الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية6%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146875 / تحميل: 9460
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

قراءة جديدة في حفظ وبقاء الذكر والقرآن المنزّل:

فمن ثمّ يكون دورهم متمّم ومكمّل لدور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في هداية البشرية، وإلى ذلك يشير قوله تعالى في آية الغدير: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (١) ، لبيان خطورة وشدّة دورهم عليهم‌السلام المتمّم لدور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ الرسالة، وأنّه الأمر الذي يجب أن يُبلّغ لامتداد الرسالة وبقاء القرآن، أي بقاء حقيقيته النازلة والمتنزّلة منها درجات في كلّ عام في ليلة القدر لإبقاء المصحف المنقوش بالخط.

وإلاّ لو كان دورهم هو مجرّد النقل السماعي اللفظي عن الرسول كقناة لإيصال الألفاظ والصوت لما كان لسان الآية بهذا اللحن الشديد والخطب البليغ، كما أنّ تعليق وتبليغ الرسالة برمّتها على شخص يخلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أمير المؤمنين عليه‌السلام لابدّ أن يكون في تحمّله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خصوصية لا يشترك معه فيها أحد؛ وإلاّ لشاركه آخرون في القيام بذلك الدور ولَمّا انحصر تبليغ الرسالة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله به.

وليست هذه الخصوصية وليدة عن كثرة سماع الوصي لكميّة كثيرة من الأحاديث، أو لقوّة حافظة عليّ عليه‌السلام لِما يسمعه من الحديث على النمط المألوف، ولا لمجرّد أكثرية ملازمته؛ وإلاّ لشاركه الآخرون في ذلك ولو بدرجة نازلة.

وإنّ تفسير خصوصية عليّ والعِترة الطاهرة بمجرّد هذه المزايا لا يحسم جَدَلِية السؤال عن وجه تخصيص الدور بهم، دون بقية الصحابة، والتابعين، وسائر فقهاء وعلماء الأُمّة، بل لكانت هذه المزايا نظير الترجيح بين الفقهاء في مسند الفتيا والقضاء وليست عملية اصطفاء إلهي، بل لما كان في تقديم المفضول على الفاضل ذلك القبح الشديد المستنكر، بل للزم احتياج العِترة إلى مشاركة الصحابة والتابعين معهم في

____________________

١) سورة المائدة: ٦٧.

٣٤١

القيام بهذا الدور.

بل خصوصية الاصطفاء الإلهي لهم دون غيرهم هو لحملهم حقيقة القرآن التي هي الروح الأمري، والتي قد تقدّم بيان صفاتها في الآيات والسور والروايات التي تقدّمت، وتبين أنّ لديهم عليهم‌السلام علم حقيقة القرآن كلّه، فضلاً عن درجات معانيه غير المتناهية وألفاظه، وهذا التراث والوراثة التكوينية لا يشاركهم فيها غيرهم بأدنى مشاركة، وهذا معنى انحصار باب مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعليّ عليه‌السلام ، بل ليس لغيرهم مهما بلغت درجته من العلم سوى الوقوف على حدود المعاني الظاهرة وبعض درجاتها التي توصّل إليها بواسطة الألفاظ.

وحيث إنّ الحاجة وبقاء الرسالة قائم بحقيقة القرآن لا بسطحية المعاني المنزّلة من تلك الحقيقة، ولأجل ذلك كان مقدار ما تنزّل من القرآن من المعاني الظاهرة والألفاظ لا يسدّ الحاجة لهداية البشرية إلاّ بضميمة التأويل، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١) ، فالتأويل باب مفتوح... درجات وطبقات المعاني المتنزّلة من الحقائق.

الوجودات الأربعة للقرآن:

ولتوضيح أقسام وجود القرآن ينبغي الالتفات إلى التقسيم الذي ذُكر في علم المنطق من أنّ لكلّ شي‏ء أربعة وجودات:

الأوّل: الوجود الكتبي للشي‏ء ، وهو نقش اسم الشي‏ء على الورق، أو نقش رسم

____________________

١) سورة آل عمران: ٧.

٣٤٢

صورته - فيما لو كان جسمانياً - كلفظ زيد أو صورته، ويُسمّى الوجود الكتبي لزيد ونقش اسمه.

الثاني: الوجود الصوتي لاسم زيد أو صوته، ويُسمّى بالوجود اللفظي الصوتي لزيد.

وهذان الوجودان يقال عنهما: الوجودان التنزيليان لزيد أو الوضعيان، أي أنّهما قُرِّرا وجودين لزيد أو للشي‏ء بحكم الاعتبار الأدبي، فلولا تباني البشر وأهل اللسان عن التعبير عن معنى زيد أو عن وجوده بذلك اللفظ أو بذلك الرسم والنقش من الكتابة، لَمَا كان لهما دلالة على معنى زيد أو وجوده، ولَمَا كان له صلة بحقيقة زيد ولا بمعناه، ومن ثمّ يعبّر عنهما وجودان تنزيليان لزيد، فلفظ زيد الصوتي تنزيل لحقيقة زيد، وكذلك نقش كتابة لفظ زيد تنزيل لحقيقة زيد.

الثالث: معنى زيد في الذهن والصورة التي له في الذهن، أي التي تنتقش تكويناً في ذهن الإنسان وفكره، ويُقال عنه الوجود المعنوي لزيد، وهذا الوجود تكويني وليس من قبيل الأوّلَين، أي: ليس وجوداً تنزيلاً اعتبارياً، بل هو وجود تكويني لزيد، ولكن لا لحقيقة وجوده بل لحقيقة معناه.

وقد يُطلق عليه تنزيل تكويني لا اعتباري لحقيقة وجود زيد، فهو ليس عين حقيقة الوجود ولكنّه عين حقيقة المعنى، وبين ذات معنى زيد وذات وجوده فرق فارق، بل إنّ لمعنى زيد مراتب:

منها: صورة بدنه في الذهن.

ومنها: معنى روحه ونفسه وعقله، أو ماهيته وذاته العقلية.

الرابع: حقيقة وجود زيد وهو وجوده العيني الخارجي، وهو وجود تكويني لزيد، كما أنّه الأصل في أقسام وجودات زيد، فليس هو وجود تنزيلي اعتباري أدبي كالأوّلَين، ولا وجود تكويني كالقسم الثالث، بل هو حقيقة وعين وجود زيد وهذا القسم بدوره أيضاً يشتمل على مراتب، منها: الوجود البدني لزيد، ووجود

٣٤٣

نفسه وروحه.

فتبيّن أنّ الوجود التكويني هو القسمان الأخيران، وكلّ منهما ذو مراتب، وهذا التقسيم يعمّ جميع الأشياء؛ فإنّ لكلّ شي‏ء من الأشياء وجود لفظي صوتي وكتبي نقشي، ووجودان تكوينان، وهو وجود معانيها في الذهن ووجود عيني خارجي.

فإذا تبيّن ذلك يتبيّن أنّ للقرآن الكريم هذه الوجودات الأربعة، فالتنزيل الذي في المصحف هو وجود كتبي ونقش للوجود اللفظي للقرآن، كما أنّ صوت قراءة القرآن هو وجود لفظي صوتي للقرآن.

