الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146435 / تحميل: 9426
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

مريم متأخرة عن وحي المزامير بأكثر من ألف سنة؟! وأن ولادته النبوية متأخرة أيضاً عن ولادته من مريم بثلاثين سنة على ما تقوله الأناجيل؟! فمن أين يكون كلام المزمور الثاني مقولا في المسيح؟!!

وجاء في رسالة العبرانيين، في الإصحاح الخامس، في العدد الخامس، ما نصّه: ( كذلك المسيح لم يمجّد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك ).

وإن كاتب الرسالة يريد بذلك ما ذكرناه عن المزمور الثاني لكي يحتجّ به على اليهود.. وقد عرفت الكذب في انتهاب ذلك من داود للمسيح!

ولم تكتف رسالة العبرانيّين بهذا الانتهاب، بل قالت في الإصحاح الأول، في العدد الخامس، في الاحتجاج على اليهود لمجد المسيح وتفضيله على الملائكة بما جاء في كتبهم في العهد القديم، وهذا نصّ ما قالته: ( لمن من الملائكة قال فيما مضى: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك؛ وأيضاً: أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً ).

فأما قول الرسالة إنّ قوله: (أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك ) قد قيل في المسيح، فقد عرفت أنه كذب وانتهاب وغصب لحقّ داود وما قيل فيه.

وأما دعوى الرسالة أنه قيل في المسيح أيضاً في العهد القديم:

٤١

( أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً ) فهو أيضاً كذب وانتهاب من سليمان!

فقد تكرّر في نقل العهد القديم أن الله قال هذا القول في شأن سليمان بن داود، وهذا نصّه في الإصحاح الثامن والعشرين من أخبار الأيّام الأول، في العدد السادس من قول داود عن وحي الله: ( وقال لي: إن سليمان ابنك هو يبني بيتي ودياري، لأني أخترته لي ابناً، وأنا أكون له أباً ).

وفي الإصحاح الثاني والعشرين من أخبار الأيام الأول أيضاً، من العدد السابع إلى الحادي عشر، في خطاب داود مع سليمان بكلام الله لداود في شأن سليمان، هكذا: (لأنّ اسمه يكون سليمان، فأجعل سلاماً وسكينة في إسرائيل في أيامه، هو يبني بيتاً لاسمي، وهو يكون لي ابناً، وأنا له أباً ).

ونحو هذا أيضاً جاء في الإصحاح السابع من سفر صموئيل الثاني، من العدد الثاني إلى الخامس عشر.

فراجع المقامات المذكورة تجد هذا الكلام صريحاً في شأن سليمان وبنائه لبيت المقدس.

ويا للعجب - مع هذه التصريحات - كيف يجترئ أحد من الناس وينتهب هذا الكلام من سليمان، ويجعله مقولا في المسيح عيسى بن مريم؟!

٤٢

فأين ومتى تكون الأمانة والاجتناب عن الكذب والانتهاب؟!!

٤٣

(ردّ مزعمة أن بولس وأهل كورنتوش لا يموتون)

في الإصحاح الخامس عشر من رسالة كورنتوش الأولى، في العدد الحادي والخمسين والثاني والخمسين، بعد ذكر قيامة الأموات، جاء عن قول بولس ووحيه ما هذا نصّه:

( هو ذا سرّ أقوله لكم، لا نرقد كلّنا (أو: كلّنا لا نرقد) في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير، فإنه سيبوّق ويقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغيّر ).

والمراد: لا نموت كلّنا، أو: كلّنا لا نموت، كما تشهد به التراجم بغير العربية.

ويا للعجب! أين صار هذا الوعد السرّي الغيبي الذي قاله بولس بالوحي لأهل كورنتوش؟!

أليس قد مات بولس وأهل كورنتوش ورقدوا في مضاجع الأموات، وطحنهم البلى، ومضى على موتهم أكثر من ألف وثمان مائة سنة؟!

فيا للأسف على هذا الوعد والسرّ الغيبي الصادر عن الوحي!!

٤٤

(ردّ مزعمة أن بولس وأهل تسالونيكي لا يموتون)

وفي الإصحاح الرابع من رسالة تسالونيكي الأولى، من أول العدد الخامس عشر إلى الثامن عشر، جاء ما هذا نصّه:

( فإنّا نقول لكم هذا بكلمة الربّ: إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الربّ، لا نسبق الراقدين، لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء، والأموات في المسيح سيقومون، ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الربّ في الهواء ).

ويا للأسف لأهل تسالونيكي وبولس! أي حيّ منهم بقي إلى مجيء المسيح وقيامة الأموات؟!

وأين الأحياء الباقون لكي يخطفون في السحب مع الأموات القائمين من الموت في القيامة؟!

نعم، ها هو بولس وأهل تسالونيكي، قد اختطفهم الموت بقبور البلا، فدُرِست رممهم؛ وها هم منذ ثمانية عشر قرناً إلى الآن يختطفهم الموت إلى البِلى والاندراس!

فيا للأسف على هذا القول المقول بكلمة الربّ، بل يا

٤٥

للأسف لكلمة الله وشرفها إذ تلوّث بهذه الأقوال التي يظهر حالها بعد قليل من الزمان!

٤٦

(الكشف عن أن بطرس يكذب ويرائي في دينه)

وفي الإصحاح الثاني من الرسالة إلى أهل غلاطية، من العدد الحادي عشر إلى نهاية الثالث عشر، عن قول بولس ما نصّه:

(ولمّا أتى بطرس إلى أنطاكية قاومته مواجهة، لأنه كان ملوماً، لأنه قبلما أتى قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الأمم(١) ولكن لمّا أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه(٢) ، وراءى معه اليهود أيضاً، حتى أن برنابا انقاد إلى ريائهم ) انتهى.

ويا للأسف إذا كان بطرس - خليفة المسيح عندهم - يكذب ويرائي في دينه!! وحاشاه.

____________________

١- أي: على خلاف شريعة التوراة. لأن الأمم كانوا وثنيّين.

٢- أي: يرائي ويظهر أنه يتنجس من الأمم ولا يأكل معهم.

٤٧

(ردّ مزعمة أن يعقوب وجميع المشايخ أمروا بولس أن يرائي)

وفي الإصحاح الحادي والعشرين من كتاب أعمال الرسل، من العدد الثامن عشر إلى السابع والعشرين، ما حاصله:

إن يعقوب وجميع المشايخ(١) أمروا بولس أن يرائي ويعمل بأحكام التوراة رياءً لليهود وتمويهاً، لإبطال المشايخ والتلاميذ لشريعة التوراة.

فانظر هذا المقام من كتاب أعمال الرسل، ويا للأسف!!

____________________

١- يعني تلاميذ المسيح ورؤساء الديانة المسيحية.

