الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد0%

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 320

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)
تصنيف:

الصفحات: 320
المشاهدات: 82706
تحميل: 7427

توضيحات:

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 82706 / تحميل: 7427
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف:
العربية

الاقتصاد الهادى إلى طريق الرشاد

شيخ الطائفة الفقيه الاكبر ابوجعفر محمد بن الحسن الطوسى

٣٨٥ - ٤٦٠

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على سوابغ نعمه، وتتابع مننه، وترادف أنعامه، وتوالي أفضاله.

وله الشكر على جزيل فواضله، وكريم مواهبه.

وصلى الله على سيد أنبيائه وخاتم أصفيائه محمد النبى المنتجب من أشرف العناصر وأكرم المناصب، وعلى آله الطيبين الائمة الراشدين، النجوم الزاهرة والغرر الباهرة، وسلم تسليما.

وبعد: فاني ممتثل ما رسمه الشيخ الاجل، أطال الله بقاء‌ه، وعضد كافة أوليائه بطول أيامه وامتداد زمانه، وجعل ما خوله من محبة العلم وأهله وايثار الدين وصرف الهمة اليه، وحبب إليه ما يكسبه الجمال عاجلا ويثمر الخلاص آجلا.

من املاء مختصر يشتمل على بيان ما يجب اعتقاده ومعرفته، ويلزم العمل به والمصير اليه، مما لا يخلو منه مكلف في حال من الاحوال، وأن أقرب ذلك

٣

بأدلة واضحة وبراهين نيرة، لا أطول القول فيها فيمله ولا أقصر على الاتيان على الغرض فيحصر دونه.

وأتبع ذلك بما يجب العمل به من العبادات على وجه الاختصار ممالا يستغنى عنه، فان الكتب المعمولة في الاصول والفروع كثيرة، غير أنها مبسوطة جدا أو مختصرة لا تأتي على الغرض.

وأنا ممتثل ما رسمه ومجيب إلى ما دعا اليه.

ومن الله الكريم أستمد المعونة، واياه اسأل التوفيق لاتمامه.

وقد رتبته على فصول:

٤

فصل: (فيما يلزم المكلف)

الذي يلزم المكلف أمران: علم، وعمل.

فالعمل تابع للعلم ومبني عليه.

والذي يلزم العلم به أمران: التوحيد، والعدل.

فالعلم بالتوحيد لا يتكامل الا بمعرفة خمسة أشياء: أحدها معرفة ما يتوصل به إلى معرفة الله تعالى، والثاني معرفة الله على جميع صفاته، والثالث معرفة كيفية استحقاقه لتلك الصفات، الرابع معرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز، الخامس معرفته بأنه واحد لا ثاني له في القدم.

والعدل لا يتم العلم به الا بعد العلم بأن أفعاله كلها حكمة وصواب، وأنه ليس في أفعاله قبيح ولا اخلال بواجب.

ويتفرع من ذلك وجوب معرفة خمس أشياء: أحدها معرفة حسن التكليف وبيان شروطه وما يتعلق به، والثاني معرفة النبوة وبيان شروطها، والثالث معرفة الوعد والوعيد وما يتعلق بهما،

٥

والرابع معرفة الامامة وشروطها، والخامس معرفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فأنا انشاء الله أبين فصلا فصلا من ذلك على أخصر ما يمكن وأوجزه، وأردف ذلك بما يجب العمل به من الشرعيات على هذا المنهاج انشاء الله.

ومن جهته التوفيق والتسديد.

٦

القسم الاول: الاصول الاعتقادية ..

٧

٨

فصل: (في ذكر بيان ما يتوصل به إلى ما ذكرناه)

لا طريق إلى معرفة هذه الاصول التي ذكرناها الا بالنظر في طرقها، ولا يمكن الوصول إلى معرفتها من دون النظر.

وانما قلنا ذلك لان الطريق إلى معرفة الاشياء أربعة لا خامس لها: (أولها) أن يعلم الشئ ضرورة لكونه مركوزا في العقول، كالعلم بأن الاثنين أكثر من واحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة، وان الجسمين لا يكونان في مكان واحد في حالة واحدة، والشئ لا يخلو من أن يكون ثابتا أو منفيا، وغير ذلك مما هو مركوز في العقول.

(والثاني) أن يعلم من جهة الادراك اذا أدرك وارتفع اللبس، كالعلم بالمشاهدات والمدركات بسائر الحواس(١) .

