بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) 27%

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مؤلف:
الناشر: فاروس
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 207

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103675 / تحميل: 10639
الحجم الحجم الحجم
بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

مؤلف:
الناشر: فاروس
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة :( وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى ) ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هنا ليس كلّ المعجزات التي ظهرت على يد موسىعليه‌السلام طيلة حياته في مصر. بل مرتبطة بالمعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته ، معجزة العصا ، واليد البيضاء ، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة ، والتي كانت بنفسها دليلا حيّا على أحقّيته ، ولذلك تطالعنا بعد هذه الحادثة مسألة المواجهة بين السّحرة وموسىعليه‌السلام ومعجزاته الجديدة.

والآن ، لنر ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى ومعجزاته ، وكيف اتّهمه كما هي عادة كلّ المتسلّطين والحكّام المتعنّتين :( قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ) وهو إشارة إلى أنّنا نعلم أنّ مسألة النبوّة والدعوة إلى التوحيد ، وإظهار هذه المعجزات تشكّل بمجموعها خطّة منسّقة للانتصار علينا ، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا ، فليس هدفك الدعوة إلى التوحيد ، ولا نجاة وتخليص بني إسرائيل ، بل هدفك الوصول إلى الحكم والسيطرة على هذه الأرض ، وإخراج المعارضين!

إنّ هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على امتداد التاريخ ، ويلوحون بها ويشهرونها كلّما رأوا أنفسهم في خطر ، ومن أجل إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرّض مصالح البلد للخطر ، فالبلد يعني حكومة هؤلاء العتاة ، ووجوده يعني وجودهم!

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الهدف من جلب بني إسرائيل إلى مصر ، والاحتفاظ بهم في هذه الأرض لم يكن من أجل استغلال قواهم كعبيد وحسب ، بل إنّهم في الوقت نفسه كانوا لا يريدون لبني إسرائيل ، الذين كانوا قوما أقوياء ، أن يتحوّلوا إلى قوّة ومصدر خطر. وكذلك لم يكن الأمر بقتل الذكور للخوف من ولادة موسى فقط ، بل للوقوف أمام قوّتهم والحدّ منها ، وهذا عمل يقوم به كلّ الأقوياء الظالمين ، وبناء على هذا فإنّ خروج بني إسرائيل ـ حسب طلب موسى ـ

٢١

يعني اقتدار هذه الأمّة ، وفي هذه الحالة سيتعرّض سلطان الفراعنة وعرشهم إلى الخطر.

والنقطة الأخرى في هذه العبارة القصيرة ، هي أنّ فرعون قد اتّهم موسى بالسحر ، وهذا هو ما اتّهم به كلّ الأنبياء عند إظهار معجزاتهم البيّنة ، كما نقرأ ذلك في الآيتين (52 ـ 53) من سورة الذاريات :( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) .

وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة أيضا ، وهي أنّ إثارة المشاعر الوطنية وحبّ الوطن في مثل هذه المواضع أمر مدروس بدقّة كاملة ، لأنّ أغلب الناس يحبّون أرضهم ووطنهم كحبّهم أنفسهم وأرواحهم ، ولذلك جعلوا هذين الأمرين في مرتبة واحدة ، كما في بعض آيات القرآن :( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) (1) .

ثمّ أضاف فرعون بأن لا تظن بأنّنا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ) ، ولكي يظهر حزما أكثر فإنّه قال :( فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً ) .

وذكر البعض في تفسير( مَكاناً سُوىً ) : إنّ المراد هو أن تكون فاصلته عنّا وعنك متساوية ، وقال بعضهم : أن تكون فاصلته متساوية بالنسبة إلى الناس ، أي أن يكون المكان في وسط المدينة تماما ، وقال بعض : المراد أن تكون الأرض أرضا مكشوفة ومسطّحة يشرف عليها الجميع ، وأن يتساوى في ذلك العالي والداني. ويمكن أن تعتبر كلّ هذه المعاني مجتمعة فيها.

وينبغي التذكير بأنّ الحكّام الطغاة ، ومن أجل أن يهزموا خصمهم في المعركة ، ويرفعوا معنويات أتباعهم وأعوانهم الذين ربّما وقعوا تحت تأثيره (كما في قصّة

__________________

(1) النساء ، 66.

٢٢

موسى ومعجزاته فلا يبعد أن يكونوا قد وقعوا تحت تأثيره) فإنّهم يعيدون إليهم المعنويات والقوّة ، ويتعاملون في الظاهر مع أمثال هذه المسائل بصرامة وشدّة ، ويثيرون الصخب حولها!

إلّا أنّ موسى لم يفقد هدوء أعصابه ، ولم يدع للخوف من عنجهيّة فرعون إلى قلبه طريقا ، بل قال بحزم :( قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (1) .

إنّ التعبير بـ( يَوْمُ الزِّينَةِ ) إشارة إلى يوم عيد كان عندهم لا نستطيع تعيينه بدقّة ، إلّا أنّ المهمّ هو أنّ الناس كانوا يعطّلون أعمالهم فيه ، وكانوا حتما مستعدّين للمشاركة في مثل هذا «المشهد».

على كلّ حال ، فإنّ فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة ، وتأثيرها النفسي في أنصاره ، صمّم على مواجهة موسىعليه‌السلام بالاستعانة بالسّحرة ، ولذلك وضع الاتّفاق المذكور مع موسى( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ) .

في هذه الجملة القصيرة تلخّصت حوادث جمّة جاءت بشكل مفصّل في سورتي الأعراف والشعراء ، لأنّ فرعون بعد تركه ذلك المجلس ومفارقة موسى وهارون ، عقد اجتماعات عديدة مع مستشاريه الخاصّين ، وأتباعه المستكبرين ، ثمّ دعا السّحرة من جميع أنحاء البلاد إلى الحضور في العاصمة ، ورغّبهم بمرغّبات كثيرة من أجل مواجهة موسىعليه‌السلام ، وامور أخرى ليس هنا مجال بحثها ، إلّا أنّ القرآن الكريم قد جمّعها كلّها في هذه الجمل الثلاث :( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ، ثُمَّ أَتى ) (2) .

وأخيرا حلّ اليوم الموعود ، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين ، الذين كان بعضهم السّحرة ، وكان عددهم ـ على رأي بعض المفسّرين ـ إثنين وسبعين

__________________

(1) «الضحى» في اللغة بمعنى زيادة أشعّة الشمس ، أو ارتفاع الشمس ، والواو في جملة (وأن يحشر الناس) دالّة على المعيّة.

(2) بالرغم من أنّ (تولّى) فسّرت هنا بالافتراق عن موسى ، أن عن ذلك المجلس ، إلّا أنّ من الممكن أن تعكس ـ مع ملاحظة معناها من الناحية اللغوية ـ حالة الاعتراض والغضب لدى فرعون. وموقفه المعادي تجاه موسى.

٢٣

ساحرا ، وقال آخرون إنّهم بلغوا أربعمائة ، وذكر البعض أعدادا أكبر أيضا. وكان قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته ، وأخيرا القسم الثّالث الذي كان يشكّل الأكثرية ، وهم الناس المتفرّجون.

هنا توجّه موسى إلى السّحرة ، أو إلى الفراعنة ، والسّحرة ، و( قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى ) . وواضح أنّ مراد موسى من الافتراء على الله سبحانه هو أن يجعلوا شخصا أو شيئا شريكا له ، أو ينسبوا معجزات رسول الله إلى السحر ، ويظنّوا أنّ فرعون إلههم ومعبودهم ، ومن المحتّم أنّ الله سبحانه سوف لا يدع من ينسبون هذه الأكاذيب إلى الله ، ويسعون بكلّ قواهم لإطفاء نور الحقّ ، بدون عقاب.

إنّ كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السّحرة بوجه ، بل إنّ نبرته كانت نبرة دعوة كلّ الأنبياء الحقيقيين ، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر ، فأثّرت على بعض القلوب ، وأوجدت اختلافا بين ذلك الحشد من السّحرة ، فبعض كان يناصر المواجهة والمبارزة ، وبعض تردّد في الأمر ، واحتمل أن يكون موسىعليه‌السلام نبيّا إليها ، وأثّرت فيهم تهديداته ، خاصّة وأنّ لباس موسى وهارون البسيط كان لباس رعاة الأغنام ، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محيّاهما بالرغم من كونهما وحيدين ، كان يعتبر دليلا آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما ، ولذلك فإنّ القرآن يقول :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى ) .