٤٨

(الكشف عن أن بولس استعمل الرياء وختن تيموثاوس)

وفي الإصحاح السادس عشر من كتاب أعمال الرسل، من العدد الأول إلى الرابع ما حاصله:

إن بولس استعمل الرياء وختن تيموثاوس على خلاف تعليمه، لكي يرائي ويظهر كذباً أنه يعمل بأحكام التوراة وخصوص الختان!

٤٩

(الكشف عن أن بولس كذب وخالف وعده للمسيح)

تذكر الأناجيل أنه لما قبض اليهود على المسيح وأخذوه إلى رئيس الكهنة، تبعه بطرس، فقال بعض اليهود: إنّ هذا(١) من أصحاب المسيح؛ فأنكر بطرس بقسم قائلا: لست أعرف الرجل(٢) ...

ثم قيل له ثانياً، فابتدأ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل..

وتقول الأناجيل: إن المسيح أنذره في تلك الليلة وأخبره بأنه ينكره ثلاث مرات، فقال له بطرس: ولو اضطررت إلى أن أموت معك لا أنكرك..

فانظر إلى ذلك في الإصحاح السادس والعشرين من إنجيل متّى في العدد ٣٤ و ٣٥ و٦٩ إلى آخر الإصحاح المذكور، وانظر إلى الإصحاح الرابع عشر من مرقس.

وليت كاتب الإنجيل يخبرنا صريحاً أنه لمن صار

____________________

١- يعني بطرس.

٢- يعني المسيح.

٥٠

بطرس يلعن؟! ويا للعجب كيف صار بطرس هذا الرجل الكبير يحلف كذباً؟! وكيف خالف وعده للمسيح؟! أفلا تحاشى بطرس من ذلك؟!

دع هذا، ولكن هلّم الخطب فيما تنسبه الأناجيل من الكذب والتحريف إلى قدس المسيح!

٥١

(الردّ على مزعمة أن المسيح من المتنبّئين الكذبة)

في الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متّى، في العدد الثامن والثلاثين إلى الحادي والأربعين، عن قول المسيح ما هذا نصّه:

( وقال(١) لهم: جيل شرير يطلب آية ولا تعطي له آية، إلاّ آية يونان النبيّ(٢) لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان(٣) في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ).

والمراد: أن معجزته أن يموت ويدفن في القبر، ويبقى فيه ميتاً ثلاثة أيّام وثلاث ليال، ثم بعدها يحيا ويقوم من الموت ويخرج من القبر...

هذا، ولكن الأناجيل تكذّب هذا الخبر، وتصرّح بأنه عند المساء من يوم الجمعة - الذي يسمّيه اليهود يوم الاستعداد للسبت - جاء رجل وطلب جثّة المسيح من الحاكم، ودفنه ليلة السبت.

____________________

١- يعني المسيح.

٢- أي: يونس بن متّى.

٣- يعني نفسه.

٥٢

وفي يوم الأحد قبل الفجر، جاءت مريم المجدليّة ومريم الأخرى، فوجدتا المسيح قد قام من الأموات وخرج من القبر!

فانظر إلى أواخر الإصحاح السابع والعشرين، وأوائل الثامن والعشرين من إنجيل متّى.

وإلى أواخر الإصحاح الخامس عشر، وأوائل السادس عشر من إنجيل مرقس.

وإلى أواخر الإصحاح الثالث والعشرين، وأوائل الرابع والعشرين من إنجيل لوقا.

وإلى آخر الإصحاح التاسع عشر، وأوّل العشرين من إنجيل يوحنا.

وحاصل الأمر: أنّ الأناجيل قد اتفقت على أنّ المسيح لم يبق في قلب الأرض إلاّ سواء ليلتين: ليلة السبت وليلة الأحد، مع بياض يوم واحد وهو يوم السبت.. فأين تكون الثلاثة أيام والثلاث ليالي؟!

وهل تدري ماذا فعلت الأناجيل في هذا المقام في قدس المسيح؟!

فإنها جعلت المسيح - وحاشاه - بحكم التوراة وعلامتها، وصيّرته من المتنبّئين الكذبة، الذي يقتلون لأجل كذبهم بطغيانهم على الله.

٥٣

فإنّ التوراة تقوم عن كلام الله لموسى في الإصحاح الثامن عشر من سفر التثنية، من العدد العشرين إلى آخر الإصحاح، وتصرّح بما نصه: ( وأما النبيّ الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلّم باسم آلهة أخرى، فذلك النبي يقتل، وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الله؛ فما تكلم به النبي باسم الله ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الله، بل بطغيان تكلم به النبيّ )!

فالأناجيل تقول: إن المسيح أخبرنا باسم الله - في إعطائه للآية - أنه يبقى في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالي؛ وتقول أيضاً: إنه لم يبق في بطن الأرض إلاّ بياض يوم واحد وسواد ليلتين!

وحاصل ذلك: أنه لم يقع ما أخبر به باسم الله، بل وقع خلافه، فيجري عليه ما أعطته التوراة من العلامة الموافقة لحكم العقل لكذب المتنبّئ!

٥٤

(الردّ على افتراء تعدد الآلهة في الإنجيل)

جاء في المزمور الثاني والثمانين في توبيخ قضاة الجور، الذين يراعون وجوه الأشرار ما نصّه:

( حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار؟! إقضوا للذليل ولليتيم، أنصفوا المسكين والفقير، نجّوا الذليل والمسكين من يد الأشرار، لا يعلمون ولا يفهمون، في الظلمة يتمشون، تتزعزع كل أُسس الأرض؛ أنا قلت: إنّكم آلهة وبنو العليّ كلكم؟! لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تهلكون، قم يا الله فاقض على الأرض ).

ومعناه: أيها القضاة الجائرون، الذين لا يعلمون ولا يفهمون، وفي الظلمة يتمشّون، ماذا غرّكم؟! وبماذا أمنتم بطش الله؟! هل أنا قلت: إنكم آلهة وبنو العلي كلّكم، فأمنتم بذلك من سخطي وزوال النعمة وحسرة الموت؟! لكن لا تغترّوا بالحياة، فإنكم مثل الناس تموتون، ولا تغرّنكم الرئاسة، فإنكم كأحد الرؤساء تهلكون..

ولا يخفى أن كل من يفهم الكلام يفهم ما ذكرناه من المزمور المذكور.

٥٥

لكن جاء في الإصحاح العاشر من إنجيل يوحنا، في العدد الثالث والثلاثين إلى السادس والثلاثين، في مكالمة اليهود مع المسيح أنهم قالوا له: ( فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً؟! أجابهم يسوع: أليس مكتوب في ناموسكم أنا قلت: إنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن أن ينقض المكتوب، فالذي قدّسه الأب وأرسله إلى العام أتقولون له: إنك تكفر، لأنّي قلت: إنّي ابن الله؟! ).

