التبرك بالصالحين والاخيار

التبرك بالصالحين والاخيار0%

التبرك بالصالحين والاخيار مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 91

التبرك بالصالحين والاخيار

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الاستاذ صباح البياتي
تصنيف: الصفحات: 91
المشاهدات: 18719
تحميل: 6669

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 91 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18719 / تحميل: 6669
الحجم الحجم الحجم
التبرك بالصالحين والاخيار

التبرك بالصالحين والاخيار

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ليصيبني خطرة، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي(صلى الله عليه وآله)، وكان يأتي موضعاً من المسجد في الصحن فيتمرّغ فيه ويضطجع، فقيل له في ذلك، فقال: إنّي رأيت النبي(صلى الله عليه وآله) في هذا الموضع. يعني في النوم(١) .

قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة.

هذه هي السنّة التي دأب عليها الصحابة والتابعون في التبرّك بقبر النبي(صلى الله عليه وآله) والاستشفاء بتربته، ولم يخالفهم فيها إلاّ ولاة بني اُمية الظلمة من أمثال مروان بن الحكم طريد رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي لعنه الله وهو في صلب أبيه، كما أخبرت بذلك عائشة وعبد الله بن الزبير(٢) .

____________________

١- وفاء الوفاء: ٢/٤٤٤ عن أبي خيثمة زهير بن حرب قال: حدثنا مصعب بن عبد الله، حدثنا إسماعيل بن يعقوب التيمي.

٢- مجمع الزوائد: ٥/٢٤١، الاستيعاب: ٣/٤٢٥، ترجمة مروان بن الحكم، وترجمة مروان بن الحكم من اُسد الغابة: ٥/١٤٤، رقم ٤٨٤١، السنن الكبرى للنسائي: ٦/٤٨٥.

٤١

شبهة للعلياني

قال علي بن نفيع العلياني: وعلى هذا فإن أهل الجاهلية كحال أي إنسان، يرغبون في النماء والزيادة في أموالهم وأبدانهم وقبائلهم وأولادهم، وكل ما يحتاجونه في هذه الحياة الدنيا، وهذا النماء والزيادة الذي هو جوهر البَرَكة إنّما يطلبونه من أصنامهم لاعتقادهم أن هذه الأصنام يأتي من قبلها الخير الكثير وأنّها مباركة، وحتى الذين ينسبون الفعل إلى الله عزّ وجل، فهم يعتقدون أن هذه الأصنام وما يسكنها من روحانيات لها تأثير في التأثير على الله... لكي يحقق لهم ما يريدون، وهذا معنى قولهم( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلّا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) ولأجل ذلك كان التبرّك مظهراً من مظاهر الوثنية في الجاهلية الأولى!(١) إنّ هذا الكلام البعيد عن المنطق يريد أن يساوي بين نيّة وعمل المسلمين وما يقابلها عند المشركين، فهو يحتجّ بقوله تعالى في الآية التي أوردها، متناسياً أن سياق الآية يقول على لسان المشركين( مَا نَعْبُدُهُمْ ) ، ولم يقل ما نتبرّك بهم، فأهل الجاهلية من المشركين كانوا يطلبون الأشياء التي ذكرها العلياني لاعتقادهم بأنّ هذه الآلهة تضرّ وتنفع بمعزل عن قدرة الله تعالى، فالجاهلي لم يكن يعتقد بالبعث والنشور والثواب والعقاب، لذا كان يتعبّد هذه

____________________

١- التبرّك المشروع: ٥٣.

٤٢

الأصنام لاعتقاده بأنّها تستطيع أن تلحق به الضرّر المادّي في الدنيا كإهلاك ماشيته وزرعه أو إصابته بمرض عضال وغير ذلك، وفي نفس الوقت كان يعتقد قدرتها على منحه ما يحتاج إليه من خيرات، لذا كان يعبدها ويقدّم لها القرابين، وأين عمل المشركين هذا من عمل المسلمين الموحدين الذين يعتقدون أن الخير كلّه من عند الله سبحانه وتعالى. وأن بركاته تنزل بإذنه هو، مع إخباره في كتابه العزيز عن وجود مخلوقات له جعل فيها خصوصية وجعلها مباركة، ولأنه سبحانه يحب هذه المخلوقات المباركة، فقد أكرمها بأن جعلها سبباً لاستجابة دعاء المخلوقين بتوسلهم بها لكرامتها عند الله؟! ولعل خير ما يمثل عقيدة المسلمين في التبرّك هو قول الخليفة العباسي المأمون للقاضي يحيى ابن أكثم:

وإنّ الرجل ليأتيني بالقطعة من العوذ أو بالخشبة أو بالشيء الذي لعل قيمته لا تكون إلاّ درهماً أو نحوه، فيقول: إن هذا كان للنبي(صلى الله عليه وآله)، أو قد وضع يده عليه، أو بأسافله، أو مسّه، وما هو عندي بثقة ولا دليل على صدق الرجل، إلاّ أني بفرط النيّة والمحبّة أقبل ذلك فأشتريه بألف دينار وأقل وأكثر، ثم أضعه على وجهي وعيني وأتبرّك بالنظر إليه وبمسّه، فأستشفي به عند المرض يصيبني أو يصيب من أهتم به، فأصونه كصيانتي لنفسي، وإنّما هو عود لم يفعل هو شيئاً ولا فضيلة له تستوجب به المحبّة إلاّ ما ذكر من مسّ

٤٣

رسول الله (صلى الله عليه وآله) له(١) .

فالمأمون يعلم أن هذا العود لا ينفع ولا يضرّ بذاته، ولكنه يقدّسه إكراماً للنبي(صلى الله عليه وآله)، وكذلك هي عقيدة المسلمين، فأين من ذلك عقيدة المشركين!

____________________

١- تاريخ بغداد لابن طيفور: ٤٥.

٤٤

تبرّك الصحابة بأماكن صلّى فيها النبيّ(صلى الله عليه وآله)

وهذا أيضاً من الأمور التي خالفت فيها السلفية، ثمّ الوهابية جمهورَ المسلمين فيه، فسيرة المسلمين على وجه العموم وعلى مرّ الأعصار هو التبرّك بكل مكان حلَّ فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) واعتباره مكاناً مباركاً، وبخاصة الأماكن التي كان يكثر المكث فيها، كمجلسه من منبره، وغار حراء، ومسكنه وغير ذلك، باعتبارها أماكن قد اكتسبت بركتها من جسم النبي الأقدس(صلى الله عليه وآله)، فكما كان الصحابة يتبرّكون بملامسة جسده الشريف، فإن المسلمين - ومنهم الصحابة الكرام - كانوا يتبركون بالأماكن التي لامسها جسده الشريف أيضاً.

ولا يخالف المسلمين في ذلك غير الفرقة الوهابية فيمنعون من التبرّك بتلك الأماكن المباركة، أو بالأماكن التي صلّى فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويحتجّون بأدلة واهية، كقول ناصر بن عبد الرحمن ابن محمد الجديع محتجّاً بدليلين، أحدهما: أنّه لا يوجد دليل من النصوص الشرعية يفيد جواز ذلك الفعل أو استحبابه. وثانيهما: أنّ الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنّه تبرّك بشيء من المواضع التي جلس فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو البقع التي صلّى عليها عليه الصلاة والسلام اتفاقاً، مع أنّهم أحرص الأمة على التبرّك بالرسول(صلى الله عليه وآله)، ومع

٤٥

علمهم بتلك المواضع وشدّة محبّتهم للرسول(صلى الله عليه وآله) وتعظيمهم له، وإتباعهم لسنّته(١) .

هذان الدليلان اللّذان يسوقهما الجديع معتقداً بأنّه قد فتح فتحاً في هذا الشأن، هما في الحقيقة أوهى من خيط العنكبوت، إذ إن عدم وجود دليل من النصوص الشرعية بجواز ذلك أو استحبابه، يقابله من الجهة الاُخرى عدم وجود دليل من النصوص الشرعية بعدم جواز ذلك أو كراهته، والقاعدة أنّه إذا لم يوجد دليل على التحريم، دل ذلك على الإباحة.

أما ادعاؤه بأنّه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنّه تبرّك بشيء من ذلك، فهو أسقط من حجّته الأولى، فقد أخرج المحدّثون ما ينقض هذا الإدّعاء، وقد مرّ مثله الشيء الكثير، وأيضاً:

فعن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها. ويحدّث أنّ أباه كان يصلي فيها، وأنّه رأى النبي(صلى الله عليه وآله) يصلّي في تلك الأمكنة. وحدّثني نافع عن ابن عمر أنّه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالماً فلا أعلمه إلاّ وافق نافعاً في الأمكنة كلّها إلاّ أ نّهما اختلفا في مسجد بشرف

____________________

١- التبرّك أنواعه وأحكامه: ٢٤٣ - ٢٤٤.