إنّ من الممكن أن تكون هذه المسارّة والنجوى أمام فرعون ، ويحتمل أيضا أن لا تكون أمامه ، وهناك احتمال آخر ، وهو أنّ القائمين على إدارة هذا المشهد قد تناجوا في خفاء عن الناس.

إلّا أنّ أنصار الاستمرار في المواجهة انتصروا أخيرا وأخذوا زمام المبادرة بيدهم ، وشرعوا في تحريك السّحرة بطرق مختلفة ، فأوّلا( قالُوا إِنْ هذانِ

٢٤

لَساحِرانِ ) (1) وبناء على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما ، لأنّكم كبار وأساتذة السحر في هذه البلاد العريضة ، ولأنّ قوتكم وقدرتكم أكبر منهما!

ثمّ إنّهما( يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما ) الوطن الذي هو أعزّ من أنفسكم ، إضافة إلى أنّهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم ، بل إنّهما يريدان أيضا أن يجعلا مقدّساتكم أضحوكة ومحلّا للسخرية( وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ) (2) .

والآن حيث أصبح الأمر كذلك ، فلا تدعوا للتردّد إلى أنفسكم طريقا مطلقا ، بل( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) لأنّ الوحدة رمز انتصاركم في هذه المعركة المصيريّة الحاسمة( وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى ) .

* * *

__________________

(1) إنّ هذه الجملة من ناحية الإعراب هي : (إن) مخفّفة من (أنّ) ولذلك لم تعمل عملها فيما بعدها ، إضافة إلى أنّ رفع اسم (إن) ليس قليلا في لغة العرب.

(2) «الطريقة» تعني العادة والأسلوب المتبع ، والمراد منها هنا المذهب. و (مثلي) من مادّة (مثل). وهي هنا تعني العالي والأفضل ، أي الأشبه بالفضيلة.

٢٥

الآيات

( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام ينزل إلى الساحة :

لقد اتّحد السّحرة ظاهرا ، وعزموا على محاربة موسىعليه‌السلام ومواجهته ، فلمّا نزلوا إلى الميدان( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ اقتراح السّحرة ، هذا إمّا أن يكون من أجل أن يسبقهم موسىعليه‌السلام ، أو إنّه كان احتراما منهم لموسى ، وربّما كان هذا الأمر هو الذي هيّأ السبيل إلى أن يذعنوا لموسىعليه‌السلام ويؤمنوا به بعد هذه الحادثة.

٢٦

إلّا أنّ هذا الموضوع يبد وبعيدا جدّا ، لأنّ هؤلاء كانوا يسعون بكلّ ما أوتوا من قوّة لأن يسحقوا ويحطّموا موسى ومعجزته ، وبناء على هذا فإنّ التعبير آنف الذكر ربّما كان لإظهار اعتمادهم على أنفسهم أمام الناس.

غير أنّ موسىعليه‌السلام بدون أن يبدي عجلة ، لاطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه ، بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز( قالَ بَلْ أَلْقُوا ) . ولا شكّ أنّ دعوة موسىعليه‌السلام هؤلاء إلى المواجهة وعمل السحر كانت مقدّمة لإظهار الحقّ ، ولم يكن من وجهة نظر موسىعليه‌السلام أمرا مستهجنا ، بل كان يعتبره مقدّمة لواجب.

فقبل السّحرة ذلك أيضا ، وألقوا كلّ ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة ، وإذا قبلنا الرّواية التي تقول : إنّهم كانوا آلاف الأفراد ، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة ألقيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة( فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) !

أجل ، لقد ظهرت بصورة أفاع وحيّات صغيرة وكبيرة متنوّعة ، وفي أشكال مختلفة ومخيفة ، ونقرأ في الآيات الأخرى ، من القرآن الكريم في هذا الباب :( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) (1) وبتعبير الآية (44) من سورة الشعراء :( وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) .

لقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي موادا كالزئبق الذي إذا مسّته أشعّة الشمس وارتفعت حرارته وسخن ، فإنّه يولّد لهؤلاء ـ نتيجة لشدّة فورانه ـ حركات مختلفة وسريعة «إنّ هذه الحركات لم تكن سيرا وسعيا حتما ، إلّا أن إيحاءات السّحرة التي كانوا يلقنونها الناس ، والمشهد

__________________

(1) الأعراف ، 116.

٢٧

الخاص الذّي ظهر هناك ، كان يظهر لأعين الناس ويجسّد لهم أنّ هذه الجمادات قد ولجتها الروح ، وهي تتحرّك الآن. (وتعبير( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ) إشارة إلى هذا المعنى أيضا ، وكذلك تعبير( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى أيضا).

على كلّ حال ، فإنّ المشهد كان عجيبا جدّا ، فإنّ السّحرة الذين كان عددهم كبيرا ، وتمرسهم واطلاعهم في هذا الفن عميقا ، وكانوا يعرفون جيدا طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفيّة ، استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كلّ هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح.

فعلت صرخات السرور من الفراعنة ، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب ، ويتراجعون إلى الخلف.

في هذه الأثناء( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ) وكلمة «أوجس» أخذت من مادّة (إيجاس) وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي ، وبناء على هذا فإنّ الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي ، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحيّا وخفيفا ، ولم يكن يعني أنّه أولى اهتماما لهذا المنظر المرعب لسحر السّحرة ، بل كان خائفا من أن يقع الناس تحت تأثير هذا المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحقّ.

أو أن يترك جماعة من الناس الميدان قبل أن تتهيّأ الفرصة لموسى لإظهار معجزته ، أو أن يخرجوهم من الميدان ولا يتضح الحقّ لهم ، كما نقرأ في خطبة الإمام عليعليه‌السلام الرقم (6) من نهج البلاغة : «لم يوجس موسىعليه‌السلام خيفة على نفسه ، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال»(1) . ومع ما قيل لا نرى ضرورة لذكر الأجوبة الأخرى التي قيلت في باب خوف موسىعليه‌السلام .

__________________

(1) لقد قال الإمام عليعليه‌السلام هذا الكلام في وقت كان قلقا من انحراف الناس ، ويشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ قلقي ليس نابعا من شكّي في الحقّ.

٢٨

على كلّ حال ، فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال ، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن :( قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) .

إنّ هذه الجملة وبتعبيرها المؤكّد قد أثلجت قلب موسى بنصره المحتّم ـ فإنّ (إنّ) وتكرار الضمير ، كلّ منهما تأكيد مستقل على هذا المعنى ، وكذلك كون الجملة اسميّة ـ وبهذه الكيفيّة ، فقد أرجعت لموسى اطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.

وخاطبه الله مرّة أخرى بقوله تعالى :( وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) .

«تلقف» من مادة «لقف» بمعنى البلع ، إلّا أنّ الراغب يقول في مفرداته : إنّ معناها في الأصل تناول الشيء بحذق ، سواء في ذلك تناوله باليد أو الفمّ. وفسّرها بعض اللغويين بأنّها التناول بسرعة.

وممّا يلفت النظر أنّه لم يقل (الق عصاك) بل يقول (الق ما في يمينك) وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الاهتمام بالعصا ، وإشارة إلى أنّ العصا ليست مسألة مهمّة ، بل المهم إرادة الله وأمره ، فإنّه إذا أراد الله شيئا ، فليست العصا فقط ، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه المقدّرة!

وهنا نقطة تستحقّ الذكر أيضا وهي : إنّ كلمة (ساحر) في الآية وردت أوّلا نكرة ، وبعدها معرفة بألف ولام الجنس ، وربّما كان هذا الاختلاف لأنّ الهدف في المرتبة الأولى هو عدم الاهتمام بعمل هؤلاء السّحرة ، ومعنى الجملة : إنّ العمل الذي قام به هؤلاء ليس إلّا مكر ساحر. أمّا في المورد الثّاني فقد أرادت التأكيد على أصل عام ، وهو أنّه ليس هؤلاء السّحرة فقط ، بل كلّ ساحر في كلّ زمان ومكان وأينما وجد سوف لا ينتصر ولا يفلح.