ولا يخفى أن الكلام المذكور في إنجيل يوحنا قد افترى على الحقيقة بدعوى تعدد الآلهة: وافترى على المزمور المتقدّم بحمل كلامه على الإخبار بأن قضاة الجور آلهة، مع أنه مسوق للإنكار والتوبيخ؛ وافترى أيضاً بوصف قضاة الجور بأنهم صارت إليهم كلمة الله، أي نزل عليهم الوحي، مع أن المزمور المذكور يصفهم بقضاة الجور، وأنهم لا يفهمون ولا يعلمون، وفي الظلمة يتمشون.

ويا للعجب من كلام هذا الإنجيل! فإنّه في افترائه بتعدد الآلهة يقول: لا يمكن أن ينقض المكتوب، أي لا يمكن أن يخالف؛ فإذن فلماذا خالف ما هو مكتوب مكرّراً في التوراة، وباقي كتب العهدين، من توحيد الإله، والنهي عن الشرك، وذكر اسم آلهة غير الله؟!!

أفلا تنظر إلى هذا الكلام كم حوى في الافتراء والشرك والغلط؟!

٥٦

(الردّ على افتراء أنّ المسيح قال: قال الربّ لربّي)

في الإصحاح الثاني والعشرين من إنجيل متّى، من العدد الثاني والأربعين إلى السادس والأربعين؛ وفي الإصحاح الثاني عشر من إنجيل مرقس، من العدد الخامس والثلاثين إلى الثامن والثلاثين؛ وفي الإصحاح العشرين من لوقا، من العدد الحادي والأربعين إلى الخامس والأربعين، ما نصه من الأناجيل الثلاثة:

( قال يسوع: كيف يقولون: إنّ المسيح ابن داود، وداود نفسه يقول: بالروح القدس في كتاب المزامير قال الربّ لربّي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك، فإذا كان داود يدعوه ربّا فكيف يكون ابنه؟! ).

وهذه الأناجيل الثلاثة تنسب إلى المسيح الكذب على المزامير والتحريف لها، فإنه ليس في الأصل العبراني ما معناه: ( قال الرب لربّي ) وليس فيه تكرار لفظ (الربّ) وإنما الموجود في المزمور العاشر بعد المائة ما تعريبه: ( وحي الله لسيّدي ) ولفظه في الأصل العبراني هكذا: ( نأم يهوه لأدناي )... فإنّ (أدناي) بمعنى (سيدي).

٥٧

فيا للأسف لوقوع هذا الكذب وهذا التحريف، وأشنع من ذلك أنه وقع هذا الكذب وهذا التحريف لأجل غرض فاسد إشراكىّ وثنيّ، وهو القول بتعدّد الأرباب وجعل البشر ربّاً!!

٥٨

(الردّ على افتراء أنّ داود قال: قال الربّ لربّي)

ولم يكتف العهد الجديد بنسبة الأناجيل لقدس المسيح هذا الكذب وهذا التحريف الوثنيّ، بل جاء مثل ذلك في كتاب أعمال الرسل، ونسب مثل هذا الكذب والتحريف لبطرس، فذكر في الإصحاح الثاني، في العدد الرابع والثلاثين عن قول بطرس ما هذا نصّه:

( لأن داود لم يصعد إلى السماوات وهو يقول: قال الربّ لربّي: اجلس عن يميني )!

٥٩

( الردّ على مزعمة الأناجيل أنّ المسيح أنكر كونه ابن داود)

جاء في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا، في العدد الحادي والثلاثين والثاني والثلاثين، عن قول جبرئيل لمريم أُمّ المسيح:

( وها أنت ستسحبلين وتلدين ابناً وتسمّينه يسوع(١) هكذا يكون عظيماً، وابن العليّ يدعى، ويعطيه الله الإله كرسيّ داود أبيه )..

وذكر إنجيل متّى نسب المسيح في الإصحاح الأول وقال: ( كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ) ثم ذكر داود في سلسلة النسب!!..

وجاء في الإصحاح الثاني من كتاب أعمال الرسل، في العدد التاسع والعشرين والثلاثين، عن قول بطرس ما حاصله: أن الله حلف بقسم لداود أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح ليجلس على كرسيّه...

وفي الإصحاح الثالث عشر، في العدد الثاني والعشرين والثالث والعشرين، عن قول بولس ما حاصله: أنه من نسل

____________________

١- أي: عيسى.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

خَلِيفَةً ) (١) ، من لدن آدم وفي أوصياء كلّ نبيّ حتّى أوصياء النبيّ الخاتم، وأنّ هذه السفارة الإلهية لم تزل متّصلة ما استمرّ بنو آدم في العيش على الأرض.

استمرار نزول باطن القرآن في ليلة القدر إلى يوم القيامة:

١٢ - وروى الطبراني في المعجم الكبير بسنده: (حدّثنا أحمد بن رشدين، ثنا أبو صالح الحرّاني، سنة ثلاثة وعشرين ومائتين، حدّثنا حيان بن عبيد اللَّه بن زهير المصري أبو زهير منذ ستّين سنة، قال: سألت الضحّاك بن مزاحم عن قوله: ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (٢) ، وعن قوله: ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣) ، وعن قوله: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (٤) ، فقال:

قال ابن عبّاس: إنّ اللَّه عزّ وجلّ خلق العرش فاستوى عليه، ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ فَأَمَرَهُ لِيَجْرِيَ بِإِذْنِهِ، وَعَظَّمَ الْقَلَمَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَقَالَ الْقَلَمُ : بِمَ يَا رَبِّ أَجْرِي ؟ قَالَ : بِمَا أَنَا خَالِقٌ وَكَانَ فِي خَلْقِي مِنْ قَطْرٍ، أَوْ نَبَاتٍ، أَوْ نَفْسٍ، أَوْ أَثَرٍ، يعني به: العمل أو الرزق أو الأجل، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فأثبته اللَّه في الكتاب المكنون عنده تحت العرش. وأمّا قوله: ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ، فإنّ اللَّه وكّل ملائكته يستنسخون من ذلك الكتاب كلّ عام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيعارضون به حفظة اللَّه على العباد كلّ عشية خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافق لما في كتابهم ذلك، ليس فيه زيادة ولا نقصان) (٥) .

____________________

١) سورة البقرة: ٣٠.

٢) سورة الحديد: ٢٢.

٣) سورة الجاثية: ٢٩.

٤) سورة القمر: ٤٩.

٥) المعجم الكبير للطبراني، ج١٠، ص٢٤٧، ح ١٠٥٩٥.

٣٠١

أقول: في تفسير ابن عبّاس لهذه الآيات عدّة أُمور:

الأوّل: كلّ ما كان وما يكون وما هو كائن فهو مستطرّ مكتوب في الكتاب المكنون، الذي هو الوجود الغيبي للقرآن الكريم.

والثاني: إنّه يتنزّل منه ليلة القدر ما يتعلّق بكلّ سنة، وهذا يقتضي احتواء القرآن الكريم، وكذا ما ينزل منه ليلة القدر لكلّ تقدير في الخلق، وقدر كلّ كائن وتكوين.