ولكلّ من هذين الوجودين أحكام، فإنّه يُحرم لمس خطّ كتابته من دون طهارة، كما أنّ وجود المصحف الشريف المقدّس حرز وأمان، كما أنّه يُستحبّ النظر إليه، والقراءة منه أفضل وأكثر فضيلة من القراءة عن ظهر قلب، كما أنّ قراءة القرآن - وهو الوجود الصوتي - يدخل النور في البيت، ويطرد الشياطين، ويُكثر البركة والرزق، ويُستحب تحسين الصوت وتجويده، كما يُستحب قراءته بخشوع وحزن.

وأمّا معاني القرآن فهو الوجود الذهني للقرآن ومعانيه، وهو مصدر الهداية والبصيرة.

ومن أحكامه: لزوم التدبّر، كما قال تعالى: ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (١) ، فالتدبّر سرح للنظر في المعاني والسير في مدارجها بالتفكّر، قال تعالى: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) (٢) . فلا يقتصر وجود القرآن على النقش الكتبي ولا على حركة ولقلقة اللسان وبديع التجويد وتحسين الصوت، بل كلّ ذلك إلى غاية أهمّ وهو وجود القرآن في أُفق المعنى، والاستضاءة بنور هدايته

____________________

١) سورة محمد: ٢٤.

٢) سورة القمر: ١٧.

٣٤٤

من خلال وجوده في أُفق المعنى ورحاب بصيرة تلك المعاني، ومنه تحصل معرفة الدين والشريعة والشرائع. وينقسم إلى: معنى ظاهري، ومعنى تأويلي، وإلى العلوم جمّة، علوم الحكمة والآداب والأخلاق، وأسرار الفقه والقانون، وحقائق التكوين والمعارف، وعلوم التربية الإنسانية، وبالجملة العلوم العقلية والظواهر الطبيعية، وغيرها من منظومات العلوم.

حقيقة القرآن ووجوده:

والوجود الرابع للقرآن العيني الخارجي هو الذي يشير إليه قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١) ، فربط تعالى بين إنزال الروح الأمري وإحيائها وإرسالها، ومعرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكتاب كلّه، وقد عبّر عن ذلك بالإيحاء وهو الإرسال الخفي، وتشير الآية إلى معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بجملة الكتاب دفعةً.

ونفس هذا الترابط بين الروح الأمري وبين نزول جملة الكتاب نجده في سورة القدر، حيث قال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ... ) (٢) ، نلاحظ أنّ نزول القرآن والروح الأمري مترابطان.

وكذلك في سورة الدّخان، قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (٣) ، والضمير عائد على الكتاب

____________________

١) سورة الشورى: ٥٢.

٢) سورة القدر: ١ـ ٤.

٣) سورة الدخان: ١ - ٥.

٣٤٥

المبين جملة وإرسال الروح الأمري.

فيستخلص من جملة هذه الآيات: أنّ نزول القرآن جملة هو نزول حقيقته، وهو الروح الأمري، وهذا هو حقيقة الفرق بين تنزيل القرآن نُجوماً الذي هو الوجود اللفظي للقرآن، وبين نزوله دفعة.

٣٤٦

الأمر الثاني

إنّ للقرآن درجات ومدارج

هناك حقيقة ثابتة مسلّمة بين المسلمين، وهي حقيقة قرآنية من كون القرآن المنزّل ذا تأويل، كما قال تعالى: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١) ، فللقرآن تأويل وبطون، وقال تعالى: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ ) (٢) ، وقال تعالى: ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) (٣) ، فالتأويل والبطون سوى ظاهره المنزّل، بل وتلك البطون التي لا تنفذ من بحور حقائق القرآن تترقّى وتتّصل بأصل حقيقة القرآن الغيبية التي يُطلق عليها: الكتاب المكنون، والكتاب المبين، أو اللوح المحفوظ، أو أُمّ الكتاب.

وعلى ضوء ذلك، فليست الشريعة والدين تقتصران وتنحصران في الظاهر المنزّل، بل هما يشملان تلك البطون، فلا ينحصر تبليغ وأداء الشريعة بأداء الظاهر المنزّل وإبلاغ آيات التنزيل، بل يعمّ تلك البواطن.

ولم يقف على تلك البواطن وأُمّ الكتاب إلاّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعِترته الذين ورثوه بوراثة الاصطفاء، فسنخ ونمط تحمّل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتبليغه، وتحمّل أهل بيته عليهم‌السلام عنه وتبليغهم، ليس سنخُ نمطِ تحمّلِ وتبليغ الرواة للأخبار الحسّية المسموعة لفظاً، التي

____________________

١) سورة آل عمران: ٧.

٢) سورة الأعراف: ٥٣.

٣) سورة يونس: ٣٩.

٣٤٧

تحمّلوها ليؤدّوها إلى غيرهم، كي يكون الحال في هذا التبليغ (رُبّ حامل لا يفقه ما حُمّل، أو رُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ، لأن ما تحمّله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اللَّه تعالى وتحمّله أهل بيته عليهم‌السلام عنه هو تحمّل للحقائق المهيمنة والمحيطة بالمعاني.

حقيقة تبليغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته:

المنزّلة في آفاق درجات المعاني الباطنة والظاهرة والألفاظ المقروءة.

فمن ثمّ سُمّي هذا التبليغ والإبلاغ (إنزالاً) و (تنزيلاً) ، بينما سُمّي تبليغ الرواة إلى غيرهم (نقلاً) وإيصالاً في خطّ أُفقي، ونقلاً للحديث الملفوظ وإسماع الكلام المسموع (ورواية) للخبر المعلوم بالحواسّ الظاهرة، فالذي تحمّلوه هو ألفاظ مسموعة وطبقة من المعاني‏ الظاهرة لأفهامهم من وراء حجاب اللفظ، فهذا النمط والنوع من التحمّل والتبليغ يتحرّك في سير أُفقي، ومن ثمّ قد يصعد المنقول إليه ويتصاعد إلى بعض درجات المعاني وغورها، على عكس الناقل الذي ربّما يكون واقفاً على الألفاظ والدرجة الأُولى لمعانيها، فيكون المنقول والمحمول إليه الخبر أكثر إحاطةً من الناقل والحامل.

وهذا لا يُتصوّر في التحمّل الوحياني والتبليغ النبويّ، وتحمّل الإمام عن النبيّ وتبليغه لا يكون إلاّ عن إحاطة بالحقائق الوجودية، فضلاً عن الإحاطة بكل آفاق المعاني التي هي صور منعكسة متنزّلة عن تلك الحقائق، وأشعةٌ ولمعات يسيره من وهج نور الحقيقة، كيف لا؟! وتلك الحقائق لا يشذّ عنها رطْب ولا يابس ولا غائبة في السماوات والأرض، ولا ما كان ولا ما يكون وكلّ شي‏ء مستطرّ، وتحيط بكلّ هدى ونور، وكلّ فلاح وصلاح، وكل سعادة ونجاح، وتبيان لكلّ شي‏ء.

ففيما يبلّغه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام لا تقف الرعية - بما فيها من الفقهاء والعلماء والحكماء والعارفين - إلاّ على الألفاظ المتنزّلة والمعاني الظاهرة، وقد

٣٤٨

يترقّى الحال في بعضهم للوصول إلى بعض درجات المعاني أو لمح بعض لمعان أنوار الحقائق، من دون التحقّق بعينية تلك الحقائق فضلاً عن اكتناهها، ولا الإحاطة بجميع مدارج المعاني.

