الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد0%

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 320

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)
تصنيف:

الصفحات: 320
المشاهدات: 82721
تحميل: 7427

توضيحات:

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 82721 / تحميل: 7427
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف:
العربية

الازل في جهة [ من جهات ](١) العالم، لان ما هي عليه من الحجم والجثة يوجب ذلك.

ثم لا يخلو كونها في تلك الجهة اما أن تكون للنفس أو لمعنى قديم أو لمعنى محدث أو بالفاعل.

فاذا بين فساد جميع ذلك علم أنها لم تكن قديمة ولا يجوز أن تكون في الازل في جهة الفاعل، لان من شأن الفاعل أن يتقدم على فعله، ولو تقدم فاعلها عليها لكانت محدثة، لان القديم لا يمكن أن يتقدم عليه غيره، والمعنى المحدث لا يوجب صفة في الازل.

وكونها في الجهة للنفس يوجب استحالة انتقالها، لان صفات النفس لا يجوز تغيرها وزوالها، والمعلوم ضرورة صحة انتقالها، فبطل أن يكون كذلك للنفس.

ولا يجوز أن تكون كذلك لمعنى قديم، لانها لو كانت كذلك لوجب اذا انتقل الجسم أن يبطل ذلك المعنى، لان وجوده فيه على ما كان يوجب كونه في الجهتين، وذلك محال.

والانتقال لا يجوز على المعنى، لانه من صفات الجسم.

فقد بطل جميع الاقسام، وفي بطلان جميعها بطلان كونها قديمة وثبوت كونها محدثة، لانه لا واسطة بين الامرين على ما بيناه.

(وبيان الطريقة الثانية) أن نبين أربعة فصول: أحدها أن في الاجسام معان غيرها، والثاني أن نبين أن تلك المعاني محدثة، والثالث أن نبين أن الجسم لم يسبقها في الوجود، والرابع أن مالم يسبق المحدث يجب أن يكون محدثا.

والذي يدل على الفصل الاول: انا نعلم أن الجسم يكون على صفات من

___________________________________

(١) الزيادة من ج.

٢١

اجتماع وحركة فتتغير إلى أن يصير مفترقا وساكنا، فلابد من أمر غيره، لانه لو لم يكن أمر لبقي على ما كان عليه.

ولا يجوز أن يكون ذلك الامر نفس الجسم، ولا ما يرجع اليه من وجود أو حدوث أو جسمية، لان جميع ذلك يكون حاصلا مع انتقاله من جهة إلى غيرها، فكيف يكون هو المؤثر في تغير الصفات.

ولا يجوز أن يكون ذلك لعدم معنى، لان عدم معنى لا اختصاص له بجسم دون جسم ولا بجهة دون غيرها، وكان يجب أن تتغير الاجسام كلها وتنتقل إلى جهة تغيرها، وذلك باطل.

ولا يجوز أن يكون كذلك بالفاعل، لانه: ان أريد بذلك أنه فعل فيه معنى أوجب تغيره وانتقاله، فذلك وفاق وهو المطلوب.

وان أرادوا أن الفاعل جعله على هذه الصفات ولم يفعل معنى فذلك باطل، لان من شأن ما يتعلق بالفاعل من غير توسط معنى أن يكون القادر عليه قادرا على احداث تلك الذات.

ألا ترى أن من قدر على احداث كلامه قدر على أن يجعله على جميع أوصافه من أمر ونهي وخبر وغير ذلك، وكلام الغير لما لم يكن قادرا على احداثه لم يكن قادرا على جعله أمرا ونهيا وخبرا.

والواحد منا يقدر على أن يجعل الجسم متحركا أو ساكنا أو مجتمعا أو متفرقا ولا يقدر على احداثه، فدل ذلك على أن هذه الصفات غير متعلقة بالفاعل، فلم يبق بعد ذلك شئ يعقل الا أنه صار كذلك لمعنى.

والذي يدل على حدوث ذلك المعنى أن المجتمع اذا فرق أو المتحرك اذا سكن لا يخلوا أن يكون ذلك المعنى الذي كان فيه باقيا كما كان أو انتقل عنه أو عدم.

ولا يجوز أن يكون موجودا كما كان، لان ذلك يوجب كونه مجتمعا متفرقا متحركا ساكنا، لوجود المعنيين معا فيه في حالة واحدة، وذلك محال

٢٢

ولا يجوز أن يكون انتقل عنه، لان الانتقال من صفات الجسم دون العرض، ولانه لو انتقل لم يخلو اما أن يكون انتقل مع جواز ألا ينتقل أو وجب انتقاله.

ولو كان انتقاله جائزا لاحتاج إلى معنى كالجسم، وذلك يؤدي إلى اثبات معان لا نهاية لها، ولو وجب انتقاله لادى إلى وجوب انتقال الجسم، والمعلوم أن الجسم لا يجب انتقاله ان لم ينقله ناقل، فلم يبق من الاقسام الا أنه عدم.

ولو كان قديما لما جاز عدمه، لانه قديم لنفسه، وصفات النفس لا يجوز خروج الموصوف عنها.