والثالث: إنّ ما يتنزّل ليلة في كلّ عام هو ما وراء لفظ التنزيل، فلا تقتصر حقيقة القرآن وباطنه وتأويله على ظاهر لفظ المصحف.

والرابع: إنّ عشية كلّ خميس - أي ليلة الجمعة - هناك معارضة الكتبة الحفظة على العباد من أعمال، وبين ما نزل من الكتاب المكنون من القرآن في ليلة القدر.

وهذه الأُمور الأربعة أُشير إليها بنحوٍ مستفيض في روايات أهل البيت عليهم‌السلام كما سيأتي، ولا غرو في ذلك؛ لأنّ ابن عبّاس قد نهل من أمير المؤمنين والحسنين عليهم‌السلام ، فعرف منهم هذا المقدار، وإن خفي عليه ما هو أعظم.

فيتحصّل من كلامه:

أوّلاً: اشتمال القرآن لكلّ علم وجميع العلوم.

ثانياً: إنّ ما ينزل في ليلة القدر من كلّ عام إلى يوم القيامة هو من باطن القرآن.

ثالثاً: فباطن القرآن لا زال يتنزّل في كلّ عام إلى يوم القيامة، وقد ذُكر كلّ ذلك في روايات أهل البيت عليهم‌السلام .

رابعاً: إنّه يتمّ معارضة أي مطابقة ما ينزل منه ليلة القدر في كلّ أُسبوع، كما قد حصل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله معارضة ظاهرة التنزيل كلّ عام مع جبرئيل عليه‌السلام .

١٣ - وروى البيهقي في فضائل الأوقات بسند متّصل إلى أبي نظير، قال: يفرّق

٣٠٢

أمر السنة كلّها في ليلة القدر، بلائها ورخائها ومعاشها إلى مثلها من السنة (١) .

تباين حقيقة النازل من القرآن في المرتين

تكرّر نزول جملة القرآن مرّتين بل أكثر إلى يوم القيامة:

١٤ - روى الطبراني في المعجم الكبير، بسند متّصل إلى ابن عبّاس في قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال: أُنزل القرآن جملة واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزّله جبرئيل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم (٢) .

١٥ - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف، في باب القرآن متى نزل، بسند متّصل عن ابن عبّاس، في قوله [ تعالى ]: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال: رفع إلى جبرئيل في ليلة القدر جملة، فرفع إلى بيت العزّة، جعل ينزل تنزيلاً (٣) .

١٦ - وروى النسائي في السنن الكبرى بسند متّصل عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في رمضان في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، فكان إذا أراد اللَّه أن يحدث شيئاً نزل، فكان بين أوّله إلى آخره عشرين.

وروى مثله بخمسة طرق أُخرى كلّها عن ابن عبّاس، وزاد في بعضها، قال: ( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ) (٤) ، وقرأ: ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) (٥) .

وفي طريق آخر منها زاد، وذلك ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ) (٦) (٧) .

____________________

١) فضائل الأوقات للبيهقي، ص ٢١٩.

٢) المعجم الكبير، ج١٢، ص٢٦.

٣) المصنّف لأبي شيبة الكوفي، ج٧٥، ص١٩١، ح٤، الباب ٤٦.

٤) سورة الفرقان: ٣٣.

٥) سورة الإسراء: ١٠٦.

٦) سورة الواقعة: ٧٥.

٣٠٣

١٧ - وروى الطبراني في المعجم الأوسط، قال: روي نزول القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى السماء الدنيا جملة ثمّ أُنزل نجوماً، ورواه بطرق أُخرى متعدّدة (١) .

ومقتضى هذه الروايات، أنّ الذي نزل به جبرئيل على النبيّ من القرآن أنّما هو النزول الثاني، أي النزول نجوماً من السماء الدنيا من بيت العزّة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون النزول الأوّل الذي هو جملة واحدة، ودون النزول المستمرّ في كلّ عام في ليلة القدر، ويقتضيه ظاهر آية سورة الشورى، وسورة القدر، كما سيأتي بيانه مفصّلاً، وأنّ النازل بجملة القرآن وفي ليلة القدر من كلّ عام إلى يوم القيامة هو روح القدس، والذي أُطلق عليه في القرآن ( رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) ، وجُعل في سورة القدر مقابل للملائكة ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ ) (٢) .

ومن ذلك يُعلم الاختلاف النوعي في حقيقة التنزيلَين، وأنّ النوعية الأُولى من النزول - وهي نزول القرآن جملة - هو المستمرّ في ليلة القدر إلى يوم القيامة، وهو يرتبط بتأويل الكتاب، وتقدير كلّ شي‏ء يقع من المقادير في الخلق.

نزول القرآن ليلة القدر على آل محمّد عوض غصب الخلافة:

١٨ - وروى البيهقي في كتاب فضائل الأوقات بسند متّصل إلى يوسف بن مازن، قال: (قام رجل إلى الحسن بن عليّ (رضيَّ الله عنه)، فقال: يا مسوّد وجه المؤمنين. قال الحسن بن عليّ (رضيَّ الله عنه): لا تؤنّبني رحمك اللَّه؛ فإنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد رأى بني أُميّة يخطبون على

____________________

١) السنن الكبرى للنسائي، ج٥، ص٦،ح٧٩٨٩، و: ح٧٩٩٠، و: ح٧٩٩١، و: ح١١٣٧٢، و: ح١١٥٦٥، و: ح١١٦٨٩.

٢) المعجم الأوسط للطبراني، ج٢، ص٢٣١، وفي المعجم الكبير، ج١١، ص٢٤٧، و: ٣١، و: ج١٢، ص٢٦.

٣) سورة النحل: ٢.

٣٠٤

منبره رجلاً فرجلاً فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) (١) نهر في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) (٢) تملكه بنو أُمية، فحسبنا ذلك.. فإذا هو لا يزيد ولا ينقص) (٣) .

١٩ - وروى ابن أبي الحديد، قال: (وقد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدّثين، أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُخبر: أنّ بني أُمية تملك الخلافة بعده مع ذمّ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم. نحو ما روي عنه في تفسير قوله تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (٤) ، فإنّ المفسّرين قالوا، إنّه رأى: بني أُمية ينزون على منبره نزو القردة، هذا لفظ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي فسّر لهم الآية به، فساءه ذلك، ثمّ قال: الشجرة الملعونة بني أُمية وبني المغيرة. ونحوه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا بلغ بنو العاص ثلاثون رجلاً اتّخذوا مال اللَّه دُوَلاً وعباده خولاً. ونحوه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير قوله تعالى: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) (٥) قال: ألف شهر يملك بها بنو أُمية). وورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذمّهم الكثير المشهور نحوه.. وروى المدائني عن دخول سفيان بن أبي ليلى النهدي، رواية عن الحسن بن عليّ عليه‌السلام في تفسير الآية، وهي التي قد تقدّم ذكرها (٦) .

