الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية16%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146391 / تحميل: 9417
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

يا عقيد ، اغِل لي ماءاً بمصطكي ، فأغلى له ، ثمّ جاءت به صيقل الجارية ، اُمّ الخلفعليه‌السلام ، فلمّا صار القدح في يديه وهمّ بشربه فجعلت يده تر تعد حتّىضرب القدح ثنايا الحسنعليه‌السلام فتركه من يده وقال لعقيد :ادخل البيت فإنّك ترى صبيّاً ساجداً فأتني به.

قال أبو سهل : قال عقيد : فدخلت أتحرّى ، فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبّابته نحو السماء ، فسلّمت عليه ، فأوجز في صلاته ، فقلت : إنّ سيّدي يأمرك بالخروج إليه إذ جاءت اُمّه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسنعليه‌السلام .

قال أبو سهل : فلمّا مثل الصبي بين يديه سلّم ، وإذا هو درّي اللون ، وفي شعر رأسه قطط ، مفلج الأسنان ، فلمّا رآه الحسن بكى ، وقال :يا سيّد أهل بيته ، إسقني الماء ، فإنّي ذاهب إلى ربّي ، وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده ، ثمّ حرّك شفتيه ، ثمّ سقاه فلمّا شربه قال :هيّئوني للصلاة ، فطرح في حجره منديل ، فوضّأه الصبي واحدة واحدة ، ومسح على رأسه وقدميه.

فقال له أبو محمّدعليه‌السلام :أبشر يا بنيّ ، فأنت صاحب الزمان ، وأنت المهدي ، وأنت حجّة الله على أرضه ، وأنت ولدي ، ووصيّي ، وأنا ولدتك ، وأنت محمّد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، ولّدك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت خاتم الأئمّة الطاهرين ، وبشّر بك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمّاك وكنّاك بكذلك عهد إليَّ أبي عن آباءك الطاهرين صلّى الله على أهل البيت ربّنا إنّه حميد مجيد .

ومات الحسن بن عليّ من وقته»(١) .

_________________________

(١)كتاب الغيبة : ١٦٥.

٤١

١٠ ـ الرجل الفارسي

روى الكليني في الكافي بسنده عن ضوء بن عليّ العجلي ، عن رجل من أهل فارس سمّاه ، قال : «أتيت سر من رأي ولزمت باب أبي محمّدعليه‌السلام فدعاني ، فدخلت عليه وسلّمت ، فقال :ما الذي أقدمك ؟

قال : قلت : رغبة في خدمتك.

قال فقال لي :فألزم الباب .

قال : فكنت في الدار مع الخدم ثمّ صرت اشتري لهم الحوائج من السوق ، وكنت أدخل عليهم من غير إذن إذا كان في الدار رجال.

قال : فدخلت عليه يوماً وهو في دار الرجال ، فسمعت حركة في البيت فناداني :مكانك لا تبرح ، فلم أجسر أدخل ولا أخرج ، فخرجت علَيَّ جاريةومعها شيء مغطّى.

ثم ناداني :ادخل ، فدخلت ، ونادى الجارية فرجعت إليه ، فقال لها :أكشفي عمّا معك ، فكشفت عن غلام أبيض ، حسن الوجه ، وكشفت عن بطنه فإذا شعر نابت من لبته إلى سرته ، أخضر ليس بأسود ، فقال :هذا صاحبكم ، ثمّ أمرها فحملته ، فما رأيته بعد ذلك حتّى مضى أبو محمّدعليه‌السلام »(١) .

السؤال الثامن :

لماذا أخفى الإمام العسكري عليه‌السلام ولده عن أعين الناس؟

الجواب : لقد كان الخلفاء العبّاسيّون في قلق وخوف على دولتهم ، وخصوصاً

_________________________

(١)تبصرة الوليّ فيمن رأى القائم المهدي : ٥١ ، عن الكافي : ١ / ٣٢٩.

٤٢

المعتزّ والمهتدي والمعتمد من مولود سيحطّم عرش الظلم ، ولذلك شدّدوا الحصار ،وجعلوا الإمام تحت المراقبة الشديدة على نفس المنهج الذي سلكه فرعون لمنع حصول ولادة موسىعليه‌السلام وكانوا يختارون من جلاوزتهم ممّمن يراقب بيوت الهاشميّين ، وعلى الخصوص بيت الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، وحاولوا مراراً القضاء على حياة الإمام ، والعثور على الإمام المهدي وقتله ، ولذلك كان يخفيه عنهم. وأمّا محاولاتهم الفاشلة فهي كما يلي :

١ ـ السعي لقتل الإمام العسكريعليه‌السلام

حاول كلٌّ من : المعتزّ والمهتدي والمعتمد العبّاسي مراراً القضاء على حياة الإمام الحسن العسكري في داره أو في السجن لمنع ولادة المهدي المنتظرعليه‌السلام ، فقالعليه‌السلام حينما ولد الحجّة :«زعم الظلمة أنّهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل ، فكيف رأوا قدرة الله» (١) .

٢ ـ تفتيش بيت الإمام لإلقاء القبض على المهدي

لم يمرّ على رحيل الإمام العسكريعليه‌السلام إلاّ لحظات حتّى حوصر بيت الإمام بأمر من المعتمد العبّاسي ، وقام الشرطة بالتفتيش الدقيق في بيت الإماموالبحث عن إبنه.

قال الصدوق : « وجاءوا بنساء يعرفن بالحبل ، فدخلن على جواريه ، فنظرن إليهنّ ، فذكر بعضهنّ أنّ هناك جارية بها حمل ، فأمر بها ، فجعلت في حجرة ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم»(٢) .

_________________________

(١)كفاية الأثر : ٢٨٩.

(٢)كمال الدين : ١ / ٤٣.

٤٣

٣ ـ وشاية جعفر ، وإلقاء القبض على صقيل

لمّا جهّزوا الإمام العسكري للصلاة عليه تقدّم جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه ، فلمّا همّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة ، بشعره قطط ، بأسنانه تفليج ، فجذب رداء جعفر وقال :«يا عمّ ، أنا أحقّ بالصلاة على أبي ...» (١) ، ووشى جعفر إلى الخليفة العبّاسي بوجود طفل في بيت الإمام العسكريعليه‌السلام ، فبعث المعتمد إثر وشايته جلاوزته ليبحثوا عن صقيل جارية الإمامعليه‌السلام حتّى تدلّهم على ذلك الطفل ، فأنكرت صقيل ذلك ، وادّعت أنّ بها حمل من الإمام العسكريعليه‌السلام حفظاً على الإمام المهدي من تعرّض الأعداء ، لذلك حبسوها في بيت حتّى تضع حملها ويقتلوا وليدها ، وفي هذه الآونة فوجئوا بموت وزير الخليفة العبّاسي ( عبدالله بن يحيى ) ، وبخروج صاحب الزنج بالبصرة ، واضطراب الأوضاع السياسيّة ،وكثرة الفوضى ، فاستفادت صقيل من هذه الظروف وعادت إلى بيتها(٢) .

٤ ـ إرسال جماعة لقتل الإمام المهديعليه‌السلام

ويشهد علي ذلك من أنّهم كانوا في طلبه ليقتلوهعليه‌السلام ما حدّثه لنا رشيق صاحب المادراي قال : «بعث إلينا المعتضد ونحن ثلاثة نفر ، فأمرنا أن يركب كلّ واحد منّا فرساً ونجنب آخر ونخرج مخفين لا يكون معنا قليل ولا كثير إلاّ على السرج مصلى وقال لنا : إلحقوا بسامرة ، ووصف لنا محلّة وداراً وقال : إذا أتيتموها تجدون على الباب خدماً أسود ، فاكبسوا الدار ، ومن رأيتم فيهافأتوني برأسه.

_________________________

(١)حياة الإمام العسكريعليه‌السلام : ٣١٧.

(٢)حقّ اليقين : ٣٢٠.

٤٤

فوافينا سامرة فوجدنا الأمر كما وصفه ، وفي الدهليز خادم أسود وفي يده تكّة ينسجها ، فسألناه عن الدار ومن فيها ، فقال : صاحبها ، فوالله ما التفت إلينا وقلّ اكتراثه بنا.