ألا ترى أن السواد لا يجوز بياضا ولا الجوهر عرضا ولا الحركة اعتمادا وغير ذلك، لان هذه الاشياء على ما هي عليه لنفسها فلا يجوز عليها التغيير.

فلما ثبت عدمها على أنها لم تكن قديمة، واذا لم تكن قديمة وجب كونها محدثة.

والذي يدل على الفصل الثالث - وهو أن الجسم لم يخل منها هو أنه معلوم ضرورة أن الاجسام للعالم لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو متحركة أو ساكنة، فثبت بذلك أنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق.

ومن قال ان الاجسام كانت هيولى لا مجتمعة ولا مفترقة.

ربما أشار بذلك إلى أنها كانت معدومة فسماها موجودة، كما يقولون موجود بالقوة وموجود في العلم، وذلك عندنا ليس بوجود في الحقيقة.

ومتى أرادوا ذلك كان خلافا في العبارة لا يعتد به.

وأما الفصل الرابع فالعلم به ضرورة، لان من المعلوم ان كل ذاتين وجدا معا ولم تسبق احداهما الاخرى، فان حكمهما حكم واحد [ في الوجود ](١) ألا ترى انا اذا فرضنا ميلاد زيد وعمرو في وقت واحد فلا يجوز مع ذلك أن يكون أحدهما أسبق من الاخر لان ذلك متناقض، وكذلك اذا فرضنا أن الجسم

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

٢٣

لم يسبق المحدث ولم يخل منه علمنا أن حكمه حكمه في الحدوث.

وقول من قال: ان فيها معان لا نهاية له(١) شيئا قبل شئ لا إلى أول.

باطل لان وجود مالا نهاية له محال، لانه كان يصير من شروط وجود كل واحد منها أن يتقدم قبله مالا نهاية له، فلا يصح وجود شئ منها البتة، والمعلوم خلافه.

على أن القائل بذلك قد ناقض، لانه اذا قال انها محدثة اقتضى أن لها أولا، فاذا قال بعد ذلك لا أول لها اقتضى ذلك قدمها، وذلك متناقض.

وأيضا فاذا قال الجسم قديم أفاد ذلك وجوده في الازل، [ فاذا سلم أنه لا يخلو من معنى فقد أثبت فيه معنى في الازل](٢) ، والمعنى الموجود في الازل يكون قديما، فيكون في ذلك رجوع عن كونها محدثة.

أو يقول فيما لم يزل لم يكن فيها معنى فيكون فيها رجوع في أن الجسم لم يخل من معنى، وذلك فاسد.

فقد بان بهذه الجملة حدوث الاجسام، ثم تدل فيما بعد على ان لها صانعا يخالفها.

وأما الطريقة الثانية فهو أن نبين أن ههنا معان كالالوان والطعوم والقدرة والحياة والشهوة والنفار وكمال العقل، ونبين أن أحدا من المخلوقين لا يقدر على شئ منها، فيعلم عند ذلك أن صانعها مخالف لها.

وبيان ذلك: أن الواحد منا قد يدعوه الداعي إلى تبيض الاسود أو تسود الابيض أو يحيى ميتا أو يقدر عاجزا أو يكمل عقل من لا عقل له، وهو قادر متصرف غير ممنوع والدواعي متوفرة، ويبالغ في ذلك ويجتهد في تحصيله مع احتمال المحل لذلك فيتعذر ولا يتحصل لا لوجه معقول الا أنه ليس بمقدور له، فيعلم عند ذلك أن صانعها مخالف لها ومباين لنا، فيكون ذلك علما بالله

___________________________________

(١) كذا في النسختين ولعله « لا نهاية لها ».

(٢) الزيادة ليست في ر.

٢٤

على الجملة.

فاذا عرف بعد ذلك صفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه ومالا يجوز حصل علمه به على طريق التفصيل.

فصل: (في اثبات صانع العالم وبيان صفاته)

اذا ثبت حدوث الاجسام بما قدمنا، فالذي يدل على أن لها محدثا هو ما ثبت في الشاهد من أن الكتاب لابد لها من كاتب والبناء لابد له من بان والنساجة لابد لها من ناسج وغير ذلك من الصنائع.

وانما وجب ذلك فيها لحدوثها، فيجب أن تكون الاجسام اذا شاركتها في الحدوث أن تكون محتاجة إلى محدث.

فان قيل: كيف تدعون العلم بذلك وههنا من يخالف في ذلك ويقول الكتابة لا تعلق لها بالكاتب ولا البناء بالباني ولا غير ذلك من الصنائع، وهو الاشعري وأصحابه، لان عندهم أن هذه الصنائع لا كسب للعبد فيها وانما هي من فعل الله وحده.

قلنا: الاشعري لم يدفع حاجة البناء إلى بان ولا الكتابة إلى كاتب، وانما قال فاعلها هو الله تعالى دون العبد.

ونحن لم ندع العلم بحاجة هذه الافعال إلى فاعل معين بل ادعينا حاجتها إلى صانع ما في الجملة.

