المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٥

المهذب البارع في شرح المختصر النافع18%

المهذب البارع في شرح المختصر النافع مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 430

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 430 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52693 / تحميل: 7780
الحجم الحجم الحجم
المهذب البارع في شرح المختصر النافع

المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

خربة وبيده سكين متلطخ بالدم، فإذا رجل مذبوح متشحط في دمه، فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام ما تقول يا غلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنا قتلته، قال: اذهبوا به فاقيدوه، فلما ذهبوا به ليقتلوه اقبل رجل مسرعا فقال: لا تعجلوا وردوه إلى امير المؤمنينعليه‌السلام فردوه، فقال: والله يا أميرالمؤمنين ما هذا قتل صاحبه، انا قتلته، فقال امير المؤمنينعليه‌السلام للاول: ما حملك على الاقرار على نفسك؟ فقال: يا أميرالمؤمنين وما كنت أستطيع أن اقول، وقد شهد علي أمثال هؤلاء الرجال، وأخذوني وبيدي سكين ملطخ بالدم، والرجل متشحط في دمه، وانا قائم عليه، وخفت الضرب، فاقررت، وانا رجل كنت ذبحت بجنب هذه الخربة شاة، فاخذني البول، فدخلت الخربة فوجدت الرجل يتشحط في دمه، فقمت متعجبا، فدخل علي هؤلاء فاخذوني، فقال: اميرالمؤمنينعليه‌السلام : خذوا هذين فاذهبوا بهما إلى الحسنعليه‌السلام ، وقولوا له: ما الحكم فيهما؟ فذهبوا إلى الحسنعليه‌السلام وقصوا عليه قصتهما، فقال الحسنعليه‌السلام : قولوا لاميرالمؤمنينعليه‌السلام : ان هذا ان كان ذبح ذلك فقد أحيا هذا، وقد قال الله تعالى (ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا)(١) فخلى عنهما واخرج دية المذبوح من بيت المال(٢) .

فقد استفيد من هذا الحديث فوائد: (أ) الاكتفاء بالمرة الواحد في الاقرار بالقتل. (ب) سقوط القصاص عن المقر مع رجوع الاول. (ج) وجوب الدية من بيت المال.

____________________

(١)النساء / ٩٣.

(٢)التهذيب: ج ١٠(١٢) باب البينات على القتل ص ١٧٣ الحديث ١٩.

[*]

٢٠١

[أما البينة: فهي شاهدان عدلان، ولا يثبت بشاهد ويمين، ولا بشاهد وامرأتين، ويثبت بذلك ما يوجب الدية، كالخطاء، ودية الهاشمة، والمنقلة، والجائفة، وكسر العظام. ولو شهد اثنان ان القاتل زيد، واخران ان القاتل عمرو، قال الشيخ في النهاية: يسقط القصاص ووجبت الدية نصفين. ولو كان خطأ كانت الدية على عاقلتهما، ولعله احتياط في عصمة الدم لما عرض من تصادم البينتين.] والحق: ان هذه قضية في واقعة، وقضايا الوقائع لا يجب تعديها إلى نظائرها، لجواز اطلاعهعليه‌السلام على ما يوجب ذلك الحكم في تلك الواقعة، فالآن لو وقعت مثل هذه القضية، لم يجز للفقيه ان يحكم بمثل هذا الحكم، لجواز التواطئ من المقرين على قتل المسلم، واسقاط القصاص والدية بحيلة الاقرارين، بل الحكم فيهما تخير الولي وتصديق أيهما شاء، لان رجوع المقر غير مقبول.

قال طاب ثراه: ولو شهد اثنان: ان القاتل زيد، وآخران: ان القاتل عمرو، قال الشيخ في النهاية: سقط القصاص ووجبت الدية نصفين ولو كان خطأ كانت الدية على عاقلتهما، ولعله احتياط في عصمة الدم لما عرض من تصادم البينتين. أقول: حكم الشيخ في النهاية بسقوط القود في العمد، وبوجوب الدية عليهما نصفين. وكذا في شبيه العمد، وبوجوبها على العاقلتين في الخطأ(١) وتبعه

____________________

(١)النهاية، باب البينات على القتل ص ٧٤٢ س ١٨ قال: ومتى شهد نفسان على رجل بالقتل، وشهد اخران على غير ذلك الشخص إلى قوله: وان كان خطأ كانت الدية على عاقلتهما نصفين.

[*]

٢٠٢

القاضي(١) وهو مذهب المفيد(٢) واختاره العلامة(٣) .

وقال ابن ادريس: يتخير الولي في تصديق احدى البينتين وتكذيب الاخرى، ولا يسقط القود لوجهين.

(أ) قوله تعالى: (فقد جعلنا لوليه سلطانا)(٤) . (ب) لو شهدت البينة على واحد بقتله عمدا، وأقربه آخر، تخير الولي في قتل أيهما شاء اجماعا، فكذا هنا، لتساوي البينة والاقرار في اثبات الحقوق الشرعية(٥) .

احتج الاولون على سقوط القود بثلاثة اوجه. (أ) تعارض البينتين اوجب سقوطهما، لا ستحالة العمل بهما، لتضادهما، وباحداهما، لانه ترجيح بلا مرجح، فتعين تساقطهما. (ب) ان القود منوط باليقين، لان اراقة الدم من دم ما لا يعلم ثبوت سبب وجوبه فيه، ولا يظن، غير جائز، وهو هنا كذلك، لعدم مرجح في احدى البينتين. (ج) ان الحد يسقط بالشبهة، والدم أعظم خطرا، فسقوطه مع الشبهة اولى.

وعلى ايجاب الدية بينهما: بان البينتين لو سقطتا، لزم احدى محالات ثلاثة

____________________

(١)المهذب: ج ٢ باب البينات على القتل ص ٥٠٢ س ٧ قال: واذا كان القتل عمدا وشهد شاهدان إلى قوله: كانت الدية فيه على عاقلتهما نصفين.

(٢)المقنعة: باب البينات على القتل ص ١١٥ س ٣ قال: وان تكافأت البينات إلى قوله: وكان دية المقتول على النفسين بالسوية.

(٣)المختلف: ج ٢ فيما يثبت به القتل ص ٢٣٧ س ٢٥ قال بعد نقل الاقوال: والوجه ما افتى به الشيخان.

(٤)الاسراء / ٣٣.

(٥)السرائر: باب البينات على القتل ص ٤٢١ س ٣٦ قال بعد نقل قول الشيخ: والذي يقتضيه اصول المذهب، ان اولياء المقتول بالخيار إلى قوله: لان الاقرار كالبينة، والبينة كالاقرار في ثبوت الحقوق الشرعية.

[*]

٢٠٣

اما طلي دم المسلم. او ايجاب شئ بغير سبب. او الترجيح بلا مرجح.

وبيان الملازمة: انه ان لم يجب لهذا الدم عوض لزم الامر الاول. والا فان وجب على غيرهما لزم الامر الثاني. وان وجب على احدهما بعينه لزم الامر الثالث. فبقي: اما على احدهما لا بعينه، او عليهما. والثاني: المطلوب. والاول ان لم نوجبه على أحدهما، فهو الامر الاول، والا فهو عليهما.

فان قيل: لا وجه لا شتراكهما في الدية، لان البينة عليهما بخلاف ذلك، فان بينة كل واحد منهما تشهد عليه بالقتل منفردا، فقسمة الدية خلاف ما شهدت به البينات، ولا يعلم سببه، اذ هو الاجتماع، وهو غير معلوم من البينتين. قلنا: نمنع عدم علم الاجتماع، اذ كل واحدة من البينتين اثبتت لواحد عليته في القتل، فالتعارض انما هو في كونها منفردة، فهو امر سلبي، فلا يقبل كرد شهادة النفى.

وحاصله: ان كل واحد من البينتين تشهد لشيئين منطوقا، وهو اثبات القتل على من شهدت عليه به، ويلزمه عدم الشركة، والاخير شهادة النفي، فلا يقبل فيه، ويقبل في الاول لعدم المانع. فالظن حاصل بكون كل واحد منهما قاتلا، ولا يجب اكثر من دية واحدة، فيقسم عليهما.

فرع

لو ادعى الاولياء القتل على احدهما، كان لهم قتله لقيام البينة بالدعوى،

٢٠٤

[ولو شهدا بانه قتله عمدا، فأقر اخر: انه هو القاتل دون المشهود عليه، ففي رواية زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام للولي قتل المقر، ثم لا سبيل على المشهود، عليه، وله قتل المشهود عليه ويرد المقر على اولياء المشهود عليه نصف الدية، وله قتلهما ويرد على اولياء المشهود عليه خاصة نصف الدية. وفي قتلهما اشكال، لانتفاء العلم بالشركة، وكذا في الزامهما بالدية نصفين، لكن الرواية من المشاهير.] واهدرت البينة الاخرى فلا يكون لهم على الاخر سبيل. وانما المباحث المذكورة في الكتاب على تقدير أن يقولوا: لا نعلم.

قال طاب ثراه: ولو شهدا أنه قتله عمدا، واقر آخر: انه هو القاتل دون المشهود عليه، ففي رواية زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام للولي قتل المقر إلى قوله: لكن الرواية من المشاهير.