من ثمّ تدوم وتظلّ حاجة الرعية والبشرية قائمة ومستمرّة إلى تواصل بيانات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام وهدايتهم وتبليغهم، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: ( مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١) ، وقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (٢) .

وكذلك يشير قول الإمام الصادق عليه‌السلام في رواية إسحاق بن عمار، قال:

(إنّما مثل عليّ عليه‌السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسى عليه‌السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصُحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسى: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (٣) ، ثمّ قال: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (٤) .

وقد كان عند العالم علم لم يكتب لموسى في الألواح، وكان موسى يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين، ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه، وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلموه وحفظوه. وليس كلّ علم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علموه ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشي‏ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستحون أن ينسبهم الناس إلى الجهل

____________________

١) سورة آل عمران: ٧.

٢) سورة العنكبوت ٤٩.

٣) سورة الأعراف ١٤٤: ٧.

٤) سورة الأعراف ١٤٥: ٧.

٣٤٩

ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا، فيطلب الناس العلم من معدنه، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار ودانوا اللَّه بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ بدعة ضلالة. فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي‏ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ردّوه إلى اللَّه وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد، والذي منعهم منّا العداوة والحسد لنا.

لا واللَّه، ما حَسَد موسى عليه‌السلام العالِم، وموسى نبيّ اللَّه، يُوحي اللَّه إليه حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على علمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسى عليه‌السلام إلى العالِم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده. فلمّا أن سأل العالِم ذلك علَم العالِمُ أنّ موسى عليه‌السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) (١) ، فقال موسى عليه‌السلام له - وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله -:

( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) (٢) ، وقد كان العالم يعلم أنّ موسى عليه‌السلام لايصبر على علمه، فكذلك واللَّه - يا إسحاق بن عمار - حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لايحتملون واللَّه علمنا ولا يقبلونه، ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسى عليه‌السلام على علم العالِم حين صحبه ورأى ما رأى من علمه، وكان ذلك عند موسى عليه‌السلام مكروهاً وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ، وكذلك عِلْمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخذ وهو عند اللَّه الحق) (٣) .

فإذا التفتّ بنحو الإجمال إلى سنخ تحمّل وتبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اللَّه تعالى

____________________

١) سورة الكهف: ٦٨.

٢) سورة الكهف: ٦٩.

٣) العياشي، ج٢، ص٣٣٠، ح ٤٦، والبرهان، ج٣، ص٦٥١، في ذيل سورة الكهف، آية ١٨.

٣٥٠

وتحمّل وتبليغ أهل بيته عليهم‌السلام عنه، يجدر بالمقام الالتفات إلى كون القرآن ذا حقيقة عينية غيبية، والتي هي: الكتاب المبين، وأُمّ الكتاب، واللوح المحفوظ، والكتاب المكنون . كما في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (١) ، حيث يشير إلى وجود كينونة للقرآن علوية تُدعى بالكتاب المكنون، أي المحفوظة من أن يصل إليها إلاّ المطهرون من الذنوب والرجس، وأنّ ما بين الدفّتين من القرآن تنزيل ونزول من ذلك المقام العلوي له.

ومثل هذه الإشارة نجدها في قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (٢) ، فوصف القرآن بالمجد والعظمة لكينونته العلوية، أي أنّ المجد والعظمة وصْف لذلك الوجود، ولا يغرق الباري تعالى في وصْف موجود بالعظمة إلاّ لخطورة موقعيته في عالم الأمر والخِلقة، وتلك الكينونة هي المسمّاة باللوح المحفوظ، والوصف بلفظ المحفوظ مع لفظ المكنون مترادف.

وكذلك نجد الإشارة نفسها في قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٣) ، فوصف القرآن بأنّ له كينونة في أُمّ الكتاب وهي وجود علوي لدني عنديَّ لدى الباري تعالى، وهذا الوجود موصوف بالعلوّ والإحكام في قِبال التفصيل الذي طرأ على القرآن حين النزول، كما يشير إليه قوله تعالى: ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٤) .

وكذلك قوله تعالى: ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ

____________________

١) سورة الواقعة: ٧٧ - ٨١.

٢) سورة البروج: ٢٥.

٣) سورة الزخرف: ٤.

٤) سورة الأعراف: ٥٢.

٣٥١

خَبِيرٍ ) (١) ، وكذلك قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢) ، فالقرآن النازل تفصيل ونجوم للكتاب العلوي، ويشير إلى الوجود العلوي للقرآن قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) (٣) ، أي أنّ القرآن متنزّل من الكتاب المبين، وقد وصِفَ الكتاب المبين بعدّة أوصاف:

منها: قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٤) ، وقال تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٥) .

وقوله تعالى: ( ... وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٦) ، وقوله تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٧) .

ثمّ إنّ هناك تعدّداً أيضاً بين مقام وموقع القرآن الكريم بحسب الكتاب المبين واللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب، وبين إنزاله جملةً واحدة، وبين تنزيله مفصّلاً مفرّقاً بحسب الزمان، فهناك ثلاثة مقامات ومواقع ومراحل رئيسية للقرآن الكريم لا يسع المقام الخوض في تفصيلها، إلاّ أنّ المحصَّل ممّا مرّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عالم بالكتاب المبين واللوح المحفوظ.

وكذلك أهل بيته المطهّرون، كما أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أُنزل إليه القرآن جملة وهي

____________________

١) سورة هود: ١.

٢) سورة يونس: ٣٧.

٣) سورة الدخان: ٣.

٤) سورة النمل: ٧٥.

٥) سورة الأنعام: ٥٩.

٦) سورة يونس: ٦١.

٧) سورة هود: ٦.

٣٥٢

المرحلة الثانية، كما تنزل عليه القرآن نجوماً مفصلاً أو تفصيلاً وهي المرحلة الثالثة، كما تبين أنّ حقائق القرآن العينية موجودة بوجود علوي، وأنّ المعاني وطبقاتها متنزّلة من تلك الحقائق معاكسة وحاكية لها، وأنّ ألفاظ التنزيل ثوبٌ وصورة.

قراءة في معنى إكمال الدين بعليّ:

للمعاني المتنزّلة ودرجاتها إلى درجة المعنى الظاهر.

فالكتاب لا يقتصر على التنزيل والظاهر، بل له بطون لا تُحصى من المعاني، ولبطونه بطون هي حقائق مهيمنة، وأنّه لا يحيط بكلّ ذلك إلاّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أوحاه اللَّه إليه، ومن بعده أهل بيته عليهم‌السلام عنه، وبالتالي، لا يمكن الاقتصار على التنزيل والظهور في الوصول إلى معرفة الدين القويم ونيل الهداية الإلهية من دون وجود الشخص المبيّن لتلك البطون والكاشف عن حقائق التنزيل؛ لِحاجة البشرية إلى الكتاب كلّه، ولكلّ درجاته، على نحو التدريج بحسب مرّ الزمان والعصور.

فمن ثمّ اتّفقت - الإمامية أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام - على أنّ الدين لم يكمل بالتنزيل إلاّ بعد أن نصّبَ اللَّهُ عليّاً إماماً وهادياً لدينه وكتابه من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما ينادي بذلك قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِينًا ) (١) ، فإكمال الدين وإتمام النعمة لم يحصل بمجرّد التنزيل، بل بنصب قيّم بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مبيناً لبطون القرآن وحقائقه، ومن بعد عليّ أولاده المعصومين، وفي هذا الزمان وَلده الحجّة الإمام المنتظر (سلام اللَّه عليه).

