المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٥

المهذب البارع في شرح المختصر النافع13%

المهذب البارع في شرح المختصر النافع مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 430

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 430 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52709 / تحميل: 7782
الحجم الحجم الحجم
المهذب البارع في شرح المختصر النافع

المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والتصديق هما قسما العلم، وكلاهما يعرَّفان بحصول الصورة لدى العقل، والفَرق بينهما أن التصور لا يوجب الإذعان والحكم، بينما التصديق يوجب حصول الإذعان والحكم؛ ولذا فالحكم خارج عن التصديق وليس هو جزء القضية، وإنما هو فعل تقوم به النفس، فبعد تصور الموضوع والمحمول والنسبة، تصل إلى الحكم، وهو الدمج بين الموضوع والمحمول، وهذه وظيفة العقل العملي الذي يقوم بالحكم والإذعان بما أدركه وتصوَّره العقل النظري، وهذا فعل غير الإدراك، تقوم به قوة غير القوة التي وظيفتها الإدراك.

ومن هنا نقول: إن العقل له أمر ونهي تكويني؛ أي بعث وزجر للقوى الأخرى الكُلِّية.

* بناء على هذا التفكيك بين القوتين تتَّضح لنا حقيقة العقل النظري؛ فهو يدرك نمطين من القضايا، أحدهما: لا يرتبط بالعمل كالقول بان الوجود المادي متناهي، والأخرى: ترتبط بالعمل، وهذا القسم من الإدراكات يتناوله العقل العملي بعدئذ ويؤثِّر على القوى المادُون لتنصاع إليها، فهو الرابط بين العقل النظري والقوى السفلية، وكمال العقل العملي هو الانصياع إلى إدراكات العقل النظري الصادقة.

* بالبيان السابق اتضحت النقاط التي كنا أثرناها في مقدِّمة الفصل الأوَّل؛ من أن معنى الإيمان والتسليم هو الإذعان، وهو وظيفة العقل العملي، وأنه ليس إدراكاً صرفا، فهناك ثلاث مراحل: فحص، و إدراك، وإذعان وإيمان.

* قال العرفاء: إن الإنسان في حالة صعود وهبوط دائمين. ومقصودهم من ذلك: أن الإنسان في حركاته اليومية وطريقة تفكيره ينتقل في درجات وجودية مختلفة أدناها هي المتصلة بعالم المادة وأعلاها هي المجرَّدة تجرُّداً تامَّا، فيبدأ من الدرجات الحسية، وهي المجردة عن المادة - دون أحكام المادة - إلى الخيال، وهي مجردة عن المادة - لا عن المقدار - ولا ترتبط بالجزئي الحقيقي كالحسي، إلى الوهم،

٦١

وهو إدراك المعاني الخالية عن المقدار كالحب والبغض، وهي مع تجرُّدها عن المادة وأحكامها إلاّ أنها متعلِّقة ومضافة إلى جزئي معين؛ إلى العقل ذي التجرُّد التامِّ عن المادة وأحكامه، وهذه كلها درجات وجودية في الإنسان.

والإنسان المهذَّب والكامل في صَلاته يتوجَّه بقلبه إلى ما فوق عالم العقل؛ حيث الصقع الربوبي والرؤية القلبية، وإلى هذا نمط من الإدراك، لكنَّه ليس بالقوة العاقلة، ويطلق عليه: الإدراك القلبي؛ وهو ذو درجات أربع: سر، وخفي، وأخفى، وهي ليست من سنخ الإدراكات الحصولية، بل إدراكات حضورية، وهذا استدراك لتوضيح درجات الإنسان الوجودية ومعرفة النفس البشرية، وسوف يأتي مزيد بيان للعلاقة والارتباط بين هذه المراتب.

* من النقاط السابقة يتَّضح لنا تعريفاً آخر للعقل العملي؛ وذلك لأننا قلنا: إن مهمته الأساسية هي الإذعان والحكم، وهذا قد يكون بقضايا ترتبط بالعمل، وحينئذٍ يترتَّب على الحكم والإذعان بها تأثُّر القوى السفلية، وقد يكون بالحكم والإذعان بقضايا لا ترتبط بالعمل كحدوث العالم وعدم تناهيه.

٦٢

التنبيه الأوَّل:

الحسن والقبح العقليَّان

هذه المسألة من أمهات مسائل علم الفلسفة وعلم الكلام والتي جرى البحث عنها منذ القدم في بداية عهد الفلسفة الإسلامية وقبلها الفلسفات الهندية الفهلوية واليونانية. وقد ذهب الأشاعرة إلى كونهما اعتباريين بجعل العقلاء، وأيَّدهم في ذلك بعض الإمامية وذهب كثير منهم إلى القول بعقليَّـتهما وتكوينيَّـتهما. ويبتني على هذه المسألة ثمرات عدَّة؛ إذ أن أغلب البراهين تعود إلى حسن العدل وقبح الظلم، فإذا كان الحسن والقبح اعتباريين، فإن الاستدلالات سوف تكون خطابية لا برهانية. وتظهر خطورة المسألة أكثر حيث يذهب كثير من المتأخرين إلى اعتبارها من المشهورات التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء، وينتج عن ذلك اختلال البنية التحتية للشريعة؛ وذلك لأن المتكلمين يقولون: إن الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية؛ أي أن العقل لو علم بمِلاكات الأحكام الشرعية، لحكم بها، فهي موضوعات لطف في الكمال يحكم بها العقل لو اطلع عليها. فإذا كانت البنية التحتية للشريعة هي الأحكام العقلية، وهي مسألة الحسن والقبح، وهي مسألة اعتبارية بيد المعتبر وتتَّبع نظره، فينتج من ذلك تغيير الأحكام تبَعاً لتغيير الأفكار، وهو ما يُعرف حديثا بنظرية: تغيُّر المعرفة الدينية أو بسط وقبض الشريعة، فلا

٦٣

تتَّصف الشريعة حينئذ بالثبات، ولكن بحمد للَّه ومنّه هذا الإشكال وغيره مدفوع حتّى على القول باعتبارية الحسن والقبح كما سوف يأتي بيانه.

من الناحية التاريخية المسألة مرَّت بمراحل متعدِّدة:

1 - إن الفلاسفة القدمى قبل الإسلام، سواء في الهندية أم البهلوية أم الحرانية أم اليونانية، كلُّهم قائلون بعقلية المسألة، وممَّن أشار إلى عقليَّـتهما من المسلمين الفارابي في كتابه المنطقيات.

2 - إن ابن سينا الذي قام بمهمة ترجمة كتب القدماء عدل عن هذا الرأي ولم يبيِّن عدوله ولم يشر إليه، وهكذا أثَّر في مَن أتى مِن بعده؛ حيث تعاملوا مع كتبه على أنها ترجمة أمينة لكتب القوم. وقد تأثَّر هو في ذلك بما ذكره أبو الحسن الأشعري في التفكيك بين معاني الحسن والقبح.

وابن سينا تتضارب كلماته، فهو في منطق الشفاء والإشارات يمثِّل للمشهورات بالحسن والقبح؛ وهي الآراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وفي مقام أخر في النمط الثالث من الإشارات يقول: (إن أحكام العقل العملي تستعين بالنظري وقضاياه، إما أوَّليَّات أو مشهورات)، وكذلك عبارات أخرى كما في إلهيات الشفاء في مسألة استجابة الدعاء يذكر فيها: أن قضايا الحسن والقبح قضايا حقَّة يمكن إقامة البرهان عليها.

3 - بعض المتأخرين كالمحقق اللاّهيجي في كتابة (گوهر مراد)، والسبزواري في (شرح الأسماء الحسنى)، ذهب إلى أنها تكوينية ولا ينافي كونها مشهورة من جهة أخرى.

4 - المحقَّق الأصفهاني ومَن بعده ذهب إلى أنها اعتبارية مطلقاً ولا يمكن إقامة البرهان عليها، وهذا هو المذهب السائد إلى الآن.

٦٤

من خلال هذا السبر التاريخي نلاحظ كيف تحوَّلت هذه القضية من عقلية تكوينية إلى اعتبارية جعْلية.

أمَّا الأسباب التي دعت ابن سينا إلى القول بالاعتبارية:

1 - المغالطة التي ذكرها أبو الحسن الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح وجعل بعض المعاني تكوينية، أمّا معنى المدح والذم، فليس كذلك؛ وذلك لأنه لو كان بديهيا لأذعن به الجميع، فمن ثَمّ أدرجه في المشهورات. ولم يكن هو أول من ذكر هذه المغالطة، بل أن السوفسطائيين اليونانيين معاصرو سقراط قالوا بهذه المقالة وردهم سقراط في مؤلَّفاته.

2 - تعريفه للعقل العملي؛ حيث إنه قد عرَّفه بتعريف هو عين العقل النظري والاختلاف بينهما في المُدرَك، وأن العقل، مطلقاً، شأنه الإدراك، وليس من شأنه التأثير والانفعال، فكيف يمكن تصوّر أنَّ العقل له تدخُّل في أعمال الأفعال النفسانية! بل العمليات ليست إلاّ تأديبات وعادات، وهذا المبنى على خلاف مبنى الفلاسفة المتقدِّمين كالفاربي وتقسيمهم الحكمة إلى نظرية وعملية.

3 - غضَّ ابن سينا النظر عن أحد قسمي البرهان الذين ذكرهما أرسطو، وهو البرهان العياني أو الشهودي، ويمتاز هذا البرهان بأنه يقام على إثبات الجزئيات الحقيقية، واكتفى بالقسم الأول المعروف في باب البرهان، وهو مختص بالكليَّات؛ لذا يشترط فيه الأبدية وعدم التغيير.

ولا بأس بذكر نبذة عن هذا البرهان:

هناك قوة في الإنسان تسمَّى: قوَّة الفطنة، وهذه قوة تُرَوِّي أعمال الإنسان وتُراعي صدور الإرادة على طبق الحكمة، فهي قوة تكون محيطة بأحوال الأمور الواقعية الجزئية فتوجب انطباق الكليات على الجزئيات والوصول إلى الكمال المنشود.

٦٥

توضيح ذلك:

أن إدراك القضايا، حتّى العملية، لا يكفي للوصول إلى الكمال، وإنما هذا هو كمال لقوة خاصة وهي العقل النظري، وكمال العقل العملي والقوى السفلى يكون بالانصياع إلى القوة العملية، ولكن هذا وحده لا يكفي، بل يجب أن تكون هناك آلة وأداة تميِّز حال الجزئيات الحقيقية، لا سيما في الأمور الاجتماعية. وعدم إدراك الواقع الجزئي على ما هو عليه يؤثِّر في عدم الوصول للكمال المنشود؛ لأن تنزُّل القضايا الكلية إلى الجزئية لا يتمُّ إلاّ بأداة قادرة على استكشاف حال الجزئي على ما هو عليه وتطبيق الكلي عليه، فيكون تسلسل الادراكات بالنحو التالي:

* - مرحلة إدراك الكمال في الأعمال والبرهان عليها، وهذا يقوم به العقل النظري.