أقول: روى زرارة في الصحيح عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن رجل قتل، فحمل إلى الوالي وجاء قوم فشهدوا عليه انه قتله عمدا، فدفع الوالي القاتل إلى اولياء المقتول ليقادوا به، فلم يبر حوا حتى اتاهم رجل فاقر عند الوالي انه قتل صاحبهم عمدا، وان هذا الرجل الذي شهد عليه الشهود برئ من قتل صاحبهم، فلا تقتلوه وخذوني بدمه، قال: فقال ابوجعفرعليه‌السلام : ان اراد اولياء المقتول ان يقتلوا الذي اقر على نفسه، فليقتلوه، ولا سبيل لهم على الاخر، ولا سبيل لورثة الذي اقر على نفسه على ورثة الذي شهد عليه، فان ارادوا ان يقتلوا الذي شهد عليه فليقتلوه، ولا سبيل لهم على الذي اقر، ثم ليؤدي الذي اقر على نفسه إلى الذي شهد عليه نصف الدية، قلت: ارأيت ان ارادوا ان يقتلوهما جميعا؟ قال: ذلك لهم، وعليهم ان يؤدوا إلى اولياء الذي شهد عليه نصف الدية خاصة دون صاحبه، ثم يقتلوهما به، قلت: فان

٢٠٥

ارادوا ان ياخذوا الدية؟ قال: فقال: الدية بينهما نصفان، لان احدهما أقر، والاخر شهد عليه، قلت: فكيف جعل لاولياء الذي شهد عليه على الذي أقربه نصف الدية حين قتل، ولم يجعل لاولياء الذي أقر على اولياء الذي شهد عليه ولم يقر؟ قال: فقال: لان الذي أشهد عليه ليس مثل الذي اقر، الذي شهد عليه لم يقر، ولم يبرأ صاحبه، والاخر أقر وأبرأ صاحبه مالم يلزم الذي شهد عليه ولم يقر، ولم يبرأ صاحبه(١) . واعلم ان الشيخ في النهاية عمل بهذه الرواية(٢) وتبعه القاضي(٣) وهو مذهب التقي(٤) وأبي علي(٥) . قال ابن ادريس: ولي في قتلهما جميعا نظر، ثم استقر رأيه في آخر البحث على تخيير الولي كالبينتين(٦) واختاره العلامة(٧) .

____________________

(١)التهذيب ج ١٠(١٢) باب البينات على القتل ص ١٧٢ الحديث ١٨.

(٢)النهاية باب البينات على القتل وعلى قطع الاعضاء ص ٧٤٣ س ١٤ قال: ومتى أتهم رجل بانه قتل نفسا، فأقر إلى قوله: وهذه قضية الحسن بن عليعليهما‌السلام في حياة ابيهعليه‌السلام .

(٣)المهذب ج ٢ باب البينات على القتل والقسامة ص ٥٠٢ س ١٢ قال: واذا أتهم رجل بانه قتل رجلا واقر هو بذلك إلى قوله: ودفعت الدية إلى اولياء الدم من بيت المال.

(٤)الكافي، القصاص، ص ٣٨٧ س ٣ قال: واذا قامت البينة على قاتل، واقر اخر بذلك القتل وبرأ المشهور عليه الخ.

(٥)المختلف ج ٢ فيما يثبت به القتل ص ٢٣٧ س ٣٨ قال: وقال ابن الجنيد: ولو قامت بينة بقتل عمد فاقر غيره الخ.

(٦)السرائر باب البينات على القتل وقطع الاعضاء ص ٤٢٢ س ٨ قال بعد تقرير المسالة: هكذا اورده شيخنا ابوجعفر في نهايته ولي في قتلهما نظر، إلى قوله بعد اسطر: والاولى عندي: ان يرد الاولياء اذا قتلوهما معا الخ(٧) المختلف ج ٢ فيما يثبت به القتل ص(٢٣٨) س ٩ قال بعد نقل قول ابن ادريس برمته: وقول ابن ادريس لا بأس به.

[*]

٢٠٦

وهذه الرواية من الصحاح ومن المشاهير بين الاصحاب، لكنها مشتملة على مخالفة الاصول المقررة من وجهين. (الاول) جواز قتلهما، ولا موجب له، لان كل واحد من البينة والاقرار يقتضي الانفراد وعدم الاشتراك، قال فخر المحققين: فالاشتراك قوله بلا دليل، فيكون خطأ(١) . (الثاني) تضمنها استيفاء الولي اكثر من ماله، لانه على تقدير قتلهما يكون الواجب عليه رد دية كاملة، لانه قتل اثنين، وله واحد. وقد تضمنت الرواية: ان عليه رد نصف ديته إلى ورثة المشهود عليه خاصة، ووجهه: ان المقر اسقط حقه من الرد، فبقي المشهود عليه. وهذا كله على تقدير ان يقول الولي: لا اعلم، اما لو ادعى القتل على احدهما، فانه له قتله وسقط حكم الاخر.

تذنيب: الحجة اما اقرار واما شهود

الحجة اما اقرار واما شهود، ولا كلام. في العمل بأحديهما مع انفرادها.

وإن اجتمع حجتان: فاما اقراران، او بينتان، او اقرار وبينة، فالاقسام ثلاثة.

(أ) الاقراران: فان اجتمعا، فان برأ الثاني الاول ورجع الاول، فهو قضاء الحسنعليه‌السلام ، وقد مر بيانه. وان لم يبرئه كان له قتلهما، سواء رجع الاول أولا، ويرد عليهما دية يقتسمانها. وان برئه ولم يرجع الاول، كان له قتل الثاني ولا شئ له، لمضي اقرار العاقل

____________________

(١)الايضاح: ج ٤ كتاب الجنايات، في البينة ص ٦٠٩ س ٢٢ قال: فالقول بالاشتراك قول بلا دليل فيكون خطأ.

[*]

٢٠٧

على نفسه، ثم لا شئ له على الاخر، وله قتل الاول، وفي تسلط ورثته على المقر الثاني نظر، ويجئ على رواية زرارة(١) استحقاق ورثة الاول الرجوع على الثاني بالنصف. وله قتلهما على الرواية على اشكال. ويحتمل قويا منعه من قتلهما، وتخيره فيهما.

(ب) البينتان: فابن ادريس طرد الحكم فيهما، واوجب تخيير الولي(٢) والشيخ اوجب الدية نصفين(٣) وقد تقدم البحث فيه.

(ج) الاقرار والبينة: والاقوى التخيير كمذهب العلامة(٤) وابن ادريس(٥) والشيخ اجاز قتلهما ويدفع نصف ديته على اولياء المشهود، وقتل المشهود ويرد المقر على اوليائه نصف الدية، وقتل المقر ولا شئ لورثته على المشهود عليه(٦) وهو صحيحة زرارة المتقدمة.

____________________

(١)التهذيب: ج ١٠(١٢) باب البينات على القتل ص ١٧٢ الحديث ١٨.

(٢)السرائر: باب البينات على القتل ص ٤٢١ س ٣٦ قال: والذي يقتضيه اصول المذهب: ان اولياء المقتول بالخيار، في تصديق احدى البينتين وتكذيب الاخرى الخ.

(٣)النهاية: باب البينات على القتل ص ٧٤٢ س ١٨ قال: ومتى شهدنفسان إلى قوله: وكانت الدية على المشهود عليهما نصفين.

(٤)المختلف: ج ٢ فيما يثبت به القتل ص ٢٣٧ س ٢٣ قال بعدنقل تصادم البينات، ويؤيد هذه المسألة ما ياتي: من ان من شهد عليه بالقتل ثم اقر اخر بالقتل، للاولياء ان يقتلوا من شاؤا منهما بغير خلاف.

(٥)السرائر: باب البينات على القتل ص ٤٢٢ س ٤ قال: فاذا قامت البينة على رجل بانه قتل رجلا عمدا وأقر اخر إلى قوله: كان اولياء المقتول مخيرين الخ.

(٦)النهاية: باب البينات على القتل ص ٧٤٣ س ٣ قال: واذا قامت البينة على رجل بانه قتل رجلا عمدا واقر رجل اخر بانه قتل ذلك المقتول إلى قوله: وليس لاولياء المقر على نفسه على الذي قامت عليه البينة سبيل.

[*]

٢٠٨

[(الاولى) قيل: يحبس المتهم بالدم ستة ايام، فان ثبتت الدعوى، والا خلى سبيله، وفي السند ضعف، وفيه تعجيل لعقوبة لم يثبت سببها.] قال طاب ثراه: قيل: يحبس المتهم بالدم ستة أيام، فان ثبتت الدعوى، والا خلي سبيله، وفي السند ضعف، وفيه تعجيل لعقوبة لم يثبت سببها.

أقول: التحقيق: ان في المسألة خمسة اقوال: الاول، قال الشيخ في النهاية: المتهم بالقتل يبنغي ان يحبس ستة ايام، فان جاء المدعي ببينة، والا خلي سبيله(١) وتبعه القاضي(٢) . والمستند ما رواه السكوني عن الصادقعليه‌السلام قال: ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحبس في تهمة الدم ستة ايام، فان جاء اولياء المقتول ببينة، والا خلي سبيله(٣) .

(الثاني) قال ابن حمزة: يحبس ثلاثة أيام(٤) ولعله نظر إلى انه المهلة الشرعية.

(الثالث) قال ابن ادريس: لا يحبس بمجرد التهمة(٥) واختاره المصنف(٦)

____________________

(١)النهاية: باب البينات على القتل ص ٧٤٤ س ٤ قال: والمتهم بالقتل يبنغي ان يحبس ستة ايام الخ.

(٢)المهذب: ج ٢ باب البينات على القتل ص ٥٠٣ س ٥ قال: واذا اتهم انسان بالقتل وجب ان يحبس ستة ايام الخ.

(٣)التهذيب: ج ١٠(١٢) باب البينات على القتل ص ١٧٤ الحديث ٢٣.

(٤)الوسيلة: في بيان احكام الشهادة على الجنايات ص ٤٦١ س ١ قال: والمتهم بقتل اخر إلى قوله: فان انكر حبس ثلاثة ايام.