فكسبنا الدار كما أمرنا فوجدناه داراً سرية ومقابل الدار ستر ما نظرت قطّ إلى أنبل منه ، كأنّ الأيدي رفعت عنه في ذلك الوقت ، ولم يكن في الدار أحد ، فرفعنا الستر فإذا بيت كبير كأنّ بحراً فيه ماء ، وفي أقصى البيت حصير قد علمنا أنّه على الماء ، وفوقه رجل من أحسن النّاس هيئة قائم يصلّي ، فلم يلتفت إليناولا إلى شيء من أسبابنا.

فسبق أحمد بن عبدالله ليتخطّى البيت فغرق في الماء ، وما زال يضطرب حتّى مددت يدي إليه فخلّصته وأخرجته وغشي عليه وبقي ساعة ، وعاد صاحبي الثاني إلى فعل ذلك الفعل ، فناله مثل ذلك ، وبقيت مبهوتاً.

فقلت لصاحب البيت : المعذرة إلى الله وإليك ، فوالله ما علمت كيف الخبر ، ولا إلى من اُجيئ ، وأنا تائب إلى الله ، فما التفت إلى شيء ممّا قلنا ، وما انفتل عمّا كان فيه ، فهالنا ذلك وانصرفنا عنه ، وقد كان المعتضد ينتظرنا ، وقد تقدّم إلى الحجّاب إذا وافينا أن ندخل عليه في أي وقت كان ، فوافيناه في بعض الليل ، فأدخلنا عليه ، فسألنا عن الخبر ، فحكينا له ما رأينا ، فقال : ويحكم لقيكم أحد قبلي وجرى منكم إلى أحد سبب أو قول؟

قلنا : لا ، فقال : أنا نفي من جدّي ، وحلف بأشد أيمان له أنّه رجل إن بلغه هذا الخبر ليضربنّ أعناقنا ، فما جسرنا أن نتحدّث به إلاّ بعد موته»(١) .

_________________________

(١)كتاب الغيبة : ١٤٩.

٤٥

وممّا يدّل أيضاً على أنّ الخلفاء العبّاسيّين قد عزموا على قتله إن عثروا عليه ، ما قاله الإمام الصادقعليه‌السلام لجماعة من شيعته قوله :«بنو اُميّة وبنو العبّاس لمّا أن وقفوا على أنّ زوال مملكة الاُمراء والجبابرة منهم على يدي القائم منّا ، ناصبونا للعداوة ، ووضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإبادة نسله ، طمعاً منهم في الوصول إلى قتل القائم ، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون ...» (١) .

السؤال التاسع :

هل يمكن رؤية الإمام المهدي في زمن غيبته؟

الجواب : نعم ، ولماذا لايمكن ، فإنّ الإمام المهدي يعيش على هذه الأرض ، بين النّاس ، والنّاس تراه ويراهم ، ولكن لا يعرفه إلاّ من له حظّ الرؤية.

فهذا عليّ بن مهزيار ، وإسماعيل الهرقلي ، ومحمد بن عيسى البحريني ،والعلاّمة الحلّي ، والمقدّس الأردبيلي ، والسيّد مهدي الطباطبائي الملقّب بـ بحر العلوم ، وعشرات من المتّقين الذين فازوا بلقاء الحجّة ، وصرّحوا بأنّهم شاهدوه ، ونقلوا عنه اُموراً(٢) .

ولو فرضنا أنّنا شككنا في صحّة قسم من هذه اللقاءات ، فإنّه لا يمكننا إنكارها جميعاً. وأمّا ما روي أنّه لمّا دنت وفاة الشيخ أبي الحسن عليّ بن محمّد السمريـآخر النواب الأربعة للإمام المهدي في عصر الغيبة الصغرىـخرج توقيع عن الإمام المهديعليه‌السلام إليه :

_________________________

(١)كتاب الغيبة : ١٠٦.

(٢)انظر كتاب حقّ اليقين : ٣٢٥. منتهي الآمال : ٢ / ٥٠٨.

٤٦

«بسم الله الرحمن الرحيم

يا عليّ بن محمّد السُّمري ، أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنّك مّيت ما بينكوبين ستّة أيّام ، فاجمع أمرك ، ولا توصِ إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامّة ، وسيأتي من شيعتي من يدّعي المشاهدة ، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفترٍ »(١) ، فيقول العلاّمة المجلسي : «لعلّه محمول على من يدّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبهعليه‌السلام إلى الشيعة على مثال السفراء(٢) .

ولعلّ الإمام المهدي أراد بهذه الرسالة إيقاظ الشيعة عن مؤامرات الأعداء ضدّهم ، الذين يريدون بالإسلام كيداً للتلاعب بأحكام الإسلام أو بتغيير ما ثبت بدعوى التشرّف بلقاء الإمام الحجّة الغائبعليه‌السلام ، ولذلك سدّ هذا الباب حتّى لا يدّعي أحدـكائناً من كانـأنّه سفير ، ونائب خاصّ عنهعليه‌السلام .

السؤال العاشر :

هل يمكن رؤية الإمام في عالم الرؤيا؟

الجواب : نعم يمكن ذلك ، بل ثبت ذلك في عصر حضور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام ؛ لأن ّ الشيطان لا يمكنه أن يتمثّل بصورة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد المعصومين كما دلّت الروايات على ذلك.

ولقد رأى بعض الصاحبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته كأمير المؤمنينعليه‌السلام وبلال الحبشي ،وهكذا رأى بعض أصحاب الأئمّة أئمّتهم ، وتحدّثوا بذلك ولم ينكروا ذلك عليهم.

_________________________

(١)منتهى الآمال : ٢ / ٥٠٨.

(٢)بحار الأنوار : ٥٢ / ١٥١.

٤٧

ولقد حدّثنا الصادقعليه‌السلام عن أبيه ، عن جدّه ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«من رآني في منانه فقد رآني ، فإنّ الشيطان لا بتمثّل في صورتي ولا في صورة أحدٍ من أوصيائي ، ولا في صورة أحد من شيعتهم» (١) .

قال العلاّمة المجلسي في تفسير هذا الحديث أنّه : «يدلّ الخبر على عدم تمثّل الشيطان في المنام بصورة النبيّ والأئمّة ، بل بصورة شيعتهم أيضاً ، ولعلّه محمول على خلّص شيعتهم ، كسلمان وأبي ذرّ والمقداد وأضرابهم»(٢) .

وقال الشيخ الصدوق مؤيّداً الأحاديث الرؤية : «وروي في الأخبار الصحيحة عن أئمّتناعليهم‌السلام أنّ من رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو واحداً من الأئمّة صلوات الله عليهم قد دخل مدينة أو قرية في منامه ، فإنّه أمن لأهل تلك المدينة أو القرية ممّا يخافونويحذرون ، وبلوغ لما يألمون ويرجون»(٣) .

فتحصّل ممّا سبق أنّه يمكن رؤية الإمام المهدي في المنام لأنّه أحد الأئمّة الهداة ،والشيطان لا يتمثّل به ، وأنّ رؤيتهعليه‌السلام في المنام خير ويسر إن شاءالله.

_________________________

(١)البحار الأنوار : ٥٨ / ١٧٦.

(٢)المصدر المتقدّم : ٢٣٤.

(٣)كمال الدين : ١ / ٢١٠.

٤٨

٤٩

٥٠

طبق الروايات الصحيحة الواردة ، أنّ الإمام المهديعليه‌السلام ولد في سنة٢٥٥ هجريّة ، وعلى هذا يكون عمره الشريف حالياً(١١٧١) سنة ، فهذا العمر الطويل المبارك أثار تساؤلات وشبهات في أذهان بعض المسلمين بأنّه هل يمكن أن يعمّر الإنسان هذا العمر الطويل ، هل لهذا العمر الطويل سابقة سبق بها الأنبياء أو النّاس العاديّين أو لايمكن؟

وخُصّص هذا الفصل للإجابة على هذه الأسئلة.

السؤال الحادي عشر

هل يمكن أن يعيش الإنسان هذا العمر الطويل؟

الجواب : طول العمر ليس أمراً محالاً ، ولكنّه ليس أمراً عاديّاً في الحقيقة ،وغير العادي يقال للحوادث التي لا يعتبر وقوعها محالاً ، ولكنّها نادرة الوقوع ، فإنّ شفاء الأمراض الصعبة علاجها إثر الدعاء أو التوسّل بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بالأئمّة المعصومينعليه‌السلام ، أو سقوط إنسان من مكان مرتفع وبقاءه حيّاً لا يمكن أن نقول إنّه محال ، بل هو أمر عادي.