* - ثُم مرحلة الإذعان في العقل العملي والتأثير على القوى السفلى.

* - ثُم مرحلة تشخيص الأمور الجزئية بالدقة وتطبيق تلك الكليات عليها.

وشبيه هذا التسديد عند التنزُّل من الأعلى إلى الأسفل قوله تعالى: ( بِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ ) فهو إشارة إلى السداد والعصمة في مراحل التنزيل؛ حيث كونه حقَّاً لوحده لا يكفي، بل يجب أن يكون السداد في النزول، وفي النفس الإنسانية الإدراك والإذعان وحده غير كافٍ، بل يجب أن يحصل التسديد في التنفيذ على الأمور الخارجية الجزئية، وهذا لا يكون إلاّ بقوة الفطنة، وهي قوة فوق القوى المادون (الغضبية والعمّالة والشهوية)، فهي تستخدم هذه القوى للوصول إلى الجزئي الحقيقي المندرج تحت الأجناس العالية، فتصدر بعد ذلك أوامرها في عالم النفس لتولِّد الشوق والإرادة وصدور الفعل بعد ذلك.

وقوة الفطنة هي التي تقوم بالبرهان العياني الذي يحتاجه الإنسان في تطبيق الكليات على الجزئيات، والكمال في الواقعة الجزئية مبتنٍ على هذا البرهان.

فتلخص الفارق بين البرهان العياني والبرهان النظري:

٦٦

1 - إن البرهان النظري هو مختص بالكليات، والعياني للجزئيات.

2 - إن النظري يتوسَّط العقل النظري والعملي، أمّا العياني، فيتوسَّط العقل النظري والعملي والفطنة.

أمَّا كيف أدَّت الغفلة عن هذا القسم من البرهان إلى إنكار الحسن والقبح العقلي، فبيانه:

إنه لو أذعنَّا بلزوم كون الأعمال برهانية، فلا بدَّ من القول بارتكاز الجزئيات على أنها قضايا برهانية، والذي يمكنه البرهنة على أن الجزيئات حسنة وحكيمة إمّا الحسن والقبح وإمّا التشريع؛ أي أنّ إدراك حسن وكمال الأفعال الجزئية يكون بأحد هذين، والأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية.

وبتعبير أخر: أن البرهان العياني يبرهن على أن العمل الجزئي على وفق الحكمة والكمال، ولا يمكن البرهنة على كل واقعة جزئية إلاّ بتوسط استناد البرهان إلى قضايا يقينية، لا قضايا مشهورة لا أساس لها إلاّ الاعتبار، فحينئذ يحصل الالتفات إلى أن قضايا العقل العملي والحسن والقبح تكوينية لا مشهورة.

ـ وحينئذٍ نقول: إن التوحيد النظري وحده - من دون تنزُّله إلى توحيد عملي - هو توحيد أجوف، ولا يحصل هذا التنزُّل من التوحيد النظري إلى التوحيد في الطاعة إلاّ بالبرهان العياني وقوة الفطنة.

ومن هنا أن التوحيد والاعتقاد بالنبوة من دون الولاية لا يُقبل: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) وسيأتي بسط الكلام فيه.

فهذه الأمور الثلاثة هي التي سبَّبت الخلط الحاصل لدى ابن سينا، وعليه ابتنى اشتباه المتأخرين.

بعد اتضاح هذا الخلط التاريخي في مسألة القبح والحسن، نعرض للأدلة التي أُقيمت على اعتباريَّتهما ومناقشتها، ثُم نعرض إلى الأدلة التي ذكرها صدر

٦٧

المتألهين.

أدلَّة اعتبارية الحسن والقبح:

1 - اختلاف العقلاء في تحسين بعض الأمور وتقبيحها باختلاف الأزمنة والأمكنة، فهذا يعني عدم وجود واقع تكويني ثابت؛ بحيث يبقى الشي‏ء حسناً دائماً أو قبيحاً دائما.

2 - نفس وقوع التشاجر بين العلماء حول اعتباريتهما أو عقليَّتهما.

3 - يذكرون في إثبات النفس: أن الإنسان لو خلق من دون أعضاء أصلا، فإنه سوف يدرك ذاته، وهذا يدل على مغايرة الذات للبدن، وهكذا فيما نحن فيه، فلو خُلق الإنسان وحيداً في هذا العالم ولم يؤدَّب على العادات الحسنة ولم يلاقِ أيَّ إنسان آخر، فإنه سوف لن يحكم بحسن العدل وقبح الظلم، فهذا يدل على أنهما ليسا تكوينين، بل هما أمران جعليَّان.

4 - إن العقلاء إنما يحكمون بهذا الحكم من أجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم، فلو انعدم الاجتماع والنظام، لَمَا حكم العقلاء بذلك وبعبارة أخرى: أنّ هذه الأحكام للوصول لإغراض أخرى بواسطة هذا الاعتبار.

5 - ما ذكره المحقِّق الأصفهاني: أن الفعل المقتضي للمدح والذم على أحد نحوين، إمّا بنحو اقتضاء السبب لمسبَّبه والمقتضي لمقتضاه، وإمّا بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية.

أما السببية والمسبَّبية، فهي تكوينية، لكنَّها ليست ناشئة عن النزعة العقلية وقوى الإنسان العقلية؛ بل هي ناشئة بدواع حيوانية كالانتقام والتشفِّي والغيظ. أما الغاية وذي الغاية، فإنها إذا ثبتت، فهي تعني وتدل على الاعتبارية؛ لأن الغاية لهيئة الاجتماع الاعتبارية، والمدح والذم،موجب لِمَا فيه صلاح العامة، فهو اعتباري محض.

٦٨

6 - ما ذكره ابن سينا والأصفهاني: أن الحسن والقبح لو كانا عقليين تكوينيين، لَمَا خرجا عن إحدى البديهيات الست وهما ليسا بواحدة منها، فيبطل كونها من البديهيَّات.

7 - إن المدح والذم يعدُّه العقلاء من الإنشائيات، والإنشاء من سنخ الاعتباريات.

8 - ما ذكره الشهيد الصدر: أن تعريف العدل هو إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، والظلم هو منع الحق، والحق أمر اعتباري قانوني، فكذلك العدل والظلم. ومن هذا القبيل ما ذكره العلامة الطباطبائي من عروض الحسن والقبح على الأمور الاعتبارية كالتوقير والاحترام.

و هذه الأدلة كلها مردودة. و قبل أن نستعرضها نتعرض لِمَا ذكره الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح، و هو كما ذكرنا أحد الأسباب التي أدَّت إلى مغالطة ابن سينا.

* إننا يجب أن نلاحظ الحد الماهوي للمدح و الذم؛ فالمدح هو القضية المتكفِّلة لحمل كمال معين على موضوع معين، والذم بخلافه. وعليه يُعلم أنه يجب أن يكون الممدوح آتٍ بكمالٍ، فيكون المدح هو التوصيف بالكمال، والذم هو التوصيف بالنقص، ولا يمكن أن يُمدح بغير كمال أو يذم بغير نقص؛ فيجب أن يكون هناك واقع يطابقه المدح والذم.

وبتعبير أخر: إن وظيفة المدح هو الحكاية الحقيقية عن الكمال، أي المحمول الذهني الحاكي عن الكمال الحقيقي الخارجي، والذم كذلك، فالارتباط بينهما هو الارتباط بين الحاكي والمحكي عنهما، وهما متَّحدان هويةً ومختلفان وجودا، فالكمال الحقيقي وجود خارجي، والمدح وجود ذهني. وحكاية وجود عن وجود أمر متسالم عليه، وأكمل صورة هو حكاية

٦٩

الموجودات عن وجود الخالق؛ إذ أنها آيات عظمته وقدرته، وكلَّما كان الوجود أكمل، فحكايته عن الوجود الإلهي أعظم وأتم. وقد قال عليه‌السلام : (ما للَّه آية أكبر منّي) باعتبار أن الكمالات التي وصل إليها عليه‌السلام ( بغير وجوده البدني) حاكية عن وجود الحق أكثر من حكاية السماوات والأرضين. فالوجود الخارجي يكون حاكياً عن وجود خارجي آخر أكمل وأتم من الأول. فالحكاية ليست مقتصرة على الوجود الذهني، بل إن الأفعال القبيحة الصادرة من الفاعل البشري المختار حاكية عن الهيئات الرديئة في النفس.

* ثُم إنه لا مضايقة في أن يخلق الإنسان وجودات اعتبارية للأمور الخارجية العينية؛ وذلك لغرض الاحتياج إلى هذا الاعتبار من أجل الاجتماع والتفاهم، وهذا الوجود الاعتباري لا يلغي الوجود التكويني الخارجي العيني، ومثاله الواضح: الوجود اللفظي والوجود الكتبي، فهما وجوادن اعتباريان دعت إليهما الحاجة، وهذان الوجودان الاعتباريان يكونان حاكيين عن الوجود العيني الخارجي. وقد تدعو الحاجة إلى اعتبار وجودات أخرى حاكية عن الوجود الغيبي.

وهكذا نستطيع ملاحظة الهجاء الوارد في القرآن، فهو وإن كان إنشائياً، لكنَّه حاكٍ عن أمور تكوينية وواقع خارجي، وإنما أظهره القرآن بإنشاء الهجاء؛ لإعلام الآخرين بما حصل في الأقوام الآخرين.

* ثُم إن الشجار في الأمر البديهي لا يؤدِّي إلى عدم البداهة؛ نوضح ذلك من خلال علم المنطق: إنه قد تعتري الإنسان أسباب تؤدِّي إلى إنكار البديهة كالمغالطة والشبهة في قبال البديهة، وهذا الإنكار لا يؤدِّي إلى إنكار بديهية القضية.

وقد يكون الإنكار في بعض الأحيان نتيجة حالة مرضية تصيب القوة العاقلة؛ حيث لا ينصاع العقل العملي لمدرَكات العقل النظري، فيصاب بحالة التشكيك الدائم كما وقع للرازي. فهذا كلُّه لا يؤدِّي إلى عدم بداهة القضية.

٧٠

هذا كلُّه جواب إجمالي عن أدلة اعتبارية الحسن والقبح، أمَّا الجواب التفصيلي:

1 - إن اختلاف العقلاء في التحسين والتقبيح حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة إما أن يكون ناشئاً من اختلاف التشخيص؛ أي عدم إصابة الكمال الواقعي والنقص الواقعي، وذلك لاختلاف الافهام والعقول، وإما أن يكون ناشئاً من اختلاف الظروف البيئية المختلفة كالاختلاف بين الأماكن الباردة والحارة، فإنه في الأولى يقبح لبس الملابس الخفيفة بخلاف الثانية.