ثم هل هو القديم أو الواحد منا؟ موقوف على الدليل، ودليله هو أنه يجب وقوع هذه الافعال بحسب دواعينا وأفعالنا ويجب انتفاؤها بحسب صوارفنا وكراهتنا، فلو كانت متعلقة بغيرنا لما وجب ذلك، كما لا يجب ذلك في طولنا وقصرنا وخلقنا وهيأتنا لم لما تكن متعلقة بنا، فالوجوب الذي اعتبرناه يبطل تعلقها بغيرنا.

٢٥

فان قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك [ بالعادة دون أن يكون ](١) واجبا.

قلنا: ذلك فاسد من وجهين: أحدهما: ان ذلك يبطل الفرق بين الواجب والمعتادة، فيؤدي إلى أنه لا فرق بينهما، وان يقول قائل انتفاء السواد بالبياض بالعادة وحاجة العلم إلى الحياة بالعادة وغير ذلك من الواجبات، فبأي شئ فرقوا بينهما فهو فرقنا بين أن يكون ذلك واجبا أو معتادا.

الثاني: أنه لو كان ذلك بالعادة لوجب أن يكون من لا يعرف العادات ولا نشأ بين أهلها أن يجوز أن تبنى دار من قبل نفسها أو تنكتب كتابة طويلة بلا كاتب أو أن تنسج نساجة عجيبة من غير ناسج وغير ذلك.

والمعلوم خلاف ذلك، لانه لا يجوز مثل ذلك الا مؤف العقل فاسد التصور.

فان قيل: لو خلق الله تعالى عاقلا ابتداء‌ا، فشاهد قصرا مبنيا وكتابة هل كان يعلم أن لها بانيا وكاتبا أم لا، فان قلتم يعلم قلنا وأي طريق له إلى ذلك، وان قلتم لا يعلم بذلك فقد بطل ادعاؤكم العلم.

قلنا: من خلقه الله وحده ابتداء‌ا وشاهد الكتابة أو القصر فهو لا يعلمهما محدثين متجددين [ فلذلك لا يعلم لهما بانيا وكاتبا، فيحتاج أن يتأمل حالهما حتى يعلمهما محدثين متجددين ](١) ، فاذا علمهما متجددة الوجود علم تعلقهما بفاعل.

ونظير ذلك أن من شاهد الاجسام قبل النظر في حدوثها، فانه لا يعلم أن لها محدثا، فاذا تأمل وعلم حدوثها علم عند ذلك ان لها محدثا.

وانما قلنا ان علة حاجة هذه الحوادث الينا حدوثها لا غير لامرين: أحدهما: أن الذي يتجدد عند دواعينا حدوث

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٢٦

هذه الصنائع وينتفى عند صوارفنا حدوثها أيضا، فعلمنا أن علة حاجتها الينا حدوثها.

والثاني: أن هذه الاشياء لها ثلاثة أحوال: حال عدم، وحال حدوث، وحال بقاء.

فهي لا تحتاج الينا في حال عدمها، لكونها معدومة في الازل، وهي تستغني عني في حال بقائها، وانما تتعلق بنا وتحتاج الينا في حال حدوثها، فعلمنا بذلك أن علة حاجتها الينا الحدوث، فعند ذلك نحكم بحاجة الاجسام، اذا ثبت حاجة حدوثها إلى محدث للاشتراك في علة الحاجة.

وهذه الجملة كافية في هذا الباب، فان استيفاء ذلك ذكرناه في شرح الجمل، وفي هذا القدر كفاية انشاء الله تعالى.

وأما ما يجب أن يكون عليه من الصفات: فأول ذلك أنه يجب أن يكون قادرا، لان الفعل لا يصح أن يصدر الا من قادر.

ألا ترى أنا نجد فرقا بين من يصح منه الفعل وبين من يتعذر عليه ذلك، فلابد من أن يكون من صح منه الفعل مختصا بأمر ليس عليه من تعذر عليه ذلك والا تساويا في الصحة أو التعذر [ وقد علمنا خلافه ](١) .

وأهل اللغة من اختص بهذه المفارقة يسمونه قادرا، فأثبتت المفارقة لمقتضى العقل والتسمية لاجل اللغة، فاذا كان صانع العالم صح منه الفعل وجب أن يكون قادرا.

على أنا دللنا على أن أفعالنا محتاجة الينا دال على حاجتها إلى من له صفة المختارين، فاسنادها إلى من ليس له صفة المختارين في البطلان كبطلان اسنادها إلى مؤثر، وكلاهما فاسدان.

على أن صانع العالم لا يخلو من أن يكون قادرا مختارا أو موجبا هو علة أو سبب، ولا يجوز أن يكون علة ولا سببا، لانهما لا يخلو من أن يكونا قديمين أو محدثين، فلو كانا محدثين لاحتاجا إلى علة أخرى أو سبب آخر، وذلك يؤدي إلى مالا نهاية له من العلل والاسباب، وان كانا قديمين وجب أن يكون

___________________________________

(٢) الزيادة من ر.

٢٧

العالم قديما، لان العلة توجب معلولها في الحال والسبب يوجب المسبب اما في الحال أو الثاني، وكلاهما يوجبان قدم الاجسام وقد دللنا على حدوثها، فبطل بذلك أن يكون صانع العالم موجبا ولم يبق بعد ذلك الا أن يكون مختارا له صفة القادرين.