(والثالث) أن يعلم بالاخبار، كالعلم بالبلدان والوقائع وأخبار الملوك وغير ذلك.

___________________________________

(١) في ر (والذى كان لسائر الحواس).

٩

(والرابع) أن يعلم بالنظر والاستدلال.

والعلم بالله تعالى ليس بحاصل من الوجه الاول، لان ما يعلم ضرورة لا يختلف العقلاء فيه بل يتفقون عليه، ولذلك لا يختلفون في أن الواحد لا يكون أكثر من اثنين وان الشبر لا يطابق الذراع.

والعلم بالله فيه خلاف بين العقلاء فكيف يجوز أن يكون ضروريا.

وليس الادراك أيضا طريق إلى العلم بمعرفة الله تعالى، لانه تعالى ليس بمدرك بشئ من الحواس على ما سنبينه فيما بعد، ولو كان مدركا محسوسا لادركناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة.

والخبر أيضا لا يمكن أن يكون طريقا إلى معرفته، لان الخبر الذي يوجب العلم هو ما كان مستندا إلى مشاهدة وادراك، كالبلدان والوقائع وغير ذلك، وقد بينا أنه ليس بمدرك، والخبر الذي لا يستند إلى الادراك لا يوجب العلم.

ألا ترى أن جميع المسلمين يخبرون من خالفهم بصدق محمد صلى الله عليه وآله فلا يحصل لمخالفيهم العلم به لان ذلك طريقه الدليل، وكذلك جميع الموحدين يخبرون الملحدة بحدوث العالم فلا يحصل لهم العلم به لان ذلك طريقه الدليل.

فاذا بطل أن يكون طريق معرفته الضرورة أو المشاهدة أو الخبر، لم يبق الا أن يكون طريقه النظر.

فان قيل: أين أنتم عن تقليد [ الاباء و ](١) المتقدمين؟ قلنا: التقليد ان اريد به قبول قول الغير من غير حجة - وهو حقيقة التقليد - فذلك قبيح في العقول، لان فيه اقداما على ما لا يأمن كون ما يعتقده عند التقليد جهلا لتعريه من الدليل، والاقدام على ذلك قبيح في العقول.

ولانه ليس في العقول تقليد الموحد أولى من تقليد الملحد اذا رفعنا النظر والبحث عن أوهامنا

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

١٠

ولا يجوز أن يتساوى الحق والباطل.

فان قيل: نقلد المحق دون المبطل.

قلنا: العلم بكونه محقا لا يمكن حصوله الا بالنظر، لانا ان علمناه بتقليد آخر أدى إلى التسلسل، وان علمناه بدليل فالدليل الدال على وجوب القبول منه يخرجه من باب التقليد، ولذلك لم يكن أحدنا مقلدا للنبى أو المعصوم فيما نقبله منه، لقيام الدليل على صحة ما يقوله.

وليس يمكن أن يقال: نقلد الاكثر ونرجع اليهم.

وذلك لان الاكثر قد يكونون على ضلال، بل ذلك هو المعتاد المعروف.

ألا ترى أن الفرق المبطلة بالاضافة إلى الفرق المحقة جزء من كل وقليل من كثير.

ولا يمكن أن يعتبر أيضا بالزهد والورع، لان مثل ذلك يتفق في المبطلين فلذلك ترى رهبان النصارى على غاية العبادة ورفض الدنيا مع أنهم على باطل فعلم بذلك أجمع فساد التقليد.

فان قيل: هذا القول يؤدي إلى تضليل اكثر الخلق وتكفيرهم، لان اكثر من تعنون من العقلاء لا يعرفون ما يقولونه من الفقهاء والادباء والرؤساء والتجار وجمهور العوام ولا يهتدون إلى ما يقولونه، وانما يختص بذلك طائفة يسيرة من المتكلمين، وجميع من خالفهم يبدعهم في ذلك، ويؤدي إلى تكفير الصحابة والتابعين [ وأهل الامصار، لانه معلوم أن أحدا من الصحابة والتابعين ](١) لم يتكلم فيما تكلم فيه المتكلمون ولا سمع منه حرف واحد ولا نقل عنهم شئ منه، فكيف يقال بمذهب يؤدي إلى تكفير اكثر الامة وتضليلها، وهذا باب ينبغي أن يزهد فيه ويرغب عنه.