٤٦

الروحاء(١) . قال ابن حجر في شرحه للحديث: عُرف من صنيع ابن عمر استحباب تتبع آثار النبي(صلى الله عليه وآله) والتبرّك بها(٢) .

وقال ابن عبد البر: كان (ابن عمر); كثير الإتباع لآثار رسول الله(صلى الله عليه وآله)... وكان يتقدّم في المواقف بعرفة وغيرها الى المواضع التي كان النبي(صلى الله عليه وآله) وقف بها(٣) .

وقال ابن الأثير: إنّ عبد الله بن عمر كان كثير الإتباع لآثار رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى أنّه ينزل منازله ويصلي في كل مكان صلّى فيه، وحتّى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهدها بالماء لئلا تيبس(٤) .

وعن نافع: أنّ عبد الله بن عمر كان ينيخ بالبطحاء التي بذي الحليفة التي كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ينيخ بها ويصلّي بها(٥) .

وقال الواقدي: وعن أفلح بن حميد، عن أبيه قال: كان ابن عمر يخبر أن النبي(صلى الله عليه وآله) جلس تحت السمرة، وأن ابن عمر كان يصب

____________________

١- صحيح البخاري: ١/١٣٠، كنز العمال: ٦/٢٤٧، الإصابة: ٢/٣٤٩، حرف العين، القسم الأوّل، ترجمة عبد الله بن عمر، رقم ٤٨٣٤، البداية والنهاية: ٥/١٤٩.

٢- فتح الباري: ١/٤٦٩، وفي الصارم: ١٠٨ عن الإمام مالك انّه يستحب الصلاة في مواضع صلاة النبي(صلى الله عليه وآله).

٣- الاستيعاب: ٢/٣٤٢ بهامش الإصابة، ترجمة عبد الله بن عمر.

٤- اُسد الغابة: ٣/٣٤٠، ترجمة عبد الله بن عمر، رقم ٣٠٨٠.

٥- مسند أحمد: ٢/٢٦٩، ح ٥٩٦٨، صحيح البخاري: ٣/١٤٠، صحيح مسلم: ٢/١٩٨١.

٤٧

الأدواة تحتها في أصل السمرة يريد بقاءها(١) .

فلو كان عمل ابن عمر غير جائز، لأنكر عليه الصحابة ذلك ونهوه عنه.

وقال العلياني - في التبرّك الممنوع بالأمكنة والجمادات -:

... ولا يعكر على هذا ما رواه البخاري في صحيحه: أن عتبان بن مالك - وهو من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ممن شهد بدراً من الأنصار - أنّه أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا اُصلّي لقومي، فإذا كانت الأمطار، سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فاُصلي بهم، وددت يا رسول الله أنّك تأتيني فتصلّي في بيتي، فأتّخذه مصلى. قال: فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله):((سأفعل إن شاء الله)) . قال عتبان: فغدا رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فأذنت له، فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال:((أين تحب أن اُصلي من بيتك)) ؟ قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) فكبّر، فقمنا فصففنا، فصلّى ركعتين ثم سلّم(٢) .

وذلك لأنّه ليس قصد عتبان أن يتبرّك بالموضع الذي صلّى فيه

____________________

١- مغازي الواقدي: ٢/١٠٩٦، باب حجة الوداع.

٢- صحيح البخاري: ١/ ١١٥، ١٧٠، ١٧٥، صحيح مسلم: ١/٤٤٥، ٦١، ٦٢.

٤٨

رسول الله(صلى الله عليه وآله). وإنّما قصده أن يقرّه الرسول(صلى الله عليه وآله) على الصلاة جماعة في داره عند عدم استطاعته حضور الجماعة عندما يسيل الوادي، فأراد أن يفتتح له رسول الله(صلى الله عليه وآله) مسجداً في منزله، ولأجل هذا بوّب البخاري في صحيحه بعنوان: باب المساجد في البيوت. وصلّى البراء بن عازب في مسجده في داره جماعة - وهذا من فقهه يرحمه الله - فالمقصود هو أن يسنّ له الرسول(صلى الله عليه وآله) الصلاة جماعة في منزله عند الحاجة. كما أن الصحابي الآخر البراء بن عازب فعل الجماعة في مسجده في داره ولم ينكر عليه، وهو في زمن التشريع. وقد يكون من مقصود عتبان إصابة عين القبلة، فإن الرسول(صلى الله عليه وآله) لا يقرّ على خطأ لو صلّى إلى غير جهة القبلة(١) .