واذا ثبت كونه قادرا وجب أن يكون حيا موجودا، لان من المعلوم أن القادر لا يكون الا كذلك، فثبت أنه تعالى قادر حي موجود.

وأما الذي يدل على أنه عالم هو أن الاحكام ظاهر في أفعاله كخلق الانسان وغيره من الحيوان، لان فيه من بديع الصنعة ومنافع الاعضاء وتعديل الامزجة وتركيبها على وجه يصح معه أن يكون حيا لا يقدر عليه الا من هو عالم بما يريد فعله، لانه لو لم يكن عالما لما وقع على هذا الوجه من الاحكام والنظام ولاختلف في بعض الاحوال، ولما كان ذلك واقعا على حد واحد ونظام واحد واتساق واحد دل على أن صانعه عالم.

وكذلك خلقه الثمار في أوقات مخصوصة لا تختلف وفي كل شجر ما هو من جنسه وفي كل حيوان من شكله دال على أن خالق ذلك عالم، والا لكان يجوز أن يخلق الفواكه الصيفية في الشتاء والشتوية في الصيف، ويخلق في البهيمة من جنس ابن آدم أو في ابن آدم من جنس البهائم، أو يخلق في النخل نبقا وفي الرمان تفاحا وغير ذلك.

وفي علمنا بالمطابقة في هذا الباب دليل على أن صانعها عالم بما صنعه.

ألا ترى أن في المشاهد لا تقع الكتابة الا ممن هو عالم بها، ولا النساجة الا ممن هو عالم بترتيبها وكيفية ايقاعها، وغيره وان كان أقدر منه يتعذر عليه مثله لفقد علمه، والضعيف القليل القدر يصح منه ذلك لعلمه بكيفية ايقاعه.

واذا كان القدر اليسير من أفعالنا المحكمة لا تقع الا من عالم، فألا تقع

٢٨

الافعال التي أشرنا اليها الزائدة على احكام كل محكم أولى وأحرى، فثبت بذلك أن صانع العالم عالم.

ولا يجوز أن يكون بصفة الظانين ولا المعتقدين، [ لان الصنائع المحكمة تحتاج إلى من له صفة العالمين دون الظانين المعتقدين ](١) ، لانها تحتاج إلى أمر يلزم كمال العقل ولا يخرج عنه من ثبوت عقله، والظن والاعتقاد الذي ليس بعلم لا يوجب لزومه لكمال العقل.

فوجب من ذلك أن يكون صانع العالم عالما دون أن يكون ظانا أو معتقدا.

ويجب أيضا أن يكون مدركا للمدركات سميعا بصيرا، لان الحي الذي لا آفة به متى وجدت المدركات وارتفعت الموانع واللبس وجب أن يكون مدركا لها.

ألا ترى أن من كانت حواسه صحيحة ووجدت المرئيات وارتفعت الموانع واللبس وجب أن يكون رائيا لها، وكذلك اذا وجدت الاصوات وسمعه صحيح وجب أن يدركها ويفصل بين حاله وهو مدرك لها وبين أن لا يدركها.

وهذا الفرق لا يستند إلى كونه حيا، لانه كان حيا قبل ذلك ولم يجد نفسه كذلك ولا إلى كونه عالما لانه يكون عالما بها قبل ادراكها(٢) ولا يجد نفسه على هذه الحال.

ألا ترى أن الانسان يعلم الصوت بعد تقضيه ويعلمه أيضا قبل وجوده ولا يجد نفسه على مايجد عليه اذا أدركه، وكذلك المتألم يدرك الالام وان لم يعلمها.

فثبت بذلك أن الادراك غير العلم والحياة.

واذا كان القديم تعالى حيا والآفات والموانع لا تجوز عليه لانه ليس يرى بحاسة ووجدت المدركات وجب أن يكون مدركا لها.

وليس لواحد أن يقول: ان الواحد منا يدرك بمعنى هو ادراك، والمعنى ولا يجوز عليه تعالى، وذلك أن الادراك ليس بمعنى، وانما الواحد منا يدرك لكونه حيا، بدلالة أنه لو كان معنى لجا زأن يكون حيا وحواسه صحيحة

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

(٢) أضاف في ر هنا « وبعد انقضائها ».

٢٩

والموانع مرتفعة واللبس زائل ولو وجد المدركات فلا يدركها بأن لا يفعل فيه الادراك، وذلك يؤدي إلى السفسطة والشك في المشاهدات وأن لا يثق بشئ من المدركات، وما أدى إلى ذلك يجب أن يكون باطلا.

ويجب أيضا أن يكون سميعا بصيرا، لانه حي لا آفة به.

وفائدة السميع البصير أنه على صفة يجب معها أن يسمع المسموعات ويبصر المبصرات، وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به.

وعلى هذا يوصف تعالى بذلك في الازل ولو كان له بكونه سميعا بصيرا صفة زائدة على ما قلناه لجاز أن يكون الواحد منا حيا لا آفة به ولا يوصف بأنه سميع بصير، والمعلوم خلاف ذلك.

وأما سامع مبصر فمعناه أنه مدرك للمسموعات والمبصرات، وذلك يقتضي وجود المسموعات والمبصرات، ولذلك لا يوصف بهما في الازل.