* * *

٢٩

بحثان

1 ـ ما هي حقيقة السحر؟

بالرغم من أنّنا تحدّثنا بصورة مفصّلة فيما مضى عن هذا الموضوع ، إلّا أنّنا نرى أن نذكر على سبيل الإيضاح باختصار أنّ «السحر» في الأصل يعني كلّ عمل وكلّ شيء يكون مأخذه خفيا ، إلّا أنّه يقال في التعبير المألوف للأعمال الخارقة للعادة التي تؤدّى باستعمال الوسائل المختلفة. فتسمّى سحرا أيضا فأحيانا يتخذ جانب الحيلة والمكر وخداع النظر والشعوذة.

وأحيانا يستفاد من عوامل التلقين والإيحاء.

وأحيانا يستفاد من خواص الأجسام والمواد الفيزيائية والكيميائية المجهولة.

وأحيانا بالاستعانة بالشياطين.

وكلّ هذه الأمور جمعت واندرجت في ذلك المفهوم اللغوي الجامع.

إنّنا نواجه على طول التاريخ قصصا كثيرة حول السحر والسّحرة ، وفي عصرنا الحاضر فإنّ الذين يقومون بهذه الأعمال ليسوا بالقليلين ، إلّا أنّ كثيرا من خواص الأجسام والموجودات التي كانت خافية على الناس فيما مضى ، قد اتّضحت في زماننا الحاضر ، بل كتبوا كتبا في مجال آثار الموجودات المختلفة العجيبة ، فكشفت كثيرا من سحر السّاحرين وسلبته من أيديهم.

فمثلا ، إنّنا نعرف في علم الكيمياء الحديثة أجساما كثيرة وزنها أخفّ من الهواء ، وإذا ما وضعت داخل جسم فإنّ من الممكن أن يتحرّك ذلك الجسم ، ولا يتعجّب من ذلك أحد ، فحتّى الكثير من وسائل لعب الأطفال اليوم ربّما كانت تبدو سحرا في الماضي!

اليوم يعرضون في «السيرك» فعاليّات تشبه سحر السّحرة الماضين بالاستفادة من كيفيّة الإضاءة وتوليد النور ، والمرايا ، وخواص الأجسام

٣٠

الفيزياوية والكيمياوية ، ويحدثون مشاهد غريبة وعجيبة بحيث يفتح المتفرجون أفواههم أحيانا من التعجّب.

طبعا ، إنّ أعمال المرتاضين الخارقة للعادة لها قصّة أخرى عجيبة جدّا.

وعلى كلّ حال ، فانّه لا مجال لإنكار وجود السحر ، أو اعتباره خرافة سواء في الأزمنة الماضية أو هذه الأيّام.

والملاحظة التي تستحقّ الانتباه ، هي أنّ السحر ممنوع في الإسلام ، ويعدّ من الذنوب الكبيرة ، لأنّه في كثير من الأحيان سبب لضلال الناس ، وتحريف الحقائق ، وتزلزل عقائد السذج. ومن الطبيعي أنّ لهذا الحكم الإسلامي ـ ككثير من الأحكام الاخرى ـ موارد استثناء ، ومن جملتها تعلّم السحر لإبطال ادّعاء المدّعين للنبوّة ، أو لإزالة أثره ممّن رأوا منه الضرر والأذى. وقد تحدّثنا حول هذه المسألة بصورة مفصّلة في ذيل الآيتين 102 ـ 103 من سورة البقرة.

2 ـ السّاحر لا يفلح أبدا

يسأل الكثيرون : إنّ السّحرة إذا كانوا يقدرون على القيام بأعمال خارقة للعادة وشبيهة بالمعجزة ، فكيف يمكن التفريق والتمييز بين أعمال هؤلاء وبين المعجزة؟

والجواب عن هذا السؤال بملاحظة نقطة واحدة ، وهي : إنّ عمل السّاحر يعتمد على قوّة الإنسان المحدودة ، والمعجزة تستمدّ قوتها وتنبع من قدرة الله الأزليّة غير المتناهية ، ولذلك فإنّ أي ساحر يستطيع أن يقوم بأعمال محدودة ، وإذا أراد ما هو أعظم منها فسيعجز ، فهو يستطيع أن يؤدّي ما تمرّن عليه كثيرا من قبل ، وتمكّن منه وسيطر عليه ، وأصبح مطّلعا وعارفا بكلّ دقائق وزوايا وعقد ذلك العمل ، إلّا أنّه سيكون عاجزا فيما عداه ، في حين أنّ الأنبياء لمّا كانوا يستمدّون العون من قدرة الله الأزليّة ، فإنّهم قادرون على القيام بأي عمل خارق

٣١

للعادة ، في الأرض ، والسّماء ، ومن كلّ نوع وشكل.

السّاحر لا يستطيع أن يقوم بالعمل الخارق وفق اقتراح الناس ، إلّا أن يكون ذلك الاقتراح مطابقا لما تمرّن عليه (وأحيانا يتفقون مع أصدقائهم بأن ينهضوا من بين الناس ويقترحوا ابتداء القيام بالعمل المتفق عليه سابقا) إلّا أنّ الأنبياء كانوا يقومون مرارا وتكرارا بمعاجز مهمّة كان يطلبها أناس يبتغون الحقّ دعما للنبوّة ودليلا على صحتها ، كما سنلاحظ ذلك أيضا في قصّة موسى هذه.

ومع ما مرّ ، فإنّ السحر لما كان عملا منحرفا ، ونوعا من الخدعة والمكر ، فإنّه يحتاج إلى وضع روحي ينسجم معه ، والسّحرة ـ بدون استثناء ـ أفراد خدّاعون ماكرون يمكن معرفتهم بسرعة من خلال مطالعة نفسياتهم ، في حين أنّ إخلاص وطهارة وصدق الأنبياءعليهم‌السلام أمور مقرونة بمعاجزهم ، وتضاعف من تأثيرها.

(دقّقوا ذلك).

وربّما لهذه الأسباب تقول الآية :( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) لأنّ قوّته محدودة ، وأفكاره وصفاته منحرفة.

إنّ هذا الموضوع لا يختص بالسّحرة الذين هبّوا لمحاربة الأنبياء ، بل هو صادق في شأن السّحرة بصورة عامّة ، لأنّهم سوف يفتضحون بسرعة ، ولا يفلحون في عملهم.

* * *

٣٢

الآيات

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) )

التّفسير

الإنتصار العظيم لموسىعليه‌السلام :

انتهينا في الآيات السابقة إلى أنّ موسى أمر أن يلقي عصاه ليبطل سحر السّاحرين ، وقد عقبت هذه المسألة في هذه الآية ، غاية الأمر أنّ العبارات والجمل

٣٣

التي كانت واضحة قد حذفت ، وهي (أنّ موسى قد ألقى عصاه ، فتحوّلت إلى حيّة عظيمة لقفت كلّ آلات وأدوات سحر السّحرة ، فعلت الصيحة والغوغاء من الحاضرين ، فاستوحش فرعون وارتبك ، وفغر أتباعه أفواهمم من العجب.

فأيقن السّحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل ، وكانوا يفرّقون جيدا بين السحر وغيره ، إنّ هذا الأمر ليس إلّا معجزة إلهيّة ، وإنّ هذا الرجل الذي يدعوهم إلى ربّهم هو رسول الله ، فاضطربت قلوبهم ، وتبيّن التحوّل العظيم في أرواحهم ووجودهم).

والآن نسمع بقيّة الحديث من لسان الآيات :

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ) . إنّ التعبير بـ (القي) ـ وهو فعل مبني للمجهول ـ ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى ، وتأثّروا بمعجزته إلى الحدّ الذي سجدوا معه دون إرادة.

ونقطة أخرى يلزم ذكرها وتستحقّ الالتفات ، وهي أنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الإيمان القلبي ، بل رأوا أنّ من واجبهم إظهار هذا الإيمان بصورة جليّة ، بتعابير لا يشوبها أي إبهام ، أي التأكيد على ربوبية ربّ موسى وهارون ، حتّى يرجع أولئك الذين ضلّوا بسبب سحرهم ، ولا تبقى على عاتقهم مسئولية من هذه الجهة.

من البديهي أنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبّارة المستبدّة الظالمة ، وهزّ كلّ أركانها ، لأنّ الإعلام كان قد ركّز على هذه المسألة مدّة طويلة في جميع أنحاء مصر ، وكانوا قد جلبوا السّحرة من كلّ أرجاء البلاد ، ووعد هؤلاء بكلّ نوع من المكافئات والجوائز والامتيازات إذا ما غلبوا وانتصروا في المعركة!