قيل: هذا غلط فاحش وظن بعيد، وسوء ظن بمن أوجب النظر المؤدي

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

١١

إلى معرفة الله، ولسنا نريد بالنظر المناظرة والمحاجة والمخاصمة والمحاورة التي يتداولها المتكلمون ويجري بينهم، فان جميع ذلك صناعة فيها فضيلة وان لم تكن واجبة، وانما أوجبنا النظر الذي هو الفكر في الادلة الموصلة إلى توحيد الله تعالى وعدله ومعرفة نبيه وصحة ما جاء به، وكيف يكون ذلك منهيا عنه أو غير واجب والنبي عليه السلام لم يوجب القبول منه على أحد الا بعد اظهار الاعلام والمعجزة من القرآن وغيره، ولم يقل لاحد أنه يجب عليك القبول من غير آية ولا دلالة.

وكذلك تضمن القرآن من أوله إلى آخره التنبيه على الادلة ووجوب النظر(١) .

قال الله تعالى:( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ مِن شَيْءٍ ) (٢) .

وقال:( أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (٣) .

وقال:( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) (٤) .

وقال:( قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ ) (٥) الاية.

وقال:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ

___________________________________

(١) في نسخة ج « النظم ».

(٢) سورة الاعراف: ١٨٥.

(٣) سورة الغاشية: ١٧ - ٢٠.

(٤) سورة الذاريات: ٢١.

(٥) سورة عبس: ١٧ - ١٩.

١٢

لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ) إلى قوله( إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) (١) .

وقال:( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) إلى قوله( مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) (٢) .

وقال:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ) إلى قوله( فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٣) .

وقال:( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (٤) و( لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٥) و( لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) (٦) و( لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) (٧) يعنى عقل.

وغير ذلك من الايات التى تعدادها يطول.

وكيف يحث تعالى على النظر وينبه على الادلة وينصبها ويدعو إلى النظر فيها، ومع ذلك يحرمها.

ان هذا لا يتصوره الا غبي جاهل.

فأما من أومى اليه من الصحابة والتابعين وأهل الاعصار من الفقهاء والفضلاء والتجار والعوام، فأول ما فيه أنه غير مسلم، بل كلام الصحابة والتابعين مملو من ذلك، وهو شائع ذائع في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في الاستدلال على الصانع والحث على النظر والفكر في اثبات الله تعالى معروف مشهور، وكذلك كلام الائمة عليهم السلام من أولاده، وعلماء المتكلمين في كل عصر معروفون مشهورون.

___________________________________

(١) سورة آل عمران: ١٩٠ - ١٩٤.

(٢) سورة عبس: ٢٤ - ٣٢.

(٣) سورة المؤمنون: ١٢ - ١٤.

(٤) سورة الرعد: ٣.

(٥) سورة الرعد: ٤.

(٦) سورة الزمر: ٢١.

(٧) سورة ق: ٣٧.

١٣

وكيف يجحد ذلك وينكر وجوده، وروي عن النبى صلى الله عليه وآله أنه قال « أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه » وقال امير المؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة « أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات عنه، لشهادة العقول أن من حلته الصفات فهو مخلوق، وشهادتها أنه خالق ليس بمخلوق » ثم قال « بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالنظر يثبت حجته، معلوم بالدلالات، مشهور بالبينات »(١) إلى آخر الخطبة.

وخطبه في هذا المعنى اكثر من أن تحصى.

وقال الحسن (الحسين خ ل) عليه السلام: « والله ما يعبد الله الا من عرفه فأما من لم يعرفه فانما يعبده هكذا ضلالا » وأشار بيده.

وقال الصادق عليه السلام: « وجدت علم الناس في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ماصنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك »(٢) .

ثم انه يلزم مثل ذلك الفقهاء، فانا نعلم ما فرعه الفقهاء(٣) من المسائل ودونوه في كتبهم ودارت بينهم من العلل والاقيسة لم يخطر لاحد من الصحابة والتابعين ببال ولا نقل شئ منه عن واحد منهم.

فينبغي أن يكون ذلك كله باطلا، أو يقولوا ان الصحابة لم يكونوا عالمين عارفين بالشرع، فأي شئ أجابوا عن ذلك في الفروع فهو جوابنا في الاصول بعينه، وهو أن يقال انهم كانوا عالمين بأصول الشريعة فلما حدثت حوادث في الشرع لم يكن استخرجوا أدلتها من الاصول قلنا مثل ذلك فانهم كانوا عارفين بالاصول من التوحيد والعدل مجملا، فلما

___________________________________

(١) تحف العقول ص ٤٣ مع اختلاف في بعض الالفاظ.