وأما شام وذائق فليس المراد بهما كونه مدركا، بل المستفاد بالشام أنه قرب الجسم المشموم إلى حاسة شمه، والذائق أنه قرب الجسم المذوق إلى حاسة ذوقه.

ولذلك يقولون شممته فلم أجد له رائحة، وذقته فلم أجد له طعما ولا يقولون أدركته فلم أدركه لانه مناقضة، وجرى مجرى قوله أصغيت اليه فلم أسمعه، فهاتان يكون؟ سبب الادراك على وجه دون أن يكون نفس الادراك.

ويجب أيضا أن يكون تعالى مريدا وكارها، لانه ثبت أنه آمر وناه ومخبر والامر لا يقع الا ممن هو مريد للمأمور به، والنهي لا يقع نهيا الا مع كراهية المنهي عنه، والخبر لا يقع خبرا الا بارادة كونه خبرا.

بدلالة أن هذه الصيغ كلها توجد فيما ليس بأمر ولا نهي ولا خبر.

٣٠

ألا ترى أن قوله تعالى( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ ) (١) وقوله تعالى( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) (٢) بصورة لامر والمراد به التهديد، وقوله تعالى( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) (٣) صورته صورة الامر والمراد به التحدي، وقوله تعالى( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) (٤) المراد به الاباحة.

ونظائر ذلك كثيرة جدا، فلا يمكن مع ذلك أن يكون آمرا لجنسه ولا لصيغته ولا لحدوثه، لان جميع ذلك يوجد فيما ليس بأمر، فلم يبق الا أنه يكون آمرا لارادة المأمور به.

والكلام في النهي والخبر مثل ذلك.

وأيضا فقد ثبت أنه تعالى خلق الخلق ولا بد أن يكون له فيه غرض، لانه ان لم يكن له فيه غرض كان عبثا، وذلك لا يجوز عليه.

ولا يجوز أن يكون خلقهم لنفع نفسه، لان ذلك لا يجوز عليه، لانا سنبين استحالة المنافع عليه.

فلم يبق الا أنه خلق الخلق لمنافعهم، ومعناه أنه أراد نفعهم بذلك، فثبت بذلك أنه مريد.

ويجب أن يكون تعالى قديما موجودا في الازل، لانه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث، والكلام في محدثه كالكلام فيه، فكان يؤدي إلى محدثين ومحدثي المحدثين إلى مالا نهاية له، وذلك فاسد.

وأيضا فانه فاعل الاجسام والاعراض المخصوصة من الالوان والطعوم وغيرهما، والمحدث لا يصح منه فعل الجسم ولا هذه الاعراض المخصوصة، فوجب أن يكون من صحت فيه قديما.

وانما كان كذلك لان المحدث لا يكون

___________________________________

(١) سورة الاسراء: ٦٤.

(٢) سورة فصلت: ٤٠.

(٣) سورة البقرة: ٢٣.

(٤) سورة المائدة: ٢.

٣١

قادرا الا بقدرة، والقدرة لا يصح بها فعل الاجسام.

وانما قلنا « ان المحدث لا يصح أن يكون قادرا لنفسه » لانه لو جاز أن يكون الجسم قادرا لنفسه لوجب أن تكون الاجسام كلها قادرة لنفسها لانها متماثلة، والمعلوم خلاف ذلك.

وانما قلنا « ان القدرة لا يقع بها فعل جسم » لانا لو اجتهدنا كل الجهد أن نوجد جسما أو جوهرا لتعذر ذلك، ولا وجه لتعذره الا أنه غير مقدور لنا وبذلك نفصل بين ما هو مقدور لنا وبين ماليس بمقدور لنا.

فبان بذلك أن من صح منه الجسم لا يكون الا قديما ولا يكون محدثا. وهو تعالى متكلم.

والطريق الذي يعلم كونه متكلما السمع، لان العقل لا يدل عليه، وانما يدل على أنه قادر على الكلام، لانه جنس من الافعال وهو قادر على جميع الاجناس.

وقد أجمع المتكلمون على أنه تعالى متكلم لا خلاف بينهم، واجماعهم حجة.

ومعلوم أيضا من دين النبي عليه السلام أنه تعالى متكلم، وان هذا القرآن كلام الله تعالى.

فان قيل: السمع مستند إلى قول النبي عليه السلام، والنبي بأي شئ يعلم أنه متكلم؟ فان قلتم بسمع آخر أدى إلى مالا نهاية له من المستمعين، أو ينتهى إلى مسمع علم عقلا أنه متكلم، والا فما الجواب؟ قيل: لا يمتنع أن يعلم النبي كونه متكلما بكلام يسمعه يتضمن بأنه كلام الله، ويقترن بذلك علم معجز، فيقطع على ذلك أنه كلامه وأنه متكلم.

ويمكن أيضا أن يخلق الله تعالى فيه العلم الضروري بأنه ليس بكلام أحد من المخلوقين وقد تقرر في عقله أن المحدث لابد أن يكون له محدث، فيعلم عند ذلك أنه كلامه القديم، لانه لا واسطة بين القديم والمحدث، واذا بطل انه كلام محدث ثبت أنه كلام قديم.