فكذلك مسألة طول العمر في الإنسان ، ليس أمراً محالاً ، ولكنّه أمراً غير عادي ، ومن هذا الباب أيضاً معجزات الأنبياء ، وكرامات الأئمّة الهداة ، فإنّها اُمور غير عادية.

٥١

وأمّا علم الطب الحديث لم يستطع لحدّ الآن أن يكتشف سرّ الموت ، أو أن ينفي إمكان طول العمر ، أو يحدّد ذلك ، بل اعتقد علماء الغرب اليوم أنّ البشر يمكنهم أن يعمّروا مئات السنين.

يقول الدكتور الأميركي كيلورد : «إنّ علم الطب في هذا اليوم بمعونة علم التغذية رفع الموانع والحدود التي تمنع البشر من أن يعمّروا ، ونحن اليوم على خلاف ما كان عليه أجدادنا وآبائنا ، نأمل أن نعيش أعماراً طويلة»(١) .

وكذلك الدكتور جورج رئيس الجامعات في ألمانيا ، حيث قام بالتحقيق على نبات يسمّى باللاتينيّة : «سابرولينا مسكتا» ، وهو يعيش على ظهر الذباب الأزرق ، ولا يعيش أكثر من إسبوعين ، وقام بزرعه بعد ما وفّر له ظروف خاصّة ، فعاش ستّ سنين بدل إسبوعين ، وهذه التجربة تساعدنا في تشبيه عمر الإنسان حالياً إلى١٠٩٢٠ سنة»(٢) .

يعني لو كان بإمكان البشر أن يطوّل عمر النبات من إسبوعين إلى ستّ سنوات ، فكيف لا يمكن أن يعيش الإنسان بهذه النسبة من عمره إلى عشرة آلاف سنة وأكثر.

السؤال الثاني عشر :

هل أشار القرآن الكريم إلى مسألة طول عمر البشر؟

الجواب : نعم ورد في القرآن الكريم آيات تدلّ على طول العمر بين الجنّوالإنس ، فمنها :

_________________________

(١)پاسخ ما : ١٧.

(٢)المصدر المتقدّم : ٢٠.

٥٢

١ـ قول الله تبارك وتعالى للشيطان :( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) (١) .

فلو تأمّلنا في هذه الآية الشريفة ، وما جرى بين الشيطان وخالقه من كبره على الله ، وعدم الإئتمار بأمره ، وطرده من رحمته ، طلب من الباري جلّ وعزّ أن يمهله إلى يوم الوقت المعلوم ، الذي فسّر بيوم ظهور المهديعليه‌السلام ، فإنّنا لو فرضنا أنّه حان وقت ظهورهعليه‌السلام لكان عمر الشيطان من بداية خلق آدم حوالي ثمانية آلاف سنة ، فما يكون إذاً لو أضفنا عمره قبل خلق آدم وإلى ظهور المهدي الذي لا يعلم ذلك إلاّ الله.

٢ـ وذكر القرآن الكريم في قصّة نوحعليه‌السلام ، وما جرى بينه وبين قومه في أداء رسالته الإلٰهيّة ، وما تحمّل من الأذى ، فقال عزّ من قائل :( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ) (٢) .(٣)

٣ـ وأشار أيضاً إلى قصّة يونس :( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٤) ، أي لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، وبما أنّ يوم القيامة غير معيّن من حيث الزمان ، عرفنا أنّ القرآن الكريم أشار إلى مسألة طول عمر يونس من كونه حيّاً وباقياًفي بطن الحوت إلى يوم القيامة إذا ما كان من المسبّحين.

٤ـ وأشار أيضاً إلى قصّة أصحاب الكهف ، ونومهم أكثر من ثلاثمائة سنة بقوله :

_________________________

(١)الحجر (١٥) : ٣٧ و ٣٨.

(٢)العنكبوت (٢٩) : ١٤.

(٣)نور الثقلين : ٤ / ١٥٤.

(٤)الصافّات (٣٧) : ١٤٣و ١٤٤.

٥٣

( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) (١) ، فلا شكّ أنّ هذا العمر طويل ، ولا شكّ أيضاً أنّ الذي يعيش ثلاثمائة سنة سيعيش أكثر من ذلك لو قدّر الله له ذلك.

فلو أضفنا سنين حياتهم قبل النوم وبقاءهم بعد اليقظة إلى زمان المهديعليه‌السلام ، كما سنشير إليه في أصحابه ، نستنتج ما أشار إليه القرآن الكريم في مسألة طول العمر بالنسبة إلى الإنسان ، ومنه إمكان هذا العمر الطويل بالنسبة إلى الإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام .

السؤال الثالث عشر :

هل سبق المهدي عليه‌السلام أحدٌ من النّاس بطول العمر؟

الجواب : إنّ مسألة طول العمر تعتبر من المسلّمات في تاريخ البشريّة ، ولو راجعنا بعض الكتب لعثرنا على أسماء كثير من النّاس ممّن عمّروا ، وطول العمر أيضاً لا يختصّ بالصالحين فقط؛ لأنّ كثيراً من الكفرة والظلمة كان لهم عمراً طويلاً ، فمثلاً : عاش شدّاد بن عاد٩٠٠ سنة ، وعمر بن عامر٨٠٠ ، وزهير بن عباب٣٠٠ سنة ، وابن هبل بن عبدالله٦٠٠ سنة ، ومستوعر بن ربيعة٣٣٠ سنة ، ودريد بن زيد٤٥٠ سنة ، وقس بن عبادة٦٠٠ سنة(٢) .

وأمّا من بين الصالحين ، فعاش لقمان بن عاد٣٥٠٠ سنة(٣) ، وعاش عليّ بن عثمان المعروف بابن أبي الدنيا٣٠٩ سنة(٤) .

_________________________

(١)كهف (١٨) : ٢٥.

(٢)راجع بحار الأنوار : ٥١ / ٢٥٥ ـ ٢٨٨.

(٣)و(٤)الشيعة والرجعة : ١ / ٢٩٥. فردوس الأخبار : ٣ / ٨٦.

٥٤

وأمّا مسألة طول العمر بين الأنبياء العظام ، فكانت من الاُمور الطبيعيّةوالعادية فيهم ، وقد اُشير إلى ذلك في كثير من الروايات.

فمن الذين عمّر طويلاً نوح النبيّعليه‌السلام ، فقيل : إنّه عاش١٠٠٠ أو١٤٠٠ أو١٤٥٠ أو١٤٧٠ أو٢٣٠٠ أو٢٥٠٠ سنة ، ولقد مرّ عليك أنّ القرآن صرّح أنّ فترة دعوته في قومه كانت٩٥٠ سنة ، وثبت أيضاً هذا العمر الطويل بالنسبة إلى سائر الأنبياء ، مثلاً : سيّدنا آدمعليه‌السلام عمّر٩٣٠ سنة ، وعمّر سليمانعليه‌السلام ٧١٢ ، أو١٠٠٠ سنة ، وهكذا شيثعليه‌السلام عمّر٩٢٠ سنة ، وهودعليه‌السلام عاش٦٧٠ سنة.

هذا بالنسبة إلى الأنبياء الذين عاشورا وماتوا ، وأمّا بالنسبة إلى الياس النبيّ أو إدريس أو عيسى أو الخضرعليهم‌السلام (١) ، الذين هم أحياء إلى يومنا هذا ، فحدّث ولا حرج من طول عمرهم ، وقد خصّص الشيخ الوالدرحمه‌الله في كتابه الشيعةوالرجعة فصلاً خاصّاً عن هؤلاء المعمّرون من الأنبياء وغيرهم ، فراجع.

_________________________

(١)راجع : الشيعة والرجعة : ٢٩٣ ـ ٣٠٠.