2 - أمّا وقوع التشاجر والخلاف بين العلماء، فيُعلم جوابه مما مر.

3 - أمّا ما ذكروه من أن الإنسان لو خُلق وحيداً أو لم يؤدب، لَمَا حَكم بحسن أو قبح، فإن هذا كالمصادرة على المطلوب، بل إن العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولو لم يكن هناك اجتماع أو لم يؤدب، فإن الظلم - كما سوف نبيِّن - هو ممانعة شخص لكمال آخر، فلو عرِف العقل بذلك التعريف وفكّر به، فإنه سوف يحكم لا محالة بقبحه.

وابن سينا نفسه وقع في التناقض؛ حيث قال في إلهيات الشفاء في مسألة استحابة الدعاء والتضرُّع والتوسُّل: إن أكثر ما في أيدي الناس من الحسن والقبح حقٌّ يقام عليه البرهان.

4 - أمّا ما ذكره المحقق الأصفهاني؛ من أن سببية الفعل للمدح والذم تكون من مناشئ حيوانية، فهو غير تام؛ وذلك لأن للعقل ملائمات ومنافرات، وبالتالي يمكن أن يكون المنشأ هو داعٍ عقلي محض، ويكون العقل سبباً للمدح والذم، وهذا واضح في الكُمّلين من البشر، حيث نلاحظ أن انفعالاتهم ومدحهم وذمهم ليس ناشئاً من دواع حيوانية؛ وذلك لأن قواهم كلّها منصاعة تماماً للقوى العقلية، فتكون كل تصرفاتهم منبعثة عن العقل، فعندما يذمُّون ظالماً - مثلاً - لا يكون الذم بداعي

٧١

الغريزة الحيوانية. ويمكن أن يكون تعبير القرآن عن موسى: ( وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ ) إشارة إلى

ذلك؛ إذ أن النطق والسكوت من خصائص الإنسان، بخلاف الحركة والسكون العامة لمطلق الحيوان، فقد استخدم تعبير السكوت للدلالة على أن غضبه لم يكن ناشئاً من القوى الحيوانية، بل من القوى العاقلة؛ وسرُّه هو ما ذكرناه.

وهذا التحليل هو الذي يفسِّر لنا كيف أن الإنسان الكامل يكون رضاه رضا اللَّه وغضبه غضب اللَّه؛ لأن قواه كلها منصاعة لقواه العقلية التي هي معصومة في ما تتلقَّاه من مدرَكات عن العوالم العلْوية من مشيئة اللَّه.

ومن الجهة الأخرى؛ أي عندما نُخبَر بأن رضا اللَّه في رضا فاطمة (إن اللَّه يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها) فإن هذا يعني عصمتها؛ لأن هذا يعني سلامة النفس والانقياد إلى القوة العاقلة التي هي في اختيار مشيئة اللَّه، والتعبير المزبور إنما يُطلق ويصدق عندما يكون العبد تمام مظهر الطاعة والتبعية لربِّه.

5 - أمّا إشكال الشهيد الصدر، فجوابه بمخالفته لتعريف الظلم والعدل، فإن التعريف الصحيح للعدل هو: وصول كل موجود إلى كماله المطلوب من دون إعاقة وممانعة موجود آخر. والظلم هو: ممانعة موجود من وصول موجود آخر لكماله. فالعدالة الاجتماعية - مثلاً - هي: وصول كل أفراد المجتمع في حسن نظام المجتمع إلى كمالاته الممكنة من دون إعاقة الأفراد الآخرين، أما عندما تصل طبقة لكمالها على حساب طبقة أخرى، فإنه يكون من الظلم الاجتماعي. والتشريع إنما يكون عادلاً؛ لأنه يكون كاشفاً عن الكمالات المخبوءة في الأفعال والتي بها يصل الإنسان لكمالاته.

فالعدل كمال والظلم نقص، فيكون توصيف العدل والظلم بالحسن والقبح تكوينياً لا اعتباريا.

٧٢

أما الاحترام والتعظيم، فنفس الاحترام والتعظيم ليس بشي‏ء، بل المهم هو الداعي للاحترام والداعي للتعظيم؛ لِمَا فيه من ترويض النفس، وهو في الواقع تقديس واحترام للكمال المخبوء في ذلك الشخص، فالتقديس ليس للبدن، بل للصفات العالية، ومن هنا نقول: إن التقديس إذا كان للحقائق والكمالات، فهو دعوة نحوهما وسير حثيث اتجاههما.

وبهذا يختلف عن تقديس الأباطيل والخرافات، فهذه قدسية باطلة. وبتعبير آخر، يمكن القول: إن القدسية والتقديس هو خضوع قوى الإنسان السفلى إلى قواه العقلية العملية، فإذا كانت تلك القوى العملية مصابة بحالة مرضية وتنصاع للأباطيل، فتكون قدسية مذمومة. أمّا لو كانت القوة العملية منصاعة للكمالات العالية والتي بها تكبح جماح القوى المادون، فإنها قدسية محمودة.

6 - أمّا ما ذكر من أن المدح والذم من الإنشائيات، فقد ذكرنا أن الإنشاء لا يصدر إلاّ من داعي، وهذا الداعي أمر تكويني؛ فالهجاء هو إظهار للنقص التكويني، والمدح إبراز للكمال الخارجي الحقيقي، والبلاغيُّون قد أذعنوا بأن أقسام الإنشاء هي عناوين لماهيَّات الدواعي.

فتبيَّن من كل ما سبق: أن الحسن والقبح أمران تكوينيان واقعيان، وليسا اعتباريين كما ذهب إليه جلّ المتأخرين.

أدلَّة واقعية الحسن والقبح:

ونلفت أخيراً إلى براهين أقامها صدر المتألهين تثبت تكوينية الحسن والقبح؛ ذكرها بعد أن كان قد أنكر واقعيتهما عندما تعرض لهما ابتداءً، وهذا يلفت إلى الخلط والتردد الحاصل لدى مَن أتى بعد ابن سينا، بسبب الاضطراب الحاصل في كلماته.

والبراهين التي ذكرها للدلالة على واقعية الحسن والقبح ثلاثة:

٧٣

1 - العناية الإلهية:

أي أن للحق تعالى عناية بخلقه. والقاعدة الفلسفية المثبَتة هنا هي: أن علمه بالنظام الأتم والأكمل ورضاه به لهذا النظام. توضيح ذلك:

أن الباري يكون على أكمل وأشرف وأعلى ما يمكن أن يكون في مقام ذاته، فالصادر من الحق يكون كذلك؛ حيث أن آيات ومخلوقات اللَّه تدل على صفة الكمال في الباري، والنظام الذاتي يكون علة للنظام الخلقي، وإفاضة الكمال على ما دون هو من العناية.

وهكذا يستفيد الملا صدرا أنّ علم الباري هو منشأ إفاضة الكمالات للمخلوقات، وصفة العناية هذه هي التي تفيض ما يعرف بالنظام الأحسن والأكمل، حيث يكون كل عالم من العوالم بنحو يؤدي إلى تحقيق الكمالات الوجودية بنحو أكثر وأرفع، فعناية الحق توصل تلك الموجودات الفاعلة بالإرادة إلى أكمل ما يمكن أن تكون عليه، ومن هنا يستدل على ضرورة التشريع والتقنين الإلهي؛ حيث إنه يرشد الفاعل الإرادي إلى طريق هذا الكمال.

ومؤدّى هذه القاعدة (العناية) يمكن أن يستبدل بقاعدة اللطف المعروفة إلاّ أن الأولى الحاكم بها هو العقل النظري، والثانية الحاكم بها هو العقل العملي.

ونعود فنقول: إن الأفعال يجب أن تؤدي إلى الكمال المطلوب، وهذا يقتضي أن يكون لهذه الأفعال في الواقع كمال مُعين (العلم تابع للمعلوم الذاتي) وهو النظام الكمالي الذاتي، فالعلم (فعله الصادر) يتحدَّد طبقاً للكمال الذي في المعلوم، وهذا يعني أن في الأفعال الإرادية، في حد نفسها، كمال ونقص، وأن الخير والشر نابع من واقع الفعل الإرادي، وأن الحكم التشريعي الإلهي على طبق ما في الأفعال من خير وشر، فهو كاشف عمّا هي عليه في الواقع، لا كما يقوله الأشعري: إن واقع الفعل تابع لنمط التشريع، ولا هوية له في نفسه. أو لك أن تقول ما قدَّمناه؛ من أن حقيقة المدح: الإخبار عن الكمال. والذم: الإخبار عن النقص، فللأفعال الإرادية في نفسها مدح وذم؛ أي حسن وقبح.

٧٤

2 - تجسُّم الإعمال:

وهي قاعدة مهمة نقَّحها بوضوح فائق فلاسفة الإمامية مسترشدين بالروايات الواردة في ذلك؛ ومؤداها: أن تكرار الفعل يولِّد ملكات إما حسنة نورانية أو ملكات رديئة، وكلّما ازدادت، ترسَّخت في النفس أكثر حتّى تصبح جوهرية. من هنا قالوا: إن الإنسان ليس هو النوع الأخير، بل يتلبَّس بعد الصورة الإنسانية بصورة وفعل إما ملكي أو شيطاني أو بهيمي أو سبعي. وهكذا - وفي كل نوع - هناك شعب أخرى. بيان ذلك:

إن الإنسان في سعيه نحو الكمال إنما يبتغي أن يحصل على ما له ثبات، والكمال العرضي يكون في معرض الزوال، فيعود حاله إلى ما كان عليه قبل تحصيله. فهو يسعى لأن يحصل على كمال ذاتي يكون بنحو جوهري لا أن يكون معرَّضاً للزوال، وبهذا يتكامل ويصعد في سُلّم الكمالات ويثبت عند كل درجة، ويحصل هذا التغيير الجوهري عن طريق الأفعال المؤدية للكمال؛ حيث يُحدث الفعل - عند تكراره والمواظبة عليه - حالات في النفس تنتقل إلى هيئات، ثُم تتنقل إلى ملكات، فتشتد حتّى تصل وتصبح فصولاً جوهرية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن البدن يكون بشكل يتناسب مع القوة التي يتملَّكها الإنسان وغيره، فمثلاً في الذئب الهيئة الجسمانية لها تناسب مع القوة التي يمتلكها، ودلَّت الروايات على أن الأجسام الأخروية هيئتها تابعة للفصول الجوهرية التي يتكامل بها الإنسان أو يتناقص.

أمّا تطبيق القاعدة على ما نحن فيه، فهو أن موارد الحكم بالحسن هي نفسها في موارد الفضائل والكمالات، حيث يتبين أنها توجب تجسُّم تلك الأعمال بصورة نورانية، وموارد الحكم بالقبح هي نفسها موارد النقص التي تتجسَّم بصور رديئة ظلمانية، فيظهر من ذلك أن الحكم بالحسن والقبح ليس اعتبارياً، بل أمراً عقلياً له من مناشئ تكوينية.