(٢) الخصال ص ٢٣٩.

(٣) في ر « ما ودعه الفقهاء ».

١٤

حدثت شبهات لم تسبقهم استخرجوا أجوبتها من الاصول.

ولو سلمنا أنهم كانوا غير عارفين بما يعرفه المتكلمون لم يدل على ما قالوه لانه لا يجوز أن يكونوا عالمين بالله تعالى على وجه الجملة وخرجوا بذلك عن حد التقليد وتشاغلوا بالعبادة أو الفقه أو التجارة، ولم ينقدح لهم فيما اعتقدوه شك ولا خطرت لهم شبهة يحتاجون إلى حلها، فاقتنعوا بذلك وكانوا بذلك قد أدوا ما وجب عليهم.

والمتكلمون لما أفرغوا وسعهم لعلم هذه الصناعة خطرت لهم شبهات ووردت علهيم خواطر لزمهم حل ذلك والتفتيش عنه حتى لا يعود ذلك بالنقض على ما علموه.

وكل من يجري مجراهم ممن تخطر له هذه الشبهات فانه يلزمه حلها ولا يجوز له الاقتصار على علم الجملة، فانه لا يسلم له ذلك مع هذه الشبهة.

ومن لا يخطر له ذلك لبلادته أو لعدوله عنه أو تشاغله بعبادة أو فقه أو دين، فانه لا يلزمه التغلغل فيه ولا البحث عن الشبهات حتى يلهه ويلزمه التفتيش عنها والاجوبة عنها.

وان فرضنا في آحاد الناس من لم يحصل له علم الجملة ولا علم التفصيل وانما هو على تقليد محض، فانه مخطئ ضال عن طريق الحق وليس يتميز له ذلك.

فان قالو: أكثر من أو مأتم اليه اذا سألته عن ذلك لا يحسن الجواب عنه.

قلنا: وذلك أيضا لا يلزم، لانه لا يمتنع أن يكون عارفا على الجملة وان تعذرت عليه العبارة عما يعتقده، فتعذر العبارة عما في النفس لا يدل على بطلان ذلك ولا ارتفاعه.

فان قيل: قد ذكرتم أنه يخرج الانسان عن حد التقليد بعلم الجملة، ما

١٥

حد ذلك بينوه لنقف عليه؟ قلنا: أحوال الناس تختلف في ذلك: فمنهم من يكفيه الشئ اليسير، ومنهم من يحتاج إلى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره حتى يزيد بعضهم على بعض إلى أن يبلغ إلى حد لا يجوز له الاقتصار على علم الجملة بل يلزمه على التفصيل لكثرة خواطره وتواتر شبهاته.

وليس يمكن حصر ذلك لشئ لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه.

فان قيل: فعلى كل حال بينوا لذلك مثالا على وجه التقريب.

قلنا: أما على وجه التقريب فانا نقول: من فكر في نفسه فعلم أنه لم يكن موجودا ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظما ثم جنينا في بطن أمه ميتا ثم صار حيا فبقي مدة ثم ولد صغيرا فتتقلب به الاحوال من صغر إلى كبر ومن طفولة إلى رجلة ومن عدم عقل إلى عقل كامل ثم إلى الشيخوخة والى الهرم ثم الموت، وغير ذلك من أحواله، علم أن هنا من يصرفه هذا التصريف ويفعل به هذا الفعل، لانه يعجز عن فعل ذلك بنفسه، وحال غيره من أمثاله حاله من العجز عن مثل ذلك.

فعلم بذلك أنه لابد من أن يكون هناك من هو قادر على ذلك مخالف له، لانه لو كان مثله لكان حكمه حكمه.

ويعلم أنه لابد أن يكون عالما من حيث أن ذلك في غاية الحكمة والاتساق، مع علمه الحاصل بأن بعض ذلك لا يصدر ممن ليس بعالم، وبهذا القدر يكون عالما بالله تعالى على الجملة.