(٥)السرائر: باب البينات على القتل ص ٤٢٢ س ١٧ قال بعد نقل الحديث: وليس على هذه الرواية دليل يعضدها.

(٦)لاحظ عبارة النافع في قوله: وفي السند ضعف، وفيه تعجيل لعقوبة لم يثبت سببها.

[*]

٢٠٩

والعلامة(١) وفخر المحققين(٢) . وردوا الرواية بوجهين.

(أ) ضعف السند، لان السكوني عامى.

(ب) اشتمالها على عقوبة لم يثبت لها موجب، لان الموجب للحبس ثبوت حق على المحبوس، وسببه ظاهر، اما الاقرار، أو البينة، وكلاهما مفقود.

(الرابع) قال العلامة في المختلف: ونعم ما قال، ان حصلت التهمة للحاكم بسبب لزم الحبس ستة ايام، عملا بالرواية، وتحفظا للنفوس عن الاتلاف، وان حصلت لغيره، فلا، عملا بالاصل(٣) .

قلت: ويجب على الحاكم: البحث والاستقصاء في تحصيل امارة التهمة، فان حصلت، والا اطلقه، صونا للنفوس، ومبالغة في حقن الدماء.

(الخامس) قال ابوعلي: ان ادعى الولي ان له بينة حبس سنة(٤) وهو متروك. ولعله نظر إلى انه غاية الاحتياط في الدماء واقرب إلى تحقق عدم البينة.

واعلم: ان الخلاف وارد على تقدير عدم قيام البينة، وعلى تقدير قيام بينة لم تثبت عدالتها، لكن الظن هنا ربما حصل للحاكم، فيحبس على قول العلامة، لكن

____________________

(١)القواعد: ج ٢ في احكام القسامة ص ٢٩٨ س ١٥ قال: وقيل: ويحبس المتهم في الدم مع التماس خصمه حتى يحضر البينة.

(٢)الايضاح: ج ٤ في احكام القسامة ص ٦١٩ س ٢٠ قال: ومنع بن ادريس حبسه بمجرد التهمة إلى قوله: وانا به افتى.

(٣)المختلف: ج ٢ فيما يثبت به القتل، ص ٢٣٨ س ٢١ قال: والتحقيق ان نقول: ان حصلت التهمة للحاكم الخ.

(٤)غاية المراد ونكث الارشاد، قال في ذيل قوله: (ولو التمس الولى حبس المتهم): قال ابن الجنيد: ان ادعى الولى البينة حبس إلى سنة.

[*]

٢١٠

[(الثانية) لو قتل وادعى انه وجد المقتول مع امرأته، قتل به الا ان يقيم البينة بدعواه. (الثالثة) خطأ الحاكم في القتل والجرح على بيت المال، ومن قال: حذار، لم يضمن. وان اعتدى عليه فاعتدى بمثله لم يضمن، وان تلفت.] لا إلى سنة، بل ستة ايام.

قال طاب ثراه: لو قتل وادعى انه وجد المقتول مع امرأته، قتل به الا ان يقيم البينة بدعواه.

أقول: روى اصحابنا: ان علياعليه‌السلام اتي برجل قتل رجلا وادعى انه وجده مع امرأته فقال لهعليه‌السلام : ان عليك القود الا ان تاتي بالبينة(١) .

قال الشيخ في النهاية: ومن قتل رجلا ثم ادعى انه وجده مع امرأته، او في داره، قتل به، او يقيم البينة على ما قال(٢) وتابعه المصنف(٣) والعلامة(٤) .

وقال ابن ادريس: الاولى ان يقيدذلك: بان الموجود كان يزنى بالمرأة، وكان محصنا، فحينئذ لا يجب على قاتله القود ولا الدية، لانه مباح الدم، فاما ان اقام البينة انه وجده مع المرأة، لا زانيا بها، او زانيا بها ولا يكون محصنا، فانه يجب على من قتله القود، ولا ينفعه بينته(٥) .

____________________

(١)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٦٠٠ الحديث ٥٩ ورواه في القواعد ج ٢ في التساوي في الدين ص ٢٩٠ س ١٦.

(٢)النهاية: باب البينات على القتل ص ٧٤٤ س ٦ قال: ومن قتل رجلا ثم ادعى انه وجده مع امرأته قتل به الخ.

(٣)لاحظ عبارة النافع.

(٤)نقل الحديث في القواعد كما نقلناه آنفا استدلالا به، ونقل قوله الشيخ في المختلف ج ٢ ص ٢٣٨ س ٢٢ رضا به فلا حظ.

(٥)السرائر: باب البينات في القتل ص ٤٢٢ س ١٨ قال: والاولى عندي ان يقيد ذلك بان الموجود كان يزنى بالمرأة وكان محصنا.

[*]

٢١١

قال العلامة في المختلف: وهذا النزاع لفظي، ومقصود الشيخرحمه‌الله سقوط القود في القتل المستحق او تقول: جاز ان يكون وجدانه مع امرأته أو في داره شبهة مسوغة لقتله، فلهذا سقط القود، ولا يلزم منه سقوط الضمان(١) . وهذا الكلام يعطى ثلاثة احكام.

(أ) الجنوح إلى ما شرطه ابن ادريس.

(ب) صلاحية وجدانه مع امرأته، او في داره، للشبهة المسوغة للقتل.

(ج) كون هذه الشبهة غير مسقطة للدية، وان اسقطت القود.

احتج ابن ادريس: باصالة عصمة الدم الا في موضع اليقين، ولا يقين بدون المشاهدة، ومعها لا يقتل غير المحصن بالزنا، فلا يباح دمه. ويؤيده ما رواه داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام يقول: ان أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا لسعد بن عبادة: أرايت لو وجدت على بطن امرأتك رجلا ما كنت صانعا به؟ قال: كنت اضربه بالسيف، قال: فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: ما ذا يا سعد؟ قال سعد: قالوا: لو وجدت على بطن امرأتك رجلا ما كنت تصنع به؟ فقلت: أضربه بالسيف، فقال: يا سعد، فكيف بالاربعة شهود؟ فقال: يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد رأي عينى، وعلم الله ان قد فعل؟ ! قال: أي والله بعد رأي عينيك وعلم الله انه فعل، لان الله قد جعل لكل شئ حدا، وجعل لمن تعدى ذلك الحد حدا(٢) . وزاد في بعضها: وجعل ما دون الاربعة شهداء مستورا على المسلمين(٣) .

____________________

(١)المختلف: ج ٢ فيما يثبت به القتل، ص ٢٣٨ س ٢٥ قال: وهذا النزاع لفظي الخ.

(٢)الكافي: ج ٧ باب التحديد ص ١٧٦ الحديث ١٢.

(٣)الكافي: ج ٧ باب التحديد ص ١٧٤ قطعة من حديث ٤.

[*]

٢١٢

احتج الاخرون بما روي عن عليعليه‌السلام (١) وقد تقدم. وهو على عمومه. وبما رواه الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسنعليه‌السلام في رجل دخل دار غيره للتلصص، أو الفجور، فقتله صاحب الدار، أيقتل به ام لا؟ فقال: اعلم ان من دخل دار غيره فقد أهدر دمه، ولا يجب عليه شئ(٢) .

تنبيه: هل يشترط في البينة عدد شهود الزنا؟

وهل يشترط في البينة عدد شهود الزنا، أو يكفي العدلان؟ قال في التحرير: الاقرب الاكتفاء بالشاهدين(٣) لان البينة يشهد على وجوده مع المرأة، لا على الزنا. ويحتمل اعتبار الاربعة، لقولهعليه‌السلام : (فكيف بالاربعة شهود)(٤) : ولما رواه سعيد بن المسيب: ان رجلا من اهل الشام يقال له: ابن أبي الجسرين، وجد على بطن امرأته رجلا فقتله وقد اشكل حكم ذلك على القضاة، فكتب معاوية إلى أبي موسى الاشعري يسأل له عن ذلك علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال له عليعليه‌السلام : ان هذا الشئ ما هو بأرضنا، عزمت عليك لتخبرني، فقال أبوموسى الاشعري: كتب إلى في ذلك معاوية، فقال علي

____________________

(١)عوالي اللئالي ج ٣ ص ٦٠٠ الحديث ٥٩ ورواه في القواعد ج ٢، في التساوي في الدين، ص ٢٩٠ س ١٦.

(٢)الكافي ج ٧ باب من لا دية له ص ٢٩٤ الحديث ١٦.

(٣)التحرير ج ٢ كتاب الحدود، في حد المحارب ص ٢٢٤ س ٣٢ قال: (يح) لو وجد مع زوجته إلى قوله: والاقرب الاكتفاء بالشاهدين.

(٤)الكافي ج ٧ باب التحديد ص ١٧٦ قطعة من حديث ١٢ وقد تقدم ايضا.

[*]

٢١٣

[واما القسامة: فلا تثبت الا مع اللوث.]عليه‌السلام : أنا أبوالحسن، ان لم يأت باربعة شهداء فليعط برمته(١) . والتحقيق أن نقول: إن شرطنا المشاهدة فلا بد من الاربعة، وان اكتفينا بالوجدان كفى الشاهدان. (ذكر القسامة)(٢) .

مقدمة

القسامة عند الفقهاء: كثرة الايمان وتعددها، واشتقاقها من القسم، وهو الحلف، وسميت قسامة، لتكثر اليمين فيها. وقال اهل اللغة: القسامة عبارة عن اسماء الحالفين من أولياء المقتول، فعبر بالمصدر عنهم، واقيم مقامهم(٣) . وهي تثبت مع اللوث.