أقول: لا شكّ أن رغبة الصحابي عتبان في تأدية الصلاة جماعة في بيته هو أحد الأسباب لذلك، ولكن ليس كلّها، فإن رغبته في التبرّك بموضع صلاة الرسول(صلى الله عليه وآله) واضحة. وقد فهم النبي(صلى الله عليه وآله) رغبة عتبان هذه، لذا ابتدره بالسؤال عن المكان الذي يحبّ أن يصلّي له فيه من بيته، ولو أن الأمر كما يقول العلياني، لصلّى النبي(صلى الله عليه وآله) في أي مكان من البيت يصلح لذلك.

ومن جهة ثانية، فإن ادّعاء العليان أن رغبة الصحابي عتبان في

____________________

١- التبرّك المشروع: ٦٨ - ٦٩.

٤٩

إصابة عين القبلة لا ينهض بحجّة، فإذا كان عتبان لا يبصر جيداً فقد كان في مقدور أهله أو غيره من الصحابة أن يدلّوه عليها، ولما احتاج الأمر لأن يصلي النبي(صلى الله عليه وآله) ركعتين في ذلك الموضع - ممّا يدل على أنها لم تكن فريضة - وكان يكفيه أن يشير إلى مكان القبلة ليستدل بها الصحابي عليها!

ولا أظن أن العليان كان أقدر على الفهم من العلاّمة ابن حجر العسقلاني الذي قال في شرحه للحديث:

وإنّما استأذن النبي(صلى الله عليه وآله) لأنه دُعي للصلاة ليتبرّك صاحب البيت بمكان صلاته، فسأله ليصلّي في البقعة التي يجب تخصيصها بذلك(١) ...

وقال أيضاً: في حديث عتبان وسؤاله النبي(صلى الله عليه وآله) أن يصلي في بيته ليتّخذه مصلّى وأجابه النبي(صلى الله عليه وآله) إلى ذلك، فهو حجة في التبرّك بآثار الصالحين(٢) .

وإذا كان طلب عتبان من النبي(صلى الله عليه وآله) الصلاة في بيته للأسباب التي ادّعاها، فبماذا نفسّر طلب اُمّ سليم وغيرها من الصحابة من النبي(صلى الله عليه وآله) الصلاة في بيوتهم، فيما أخرج المحدثون، وكما يأتي:

____________________

١- فتح الباري: ١/٤٣٣.

٢- المصدر السابق: ١/٤٦٩.

٥٠

١ - عن أنس بن مالك: أنّ اُمّ سليم سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يأتيها فيصلّي في بيتها فتتّخذه مصلّى، فأتاها، فعمدت الى حصير فنضحته بماء فصلّى عليه وصلّوا معه(١) .

٢ - وعنه أيضاً قال: صنع بعض عمومتي طعاماً فقال للنبي(صلى الله عليه وآله): إنّي أحب أن تأكل في بيتي وتصلّي. قال: فأتاه وفي البيت فحل من هذه الفحول، فأمر بناحية منه فكنس ورش، فصلّى وصلّينا معه(٢) .

٣ - وعنه أيضاً، قال: كان رجل ضخم لا يستطيع أن يصلّي مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال للنبي(صلى الله عليه وآله):

إنّي لا أستطيع أن اُصلّي معك، فلو أتيت منزلي فاقتدي بك. فصنع الرجل طعاماً ثم دعا النبي(صلى الله عليه وآله)، فنضح طرف حصير لهم فصلّى النبي (صلى الله عليه وآله) ركعتين(٣) .

فهل كان مقصود اُم سليم أنّ تؤم المسلمين في بيتها مثل عتبان عندما طلبت من النبي(صلى الله عليه وآله) أن يصلّي في بيتها، أم أنّها طلبته للتبرّك بالصلاة في الموضع الذي يصلي فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟

____________________

١- سنن النسائي: ١/٢٦٨، كتاب المساجد، باب ٤٣ الصلاة على الحصير، ح ٨١٦.