٥٥

٥٦

٥٧

٥٨

إنّ مسألة غيبة الإمام المهديعليه‌السلام من المسائل المهمّة الغامضة ، ولا يهتدي أحد إلى أسرارها ، فلا شكّ أنّ الله جعل ذلك لأسباب ومصالح ، وأخفاها علينا ،ولا تظهر تلك الأسرار إلاّ بعد ظهورهعليه‌السلام ، وقد يختلج في الأذهان بعض الأسئلة ، فمنها :

ما هي علل هذه الغيبة؟ وهل حصلت الغيبة لنبيّ أو وصيّ قبل الإمام المهدي؟ وما هو معني انتظار الفرج؟ ولماذا يجب علينا أن نهيّأ أنفسنا ليوم ظهورهعليه‌السلام ؟ وما الآثار المترتّبة على انتظار الفرج ، وغير ذلك ممّا سنبحث عنه في هذا الفصل.

السؤال الرابع عشر :

هل وقعت غيبة قبل الإمام المهدي؟

الجواب : إنّ مسألة الغيبة كما قلنا هي من الأسرار الإلٰهيّة ، ولا تختصّ بالحجّة بن الحسنعليه‌السلام فقط ، وقد حصل ما يشابه هذه الغيبة لبعض أنبياء الله العظام ، كآدم ونوح وإدريس وصالح وإبراهيم ويوسف وموسى وشعيب وإسماعيلوإلياس ولوط ودانيال وعزير وعيسى ونبيّ الإسلام محمّد بن عبدالله صلّى الله عليهوعليهم أجمعين.

فكان لبعضهم غيبة صغرى ، وبعضهم غاب ولا يزال غائباً إلى الآن ،

٥٩

فنبيّ الله صالحعليه‌السلام غاب عن قومه فترة من الزمن ثمّ رجع إليهم ، فافترق النّاس فيه إلى ثلاثة فِرق : فرقة أنكروا نبوّته ، وفرقة مازالت في الشكّ ، وفرقة بقيت على الوفاء بعدها وإيمانها به.

وأمّا إدريس ، فغاب عن قومه بعد مواجهة طاغوت عصره ما يقارب عشرين سنة. فقال لعشرة من أتباعه قبل غيبته : «لقد دعوت الله عزّ وجلّ أن يحبس قطر السماء عن هذه البلدة فاخرجوها أنتم منها أيضاً. وهكذا إلياسعليه‌السلام الذي خرج إلى الصحاري والقفاز ، وغاب عن قومه سبع سنين. وهكذا موسىعليه‌السلام غاب سبع وعشرون سنة ، ودانيالعليه‌السلام غاب تسعين سنة»(١) .

فتحصّل أنّ المسألة لم تنحصر في الإمام المهدي فقط ، بل سبقه جمع منالأنبياء عليهم صلوات الله الملك العلاّم.

السؤال الخامس عشر :

ما هي علّة غيبة الإمام المهدي عليه‌السلام ؟

الجواب : قلنا إنّ مسألة الغيبة تعتبر من الأسرار الإلهيّة ، ولا يعرف سرّها إلى اليوم غير المعصومينعليهم‌السلام ، ومن هنا لما طرحت مسألة الغيبة قبل ولادة المهديعليه‌السلام كثرت الأسئلة عنها ، ولمّا لم يؤذنوا بإفشاء هذا السرّ ، جهل النّاس علّة ذلك.

يقول عبدالله بن الفضل الهاشمي : «سمعت الإمام الصادقعليه‌السلام يقولـلمّا سألته عن وجه الحكمة في غيبته :ـوجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدّمة من حجج الله تعالى ، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره ،

_________________________

(١)راجع كتاب الشيعة والرجعة : ١ / ٣٢٩.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

القراءة الثانية

(ولاية عليّ في الشرائع السابقة)

النقطة الأولى:

فكما قد أخذ اللَّه تعالى على النبيّين والرسل الميثاق بالإقرار بنبوّة خاتم الأنبياء، وبُعثوا بالبشارة بها لأقوامهم، أخذ عليهم وعلى أُممهم الإيمان والتصديق بها: ( وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِالله وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (١) .

فأخذ اللَّه الميثاق على النبيّين في مقابل إيتائهم وبعثهم بالكتاب والحكمة والنبوّة، وشرط عليهم الإيمان بخاتم الأنبياء ونصرته، وكان ذلك الميثاق مشدّداً مغلّظاً وقد أخذ فيه إقرارهم بذلك وأشهدوا عليه تغليظاً.

ولا يخفى أنّ الآية مشحونة بالدلالات على هيمنة مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع

____________________

١) سورة آل عمران: ٨١ - ٨٥.

١٤١

الأنبياء:

منها: التعبير عنهم بالنبوّة والتعبير عنه بالرسالة؛ فإنّ وصف الرسالة أعلى من مقام النبوّة، وفيه إشارة إلى توسّطه صلى‌الله‌عليه‌وآله بين اللَّه تعالى وبين الأنبياء بالرسالة.

ومنها: التعبير عنه (بمصدّق)، والتعبير عنهم بأنّهم (يؤمنون به)، فإنّ ذلك يقتضي اتّباعهم له دونه؛ فإنّه يوثّق نبوّاتهم.

ومنها: التعبير عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ تصديقه أسند إلى ما معهم ممّا قد أُوصي لهم، وهذا يغاير التعبير بأنّه (مصدّق لهم)، بينما التعبير عنهم عليهم‌السلام بأنّهم (يؤمنون به صلّى الله عليه وآله)، أي: جعل متعلّق إيمانهم به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه بيان لعلوّه عليهم في المقامات الإلهية.

ومنها: قد أخذ عليهم نصرته دونه، ولم يؤخذ ذلك عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله . ثمّ بين تعالى أنّ الإيمان بنبوّة خاتم الأنبياء هو دين اللَّه الذي هو الإسلام، وهو دين إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وموسى، وعيسى، والنبيّين.

ونظير هذه الآيات قوله تعالى على لسان نبيّه عيسى عليه‌السلام : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (١) ، وكذا قوله تعالى في قضية بني إسرائيل: ( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) (٢) ، فبيّن تعالى أنّ اليهود كانوا قبل بعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يستبشرون به، ويستظهرون ببعثته وملكه على المشركين؛ لمعرفتهم ذلك في توراتهم: ( لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ

____________________

١) سورة الصفّ: ٦.

٢) سورة البقرة: ٨٩.

١٤٢

وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

النبوّة والولاية

وكما قد أُخذ نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإيمان بها على الأنبياء السابقين وأُممهم؛ لكونها قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء، فكذلك قد أُخذت ولاية عليّ عليه‌السلام وإمامته على الأنبياء السابقين وأُممهم لأخذها في قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء والرسل السابقين. ولبيان ذلك لابدّ من الالتفات إلى نقطتين:

قاعدة أديانية: وحدة الدين وتعدّد الشرايع

الأُولى: إنّ هناك تعدّد بين معنى الدين والشريعة، فإنّ الدين واحد وهو الإسلام الذي قد بُعث به جميع الأنبياء والرسل ولا نسخ فيه، وهو مجموعة أُصول العقائد والمعارف، وأركان الفروع وأُصول المحرّمات والواجبات في الفروع، وهذا بخلاف الشريعة؛ فإنّ لكل رسول شريعة وهي ناسخة لشريعة النبيّ والرسول الذي قبله، والشريعة هي تفاصيل التشريعات في الفروع.

ويشير إلى هذا التغاير قوله تعالى: ( ِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٢) ، فالدين عند اللَّه واحد وهو الإسلام، ولم يبعث الأنبياء بأديان مختلفة، وإنّما الذي أحدث اختلاف الأديان هم أتباعهم، حيث حرّفوا الدين

____________________

١) سورة الأعراف: ١٥٧.

٢) سورة آل عمران: ١٩.

١٤٣

الواحد وهو دين الإسلام بغياً.

ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (١) ، فبيّن تعالى تعدّد شرائع ومناهج الأنبياء بخلاف الدين فإنّه واحد، وسيأتي تفصيل هذه النقطة وبسطها.

ونستخلص من هذه النقطة في المقام أنّ الأُصول الاعتقادية وأُصول الإيمان هي من مساحة الدين، ومن مقوّمات دين الإسلام غير القابلة للنسخ والتبدّل والتغيّر، فلا تكون من أجزاء الشريعة ولا من تفاصيل الفروع.