وهو امارة يغلب معها ظن الحاكم بصدق المدعي، كما اذا كان القتيل في دار المدعي عليه، او محلته، وكان بينهما عداوة. وكشهادة الواحد، فأجاز الشارع هنا سماع الدعوى من المدعي واثبات حقه بخمسين يمينا، ثم ياخذ المدعي عليه، فيقتله في العمد، ويأخذ منه الدية في عمد الخطأ، ومن عاقلته في الخطأ المحض، فاجاز الشارع هنا اثبات حق المدعي بيمينه، وان لم تقم البينة. وحجية اليمين اضعف من حجية البينة، فاجاز الشارع في اثبات الدم قبول هذه الحجة الضعيفة، كما اجاز شهادة الصبيان في الجراح والقصاص، تحقيقا لقوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)(٤) .

____________________

(١)الفقيه ج ٤ باب نوادر الديات ص ١٢٧ الحديث ٩.

(٢)هكذا في جميع النسخ المخطوطة التي عندي، وفي النافع المطبوع (واما القسامة) كما اثبتناه.

(٣)لسان العرب ج ١٢ ص ٤٨١ كلمة (قسم) قال: والقسامة الجماعة يقسمون على الشئ، ويمين القسامة منسوبة اليهم، إلى قوله: ابوزيد: جاء‌ت قسامة الرجل سمى بالمصدر الخ.

(٤)سورة البقرة / ١٧٩.

[*]

٢١٤

فقد خالفت القسامة غيرها من الدعاوي والحقوق في امور.

(أ) كون اليمين ابتداء على المدعي.

(ب) جواز حلف الانسان لا ثبات حق غيره، ولنفي الدعوى عن غيره.

(ج) تعدد الايمان فيها.

(د) ان من توجهت عليه اليمين اذا نكل، لا يسقط الحق بنكوله، بل يرد على غيره من باقي القسامة. وهي ثابتة بالنص والاجماع.

قال الصادقعليه‌السلام : القسامة حق، وهي مكتوبة عندنا، ولو لا ذلك لقتل الناس بعضهم بعضا ثم لم يكن شئ، وانما القسامة نجاة للناس(١) .

والبينة في الحقوق كلها على المدعي واليمين على المدعى عليه الا في الدم خاصة.

فان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بينما هو بخيبر اذا فقدت الانصار رجلا منهم، فوجدوه قتيلا، فقالت الانصار: ان فلان اليهودي قتل صاحبنا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للطالبين: اقيموا رجلين عدلين من غيركم، افيدوه برمته، فان لم تجدوا شاهدين، فاقيموا قسامة خمسين رجلا افيدوه برمته، فقالوا: يا رسول الله ما عندنا شاهدان من غيرنا، وانا لنكره ان نقسم على مالم نره، فوداه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عنده، وقال: انما حقن دماء المسلمين بالقسامة، لكي اذا رأى الفاجر الفاسق فرصة من عدوه، حجزه مخافة القسامة ان يقتل به، فكف عن قتله، والا حلف المدعى عليه قسامة خمسين رجلا ما قتلناه، ولا علمنا قاتلا، والا اغرموا الدية اذا وجدوا قتيلا بين اظهرهم، اذا لم يقسم المدعون(٢) .

____________________

(١)الكافي: ج ٧ باب القسامة ص ٣٦٠ الحديث ١ وفيه: عن الحلبي عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن القسامة كيف كانت؟ فقال: هي حق الخ.

(٢)الكافي: ج ٧ باب القسامة ص ٣٦١ الحديث ٤.

[*]

٢١٥

[وهو امارة يغلب معها الظن بصدق المدعي، كما لو وجد في دار قوم، او محلتهم، او قريتهم، او بين قريتهم، او بين قريتين، وهو إلى احدهما اقرب، فهو لوث، ولو تساوت مسافتهما كانتا سواء في اللوث. اما من جهل قاتله، كقتيل الزحام، والفزعات، ومن وجد في فلات، او في معسكر، او سوق، او جمعة، فديته من بيت المال. ومع اللوث يكون للاولياء اثبات الدعوى بالقسامة. وهي في العمد: خمسون يمينا، وفي الخطأ خمسة وعشرون على الاظهر] وقد دل هذا الخبر على احكام.

(أ) مشروعية القسامة، وبيان علتها.

(ب) كون اليهودي يقاد برمته كالعبد، وفيه دلالة على جواز استرقاقه.

(ج) توجه الدعوى فيها مع التهمة، لقولهم: (على ما لم نره) ولم تبطل دعواهم بذلك.

(د) القضاء بالنكول من المدعى عليه، وذلك لانها مردودة.

(ه‍) رد الشهادة مع التهمة، لانهعليه‌السلام طلب الشاهدين من غيرهم.

واما اداء‌ه الدية من ماله، فتبرع منه صلوات الله عليه وآله.

واما الاجماع: فمن الامة لا يختلفون فيها على الجملة، وان اختلفوا في آحاد مسائلها.

قال طاب ثراه: وفي الخطأ خمسة وعشرون على الاظهر.

أقول: اختلف الاصحاب في عدد القسامة من الخطأ المحض وعمده على قولين.

(الاول) مساواتهما في العدد لقسامة العمد، وهو خمسون يمينا، قاله المفيد(١)

____________________

(١)المقنعة، باب البينات على القتل ص ١١٤ س ٣١ قال: اقسم اولياء المقتول خمسين يمينا ووجبت لهم الدية بعد ذلك.

[*]

٢١٦

وتلميذه(١) وابن ادريس(٢) واختاره العلامة في القواعد(٣) لانه احوط، وادعى ابن ادريس عليه اجماع المسلمين(٤) .

(ب) خمسة وعشرون: قاله الشيخ في كتبه الثلاثة، النهاية(٥) وكتابي الفروع(٦) (٧) وتبعه القاضي(٨) وابن حمزة(٩) واختاره المصنف(١٠) والعلامة في المختلف(١١) لانه أدون من قتل العمد، فيناسب تخفيف القسامة فيه، اذا التهجم بالدم على القود اضعف من التهجم على الدية، فكان التشدد في اثبات الاول اولى.

____________________

(١)المراسم: ذكر احكام البينات ص ٢٣٢ س ١١ قال: قسامة قتل النفس وماله حكم النفس في الجنايات إلى قوله: وهو خمسون.

(٢)و(٣) السرائر باب البينات على القتل ص ٤٢١ س ٧ قال: والاظهر عندنا: ان القسامة خمسون رجلا سواء كان القتل عمدا او خطأ محضا او خطأ شبيه العمد إلى قوله: وما اخترناه عليه اجماع المسلمين.

(٤)القواعد ج ٢ في كيفية القسامة ص ٢٩٧ س ٢ قال: وفي عدد القسامة في الخطأ وعمد الخطأ قولان اقربهما مساواتهما للعمد.

(٥)النهاية: باب البينات على القتل ص ٧٤٠ س ١٧ قال: وان كان خطأ فخمسة وعشرون رجلا يقسمون مثل ذلك.

(٦)كتاب الخلاف: كتاب القسامة، مسألة ٤ قال: القسامة في قتل الخطأ خمسة وعشرون رجلا.

(٧)المبسوط: ج ٧ كتاب القسامة ص ٢١١ س ١٨ قال: وقتل الخطأ فيه خمسة وعشرون يمينا على شرح يمين العمد سواء.

(٨)المهذب: ج ٢ باب البينات على القتل والقسامة ص ٥٠٠ س ٤ قال: واما قتل الخطأ فقسامته خمسة وعشرون رجلا.

(٩)الوسيلة: في بيان احكام الشهادة واحكام القسامة ص ٤٦٠ س ٥ قال: وان كان معه شاهد واحد كان القسامة خمسة وعشرين الخ.

(١٠)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: وفي الخطأ خمسة وعشرون على الاظهر.

(١١)المختلف: ج ٢، فيما يثبت به القتل ص ٢٣٧ س ١ قال بعد نقل قول الشيخ في النهاية: والوجه ما قاله الشيخ، لنا انه ادون الخ.

[*]

٢١٧

[ولو لم يكن للمدعي قسامة، كررت عليه الايمان. ولو لم يحلف وكان للمنكر من قومه قسامة، حلف كل منهم حتى يكملوا، وان لم يكن له قسامة كررت عليه الايمان حتى يأتي بالعدد، ولو نكل الزم الدعوي عمدا أو خطأ. ويثبت الحكم في الاعضاء بالقسامة مع التهمة، فما كانت ديته دية النفس كالانف واللسان، فالاشهر: ان القسامة ستة رجال، يقسم كل منهم يمينا، ومع عدمهم يحلف الولي ستة ايمان، ولو لم يكن قسامة، او امتنع احلف المنكر مع قومه سته، ولو لم يكن له قوم، احلف هو الستة. وما كانت ديته دون دية النفس، فبحسابه من ستة.] ولصحيحة عبدالله بن سنان عن الصادقعليهم‌السلام قال: القسامة خمسون رجلا في العمد، وفي الخطأ خمسة وعشرون رجلا، وعليهم ان يحلفوا بالله(١) .

ومثلها حسنة يونس عن الرضاعليه‌السلام : ان اميرالمؤمنينعليه‌السلام جعل القسامة في النفس على العمد خمسين رجلا، وجعل في النفس على الخطأ خمس وعشرون(٢) والتفصيل قاطع للشركة.

قال طاب ثراه: ويثبت الحكم في الاعضاء بالقسامة مع التهمة، فما كانت ديته دية النفس كالانف واللسان فالاشهر: ان القسامة ستة رجال.