وقد روى الكُليني بسنده إلى الحسن بن العباسي بن الحريش عن أبي جعفر

____________________

١) سورة المائدة: ٣.

٣٥٣

الثاني عليه‌السلام قال: (قال أبو عبد اللَّه عليه‌السلام : بينا أبي عليه‌السلام يَطُوف بالكعبة إذا رجل مُعتجرٌ قد قيض له - في حديث مسائلة إلياس النبيّ عليه‌السلام للباقر عليه‌السلام - وما قاله له: أخبرني عن هذه العلم الذي ليس فيه اختلاف من يعلمه؟

قال أبو جعفر عليه‌السلام : أما جملة العلم فعند اللَّه جلّ ذكره، وأمّا ما لابدّ للعباد منه فعند الأوصياء. ففتح الرجل عجيرته واستوى جالساً وتهلّل وجهه، وقال: هذه أردتُ، ولها أتيتُ، زعمت أنّ علم ما لا اختلاف فيه من العلم عند الأوصياء، فكيف يعلمونه؟

قال: كما كان رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يَعْلَمُه، إلاّ أنّهم لا يرون ما كان رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى؛ لأنّه كان نبيّاً وهم محدَّثون - بالفتح -، وأنّه كان يَفِد إلى اللَّه عزّ وجلّ فيسمع الوحي وهم لا يسمعون. فقال صدقت يا بن رسول اللَّه...

فإن قالوا لك: فإنّ عِلم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من القرآن، فقل: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (١) .

فإن قالوا لك لا يرسل اللَّه عزّ وجلّ إلاّ إلى نبيّ، فقل: هذا الأمر الحكيم الذي يفرق فيه هو من الملائكة والروح التي تنزّل من سماء إلى سماء أو من سماء إلى أرض.

فإن قالوا: من سماء إلى السماء. فليس في السماء أحدٌ يرجع من طاعة إلى معصية.

فإن قالوا: من سماء إلى أرض وأهل الأرض أحوج الخلق إلى ذلك، فقل: فهل لهم بد من سيد يتحاكمون إليه؟

فإن قالوا: فإنّ الخليفة هو حكمهم فقل: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (٢) ، لعمري ما في الأرض ولا في

____________________

١) سورة الدخان: ١ - ٥.

٢) سورة البقرة: ٢٥٧.

٣٥٤

السماء وليٌّ للَّه عزّ ذكره إلاّ وهو مؤيّد، ومن أُيّد لم يخطّ، وما في الأرض عدوّ للَّه عزّ ذكره إلاّ وهو مخذول، ومن خُذل لم يصبْ، كما إنّ الأمر لابدّ من تنزيله من السماء يحكم به أهل الأرض كذلك لابدّ من وال.

فإن قالوا: لا نعرف هذا.

فقل: ( لهم) قولوا ما أحببتم، أَبَى اللَّه عزّ وجلّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك العباد ولا حجّة عليهم) (١) .

ويتبيّن من ذلك أنّ إنكار أحد أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، أي إنكار اتّصال سلسلة إمامتهم أعظم كفراً من إنكار أحد المرسلين السابقين ، أي: من إنكار سلسلة اتّصال رسالات المرسلين السابقين؛ وذلك لأنّ إنكار سلسلة اتّصال إمامة أهل البيت تعني إنكار بقاء حجّية القرآن، للقول بتعطيل الكتاب بتعطيل نزول تأويله في كلّ عام.

وإنكار القرآن أعظم جحوداً من إنكار أحد الكتب المنزّلة السابقة، وقد عرفت أنّ ليلة القدر قد كانت منذ أوّل نبيّ بعثه اللَّه عزّ وجلّ واستمرّت مع جميع الأنبياء إلى قائم الأنبياء إلى خاتم الأنبياء، وكانت مع أوصياء الأنبياء، وهي مع الأوصياء من أهل البيت عليهم‌السلام بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لأنّها من أبرز قنوات الاتّصال مع الغيب، وبتوسّطها ينزل تأويل الكتب السماوية في من سبق، وتأويل القرآن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أهل بيته من بعده.

ومن ثمّ ورد: أنّه لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن. كما مرّت الإشارة إليه، فليلة القدر تمثّل وحدة السبب الاتّصالي بين الأرض والسماء، وأنّ إنكارها بإنكار أحد الأئمّة من أهل البيت هو في الحقيقة إنكار لطبيعة هذا الاتّصال الواحد الموحّد لدى السفراء الإلهين، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى

____________________

١) الكافي، ج١، ص٢٤٢.

٣٥٥

وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (١) .

وقوله تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٢) .

فلم يكتفِ الباري عزّ وجلّ في الإيمان بالرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط، وإنّما قَرَن معه بالنور النازل معه والذي هو الروح الأمري روح القدس، الذي هو حقيقة الكتاب الذي وصف بالنور بأنّه مع من اصطفاه اللَّه من العباد بعد رسول اللَّه ‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لقوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) (٣) .

وروى الكُليني بسند معتبر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: (لقد خَلق اللَّه عزّ وجلّ ذكره ليلة القدر أوّل ما خلق الدنيا، ولقد خلق فيها أوّل نبيّ يكون، وأوّل وصيّ يكون، ولقد قضى أن يكون في كلّ سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأُمور إلى مثلها من السنة المقبلة، من جَحَدَ ذلك فقد ردّ على اللَّه عزّ وجلّ عِلمه؛ لأنّه لا يقوم الأنبياء والرسل والمحدثون إلاّ أن تكون عليهم حجّة بما يأتيهم في تلك الليلة مع الحجّة التي يأتيهم بها جبرئيل عليه‌السلام ، قلت: والمحدّثون أيضاً يأتيهم جبرئيل أو غيره من الملائكة عليهم‌السلام ؟

قال: أمّا الأنبياء والرسل (صلّى الله عليهم) فلا شكّ، ولابدّ لمن سواهم من أوّل يوم خلقت فيه الأرض إلى آخر فناء الدنيا أن تكون على أهل الأرض حجّة ينزل ذلك في تلك الليلة إلى من أحبّ من عباده.

وايمُ اللَّه، لقد نزل الروح والملائكة بالأمر في ليلة القدر على آدم، وايمُ اللَّه ما

____________________

١) سورة البقرة: ١٣٦.

٢) سورة الأعراف: ١٥٧.

٣) سورة الشورى: ٥٢.

٣٥٦

مات آدم إلاّ وله وصيّ، وكلّ مَن بعد آدم من الأنبياء قد أتاه الأمر فيها ووضع لوصيه مِن بعده، وايمُ اللَّه إن كان النبيّ ليؤمر فيما يأتيه من الأمر في تلك الليلة، من آدم عليه‌السلام إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن أُوصي إلى فلان، ولقد قال اللَّه عزّ وجلّ في كتابه للولاة من بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (١) .

يقول: استخلفكم لعلمي وديني وعبادتي بعد نبيّكم، كما استخلف وُصاة آدم من بعده، حتّى يُبعث النبيّ الذي يليه ( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) ، يقول: يعبدونني بإيمان لا نبيّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن قال غير ذلك ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

فقد مكّن ولاة الأمر بعد محمّد بالعلم ونحن هم، فاسألونا فإن صدّقناكم فأقرّوا، وما أنتم بفاعلين!