٧٥

3 - قاعدة الغاية:

وهذه قاعدة تُبحث في أبحاث العلل، وهي تعني وجود ارتباط بين صدور الفعل وغايته؛ بمعنى أن تصور النتيجة المترتبة على الفعل القصدي تكون دافعاً لرغبته للقيام بذلك الفعل، فهناك ارتباط بين الوجود العلمي للغاية وفاعلية الفاعل، وهناك ارتباط بين الوجود الخارجي للفعل والتوصل للغاية، فالوجود العلمي هو في سلسلة العلل المتقدِّمة على الفعل والثانية متأخرة عن وجود الفعل. وقد وردت هذه القاعدة في بيانات عدّة ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) فهناك تقدير مقدّم على الخلق وهداية لهم بعد الخلق، فالمخلوقات في سير تكاملي، وهو الغاية التي من اجلها خُلقت. وهذا البرهان بهذا النحو يختلف عن برهان النظم وإن اقتربا من بعضهما. وإنكار العلة الغائية يساوق إنكار العلة الفاعلية.

أما تطبيق ذلك على الحسن والقبح، فبيانه: أن الفاعل الإرادي لا يفعل فعلاً إلاّ لأجل غاية، وهذه الغاية هي تحقيق الكمال، فالكمال يتحقق بهذا الفعل، وهذه هي الموارد التي يحكم بها العقل بالحسن، فالحسن راجع لكمالٍ يتحقق بواسطة هذا الفعل، فهو أمر واقعي، والكمال المقصود هو: كمال للقوة العاقلة وما فوقها من درجات النفس، وتكون موجِبة للقرب الإلهي. أما في موارد القبح، فإن الكمال الذي تحققه بالأفعال هي كمالات للقوى الشهوانية والغضبية، فدعوى الأشعري: أن لا حسن ولا قبح واقعي في الأفعال، يساوق إنكار العلة الغائية، وإنكار العلة الغائية يؤدي إلى إنكار العلة الفاعلية.

فتلخَّص من مجمل البحث أن الحسن والقبح العقليين أمران تكوينيان واقعيان بالأدلة المثبِتة، سواء على مبنى المتقدِّمين كابن سينا أو على مبنى صدر المتألهين.

٧٦

التنبيه الثاني:

الخطأ في الفكر البشري

ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هو في كيفية نشأة الخطأ في الفكر البشري، وقد أثار هذا التساؤل كثير من الفلاسفة والمناطقة وأجابوا بإجابات متعدِّدة:

منها: أن علوم المنطق تتكفَّل عصمة الفكر عن الخطأ، ويبقى على عاتق الإنسان مراعاته عند

التطبيق، فالخطأ الناشئ هو من سوء التطبيق.

ومنها: أن الخطأ ينشأ بسبب خطأ نفس مواد الأقيسة؛ حيث أن بعضها نظري، وكلَّما ابتعدت القضايا عن البداهة زادت نسبة الخطأ.

ومنها: أن الخطأ هو نتيجة عدم توازن في أفعال النفس؛ فقد ذكرنا سابقاً أن الإذعان والجزم الحاصل لدى النفس هو غير النتيجة، وأن وظيفة العقل النظري هو الإدراك، فالخلل يحصل عندما يحصل جزم وإذعان غير متناسب مع درجة الإدراك الحاصلة لدى العقل النظري.

وقد سعى الفلاسفة والمفكرون لإزالة هذا الخطأ، أو على الأقل تقليل نسبة الخطأ، ومن تلك المحاولات ما دعى إليه السيد الشهيد الصدر(رحمه الله) باعتماد منهج الاستقراء وتراكم الاحتمالات في الفكر البشري بدلاً من القياس الأرسطي، والاستقراء طريقة رياضية عملية، حيث تتضاءل احتمالات الخلاف حتّى تصل إلى نسبة قليلة جداً بحيث تقوم النفس بإلغاء احتمال الخلاف، وتتعامل مع النتيجة

٧٧

معاملة اليقين الصحيح التام، وتكون النتيجة حينئذ يقينية برهانية.

ولنا على هذه النظرية تعليق لا يتَّصل بجوهرها، فهي متينة وتامة، لكن:

1 - إن ما توصل إليه السيد الشهيد بحساب الاحتمال وكيفية تضاؤله، ومن كون النتيجة الحاصلة من الاستقراء برهانية،خطأ؛ إذ إن النتيجة ليست برهانية، بل العمل بهذه النتيجة برهاني؛ بمعنى أنه أقام البرهان على تعين العمل بهذه النتيجة، كما يقوم البرهان في علم الأصول عبر دليل الانسداد على وجوب العمل بالظن. وبعبارة أخرى: النتيجة ليست يقينية وإن كان العمل بها لابدَّ منه بالدليل اليقيني.

2 - لقد ذكر السيد أن بإمكان استخدام هذه النظرية لإثبات الغيبيات وما وراء الطبيعة، وهذا غير تام؛ لأن هذه الطريقة تظل غير يقينية ونحن لا نحتاج إليـها في إثبـات الغيـب، إذ لدينـا كثير من البراهين - كبرهان

الصديقين - التي تورث اليقين.

3 - إن احتمال الخلاف يظل قائماً، وجزم النفس على خلافه - وهو قليل جدَّاً - لا ينفيه من أساسه، ولا يتحول إلى يقين.

٧٨

التنبيه الثالث:

الثابت والمتغيِّر

من المسائل المهمة التي تبتني على مسألة الحسن والقبح هي ثبات التشريع وتغيُّره، فبناء على اعتبارية الحسن والقبح وإنه لا واقع حقيقي وراء تطابق آراء العقلاء، فإن الحسن والقبح يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، وبالتالي لا يوجد ما هو ثابت في التشريع، بل هو متغيِّر. أمّا بناء على أنهما أمران واقعيَّان، فالنتيجة خلافها.

ـ وقد يصاغ هذا البحث بصياغة أخرى، وهي: أن ختم النبوة يعني أنْ لا حاجة إلى النبوة حتّى يوم

القيامة؛ وذلك لأنَّ العقول تكون قد تكاملت بواسطة تلك النبوة الخاتمة، ولا تحتاج إلى رعاية نبي ولا وصي، ولا هدايتهما.

ـ وقد تصاغ بنحو ثالث، كما ذكره العلاّمة الطباطبائي، وخلاصته: أن الإرادة تنبعث من جهات اعتبارية لا حقيقية، وحسب تغيُّر هذا الاعتبار تتغيَّر وجهة سير هذا الإنسان.

أمّا جواب هذه الصياغات:

فأوَّلاً: بما مرَّ من البراهين التي أثبتت تكوينية الحسن والقبح.

ثانياً: أن دعوى تكامل العقول تعني وقوف السير والبحث والفحص العلمي لدى البشرية؛ لاطلاعهم على الحقائق وإصابتهم لها، والحال أنَّا نجد من أنفسنا الإذعان بعدم توقُّف هذا السير ولن يتوقف هذا السعي الحثيث لدى الفطرة

٧٩

البشرية، وهذا يدل على أمرين:

الأول: وجود واقعية وحقيقة ثابتة تسعى البشرية للوصول إليها.

الثاني: عدم إمكان وصول البشرية إلى الإحاطة بتمام تلك الحقيقة الواقعية وإن كانت الإصابة النسبية مستمرة، وهذا وإن لم يزلزل الحقائق المتوصَّل إليها، إلاّ أنها لا تعني تمام الواقع.

وهذان الأمران يستلزمان دوام حاجة البشرية إلى التشريع السماوي والنبوة المحمدية؛ لأن ربَّ الواقعية هو المحيط تماماً بها. كما يثبت بذلك عدم إحاطة البشرية بكنه غايات التشريع السماوي والمصالح المخبوّة فيه.

ثالثاً: أمّا جواب ما يُدَّعى من انبعاث الإرادة دوماً من الاعتبار، وهو الذي ذهب إليه العلامة الطباطبائي، فهو يستدعي أن نُلقي نظرة على ما سطَّره يراعه الشريف في رسالة الاعتبار والتي تُعتبر حصيلة البحث الأصولي في ذلك الوقت.

تحليل مختصر لنظرية الاعتبار:

وملخَّص ما ذكره العلاّمة:

أ - إن الاعتبار يمثِّل جانباً من نشاطات العقل العملي ومدرَكاته، وشأناً من شؤونه.

ب - إن كل موجود يسعى نحو كماله؛ فالفاعل غير الإرادي يوجد له صراط معيَّن يسير فيه. أمَّا الموجود الإرادي، فإنه يسعى نحو كماله من خلال إرادته.

ج - إن الفاعل الإرادي في تحريك إرادته يسعى نحو تحقيق ما هو غير موجود. أمَّا ما هو موجود، فلا يسعى لتحصيله كما هو واضح.

د - إن الإرادة تنطلق من قضايا غير حقيقية؛ أي لا واقع خارجي فعلي لها، فلا محالة تكون القضايا اعتبارية وهي التي تولِّد الإرادة، ومن دونها لا يمكن للإرادة أن تنطلق.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

كتابيه(١) (٢) والشيخ في كتابي الفروع(٣) (٤) وابن حمزة(٥) وابن ادريس(٦) . وعليه دل عموم الكتاب(٧) وصحاح الاخبار(٨) . ونقل صاحب كشف الرموز موافقة اتباع الشيخ وابن ادريس لكتابي الاخبار(٩) . وهو وهم.

(ب) على القول بجواز قتله، هل يرد عليه الفاضل من ديته عن قيمة العبد؟ فيه

____________________

(١)المهذب: ج ٢ باب اقسام القتل ص ٤٦١ س ٢ قال: واذا قتل الحر عبدال يم يقتل به إلى قوله: فان كان عبده كان عليه التعزير الخ.

(٢)لم نظفر عليه(٣) المبسوط: ج ٧ كتاب الجراح ص ٦ س ١٧ قال: واذا قتل الحر عبدا لم يقتل به إلى قوله: فان كان عبد نفسه عزرناه الخ.

(٤)كتاب الخلاف: كتاب الجنايات مسألة ٤ قال: اذا قتل الحر عبدا لم يقتل به سواء كان عبد نفسه او عبد غيره الخ.

(٥)الوسيلة: في بيان الحكام قتل العمد ص ٤٣٣ س ١٠ قال: وان قتل عبدا لم يخل: اما قتل عبد نفسه او عبد غيره الخ.

(٦)السرائر: باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٤٢٤ س ٢٤ قال: واذا قتل حر عبدا مسلما لم يكن عليه قود إلى قوله بعد اسطر: وللسلطان ان يعاقب من يقتل العبيد بما ينزجر عن مثله في المستقبل.

(٧)البقره / ١٧٨.

(٨)لاحظ التهذيب: ج ١٠(١٤) باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ١٩١ الحديث ٤٨ و ٤٩ و ٠.