أقول: تثبت القسامة في الاعضاء كما تثبت في النفس، فما بلغ دية النفس كانت القسامة فيه ستة رجال عن المشهور، وما كانت ديته دونها فبحسابه من

____________________

(١)التهذيب: ج ١٠(١٢) باب البينات على القتل ص ١٦٨ الحديث ٧.

(٢)التهذيب: ج ١٠(١٢) باب البينات على القتل ص ١٦٩ الحديث ٨ س(٨) قال: وجعل في النفس على الخطأ خمسة وعشرين رجلا.

[*]

٢١٨

ستة، قاله الشيخ في الكتب الثلاثة(١) (٢) (٣) وتبعه القاضي(٤) وابن حمزة(٥) واختاره المصنف(٦) والعلامة في المختلف(٧) .

وقال سلار: يوجب الخمسين في العمد وخمس وعشرين في الخطأ(٨) واختاره ابن ادريس(٩) ونقله عن المفيد(١٠) . احتج الاولون: بان الجناية هنا اخف، فكان الحلف فيها اخف، عملا بالتناسب.

____________________

(١)النهاية: باب البينات على القتل ص ٧٤١ س ١٥ قال: والبينة في الاعضاء مثل البينة في النفس إلى قوله: وفيها نقص من الاعضاء القسامة فيها على قدر ذلك الخ.

(٢)المبسوط: ج ٧ كتاب القسامة ص ٢٢٣ س ١٣ قال: فاما اذا كانت الدعوى دون النفس إلى قوله: وان كانت الجناية ما يجب فيها دون الدية الخ.

(٣)كتاب الخلاف: كتاب القسامة، مسألةقال: يثبت عندنا في الاطراف قسامة إلى قوله: وان كانت الجناية ما يجب فيها دون الدية الخ.

(٤)المهذب: ج ٢ باب البينات على القتل ص ٥٠١ س ١٢ قال: والبينة في الاعضاء مثل البينة في النفس إلى قوله: وفيما نقص من الاعضاء الخ.

(٥)الوسيلة: في بيان احكام الشهادة على الجنايات واحكام القسامة ص ٤٦٠ س ٧ قال: وان كانت الجناية على النفس إلى قوله: وان اوجبت نصف الدية ففيها ثلاث ايمان، وان اوجبت سدس. الدية ففيها يمين واحدة الخ.

(٦)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: وما كانت ديته دون النفس فبحسابه من سته.

(٧)المختلف: ج ٢، فيما يثبت به القتل ص ٢٣٧ قال بعد نقل قول الشيخ: والوجه ما قاله الشيخ.

(٨)المراسم: ذكر احكام البينات ص ٢٣٢ س ١٠ قال: فاعداد القسامة على ضربين إلى قوله: والثاني قسامة ما دون ذلك وهو بحسابه.

(٩)و(١٠) السرائر باب البينات على القتل ص ٤٢١ س ١٧ قال: وكل شئ من اعضاء الانسان إلى قوله: وبحسبه من الايمان من حساب الخمسين يمينا ان كانت الجناية عمدا، او خمسة وعشرين ان كانت الجناية خطأ إلى قوله: وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد.

[*]

٢١٩

وبحسنة يونس عن الرضاعليه‌السلام ، وقال في حديث عن اميرالمؤمنينعليه‌السلام : وعلى ما بلغت ديته من الجوارح الف دينار، ستة نفر، وما كان دون ذلك فبحسابه من ستة نفر(١) .

واحتج الاخرون بالاحتياط.

فروع حول القسامة

(الاول) القسامة يثبت في العبد كما يثبت في الحر، ويثبت السيد بها دعواه. ومنعه ابوعلي(٢) لانه مال فحكمه حكم البهيمة، قال في الخلاف: لسيد العبد القسامة اذا كان هناك لوث(٣) ، لعموم الاخبار الواردة بالقسامة في القتل(٤) .

(الثاني) القسامة خمسون مع اللوث، سواء كان اللوث شاهدا أو غيره، وقال ابن حمزة: يحلف مع الشاهد خمسة وعشرون يمينا(٥) .

(الثالث) المشهوران كلا من المدعي والمدعى عليه يتعدد عليه الايمان خمسون يمينا ان كان واحدا، وان كانوا اكثر توزعت عليهم الايمان بالنسبة، وهو مذهب

____________________

(١)التهذيب: ج ١٠(١٢) باب البينات على القتل ص ١٦٨ الحديث ٧.

(٢)المختلف: ج ٢، في اللواحق ص ٢٦٦ س ١٦ قال: مسألة قال ابن الجنيد: ولا قسامة في بهيمة ولا في عبد مقتول.

(٣)لوث بفتح اللام وتسكين الواو، وهو التهمة القاهرة، لان اللوث القوة، يقال: ناقة ذات لوث، أي قوة (نقلا من السرائر ص ٤٢١ س ٥).

(٤)كتاب الخلاف: كتاب القسامة مسألة ١١ قال: اذا قتل عبد وهناك لوث فلسيده القسامة إلى قوله: لنا عموم الاخبار الواردة.

(٥)الوسيلة، في بيان احكام الشهادة على الجنايات واحكام القسامة ص ٤٦٠ س ٥ قال: وان كان معه شاهد واحد كان القسامة خمسة وعشرين يمينا.

[*]

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وهو نقص ماء الجسم وأملاح الدم وعلاجه لا يكون إلّا بشرب الماء وتناول الأملاح الإضافية.

هذا نموذج بسيط من النظم والحساب في تركيب جسمنا ، كما نلاحظ أحيانا أنّ دقّة المقاييس في تركيب مخلوقات أدقّ وأظرف كالخلايا ، وأدقّ منها عالم الذرّات تكون إلى درجة من الدقّة بحيث تقاس بـ (واحد على الألف) وأحيانا بـ (واحد على المليون) من الملمتر أو الملغرام ، حيث أنّ العلماء اضطرّوا لحساب هذه الموازين الدقيقة إلى الاستعانة بالعقول الألكترونية.

هذا في النظام الكوني ، والأمر كذلك في الأمور الاجتماعية ، حيث أنّ أي انحراف في تطبيق قوانين العدل قد يؤدّي إلى فناء شعب.

وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرنا وذكر كلّ ما يستحقّ الذكر بهذا الصدد حيث يقول سبحانه :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ) .

لقد جعل الله سبحانه الطغيان والتمرّد على القوانين الشرعية ، مقارنا مع الطغيان والتمرّد على القوانين الكونية التي تحكم الوجود كلّه ، إنّه تصوير رائع استعمله القرآن الكريم عن عالم الوجود تارة ، وعالم الإنسان اخرى ، كما ورد في الآيات الكريمة. وليس هذا فحسب ، بل إنّه سبحانه شمل بوصفه هذا عالم الآخرة (يوم الحساب) ونصب الموازين ، بل وحتّى طبيعة الحساب والموازين حيث إنّها من الدقّة على قدر عجيب! ولهذا السبب فقد أمرنا ـ كما ورد ذلك في الرّوايات الإسلامية ـ أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب وأن نزنها قبل أن توزن.

«وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا».

* * *

٣٨١

الآيات

( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) )

التّفسير

الصلصال وخلق ، الإنسان :

إنّ الله تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها( خَلَقَ الْإِنْسانَ ) .

يتعرّض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجنّ كدليل على قدرته العظيمة ، من جهة وموضع درس وعبرة للجميع من جهة اخرى ، فيقول سبحانه :( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ) .

«صلصال» في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردّد الصوت في الأجسام الصلبة) ثمّ أطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتا ، كما تطلق (الصلصلة) على الماء المتبقّي في الوعاء ، لأنّه يخرج صوتا عند حركته في الوعاء.

ويفسّر البعض كلمة (صلصال) بمعنى الطين الخبيث الرائحة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأشهر والأعرف.

٣٨٢

«فخار» من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفخر كثيرا ، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والادّعاء عن أنفسهم ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكلّ إناء من الطين أو «الكوز» ، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي يولّدها(١) .

ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق الإنسان ، أنّه كان من التراب ابتداء ، قال تعالى :( فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ) .(٢) ثمّ خرج مع الماء وأصبح طينا.( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) .(٣) ثمّ أصبح بصورة طين خبيث الرائحة( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) .(٤) ثمّ أصبح مادّة في حالة لاصقة ،( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) (٥) ومن ثمّ يتحوّل إلى حالة يابسة ويكون من( صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ) كما ذكر في الآية مورد البحث.

هذه المراحل كم تستغرق من الوقت؟ وكم هي المدّة التي يتوقّف فيها الإنسان في كلّ مرحلة من هذه المراحل؟ ، وفي أي ظروف تحدث هذه التطوّرات؟

هذه المسائل خفيت عن علمنا وإدراكنا ، والله وحده هو العالم بها فقط.

ومن الواضح أنّ هذه التعابير تبيّن حقيقة ترتبط ارتباطا وثيقا مع الأمور التربوية للإنسان ، حيث أنّ المادّة الأوّلية في خلق الإنسان هي مادّة لا قيمة لها ، ومن أحقر المواد على الأرض ، إلّا أنّ الله تعالى قد خلق من تلك المادّة الحقيرة مخلوقا ذا شأن ، بل يمثّل قمّة المخلوقات على وجه الأرض ، حيث أنّ القيمة الواقعيّة للإنسان هي الروح الإلهية (النفخة الربّانية) فيه ، والتي ذكرت في الآيات

__________________

(١) المفردات للراغب.

(٢) الحجّ ، ٥.

(٣) الأنعام ، ٢.

(٤) الحجر ، ٢٨

(٥) الصافات ، ١١.