وهذا المبحث والقاعدة الأديانية ينبع منها مناهل عذبة في بحوث المعرفة الدينية واختلاف المذاهب، وينبّه إلى هذا التغاير بين الدين والشريعة، ووحدة الدين وتعدّد الشرايع ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص، من (مسائل عبد اللَّه بن سلام) للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

(... قال: صدقت يامحمّد، فأخبرني إلى ما تدعو؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى الإسلام والإيمان باللَّه. قال: ما الإسلام؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : شهادة أن لا إله إلاّ اللَّه وحده لاشريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللَّه يبعث من في القبور. قال: صدقت يا محمّد، فاخبرني كم دين لربّ العالمين؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : دينٌ واحد، واللَّه واحد لا شريك له. قال: وما دين اللَّه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الإسلام. قال: وبه دان النبيّون من قبلك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم. قال: فالشرائع؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : كانت مختلفة وقد مضت سنّة الأوّلين. قال: صدقت يامحمّد...) (٢) .

____________________

١) سورة المائدة: ٤٨.

٢) الاختصاص، ص٤٢.

١٤٤

ولاية عليّ عليه‌السلام أصل في الدين لا من فروع الشريعة:

النقطة الثانية: إنّ جملة ما ورد من آيات قرآنية في ولاية عليّ وولده عليهم‌السلام وإمامتهم، وكذلك ما ورد من أحاديث نبويّة متواترة ومستفيضة في ذلك، دالّ على أخذ ولايتهم وإمامتهم أصلاً إيمانياً قوامياً في الاعتقاد، كما أشبع ذلك علماء الإمامية ومتكلّميهم في كتبهم، وهذا يقتضي أخذ ولايتهم وإمامتهم ركناً في الدين الحنيف وهو الإسلام، لا أنّها فريضة في تفاصيل الشريعة بمقتضى ما تبين في النقطة الأُولى السابقة

ويعزّز هذه الحقيقة قوله تعالى في آية الغدير: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١) .

وبيان الآية وإن كان له مقام آخر سيأتي، إلاّ أنّ مفادها إجمالاً: إنّ الذي بلغه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك اليوم من أخذ البيعة لعليّ عليه‌السلام في غدير خم من المسلمين، بها يتحقّق كمال الدين، وهو الإسلام وهو الركن الركين لرضا الربّ لدين الإسلام، فبيّنت الآية أنّ ولايته وولاية ولده عليهم‌السلام مأخوذة ركناً في الدين، لا فريضة فرعية في تفاصيل الشريعة.

وسيأتي ثمّة وجه التعبير بأنّها (كمال الدين) ولم يعبّر أنّها (تمام الدين أي الفرق بين الكمال والتمام كما يعزّز هذه الحقيقة قوله تعالى في آية الغدير الثانية وهي: ( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (٢) ، حيث جعل الباري تعالى تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لبقية أجزاء الدين وللشريعة في طرف، وتبليغه لما أمر به في يوم

____________________

١) سورة المائدة: ٣.

٢) سورة المائدة: ٦٧.

١٤٥

الغدير من حجّة الوداع في سورة المائدة في طرف آخر، وهذا ممّا يقضي بكون ولايته وإمامته هي بتلك المكانة في الشأن والأهميّة في الدين، أي من الأُصول الاعتقادية، فهي من الأركان في الدين الحنيف، لا من التفاصيل الفرعية في الشريعة.

وهذا هو مفاد آية المودّة أيضاً في قوله تعالى: ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) ، حيث جعل الباري تعالى مودّتهم في كفّة والرسالة في كفّة أُخرى، سواء رجع ضمير (عليه) إلى الدين أو إلى جهده صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ الدين؛ فإنّ المآل واحد، حيث إنّ قيمة العمل وأجرته هي بقيمة نتيجة العمل وهو الدين، فإذا قوبلت مودّتهم ببقية أجزاء الدين برمّتها اقتضى ذلك كون مودّتهم هي الركن الركين في الدين، وعليه يظهر أنّ ولايته عليه‌السلام وولده المطهرين هي تتلو نبوّة خاتم الرسل في الموقعية فهي من الأركان الثابتة في الدين الحنيف وهو الإسلام. وقد تبيّن ممن مضى أنّ الدين واحد وهو الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل)

وهو أمر لا نسخ فيه ولا تبديل، كما قال تعالى: ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) (٢) ، فبيّن تعالى أنّ الدين الذي بُعث به الأنبياء وأُولو العزم واحد، لم يتفرّقوا فيه، وإنّ تفرّق أتباعهم ليس من الدين في شي‏ء، وإنّما هو لبغي الأتباع والأقوام.

ويتّضح من ذلك، أنّ جميع الأنبياء والرسل بُعثوا على الإقرار برسالة خاتم النبيّين ومحبّة قرباه وولاية أهل بيته.

____________________

١) سورة الشورى: ٢٣.

٢) سورة الشورى: ١٣ - ١٤.

١٤٦

القواعد الثلاث الأُمّ

المحيطة في معرفة مقاماتهم

القاعدة الأولى:

من شرائط قبول التوبة التوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه بعد المعرفة والتصديق بولايتهم.

القاعدة الثانية:

إنّ شرط صحّة العبادة وقبولها بل صحّة الإيمان باللَّه وبرسوله وبولايتهم هو التوجّه بهم إلى اللَّه بعد التصديق بولايتهم.

القاعدة الثالثة:

إنّهم عليهم‌السلام باب اللَّه الأعظم الذي منه يُؤتى للقرب والزلفى ونيل كلّ مقام، وإنّ دعاء العبد والعباد لا يستجاب إلاّ بعد أن يطلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من اللَّه تعالى ويسأله إجابة طلبهم، وهو معنى شفاعته ووسيلته عند اللَّه تعالى كما سيتبين من الآيات.

أمّا القاعدة الأولى: وهي شرطية التوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في صحّة وقبول التوبة بعد التصديق بولايتهم، فقد ذكر جملة من المتكلّمين والمفسّرين والمحدّثين وفقهاء الإمامية: أنّ ولايتهم عليهم‌السلام من جملة شروط قبول وصحّة التوبة؛

١٤٧

لقوله تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ) (١) ، حيث اشترطت الآية في التوبة الهداية علاوة على أصل الإيمان والعمل الصالح، وهي المشار إليها في آيات عديدة، كقوله تعالى: ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد ) (٣) ، وقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (٤) .

وغيرها من الآيات فضلاً عن الروايات المستفيضة المشيرة إلى وجه دلالة الآيات على ذلك. إلاّ أنّ مقتضى جملة من الآيات والروايات إضافة شرط آخر وهو التوسّل والتوجّه بهم عليهم‌السلام إليه تعالى، ويدلّ عليه جملة من الآيات:

منها: قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً ) (٥) ، فذكرت الآية ثلاثة شروط لحصول التوبة:

الأوّل: مجي‏ء مذنبي الأُمّة إلى الرسول. والمراد: الالتجاء والتوسّل والتوجّه به إلى اللَّه تعالى، فجعل تعالى ذكره التوجّه أوّلاً إلى نبيّه الذي هو الوسيلة، لكي يتمّ التوجّه من بعد إليه، كاستقبال المصلّي أوّلاً الكعبة متوجّهاً بها إلى اللَّه تعالى، فهذا الشرط الأوّل من ناموس أدب الدعاء في القرآن الكريم.

ودعوى السلفية بشركية التوجّه في‏ الدعاء إلى النبيّ وأهل بيته رَدٌّ لهذه السنّة القرآنية العظيمة في أدب الدعاء، بل إنّ الآية ناصّة بكل وضوح على أنّ دعاء أي داعي لا يستجاب إلاّ بطلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من اللَّه تعالى، فلا بدّ من سؤال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من

____________________

١) سورة طه: ٨٢.

٢) سورة الفاتحة: ٧.

٣) سورة الرعد: ٧.

٤) سورة الأنبياء: ٧٣.

٥) سورة النساء: ٦٤.

١٤٨

ربّه كي يستجاب طلب الداعي.

الثاني: إعلان التوبة والاستغفار من الذنب.