وهكذا اذا نظر في بذر يبذر فينبت منه أنواع الزرع والغرس ويصعد إلى منتهاه، فمنه ما يصير شجرا عظيما يخرج منه أنواع الفواكه والملاذ، ومنه ما يصير زرعا يخرج منه أنواع الاقوات، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات الطيبة الروائح، ومنه ما يكون خشبه في غاية الطيب كالعود الرطب وغير ذلك،

١٦

وكالمسك الذى يخرج من بعض الظباء والعنبر الذى يخرج من البحر، فيعلم بذلك أن مصرف ذلك وصانعه قادر عالم لتأتي ذلك واتساقه ولعجزه وعجز أمثاله عن ذلك، فيعلم بذلك أنه مخالف لجميع أمثاله، فيكون عارفا بالله على الجملة.

وكذلك اذا نظر إلى السماء صاحية فتهب الرياح وينشأ السحاب ويصعد ولا يزال يتكاثف ويظهر فيه الرعد والبرق والصواعق، ثم ينزل منه من المياه والبحار العظيمة التى تجري منها الانهار العظيمة والاودية الوسيعة، وربما كان فيه من البرد مثل الجبال، كل ذلك في ساعة واحدة ثم تنقشع السماء وتبدو الكواكب وتطلع الشمس أو القمر كأن ما كان لم يكن من غير تراخ ولا زمان بعيد، فيعلم ببديهة أنه لابد أن يكون من صح ذلك منه قادرا عليه ممكن منه(١) وأنه مخالف له ولامثاله، فيكون عند ذلك عارفا بالله.

وأمثال ذلك كثيرة لا نطول بذكره، فمتى عرف الانسان هذه الجملة وفكر فيها هذا الفكر واعتقد هذا الاعتقاد، فان مضى على ذلك ولم يشعثه خاطر ولا طرقته شبهة فهو ناج متخلص.

واكثر من أشرتم اليه يجوز أن يكون هذه صفته، وان بحث عن ذلك وعن علل ذلك فطرقته شبهات وخطرت له خطرات وادخل عليه قوم ملحدون ما حيره وبلبله، فحينئذ يلزمه التفتيش ولا تكفيه هذه الجملة، ويجب عليه أن يتكلف البحث والنظر، على ما سنبينه ليسلم من ذلك ويحصل له العلم على التفصيل.

ونحن نبين ذلك في الفصل الذى يلي هذا الفصل على ما وعدنا به انشاء الله.

فان قيل: أصحاب الجمل على ما ذكرتم لا يمكنهم أن يعرفوا صفات الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه منها على طريق الجمله، واذا لم

___________________________________

(١) في ج « على كل ممكن فيه ».

١٧

يمكنهم ذلك لم يمكنهم أن يعلموا أن أفعاله كلها حكمة ولا حسن التكليف ولا النبوات ولا الشرعيات، لان معرفة هذه الاشياء لا يمكن الا بعد معرفة الله تعالى على طريق التفصيل.

قلنا: يمكن معرفة جميع ذلك على وجه الجملة، لانه اذا علم بما قدمناه من الافعال ووجوب كونه قادرا عالما وعلم أنه لا يجوز أن يكون قادرا بقدرة محدثة لانها كانت تجب ان تكون من فعله، وقد تقرر أن المحدث لابد له من محدث، وفاعلها يجب أن يكون قادرا أولا، فلولا تقدم كونه قادرا قبل ذلك لما صح منه تعالى فعل القدرة، فيعلم أنه لم يكن قادرا بقدرة محدثة، ولاجله علم أنه كذلك لامر لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فيعلم أنه يجب أن يكون قادرا على جميع الاجناس ومن كل جنس على مالا يتناهى لفقد التخصيص.

وكذلك اذا علم بالمحكم من أفعاله كونه عالما علم أن ما لاجله علم ما علمه لا اختصاص له بمعلوم [دون معلوم](١) ، اذ المخصص هو العلم المحدث والعلم لا يقع الا من عالم، فلا بد أن يتقدم كونه عالما لا بعلم محدث، وما لاجله علم لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم، فيعلم أنه عالم بما لا يتناهى وبكل ما يصح أن يكون معلوما لفقد الاختصاص.

فيعلم أنه لا يشبه الاشياء، لانه لو أشبهها لكان مثلها في كونها محدثة، لان المثلين لا يكون أحدهما قديما والاخر محدثا.

ويعلم أنه غير محتاج، لان الحاجة من صفات الاجسام، لانها تكون إلى جلب المنافع أو دفع المضار وهما من صفات الاجسام، فيعلم عند ذلك أنه غني.