(٩)كشف الرموز: ج ٢ شرائط القصاص، ص ٦٠٢ س ١١ قال: اما التعزير والكفارة فلا خلاف فيهما، واما الصدقة بقيمته فعليه فتوى الشيخ واتباعه وأبي الصلاح والمتأخر.

[*]

١٦١

احتمالان. احدهما: نعم، لانه لا يؤخذ الكامل بالناقص، وجواز قتله لا يدل على عدم اخذ الفضل، كالرجل إذا قتل المرأة، وهو اختيار سلار(١) ويحيى ابن سعيد(٢) . وفي قوله: (في رواية الفتح يقتل به) ايماء إلى انه قصاص، فيجب رد الفضل. والاخر: لا يرد لانه يقتل حسما لفساده كالمحارب، واعتبار التساوي والتفاوت انما هو في القصاص لا الحدود، ولم يذكره اكثر القائلين بجواز قتله مع الاعتياد، بل اطلقوا، فيحمل على عمومه. والباء في قوله: (في رواية الفتح يقتل به) للسببية.

(ج) لو كان المقتول عبده، هل يجب عليه الصدقة بقيمته؟ قال في النهاية: نعم(٣) . ومستنده ما رواه في التهذيب عن مسمع بن عبدالملك عن أبي عبداللهعليه‌السلام : ان أميرالمؤمنينعليه‌السلام رفع اليه رجل عذب عبده حتى مات، فضربه مائة نكالا، وحبسه سنة وغرمه قيمة العبد فتصدق بها عنه(٤) .

____________________

(١)المراسم: ذكر احكام الجنايات في القضاء ص ٢٣٦ س ٢٢ قال: الا ان يكون معتادا لقتل العبيد، فيقتل به ويؤخذ الفاضل.

(٢)الجامع للشرائع: كتاب الجنايات ص ٥٧٢ س ١١ قال: وان اعتاد قتل اهل الذمة او العبيد اقيد لهم إلى قوله: وسيد العبد تمام دية الحر.

(٣)النهاية: باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٧٥٢ س ٨ قال: ويغرمه قيمة العبد فيتصدق بها.

(٤)التهذيب: ج ١٠(١٩) باب قتل السيد عبده ص ٢٣٥ الحديث ٥.

[*]

١٦٢

واختاره الاصحاب كالشيخين(١) والتقي(٣) وابن حمزة(٤) والقاضي(٥) وسلار(٦) وابن زهرة(٧) والطبرسي(٨) وابن ادريس(٩) وفخر المحققين(١٠) فهو قريب من الاجماع، نعم اورده ابوعلي بصيغة روى(١١) ، وهو يدل على عدم جزمه به

____________________

(١)المقنعة باب قتل السيد عبده ص ١١٧ س ٢٦ قال: واذا قتله عمدا، اغرمه ثمنه وتصدق به على المساكين الخ.

(٢)النهاية باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٧٥٢ س ٧ قال: ومن قتل عبده متعمدا إلى قوله: ويتصدق بها على الفقراء.

(٣)الكافي، القصاص ص ٣٨٤ س ١٠ قال: وان كان المقتول من رقيقه اغرمه السلطان قيمته وتصدق بها.

(٤)الوسيلة، فصل في بيان احكام قتل العمد ص ٤٣٣ س ١١ قال: عاقبه السلطان واخذ منه قيمته وتصدق بها على المسلمين.

(٥)المهذب، ج ٢ باب أقسام القتل ص ٤٦١ س ٤ قال: كان عليه مع التعزير والكفارة قيمة العبد لسيده الخ ولاحظ ما علق عليه.

(٦)المراسم ذكر احكام الجنايات ص ٢٣٧ س ١ قال: وان كان قاتل العبد مولاه اغرمه الامام قيمته بعد العقوبة وتصدق.

(٧)الغنية، (في الجوامع الفقهية) في الجنايات ص ٦٢٠ س ٥ قال: واذا قتل السيد عبده إلى ان قال: واغرمه قيمته وتصدق بها.

(٨)مجمع البيان ج ١ في تفسيره لاية ١٧٨ من سورة البقرة ص ٢٦٥ س ١٢ قال: قال الصادقعليه‌السلام : إلى قوله: ويغرم دية العبد، إلى قوله بعد اسطر: وما قلناه مثبت بالاجماع.

(٩)السرائر باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٤٢٥ س ١٠ قال: ومن قتل عبده متعمدا إلى قوله: ويتصدق بها على الفقراء.

(١٠)الايضاح ج ٤ في الجناية الواقعة بين المماليك والاحرار ص ٥٨١ س ١٩ قال بعد نقل قوله النهاية: وهذا هو الاقوى عندي.

(١١)المسالك ج ٢ كتاب القصاص، ص ٤٦٢ س ١٣ قال: والقول بالصدقة بثمنه إلى قوله: الا ابن الجنيد، فانه اورده بصيغة: وروى الخ.

[*]

١٦٣

[والمدبر كالقن، ولو استرقه ولي الدم ففي خروجه عن التدبير قولان، وبتقدير الا يخرج، هل يسعى في فك رقبته؟ المروي انه يسعى.] وتوقفه فيه. وتردد فيه المصنف(١) والعلامة(٢) لضعف سند الرواية المذكورة، فان طريقها سقيم من عدة رواته(٣) ، وباقي الروايات لم يذكر فيها الكفارة. وفي مرسلة يونس عن بعض من رواه عن أبي عبداللهعليه‌السلام في رجل قتل مملوكه: انه يضرب ضربا وجيعا ويؤخذ منه قيمته لبيت المال(٤) وهي متروكة.

قال طاب ثراه: والمدبر كالقن. ولو استرقه ولي الدم، ففي خروجه عن التدبير قولان، وبتقدير إن لا يخرج هل يسعى في فك رقبته؟ المروي: انه يسعى.

أقول: هنا مسألتان. (الاولى) إذا جنى المدبر عمدا واختار ولي الدم استرقاقه، أو خطأ ودفعه السيد للرق، هل يبطل تدبيره ام لا؟ (الاول) هو الذي يقتضيه اصول المذهب، لانه خرج عن ملك من دبره وصار عبدا لاولياء المقتول، فمن اخرجه عن ملكهم بعد دخوله فيه يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، قاله ابن ادريس(٥) واختاره المصنف(٦)

____________________

(١)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: وفي الصدقة بقيمته رواية فيها ضعف.

(٢)القواعد ج ٢ في الجناية الواقعة بين المماليك والاحرار ص ٢٨٦ س ٢٥ قال: وقيل: يلزم بالقيمة صدقة.

(٣)سند الحديث كما في التهذيب ج ١٠ ص ٢٣٥ الحديث ٥ هكذا سهل بن زياد عن محمد بن الحسن بن شمون عن عبدالله بن عبدالرحمان الاصم عن سمع بن عبدالملك عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

(٤)التهذيب: باب قتل السيد عبده والوالد ولده ح ١٢ ج ١٠ ص ٢٣٦.

(٥)السرائر باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٤٢٤ س ٣٦ قال: وروى انه اذا مات الذي دبره استسعى في دية المقتول وصار حرا، ولا دليل على صحة هذه الرواية لانها مناقضة للاصول، وهو انه خرج من ملك من دبره وصار عبدا الخ.

(٦)الشرائع، في التساوي في الحرية او الرق، قال: والمدبر كالقن إلى ان قال: فاذا مات الذي دبره هل ينعتق؟ قيل: لا لانه خرج عن ملكه.

[*]

١٦٤

والعلامة(١) . (والثاني) مذهب الشيخين(٢) (٣) وبه قال الصدوق(٤) .

احتج الاولون: بانه عبد وقد انتقل بجنايته إلى ولي المقتول، فاشبه البيع، وقد قلنا ببطلان التدبير فيه، فكذا هنا، لوجود المقتضي للابطال، وهو الانتقال. وبصحيحة أبي بصير عن الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن مدبر قتل رجلا عمدا، قال: فقال: يقتل به، قلت: فان قتله خطأ؟ قال: فقال: يدفع إلى اولياء المقتول، فيكون لهم، فان شاؤا استرقوه، وليس لهم قتله، ثم قال: يا ابا محمد إن المدبر مملوك(٥) .

احتج الاخرون: بحسنة جميل بن دراج عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: مدبر قتل رجلا خطأ، من يضمن عنه؟ قال: يصالح عنه مولاه، فان أبى دفع إلى اولياء المقتول يخدمهم حتى يموت الذي دبره ثم يرجع حرا لا سبيل عليه(٦) .

(الثانية) على القول بعدم بطلان التدبير، هل يسعى لاولياء المقتول في شئ؟ قيل فيه اربعة اقوال.

(أ) عدم السعي في شئ، وهو ظاهر المفيد(٧) ويساعده الرواية المتقدمة.

____________________

(١)المختلف: ج ٢ كتاب القصاص والجنايات ص ٢٤٠ س ١٥ قال بعد نقل قول ابن ادريس: وهو الاقرب، لنا انه عبد انتقل إلى ولي المقتول الخ.

(٢)المقنعة: باب اشتراك الاحرار والعبيد في القتل ص ١١٨ س ٧ قال: فاذا مات سيده خرج الرق إلى الحرية ولم يكن لا حد عليه سبيل.

(٣)النهاية: باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٧٥١ س ١١ قال: قال فاذا مات الذي دبره استسعى في دية المقتول وصار حرا.

(٤)المقنع: باب الديات ص ١٩١ س ١٠ قال: فان مات الذي دبره استسعى في قيمته.

(٥)التهذيب: ج ١٠(١٤) باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ١٩٧ الحديث ٧٩.

(٦)التهذيب: ج ١٠(١٤) باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ١٩٧ الحديث ٨٠.

(٧)المقنعة: باب اشتراك الاحرار والعبيد في القتل ص ١١٨ س ٧ وقد تقدم.

[*]

١٦٥

[والمكاتب ان لم يؤد وكان مشروطا فهو كالرق المحصن. وان كان مطلقا وقد ادى شيئا، فان قتل حرا مكافئا عمدا قتل، وان قتل مملوكا] (ب) السعي في دية المقتول ان كان حرا، وفي قيمته ان كان عبدا قاله الشيخ في النهاية(١) . (ج) السعي في قيمته، أي قيمة نفسه قاله الصدوق في المقنع(٢) . (د) السعي في اقل الامرين من قيمته وقيمة المقتول، قاله فخر المحققين(٣) .