إلّا أنّه يرى الآن أنّ أولئك الذين كانوا في الصفّ الأوّل من المعركة ، قد استسلموا فجأة للعدو بصورة جماعية ، ولم يسلموا وحسب ، بل أصبحوا من المدافعين الصلبين عنه ، ولم تكن هذه المسألة في حسبان فرعون أبدا ، ولا شكّ أنّ

٣٤

جمعا من الناس قد اتّبعوا السّحرة وآمنوا بدين موسى. ولذلك لم ير فرعون بدّا إلّا أن يجمع كيانه ويلملم ما تبّقى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ ، فتوجّه نحو السّحرة و( قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) .

إنّ هذا الجبّار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب ، بل كان يريد أن يقول : إنّ قلوبكم تحت تصرّفي أيضا ، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني ، وهذا هو العمل الذي يؤكّد عليه كلّ الفراعنة على امتداد العصور.

فالبعض ـ كفرعون مصر ـ يجريها على لسانه حمقا عند اضطرابه وقلقه ، والبعض احتفظ بهذا الحقّ لنفسه ويبيّنه بصورة غير مباشرة عن طريق وسائل الإعلام ، وطوابير العملاء ، ويعتقد بأنّ الناس يجب أن لا يعطوا الاستقلالية في التفكير ، بل إنّه في بعض الأحيان قد يسلب الناس الحرية باسم حرية التفكير.

وعلى كلّ حال ، فإنّ فرعون لم يكتف بذلك ، بل إنّه ألصق بالسّاحرين التهمة وقال:( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) .

لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه ، ولم يكن بالإمكان أن تحدث مثل هذه المؤامرة في جميع أنحاء مصر ويجهل جنوده وشرطته بالأمر ، وكان فرعون قد ربّى موسىعليه‌السلام في أحضانه ، وغيبته عن مصر كانت من المسلّمات لديه ، فلو كان كبير سحرة مصر لكان معروفا بذلك في كلّ مكان ، ولا يمكن أن يخفى أمره. إلّا أنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عند ما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حقّ يتعرّض للخطر.

ثمّ إنّه لم يكتف بهذا ، بل إنّه هدّد السّحرة أشدّ تهديد ، التهديد بالموت ، فقال:( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا

٣٥

أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ) (1) .

في الحقيقة إنّ جملة( أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً ) إشارة إلى تهديد موسىعليه‌السلام له من قبل ، وكذلك تهديده للسحرة في البداية( وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ) . والتعبير بـ( مِنْ خِلافٍ ) إشارة إلى قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس ، وربّما كان إختيار هذا النوع من التعذيب للسحرة ، لأنّ موت الإنسان يكون أكثر بطأ وأشدّ عذابا في هذه الحالة ، أي أنّ النزيف سيكون أبطأ ، وسيعانون عذابا أشدّ ، وربّما أراد أن يقول : سأجعل بدنكم ناقصا من جانبيه.

أمّا التهديد بالصلب على جذوع النخل ، فربّما كان لأنّ النخلة تعدّ من الأشجار العالية ، وكلّ شخص ـ سواء البعيد أو القريب ـ يرى المعلّق عليها.

والملاحظة التي تستحقّ الذكر أنّ الصلب في عرف ذلك الزمان لم يكن كما هو المتعارف عليه اليوم ، فلم يكونوا يضعون حبل الإعدام في رقبة من يريدون صلبه ، بل كانوا يشدّون به الأيادي أو الأكتاف حتّى يموت المصلوب بعد تحمّل العذاب الشديد.

لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السّحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة ، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة ، و( قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ) لكن ، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على القضاء في هذه الدنيا ، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون ، وستلاقي أنت أشدّ العقاب( إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

وعلى هذا ، فإنّهم قد بيّنوا هذه الجمل الثلاث الراسخة أمام فرعون :

الأولى : إنّنا قد عرفنا الحقّ واهتدينا ، ولا نستبدله بأي شيء.

__________________

(1) من المعلوم أنّ (في) في جملة( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) تعني (على) ، أي أعلّقكم على جذوع النخل ، إلّا أنّ الفخر الرازي يعتقد أنّ (في) هنا تعطي نفس معناها ، لأنّ (في) للظرفيّة ، والظرفيّة تناسب كلّ شيء ، ونعلم أنّ خشبة الإعدام كالظرف والوعاء بالنسبة للفرد الذي يعلّق للإعدام. إلّا أنّ هذا التوجيه لا يبدو صحيحا.

٣٦

والأخرى : إنّنا لا نخاف من تهديداتك مطلقا.

والثّالثة : حكومتك وسعيك سوف يدومان إلّا أيّاما قليلة من الدينا!

ثمّ أضافوا بأنّا قد ارتكبنا ذنوبا كثيرة نتيجة السحر ، فـ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) وخلاصة القول : إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية ، ومن جملتها محاربة نبي الله الحقيقي ، فنحن نريد أن نصل عن هذا الطريق إلى السعادة الأبدية ، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا ، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم!

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إنّ السّحرة قد أتوا بأنفسهم إلى حلبة الصراع ظاهرا ، بالرغم من أنّ فرعون قد وعدهم وعودا كبيرة ، فكيف عبّرت الآية بالإكراه؟

ونقول في الجواب : إنّنا لا نملك أي دليل على أنّ السّحرة لم يكونوا مجبورين منذ البداية ، بل إنّ ظاهر جملة( يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) (1) ، أنّ السّحرة العلماء بالفنّ كانوا ملزمين بقبول الدعوة ، ومن الطبيعي أنّ هذا الأمر يبدو طبيعيّا في ظلّ حكومة فرعون المستبدّة ، بأن يجبر أفرادا في طريق تحقيق نيّاته ، ووضع الجوائز وأمثال ذلك لا ينافي هذا المفهوم ، لأنّنا رأينا ـ كثيرا ـ حكومات ظالمة مستبدّة تتوسّل بالترغيبات المادية إلى جانب استعمال القوّة.

ويحتمل أيضا أنّ السّحرة عند أوّل مواجهة لهم مع موسىعليه‌السلام تبيّن لهم من خلال القرائن أنّ موسىعليه‌السلام على الحقّ ، أو أنّهم على أقل تقدير وقعوا في شكّ ، ونشب بينهم نزاع وجدال ، كما نقرأ ذلك في الآية (62) من هذه السورة :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) ، فأطلع فرعون وأجهزته على ما جرى ، فأجبروهم على الاستمرار في المجابهة.

ثمّ واصل السّحرة قولهم بأنّنا إذا كنّا قد آمنا فإنّ سبب ذلك واضح فـ( إِنَّهُ مَنْ

__________________

(1) الأعراف ، 112.

٣٧

يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنّه( لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) بل إنّه يتقلّب دائما بين الموت والحياة ، تلك الحياة التي هي أمر من الموت ، وأكثر مشقّة منه.

( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّ الجمل الثلاث الأخيرة تابعة لكلام السّحرة أمام فرعون ، أم أنّها جمل مستقلّة من جانب الله سبحانه جاءت تتمّة لكلامهم؟ فبعضهم اعتبرها تابعة لكلام السّحرة ، وربّما كان الابتداء بـ (انّه) التي هي في الواقع لبيان العلّة ، يؤيّد وجهة النظر هذه.

إلّا أنّ التفصيل الذي جاء في هذه الآيات الثلاث حول مصير المؤمنين الصالحين ، والكافرين المجرمين ، الذي ينتهي بجملة( وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) وكذلك الأوصاف التي جاءت فيها حول الجنّة والنّار ، تؤيّد الرأي الثّاني ، وهو أنّها من كلام الله ، لأنّ السّحرة ينبغي أن يكونوا قد تلّقوا حظّا وافرا من المعرفة والعلوم الإلهيّة في هذه الفترة القصيرة بحيث يستطيعون أن يقضوا بهذا الجزم والقطع ، وعن علم واطّلاع ووعي من أمر الجنّة والنّار ومصير المؤمنين والمجرمين. إلّا أن نقول : إنّ الله سبحانه قد أجرى هذا الكلام على ألسنتهم لإيمانهم ، وإن كان هذا لا يفرّق عندنا ولا يختلف من ناحية التربية الإلهيّة والنتيجة سواء كان الله تعالى قد قال ذلك ، أو أنّ السّحرة قد تعلّموه من الله ، خاصة وأنّ القرآن ينقل كلّ ذلك بنغمة متناسقة.