٣٢

فصل: (في كيفية استحقاقه لهذه الصفات)

يجب أن يكون تعالى قادرا في الازل، لانه لو تجدد كونه قادرا بعد أن لم يكن كذلك وجب أن يكون قادرا بقدرة، لان شرط صحة كونه قادرا عدم المقدور، وهو حاصل في الازل.

ولو كان قادرا بقدرة وجب أن تكون تلك القدرة محدثة، لانها لو كانت قديمة لوجب كونه قادرا في الازل، ولو كانت محدثة لوجب أن يكون من فعله، اذا المحدث لابد له من محدث، ولو كانت من فعله لوجب أن يكون قادرا قبل ايجادها، لان الفعل لا يصدر الا من قادر.

وعلى هذا المذهب هو تعالى لا يكون قادرا الا بعد وجود القدرة، فيتعلق كونه قادرا بوجود القدرة ووجود القدرة بكونه قادر، فلا يصح واحد من الامرين.

وذلك باطل، لانا علمنا خلاف ذلك.

واذا ثبت كونه قادرا في الازل وجب أن يكون قادرا لنفسه، لانه لا يمكن استناد ذلك إلى الفاعل والقدرة المحدثة، لان ما يتعلق بالفاعل من شرطه تقدم الفاعل عليه، وذلك لا يصح في الحاصل في الازل.

والقدرة المحدثة لا توجب صفة في الازل، لان معلول العلة لا يتقدمها.

ولا يجوز أن يكون قادرا بقدرة قديمة، لانه كان يجب أن تكون تلك القدرة مثلا له ومشاركة له في جميع صفاته، وهو تعالى مشارك للقدرة في جميع صفاتها لاشتراكهما في القدم الذي هو صفة النفس، والاشتراك في صفة النفس توجب التماثل، كماأن ما شارك السواد في كونه سوادا كان سوادا،

٣٣

وما شارك الجوهر في كونه جوهرا كان جوهرا.

وكان يجب من ذلك أن يكون تعالى بصفة القدرة والقدرة بصفة القادر، وذلك باطل، فلم يبق الا أنه قادر لنفسه.

وبمثل ذلك يعلم [ أنه عالم لنفسه، لانه لو تجدد ](١) كونه عالما بعد أن لم يكن لوجب أن يكون عالما بعلم محدث، اذ لا شرط يقف كونه عالما عليه، لان المعدوم يصح العلم به كما يصح بالموجود، بدلالة أنا نعلم ما كان أمس ونعلم ما يكون في الغد، وكل ذلك معدوم.

ولو كان عالما بعلم محدث لوجب أن يكون من فعله، اذ لا أحد يقدر ان يفعل علما لا في محل لو صح وجود غيره، ولو كان هو الفاعل له لوجب ان يتقدم او لا كونه عالما، لان العلم لا يقع الا من عالم، لان جميع الوجوه التي يقع الاعتقاد عليها فيكون علما يتقدم أو لا كون فاعله عالما، وذلك يؤدي إلى تعلق كونه عالما بوجود العلم ووجود العلم بكونه عالما.

واذا ثبت بذلك كونه قادرا عالما بنفسه لوجب أن يكون قادرا على جميع الاجناس ومن كل جنس على مالا يتناهى، لانه لا مخصص له بقدر دون قدر.

ويجب مثل ذلك في كونه عالما أن يكون عالما بجميع المعلومات، اذ لا مخصص له ببعضها دون بعض، فيجب من ذلك كونه عالما قادرا على مالا يتناهى.

واذا ثبت كونه قادرا عالما في الازل وجب كونه حيا موجودا في الازل، اذ القادر العالم لابد أن يكون حيا موجودا.

ويجب أن يكون موصوفا بأنه سميع بصير في الازل، لانه يفيد كونه على صفة يجب أن يدرك المسموعات والمبصرات اذا وجدت، وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به.

ولا يوصف بأنه سامع مبصر في الازل، لانهما يقتضيان وجود المسموعات

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٣٤

والمبصرات في الازل، ووجودهما في الازل محال لانهما محدثان، فلا يصح وجودهما في الازل.

وأما كونه مدركا فانه يتجدد له بعد أن لم يكن اذا وجدت المدركات، والمقتضي له كونه حيا، لان احدا متى حصل كونه حيا ووجدت المدركات وارتفعت الموانع المعقولة وجب أن يكون مدركا، ولو كان المقتضي غير كونه حيا لما وجب ذلك وقد علمنا وجوبه.

فأما كونه مريدا وكارها فيجب ان يحصلا له بارادة محدثة موجودة لا في محل، لانه لا يخلو أن يكون مريدا لنفسه او بارادة قديمة او محدثة فيه أو في غيره من جماد أو حيوان، أو موجودة لا في محل.

ولا يجوز أن يكون مريدا لنفسه، لانه كان يؤدي إلى أن يكون مريدا للشئ كارها له على وجه واحد في وقت واحد، لوجوب سماع صفات النفس.