٢- سنن ابن ماجة: ١/٢٤٩، كتاب المساجد، باب المساجد في الدور، ح ٧٥٦، والفحل هو الحصير الذي قد اسود، مسند أحمد: ٣/١٣٠ بسندين، مسند أنس بن مالك، ح ١١٩٢٠.

٣- مسند الإمام أحمد: ٣/٥٨٦، ح ١١٩٢٠، ط مؤسسة التاريخ العربي.

٥١

وهل كان عمومة أنس والرجل الآخر - الذي لم يذكر اسمه - عمياناً أيضاً فجاء النبي(صلى الله عليه وآله) ليحدد لهم القبلة! وإذا لم يكن قصد الرجل التبرّك بموضع صلاة النبي(صلى الله عليه وآله)، أفلم يكن في استئذانه النبي بعدم الحضور إلى المسجد - لتعذر ذلك عليه - كافياً دون الحاجة الى الطلب منه(صلى الله عليه وآله) أن يحضر ليصلي في بيته.

٥٢

التبرّك بالصحابة والصالحين

تبيّن ممّا سبق أن لا خلاف بين طوائف المسلمين في جواز التبرّك بالنبي(صلى الله عليه وآله) في حياته، وبآثاره بعد موته. وأن ما احتجّ به الشاذّون في ذلك مردود، يكذبه فعل الصحابة أنفسهم. إلاّ أنّ الخلاف هل هو في جواز التبرّك بغير النبي(صلى الله عليه وآله) من الصحابة والتابعين والصالحين أم لا؟

لقد جوّز بعض علماء المسلمين ذلك، بينما منعه آخرون، ومن المانعين له: الشاطبي، حيث يقول: الصحابة (رضي الله عنهم) بعد موته (عليه الصلاة والسلام)، لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة الى من خلفه، إذ لم يترك النبي(صلى الله عليه وآله) بعده في الاُمّة أفضل من أبي بكر الصديق، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذي لا أحد أفضل منهم في الاُمّة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أنّ متبرّكاً تبرّك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتّبعوا فيها النبي(صلى الله عليه وآله)، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء(١) .

____________________

١- الاعتصام: ٢/٨.

٥٣

وقال أيضاً: لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرّك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة(١) ...

ومن المانعين أيضاً ابن رجب، إذ قال: وكذلك التبرّك بالآثار، فإنّما كان يفعله الصحابة مع النبي(صلى الله عليه وآله)، ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم.. ولا يفعله التابعون مع الصحابة مع علوّ قدرهم، فدلّ على أن هذا لا يفعل إلاّ مع النبي(صلى الله عليه وآله)، مثل التبرّك بوضوئه وفضلاته وشعره، وشرب فضل شرابه وطعامه(٢) .

فأدلّة المانعين تقوم على أساس أن الصحابة لم يتبرّكوا ببعضهم، ولا يتبرّك التابعون بهم، فدلّ تركهم ذلك على عدم جوازه.

إلاّ أنّ الادّعاء بعدم تبرّك الصحابة ببعضهم، وكذلك بآل الرسول(صلى الله عليه وآله) غير صحيح، فهناك شواهد صحيحة على حدوث ذلك، وقد استند بعض كبار علماء المسلمين إلى ذلك في تجويز التبرّك ليس بالصحابة والتابعين فحسب، بل بكل أهل الخير والصلاح.

ومن المجوزين القائلين بذلك، الإمام النووي الذي استند الى بعض الروايات الصحيحة في استسقاء عمر بن الخطاب بالعباس واستسقاء بعض الصحابة ببعض من صالحيهم، قال:

ويستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لأن عمر استسقى

____________________

١- الاعتصام: ٢/١٠.

٢- الحكم الجديرة بالإذاعة: ٥٥.

٥٤

بالعباس وقال: اللهم إنّا كنّا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسل بعم نبيّنا فاسقنا فيسقون.

ويستسقى بأهل الصلاح لما رُوي أن معاوية استسقى بيزيد ابن الأسود فقال: اللهم إنّا نستسقي بخيرنا وأفضلنا، اللّهم إنّا نستسقي بيزيد بن الأسود. يا يزيد ارفع يديك إلى الله تعالى، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فثارت سحابة من المغرب كأنّها ترس، وهبّ لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم(١) .

ولقد استدلّ ابن حجر العسقلاني بحادثة استسقاء عمر بالعباس على جواز التبرّك والاستشفاع ببعض الأخيار فقال:

ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوّة(٢) .