* * *

٣٨

بحوث

1 ـ العلم أساس الإيمان والوعي

إنّ أهمّ مسألة تلاحظ في الآيات ـ محلّ البحث ـ هي تحوّل السّحرة السريع العميق قبال موسىعليه‌السلام ، فإنّهم عند ما وقفوا بوجه موسىعليه‌السلام كانوا أعداء ألدّاء ، إلّا أنّهم اهتزّوا بشدّة عند مشاهدة أوّل معجزة من موسى ، فانتبهوا وغيّروا مسيرهم حتّى أثاروا دهشة الجميع.

إنّ هذا التغيير السريع من الكفر إلى الإيمان ، ومن الانحراف إلى الاستقامة ، ومن الاعوجاج إلى الطريق المستقيم ، ومن الظلمة إلى النور ، قد جعل الجميع في دهشة ، وربّما كان هذا الأمر غير قابل للتصديق حتّى من قبل فرعون نفسه ، ولذا سعى إلى إيهام الناس بأنّ هذا الأمر قد دبّر من قبل ، واتّفق عليه مسبقا ، في حين أنّه كان يعلم في أعماقه أنّ هذا الاتّهام كذب محض.

أي عامل كان السبب في هذا التّحول العميق السريع؟ وأي عامل أضاء قلوبهم بنور الإيمان الوهّاج ، إلى درجة أبدوا استعدادهم فيها لأن يضعوا كلّ وجودهم في خدمة هذا العمل ، بل وضعوه فعلا على ما نقل التاريخ ، لأنّ فرعون قد نفّذ تهديده ، وقتل هؤلاء بطريقة وحشيّة؟

هل نجد هنا عاملا غير العلم والوعي؟ إنّ هؤلاء لمّا كانوا عالمين بفنون السحر وأسراره ، وأيقنوا بوضوح تامّ أنّ عمل موسى لم يكن سحرا ، بل هو معجزة إلهيّة ، غيّروا مسيرهم بتلك الشجاعة والحزم ، ومن هنا نعلم جيدا أنّه من أجل تغيير الأفراد المنحرفين ، أو المجتمع المنحرف ، وإيجاد انقلاب في المسيرة ينبغي توعيتهم قبل كلّ شيء(1) .

__________________

(1) لقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآيات 123 ـ 126 من سورة الأعراف.

٣٩

2 ـ لن نؤثرك على البيّنات

ممّا يلفت النظر أنّ هؤلاء اختاروا أكثر التعابير منطقيّة إزاء فرعون وكلامه غير المنطقي ، فقالوا أوّلا : إنّنا قد رأينا أدلّة واضحة على أحقيّة موسى ودعوته الإلهيّة ، وسوف لا نكترث بأي شيء ولا نقدّمه على هذه الدلالات البيّنة ، وأكّدوا هذا الأمر فيما بعد بجملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) وربّما كان هذا التعبير بحدّ ذاته ـ مع ملاحظة كلمة (فطرنا) ـ إشارة إلى ما هم عليه من الفطرة التوحيديّة ، فكأنّهم قالوا : إنّنا نشاهد نور التوحيد من أعماق وجودنا وأرواحنا ، وكذلك بالدليل العقلي ، ومع هذه الآيات البيّنات كيف نستطيع أن نترك هذا الصراط المستقيم ، ونسير في طريقك المنحرف؟

ويلزم الالتفات إلى هذه النكتة أيضا ، وهي أنّ جمعا من المفسّرين لم يعتبروا جملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) قسما ، بل عدّوها عطفا على( ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ ) وبناء على هذا سيصبح معنى الجملة : إنّنا سوف لن نؤثرك أبدا على هذه الأدلّة الجلية ، وعلى الله الذي خلقنا.

غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصحّة ، لأنّ عطف هاتين الجملتين بعضهما على بعض غير مناسب. «فلاحظوا بدقّة»!

3 ـ من هو المجرم؟

بملاحظة الآيات الشريفة التي تقول :( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) والتي يظهر منها خلود العذاب ، يتبادر هذا السؤال : ترى هل لكلّ مجرم هذا المصير؟

إلّا أنّه بالالتفات إلى أنّ الآية التالية قد بيّنت النقطة المقابلة لذلك ، وجاءت فيها كلمة «المؤمن» يتّضح أنّ المراد من المجرم هنا هو الكافر ، إضافة إلى أنّه ورد في القرآن كثيرا استعمال هذه الكلمة بمعنى الكافر.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ومصغراً لأمرهم، وأظهر ما كان يكتمه في نفسه ويستره من بغضهم في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبلغ ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فدخل المسجد وصعد المنبر، وذكر فضل الأنصار وما أنزله الله تعالى فيهم من القرآن، وما يجب على المسلمين من إكرامهم، ومعرفة حقوقهم، فقالوا لحسّان بن ثابت: يجب أن تذكر فضل عليعليه‌السلام وسبقته، وندموا على ما كان منهم يوم السقيفة، فقال حسان:

جزى الله خيراً والجزاء بكفّه

أبا حسنٍ عنّا، ومَن كأبي حسن

سبقت قريشاً بالذي أنت أهله

فصدرك مشروح، وقلبك ممتحن

تمنّت رجال من قريشٍ أعزّة

مكانك، هيهات الهزال من السّمن

وأنتَ من الإسلام في كلِّ موطنٍ

بمنزلة الدّلو البطين من الرسن

غضبت لنا إذ قام عمرو بخصلةٍ

أمات بها التقوى، وأحيى بها الإحن

وكنت المرجّى من لؤيّ بن غالبٍ

لما كان فيه، والّذي بعد لم يكن

حفظت رسول الله فينا وعهده

إليك، ومن أولى بها منك من ومَن

ألست أخاه في الهدى، ووصيّه

وأعلم فهراً بالكتاب، وبالسنن

ثم ساق صاحب المقنع الكلام إلى أن قال: وروى أصحاب السير عن أبي الأسود الدؤلي، أنّه قال: حدثني مَن سمع أم أيمن (رضي الله عنها)، تقول: سمعت في الليلة التي بُويع فيها أبو بكر هاتفاً يقول ولا أرى شخصه:

لقد ضعضع الإسلام فقدان أحمدٍ

وأبكى عليه فيكم كلَّ مسلمِ

وأحزنه حزناً تمالؤ صحبه

الغواة، على الهادي الرضي المكرّمِ

وصيّ رسول الله أوّل مسلمٍ

وأعلم مَن صلّى وزكّى بدرهمِ

أخي المصطفى دون الذين تأمّروا

عليه، وأن بزوه فضل التقدّمِ

قد أوردنا نظماً ونثراً ما يستدل به العاقل على أنّ القوم عاملوا أمير المؤمنينعليه‌السلام بما عمل بنو إسرائيل بهارون أخي موسى حذو النعل بالنعل؛ فصار حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام وحكم هارون واحداً.

٨١

وما أحسن قول محمد بن نصر بن بسام الكاتب:

إنّ عليّا لم يزل محنة

لرابح الدين ومغبونِ

أنزله من نفسه المصطفى

منزلة علم تلت(١) بالدونِ

صيّره هارون في قومه

لعاجل الدنيّا وللدّينِ

فارجع إلى الأعراف حتى ترى

ما فعل القوم بهارونِ

____________________

(١) لم تك - خ.

٨٢

فصل

فيما كتب أبو بكر إلى أُسامة بن زيد وجوابه

وممّا يدل على صحّة دعوى مَن يقول: إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مغصوب حقّه من إمامته، رسالةُ أبي بكر إلى أُسامة بن زيد، لَمّا نزل من السقيفة: من عبد الله أبي بكر خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أُسامة بن زيد: أمّا بعد، فإنّ المسلمين فزعوا إليّ واستخلفوني وأمّروني عليهم بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! في كلامٍ طويل، فإذا قرأت كتابي هذا فادخل فيما دخل فيه المسلمون، وأذنْ لعمر بن الخطاب في خلفه ( تخلفه خ ) عنك، فإنّه لا غنى بي عنه، وتوجّه إلى الوجه الذي وجّهك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فكتب إليه أُسامة: من أُسامة بن زيد مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي بكر ابن أبي قحافة، أمّا بعد، فقد أتاني كتاب منك ينقص آخره أوّله، ذكرت في أوّل كتابك أنّك خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قلت: إنّ المسلمين استخلفوك، وفزعوا إليك وأمّروك عليهم، ولو كان ذاك كذلك لكانت بيعتهم في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا في سقيفة بني ساعدة!!!