٣٨٣

القرآنية الاخرى (كما في سورة الحجر) وذلك ليعرف الإنسان قيمته الحقيقيّة في عالم الوجود ويسير في طريق التكامل على بيّنة من أمره.

ثمّ يتطرّق سبحانه لخلق الجنّ حيث يقول :( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) .

«مارج» في الأصل من (مرج) على وزن (مرض) بمعنى الاختلاط والمزج ، والمقصود هنا اختلاط شعل النيران المختلفة ، وذلك لأنّ النيران أحيانا تكون بألوان مختلفة الأحمر ، الأصفر ، الأزرق ، وأخيرا اللون الأبيض.

ويقول البعض : إنّ معنى التحرّك موجود فيها أيضا ، وذلك من (أمرجت الدابة) يعني (تركت الحيوان في المرتع) لأنّ أحد معاني «المرج» هو المرتع.

ولكن كيف خلق الجنّ من هذه النيران المتعدّدة الألوان؟ هذا ما لم يعرف بصورة دقيقة ، كما أنّ الخصوصيات الاخرى عن هذا المخلوق ، قد بيّنت لنا عن طريق الوحي الربّاني وكتاب الله الكريم ، ولكن محدودية معلوماتنا لا تعني السماح لنا أبدا بإنكار هذه الحقائق أو تجاوزها ، خاصّة بعد ما ثبتت عن طريق الوحي الإلهي.

(وسيكون لنا إن شاء الله شرح مقصّل حول خلق الجنّ وخصوصيات هذا المخلوق في تفسير سورة الجنّ).

وعلى كلّ حال ، فإنّ أكثر الموجودات التي نتحدّث عنها هي : الماء والتراب والهواء والنار ، سواء كانت هذه الموجودات عناصر بسيطة كما كان يعتقد القدماء ، أو مركّبة كما يعتقد العلماء اليوم ، ولكن على كلّ حال فإنّ مبدأ خلق الإنسان هو الماء والتراب ، في حين أنّ مبدأ خلق الجنّ هو الهواء والنار ، وهذا الاختلاف في مبدأ خلقة هذين الموجودين مصدر اختلافات كثيرة بين هذين المخلوقين.

وبعد أن تحدّث عن النعم التي كانت في بداية خلق الإنسان يكرّر تعالى قوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

في الآية اللاحقة يستعرض نعمة اخرى حيث يقول سبحانه :( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ

٣٨٤

وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) .

بما أنّ الشمس في كلّ يوم تشرق من نقطة وتغرب من اخرى ، وبعدد أيّام السنة لها شروق وغروب ، ولكن نظرا للحدّ الأكثر من الميل الشمالي للشمس والميل الجنوبي لها ، ففي الحقيقة أنّ للشمس مشرقين ومغربين والبقيّة بينهما(١) .

إنّ هذا النظام الذي هو سبب وجود الفصول الأربعة له فوائد وبركات كثيرة ، ويؤكّد ويكمّل ما مرّ بنا في الآيات السابقة ، وذلك لأنّ الحديث كان عن حساب سير الشمس والقمر ، وكذلك عن وجود الميزان في خلق السماوات ، وإجمالا فإنّه يبيّن النظام الدقيق للخلقة وحركة الأرض والقمر والشمس ، وكذلك فإنّه يشير إلى النعم والبركات التي هي موضع استفادة الإنسان.

ويرى البعض أنّ المقصود بالمشرقين والمغربين هو طلوع وغروب الشمس ، وطلوع وغروب القمر ويعتبرون هذا هو المناسب لتفسير الآية الكريمة( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ) إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب ، خصوصا وأنّ الرّوايات الإسلامية قد أشارت إلى ذلك.

ومن جملة هذه الرّوايات حديث لأمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية حيث يقول : «إنّ مشرق الشتاء على حدة ، ومشرق الصيف على حدّه ، أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟»(٢) .

ويتّضح بذلك معنى قوله تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) ،(٣)

__________________

(١) توضيح : لما كان محور الأرض مائلا بالنسبة لسطح مدارها وبشكل زاوية بحدود ٢٣ درجة ، والأرض بهذه الصورة تدور حول الشمس ، لذا فإنّ شروق الشمس وغروبها متغيّر دائما أيضا كما يبدو من ٢٣ درجة والتي تمثّل أعظم الانحراف باتّجاه الشمال (في بداية الصيف) إلى ٢٣ درجة في قمّة الانحراف باتّجاه الجنوب (بداية الشتاء) ، ويسمّى المدار الأوّل لها مدار «رأس السرطان» والمدار الثاني مدار «رأس الجدي» ، وهذان هما مشرقا ومغربا الشمس ، وبقيّة المدارات في داخل هذين المدارين.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٠ (المقصود هو ارتفاع الشمس في السماء في فصل الصيف ونزولها في فصل الشتاء).

(٣) المعارج ، ٤٠.

٣٨٥

حيث يشير هنا إلى جميع مشارق ومغارب الشمس على طول أيّام السنة. في الوقت الذي تشير الآية مورد البحث إلى نهاية القوس الصعودي والنّزولي لها فقط.

وعلى كلّ حال فإنّ الله تعالى يؤكّد هذه النعمة بعد نعمة خلق الإنس والجنّ بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

٣٨٦

الآيات

( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) )

التّفسير

البحار وذخائرها الثمينة :

استمرارا لشرح النعم الإلهيّة يأتي الحديث هنا عن البحار ، ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامّة ، بل عن كيفية خاصّة ومقاطع معيّنة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ ، بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع استفادة البشرية.

يقول تعالى :( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر :( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) .

مادّة (مرج) على وزن (فلج) بمعنى الاختلاط ، أو إرسال الشيء وتركه ، وهنا وردت بمعنى إرسال الشيء ووضعه جنبا إلى جنب بقرينة الآية :( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا

٣٨٧

يَبْغِيانِ ) .

المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح ، وذلك بالاستدلال بقوله تعالى :( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً ) .(١)

والتساؤل هنا عن مكان هذين البحرين اللذين لا يمتزجان مع بعضهما ، وما هو البرزخ الموجود بينهما؟ هناك كلام كثير بين المفسّرين حول هذه المسألة ، إلّا أنّ بعض التّفسيرات تدلّل على عدم اطّلاعهم على أوضاع البحار في ذلك الزمان ، منها أنّهم ذكروا أنّ المقصود من البحرين هما (بحر فارس وبحر الروم) في الوقت الذي نعلم أنّ ماء هذين البحرين مالح ، ولا يوجد بينهما برزخ.

أو قولهم : إنّ المقصود بذلك هو بحر السماء وبحر الأرض ، والذي يكون الأوّل عذبا والثاني مالحا ، في الوقت الذي نعلم أيضا بعدم وجود بحر في السماء باستثناء الغيوم والبخار التي يتبخّر من المحيطات.

وقالوا أيضا : إنّ المقصود من البحر العذب هو المياه التي تحت الأرض والتي لا تختلط مع مياه البحار ، والبرزخ الموجود بينهما هي جدران هذه الآبار.

في الوقت الذي نعلم أيضا أنّ الماء الموجود تحت الأرض أقلّ من أن يشكل بحرا.

نعم إنّ جزئيات الماء المخفية بين طبقات التراب والرمل تتجمّع تدريجيّا ، وتخرج عند ما يحفر بئر في نقطة معيّنة ، وهي كميّة محدودة بالإضافة إلى عدم وجود اللؤلؤ والمرجان فيها.

إذا ما هو المقصود من هذين البحرين؟

لقد أشرنا سابقا إلى هذه الحقيقة في تفسير سورة الفرقان ، وهي أنّ الأنهار

__________________

(١) الفرقان ، ٥٣.

٣٨٨

العظيمة ذات المياه العذبة عند ما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل بحرا من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف ، والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدّة طويلة بسبب اختلاف درجة الكثافة.

وتلاحظ هذه المناظر بوضوح عند السفر بالطائرة في المناطق التي تكون فيها هذه الظاهرة ، حيث المياه العذبة تمثّل بحرا منفصلا في داخل البحر المالح ومنفصلة عنها ، وعند ما تمتزج أطراف هذين البحرين فإنّ المياه العذبة الجديدة تأخذ مكانها بحيث أنّ هذين البحرين منفصلان على الدوام بشكل ملفت للنظر.

والظريف هنا ما يحصل في حالة (مدّ البحر) فبارتفاع سطح المحيط إلى الأعلى ، فإنّ المياه العذبة ترجع إلى الداخل دون أن تختلط مع المياه المالحة ـ باستثناء سنوات الجدب التي تنعدم فيها الأمطار ويشحّ الماء ـ وتغطّي قسما من اليابسة ، لذلك فكثيرا ما تستثمر هذه الحالة بإيجاد أنهار وقنوات في المناطق الساحلية حيث تسقى بهذه الطريقة الكثير من الأراضي الزراعية.

إنّ هذه الأنهر توجد ببركة وحركة (المدّ والجزر) الساحليتين وتأثيرهما على مياه هذه الأنهار التي تمتلئ وتفرغ مرّتين في كلّ يوم بالماء العذب ، ممّا يتيح فرصة طيّبة لسقي مناطق واسعة من الأراضي الزراعية.

ويوجد تفسير رائع آخر لهذين البحرين ، حيث قالوا : إنّ المقصود منهما يحتمل أن يكون ظاهرة (كلف استريم) والذي سيأتي شرحها في آخر هذه الآيات إن شاء الله.