أمّا علمنا فظاهر، وأمّا إبان أجلنا الذي يظهر فيه الدين منّا حتّى لا يكون بين الناس اختلاف، فإنّ له أجلاً من ممرّ الليالي والأيام، إذ أتى ظهر وكان الأمر واحداً.

وأيم اللَّه لقد قُضي الأمر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف، ولذلك جعلهم شهداء على الناس ليشهد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله علينا، ولنشهد على شيعتنا، ولتشهد شيعتنا على الناس. أبى اللَّه عزّ وجلّ أن يكون في حكمه اختلاف، أو بين أهل علمه تناقض.

ثمّ قال أبو جعفر عليه‌السلام : فضْل إيمان المؤمن بجملة ( إنّا أنْزَلْناهُ ) وبتفسيرها على من ليس مثله في الإيمان بها كفضل الإنسان على البهائم، وإنّ اللَّه عزّ وجلّ ليدفع بالمؤمنين بها...) (٢) .

وقد ورد من طرق الفريقين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله لعليّ عليه‌السلام : (أنا أقاتل على التنزيل وعليّ

____________________

١) سورة النور: ٥٥.

٢) الكافي، ج١، ص٢٥١.

٣٥٧

يقاتل على التأويل) (١) .

ومنه ظهر أنّ سنخ تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اللَّه، وأهل بيته عليهم‌السلام عنه، لا يقف على حدّ التنزيل والألفاظ، بل يتّسع إلى ما لا يُحصى من مَدارج المعاني وبيان الحقائق، فالحاجة إلى تبليغهم وأدائهم عن اللَّه ووساطتهم بين اللَّه وخلقه تمتدّ إلى يوم القيامة في دار التكليف ونشأة الامتحان، ما دام البشر يحتاجون في كل بيئة إلى رؤية كونية عقائدية أعمق للحقائق والمعارف، ويحتاجون إلى هداية من الشريعة إلى أطوار نظامهم الاجتماعي السياسي وحقوله.

فتلخّص: أنّ ما تسالم عليه المسلمون من وجود الظهور والبطون في الكتاب العزيز وكون علومه وحقائقه وكلماته لا تتناهى، يستلزم دوام الحاجة إلى تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام من بعده، وعدم سدّ الحاجة بخصوص الظاهر؛ بعد كون الإيمان بباطن القرآن على حذو الإيمان بظاهره.

ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (٢) ، فإنّ توقّف تبليغ مجمل الرسالة على نصب عليّ عليه‌السلام في الغدير بحيث لو لم يُنصّب لم تُبلّغ الرسالة من رأس وهذا المفاد في الآية، مؤشّر واضح على أنّ ما حمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الرسالة بالوحي مُعظَمه لا يقتصر على التنزيل، بل جُلّه في البطون وحقيقته العلوية التي لا يشذّ عنها شي‏ء، وهذا لم يؤدِّه النبيّ إلاّ لعليّ وأهل بيته خاصّة، وتأديته صلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل بيته لم تقتصر على النمط الحسّي ولا

____________________

١) الخصال للصدوق، ص٦٥٠.

٢) سورة المائدة: ٦٧، وروى الواحدي النيشابوري في أسباب النزول بسند متّصل، عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت هذه الآية: ( أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ... ) يوم غدير خُم في عليّ بن أبي طالب (رضيّ الله عنه).

٣٥٨

هو عمده الطريق لتلقّيهم عليه‌السلام عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فمن ثمّ كان إبلاغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التنزيل للناس من دون نصب عليّ نفي لإبلاغ وبلاغ جُلّ الرسالة، وأنّ ما عند الناس من الدين والشريعة والرسالة هو أقلّ من قليل، إلاّ باتّباعهم لأهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذهم عنهم ما أدّاه النبيّ إلى أهل بيته من حقائق القرآن والشريعة، ويشير إلى ذلك ما روته العامّة في الصحاح وغيرها كما ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء (١) : (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش).

وفي رواية: (إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي له فيهم اثني عشر خليفة كلّهم من قريش) (٢) ، وفي رواية عن أبي داود: (لا يزال هذا قائماً حتّى يكون لكم اثني عشر خليفة) (٣) .

فإنّ التعبير بأنّ الدين قائم بهم أي أنّه ينقضي بزوالهم ويزول بمضيهم، وأنّ عمر هذا الدين وصلاحه مرهون عند اللَّه عزّ وجلّ بالخلفاء الاثني عشر.

وهذا المفاد للحديث النبويّ المستفيض يقتضي بأنّ ما وصل بأيدي الناس من ظاهر التنزيل من المصحف الشريف وروايات السنّة النبويّة بمجرّده لا يكفي في بقاء الدين، ممّا يدلّ على أنّ معظم الدين وقوامه موجود لدى الاثني عشر سلام اللَّه عليهم دون غيرهم، وكذا لا يمكن الاكتفاء بظاهر التنزيل والروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام والاستغناء عن المهدي (عج).

حيث قال تعالى: ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَد

____________________

١) تاريخ الخلفاء، ص١٠، طبعة السعادة في مصر، كما نقلنا ذلك في محلقات إحقاق الحقّ،ج١٣، ص١٢.

٢) السيوطي عن صحيح مسلم، نفس المصدر.

٣) سنن أبي داود، ج٤، ص١٥٠، طبعة السعادة بمصر، ومسند أحمد بن حنبل، ص٨٦ - ٨٧، طبعة الميمنة مصر، ومسند أبي عوانة، ج٤، ص٣٩٩، طبعة حيدر آباد، وهناك مصادر أخرى، لاحظ: ملحقات إحقاق الحق، ج١٣، ص١ - ٤٨.

٣٥٩

كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) (١) ، وقال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (٢) .

وليس المراد من الكلمات التي لا تنفذ الألفاظ الصوتية، أو المنقوشة المدوّنة، أو المعاني المفهومة المتصوّرة؛ إذ إطلاق الكلمة والكلمات على هذين الموردين إطلاق مجازي عند العقل، إذ الكلمة هي الشي‏ء الدالّ بذاته تكويناً على أمر آخر، ومن ثمّ يُطلق على وجودات الأشياء المخلوقة - لا سيّما الشريفة - أنّها كلمات اللَّه؛ لدلالتها على صفات الباري تعالى.

ومنه يُعرف الترادف عند العقل بين الكلمة الحقيقية والآية، ومن ثمّ ورد إطلاق كلّ منهما على النبيّ عيسى عليه‌السلام ، وقال تعالى في بشارة الملائكة لمريم: ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (٣) ، فجعل تعالى وجود نبيّه كلمة منه تعالى وتكلّمٌ منه، وجعل عنوان المسيح - عيسى بن مريم - اسم للكلمة، كما أطلق تعالى الآية على عيسى بن مريم حيث قال: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ) (٤) .

فهذه الكلمات الوجودية والتي قد تعرّضت جملة من الآيات لنعوتها وصفاتها والتي لا تنفذ، كلّها مجموعة في الكتاب المبين؛ إذ الكتاب هو ما يتألّف من كلمات، فالكتاب المبين متكوّن من وجود جُملي لكافّة الكلمات الوجودية بالوجود الملكوتي، ومن ثمّ نعت الكتاب المبين بأنّه مفاتح الغيب كما في الآية المتقدّمة: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاّ فِي كِتَابٍ

____________________

١) سورة الكهف: ١٠٩.