وسألت أن آذن لعمر بن الخطاب في تخلّفه عنّي لحاجتك إليه، فقد أذن لنفسه قبل أن آذن له، ولا لأحدٍ أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشخوص معي إلى مَن أشخصني إليه، وما أمرك في تخلّفك، وأمر عمر في تخلّفة إلاّ واحد، وليس بينك وبينه فرق، ومَن عصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته فهو بمنزلة مَن

٨٣

عصاه في حياته، وقد علمت أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرك وأمر عمر بالمسير معي، ورأيه لكما خير من رأيكما لأنفسكما، وما خفي عليه موضعكما، وقد ولاّني عليكما، ولم يولّكما عليَّ، وعصيانه نفاق.

في كلامٍ أضربت عنه هاهنا، وأوردته مستوفى في كتابي الموسم بعيون البلاغة في أنس الحاضر ونقلة المسافر، انتهى(١) .

____________________

(١) نقل تمامه السيد هبة الدين في المجموع الرائق في الباب الخامس منه: ص١٠٤ - ١٠٧ والنسخة مخطوطة راجع مكتبة آية الله النجفي (ره).

٨٤

فصل

في عدم حضور أكثر الناس دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

قال ابن عبد البّر في محكي الاستيعاب: بويع لأبي بكر بالخلافة في اليوم الذي قُبض فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سقيفة بني ساعدة، ثم بُويع البيعة العامّة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم، وتخلّف عن بيعته سعد بن عبادة، وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش، انتهى.

وقال شيخنا المفيد في الإرشاد: ولم يحضر دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر الناس؛ لما جرى بين المهاجرين والأنصار من التّشاجر في أمر الخلافة، وفات أكثرهم الصلاة عليه لذلك، وأصبحت فاطمةعليها‌السلام تنادي: وا سوء صباحاه، فسمعها أبو بكر فقال لها: إنّ صباحك لصباح سوء، انتهى(١) .

وقال السيد ابن طاووس في كشف المحجّة لولده: ومن أعجب ما رأيته في كتاب المخالفين، وقد ذكره الطبري في تاريخه وما معناه، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي يوم الاثنين، وما دفن إلى ليلة الأربعاء

وفي رواية: أنّه بقي ثلاثة حتّى دُفن.

____________________

(١) الإرشاد: ص١٠١.

٨٥

وذكر إبراهيم الثقفي في كتاب المعرفة في الجزء الرابع: تحقيقاً: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقي ثلاثة أيّام حتّى دُفن لاشتغالهم بولاية أبي بكر والمنازعات فيها، وما كان يقدر أبوك عليعليه‌السلام أن يفارقه ولا أن يدفنه قبل صلاتهم عليه، ولا كان يؤمن أن يقتلوه إن فعل ذلك، أو ينبشوا النبّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويخرجوه ويذكروا أنّه دفنه في غير وقت دفنه، أو في غير الموضع الذي يُدفن فيه، فأبعد الله جلّ جلاله من رحمته وعنايته نفوساً تركته على فراش منيّته، واشتغلت بولايةٍ كان هو أصلها بنبوّته ورسالته، لتخرجها من أهل بيته وعترته، والله يا ولدي ما أدري كيف سمحت عقولهم ومروّتهم ونفوسهم وصحبتهم - مع شفقته عليهم وإحسانه إليهم - بهذا التهوين.

ولقد قال زيد ابن مولانا زين العابدينعليه‌السلام (١) : والله لو تمكّن القوم إن طلبوا الملك بغير التعلّق باسم رسالته كانوا قد عدلوا عن نبوّته، وبالله المستعان.

وقال السيد أيضاً: وكان من جملة حقوقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته وخاصة يوم الممات، أن يجلس المسلمون كلّهم على التّراب، بل على الرّماد، ويلبسوا أفضل ما يلبسه أهل المصاب من السّواد، ويشتغلوا ذلك اليوم خاصّة عن الطّعام والشراب، ويشترك في النياحة والبكاء والمصائب، الرجال والنساء، ويكون يوماً ما كان يوم مثله في الدنيا، ولا يكون، انتهى(٢) .

____________________

(١) ولقد قال مولانا زين العابدينعليه‌السلام في المصدر.

(٢) كشف المحجّة لابن طاووس: ص٧١ - ٧٢.

٨٦

فصل

فيما أخذ عمر من بيعة الناس لأبي بكر

روى ابن أبي الحديد وسليم بن قيس عن البراء بن عازب، قال: لم أزل لبني هاشم محبّاً، فلمّا قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحُزن لوفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكنت أتردّد إلى بني هاشم وهم عند النبيّ في الحجرة، وأتفقّد وجوه قريش، فإنّي لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: وقد بُويع أبو بكر، فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأُزر الصنعانيّة، لا يمرُّون بأحدٍ إلاّ خبطوه وقدّموه، فمدُّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى، فأنكرت عقلي وخرجت أشتدُّ حتّى أتيت بني هاشم(١) والباب مغلق عنهم، فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً، وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر ابن أبي قحافة، فقال العباس: تَرِبَتْ أيديكم إلى آخر الدهر(٢) .

قال صاحب الاحتجاج، وابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة، وغيرهما: فلمّا فرغ أمير المؤمنينعليه‌السلام من أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلس في

____________________

(١) حتى انتهيت إلى بني هاشم خ م.

(٢) شرح ابن أبي الحديد: ج١ ص٢١٩. تربت أيديكم: أي افتقرت ولا أصابت خيراً.

٨٧

المسجد حزيناً كئيباً من فراق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاجتمع إليه بنو هاشم ومعه الزبير بن العوام، واجتمعت بنو أميّة إلى عثمان بن عفان، وبنو زهرة إلى عبد الرحمان بن عوف، فكانوا في المسجد مجتمعين، إذ أقبل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ابن الجرّاح، فقالوا ما لنا نراكم حلقاً شتّى، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعه الأنصار والناس، فقام عثمان وعبد الرحمان بن عوف ومَن معهم فبايعوا، وانصرف عليعليه‌السلام وبنو هاشم إلى منزل عليّعليه‌السلام ومعهم الزبير، قال: فذهب إليهم عمر في جماعة ممّن بايع، فيهم: أسيد بن حضير، وسلمة بن سلامة، فألفوهم مجتمعين فقالوا لهم: بايعوا أبا بكر فقد بايعه الناس، فوثب الزبير إلى سيفه فقال: عمر: عليكم بالكلب العقور فاكفونا شرّه، فبادر سلمة بن سلامة فانتزع السيف من يده، فأخذه عمر، فضرب به الأرض فكسره، وأحدقوا بمَن كان هناك من بني هاشم ومضوا بجماعتهم إلى أبي بكر فلمّا حضروا، قالوا: بايعوا أبا بكر فقد بايعه الناس، وأيم الله لئن أبيتم ذلك لنحاكمنّكم بالسيف، فلمّا رأى ذلك بنو هاشم، أقبل رجل رجل فجعل يبايع الخ(١) .

وروى صاحب الاحتجاج عن عبد الله بن عبد الرّحمان أنّه قال: ثمّ إنّ عمر احتزم بإزاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي: ألا إنّ أبا بكر قد بُويع له، فهلمّوا إلى البيعة، فينثال(٢) الناس فيبايعون، فعرف أنّ جماعة في بيوت مستترون، فكان يقصدهم في جمع فيكبسهم ويحضرهم في المسجد فيبايعون، حتّى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي ابن أبي طالبعليه‌السلام فطالبه بالخروج فأبى، فدعا عمر بحطب ونار، وقال: والّذي نفس عمر بيده ليخرجنّ أو لأحرقنّه على ما فيه.

فقيل له: إنّ فيه فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) الاحتجاج: ج١ ص٩٤.

(٢) انثال الناس: انصبوا واجتمعوا.

٨٨

وآثار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه، فأنكر الناس ذلك من قوله، فلمّا عرف إنكارهم قال: ما بالكم أتروني فعلت ذلك، إنّما أردت التهويل، فراسلهم عليعليه‌السلام : أن ليس إلى خروجي حيلة؛ لأنّي في جمع كتاب الله الذي قد نبذتموه وألهتكم الدنيا عنه، وقد حلفت أن لا أخرج من بيتي ولا أضع ردائي على عاتقي، حتّى أجمع القرآن.