ومن أمثلة تبرّك الصحابة ببعضهم وتبرّك التابعين بهم:

١ - روى عبد الله بن مسعود أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالعباس فقال: اللّهم إنا نتقرب إليك بعم نبيّك وقفية آبائه وكبر رجاله، فإنّك قلت وقولك الحق:( وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ... ) الآية،

____________________

١- المجموع شرح المهذب للإمام النووي: ٥/٦٨ كتاب الصلاة، باب صلاة الاستسقاء، وقال ابن حجر: أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه بسند صحيح، ورواه أبو القاسم الكلالكائي في السنّة في كرامات الأولياء.

٢- فتح الباري: ٢/٣٩٩.

٥٥

فحفظتهما لصلاح أبيهما، فأحفظ الله نبيّك بعمه فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين... الحديث(١) .

وفي لفظ: وروينا من وجوه عن عمر أنّه خرج يستسقي وخرج معه العباس فقال: اللّهم إنّا نتقرب إليك بعم نبيّك(صلى الله عليه وآله) ونستشفع به فأحفظ فيه لنبيّك كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما وأتيناك مستغفرين ومستشفعين.

ثم أقبل على الناس فقال: استغفروا ربّكم انّه كان غفارا - إلى أن قال - فنشأت طريرة من سحاب فقال الناس: ترون ترون! ثم تلاءمت واستتمت ومشت فيها ريح ثم هزت ودرّت، فو الله ما برحوا حتى أعقلوا الجدر وقلصوا المآزر وطفق الناس بالعباس يتمسحون أركانه ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين.

وفي لفظ ابن الأثير: ولما سقى الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين، وكان الصحابة يعرفون للعباس فضله ويقدمونه ويشاورونه(٢) .

٢ - الحسن البصري، حنّكه عمر بيده، وكانت اُمّه تخدم اُمّ سلمة زوج النبي(صلى الله عليه وآله) فربّما غابت فتعطيه اُمّ سلمة ثديها تعلله بها إلى أن

____________________

١- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٧/٢٧٤، شرح الخطبة ١١٤، باب أخبار وأحاديث في الاستسقاء، اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية: ٣٣٨.

٢- اُسد الغابة: ٣/١٦٧، ترجمة عباس بن عبد المطلب، رقم ٢٧٩٧.

٥٦

تجيء اُمّه، فيدر عليه ثديها فيشربه، فكانوا يقولون فصاحته ببركة ذلك(١) .

٣ - قال السمهودي - عند ذكره لإسطوانة المحرس:

كان علي بن أبي طالب يجلس في صفحتها التي تلقي القبر ممّا يلي باب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو مقابل الخوخة التي كان النبي(صلى الله عليه وآله) يخرج منها إذا كان في بيت عائشة إلى الروضة للصلاة، وهي الاسطوان الذي يصلّي عندها أمير المدينة، يجعلها خلف ظهره، ولذا قال الأقشهري: إنّ اسطوان مصلّى علي(عليه السلام) اليوم أشهر من أن تخفى على أهل الحرم، ويقصد الأمراء الجلوس والصلاة عندها إلى اليوم، وذكر أنّه يقال لها: مجلس القادة، لشرف من كان يجلس فيه(٢) .

ونقل عن مسلم بن أبي مريم وغيره، أنّه كان باب بيت فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في المربعة التي في القبر. قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنس حظّك من الصلاة إليها فإنّها باب فاطمة (رضي الله عنها) الذي كان علي يدخل عليها منه(٣) .

وفي حديثه عن اسطوان التهجد قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يخرج

____________________

١- صفة الصفوة: ٣/٤٧.

٢- وفاء الوفا: ٢/٤٤٨.

٣- المصدر السابق: ٢/٤٥٠.

٥٧

حصيراً كل ليلة إذا انكفت الناس فيطرح وراء بيت علي ثم يصلّي صلاة الليل...

وحدثني سعيد بن عبد الله بن فضيل قال: مرّ بي محمد بن الحنفية وأنا اُصلي إليها فقال لي: أراك تلزم هذه الاسطوانة، هل جاءك فيه أثر؟ قلت: لا، قال: فألزمها فإنّها كانت مصلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله) من الليل...

قال ابن النجار: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي(صلى الله عليه وآله) يستحب الصلاة عندها لأنه لا يخلو أن كبار الصحابة صلّوا إليها(١) .