الثالث: استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم بعد ذلك، وهو عبارة عن شفاعته لهم، فأيّ مذنب في هذه الأُمّة إلى يوم القيامة لا يغفر اللَّه له ذنبه إلاّ بشفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهذه الآية الكريمة هي من الآيات المتعرّضة لشرائط التوبة، حيث اشترطت لحصولها الشرائط الثلاثة الآنفة الذكر.

وقد حكى الآلوسي في روح المعاني عن ابن عطاء في تفسير قوله تعالى: ( لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (١) ، أي: لو جعلوك الوسيلة لديّ لوصلوا إليّ (٢) .

هذا وقد وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام روايات مستفيضة تفيد أنّ الدعاء من الأوّلين والآخرين - مطلقاً وبدون استثناء - محجوب حتّى يصلّي الداعي على محمّد وآل محمّد، كصحيح صفوان الجمال عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (كلّ دعاء يُدعى اللَّه عزّ وجلّ به محجوب عن السماء حتّى يصلّي على محمّد وآل محمّد) (٣) .

ومثلها: صحيح هشام بن سالم (٤) .

ومثلها: رواية الخزار بسندٍ متّصل عن أبي ذر، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومثلها: ما رواه الصدوق عن حارث الأعور عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٥) .

وفي موثقة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (من دعا ولم يذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رُفع الدعاء) (٦) . وغيرها من الروايات.

____________________

١) سورة النساء: ٦٤.

٢) روح المعاني للآلوسي، ج ٥، ص ١١٠، في ذيل تفسير آية ٧٥.

٣) الوسائل، ج٧، ص٩٢، ب ٣٦، ح ١.

٤) المصدر السابق، الحديث ٥.

٥) المصدر السابق، الحديث ١٦.

٦) المصدر السابق، الحديث ٦.

١٤٩

ومن الواضح أنّ التوبة والاستغفار من الذنب دعاء، فلا يرفع ولا تفتح له أبواب السماء إلاّ بالتوجّه بالنبيّ وآله، وسيأتي أنّ هذه الروايات تشير إلى مضمون عدّة من الآيات، فلابدّ من الالتفات إلى ذلك.

ويصبّ في مضمون قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ ) (١) قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) (٢) ، لكنّ الآية السابقة صريحة في الشرطية، وأمّا الآية الثانية فغاية دلالتها أنّ التوسّل والتوجّه بالنبيّ في التوبة والتسليم والخضوع والتعظيم لرسول اللَّه من مفاتيح الوَفادة على اللَّه تعالى، ومن علائم الإيمان، والاستكبار عن التوجّه بالنبيّ من صفاة النفاق والمنافقين.

التوجّه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعاء

وهذه الآيات القرآنية هي الأُخرى تدلّل على أنّ من سنن ناموس الدعاء في القرآن التوجّه أوّلاً إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والطلب منه للتوسّط عند اللَّه لقضاء الحاجة، وليس من الأدب الإلهي - في دعاء العبد - أن يتوجّه بالدعاء والطلب إلى اللَّه تعالى مباشرة ويصدّ عن التوجّه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تحت شعار الابتعاد عن الشرك والتفويض والغلوّ - كما يدّعيه السلفية -؛ فإنّ هذا عين الاستكبار والنفاق، كما صرحت به هذه الآية الكريمة، وهو عين المرض الذي ابتلى به إبليس، حيث أبى أن يتوجّه بآدم كالملائكة في عبادته وسجوده حيث توجّهت لآدم لتتوجّه بعدُ به إلى اللَّه تعالى - وكانت الملائكة بذلك موحّدين - بخلاف إبليس؛ فإنّه وصِفَ بالكفر.

بل إنّ الآية تحصر استجابه دعاء كلّ داعي بأن يطلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من اللَّه تعالى حاجة العبيد كي

____________________

١) سورة النساء: ٦٤.

٢) سورة المنافقين: ٥.

١٥٠

يستجيب. وهو معنى إستغفاره ‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسؤاله، أي لابدّ من طلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومنها: قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) (١) ، فاشترطت الآية لفتح أبواب السماء التصديق بآيات اللَّه والخضوع لها، والمراد من آياته تعالى حججه المصطفون؛ كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (٢) ؛ وذلك لأنّ التكذيب في مقابل التصديق، وهما في حقّ الحجّة المنصوب الذي يخبر عن اللَّه تعالى، خلاف الآيات التكوينية في الآفاق مثلاً، فإنّه إليها يقال: غافلون عنها، ولا يسند التكذيب.

فاشترط في الآية المباركة أمران:

الأوّل: التصديق والإيمان بالآيات.

والثاني: الخضوع لها والتوجّه إليها؛ لأن التعبير بـ (استكبروا عنها) متضمّن لمعنى الصدّ، فمقابله الخضوع للآيات والتوجّه إليها.

وممّا يدلّل على أنّ المراد من الآيات الحجج المُصْطَفون، ورود التعبير بنفس الشاكلة في إباء إبليس عن التوجّه بآدم في عبادة ربّه، كما في قوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (٣) . فشاكل التعبير بالإباء الاستكبار؛ إذ الإباء هو الجحود القلبي، والاستكبار هو في جانب العمل والصد، في مقابل الخضوع والتوجّه. ومن الواضح أنّ فتح أبواب السماء لابدّ منه في التوبة لقبول دعاء الاستغفار.

ثمّ إنّ الآية جعلت هذين الشرطين من شروط دخول الجنّة، وأكّدت استحالة ذلك،

____________________

١) سورة الأعراف: ٤٠.

٢) سورة المؤمنون: ٥٠.

٣) سورة البقرة: ٣٤.

١٥١

أي: فتح أبواب السماء ودخول الجنّة، من دون الإيمان بآيات اللَّه الحجج المنصوبين من قِبله تعالى، ومن دون الخضوع والتوجّه بهم إليه تعالى، أي أنّه وإن حصل الإيمان بحجج اللَّه المصطفين لا يُفتح باب السماء للدعاء ولا يُدخل الجنّة من دون التوجّه إليهم والتوسّل بهم؛ ليحصل بذلك التوجّه إلى اللَّه تعالى.

ولا يخدعنّك استكبار إبليس، حيث أبى أن يتوجّه لآدم ويجعلُه قبلةً في سجوده، ليحصل بذلك التوجّه إلى اللَّه تعالى، كما فعلته كلّ الملائكة الموحّدين، بخلافه حيث أراد التوجّه مباشرة إلى اللَّه تعالى؛ استكباراً وصدّاً عن خليفة اللَّه تعالى ووسيلته. فما يقوله السلفية: من أنه يكون تفويض وغلو. هي مقوله إبليس وقد ردّ القرآن مقولته.

ثمّ إنّ هذه الآية لا تقتصر في الدلالة على القاعدة الأُولى، بل هي تدلّ على القاعدة الثانية؛ حيث إنّ فتح أبواب السماء ليس فقط في مقام الاستغفار والتوبة، ولا يقتصر على مطلق الدعاء، بل هو في مطلق التوجّه والنية في مقام العبادة للإقبال والوفود على الحضرة الإلهية، وفي صعود الأعمال والعقائد وقبولها، كما في قوله تعالى: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (١) ، فإنّ صعود الكلم الطيب وهو المعتقد ورفع العمل الصالح لا يتمّ إلاّ بفتح أبواب السماء، ومفاتيح أبواب السماء هي:

أوّلاً: التصديق بحجج اللَّه المصطفون الذين اصطفاهم بالطهارة.

وثانياً: الخضوع لهم بالتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى، لا الاستكبار والصدّ عنهم.

ومعنى التوجّه بهم إليه تعالى: هو التوجّه إليهم لكي يحصل التوجّه إليه تعالى، ولهذا أمر - تعالى - الملائكة بالتوجّه لآدم في السجود كي يحصل التوجّه إليه تعالى،

____________________

١) سورة فاطر: ١٠.