ومرّة اخرى يخاطب الله تعالى عباده في معرض حديثه عن هذه النعم حيث يسألهم سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

واستمرارا لهذا الحديث يقولعزوجل :( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

اللؤلؤ والمرجان : وسيلتان للتجميل والزينة ، ويستفاد منهما أيضا في معالجة

٣٨٩

بعض الأمراض ، كما أنّهما ثروة تجارية أيضا ووسيلة جيّدة للربح الوفير ، ولهذه الموارد أشير إليهما كنعمتين إلهيتين للعباد.

أمّا «اللؤلؤ» فهو حبّة شفّافة ثمينة تنمو في داخل الصدف في أعماق البحار ، وكلّما كبر حجمها زاد ثمنها ، ولها استعمالات واسعة في الطبّ ، حيث كان الأطباء سابقا يستحضرون منها بعض الأدوية التي تفيد في تقوية القلب والأعصاب ، وعلاج أنواع الخفقان وتقوية الكبد وعلاج اليرقان ، ومعالجة الخوف والوحشة ، ورفع الرائحة النتنة من الفمّ ، وكذلك الحصى في الكلية ولمثانة ، ويستفاد منهما أيضا في علاج بعض أمراض العين.

«المرجان» : فسّر البعض المرجان بأنّه اللؤلؤ الصغيرة ، إلّا أنّه في الحقيقة شيء آخر ، فهو كائن حيّ يشبه الغصن الصغير للشجرة ، وينشأ في أعماق البحار ، وكان العلماء يتصوّرون لفترة زمنية أنّ هذه الشجرة نوع من أنواع النباتات ، إلّا أنّه اتّضح فيما بعد أنّه نوع من الحيوانات ، بالرغم من أنّه يلتصق بالصخور الموجودة في أعماق البحر ويغطّي مساحات واسعة أحيانا وينمو تدريجيّا بحيث يشكّل جزرا تعرف بالجزر المرجانية ، وينمو المرجان غالبا في المياه الراكدة ، ويصطاده الصيادون من سواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسّط وفي مناطق اخرى.

وأفضل أنواع المرجان الذي يستعمل للزينة هو المرجان ذو اللون الأحمر ، وكلّما كان احمراره أشدّ كانت قيمته أغلى وأثمن ، وهو مادّة خصبة لتشبيهات الشعراء ، كما أنّ أردأ أنواع المرجان هو المرجان الأبيض ويوجد بكثرة ، وما بين النوعين هو المرجان الأسود.

وإضافة إلى استعمال المرجان كحليّ وزينة ، فإنّ له استعمالات طبيّة حيث ذكروا له خواصا كثيرة منها أنّه يصنع منه بعض الأدوية الخاصّة بتقوية القلب ، وكذلك دفع سمّ الأفعى ، وتقوية الأعصاب ، ومعالجة الإسهال ، ونزيف الرحم ،

٣٩٠

وعلاج الصرع(١) .

والنقطة الاخرى التي يجدر بنا ذكرها هنا أنّ بعض المفسّرين صرّحوا بأنّ اللؤلؤ والمرجان ينشآن فقط في المياه المالحة ، ممّا أوقعهم في إشكال في تفسير الآية( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) فذهبوا إلى أنّ المقصود هو أحدهما كما في الآية (٣١) من سورة الزخرف.

إلّا أنّ مثل هذا التّفسير لا يدعمه دليل ، حيث صرّح البعض بأنّ اللؤلؤ والمرجان يعيشان في الماء العذب والمالح على السواء.

واستمرارا لهذا القسم من النعم الإلهيّة يشير سبحانه إلى موضوع (السفن) التي هي في الحقيقة أكبر وأهمّ وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي والحاضر ، حيث يقول سبحانه :( وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ) .

«جوار» : جمع جارية ، وهي وصف للسفن ، وحذفت للاختصار لأنّ التركيز الأكثر كان على سير وحركة السفن ، لذا اعتمد هذا الوصف.

كما تطلق جارية على (الأمة) ، وذلك بسبب حركتها وسعيها في إنجاز الأعمال والخدمات ، وتطلق أيضا على الفتيات الشابّات وذلك لجريان النشاط فيهنّ.

«منشآت» جمع (منشأ) وهو اسم مفعول من (إنشاء) بمعنى إيجاد ، والظريف هنا أنّه في الوقت الذي يعبّر عن «منشآت» والتي تحكي أنّها مصنوعة بواسطة الإنسان ، يقول سبحانه (وله) أي لله تعالى وهو إشارة إلى أنّ جميع الخواص التي يستفاد منها في صناعة السفن ، والتي منحها الله للبشر المخترعين لهذه الصناعة هي لله ، وكذلك فانّه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوّة للرياح ، وأنّ الله تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلّقة بالسفيّنة ، وهذا ما عبّر

__________________

(١) دائرة المعارف فريد وجدي وكتب اخرى.

٣٩١

عنه القرآن الكريم بالتسخير أيضا ، حيث يقول سبحانه :( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) .(١)

وفسّر البعض «منشأ» من مادّة (إنشاء) بمعنى ارتفاع الشيء ، واعتبروها إشارة إلى أشرعة السفن التي تستخدم كقوّة في حركة السفينة ، وذلك بسبب دفع الرياح لها.

«أعلام» : جمع (علم) على وزن (قلم) ، بمعنى (جبل) بالرغم من أنّها في الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن شيء معيّن ، ولأنّ الجبال تكون واضحة من بعد فإنّه يعبّر عنها بـ (العلم) كما أنّ لفظة (علم) تطلق أيضا على «الراية».

وبهذا فإنّ القرآن الكريم نوّه هنا بالسفن الكبيرة التي تتحرّك على سطح المحيطات والبحار ، وعلى خلاف ما يتصوّره البعض فانّ السفن الكبيرة لا تختص بعصر الماكنة والبخار ، بل لقد استفاد اليونانيون وغيرهم من السفن الكبيرة في نقل قواتهم وجيوشهم.

ومرّة اخرى يكرّر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

بحوث

١ ـ البحر مركز النعم الإلهيّة

لا حظنا في هذا القسم من الآيات إشارة إلى البحر وأهميّته في الحياة البشرية ، وكما نعلم فإنّ مياه البحار والمحيطات تشكّل ثلاثة أرباع سطح الكرة

__________________

(١) إبراهيم ، ٣٢.

٣٩٢

الأرضية ، وهي منبع عظيم للمواد الغذائية ، والطبية ، وأدوات الزينة ، ووسيلة مهمّة لنقل البشر وحمل البضائع ، والأهمّ من ذلك فإنّ نزول الأمطار واعتدال الهواء ، وحتّى قسم من هبوب الرياح هي من بركات البحار ، فإذا كان سطح البحار أقلّ أو أكثر ممّا هو عليه ، فإنّ الكرة الأرضية إمّا أن تصبح يابسة أو رطبة لدرجة لا يمكن العيش فيها.

لذلك نرى أنّ القرآن الكريم قد ذكّر الإنسان ـ لعدّة مرّات وبتعبيرات مختلفة بهذه النعمة العظيمة ، ودعاه للتفكير بها ، حيث يقول سبحانه :( سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ ) الجاثية.

ويقول مرّة اخرى :( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ ) إبراهيم.

وقال سبحانه :( سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) الحجّ.

وإذا تجاوزنا كلّ ذلك فإنّ البحر هو دار العجائب حيث فيه أصغر النباتات المجهرية ، وكذلك أطول أشجار العالم ، وفيه أيضا أصغر الحيوانات وكذلك أعظمها وأضخمها.

كما أنّ الحياة في أعماق البحار حيث لا ضوء ولا غذاء عجيبة إلى درجة أنّ الشخص لا يملّ من مطالعتها والاطلاع عليها ، وكلّما تعرف الإنسان على شيء منها إزداد شغفا بها ، والعجيب أيضا أنّ قسما من الحيوانات هنالك تشعّ أضواء وتصنع مادّتها الغذائية على سطح البحر ومن ثمّ تترسّب ، كما أنّ أطرافها محكمة ومقاومة إلى درجة أنّها تتحمّل ضغط الماء العظيم الذي إذا وضع الإنسان في حالته الطبيعيّة هناك فانّ عظامه تتحوّل إلى طحين.

٢ ـ الأنهار البحرية العظيمة والكلف استيرين

من العجائب الموجودة في محيطات العالم هو وجود أنهار عظيمة وتيارات بحرية كبيرة ، وأقوى هذه الأنهار يسمّى (گلف استيرين). إنّ هذا النهر العظيم

٣٩٣

يتحرّك من سواحل أمريكا المركزية ويسير في جميع المحيط الأطلسي حتّى يصل إلى سواحل أوروبا الشمالية.

والمعروف أنّ مياهه التي تسير من مناطق قريبة من خطّ الإستواء تكون حارة بل حتّى أنّ لونها يختلف عن لون المياه المجاورة ، والعجيب أنّ عرض هذا النهر البحري العظيم (الكلف استيرين) بحدود (١٥٠) كم ، كما أنّ أعمق نقطة فيه تبلغ مئات الأمتار ، وسرعته في بعض المناطق شديدة بحيث تبلغ في اليوم الواحد بـ ١٦٠ كم.

إنّ اختلاف درجة حرارة هذا النهر مع المياه المجاورة بحدود ١٠ ـ ١٥ درجة مئوية ، لذا فإنّ ساحله الغربي يسمّى بالجدار البارد.

والكلف أستيرين يسبّب رياحا حارّة ويدفع قسما كبيرا من حرارته باتّجاه مدن أوروبا الشمالية ، حيث يؤثّر على مناخ تلك البلدان بحيث يكون معتدلا للغاية ، ويحتمل أن يكون العيش صعبا للغاية في هذه المناطق لو لم يوجد هذا المجرى العظيم.