٤ - لما خطب عمر بن الخطاب اُم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) - على ما رُوي عن بعضهم - قال: إني اُحب أن يكون عندي عضو من أعضاء رسول الله(صلى الله عليه وآله)(٢) .

٥ - لما خرج الحسين بن علي من المدينة يريد مكة، مرّ بابن مطيع وهو يحفر بئره، فقال له:

أين فداك أبي واُمي؟! قال:((أردت مكة)) - وذكر أنه كتب إليه شيعته بالكوفة -، فقال له ابن مطيع: فداك أبي واُمي، متّعنا بنفسك ولا تسرِ إليهم. فأبى الحسين. فقال له ابن مطيع: إن بئري هذه قد رشحتها، وهذا اليوم أوان ما خرج إلينا في الدلو شيء من ماء، فلو

____________________

١- وفاء الوفا: /٤٥٢.

٢- ذخائر العقبى: ١٦٩، الفصل الثامن في ذكر اُمّ كلثوم بنت فاطمة وعلي(عليهما السلام).

٥٨

دعوت الله لنا بالبركة. قال:((هات من مائها)) ، فأتى من مائها فشرب منه ثم مضمض ثم ردّه في البئر فأعذب وأمهى(١) .

٦ - لما بلغ الرضا - علي بن موسى(عليه السلام) - نيسابور، واجتمع الناس حول دابته، أخرج رأسه من المحمل وشاهده الناس، فهم بين صارخ وباك وممزق ثوبه ومتمرغ في التراب ومقبّل لحافر بغلته أو مقبّل حزام بغلته(٢) ...

بل إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قد تبرّك بوضوء المسلمين، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة:

فعن ابن عمر، قال: قلت يا رسول الله، أتوضأ من جرّ جديد مخمّر أحبّ إليك، أم من المطاهر؟ قال:((لا، بل من المطاهر، إن دين الله يسّر الحنيفية السمحة)) . قال: وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه، يرجو بركة أيدي المسلمين(٣) .

هذه إذاً بعض الأخبار التي تثبت أن الصحابة والتابعين - من أهل القرون الثلاثة الاُولى - كانوا يتبرّكون ببعضهم البعض، خلافاً لما

____________________

١- الطبقات الكبرى: ٥/١٠٧.

٢- الصواعق المحرقة: ٣١٠، الفصل الثالث في الأحاديث الواردة في بغض أهل البيت(عليهم السلام)، نور الأبصار للشبلنجي: ١٦٨، فصل في مناقب سيد علي الرضا بن موسى الكاظم.

٣- مجمع الزوائد: ١/٢١٤، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثّقون، كنز العمال: ٧/١١٢، ح ١٨٢٣١.

٥٩

يدّعيه البعض من أمثال الجديع، إذ يقول:

الحق أنّه لم يؤثر عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه أمر بالتبرك بغيره من الصحابة (رضي الله عنهم) وغيرهم، سواء بذواتهم أو بآثارهم، أو أرشد إلى شيء من ذلك، وكذا فلم ينقل حصول هذا النوع من التبرّك من قبل الصحابة رضي الله عنهم بغيره(صلى الله عليه وآله)، لا في حياته ولا بعد مماته...(١) .

وقال في تعليل ذلك: إن السبب الرئيسي في ترك الصحابة (رضي الله عنهم) ذلك التبرّك مع بعضهم - والله أعلم - هو اعتقاد اختصاص الرسول(صلى الله عليه وآله) به دون سواه ما عدا سائر الأنبياء...

وقال نقلاً عن الشاطبي: فعلى هذا المأخذ، لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرّك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة(٢) .

أقول: بعد أن أثبتنا تبرّك الصحابة والتابعين ببعضهم وبالصالحين من الاُمّة، فإن عدم أمر النبي(صلى الله عليه وآله) بالتبرّك بغيره، يقابله أيضاً عدم نهيه عن ذلك، فلو كان الأمر بهذه الدرجة من الخطورة على عقائد المسلمين لما أغفل النبي(صلى الله عليه وآله) هذا الأمر ولكان نهى عنه بكل شدّة. وذلك بيّن في قول النبي(صلى الله عليه وآله)عن عمرو بن العاص، أن

____________________

١- التبرّك أنواعه وأحكامه: ٢٦١.

٢- المصدر السابق: ٢٦٤ نقلاً عن الاعتصام: ٢/٩.

٦٠