١٥٢

وكما هو الحال في التوجّه في العبادة إلى الكعبة لُيُتوجّه إلى الباري تعالى، ولهذا ابتدأت الآيتان السابقتان بذلك: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ) (١) ، و ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ... ) (٢) ، فالمجي‏ء إلى الحضرة النبويّة هو التوجّه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أولاً؛ ليطلب لهم من اللَّه تعالى، وليحصل لهم التوجّه إليه تعالى مآلاً، بل إنّ هذه الآية تدلّ على القاعدة الثالثة. وتقريب دلالتها:

أنّ التعبير بأبواب السماء وفتحها هو تعبير عن مسير الوفادة إلى الحضرة الإلهية، وبيان لمسافة القرب والزُلفى إلى الساحة الربوبية. فهو بيان للاستقبال والتوجّه إلى الحضرة الربانية، فكما تُستقبل القبلة ويُتوجّه بها إلى اللَّه فكذلك لابدّ في الاستقبال والتوجّه القلبي من التصديق بآياته، وحججه، والخضوع لطاعتهم والتوجّه بهم إليه في مطلق المقامات القُربية والزُلفية. فيمتنع على المستخفّين بحجج اللَّه والمستهينين بهم، الصادّين عن التوجّه إليهم وبهم إلى اللَّه أن تفتح لهم أبواب القرب الإلهي.

كما طُرد إبليس من درجة القرب وحُرمت عليه الرحمة الإلهية، وأُسقط من مقام الزُلفى إلى حضيض البعد وهاوية اليأس، وقعر الحرمان واللعنة؛ لاستكباره على خليفة اللَّه، وإباءه عن استقبال آدم في السجود والتوجّه به إلى اللَّه، فهو بذلك لم يقصّر في آداب العبودية مع الحضرة الربوبية فقط، بل امتنع عليه الوفود إليه تعالى، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (٣) ، فمن أُصول السنن الإلهية في أدب التوجّه واللقاء

____________________

١) سورة المنافقون: ٥.

٢) سورة النساء: ٦٤.

٣) سورة الأعراف: ١٢ - ١٣.

١٥٣

والقرب هو الخضوع لآياته وأصفياءه الذين نصّبهم حججاً على خلقه، بالتوجّه إليهم ليتّخذهم وسيلة إلى اللَّه.

حقيقة ابتغاء الوسيلة هو قصدها:

ومنها: قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١) ، والآية يمكن أن يذكر في إعرابها احتمالان:

الأوّل: أن يكون قوله (ابتغوا) قد أُسند إلى كلّ من (إليه) و (الوسيلة) ، فيعمل فعل (ابتغوا) في كلّ من الجار والمجرور والاسم، وهو الوسيلة، وعلى ضوء هذا التقدير في الإعراب يكون الابتغاء - وهو القصد والتوجّه - قد جعل متعلّقاً بكلّ من الجار والمجرور والوسيلة.

وحاصل المعنى حينئذٍ أنّه في مقام القصد يتوجّه إلى كلّ من الساحة الربوبية ويتوجّه إلى الوسيلة، غاية الأمر يكون التوجّه إلى الوسيلة مقدّمة للتوجّه إلى الساحة الربوبية.

الثاني: أن يكون فعل ( ابتغوا ) أُسند إلى (الوسيلة) فقط، أي أنّه يعمل في هذه اللفظة فقط، ويكون مفعول به للفعل، وأمّا الجار والمجرور فهو متعلّق بنفس الوسيلة، والذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ (الوسيلة) بما اشتمل من معنى الحذف، فيكون حاصل المعنى - حينئذٍ - أنّ القصد والتوجّه والابتغاء هو إلى الوسيلة ابتداءً وحصراً، غاية الأمر أنّ الوسيلة التي يتوجّه إليها هي تلك التي بذاتها تُوصّل وتُسلك بالذي يتوجّه إليها وبها إلى الساحة الربوبية، ويعضد هذا المعنى - وهو كون ابتغاء الوسيلة هو بالتوجّه إلى الوسيلة وقصدها ليحصل التوجّه إلى اللَّه

____________________

١) سورة المائدة: ٣٥.

١٥٤

تعالى مآلاً ومنتهىً - جملة من الشواهد:

منها: إنّ اتّخاذ الوسيلة المأذون بها من قِبله تعالى مقتضاه أنّ مقام الإقبال والارتياد للقرب لا يُطوى إلاّ بالوسيلة؛ لأنّ الوسيلة هي ما يُتوسّل به ويُعالج به لبلوغ غاية. فإذاً كان القصد إليه تعالى، والتوجّه إليه، كمنتهى الغايات يتوقّف على الوسيلة، مع أنّ الباري تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد من جانبه، لكنّه ليس قرباً مكانياً كقرب جسم من جسم، يستلزم قرب أحد الطرفين قرب الطرف الآخر، بل قربه تعالى منّا قرب قُدرةٍ وهيمنةٍ وقيمومة، وهو كمال سيطرته وقاهريته على عباده.

وأمّا من طرف العباد، فمسيرهم إلى شاهق الساحة الربوبية ذو مسافة بعيدة؛ لبعدهم وقصورهم عن الكمال المطلق، فلا يتسنّى لكلّ وارد أن يهتك الحُجُب. ومنه يظهر أنّ الآية في بيان سنّة إلهية دائمة دائبة في كلّ المخلوقات للتوجّه إلى الحضرة الإلهية.

ومنها: إنّ الآيات وسيلة لمعرفة الربّ عند القلب والعقل؛ فإنّ الباري تعالى من عظمته لا يُكتنه ولا يُكتنف ولا يُحاط به، كما لا يلمس، ولا يُجْبَه، ولا يمسّ، ولا يجسّ؛ إذ ليس هو بجسم، وليس بروح، وليس بعقل، فلا يجسّم ولا يشبّه بأحد من خلقه، إلاّ أنّ نفي التشبيه بمراتبه لا يستلزم التعطيل، بل إنّ فعله دالّ عليه، ولا سيما عظائم خلقه، وهي آياته الكبرى، ومنها يتعرّف العقل، ويهتدي إليه تعالى وإلى عظيم صفاته. كما هو محرّر مبسوط في مباحث المعرفة التوحيدية.

فبين نفي التشبيه ونفي التعطيل إقامة التوحيد، تتحقّق بدلالة الآيات، كما أشارت إلى ذلك الصدّيقة الزهراء فاطمة عليها‌السلام في مستهل خطبتها، حيث قالت: (وأحمد اللَّه، الذي لعظمته ونوره يبتغي مَن في السموات والأرض إليه الوسيلة، ونحن

١٥٥

وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه) (١) . فتُعلّل - سلام اللَّه عليها - ضرورة الوسيلة وابتغاءها بشدّة عظمة اللَّه، وحيث إنّ التعطيل مفروغ من بطلانه، فتحتّمت ضرورة الوسيلة. فالبرهان المتقدّم مستفاد من كلامها عليها‌السلام .

ويُستفاد البرهان المتقدّم أيضاً من قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : (اللَّه عزّ وجلّ حامل العرش والسماوات والأرض... ( أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ) (٢) ... وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة...) (٣) ، ومثلها عن الإمام أبي الحسن موسى عليه‌السلام (٤) .

فإذا كانت معرفة العقل هي بوسيلة الآيات والتوجّه إليها، والتدبّر فيها، يحصل التوجّه مآلا إليه تعالى، ومعرفة العقل والقلب هي الإيمان، وهي عبادة العقل والقلب؛ لأنّ الإيمان إخبات، وتسليم، وإذعان، وخضوع، وانقياد، وهو معنى العبادة، ومن ثمّ أُشير في تفسير قوله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (٥) ، أي: ليعرفون. ففُسّرت العبادة بالمعرفة، كما في النصوص المستفيضة وتفاسير الفريقين؛ لأنّ المعرفة والإيمان من العقل، يعني عدم إباءه، وعدم جحوده، وعدم تمرّده وطوعانيته، وخضوعه للحقّ، وهو حقيقة العبادة المتصوّرة من جوهر العقل.

فإذا كانت معرفة التوحيد والعبادة التوحيدية في العقل لا تقام إلاّ بالتوسّل بالآيات، والتوجّه إليها وقصدها؛ ليحصل التوجه والقصد إليه تعالى فهي بابه الأعظم الذي منه يُؤتي، فبماذا يلهج هؤلاء السلفية؟ وأنّى يُصرفون عن التوجّه إلى الوسيلة، ويزعمون أنّهم يتوجّهون مباشرة إليه تعالى؟ وهل وجدوا من أنفسهم أنّهم أقرب

____________________

١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد،ج ١٦، ص ٢١١.

٢) سورة فاطر: ٤١.

٣) الكافي، ج١، ص ١٢٩.

٤) الكافي، ج٨، ص ١٢٤.