٢) سورة لقمان: ٢٧.

٣) سورة آل عمران: ٤٥.

٤) سورة مريم: ٢١.

٣٦٠

مُبِينٍ ) (1) .

تلقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته للكلمات والكلام الإلهي بوجوده التكويني لا الاعتباري:

إنّ ما يتلقّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من وحي لا ينحصر في الوحي الإنبائي، كما أنّ سِنخ الوحي الإنبائي لا ينحصر في إلقاء المعاني أو الأصوات، بل إنّ عمدة أنواع وأنماط الوحي هو ما يكون من قبيل تلقّي حقائق الأشياء بحقيقتها التكوينية بكينونة تفوق الكون المادّي، وهو ما يعبّر عنه بنشأة الملكوت في القرآن الكريم، قال تعالى: ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (2) .

وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود كينونة للأشياء في نشأة الملكوت فقال تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (3) .

وقال تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (4) .

وقال تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (5) .

وقال تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (6) ، وغيرها من الآيات التي تدلّ على أنّ في نشأة الكتاب المبين - وهي نشأة تحيط بغيب السماوات والأرض - يستطرُ فيها كلّ شي‏ء بحسب ملكوته، قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ

____________________

1) سورة الأنعام: 59.

2) سورة يس: 83.

3) سورة الأنعام: 59.

4) سورة الأنعام: 38.

5) سورة النمل: 75.

6) سورة يس: 12.

٣٦١

نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (1) ، فأثبت تعالى للسماوات والأرض مَلَكُوت، فإحاطة وهيمنة الملَكُوت على كلّ الأشياء وصف مقرّر للكتاب المبين، وتقرّر الأشياء بحسب ملكوتها فيه ليس تقرّر معانيها ومفاهيمها، بل تقرّر كينونة وجودية مَلَكُوتية، بل أنّ هناك أوصافاً ونعوتاً قرآنية أُخرى للكتاب المبين تفوق ذلك.

والقرآن جملة وهو جملة حقيقية، فحقيقة القرآن ليست بلفظ عربي أو أعجمي، كما أنّه ليس بمعنى بل هو الروح الأعظم، حيث عبّر عنه في سورة النحل قوله تعالى: ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (2) ، والآية الكريمة في نفس السورة التي صدرها: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ ) (3) .

فبين الآيتين في السورة الواحدة ارتباط، وأنّ ذلك الروح الذي ينزل به الملائكة هو روح القدس، وهو الروح النازل في ليلة القدر بجملة الكتاب، ويعضد هذا الارتباط بين الآيتين في سورة النحل توسّط آية أُخرى في السورة وهي قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (4) ، ومن الواضح في هذه الآية إرادة جُملة الكتاب وحقيقته ، لا النزول النُّجومي ولا تنزيل القرآن بوجوده اللفظي؛ لأنّ الذي فيه تبيان كلّ شي‏ء هو حقيقة القرآن، الذي يعبّر عنه بالكتاب المبين، والمكنون، واللوح المحفوظ، إلى غيرها من الأوصاف الآتي استعراضها لهذا الوجود الرابع.

وكذلك سيأتي استعراض روايات أهل البيت عليهم‌السلام الكاشفة لتفسير كلّ ذلك من

____________________

1) سورة الأنعام: 75.

2) سورة النحل: 102.

3) سورة النحل: 2.

4) سورة النحل: 89.

٣٦٢

ظاهر ألفاظ الآيات الكريمة. وتقدّم الكلام في أنّ القرآن اسم حقيقة لروح القدس، النازل على النبيّ جملة في النزول الدفعي الجملي للقرآن كما في آخر سورة الشورى، وأنّه ملتحم مع روح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده مع أرواح الأوصياء من أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولا يخفى أنّ لفظة الكتاب شأنها في أقسام الوجود شأن ما تقدّم من الوجودات الأربعة لكلّ شي‏ء، فإنّ الكتاب يُطلق على: وجود النقش والرسوم المكتوبة ، وهو الذي يُستعمل فيه كثيراً.

كما يُطلق الكتاب أيضاً على: أصوات الألفاظ المجموعة ، فيقال قراءة الكتاب.

ويُطلق على: وجود المعاني، فيقال حفظتُ كتاباً كاملاً.

ويُطلق على: الوجود العيني الخارجي الجامع للكلمات التكوينية .

وبعبارة أُخرى: إنّ الكتاب الذي هو مجموع الكلمات، والكلمة بدورها لها أربع وجودات:

الأوّل: الكلمة المكتوبة المنقوشة.

الثاني: الكلمة الملفوظة المصوّتة.

الثالث: الوجود الذهني في الفكر للكلمة.

الرابع: الوجود العيني الخارجي لشي‏ء دالّ على شي‏ء آخر.

كما أطلق تعالى القرآن على عيسى عليه‌السلام في قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (1) ، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ) (2) ، وهذا الإطلاق ليس مجازياً، بل حقيقياً؛ لكون الأصل في معنى الكلمة هو الشي‏ء الموجود لأجل الدلالة على المعنى الخفي، وأي دلالة أعظم على صفات اللَّه من أنبيائه ورسله والأوصياء والحجج، والكلمة مقاربة في

____________________

1) سورة آل عمران: 45.

2) سورة النساء: 171.

٣٦٣

معناها لمعنى الآية، حيث إنّ معناها العلامة الدالّة على معنى ومدلول ما، وقد أُطلق لفظ الآية على الوجودات التكوينية في كثرة كاثرة من الموارد في القرآن الكريم.

منها: قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (1) .

وقوله تعالى: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) (2) .

وقوله تعالى: ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) (3) .

فأطلق على النبيّ عيسى عليه‌السلام كلّاً من (الكلمة والآية)، ويقرب لفظ (الاسم) من هذا المعنى من لفظ (الكلمة والآية) وإطلاقهما على الوجود التكويني، حيث إنّ معناه من السمة وهو العلامة أيضاً الدالّة على شي‏ء أو معنى ما. فهذه الألفاظ الثلاثة هي بدورها - أيضاً - لها أربع وُجُودات:

الأُوّليّان اعتباريان وهما: الصوت الملفوظ، والنقش المرسوم على الورق.

والأُخريان تكوينيان: الثالث منها، وجودها في أُفق المعنى والفكر والذهن ومدارج المعاني، والرابع: الوجودات العينية.

وعلى ضوء ذلك، فالكتاب الذي هو مجموع الكلمات أيضاً هو بدوره له أربع وُجُودات:

اثنان اعتباريان، وهما: المنقوش والملفوظ.

واثنان تكوينيان، وهما: الوجود في أُفق الفكر والذهن، والوجود العيني الخارجي

وإذا كان عيسى بن مريم عليه‌السلام ، بما له من روح نبويّة، كلمةٌ من هذا الكتاب وآية من آياته، فكيف بك في بقية الكلمات والآيات؟ بل ما هو الحال في جملة الكتاب؟ مع أنّه تعالى يقول في عيسى بن مريم عليه‌السلام - الذي هو كلمة من هذا الكتاب -: ( وَآتَيْنَا

____________________

1) سورة المؤمنون 50: 23.

2) سورة مريم 21: 19.

3) سورة الأنبياء 91: 21.