وما به علمنا كونه مريدا علمنا كونه كارها، واجتماع الصفتين محال، لتضادهما ولانه كان يجب أن يكون مريدا لكل ما يصح حدوثه، فيجب من ذلك أن يكون مريدا للقبائح، وذلك صفة نقص يتعالى الله عن ذلك.

ولا يجوز أن يكون مريدا بارادة قديمة، لانه كان يجب أن تكون تلك الارادة مثلا له لمشاركتها له في القدم على ما بيناه في القدرة والعلم وقد بينا فساده.

ولا يجوز أن يكون مريدا بارادة قائمة به، لانه ليس بمتحيز والمعاني لا تقوم الا بالمتحيز.

ولو وجدت في غيره من الجماد استحال ذلك، لان الارادة يستحيل وجودها في الجماد.

ولو وجدت في حي لوجب أن تكون ارادة لذلك الحي، فلم يبق الا أنه يجب أن يكون مريدا بارادة توجد لا في محل.

فأما كونه متكلما فلا يكون الا بكلام محدث، لان حقيقة المتكلم من وقع

٣٥

منه الكلام الذي هو هذا المعقول بحسب دواعيه وأحواله.

والكلام المعقول ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة التي هي ثمانية وعشرون حرفا اذا وقع ممن يصح منه أو من قبله للافادة.

والدليل على ذلك أنه اذا وجدت هذه الحروف على هذا الوجه سمى كلاما، واذا اختل واحد من الشروط لا يسمى بذلك، فعلمنا أنه حقيقة الكلام متى وقع ما سميناه كلاما [ بحسب دواعيه ](١) واحواله سمي متكلما فعرفنا بذلك حقيقة المتكلم.

واذا ثبت حقيقة الكلام والمتكلم ثبت أن كلامه محدث، لان هذه الاضافة تقتضي ذلك.

وليس لاحد أن يقول: لو لم يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه متكلم يوصف بضده من الخرس والسكوت، وذلك أن الخرس انما هو فساد آلة الكلام [ والسكوت هو تسكين آلة الكلام ](٢) ، والله تعالى ليس بمتكلم بآلة فلا يوصف بشئ من ذلك.

ثم ذلك ينتقض بالصائح والصارخ، فانه لا يوصف بالخرس ولا بالسكوت ولا بالكلام، فبطل ما قالوه.

وينبغي أن يوصف كلام الله [ بما سماه الله ](٣) تعالى به من كونه محدثا، قال الله تعالى( مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ ) (٤) ، والذكر هو القرآن بدلالة قوله( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) (٥) وقوله( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٦)

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

(٢) الزيادة ليست في ر.

(٣) الزيادة من ر.

(٤) سورة الانبياء: ٢.

(٥) سورة النحل: ٤٤.

(٦) سورة الحجر: ٩.

٣٦

ولا يجوز أن يكون المراد به الرسول، لقوله( إِلَّا اسْتَمَعُوهُ ) والكلام هو الذي يصح استماعه دون الرسول، ويصفه بأنه مجعول كما قال( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) (١) ، ونعته بأنه منزل قال الله تعالى( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) وقال( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) ، ويوصف بأنه عربي كما قال( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (٢) والعربية محدثة.

ولا يوصف بأنه مخلوق، لانه يوهم أنه مكذوب أو مضاف إلى غير قائله لانه المعتاد من هذه اللفظة، قال الله تعالى( إِنْ هَـٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ) (٣) و( إِنْ هَـٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) (٤) وقال( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) (٥) ، فلم يوصف الكلام بالخلق الا اذا أريد به الكدب أو الانتحال كما يقولون هذه قصيدة مخلوقة ومختلقة اذا كانت منتحلة مضافة إلى غير قائلها.

وهذه الجملة تكفي فيما قصدناه، لان شرح جميعه بيناه في شرح الجمل وذكره يطول به ما قصدناه.

فصل: (فيما يجوز عليه تعالى ومالا يجوز)

لا يجوز أن يكون له تعالى مائية على ما يذهب اليه ضرار بن عمرو الضبي وأبوحنيفة، لان الطريق إلى اثباته تعالى واثبات صفاته أفعاله، فلا يجوز أن يثبت

___________________________________

(١) سورة الزخرف: ٣.

(٢) سورة الشعراء: ١٩٥.

(٣) سورة ص: ٧.

(٤) سورة الشعراء: ١٣٧.

(٥) سورة العنكبوت: ١٧.

٣٧

على صفة لا يدل عليها الفعل اماما بنفسه أو بواسطة، لانا ان لم نراع هذا الاصل لزم أن يكون له كيفية وكمية وغير ذلك من الاقوال الفاسدة، وذلك باطل.

والفعل بمجرده يدل على كونه قادرا، وبوقوعه محكما على كونه عالما وبوقوعه على وجه دون وجه على كونه مريدا أو كارها، وكونه قادرا عالما على كونه حيا موجودا، وكونه حيا موجودا على كونه مدركا سميعا بصيرا.

ووجوب هذه الصفات له في الازل يدل على صفته الذاتية عند من أثبتها وليس في الفعل ما يدل على أن له مائية، فوجب نفيها.

وقول الامة: ان الله تعالى أعلم بنفسه منا.