٢٠ - وروى الطبري في سورة القدر بسنده المتّصل عن عيسى بن مازن، قال: (قلت للحسن بن عليّ (رضيَّ الله عنه): يا مسوّد وجوه المؤمنين، عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له - يعني معاوية بن أبي سفيان - فقال: إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري في منامه بني أُمية يعلون منبره خليفة خليفة، فشقّ ذلك عليه، فأنزل اللَّه: ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، و ( إنّا أنْزَلْناهُ

____________________

١) سورة الكوثر: ١.

٢) سورة القدر: ٣.

٣) كتاب فضائل الأوقات: ٢١١.

٤) سورة الإسراء: ٦٠.

٥) سورة القدر: ٣.

٦) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، ج٩، ص ٢١٩.

٣٠٥

في لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يعني ملك بني أُمية. قال القاسم: حسبنا ملك بني أُمية فإذا هو ألف شهر).

٢١ - وروى الترمذي في سننه، والحاكم بسند متّصل إلى الحسن بن عليّ عليه‌السلام : (إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) .. الحديث) (١) .

ورواه السيوطي في الدرّ المنثور عن جرير، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل من رواية يوسف بن سعد، وأخرج الخطيب عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أُريت بني أُمية يصعدون منبري فشقّ ذلك عليّ، فاُنزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ).

أقول: ومقتضى هذه الروايات أنّ اللَّه تعالى قد عوّض النبيّ وأهل بيته عن غصب الخلافة الظاهرية بإعطائهم ليلة القدر، أن تكون معهم كما كانت مع الأنبياء السابقين؛ إذ مقتضى جواب الإمام الحسن بن عليّ عليه‌السلام عن غصب معاوية الخلافة منه، هو أنّ اللَّه تعالى قد عوّض النبيّ وأهل بيته، أصحاب الكساء والأئمّة الاثني عشر (سلام اللَّه عليهم)، بنزول الروح عليهم والملائكة في ليلة القدر ينبّئونهم بكلّ أمر، وإلاّ لما صحّ جواب الإمام الحسن بن علي عليه‌السلام في قِبال اعتراض السائل.

بل ولمَا كان تعويض للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ مساءة النبيّ من نزو بني أُمية على خلافته وغصبهم لها ليس في زمانه، وإنّما بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث وقعت الفتنة بنصّ الآية الكريمة: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (٢) ، وبنصّ الروايات الواردة في ذيل الآية عن النبيّ من طريقهم فضلاً من طرقنا، فهذه الروايات المستفيضة عندهم وعندنا في ذيل الآية مع نفس

____________________

١) سنن الترمذي، مستدرك الحاكم.

٢) سورة الإسراء: ٦٠.

٣٠٦

مضمون الآية هي أحد ملامح الأدلّة على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام وغصب أهل السقيفة وبنو أُمية للخلافة.

كما أنّها دالّة على أنّ ليلة القدر وما يتنزّل فيها والروح النازل، كلّ ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحقيقة إمامتهم التكوينية الإلهية.

وسيأتي - لاحقاً - في هذا الفصل، والذي يُعدّ أيضاً ارتباط حقيقةِ ليلة القدر بحكومتهم السياسية الخفية في النظام الاجتماعي السياسي، ولكن بنمو تكويني منظومي.

وهذا النازل في ليلة القدر ليس وحي شريعة، وإنّما هو علم في الإدارة والتدبير، والقيادة والإمامة الإلهية، ومحلّ تقدير وتدبير لكلّ شي‏ء في القضاء والقدر الإلهي إلى السنة المقبلة.

حقيقة القرآن هي الروح النازل ليلة القدر:

٢٢ - وروى السيوطي في ذيل سورة النحل قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ ) (١) ، قال: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ ) ، قال: بالوحي.

٢٣ - وكذلك روى السيوطي في الموضع السابق عن جملة من المصادر، عن قتادة في قوله: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) ، قال: بالوحي والرحمة. وأخرج عن جملة، عن الضحّاك في قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) ، قال: القرآن (٢) . وروى الطبري بسنده عن قتادة مثله.

____________________

١) سورة النحل: ٢.

٢) الدرّ المنثور في ذيل آية: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) من سورة النحل.

٣٠٧

٢٤ - وروى السيوطي في الدرّ المنثور في سورة الشورى في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ) (١) ، قال: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس (رضي اللَّه عنهما) في قوله: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) ، قال: القرآن (٢) .

حقيقة الوحي هو نزول الروح كما في ليلة القدر، وهو مستمرّ إلى يوم القيامة:

أقول: ويُستفاد من مجموع هذه الطائفة من الروايات: أنّ حقيقة القرآن هي الروح الذي يتنزّل في كلّ ليلة قدر، وأنّ نزوله في كلّ ليلة قدر نزول للوحي الإلهي، بل إنّ الوحي ليس إلاّ نزول الروح والملائكة على من يشاء من العباد المصطفون، من الأنبياء والأوصياء، ومن ثمّ عبّر في سورة الشورى، في قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ) عن إرسال الروح الأمري بأنّه وحيٌ.

فالوحي هو: إنزال الروح، وإنزال الروح هو وحي، فتصريح القرآن الكريم في سورة القدر بتنزيل الروح كلّ عام، هو تصريح باستمرار الوحي بعد سيد الأنبياء، غاية الأمر الذي يتنزّل هو من غيب القرآن الذي قد ورّثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأوصيائه.

عقيدة البَدَاء وحقيقة ليلة القدر:

٢٥ - وروى الطبري في سورة الرعد في ذيل قوله تعالى: ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) بسنده المتّصل عن مجاهد، قول اللَّه: ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا

____________________

١) سورة الشورى: ٥٢.

٢) الدرّ المنثور في ذيل الآية المتقدّمة.

٣) سورة الرعد: ٣٩.

٣٠٨

يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) ، قالت قريش حين أُنزل: ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ ) : ما نراك يا محمّد تملك من شي‏ء، ولقد فُرغ من الأمر، فأُنزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم: أنّا إن شئنا أحدثنا من أمرنا ما شئنا، ونُحدث في كلّ رمضان، فنمحو ونثبت ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم، وما نعطيهم وما نقسّم لهم (١) .

أقول: وفي هذه الرواية، والروايات التي رويت في ذيل الآية، والتي رواها أهل سنّة جماعة الخلافة والسلطان، دالّة على عقيدة البَدَاء التي هي نوع من النسخ التكويني الواردة في روايات أهل البيت، كما تدلّ هذه الروايات على أنّ ما في أمّ الكتاب، الذي هو أصل القرآن وحقيقته العلوية الغيبية، متضمّن لكلّ قضاء وقدر، وليس هو مجرّد ظاهر التنزيل.

وهذه الحقيقة للقرآن لا ينالها إلاّ المعصوم الذي ينزّل عليه الروح في ليلة القدر، ولا يطمع في نيلها غير المعصوم؛ إذ ليس الأمر بالأماني والتمنّي، هيهات. وما سيأتي ومضى من رواياتهم لا يخفي تضمّنه لمعنى النسخ والبَدَاء.

