، فإذا هُم بكلّ ميزان خاسرون، وهكذا أخفق الحُسين ونجح يزيد ولكن يزيد ذهب إلى سبيله وعوقب أنصاره في الحياة والحطام والسمعة بعده بشهور، ثمّ تقوضت دولته ودولة خلفائه في عمر رجل واحد لم يجاوز السّتين

وانهزم الحُسين في كربلاء واُصيب هو وذووه من بعده، ولكنّه ترك الدعوة التي قام بها مُلك العبّاسيين والفاطميين وتعلل بها اُناس من الأيوبيّين والعثمانيين، واستظل بها الملوك والاُمراء بين العرب والفرس والهنود، ومثل للناس في حلّة من النّور تخشع لها الأبصار، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان غير مستثنى منهم عربي ولا أعجمي ولا قديم ولا حديث.

أبو الشُهداءعليه‌السلام :

فليس في العالم اُسرة أنجبت من الشُهداء من أنجبتهم اُسرة الحُسين عدّة وقدرة وذكرة، وحسبه أنّه وحده في تاريخ هذه الدُنيا الشّهيد ابن الشّهيد أبو الشُهداء في مئات السّنين

١٩٤

وأيسر شيء على الضعفاء الهازلين أن يذكروا هُنا طلب الملك ليغمروا به شهادة الحُسين وذويه فهؤلاء واهمون ضالون مُغرقون في الوهم والضلال؛ لأنّ طلب الملك لا يمنع الشّهادة، وقد يطلب الرجل الملك شهيداً قدّيساً ويطلبه وهو مجرم بريء من القداسة، وإنّما هو طلب وطلب، وإنّما هي غاية وغاية، وإنّما المعول في هذا الأمر على الطلب لا على المطلوب.

فمَن طلب الملك بكلّ ثمن، وتوسّل له بكلّ وسيلة، وسوّى فيه بين الغصب والحقّ وبين الخداع والصدق وبين مصلحة الرّعية ومفسدتها، ففي سبيل الدُنيا يعمل لا في سبيل الشّهادة، ومَن طلب الملك وأباه بالثمن المعيب، وطلب الملك حقّاً ولم يطلبه؛ لأنّه شهوة وكفى، وطلب الملك وهو يعلم أنّه سيموت دونه لا محالة، وطلب الملك وهو يعتزّ بنصر الإيمان ولا يعتزّ بنصر الجند والسلاح، وطلب الملك دفعاً للمظلمة وجلباً للمصلحة كما وضحت له بنور إيمانه وتقواه، فليس ذلك بالعامل الذي يخدم نفسه بعمله، ولكنّه الشّهيد الذي يلبّي داعي المروءة والأريحية، ويطيع وحي الإيمان والعقيدة، ويضرب للناس مثلاً يتجاوز حياة الفرد الواحد وحياة الأجيال الكثيرة

مَن ثمّ يقيم الآية على حقيقة الحقائق في أمثال هذا الصراع بين الخلقين أو بين المزاجين والتاريخين

١٩٥

وهي أنّ الشّهادة خصم ضعيف مغلوب في اليوم والأسبوع والعام، ولكنّها أقوى الخصوم الغالبين في الجيل والأجيال ومدى الأيّام، وهي حقيقة تُؤيّدها كلّ نتيجة نظرت إليها بعين الأرض أو بعين السّماء على أن تنظر إليها في نهاية المطاف.

ونهاية المطاف هي التي يدخلها نوع الإنسان في حسابه ويوشج عليها وشائج عطفه وإعجابه؛ لأنّه لا يعمل لوجبات ثلاث في اليوم، ولا ينظر إلى عمر واحد بين مهد ولحد، ولكنّه يعمل للدوام وينظر إلى الخلود

١٩٦

في عالم الجمال:

عاشق الجمال

إذا لحقت السيرة بعالم المثال الذي يتطلع إليه خيال الشُعراء وتتغنى به قرائح أهل الفن، فقد تنزهت عن ربقة الجسد وأصبحت صورة من الصور المثلى في عالم الجمال ومن آيات الجمال إنّه يتحدى المنفعة ويؤثر البطولة على السّلامة.

فإذا تعلقت القريحة بالجمال، فلا جرم تزن الاُمور بغير ميزان الحساب والصفقات، فتعرض عن النعمة وهي بين يديها وتقبل على الألم وهي ناظرة إليه، وتلزمها سجية العشق الآخذ بالأعنّة، فتنقاد له ولا تنقاد لنصيحة ناصح أو عذل عاذل؛ لأنّ المشغوف بالجمال ينشده ولا يُبالي ما يلقاه في سبيله.