احتج الشيخ: بان الواجب في القتل دية المقتول، او قيمته، فاذا سعى فانما يسعى في ذلك، لانه المضمون. احتج الصدوق بما رواه هشام بن احمد قال: سألت ابا الحسنعليه‌السلام عن مدبر قتل رجلا خطأ، قال: أي شئ رويتم في هذا الباب؟ قال: قلت: روينا عن أبي عبداللهعليه‌السلام انه قال: يتل برمته إلى اولياء المقتول، فاذا مات الذي دبره عتق قال: سبحان الله فيبطل دم امرء مسلم؟ ! قلت: هكذا روينا قال: غلطتم على أبي، يتل برمته إلى اولياء المقتول، فاذا مات الذي دبره استسعى في قيمته(٤) . احتج الفخر: بان السيد إذا افتك عبده فانما يلزمه اقل الامرين، فكذا اذا فك نفسه، لعدم الفصل. ولانه المتيقن، ولا صالة براء‌ة الذمة من الزائد.

قال طاب ثراه: والمكاتب ان لم يؤد وكان مشروطا، إلى قوله: وفي رواية علي بن

____________________

(١)النهاية: باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٧٥١ س ١١ وقدتقدم.

(٢)المقنع: باب الديات ص ١٩١ س ١٠ قال: والمدبر اذا قتل رجلا خطأ إلى قوله: استسعى في قيمته.

(٣)الايضاح: ج ٤ كتاب الجنايات ص ٥٧٨ س ٧ قال: والاقوى عندي، انه يسعى باقل الامرين من قيمة نفسه ومن دية المقتول.

(٤)التهذيب: ج ١٠(١٤) باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ١٩٨ الحديث ٨٢.

[*]

١٦٦

[فلا قود وتعلقت الجناية بمافيه من الرقبة مبعضة ويسعى في نصيب الحرية ويسترق الباقي دمنه، او يباع في نصيب الرق. ولو قتل خطأ فعلى الامام بقدر ما فيه من الحرية، وللمولى الخيار بين فك مافيه من الرقية بالارش، او تسليم حصة الرق ليقاص بالجناية، وفي رواية علي بن جعفر، اذا أدى نصف ما عليه فهو بمنزلة الحر.] جعفر: اذا أدى نصف ما عليه فهو بمنزلة الحر.

أقول: اذا جنى المكاتب فان كان مشروطا أو مطلقا ولم يؤد شيئا كان حكمه حكم المملوك من غير فرق وقد تقدم حكم المملوك. وان كان قد أدى شيئا تحرر منه بنسبة، وحينئذ تتعلق الجناية برقبته مبعضة، فما قابل نصيب الحرية يكون على الامام في الخطأ، وعلى ماله في العمد، وما قابل نصيب الرقية ان فداه السيد فالكتابة بحالها. وان دفعه استرقه اولياء المقتول، وبطلت الكتابة في ذلك البعض. هذا الذي يقتضيه اصول المذهب، وهو اختيار المصنف(١) والعلامة(٢) . وفيه اقوال.

(أ) انه بمنزلة الحر اذا ادى نصف ما عليه، ومعناه: انه يجب على الامام اداء نصيب الجناية في الخطأ، ويستسعى في العمد. وهو في رواية علي بن جعفر عن اخيه موسىعليه‌السلام في حديث طويل إلى ان قال: وسألته عن المكاتب اذا أدى نصف ما عليه؟ قال: هو بمنزلة الحر في الحدود وغير ذلك من قتل أو غيره(٣) .

____________________

(١)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: ولو قتل خطأ فعلى الامام إلى اخره.

(٢)القواعد: ج ٢ في الجناية الواقعة بين المماليك والاحرار ص ٢٨٧ س ١٨ قال: ولوادى المطلق البعض إلى قوله: ويتعلق برقبته من دية الخطأ بقدر الرقية، وعلى الامام بقدر الحرية.

(٣)الاستبصار: ج ٤(١٦٢) باب دية المكاتب ص ٢٧٧ قطعة من حديث ٢.

[*]

١٦٧

ورجحها الشيخ في الاستبصار(١) وهو مذهب الصدوق(٢) .

(ب) على الامام ان يؤدي بقدر ما عتق من المكاتب، وما لم يؤد، للورثة ان يستخدموه مدة حياته وليس لهم بيعه، قاله الصدوق(٣) واختاره المفيد(٤) وتلميذه(٥) .

(ج) على مولاه ما قابل نصيب الرقية، وعلى الامام ما قابل الحرية، وهو مذهب الشيخ في النهاية(٦) واختاره ابن ادريس(٧) وهو قول الصدوق ايضا(٨) فله في المسألة اذن ثلاثة اقوال(٩) .

____________________

(١)الاستبصار: ج ٤(١٦٢) باب دية المكاتب ص ٢٧٧ قال بعد نقل حديث ٢: فاذا أدى ذلك (أي نصف ثمنه) كان حكمه حكم الاحرار.

(٢)المقنع: باب الديات ص ١٨٩ س ٦ قال: فاذا فقأ حرعين مكاتب إلى قوله: فانه بمنزلة الحر.

(٣)المقنع: باب الديات ص ١٩٢ س ٨ قال: وان كان مولاه حين كاتبه لم يشترط عليه شيئا، وقد كان ادى من مكاتبته شيئا إلى قوله: وعلى الامام ان يؤدي إلى قوله: يستخدمونه حياته بقدر ما بقى وليس لهم ان يبيعوه.

(٤)المقنعة: باب اشتراك الاحرار والعبيد في القتل ص ١١٨ س ٩ قال: كان على الامام ان يؤدي عنه بقدر ما عتق منه بحساب ادائه الخ.

(٥)المراسم: ذكر احكام الجنايات في القضاء ص ٢٣٧ س ١٠ قال: وان لم يشترط فعلى الامام ان يزن عنه بقدر ما عتق منه الخ.

(٦)النهاية: باب القودبين الرجال والنساء ص ٧٥١ س ١٦ قال: كان على مولاه من الدية بقدر ما بقى من كونه رقا وعلى امام المسلمين الخ.

(٧)السرائر: القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٤٢٥ س ٤ قال: كان على مولاه من الدية ما بقى من كونه رقا الخ.

(٨)المقنع: باب الديات ص ١٩١ س ١١ قال: والمكاتب اذا قتل رجلا خطا فعليه من الدية بقدر ما ادى من مكاتبته، وعلى مولاه ما بقى من قيمته.

(٩)وفي بعض النسخ المخطوطة التي عندي بعد قوله: (وليس لهم بيعه) ما لفظه والفرق بينه وبين قول المفيد: انه اطلق استخدامهم له مدة حياته والمفيد قيده بقدر ما بقى على فاذا وفى ذلك له يبق لهم عليه سبيل. والفرق بين قول المفيد وقول المصنف، من كون نصيب الرقية على العبد وجوب ادائه من ماله فيؤدي في الحال ان كان له مال، والا استسعى ولا ولاية لهم في الاستخدام، وليس لهم عليه من التسلط سيو الاستيفأء وللشيخ قولان: (أ) كونه بمنزلة الحر مع اداء نصف كتابته، وهو مرجح الاستبصار. (ب) على مولاه مقابل الرقية وعلى الامام مقابل الحرية، وهو مذهب النهاية.

[*]

١٦٨

[مسائل (الاولى) لو قتل حر حرين، فليس للاولياء إلا قتله، ولو قتل العبد حرين على التعاقب، ففي رواية هو لاولياء الاخير، وفي أخرى يشتركان فيه مالم يحكم به لولي الاول.] قال طاب ثراه: ولو قتل العبد حرين على التعاقب، ففي رواية: هو لاولياء الاخير، وفي اخرى يشتركان فيه مالم يحكم به لولى الاول. أقول: اذا قتل العبد حرين أو اكثر دفعة كان لاولياء الجميع، اما لو كان القتل على التعاقب، فهل يكون لاولياء الاخير، او يشترك فيه الكل؟ قيل فيه: ثلاثة اقوال.

(أ) انه لاولياء الاخير قاله الشيخ في النهاية(١) . ومستنده ما رواه في الاستبصار عن علي بن عقبة عن الصادقعليه‌السلام قال: سألته عن عبد قتل أربعة أحرار واحدا بعد واحد؟ قال: فقال: هو لاهل الاخير من القتلى، ان شاؤا قتلوه، وان شاؤا استرقوه، لانه اذا قتل الاول استحق أولياء‌ه، فاذا قتل الثاني استحق من أولياء الاول، فصار لاولياء الثاني، فاذا قتل الثالث استحق من أولياء الثاني فصار لاولياء الثالث، فاذا قتل الرابع استحق من أولياء الثالث

____________________

(١)النهاية: باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٧٥٢ س ١٤ قال: ومتى قتل عبد حرين إلى قوله: كان العبد لاولياء الاخير.

[*]

١٦٩

فصار لاولياء الرابع، ان شاؤا قتلوه، وان شاؤا استرقوه(١) .

(ب) اشتراك الجميع فيه مالم يحكم به الحاكم لاولياء الاول، ومع الحكم يكون لاولياء الثاني، وهكذا في الثالث والرابع وما زادوه، وهو قول الشيخ في الاستبصار، حيث قال: عقيب ايراده لحديث ابن عقبه: وهذا الخبر ينبغي أن يحمل على انه انما يصير لاولياء الاخير اذا حكم بذلك الحاكم، فاما قبل ذلك فانه يكون بين الجميع(٢) .

لما رواه ابن محبوب عن علي بن رئاب عن زرارة عن الباقرعليه‌السلام في عبد جرح رجلين؟ قال: هو بينهما، ان كانت جنايته تحيط بقيمته قتل له، فان جرح رجلا في اول النهار، وجرح اخرا في اخر النهار قال: هو بينهما مالم يحكم الوالي في المجروح الاول، قال: فان جنى بعد ذلك جناية، فان جنايته على الاخير(٣) .

وهذا التفصيل هو مذهب أبي علي(٤) واختاره العلامة(٥) .

(ج) يكفي في انتقاله إلى الثاني، اختيار اولياء الاول استرقاقه، وان لم يحكم الحاكم، ومع عدم اختيارهم ذلك لا يدخل في ملك احد من القتلى بغير اختياره، فاذا قتل الثاني فأيهم سبق إلى قتله كان له ذلك، لقوله تعالى: (فقد جعلنا لوليه

____________________

(١)الاستبصار: ج ٤(١٥٩) باب العبد يقتل جماعة احرار واحدا بعد واحد ص ٢٧٤ الحديث ١(٢) الاستبصار: ج(١٥٩) باب العبد يقتل جماعة احرار.. ص ٢٧٤ قال بعد نقل حديث ١: هذا الخبر ينبغي ان نحمله الخ.

(٣)الاستبصار: ج ٤(١٥٩) باب العبد يقتل جماعة احرار.. ص ٢٧٤ الحديث ٢.

(٤)الايضاح ج ٤ في الجناية الواقعة بين المماليك والاحرار ص ٥٨٣ س ١٢ قال في شرح قول العلامة: ولو قتل العبد حرين اشتركا: اقول: الاول وهو اختيار المصنف إلى قوله: وظاهر كلام ابن الجنيد.

(٥)القواعد: ج ٢ في الجناية الواقعة بين المماليك والاحرار ص ٢٨٧ س ١٩ قال: ولو قتل العبد حرين إلى قوله: والاول اولى (أي يحكم به للاول).