٢٦ - وروى الطبري في سورة الدخان، بسنده عن ابن زيد في قوله عزّ وجلّ: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) (٢) ، قال: تلك الليلة ليلة القدر، أنزل اللَّه هذا القرآن من أُمّ الكتاب في ليلة القدر، ثمّ أنزله على الأنبياء في الليالي والأيام، وفي غير ليلة القدر (٣) .

أقول: هذه الرواية دالّة على أنّ الذي يتنزّل من أُمّ الكتاب الذي هو أصل القرآن وحقيقته الغيبية العلوية، والذي يتنزّل منه، ليس ظاهر التنزيل، بل كلّ المقادير وقضاء الحوادث الكونية وأنّ ذلك التنزّل مستمرّ ليس في خصوص ليلة القدر

____________________

١) جامع البيان، في سورة الرعد، ذيل قوله تعالى: ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) .

٢) سورة الدخان: ٣.

٣) جامع البيان، ج٢٥، ص٦٤.

٣٠٩

بل على مرّ الليالي والأيام والآناء واللحظات، وأنّه لا زال يتنزّل بعد ذهاب الأنبياء، يتنزّل على الأوصياء - خلفاء النبيّ - الاثني عشر من قريش (سلام اللَّه عليهم)، وهذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام .

٢٧ - وروى الطبري في سورة الرعد، بسند متّصل عن قتادة قوله تعالى: ( وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ، قال: جملة الكتاب وأصله.

٢٨ - وروى الطبري في الموضع المذكور بسنده إلى الضحّاك في قوله: ( وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ، قال: كتاب عند ربّ العالمين.

٢٩ - وروى الطبري عن الضحّاك أيضاً في الموضع المزبور، ( وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) قال: جملة الكتاب وعلمه، يعني بذلك ما ينسخ منه وما يثبت. وروى نظيره بسند متّصل عن ابن عبّاس ( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) (١) .

أقول: مقتضى التعبير بلفظ جملة الكتاب عنده تعالى، أنّ ظاهر التنزيل ليس كلّ درجات حقيقة الكتاب، وأنّ جملته مجموع ما فيه من التأويل والحقائق وكلّ قضاء وقدر، وكلّ ما كان ويكون فهو في أُمّ الكتاب، وهو الذي ينزل منه كلّ عام في ليلة القدر بتوسّط الروح، وأنّه لازال ينزل من باطن الكتاب وتأويل كلّ عام في ليلة القدر إلى يوم القيامة، بل في كلّ ليلة، وأنّه كما مرّ في بعض الروايات المتقدّمة.

وكلّ هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت كما ستأتي الإشارة إليه، فللكتاب جملة يستطرّ فيها كلّ شي‏ء، ما من غائبة في السماء والأرض، ولا رطْب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين، فظاهر التنزيل الذي بين الدفّتين وهو المصحف الشريف، لا يحيط ولا يحتوي بما في أُمّ الكتاب، وإنّما هو ظهر يوقف عليه

____________________

١) سورة الأحزاب: ٦.

٣١٠

للوصول إلى البطون والتأويلات والحقائق، بهداية الراسخين في العلم الذين هم أهل آية التطهير الذين يمسّون الكتاب المكنون، كما دلّت على ذلك الآيات الكريمة في السور المختلفة.

بل، إنّ من تصريح الآيات بأنّ أهل البيت المطهّرين الذين يمسّون الكتاب المكنون، يُعلم بالتلازم أنّ أهل البيت هم الذين يتنزّل عليهم روح القدس في ليلة القدر، بما في أُمّ الكتاب من القضاء والقدر لكلّ سنة، كما أنّ من التلازم في حديث الثقلين من العِترة والكتاب وعدم افتراقهما، يُعلم تلازمهما في كلّ ما ينزل من الكتاب في كلّ سنة.

كما أنّ من التعبير بأنّ عنده أُمّ الكتاب الذي هو جملة مجموعة، وأصله وحقيقته التعبير بأنّ هذه الجملة والحقيقة عند اللَّه للدلالة على القرب المعنوي بحسب نشأة عوالم الخِلقة، فمكانته الوجودية غيبية مكنونة في لوح محفوظ ذات مجد كوني وتكويني، وهي الروح الأعظم كما سيأتي في الروايات.

٣٠ - وروى بسنده عن ابن عبّاس أنّه سأل كعب عن أُمّ الكتاب، قال: علم اللَّه ما هو خالق وما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتاباً فكان كتاباً... وقال الطبري بعد ذلك: وأولى الأقوال - في ذلك - بالصواب قول من قال: وعنده أصل الكتاب وجملته؛ وذلك أنّه - تعالى ذِكره - أخبر أنّه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم عقّب بذلك بقوله: ( وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ، فكان بيّناً أنّ معناه عنده أصل المثبت منه والمحو، وجملته في كتاب لديه.

٣١ - وروى الطبري في سورة الدخان، بسند متّصل عن ابن زيد في قوله عزّ وجلّ: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) (١) ، قال: تلك الليلة ليلة القدر،

____________________

١) سورة الدخان: ٣.

٣١١

وأنزل اللَّه هذا القرآن من أُمّ الكتاب في ليلة القدر، ثمّ أنزله على الأنبياء في الليالي والأيام وفي غير ليلة القدر.

٣٢ - وروى الطبري في ذيل سورة الدخان بسنده، عن عمر مولى غفرة، قال، يقال: يُنسخ لملك الموت من يموت في ليلة القدر إلى مثلها؛ وذلك لأنّ اللَّه عزّ وجلّ يقول: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) ، وقال: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (١) ، قال: فتجد الرجل ينكح النساء ويغرس الغرس واسمه في الأموات.

أقول: ومقتضى هاتين الروايتين أنّ القرآن النازل في ليلة القدر - وهي الليلة المباركة - يُسمّى بحسب حقيقته الغيبية بعدّة أسماء، وهي بحسب مراتبه الغيبية: الكتاب المبين، وأُمّ الكتاب، والكتاب المكنون.

كما أنّ مقتضى الرواية الأخيرة هيمنة القرآن والروح النازل في ليلة القدر على وظائف ملك الموت، وأنّه تابع منقاد للروح، وكذلك ميكائيل الموكّل بالأرزاق، وإسرافيل الموكّل بالأحياء، وجبرئيل الموكّل بالعلم والبطش.

وقال الطبري في ذيل سورة الدخان: وقوله ( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (٢) ، يقول تعالى ذكره: ( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) رسولنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عبادنا ( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٣) .

وقال: وقوله ( أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (٤) ، يقول تعالى ذكره: في هذه الليلة المباركة يُفرق كلّ أمر حكيم أمراً من عندنا.

أقول: إنّ الإرسال في الآيات الكريمة في سورة الدخان مرتبط بإنزال الروح

____________________

١) سورة الدخان: ٤.