ونكرّر مرّة اخرى أنّ (الكلف استيرين) هو أحد الأنهار في المحيطات ، وهناك أنهار اخرى كثيرة في بحار ومحيطات العالم.

إنّ السبب الأساس في تكوين هذه الأنهار البحرية هو اختلاف حرارة المنطقة الإستوائية والمناطق القطبية والتي توجد هذه الحركة في مياه البحار.

ويمكن استيعاب هذا الموضوع بتجربة بسيطة :

فإذا كان لدينا ماء في وعاء كبير ، ووضعنا في جانب منه قطعة ثلجية ، وفي الجهة الاخرى قطعة حديدية حارّة ، ووضعنا على سطح الماء قليلا من التبن ، فإنّنا سنلاحظ ظهور حركة على سطح الماء حيث يتحرّك الماء ببطء من المنطقة الحارّة باتّجاه المنطقة الباردة.

إنّ مثل هذه الحالة تحصل في كلّ بحار العالم ، وهي مصدر ظهور هذه الأنهار

٣٩٤

البحرية.

والعجيب أنّ هذه الأنهار العظيمة لا تمتزج مع المياه حولها إلّا قليلا ، وتسير آلاف الكيلومترات على هذه الصورة ، وبذلك تعبّر عن مصداقية الآية الكريمة( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) .

والملفت للنظر أنّ في نقطة التقاء هذه المياه الحارّة مع المياه الباردة ، تحدث ظاهرة مفيدة جدّا للإنسان ، وهي حدوث حالة من الإغماء أو الموت الجماعي للحيوانات المجهرية المعلّقة في الماء وذلك في نقطة التماس والالتقاء بين المياه الحارّة والمياه الباردة وبهذا تتوفّر في هذه المناطق مواد غذائية كثيرة لا حصر لها وتكون سببا في جذب قطعان الأسماك الكبير ، حيث يقصد الصيادون هذه المناطق للاستفادة من صيد هذه الحيوانات ، وتعتبر هذه المنطقة من أفضل المناطق في العالم لصيد الأسماك(١) .

وهذا يمثّل أحد التفاسير للآيات أعلاه ، وهو لا يتنافى مع التفاسير الاخرى ، ولذا يمكن الجمع بينهما.

٣ ـ تفسير من أعماق الآيات

نقل في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) أنّه قال : «وعلي وفاطمةعليهما‌السلام بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه.( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) قال : الحسن والحسين»(٢) .

ونقل هذا المعنى عن بعض أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الدرّ المنثور(٣) .

ونقله العلّامة الطبرسي في مجمع البيان مع اختلاف يسير.

__________________

(١) دائرة المعارف (الثقافية) ج ١٢ ص ١٢٢٨ ، وكذلك مجلة الميناء والبحر عدد ٤ ص ١٠٠ بالإضافة إلى مصادر اخرى.

(٢) تفسير القمّي ، ج ٢ ، ص ٣٤٤.

(٣) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٤٢.

٣٩٥

ومن هنا نعلم أنّ القرآن الكريم له بطون ، وأنّ آية واحدة يمكن أن تكون لها معان متعدّدة بل عشرات المعاني. والتّفسير الأخير هو من بطون القرآن ، ولا يتنافى مع المعاني الظاهرية له.

٣٩٦

الآيات

( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) )

التّفسير

كلّ شيء هالك إلّا وجهه :

استمرارا لشرح النعم الإلهيّة ، في هذه الآيات يضيف سبحانه قوله :( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ) وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟

وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي : يمكن ألّا يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق ، وإنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة ، والجسر الذي لا بدّ منه للوصول إلى دار الخلد ، بلحاظ أنّ الدنيا بكلّ نعمها هي سجن المؤمن ، والخروج منها هو التحرر من هذا السجن المظلم.

أو أنّ النعم الإلهيّة الكثيرة ـ المذكور سابقا ـ يمكن أن تكون سببا لغفلة البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير

٣٩٧

ذلك. ممّا يستلزم تحذيرا إلهيّا للإنسان ، بأنّ هذه الدنيا ليست المستقّر ، فالحذر من التعلّق بها ، ولا بدّ من الاستفادة من هذه النعم في طاعة الله إنّ هذا التنبيه والتذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة.

الضمير في (عليها) يرجع إلى الأرض التي ورد ذكرها في الآيات السابقة ، بالإضافة إلى القرائن الاخرى الموجودة ، لذا فهو واضح.

كما أنّ المقصود( مَنْ عَلَيْها ) هم الجنّ والإنس مع العلم أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ الحيوانات والكائنات الحيّة جميعا مشمولة بهذا المعنى.

وبما أنّ كلمة (من) تستعمل غالبا للعاقل ، لذا فالمعنى الأوّل هو الأنسب.

صحيح أنّ مسألة الفناء لا تنحصر بالإنس والجنّ فقط ، ولا تختّص بالكائنات الموجودة على الأرض فحسب ، حيث يصرّح القرآن الكريم بأنّ أهل السماء والأرض جميعا يفنون ، وذلك في قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) ،(١) ولكن لمّا كان الحديث يدور حول أهل الأرض ، لذا فهم المقصودون.

ويضيف في الآية اللاحقة قوله سبحانه :( وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

«وجه» معناه اللغوي معروف وهو القسم الأمامي للشيء بحيث يواجهه الإنسان في الطرف المقابل ، واستعمالها بخصوص لفظ الجلالة يقصد به (الذات المقدّسة).

فسّر البعض( وَجْهُ رَبِّكَ ) بمعنى الصفات الإلهية المقدّسة ، التي عن طريقها تنزل نعم وبركات الله على الإنسان كالرحمة والمغفرة والعمل والقدرة.

ويحتمل أن يكون المقصود هي الأعمال التي تنجز من أجل الله ، وبناء على هذا فالجميع يفنى ، والشيء الباقي هي الأعمال التي تنجز بإخلاص ولرضى الله

__________________

(١) القصص ، ٨٨.

٣٩٨

تعالى

إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

أمّا( ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) والذي هو وصف لـ (الوجه) فإنّه يشير إلى صفات الجمال والجلال لله سبحانه ، لأنّ( ذُو الْجَلالِ ) تنبّئنا عن الصفات التي يكون الله أسمى وأجلّ منها (الصفات السلبية). وكلمة «الإكرام» تشير إلى الصفات التي تظهر حسن وقيمة الشيء ، وهي الصفات الثبوتية لله سبحانه كعلمه وقدرته.

وبناء على هذا فإنّ معنى الآية بصورة عامّة يصبح كالآتي : إنّ الباقي في هذا العالم هو الذات المقدّسة لله سبحانه ، والتي تتّصف بالصفات الثبوتية والمنزّهة عن الصفات السلبية.

كما فسّر البعض أنّ (ذو الإكرام) هو إشارة إلى الألطاف والنعم الإلهية التي تفضّل الله بها وأكرمها لخاصّة أوليائه ، ومن الممكن الجمع بين هذه المعاني المختلفة للآية أعلاه.

ونقرأ في حديث أنّ رجلا كان يصلّي في محضر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث دعا الله سبحانه كذلك : «اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت المنّان ، بديع السماوات والأرض ، ذو الجلال والإكرام ، يا حيّ يا قيّوم».

فقال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : «أتدرون بأي اسم دعا الله؟» فقالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : «والذي نفسي بيده ، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى»(١) .

ثمّ يخاطب الخلائق مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ومضمون الآية اللاحقة في الحقيقة هي نتيجة للآيات السابقة ، حيث يقول

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ٩٥.

٣٩٩

سبحانه :( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع ويبقى وحده سبحانه ، وليس هذا في نهاية العالم فقط ، وإنّما الآن أيضا فانّ الكائنات فانية في مقابله وبقاءها مرتبط بمشيئته ، وإذا أعرض بلطفه فسيتلاشى الكون بأجمعه ، وعلى هذا فهل يوجد أحد سواه يطلب أهل السماوات والأرض قضاء حوائجهم منه ويسألونه تدبير شؤونهم؟!

التعبير بـ (يسأله) جاء بصيغة المضارع ، وهو دليل على أنّ السؤال والطلب في الكائنات ومستمر من الذات الإلهيّة المقدّسة ، والجميع يستلهمون من مبدأ فيضه ، ولسان حالهم يطلب الوجود والبقاء وقضاء الحوائج ، وهذا شأن الموجود الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط. وإنّما في البقاء أيضا.

ثمّ يضيف سبحانه :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

نعم إنّ خلقه مستمر ، وإجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع ، كما أنّ إبداعاته مستمرّة فيجعل الأقوام يوما في قوّة وقدرة ، وفي يوم آخر يهلكهم ، ويوما يعطي السلامة والشباب ، وفي يوم آخر الضعف والوهن ، ويوما يذهب الحزن والهمّ من القلوب وآخر يكون باعثا له. وخلاصة الأمر أنّه في كلّ يوم ـ وطبقا لحكمته ونظامه الأكمل ـ يخلق ظاهرة جديدة وخلقا وأحداثا جديدة.

والالتفات إلى هذه الحقيقة من جهة يوضّح احتياجاتنا المستمرّة لذاته المقدّسة ، ومن جهة اخرى فإنّه يذهب اليأس والقنوط من القلوب ، ومن جهة ثالثة فإنّه يلوي الغرور ويكسر الغفلة في النفوس.

نعم ، إنّه سبحانه له في كلّ يوم شأن وعمل.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكروا قسما من هذا المعنى الواسع تفسيرا للآية ، إلّا أنّ البعض ذكر في تفسيرها ، أنّها مغفرة الذنوب ، وذهاب الحزن ، وإعزاز أقوام وإذلال آخرين فقط.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430