[*]

١٧٠

سلطانا)(١) ولا مدخل لحكم الحاكم في ذلك، بل الاختيار في ذلك إلى الاولياء، من القتل والاسترقاق، وهو اختيار ابن ادريس(٢) والمصنف(٣) والعلامة في التحرير(٤) وفخر المحققين(٥) . تفريع لا فرق بين ان تكون الجناية على النفس او الطرف اذا كانت كل واحدة منهما تحيط بقيمته، ولو لم تحط كل واحد واحاطتا تشاركا فيه مع وفاء قيمته بهما. وان فضل فيه فضل كان للسيد، وان قصرت قيمته عنهما قسم بينما على نسبة استحقاقهما مع عدم اختيار الاول، ودخل النقص على الاول خاصة ان كان استرقه. وبالجملة: يأتي فيه الخلاف المتقدم. هذا في العمد. اما في الخطأ: فان فداه السيد في الجناية الاولى كان للاول المال على السيد،

____________________

(١)الاسراء / ٣٣.

(٢)السرائر: باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٤٢٥ س ١٩ قال: وقد روى انه متى قتل عبده حرين إلى قوله بعد اسطر: قال محمد بن ادريس: وأي فائدة واثر في حكم الحاكم وحكمه الخ.

(٣)الشرائع: في الشروط المعتبرة في القصاص: مسائل ست، الاولى: قال: ويكفي في الاختصاص ان يختار الولي استرقاقه ولو لم يحكم له الحاكم.

(٤)التحرير: ج ٢ كتاب الجنايات ص ٢٤٦ س ٢٦ قال: ويكفي في اختصاص الاول به، ان يختار استرقاقه وان لم يحكم له الحاكم.

(٥)الايضاح: ج ٤ كتاب الجنايات ص ٥٨٤ س ١١ قال: اذ اختيار المولى في استرقاقه كاف ولا يحتاج إلى حكم الحاكم.

[*]

١٧١

[(الثانية) لو قطع يمنى رجلين قطعت يمينه للاول ويسراه للثاني. قال الشيخ في النهاية: ولو قطع يدا وليس له يدان قطعت رجله باليد. وكذا لو قطع ايدي جماعة، قطعت يداه بالاول فالاول، والرجل بالاخير فالاخير، ولمن يبقى بعد ذلك الدية. ولعله استند إلى رواية حبيب السجستاني عن أبي عبداللهعليه‌السلام .] فطالب الثاني بالعبد او الفداء، وان لم يفده السيد وسلمه إلى اولياء الاول، كان لاولياء الثاني، وان جنى على الثاني قبل ضمان السيد وقبل الدفع اشتركا فيه.

قال طاب ثراه: لو قطع يمنى رجلين، قطعت يمناه للاول ويسراه للثاني إلى اخره.

أقول: اذا قطع يمين رجل ومثلها من اخر، قطعت يمينه بالاول ويساره بالثاني اجماعا، لان اليد مساوية لليد، وان كانت احداهما غير الاخرى، لتعذر المماثلة، فان قطع يد ثالث، هل تقطع رجله اليسرى، ثم لو قطع يد رابع، تقطع رجله اليمنى، وفي الخامس الدية، او تنتقل إلى الدية بعد فقد اليدين، لان الرجل غير مماثلة لليد، فيتعين الانتقال إلى الدية، لتعذر المماثلة؟ بالاول قال الشيخ في النهاية(١) وتبعه القاضي(٢) والتقي(٣) ، وهو مذهب أبي علي(٤) .

____________________

(١)النهاية باب ديات الاعضاء والجوارح ص ٧٧١ س ١٩ قال: فان لم يكن له يدان قطعت رجله باليد، فان لم يكن له يدان ولا رجلان كان عليه الدية.

(٢)المهذب ج ٢ باب القصاص والشجاح ص ٤٨٠ س ٢ قال: فان لم يكن له يدان ولا رجلان كان له الدية وسقط القصاص ههنا ونقله في الايضاح ج ٤ ص ٥٧٣ عن القاضي في الكامل.

(٣)الكافي، القصاص ص ٣٨٩ س ٤ قال: وان قطع يديه وليس له الا يد واحدة، قطعت واحدى رجليه الخ.

(٤)الايضاح ج ٤ في شرائط القصاص، ص ٥٧٣ س ١٥ قال بعد نقل قول الشيخ في النهاية: وهو مذهب ابن الجنيد.

[*]

١٧٢

وبالثاني قال ابن ادريس(١) واختاره المصنف(٢) والعلامة(٣) وفخر المحققين(٤) .

احتج الشيخ بما رواه في الصحيح عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني قال: سألت ابا جعفرعليه‌السلام عن رجل قطع يدين لرجلين اليمينين، فقال: يا حبيب يقطع يمينه للذي قطع يمينه أولا، ويقطع يساره للذي قطع يمينه اخيرا، لانه انما قطع يد الرجل الاخير ويمينه قصاص للرجل الاول، قال: فقلت: ان علياعليه‌السلام انماكان يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى؟ قال: فقال: انما كان يفعل ذلك فيما يجب في حقوق الله تعالى، فأما ما يجب من حقوق المسلمين فانه يؤخذ لهم حقوقهم في القصاص اليد باليد اذا كانت للقاطع يدان، والرجل باليد اذا لم يكن للقاطع يدان، فقلت له: أما توجب عليه الدية ويترك رجله؟ فقال: انما توجب عليه الدية اذا قطع يد رجل وليس للقاطع يدان ولا رجلان، فثم توجب عليه الدية لانه ليس له جارحة فتقاص منها(٥) . ولان المساواة الحقيقية لو اعتبرت لم يجز التخطي من اليمنى إلى اليسرى.

احتج ابن ادريس: بان العدول من اليد إلى الرجل على خلاف الاصل ولا

____________________

(١)السرائر: باب ديات الاعضاء والجوارح ص ٤٣٤ س ٢٩ قال: فان لم يكن له يدان فلا يقطع رجله باليد، وكان عليه الدية.

(٢)لاحظ عبارة النافع حيث يقول بعد نقل قول الشيخ في النهاية: ولعله استند إلى رواية السجستاني، والظاهر ان هذا مشعر بتمريضه.

(٣)القواعد: ج ٢ في شرائط القصاص ص ٢٨٤ س ١٢ قال: فان قطع يد ثالث قيل وجبت الدية، وقيل: يقطع رجله.

(٤)الايضاح: ج ٤ في شرائط القصاص، ص ٥٧٤ س ١٣ قال: والاقوى عندي قول ابن ادريس لان في الاية دليل على اعتبار المماثلة الخ.

(٥)التهذيب: ج ١٠(٢٢) باب ديات الاعضاء والجوارح ص ٢٥٩ الحديث ٥٥.

[*]

١٧٣

[(الثالثة) اذا قتل العبد حرا عمدا، فاعتقه مولاه. ففي العتق تردد، اشبهه: انه لا ينعتق، لان للولي التخيير للاسترقاق. ولو كان خطأ ففي رواية عمرو بن شجر عن جابر عن أبي عبداللهعليه‌السلام : يصح، ويضمن المولى الدية، وفي عمرو ضعف، والاشبه اشتراط الصحة بتقدم الضمان.] دليل عليه(١) . قال فخر المحققين: ولان في قوله تعالى: (ان النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن)(٢) دليل على اعتبار المماثلة، والرجل ليست مماثلة لليد(٣) .

قال طاب ثراه: اذا قتل العبد حرا عمدا فاعتقه مولاه، ففي العتق تردد.

أقول: اذا قتل العبد حرا، فلا يخلواما ان يقتله عمدا أو خطأ، فهنا قسمان. (الاول) الخطأ، فنقول: اذا جنى العبد خطأ فاعتقه سيده، قال الشيخ في النهاية: جاز عتقه، ولزمه دية المقتول، لانه عاقلته(٤) هو اختيار العلامة(٥) . وقال ابن ادريس: المولى لا يعقل عن عبده، وانما مقصود الشيخ: اذا اعتقه

____________________

(١)السرائر باب ديات الاعضاء والجوارح ص ٤٣٤ س ٢٩ قال: فلا يقطع رجله باليد، لانه لا دليل عليه.

(٢)المائدة / ٤٥.

(٣)الايضاح ج ٤ في شرائط القصاص ص ٥٧٤ س ١٣ قال: لان الاية إلى قوله: دليل على اعتبار المماثلة والرجل ليست مماثلة اليد.

(٤)النهاية، باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٧٥٣ س ١٠ قال: واذا قتل عبد حرا خطأ إلى قوله: لانه عاقلته.

(٥)المختلف ج ٢ باب الاشتراك في الجنايات ص ٢٤٤ س ٩ قال: والوجه ما اختاره الشيخ في النهاية.

[*]

١٧٤

مولاه تبرعا، فانه مولاه، وله ولاؤه، وهو يعقل عنه بعد ذلك، الا انه في حال ما قتل الحر لم يكن السيد عاقلته، ولا يجب على السيد شئ سوى تسليمه إلى اولياء المقتول حسب ما قدمناه، فانه عبدهم، وهم مستحقون له الا ان يتبرع المولى ويفد به بالدية، فاذا فداه وضمن عنه ما جناه جاز له حينئذ عتقه، والتصرف فيه، وقبل ذلك لا يجوز له شئ من ذلك، لانه قد تعلق به حق الغير، فلا يجوز له ابطاله الا ان يضمن عنه(١) وهو اختيار المصنف(٢) .

احتج العلامة: باب العبد اذا جنى خطأ كان الخيار إلى مولاه ان شاء فداه وان شاء‌سلمه إلى اولياء المقتول ليسترقوه، فاذا باشر عتقه، فقد باشر اتلافه، فكان عليه ضمان ما تعلق به(٣) .

وما رواه جابر عن الصادقعليه‌السلام قال: قضى امير المؤمنينعليه‌السلام في عبد قتل حرا خطأ، فلما قتله اعتقه مولاه، قال: فاجاز عتقه وضمنه الدية(٤) .

وشرط في القواعد ملاء السيد(٥) ، لان القول بصحة العتق مع اعسار السيد يستلزم منع حق المجنى عليه، فان له استرقاقه وهو غير جائز، وهو لازم على تقدير العتق، فيكون باطلا.

____________________

(١)السرائر: باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٤٢٥ س ٣٢ قال: وقد قلنا نحن: ان المولى لا يعقل عن عبده الخ.

(٢)لاحظ عبارة النافع.

(٣)المختلف: ج ٢ في الاشتراك في الجنايات ص ٢٤٤ س ١٠ قال: فاذا باشر عتقه فقد باشر اتلافه الخ.

(٤)التهذيب: ج ١٠ ٠١٤) باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والاحرار ص ٢٠٠ الحديث ٩١.