ويعلم أنه لا تجوز عليه الرؤية والادراكات، لانه لا يصح أن يدرك الا ما

___________________________________

(١) الزيادة من ج.

١٨

يكون هو أو محله في جهة، وذلك يقتضي كونه جسما أو حالا في جسم، وهكذا يقتضي حدوثه وقد علم أنه قديم.

واذا علم أنه عالم بجيمع المعلومات، وعلم كونه غنيا، علم أن جميع أفعاله حكمة وصواب ولها وجه حسن وان لم نعلمه مفصلا، لان القبيح لا يفعله الا من هو جاهل بقبحه أو محتاج اليه وكلاهما منتفيان عنه، فيقطع عند ذلك على حسن جميع أفعاله من خلق الخلق والتكليف وفعل الالام وخلق المؤذيات من الهوام والسباع وغير ذلك.

ويعلم أيضا عند ذلك صحة النبوات، لان النبي اذا أدعى النبوة وظهر على يده علم معجز يعجز عن فعله جميع المحدثين علم أنه من فعل الله ولو لا صدقه لما فعله، لان تصديق الكذاب لا يحسن، وقد أمن ذلك بكونه عالما غنيا.

فاذا علم صدق الانبياء بذلك علم صحة ماأتوا به من الشرعيات والعبادات، لكونهم صادقين على الله وأنه لا يتعبد الخلق الا بما فيه مصلحتهم.

واذا ثبت له هذه العلوم فتشاغل بالعبادة أو بالمعيشة ولم تخطر له شبهة ولا أورد عليه ما يقدح فيما علمه ولا فكر هو في فروع ذلك لم يلزمه أكثر من ذلك.

ومتى أورد عليه شبهة فان تصورها قادحة فيما علمه يلزمه حينئذ النظر فيها حتى يحلها ليسلم له ما علمه، وان لم يتصورها قادحة ولا اعتقد أنها تؤثر فيما علمه لم يلزمه النظر فيها ولا التشاغل بها.

وهذه أحوال اكثر العوام وأصحاب المعايش والمترفين، فانهم ليس يكادون يلتفتون إلى شبهة تورد عليهم ولا يقبلونها ولا يتصورونها قادحة فيما اعتقدوه بل ربما أعرضوا عنها واستغنوا عن سماعها وايرادها وقالوا: لا تفسدوا علينا ما علمناه.

وقد شاهدت جماعة هذه صورتهم.

١٩

فبان بهذه الجملة ما أشرنا اليه من أحوال أصحاب الجمل.

ونحن نبين في الفصل الذي يلي هذا ما يلزم من هو فوق هؤلاء ممن ينظر ويبحث وتطرقه الشبهات وان لم يبالغ في استيفاء ذلك، ليكون قد ذكرنا أمر الفريقين وبينا أحوال الفئتين.

والله تعالى الموفق للصواب.

فصل: (في ذكر بيان ما يؤدى النظر فيه إلى معرفة الله تعالى)

لا يمكن الوصول إلى معرفة الله تعالى الا بالنظر في حدوث مالا يدخل تحت مقدور المخلوقين، وهو الاجسام والاعراض المخصوصة، كالالوان والطعوم والاراييح والقدرة والحياة والشهوة والنفار وما جرى مجرى ذلك.

فأما ما يدخل جنسه تحت مقدور القدر(١) كالحركات والسكنات والاعتمادات والاصوات، فلا يمكن بالنظر فيها الوصول إلى معرفة الله تعالى.

والكلام في حدوث الاجسام أظهر، لانها معلومة ضرورة لا يحتاج فيها في العلم بوجودها إلى الدليل بل انما يحتاج إلى الكلام في حدوثها، ثم بيان أن لها محدثا يخالفها فيكون ذلك علما بالله، ثم الكلام في صفته.

ولنا في الكلام في حدوث الاجسام طريقان: أحدهما: أن ندل على أنها ليست قديمة، فيعلم حينئذ أنها محدثة، لانه لا واسطة بين القدم والحدوث.

والطريق الثاني: أن نبين أنها لم تسبق المعاني المحدثة، فيعلم أن حكمها حكمها في الحدوث.

(وبيان الطريق الاول) هو أن الاجسام لو كانت قديمة لوجب أن تكون في

___________________________________

(١) في ج: القدرة (المخلوقين خ ل).

٢٠