قال: وخرجت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليهما وآلهما) إليهم، فوقفت على الباب(١) ، ثم قالت: لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم فيما بينكم، فلم تؤامرونا(٢) ولم تروا لنا حقنا؟(٣) كأنّكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، والله لقد عقد له يومئذٍ اللواء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء، ولكنّكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيّكم، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة(٤) .

____________________

(١) فوقفت خلف الباب: ح م.

(٢) ولم تؤمرونا: خ المصدر.

(٣) ولم تروا لنا حقاً، في المصدر.

(٤) الاحتجاج: ج١ ص١٠٥.

٨٩

فصل

في امتناع عليعليه‌السلام عن بيعة أبي بكر

قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري - وهو من أعاظم علماء الجمهور - وكان في الغيبة الصغرى وتوفّي سنة اثنتين وعشرين بعد ثلاثمائة، في كتاب الإمامة والسياسة ما هذا لفظه: إباء علي (كرّم الله وجهه) عن بيعة أبي بكر (رضي الله عنهما)، ثم إنّ عليّاً (كرّم الله وجهه) أُتي به إلى أبي بكر وهو يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله، فقيل له: بايع أبا بكر، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم، لِمكان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منكم، فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة، فأنا احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار:

نحن أولى برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّاً وميتاً، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلاّ فبوؤا بالظّلم وأنتم تعلمون.

فقال له عمر: إنّك لست متروكاً حتّى تبايع، فقال له عليعليه‌السلام : احلب حلباً لك شطره واشدد له اليوم يردّه عليك غداً، ثم قال

٩٠

والله يا عمر لا أقبل قولك، ولا أبايعه، فقال له أبو بكر: فإنْ لم تبايع فلا أكرهك، فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعليعليه‌السلام : يا ابن عم إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك، وأشدّ احتمالاً واستطلاعاً(١) فسلِّم لأبي بكر هذا الأمر، فإنّك تعيش ويطل بك بقاء، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك، وعلمك وفهمك وسابقتك، ونسبك وصهرك، فقال عليّ (كرّم الله وجهه): الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العرب عن داره، وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم وتدفعون أهله عن مقامه في الناس وحقّه(٢) .

فو الله يا معشر المهاجرين: لنحن أحق الناس به لأنّا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم. وساق الكلام إلى أن قال: وخرج عليّ (كرّم الله وجهه) يحمل فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابّة ليلاً في مجالس الأنصار، تسألهم النصرة فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.

فيقول عليّ (كرّم الله وجهه): أفكنت أدع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته، لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه، فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي به، وقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

ثم قال ابن قتيبة: كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) قال: وإنّ أبا بكر (رضي الله عنه)، تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند علي (كرّم الله وجهه)، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار عليعليه‌السلام فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب.

____________________

(١) واضطلاعاً به خ المصدر.

(٢) ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه. خ المصدر.

٩١

وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على مَن فيها، فقيل له: يا أبا حفص، إنَّ فيها فاطمة، فقال: وإنْ، فخرجوا فبايعوا إلاّ عليّاً فإنّه زعم أنّه قال: حلفت أن لا أخرج، ولا أضع ثوبي على عاتقي، حتّى أجمع القرآن، فوقفت فاطمةعليها‌السلام على بابها، فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقاً، فأتى عمر أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولىً له: اذهب فادع لي عليّاً، قال: فذهب إلى علي، فقال له: ما حاجتك؟ فقال: يدعوك خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!!

فقال عليعليه‌السلام : لسريع ما كذبتم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرجع، فأبلغ الرسالة قال: فبكى أبو بكر طويلاً!!! فقال عمر الثانية: أن لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر (رضي الله عنه) لقنفذ: عد إليه فقل له: أمير المؤمنين(١) يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ، فأدّى ما أُمر به، فرفع عليٌّ صوته فقال: سبحان الله، لقد ادّعى ما ليس له، فرجع قنفذ فأدّى الرسالة(٢)، فبكى أبو بكر طويلاً!!! ثم قام عمر فمشى مع جماعة حتّى أتوا باب فاطمة، فدقّوا الباب، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبتِ يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من أبن الخطاب وابن أبي قحافة.

فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها، انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تتصدّع وأكبادهم تتفطّر، وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليّاً فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فَمَهْ، قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر، أمّا عبد الله فنعم!! وأمّا أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلّم، فقال عمر:

____________________

(١) خليفة رسول الله خ المصدر.

(٢) فأبلغ الرسالة. خ المصدر.

٩٢

ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.

فلحق عليعليه‌السلام بقبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصيح ويبكي وينادي: ( يا ابن أُم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمةعليها‌السلام فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاًعليه‌السلام فكلّماه، فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها فلم تردّ عليهما السلام، فتكلّم أبو بكر فقال:

يا حبيبة رسول الله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أنّي متّ ولا أبقى بعده!! أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقّك وميراثك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ أنّي سمعت أباك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: لا نورث!!! ما تركناه فهو صدقة.

فقالت: أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرفانه وتفعلان به. قالا: نعم، قالت: نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمَن أحبّ فاطمة ابنتي أحبّني، ومَن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومَن أسخط فاطمة فقد أسخطني، قالا: نعم سمعناه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قالت: فإنّي أُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه، فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أُصلّيها، ثم خرج باكياً!!

فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي، قالوا يا خليفة رسول الله إنّ هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا

٩٣

بذلك!!! إنّه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بتّ ليلة ولي في عنق مسلم بيعة بعدما سمعت ورأيت من فاطمة، قال: فلمّا يبايع علي (كرّم الله وجهه) حتى ماتت فاطمة (رضي اله عنها)، ولم تمكث بعد أبيها إلاّ خمساً وسبعين ليلة. انتهى موضع الحاجة من كلام ابن قتيبة(١) .

وقال أبو عمرو أحمد بن محمد القرطبي المرواني المالكي المشهور بابن عبد ربه الأندلسي، المتوفّى سنة ثمانية وعشرين بعد ثلاثمائة، وهو من أكابر علماء السنّة، في المجلّد الثاني من كتاب العقد الفريد - وهو من الكتب الممتعة - ما هذا لفظه: الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر، فأمّا علي والعباس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمةعليها‌السلام حتى بعث إليهم أبو بكر عمر ابن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمةعليها‌السلام ، فقال له: إنْ أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يُضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمةعليها‌السلام فقالت: يا ابن الخطاب: أجئت لتحرق دارنا؟ قال نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأُمّة، فخرج عليعليه‌السلام حتى دخل على أبي بكر فبايعه. انتهى(٢).

وذكر المسعودي في مروج الذّهب في أخبار عبد الله بن الزبير: أنّه عمد إلى مَن بمكّة من بني هاشم، فحصرهم في الشِّعب وجمع لهم حطباً عظيماً، لو وقعت فيه شرارة من نار لم يسلم من الموت أحد، وفي القوم محمد ابن الحنفية، ثم ذكر مجيء أبي عبد الله الجدلي في أربعة آلاف من الكوفة من قبل المختار، واستخراجهم بني هاشم من الشّعب.

قال المسعودي: وحدّث النوفلي في كتابه في الأخبار عن ابن عائشة، عن أبيه، عن حماد بن سلمة، قال: كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم وحصره إيّاهم في الشِّعب، وجمعه الحطب لتحريقهم ويقول: إنّما

____________________

(١) الإمامة والسياسة: ص١٢ - ١٣ - ١٤ - ط - ١٣٨٨.

(٢) العقد الفريد: ج٣ ص٦٤ ط - مصر.

٩٤

أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته كما أرهب بني هاشم وجمع لهم الحطب لإحراقهم؛ إذ هم أبوا البيعة فيما سلف، وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا، وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب حدائق الأذهان. انتهى(١) .

قال سيّدنا المرتضى علم الهدى (قُدِّس سرِّه) في الشّافي في رد كلام قاضي القضاة في خبر الإحراق ما هذا لفظه عليه الرحمة: خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة ممّن لا يتهم على القوم، وإنّ دفع الروايات من غير حجّة لا يجدي شيئاً(٢) .