(٥)القواعد: ج ٢ في الجناية الواقعة بين المماليك والاحرار ص ٢٨٨ س ٣ قال: ولو كان خطأ صح العتق ان كان مولى الجانى مليا.

[*]

١٧٥

وعلى عدم الاشتراط يستسعى العبد، فان ايسر المعتق قبل وفائه طولب.

(الثاني) العمد، وفيه احتمالان: الصحة لبنائه على التغليب، لنفوذه في ملك الشريك. ويحتمل قويا عدم نفوذه، لتعلق حق المجني عليه بالرقية هنا، فكأن العتق صدر عن غير مالك، وهو اختيار المصنف(١) والعلامة(٢) وفخر المحققين(٣) ومذهب الشيخ في الخلاف، حيث قال: واذا جنى العبد جناية ثم رهنه، بطل الرهن سواء كانت الجناية عمد او خطأ، او توجب القصاص او لا توجبه(٤) لانه اذا كان عمدا فقد استحق المجني عليه العبد، وان كان خطأ تعلق الارش برقبته فلا يصح رهنه.

تحصيل

قد ظهر من قول الشيخ في الخلاف، كون العبد يدخل في ملك المجني من حين الجناية، في العمد، وقال التقي: اذا قتل العبد او الامة حرا مسلما، اوحرة مسلمة، وجب تسليم كل منهما برمته إلى ولي الدم، ان شاؤا قتلوا، وان شاؤا تملكوا ما معه من مال وولد، وان شاؤا استرقوه وولده ويتصرفوا في ملكه(٥) .

____________________

(١)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: ففي العتق تردد، اشبهه انه لا ينعتق لان للولي التخيير للاسترقاق.

(٢)القواعد: ج ٢ في الجناية الواقعة بين المماليك الاحرار ص ٢٨٨ س ١ قال: ولو اعتقه مولاه بعد قتل الحر عمدا ففي الصحة اشكال.

(٣)الايضاح: ج ٤ في الجناية الواقعة بين المماليك والاحرار ص ٥٨٤ س ١٦ قال: والاقوى عندي عدم نفوذ العتق.

(٤)كتاب الخلاف: كتاب الرهن، مسألة ٢٨ قال: اذا جنى العبد جناية ثم رهنه بطل الرهن.

(٥)الكافي: القصاص ص ٣٨٥ س ١٢ قال: واذا قتل العبد او الامة حرا مسلما الخ.

[*]

١٧٦

[الشرط الثاني الدين. فلا يقتل المسلم بكافر ذميا كان أو غيره، ولكن يعزر ويغرم دية الذمي. ولو اعتاد ذلك جاز الاقتصاص مع رد فاضل دية المسلم. ويقتل الذمي بالذمي، وبالذمية بعد رد فاضل ديته، والذمية بمثلها وبالذمي، ولا رد.] ويظهر من هذا الكلام حكمان.

(أ) ان العبد يملك.

(ب) عدم انتقاله إلى ولي الدم بنفس الجناية. والاول: ممنوع. والثاني: وفاق الاكثر. ويتفرع على ذلك، لو تجدد للعبد كسب بعد القتل قبل دفعه إلى ولي الدم، فعلى الاول يكون لولي الدم، وعلى الثاني يكون لمولاه.

قال طاب ثراه: الثاني الدين: فلا يقتل مسلم بكافر ذميا كان او غيره، ولكن يعزر ويغرم دية الذمي، ولو اعتاد ذلك جاز القصاص مع رد فاضل ديته.

أقول: البحث هنا يستدعى توطئة مقدمة. فنقول: اجمع علماء الاسلام على عدم قتل المسلم بالكافر الاصلي، واستقر اجماع الامامية على انه لا يقتل بذمي مع عدم التكرار، خلافا لابي حنيفة(١) .

والدليل وجوه.

(الاول) قوله تعالى: (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)(٢) وهو عام

____________________

(١)الفقه على المذاهب الاربعة: ج ٥ مبحث قتل المؤمن بالكافر ص ٢٨٤ قال: الحنفية قالوا: يقتل المسلم بالذمي الخ.

(٢)النساء / ١٤١.

[*]

١٧٧

مؤكد بنفي الابد.

(الثاني) قوله تعالى: (لا يستوى اصحاب النار واصحاب الجنة)(١) ونفي الاستواء عام لثلاثة اوجه.

(أ) انه نكرة في سياق النفي فيفيد العموم لما تقرر في الاصول(٢) .

(ب) ان صدق المساواة لا يشترط في كل وجه، للزومه ارتفاع التمييز بين المثلين، او لا يتحقق مساواة أصلا، وهما باطلان.

(ج) ان المفهوم في عرف العام كون (يستوي) مناقضه (لا يستوي) ويستوى لا يعم، فيعم نقيضه، اعني لا يستوي.

(الثالث) الذمي كافر بنص القرآن، قال تعالى: (الم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من اهل الكتاب)(٣) والمؤمن لا يقتل بالكافر، لقولهعليه‌السلام : لا يقتل مؤمن بكافر(٤) . قالوا: لا يستقيم، لانه عطف بقولهعليه‌السلام : (ولا ذو عهد في عهده) تقديره: ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر، والجملة الثانية المعطوفة اضمر خبرها في المعطوف عليها، فيكون الخبر عنهما واحدا، لوجوب المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه فتقديره: لا يقتل ذو عهد في عهده بكافر، ولا يمكن لا يكون الكافر في الثانية الا الحربي، فيكون في الاولى كذلك، تحقيقا للمساواة بين المعطوف والمعطوف عليه.

____________________

(١)الحشر / ٢٠.

(٢)كفاية الاصول: في العام والخاص، قال: ربما عد من الالفاظ الدالة على العموم النكرة في سياق النفي أو النهي.

(٣)الحشر ? ١١.

(٤)سنن ابن ماجة: ج ٢(٢١) باب لا يقتل مسلم بكافر ص ٨٨٧ الحديث ٢٦٥٨ و ٢٦٥٩ و ٢٦٦٠ وفيه (ولا ذو عهد في عهده).

[*]

١٧٨

اجيب: بان العطف لا يقتضي المساواة. سلمنا: لكن عطف الجمل لا يقتضي المساواة. ونمنع كون الخبر في الثانية مقدرا، بل المراد: ان ذا العهد لا يقتل، لاجل عهده، فان العهد سبب لحقن الدم(١) .

(الرابع) قال اميرالمؤمنينعليه‌السلام : لو كنت قاتلا مسلما بكافر لقتلت خداشا بالهذلي(٢) فاطلق الكافر فلو جاز قتله ببعض الكفار لميزه.

اذا تقرر هذا فنقول: اذا قتل المسلم ذميا هل يقتل به، ام لا؟ قيل: نعم مطلقا، وقيل: لا مطلقا، وقيل: بشرط الاعتياد، فقيل: حدا، وقيل: قصاصا فهذه أربعة اقوال:

(أ) قتله به مطلقا، قاله ابن بابويه في المقنع(٣) . وهو قول متروك، وانعقد الاجماع على خلافه، فلا اعتداد به.

(ب) لا يقتل مطلقا قاله ابن ادريس(٤) واختاره فخر المحققين(٥) .

____________________

(١)اورده في ايضاح الفوائد: ج ٤ ص ٥٩٣ س ١٢ قال: قالوا لا يستقيم إلى قوله: فان العهد سبب لحقن الدماء.

(٢)سنن الدار قطني ج ٣ س ١٣٧ الحديث ١٧٠ ولفظ الحديث (عن عمران بن حصين قال: قتل حراش بن امية بعد ما نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: لو كنت قاتلا مؤمنا بكافر لقتلت حراشا بالهذلى) وقال العلامة المامقاني في رجاله تحت رقم ٣٦٥٤، ومثله في الجهاله خداش، او خراش بن حصين من بني لوي، ولا يخفى ان الخلاف في ضبطه اكثر مما قال كما لا يخفى.

(٣)المقنع: باب الديات ص ١٩١ س ٢١ قال: واذا قتله المسلم صنعوا كذلك، أي خير اولياء‌ه بين اخذ الدية او القتل.

(٤)السرائر: باب القود بين الرجال والنساء والاحرار والمسلمين والكفار ص ٤٢٤ س ١٤ قال: واذا قتل المسلم ذميا عمدا وجب عليه ديته ولا يجب عليه القود بحال.

(٥)الايضاح: ج ٤ ص ٥٩٢ س ٢٣ قال: وهل يقتل بالذمي؟ استقر اجماع الامامية على عدمه مع عدم التكرار.

[*]

١٧٩

(ج) يقتل ان اعتاد قتل اهل الذمة قصاصا بعد رد فاضل دية المسلم عن دية الذمي قاله في النهاية(١) وبه قال المفيد(٢) وتلميذه(٣) والقاضي(٤) وابن حمزة(٥) وابن زهرة(٦) وجزم به المصنف(٧) وهو قريب من الاجماع، قاله الشهيدرحمه‌الله (٨) . والحق ان هذه المسألة اجماعية، فانه لم يخالف فيها احد منا سوى ابن ادريس وقد سبقه الاجماع، ولو كان هذا المقال مؤثرا في الاجماع لم يوجد الاجماع اصلا.

(د) يقتل مع الاعتياد حدا، لفساده في الارض، فكان كالمحارب، وهو قول

____________________

(١)النهاية: باب القود بين الرجال والنساء والمسلمين والكفار ص ٧٤٩ س ٥ قال: فان كان كذلك (أي معتاد القتل أهل الذمة) إلى قوله: كان على الامام ان يقيده به بعد ان ياخذ من اولياء الذمي ما يفضل من دية المسلم الخ.

(٢)المقنعة: باب القود بين النساء والرجال والمسلمين والكفار ص ١١٥ س ١٩ قال: واذا كان المسلم معتادا لقتل اهل الذمة الخ.

(٣)المراسم ذكر احكام الجنايات في القضاء ص ٢٣٦ س ٢٢ قال: الا ان يكون معتادا إلى قوله: فيقتل به ويؤخذ الفاضل.

(٤)لم نظفر عليه في الكتب الموجودة، ولعله قال في الكامل.

(٥)الوسيلة: فصل في بيان احكام قتل العمد ص ٤٣١ س ٢٠ قال: ولا يقتل الكامل بالناقص الا اذا اعتاد إلى قوله: فيقاد به الخ.

(٦)الغنية (في الجوامع الفقهية) فصل في الجنايات ص ٦١٩ س ١٧ قال: ومنها ان لا يكون القاتل مسلما والمقتول كافرا سواء كان الخ.

(٧)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: ولو اعتاد ذلك جاز الاقتصاص مع رد فاضل دية المسلم.

(٨)اللمعة الدمشقية: ج ١٠ شرائط القصاص، ص ٥٥ س ٤ قال: بعد نقل الاجماع عن جماعة: ومسند هذا القول مع الاجماع المذكور الخ.

[*]

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430