٣٦٤

عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (1) ، فعبّر تعالى بتأييده بروح القدس، ممّا يفهم أنّ روح القدس أعظم من روح النبيّ عيسى عليه‌السلام ؛ حيث قال تعالى في عيسى عليه‌السلام : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (2) ، وقال تعالى: ( اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (3) ، ومن ثمّ لم يكن للنبيّ عيسى العلم بالكتاب كلّه كما كان لسيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لقوله تعالى في عيسى: ( قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) (4) ، تبيّن الآية أنّه عليه‌السلام يبيّن بعض اختلاف بني إسرائيل لا كلّه.

وكذلك الحال في موسى عليه‌السلام حيث قال تعالى: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (5) ، فما كُتب لموسى ليس كلّ شي‏ء وإنّما من كلّ شي‏ء، بخلاف القرآن الكريم حيث وصف بالمهيمن وأنّه تبيان كلّ شي‏ء.

فهذا الارتباط بين كون عيسى كلمة وآية وبين كونه مؤيد بروح القدس، لا أنّ عيسى هو روح القدس.

كما أنّ الارتباط والصلة التي تشير إليها سورة القدر والدخان والشورى والنحل وغافر - كما تقدّم استعراض آيات السور - بين الروح الأمري وروح القدس وبين نزول الكتاب المبين، يدلّ بوضوح أنّ الكتاب المبين حقيقته هو روح القدس، والذي يعبّر عنه في بعض الروايات بالروح الأعظم.

فهذا الروح، الذي هو حقيقة وجود الكتاب المبين، هو الذي أُوحي به إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (6) ، فدراية الكتاب كلّه هو بإرسال هذا الروح إلى روح النبيّ، ومقتضى دراية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكتاب كلّه هو

____________________

1) سورة البقرة: 87.

2) سورة النساء: 171.

3) سورة المائدة: 110.

4) سورة الزخرف: 63.

5) سورة الأعراف: 145.

6) سورة الشورى: 52.

٣٦٥

التحام الروح في ضمن روحه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك تنزّل هذا الروح في الليلة المباركة وهي ليلة القدر والذي هو تنزّل لحقيقة الكتاب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣٦٦

نعوت حقيقة الكتاب وهي روح القدس

منها: قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا ) (1) .

فوصف القرآن بأنّه يسيّر به الجبال، وتقطّع به الأرض، ويُحيى به الموتى، ومن الواضح أنّ هذه الخواص ليست للكتابة المنقوشة التي هي بين الدفّتين للمصحف المقدّس، بل هي لحقيقة القرآن الموجودة في الغيب وهي روح القدس.

ومنها: قوله تعالى: ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) ، ومن الواضح أنّ لوح المحو والإثبات وما فوقه من أُمّ الكتاب ليس في المصحف الورقي، بل هو في نشأة الغيب.

ومنها: قوله تعالى: ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (3) ، ومن الواضح أنّ المصحف المقدّس المنقوش بين الدفّتين لو وُضع على جبل ما رأيناه ينهدّ متصدّعاً، إذن، المراد بذلك هو نزول روح القدس على ملكوت الجبل؛ لأنّ لكلّ شي‏ء ملكوت كما قال تعالى: ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (4) ،

____________________

1) سورة الرعد: 31.

2) سورة الرعد: 39.

3) سورة الحشر: 21.

4) سورة يس: 83.

٣٦٧

فملكوت الجبل ليست له تلك القابلية والظرفية لنزول روح القدس عليه، بل لم تكن تلك القابلية في الأنبياء أُولي العزم كما تقدّمت الإشارة إليه، بل هي خاصّة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المطهّرين، كما سيأتي بيان ذلك.

ومنها: قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (1) ، ومن الواضح أنّ تبيان كلّ شي‏ء ليس في ظاهر المصحف المنزّل، وإنّما في الكتاب المبين في النشأة الغيبية أي روح القدس، ومن ثمّ تكرّر التعيير المشابه للوصف في سورة النحل وفي سورة الشورى، ونظير هذا الوصف في قوله تعالى:

( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (2) ، فذكر أنّ فيه كلّ مغيّبات السماء والأرض وتقدير الحوادث، كما ذكر ذلك في سورة القدر والدخان، ونظيره قوله تعالى:

( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (3) ، وقوله تعالى:

( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (4) ، وقوله تعالى:

( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (5) ، وكذلك قوله تعالى:

( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (6) ، وقوله تعالى:

( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (7) .

ومن الظاهر أنّ هذه الإحاطة بتفاصيل كلّ الأشياء ليست في تفاصيل ظاهر

____________________

1) سورة النحل: 89.

2) سورة يونس: 61.

3) سورة هود: 6.

4) سورة النمل: 75.

5) سورة سبأ: 3.

6) سورة الأنعام: 38.

7) سورة الأنعام: 59.

٣٦٨

التنزيل، وأنّما هو نعت للنشأة الغيبية لحقيقة الكتاب، ومِن ثمّ هذا الوصف بيّن ظرفه في أرواح الذين أوتوا العلم في قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (1) ، وهذا ممّا يدلّ على التحام روح القدس مع من يتنزّل الروح عليه ليلة القدر ، وهم الذين يؤتون علم الكتاب كلّه.

ونعوت الوجود التنزيلي للقرآن وصفت في الآيات العديدة أنّه بلسان عربي مبين، كما في قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (2) ، فالتشابه وصف لظاهر التنزيل، بينما المبين كلّه وصف للكتاب المكنون؛ وإلاّ لو حُمِلَت النعوت على مرتبة واحدة من وجود القرآن - وهو ظاهر التنزيل - لتناقض الوصفان، فكيف يكون فيه متشابه ويكون مبيناً كلّه وتبياناً لكلّ شي‏ء؟

ومنها: وصْفُه بالكنّ والمجد، كقوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) (3) ، وقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (4) ، فوصف الكرامة قريب من وصف المجد، ووصف المكنون قريب من وصف المحفوظ، ومعنى اللوح قريب من الكتاب.

ومن ثمّ وُصِف أيضاً بكونه: ( لاَ يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) (5) أي لا يصل إليه إلاّ من طهّره اللَّه، لا المتطهّر بالوضوء والغسل. ومن ثمّ وصف أيضاً بتنزيل من ربّ العالمين أي له وجود علوي.

____________________

1) سورة العنكبوت: 49.

2) سورة آل عمران: 7.

3) سورة الواقعة: 77 - 78.

4) سورة البروج: 21 - 22.

5) سورة الواقعة: 79.

٣٦٩

الثقل الأكبر هو القرآن الناطق:

إذا تبينت الأُمور الثلاثة المتقدّمة من أنّ حقيقة القرآن هي روح القدس وتلك الحقيقة هي عين ذواتهم عليهم‌السلام ، وأنّ للقرآن مدارج ودرجات، وأنّ المصحف هو أنزل الدرجات، فهو القرآن النازل وهو تنزيل القرآن، وأمّا الدرجات العليا فهي حقيقة القرآن وهي أكثر عظمة وقدسية وبهاءً وسموّاً، وأنّ تلك الحقائق هي الثقل الأكبر، إذ كيف يكون الوجود النازل وهو المصحف أكبر من أُمّ الكتاب ومن الكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي‏ء، ومن اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلاّ المطهرون.