فروى البلاذري وحاله في الثقة عند العامّة عن مقاربة الشيعة والضبط لما يرويه معروفة عن المدائني، عن سلمة بن محارب، عن سلمان الليثي(٣) ، عن ابن عون: أنّ أبا بكر أرسل إلى عليعليه‌السلام ، يريده الجبر على البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه قَبَس، فلقيته فاطمة على الباب فقالت: يا ابن الخطّاب، أتراك محرقاً عليَّ داري؟ قال: نعم. وذلك أقوى فيما جاء به أبوك، وجاء عليّ فبايع(٤) .

وهذا الخبر قد روته الشيعة من طرق كثيرة، وإنّما الطّريف أن يرويه شيوخ محدّثي العامّة.

وروى إبراهيم بن سعيد الثقفي بإسناده، عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام قال: والله ما بايع عليعليه‌السلام حتّى رأى الدخان قد دخل بيته(٥) .

____________________

(١) مروج الذهب: ج٢ ص١٠٠ ط - مصر. وقد قال المسعودي في إثبات الوصية ص / ١٢٣: وهو يتحدّث عن ذلك الحدث: فهجموا عليه واحرقوا بابه.

(٢) الشافي: ص٢٤٠ ط القديم ط الجديد: ج٤ ص١١٢.

(٣) عن سليمان التّيمي - في البحار.

(٤) البحار: ج٢٨ ص٤١١.

(٥) المصدر السابق.

٩٥

وقال السيد ابن طاووس في كشف المحجّة في ذكر أبي بكر وتخلّفه عن جيش أُسامة: وغصبه الخلافة يوم السّقيفة، وأقول: وما كفاه ذلك حتّى بعث عمر إلى باب أبيك علي وأمّك فاطمةعليها‌السلام ، وعندهما العباس وجماعة من بني هاشم وهم مشغولون بموت جدّك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمآتم والمصائب العظام فأمر أن يحرقوا بالنار إن لم يخرجوا للبيعة على ما ذكره صاحب كتاب العقد الفريد في الجزء الرابع منه، وجماعة ممّن لا يتّهم في روايتهم، وهو شيء لم يبلغ إليه أحد فيما أعلم قبله ولا بعده، من الأنبياء والأوصياء ولا الملوك المعروفين بالقوّة، والجفاء ولا ملوك الكفّار، أنّهم بعثوا مَن يحرقوا الذين تأخّروا عن بيعتهم بحريق النار، مضافاً إلى تهديد القتل والضرب.

أقول: ولا بلغنا أنّ أحداً من الملوك كان لهم نبي أو ملك كان لهم سلطان قد أغناهم بعد الفقر، وخلّصهم من الذل والضرّ، ودلّهم على سعادة الدنيا والآخرة، وفتح عليهم بنبوّته بلاد الجبابرة، ثم مات وخلّف فيهم بنتاً واحدة من ظهرة، وقال لهم: إنّها سيّدة نساء العالمين، وطفلين معها منها لهما دون سبع سنين أو قريب من ذلك، فتكون مجازاة ذلك النبيّ أو الملك من رعيته، أنّهم ينفذون ناراً ليحرقوا ولديه ونفس ابنته وهما في مقام روحه ومهجته. انتهى(١) .

روى صاحب الاحتجاج عن أحمد بن همام، قال: أتيت عبادة ابن الصّامت في ولاية أبي بكر، فقلت يا أبا عمارة(٢) ، كان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف؟ فقال: يا أبا ثعلبة، إذا سكتنا عنكم فأسكتوا ولا تبحثوا(٣) ، فو الله لَعليّ بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي بكر، كما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحق بالنبوّة من أبي جهل، قال: وأزيدك، إنّا كنّا ذات يوم

____________________

(١) كشف المحجّة: ص٦٧.

(٢) يا عبادة. خ الاحتجاج.

(٣) ولا تبحثونا - خ م.

٩٦

عند رسول الله، فجاء علي وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله، فدخل أبو بكر، ثم دخل عمر، ثم دخل عليعليه‌السلام على أثرهما فكأنّما سفي(١) على وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرّماد، ثم قال: يا علي أيتقدّمانك هذان وقد أمّرك الله عليهما، قال أبو بكر: نسيت يا رسول الله، وقال عمر: سهوت يا رسول الله.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما نسيتما ولا سهوتما، وكأنّي بكما قد استلبتما ملكه وتحاربتما عليه، وأعانكما على ذلك أعداء الله وأعداء رسوله، وكأنّي بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار بعضهم يضرب وجوه بعض بالسيف على الدنيا.

ولكأنّي بأهل بيتي، وهم المقهورون المتشتّتون في أقطارها وذلك لأمر قد قُضي، ثم بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى سالت دموعه، ثم قال: يا علي، الصبر الصبر حتّى ينزل الأمر، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم، فإنّ لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك، فإذا أمكنك الأمر، فالسيف السيف، فالقتل القتل، حتّى يفيئوا إلى أمر الله وأمر رسوله، فإنّك على الحق، ومَن ناواك على الباطل، وكذلك ذرّيتك من بعدك إلى يوم القيامة(٢).

____________________

(١) سفت الريح التراب: إذا ذرته.

(٢) الاحتجاج: ج١ ص٢٩١.

٩٧

فصل

في كلامٍ قاله أمير المؤمنينعليه‌السلام لابن عبّاس (رضي الله عنه)

روى الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس، فقال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال: والله لقد تقمّصها أخو تيم، الخطبة ونحن نوردها بما في نهج البلاغة:

قال عليعليه‌السلام : أما والله لقد تقمّصها فلان، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى، ينحدر عنّي السّيل ولا يرقى إليّ الطّير، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيدٍ جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه.

فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً، حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده(١) ، ثم تمثّل بقول الأعشى:

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابرِ

____________________

(١) هكذا في النسختين من الكتاب لكن في نهج البلاغة المطبوع: إلى ابن الخطاب بعده.

٩٨

فيا عجباً، بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها، فصيّرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلوُّنٍ واعتراض، فصبرت على طول المدّة، وشدّة المحنة.

حتّى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعةٍ زعم أنّي أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم، حتّى صرت أُقرن إلى هذه النظائر، لكنّي أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هَنٍ وهَن.

إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته.

فما راعني إلاّ والنّاس كعرف الضّبع إليّ، ينثالون عليّ من كلِّ جانب حتّى لقد وطئ الحسنان، وشقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرى وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه حيث يقول:( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها.

أما والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.

____________________

(١) القصص: ٨٣.

٩٩

قالوا: وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتاباً، فأقبل ينظر فيه، فلمّا فرغ من قراءته، قال له ابن عباس (رحمه الله): يا أمير المؤمنين لو اطّردت مقالتك من حيث أفضيت، قال: هيهات يا ابن عباس، تلك شقشقة هدرت ثم قرّت، قال ابن عباس: فو الله ما أسفت على كلامٍ قطّ كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنينعليه‌السلام بلغ منه حيث أراد(١) .

قال ابن أبي الحديد: وأمّا قول ابن عباس: ما أسفت على كلام الخ، فحدّثني شيخي أبو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشّاب هذه الخطبة، فلمّا انتهيت إلى هذا الموضع، قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا، لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمّك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسّف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد، والله ما رجع عن الأوّلين ولا عن الآخرين(٢) .

وفي البحار، عن كشف اليقين، عن ابن عباس، قال: كنت أتتبّع غضب أمير المؤمنينعليه‌السلام إذا ذكر شيئاً، أو هاجه خبرٌ، فلمّا كان ذات يوم، كتب إليه بعض شيعته من الشام يذكر في كتابه أنّ معاوية، وعمرو بن العاص، وعتبة ابن أبي سفيان، والوليد بن عقبة، ومروان، اجتمعوا عند معاوية فذكروا أمير المؤمنينعليه‌السلام فعابوه، وألقوا في أفواه الناس أنّه ينتقص أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويذكر كل واحد منهم بما هو أهله، وذلك لَمّا أمرعليه‌السلام أصحابه بالانتظار له بالنخيلة فدخلوا وتركوه، فغلظ ذلك عليه.

وجاء هذا الخبر فأتيت بابه في الليل، فقلت: يا قنبر، أيّ شيء خبر

____________________

(١) نهج البلاغة: ص٣٧ - ٤٤ ج١. نهج البلاغة صبحي الصالح: ص٤٨.

(٢) شرح ابن أبي الحديد: ج ص٢٠٥.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207