وقد تمثّلت سجية عاشق الجمال في كلّ شعر نظّمه شُعراء الحُسين وذويه؛ تعظيماً لهم وثناء عليهم لم يتجهوا إليهم ممدوحين وإنّما اتجهوا

١٩٧

إليهم صوراً مُثلى يهيمون بها كما يهيم المحب بصورة حبيبه، ويستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام وإيلام.

وفي معنى كهذا المعنى يقول الكميت شاعر أهل البيتعليهم‌السلام :

طربتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ

ولا لـعباً مـنِّي وذو الشّيبِ يلعبُ

ولـم يـلهني دارٌ ولا رسـمُ منزلِ

ولـم يـتطرّبني بـنانٌ مـخضَّبُ

ولا أنـا مـمَّن يـزجرُ الطيرُ همَّهُ

أصـاحَ غـرابٌ أم تعرّضَ ثعلبُ

ولا الـسانحاتُ الـبارحاتُ عشيّةً

أمـرَّ سليمُ القرنِ أم مرَّ أعضبُ (١)

ولـكنْ إلـى أهلِ الفضائلِ والنّهى

وخـيرِ بـني حوّاءَ والخيرُ يُطلبُ

إلـى الـنفرِ الـبيض الذين بحبِّهمْ

إلى الله فـيما نـالني أتـقرّبُ

____________________

(١) السّانح: الطير الذي يمر من اليسار إلى اليمين وعكسه البارج. والأعضب: المكسور.

١٩٨

بَـنِي هَـاشِمٍ رَهط النَّبِيِّ فإنَّنِي

بِهِم ولَهُم أَرضَى مِرَاراً وأغضَبُ

خـفضتُ لهم منّي جناحَي مودَّة

إلـى كنفِ عِطفاهُ أهلٌ ومرحبُ

يـشيرونَ بـالأيدي إليَّ وقولُهُمْ

ألا خابَ هذا والمشيرون أخيبُ

فـطائفةٌ قـد كـفَّرتني بـحُبّكُمْ

وطـائفةٌ قـالوا مسيءٌ ومُذنبُ

فـما سـاءني تكفيرُ هاتيكَ منهمُ

ولا عيبُ هاتيكَ الّتي هي أعيبُ

يـعيبونني مـنْ خبّهمْ وَضلالِهمْ

على حُبّكم بل يسخرونَ وأعجبُ

وقـالوا تـرابيٌّ (١) هواهُ ورأيُهُ

بـذلك أُدعـى فـيهمُ واُلـقّبُ

على ذاكَ إجريّاي فيكم ضريبتي

وَلـو جمعوا طرّاً عليَّ وأجلبوا

____________________

(١) مِن كُنى عليّ بن أبي طالب (أبو تراب)، وترابي نسبة إليه.

١٩٩

وأحملُ أحقادَ الأقاربِ فيكمُ

وينصبُ لي في الأبعدينَ فأنصبُ

وقد مرّ بنا حديث زين العابدين رضي الله عنه، وهو غلام عليل أوشك أن يتخطفه الموت بكلمة من عبيد الله بن زياد؛ لأنّه استكبر أن تكون به جرأة على جوابه.

فهذا الغلام العليل قد عاش حتّى انعقد له مُلك القلوب؛ حيث انعقد مُلك الأجسام لهشام بن عبد الملك سيّد ابن زياد وآله، وذهب هشام بين جنده وحشمه يحجّ البيت ويترضّى النّاس، فلم يخلص إلى الحجر الأسود لتزاحم الحجيج عليه، وأنّه لجالس على كرسيه ينتظر انفضاض النّاس إذا بزين العابدين يقبل إلى الحجر الأسود في وقاره وهيبته، فيتنحى له الجيج ويحفوا به وهو يستلم الحجر مطمئناً غير معجّل، ثمّ يعود من حيث أتى والنّاس مشيعوه بالتجلّة والدُعاء.

وتهوّل رجلاً من حاشية هشام هذه المهابة التي لم يرها لمولاه فيسأل: مَن هذا الذي هابه النّاس هذه الهيبة؟ ويخشى هشام أن يطّلع جنده على مكانة رجل لم يتطاول إلى مثل مكانته بسلطانه وعتاده فيقول: لا أعرفه ويقتضب الجواب.

وهذا الذي تصدى له شاعر آخر قد غامر بحياته ونواله ليقول بالقصيد المحفوظ ما ثقل على لسان هشام أن يقوله في كلمتين عابرتين

وذلك هو الفرزدق حيث قال:

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207