٢) سورة الدخان: ٥.

٣) سورة الدخان: ٦.

٤) سورة الدخان: ٥.

٣١٢

ليلةَ القدر بتقادير الحوادث كلّها، وهذا الإرسال في كلّ ليلة قدر من كلّ عام إلى يوم القيامة وإن لم يكن إرسال نبوّة ورسالة، بل هو تزويد لخليفة اللَّه في الأرض، واطّلاعه بإرادات اللَّه ومشيئاته؛ للقيام بالمسؤوليات الإلهية الخطيرة التي تُعهد إليه من الباري تعالى، والتي تتوقّف على هذا الكمّ الهائل من العلم بالمقدّرات الإلهية المستقبلية.

دوام ليلة القدر من الروايات الحاثّة على فضيلتها في الصحاح:

قد عقد البخاري ومسلم كلّ منهما باباً بعد كتاب الصوم أُدرج فيه خمسة أبواب:

الأوّل: في فضل ليلة القدر.

الثاني: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر.

الثالث: تحرّي ليلة القدر في الوتر من العشر. وأورد فيها البخاري روايات عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّها آمرة بالتماس وتحرّي ليلة القدر، أي طلبها كلّ عام، ممّا يقضي بدوام ليلة القدر إلى يوم القيامة.

وممّا أورده في تلك الروايات بسنده، عن ابن عمر: أنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السبع الأواخر.

أقول: مقتضى هذه الرواية أنّ ليلة القدر حقيقة قد يرى بعضُ آياتها، وبعض لمعانها وأنوارها بعضُ البشر. ومثله في صحيح مسلم.

٣١٣

٣١٤

شهر رَمَضَان إعداد لليلة القَدْر

وهي باب عظيم لمعرفة الإمام عليه‌السلام

فكما أنّ هناك صلة بين شهر رمضان وليلة القدر، فهناك صلة وثيقة بينهما وبين حقيقة الإمام عليه‌السلام ، وكما أنّ شهر رجب وشهر شعبان يوطّئان ويمهّدان لشهر رمضان، فكذلك شهر رمضان يوطئ لليلة القَدْر، وليلة القدر بدورها توطئ لنزول الروح والملائكة الذي هو نزول لحقيقة القرآن.

والروح إنّما ينزل بكلّ أمر على من يصطفيه اللَّه من عباده في كلّ عام وهو الإمام، وتعظيم شهر رمضان إنّما هو لِما فيه من ليلة القدر، وعظمة ليلة القدر إنّما هي لِما فيها من نزول الروح ونزول القرآن، وهو إنما ينزل على من يشاء من عباد اللَّه، مَنْ اصطُفي لذلك.

فشهر رمضان بيئة نورية لليلة القدر، وليلة القدر بيئة أشدّ نوراً لنزول الروح، ونزول الروح أشدّ نوراً بأضعاف عند من يتنزّل عليه الروح.

فالانشداد إلى شهر رمضان انشداد إلى ليلة القدر، والانشداد إلى ليلة القدر انشداد إلى الإمام الذي يتنزّل عليه الروح. وإدراك ليلة القدر هو بمعرفة حقيقة القدر وهي نزول الروح على من يشاء اللَّه من عباده المصطفين بكلّ أمر يقدّره من حوادث السنةّ، فمعرفة ليلة القدر معرفة لحقيقة النبوّة والإمامة وإدراكها هو بهذه المعرفة.

روى الكُليني عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال: (... فضل إيمان المؤمن بجملة ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) وتفسيرها على من ليس مثله في الإيمان بها، كفضل الإنسان على البهائم،

٣١٥

وإنّ اللَّه عزّ وجلّ ليدفع بالمؤمنين بها عن الجاحدين لها في الدنيا - لكمال عذاب الآخرة لمن علم أنّه لا يتوب منهم - ما يدفع بالمجاهدين عن القاعدين)، الحديث (١) .

بِيئة ليلة القدر شهر رمضان:

إنّ الناظر في خصائص شهر رمضان وما أحيط به من هالة معنوية، وزخمٍ روحيٍّ كبير، وتركيز مكثّف، هو تمهيد لليلة القدر، وإنّ ذلك لا يقتصر على شهر رمضان بل يبدأ من شهر رجب ومن بعده شهر شعبان إلى أن يصل شهر رمضان، شهر اللَّه الذي عُظّم من اللَّه عزّ وجلّ، حيث نُسب إليه تعالى وجُعلت فيه ليلة القدر. وكذلك كونه شهر ضيافة اللَّه عزّ وجلّ وأنّه أُنزل فيه القرآن العظيم، حيث قال تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (٢) .

وكلّ هذا التعظيم حلقات مترابطة لتصل إلى ما في شهر رمضان من أوج العظمة وهي ليلة القدر، حيث إنّ فضائل شهر رمضان في جانب وفضائل ليلة القدر في جانب آخر، فإنّ كلّ ما حفّ به شهر رجب الأصبّ الذي تصبّ فيه الرحمة صبّاً، وشهر شعبان الذي تتشعّب فيه طرق الخير، كلّ ذلك قد تضاعف أضعافاً في خصائص شهر رمضان، وتضاعف ما في شهر رمضان من خصائص إلى ثلاثين ألف ضعف في ليلة القدر.

فليلةُ القدر هي أوج عظمة الضيافة الإلهية والحفاوة الربّانية، فأوج نصيب حظّ العباد إدراك ليلة القدر، إلاّ أنّ هذا الإدراك للّيلة العظيمة ليس بمجرّد الكمّ الكبير من العبادات والأدعية والابتهال والتنفّل؛ فإنّ كلّ ذلك إعداد ضروري لِما وراءه من

____________________

١) الكافي، ج١، ص٢٥٠، ح ٧.

٢) سورة البقرة: ١٨٥.

٣١٦

إدراك آخر لحقيقة ليلة القدر وهو معرفة هذه الليلة، ومعرفتها هو بمعرفة حقيقتها المتّصلة بحقيقة الإمام والإمامة.

فمن ثمّ كان شهر رمضان شهر اللَّه الأغرّ وشهر معرفة الإمام خليفة اللَّه في أرضه، فكما أنّ شهر رمضان نفخ بالحياة للدين القويم، فإنّ ليلة القدر هي القلب النابض في هذا الشهر؛ لِما لها من صلة بالإمام وتنزّل الروح الأعظم عليه.

فشهر رمضان بوابة لمعرفة ليلة القدر، وليلة القدر بوابة لمعرفة الإمام والارتباط به والانشداد إليه، فجُعل شهر رمضان سيد الشهور كما جاء في روايات الفريقين، وجُعلت ليلة القدر قلب شهر رمضان كما ورد في الحديث.