٥) سورة الذاريات: ٥٦.

١٥٦

الخلق إليه تعالى؟ وإذا كان هذا حال العقل فكيف بمن دونه؟

فالعبادة لا تقتصر على بدن الإنسان وحركاته، ولا على النفس وأفعالها الجانحية من النية والقصد، بل يعمّ عبادة أفعال العقل والقلب والروح، وإذا كانت هذه الثلاثة - التي هي أقرب إلى اللَّه تعالى - تحتاج في عبادتها، بل مطلق قصدها وتوجّهها إلى اللَّه تعالى، إلى التوجّه إلى الآيات وقصدها، فكيف بما دونها؟ وإذا كان للآيات أخطر دور في علاقة العبد بالباري وهو مقام المعرفة، وأنّ معرفتها معرفته تعالى، والتوجّه إليها توجّه إليه تعالى، يتّضح أنّ آياته الكبرى هي بابه الأعظم الذي منه يُؤتى، ومنه الوفاد إلى الحضرة الإلهية. وبذلك يتّضح ما ورد (بنا عُبد اللَّه وبنا عُرف) (١) .

ومنها: تعاضد دلالة آية الوسيلة مع الآية السابقة، الدالّة على كون الآيات مفتاح أبواب السماء ومفتاح دخول الجنّة، حيث دلّت على أنّ الآيات الإلهية ممّا يتوجّه بها إليه تعالى، وأنّها مفتاح التوجّه والسير إليه عزّ شأنه، والآية هي العلامة الدالّة، فيتطابق معناها مع الاسم؛ لأنّ الاسم من الوسم، وهو العلامة أيضاً.

فتكون الآيات الإلهية هي أسماءه الحُسنى التي قال عنها تعالى: ( وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (٢) فأتى في الآية بلفظ الجمع، ممّا يدلّ على كثرتها، مع أنّ اللَّه هو الواحد الأحد، فالأسماء كثرة لكن المسمّى هو الواحد الأحد، فهي دوالٌّ عليه.

وهذه الدلالة هي حقيقة الآيات؛ إذ العبادة للمسمّى الواحد الأحد، لا للكثرة ولا للأسماء ولا للآيات الدالّة عليه، كما يستفاد هذا البيان العقلي من قول الإمام الصادق عليه‌السلام ، من صحيحة هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن أسماء اللَّه

____________________

١) الكافي، ج١، ص ١٤٥.

٢) سورة الأعراف: ١٨٠.

١٥٧

واشتقاقها: (اللَّه ممّا هو مشتقّ؟ فقال: يا هشام، اللَّه مشتقّ من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمن عَبَد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد، أفهمت يا هشام؟ قال: قلت: زدني. قال: للَّه تسع وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلها غيره. يا هشام، الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعدائنا المتّخذين مع اللَّه غيره؟ قلت: نعم. فقال: نفَعكَ اللَّه به وثبّتك يا هشام. قال: فو اللَّه ما قهرني أحد في التوحيد حتّى قمت مقامي هذا) (١) .

فإذاً، تبيّن أنّ الأسماء الحُسنى هي التي يُدعى بها الربّ ويُتوجّه إليها وبها إليه، وهي الأبواب التي منها يُقصد، وهي الآيات الكبرى التي أُمر العباد بتصديقها والخضوع لها والتوجّه بها، وأُنذروا عن التكذيب بها، والاستكبار عنها، وهي حججه المصطفين، وهي كلماته التامّات.

كما أُطلق لفظ الآية والكلمة على عيسى، في قوله تعالى: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ) (٢) ، وكما في قوله تعالى في وصف يحيى أنّه مصدّق بعيسى، خطاباً لزكريا: ( أنَّ الله يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله ) (٣) ، فأطلق على عيسى أنّه الكلمة التي يُصدق بها، نظير الأمر بتصديق آيات اللَّه وعدم التكذيب بها، كما ورد في وصف مريم: ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ) (٤) ،

____________________

١) الكافي، ج١، ص١١٤، باب معاني الأسماء واشتقاقها.

٢) سورة مريم: ٢١.

٣) سورة آل عمران: ٣٩.

٤) سورة التحريم: ١٢.

١٥٨

فغاير بين الكلمات والكتب، فجعلت الكلمات مقابل الكتب، وأنّها عليها‌السلام صدّقت بالكلمات.

فيظهر من ذلك: إنّ الكلمات التي يُصدَّق بها، وكذا الآيات التي يصدق بها ولا يكذّب بها، ولأنّ التكذيب والتصديق للخبر، فالآية التي توصف بذلك هي ذات مؤدّى خبري وهو: الحجّة المنصوب من قِبله تعالى يخبر عنه، فالحجج المصطفون هم الآيات التي لا يُكذّب بها ولا يُستكبر عنها، كما قد أطلقت على النبيّ عيسى ليتبين أنّ المراد بها هم الحجج الذين اصطفاهم اللَّه، كما أنّهم هم الأسماء الحسنى التي يُتوسّل بها ويتوجّه، ويُدعى الربّ بها، بعد ما تبين تطابق معنى الاسم والآية والكلمة في أصل المعنى لغةً بمعنى العلامة الدالّة.

ثمّ إنّ الآية الأُولى، وهي قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً ) (١) ، دالّة على القاعدة الثانية والثالثة، ولا تقتصر دلالتها على القاعدة الأُولى.

انحصار إجابة الدعاء بطلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منه تعالى:

وذلك لأنّه إذا كان التوسّل والتوجّه بالنبيّ شرط في التوبة لكلّ من أذنب من هذه الأُمّة، بل اشترط علاوة على ذلك في قبول التوبة تشفّع وشفاعة الرسول ووساطته، والتوبة من العبد هي الأوبة والإياب والرجوع إلى الساحة الإلهية، بتوطين النفس على الطاعة والانقياد، وترك التمرّد والإعراض، فماهية التوبة ذاتياً الخضوع العبادي، والانقياد القربي، وبالتالي فهذان الشرطان، وهما: التوجّه بالنبيّ، وشفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دخيلان في قبول هذه العبادة؛ إذ توبة اللَّه على العبد التي هي

____________________

١) سورة النساء: ٦٤.

١٥٩

معنى ( لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً ) هو قبول الباري لهذه العبادة، وإقباله على العبد بالرحمة وفيض الكمالات، والعطاء بالمنح والهبات، والفضل العميم والمنّ الكثير.

والأَوْبة من العبد في حقيقتها هي حالة وصفة الانقياد السارية في حقيقة كلّ العبادات؛ لأنّ كلّ عبادة هي نمط من الانقياد والخضوع وقوامها بذلك، فإذا كانت السنّة الإلهية في الانقياد هي اشتراطه بالتوجّه والتوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس مجرّد ذلك فقط! بل لابدّ من قيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفاعة والتشفّع لدى اللَّه في قبول عبادات أُمّته كي يقبلها الباري.

فلا يكفي الحُسن الذاتي لعبادة العبد - وهو ما يعرف بالحسن الفعلي - ولا يكفي ضمّ الحُسن الفاعلي أيضاً - وهو انقياد العبد إلى اللَّه وإلى نبيه بالتوجّه إليهما والتوسّل برسوله - بل لابدّ من ضمّ وساطة الرسول وشفاعته وتشفّعه لدى اللَّه في قبول عبادات أُمّته، والعبادات أعظم أعمال الأُمّة، ولابدّ من تشفّعه صلى‌الله‌عليه‌وآله لدى الباري؛ كي يقبل عبادات وأعمال الأُمّة، وهذا وجه قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (١) .

فوصفَ - تعالى - نبيه بالرحمة الواسعة العظيمة، الشاملة لكلّ العالمين والعوالم؛ إذ العالم هو اسم جمع، فكيف بجمع الجمع؟ وكيف مع دخول (أل) للاستغراق؟ فمِن ثَمّ كان صاحب الشفاعة الكبرى والوسيلة العظمى، كما ورد في روايات الفريقين.

وهو وجه قوله تعالى: ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) (٢) ، وصلاته على الأُمّة دعاءه وتشفّعه لدى اللَّه في حق أمته، ومثله قوله تعالى: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ

____________________

١) سورة الأنبياء: ١٠٧.

٢) سورة التوبة: ١٠٣.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592