معناه انه يعلم من تفاصيل مقدوراته ومعلوماته مالا يعلمه أحد، لانه يعلم منها مالا نهاية له، والواحد منا يعلم ذلك على وجه الجملة، فلا يجوز التوصل بذلك إلى القول بالمائية.

ولا يجوز أن يكون تعالى بصفة الجسم أو الجوهر، لان مادل على كون الجسم محدثا(١) قائم في جميع الاجسام، فلو كان تعالى جسما لادى إلى كونه محدثا أو كون الاجسام قديمة، وكلا الامرين فاسد.

وأيضا لو كان جسما لما صح منه فعل الاجسام كما لا يصح منا، على ما مضى القول فيه، والعلة في ذلك كونها أجساما، وقد دللنا على أنه فاعل الاجسام فبطل كونه جسما.

ولا يجوز وصفه بأنه جسم مع انتفاء حقيقة الجسم عنه، لان ذلك نقض اللغة، لان أهل اللغة يسمون الجسم ماله طول وعرض وعمق، بدلالة قولهم « هذا أطول من هذا » اذا زاد طولا، و « هذا أعرض من هذا » اذا زاد عرضا و « هذا أعمق من هذا » اذا زاد عمقا، و « هذا أجسم من هذا » اذا جمع الطول والعرض والعمق.

فعلم بذلك أن حقيقة الجسم ما قلناه، وذلك يستحيل

___________________________________

(١) في ر « كون الجسم متحركا محدتا ».

٣٨

فيه تعالى، فلا يجوز وصفه بذلك.

وقولهم « انه جسم لا كالاجسام » مناقضة، لانه نفي ما أثبت نفيه، لان قولهم « جسم » يقتضي أن له طولا وعرضا وعمقا، فاذا قيل بعد ذلك « لا كالاجسام » اقتضى نفي ذلك نفيه، فيكون مناقضة.

وليس قولنا « شئ لا كالاشياء » مناقضة، لان قولنا « شئ » لا يقتضي اكثر من أنه معلوم وليس فيه حس؟، فاذا قلنا « لا كالاشياء المحدثة » لم يكن في ذلك مناقضة.

وقوله( الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) (١) معناه استولى عليه لما خلقه، كما قال الشاعر(٢) :

قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق

وقوله( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (٣) معناه انه تولى خلقه بنفسه، كما يقول القائل « هذا ما عملت يداك » أي أنت فعلته.

وقيل: معناه لما خلقت لنعمتي الدينية والدنيوية.

وقوله( فِي جَنبِ اللَّـهِ ) (٤) معناه في ذات الله وفي طاعته.

وقوله( وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (٥) أي بقدرته، كما قال الشاعر(٦) :

اذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين

___________________________________

(١) سورة طه: ٥.

(٢) لسان العرب (سوى).

(٣) سورة ص: ٧٥.

(٤) سورة الرمز: ٥٦.

(٥) سورة الزمر: ٦٧.

(٦) البيت لشماخ، انظر لسان العرب (يمن).

٣٩

وقوله( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) (١) أي ونحن عالمون.

ولا يجوز أن يكون تعالى بصفة شئ من الاعراض، لانه قد ثبت حدوث الاعراض أجمع، فلو كان بصفة شئ من الاعراض لكان محدثا، وقد بينا قدمه.

ولانه لو كان بصفة شئ من الاعراض لم يخلو من أن يكون بصفة ما يحتاج إلى محل أو بصفة مالا يحتاج إلى المحل كالغناء وارادة القديم تعالى وكراهته فان كان بصفة القسم الاول أدى إلى قدم المحال وقد بينا حدوثها، ولو كان بصفة القسم الثاني لاستحال وجوده وقتين كاستحالة ذلك على هذه الاشياء.

وأيضا لو كان بصفة الغناء لاستحال وجود الاجسام معه، وذلك باطل.

ولا يجوز عليه تعالى الحلول، لانه لا يخلو أن يكون الحلول واجبا له أو جائزا، ولو كان واجبا لوجب ذلك في الازل، وذلك يوجب وجود ما يحله في الازل، وفي ذلك قدم المحال، وقد بينا فساده.

ولو كان وجوده متجددا [ وهو واجب ](٢) لوجب أن يكون له مقتضى، فلا يخلو أن يكون مقتضيه صفته الذاتية أو كونه حيا، ولا يجوز أن تكون صفته الذاتية مقتضية لذلك، لان صفة الذات لا تقتضي صفة اخرى بشرط منفصل، ووجود المحل منفصل.

ولو كان كونه حيا مقتضيا لذلك اقتضاه فينا، كما أنه لما اقتضى كونه مدركا اقتضاه فينا، وذلك باطل.

وان كان حلوله جائزا احتاج إلى معنى، وذلك المعنى لابد أن يختص به والاختصاص يكون اما بالحلول أو المجاورة، وكلاهما يقتضيان كونه جوهرا وقد أفسدناه، فبطل بجميع ذلك عليه الحلول.

ولا يجوز أن يكون تعالى في جهة من غير أن يكون شاغلا لها، لانه ليس

___________________________________

(١) سورة القمر: ١٤.

(٢) الزيادة من ر.

٤٠