وقد جُعل شهر رمضان أعظم حرمة من الأشهر الحُرُم الأربعة، وهذه العظمة لشهر رمضان أنّما هو لِما فيه من تلك الليلة العظيمة، فهو كالجسم وهي كالروح له، مع أنّ شهر رمضان هو كالروح للأشهر الحُرُم الأربعة التي منها شهر رجب. وكلّ ذلك يرسم مدى العظمة التي تحتلّها ليلة القدر، وقد بيّن الغاية من الصيام في شهر رمضان في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

والصيام على درجات كما كان في الشرائع السابقة، فلا يقتصر على الإمساك البدني بل يرتبط بالدرجات الاعتقادية كالإمساك عن الكذب على اللَّه ورسوله، فصيام على مستوى الجانب البدني وصيام الجوانح، وصيام على مستوى الحالات النفسية والخواطر، وهناك صيام على مستوى الحالات القلبية وحالاته وخواطره.

وأعظم المراتب على مستوى الاعتقاد، كما يشير إليه قول الإمام الصادق عليه‌السلام

____________________

١) سورة البقرة: ١٨٣.

٣١٧

في رواية جراح المدائني (١) ، فبيّن عليه‌السلام صوم الصمت كما هو صوم زكريا ومريم، وعُرف بصوم الصمت الداخل، أي الإمساك بحسب كلّ مراتب النفس الباطنية.

فشهر رمضان بيئة عظيمة لليلة القدر، وقد وصف هذا الشهر كما في خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي رواها الصدوق بسند معتبر عن الرضا عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

(شهر اللَّه ذي البركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند اللَّه أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات. هو شهرٌ دُعيتم به إلى ضيافة اللَّه، وجُعلتم به من أهل كرامة اللَّه، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب... فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم... ومن تَلى فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.

أيّها الناس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة فسلوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلّقة فسلوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم).

فهذا الشهر قد عظّمه الباري وكرّمه وشرّفه وفضّله على الشهور، وافترض صيامه على العباد، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، وجعل فيه ليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر.

أوصاف ليلة القدر:

إلاّ أنّ كلّ هذه الأوصاف لشهر رمضان - بالقياس إلى أوصاف ليلة القدر منه - هي دون الأوصاف التي وصفت بها تلك الليلة؛ فإنّ تلك الأوصاف قد ذكرت لليلة

____________________

١) أبواب آداب الصائم، باب ١٢، أنّه يكره للصائم الجدال، والجهل، والحلف، الحديث ١٣.

مصباح المتهجّد للطوسي، ص٦٢٥، حيث يقول الصادق عليه‌السلام : (إنّ الصيام ليس من الطعام والشّراب وحده... قالت مريم عليها‌السلام : (إنّي نذرت للرّحمن صوماً) أي صمتاً، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم...).

٣١٨

القدر بنحو مضاعف أضعافاً، وكأنّ الشهر توطئة وإعداد للولوج في تلك الليلة، حتّى أنّ أغلب أدعية ذلك الشهر المأثورة تركّز على الدعاء والطلب لإدراك تلك الليلة، ولطلب حسن ما يقضي ويقدّر من الأمر المحتوم، وما يفرق من الأمر الحكيم في تلك الليلة من القضاء الذي لا يردّ ولا يبدّل.

ومن تلك الأوصاف، أنّها أوّل السنة المعنوية بلِحاظ لوح القضاء والقدر. فقد روى الكُليني عن رفاعة عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (ليلة القدر هي أوّل السنة وهي آخره) (١) .

وروى الشيخ في التهذيب بعدّة أسانيد إلى مولانا الصادق‏ عليه‌السلام أنّه قال: (إذا سلم شهر رمضان سلمت السنة، وقال: رأس السنة شهر رمضان) (٢) .

وروى الكُليني بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (الشهور عند اللَّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللَّه يوم خلق السماوات والأرض، فغرّة الشهور شهر اللَّه عزّ وجلّ وهو شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر) (٣) .

وروى ابن طاووس في الإقبال بإسناده إلى علي بن فضّال من كتاب الصيام، بإسناده إلى ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (شهر رمضان رأس السنة) (٤) .

وقال أيضاً في كتاب إقبال الأعمال بعد ذكر جملة للروايات المتضمّنة لهذا المضمون: (واعلم أنّني وجدت الروايات مختلفات، هل أنّ أوّل السنة محرّم أو شهر رمضان؟ لكنّني رأيت من عمل من أدركته من علماء أصحابنا المعتبرين

____________________

١) الكافي، ج٤، ص١٦٠.

٢) التهذيب، ج٤، ص٣٣٣.

٣) الكافي، ج٤، ص٦٧.

٤) إقبال الأعمال، ج١، ص٣٢، الباب الثاني.

٣١٩

وكثيراً من تصانيف علمائهم الماضين، أنّ أوّل السنة شهر رمضان على التعيين، ولعلّ شهر الصيام أوّل العام في عبادات الإسلام، والمحرّم أوّل السنة في غير ذلك من التواريخ ومهام الأنام؛ لأنّه جلّ جلاله عظّم شهر رمضان، فقال جلّ جلاله: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (١) ، فلسان حال هذا التعظيم كالشاهد لشهر رمضان بالتقديم؛ ولأنّه لم يجر لشهر من شهور السنة ذكر باسمه في القرآن وتعظيم أمره إلاّ لهذا الشهر شهر الصيام، وهذا الاختصاص بذكره كأنه ينبّه - واللَّه أعلم - على تقديم أمره.

ولأنّه إذا كان أوّل السنة شهر الصيام وفيه ما قد اختصّ به من العبادات التي ليست في غيره من الشهور والأيام، فكأنّ الإنسان قد استقبل أوّل السنة؛ ولأنّ فيه ليلة القدر التي يُكتب فيها مقدار الآجال وإطلاق الآمال، وذلك منبّه على أنّ شهر الصيام أوّل السنة) (٢) .

قال المجلسي (قدس سره)، قال الوالد العلاّمة: (الظاهر أنّ الأوّلية باعتبار التقدير، أي أوّل السنة التي تقدّر فيها الأُمور لليلة القدر، والآخرية باعتبار المجاورة، فإنّ ما قدّر في السنة الماضية انتهى إليها، كما ورد أنّ أوّل السنة التي يحلّ فيها الأكل والشرب يوم الفطر، أو أنّ عملها يُكتب في آخر السنة الأُولى وأوّل السنة الثانية، كصلاة الصبح في أوّل الوقت. أو يكون أوّل السنة باعتبار تقدير ما يكون في السنة الآتية وآخر سنة المقدّر فيها الأُمور) (٣) .

ومنها: ما رواه الطبرسي في مجمع البيان، والاستربادي في تأويل الآيات. عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (إذا كانت ليلة القدر تنزّل الملائكة الذين هم سكان سِدرة المنتهى وفيهم جبرئيل، ومعهم ألوية فينصب لواء منها على قبري ولواء منها

____________________

١) سورة البقرة: ١٨٥.

٢) إقبال الأعمال، ج١، ص٣٢ - ٣٣، الباب الثاني.

٣) الكافي، ج١، ص١٦٠.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592