وتلك الحقائق الغيبية التي هي روح القدس مرتبطة وملتحمة مع أرواح الأئمّة عليهم‌السلام حقيقةً لا تنزيلاً واعتباراً، فالارتباط الحي الحيوي بروح القدس هو ذات الإمام عليه‌السلام ، فالثقل الباقي بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الأكبر لا محالة يكون الإمام والمصحف هو الأصغر، وعلى ذلك جملة من الشواهد:

الأوّل: ما ورد بنحو مستفيض ومتواتر أنّهم عليهم‌السلام القرآن الناطق، والمصحف هو القرآن الصامت، ولا ريب أنّ القرآن الناطق هو الثقل الأكبر؛ إذ الناطق أعظم شَرافة من الصامت، بل أنّ ملحمة صفّين الكبرى تُسطّر ملحمة عقائدية للأئمّة، في أنّ القرآن الناطق هو عليّ عليه‌السلام ، وأنّ المصحف قرآن صامت.

كما أنّ تلك الروايات المستفيضة في كونهم القرآن الناطق دلالة واضحة على هيمنة حجّيتهم على حجّية المصحف الشريف، أي حجّية ذواتهم الناطقة لا كلامهم المروي في الكتب الذي هو إمام صامت.

وفي الكافي روى فيما هو كالموثق عن مسعدة عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث: (ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أُخبركم عنه: أنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه

٣٧٠

تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم) (1) .

الثاني: ما رواه الشريف الرضي في كتابه خصائص الأئمّة بسند صحيح عن أبي موسى الضرير البجلي - وهو عيسى ابن المستفاد -، وهو وإن ضُعّف من النجاشي إلاّ أنّه مستندٌ في ذلك إلى تضعيف ابن الغضائري المتسرّع، والحال أنّ مضامين رواياته عالية المعارف، عن أبي الحسن عليه‌السلام في خطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله التي خطبها في مرضه، قال:

(يا معاشر المهاجرين والأنصار، ومن حضر في يومي هذا وساعتي هذه من الأنس والجنّ، ليبلغ شاهدُكم غائبَكم، ألا وأنّي قد خلّفت فيكم كتاب اللَّه، فيه النور والهدى، والبيان لِما فرض اللَّه تبارك وتعالى من شي‏ء، حجّة اللَّه عليكم وحجّتي وحجّة وليّي، وخلّفت فيكم العلم الأكبر، علم الدين ونور الهدى وضياءه، وهو عليّ بن أبي طالب، ألا وهو حبل اللَّه: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (2) .

أيّها الناس، هذا عليّ، من أحبّه وتولاّه اليوم وبعد اليوم فقد أوفى بما عاهد عليه اللَّه، ومن عاداه وأبغضه اليوم وبعد اليوم جاء يوم القيامة أصمّ وأعمى، لا حجّة له عند اللَّه،. .. وكلّ سُنّة وحديث وكلام خالف القرآن فهو زور وباطل، القرآن إمام هادٍ، وله قائد يهدي به، ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ) (3) .

ودلالة الرواية على أنّهم الثقل الأكبر في مواضع:

منها: وصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام بأنّه العلم الأكبر، علم الدين في مقابل المصحف الشريف، مع تكراره صلى‌الله‌عليه‌وآله للأوصاف التي ذكرها لنعت القرآن، كأوصاف

____________________

1) الكافي، ج1، ص60.

2) سورة آل عمران: 103.

3) خصائص الأئمّة للسيد الرضي، ص72 - 74، طبعة آستان قدس رضوي.

٣٧١

لعليّ أيضاً.

ومنها: تخصيصه صلى‌الله‌عليه‌وآله حبل اللَّه بعليّ، مع أنّ المصحف الشريف حبل اللَّه، كما في الأحاديث الأُخرى إلاّ أنّ هذا التخصيص في هذه الرواية للتدليل على أنّه الحبل الأكبر.

ومنها: وصفه الكتاب بأنّه حجّة اللَّه على الناس، وحجّة الرسول، وحجّة الوصيّ، فجعلَ المصحف الشريف حجّة لِما هو مقام أعظم، وهو مقام اللَّه، ورسوله، ووليه.

ومنها: وصف عليّ عليه‌السلام بأنّه قائد للقرآن وأنّه الهادي به، مع أنّ القرآن إمام وهاد، فجُعلت القيمومة لعليّ على المصحف.

الثالث: إنّ المقابلة ليست بين كلام اللَّه تعالى وكلام المعصوم؛ إذ لا ريب أنّ كلام الخالق فوق كلام المخلوق، بل هي بين كلامَي الخالق، أي الكلام النازل، وهو تنزيل الكتاب، وكلامه تعالى في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب.

ولك أن تقول: إنّ المقارنة ليست بين المصحف وكتب الحديث وروايات السنّة النبويّة وسنّة المعصومين؛ إذ لا ريب في عظمة المصحف على كتب الحديث؛ فالحديث يُعرض على الكتاب، وإن كان متشابه المصحف يُعرض على محكمات كلّ من الكتاب والسنّة، فمتشابه السنّة يُعرض على محكمات الكتاب والسنّة، وكذلك الحال في متشابهات العقل في القضايا النظرية تُعرض على محكمات الكتاب والسنّة وبديهيات العقل.

فليس المقارنة بين الكتاب والمصحف العزيز وكتاب الحديث، وإنّما المقارنة هي بين المصحف وذات الإمام المعصوم نفسه عليه‌السلام ، وقد وصف المصحف العزيز بأنّه القرآن الصامت، أي الذي لا ينطق بنفسه في مقام التطبيق وتفاصيل الوقائع ولا متشابه الأُمور، بخلاف ذات المعصوم، فإنّها وصفت بالقرآن الناطق؛ لأنّ ذات

٣٧٢

المعصوم تلتحم بذات الكتاب وأُمّ الكتاب والكتاب المبين.

فدرجات القرآن العليا التي هي جزء ذات المعصوم قرآن ينطق، فيرفع المتشابه في الأُمور، ويكون تلاوة للكتاب حقّ تلاوته، أي يتلو الآية ويطبّقها وينزل تطبيقها في حقّ المورد التي يجب أن تطبّق فيه.

وكذلك الحال في المقارنة بين ذات الإمام وكتب الحديث، فإنّ ذات الإمام إمام ناطق وكتب الحديث إمام صامت، ومن ثمّ لا يُستغنى بتراث حديث النبيّ وأهل بيته عليهم‌السلام عن وجود الإمام المهدي (عج).

وبهذا يتّضح أنّ المقارنة ليس بين كلام اللَّه وكلام المعصوم، بل المقارنة بين كلامَي اللَّه، فإنّ ذات المعصوم هو كلام اللَّه حقيقة، ألا ترى الإشارة في قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (1) ، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ.. ) (2) .

فأطلق على عيسى عليه‌السلام أنّه كلمة اللَّه. وأيضاً لاحظ التعبير في قوله تعالى لزكريا: ( أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) (3) ، أي مصدّقاً بعيسى بن مريم، والتعبير في قوله تعالى في شأن مريم: ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ ) (4) ، فقوبل هنا بين الكلمات والكتب.

رابعاً: قد يُعترض على جعل أهل البيت الثقل الأكبر في مقابل المصحف الكريم، بأنّه مخالف للحديث النبويّ المستفيض وهو الوصية بالتمسّك بالثقلين، فإنّ الحديث وإن كان متواتراً إلاّ أنّ ما ورد فيه بلفظ الأكبر والأصغر هو في جُلّ الطرق لا كلّها.

____________________

1) سورة آل عمران: 45.

2) سورة النساء: 171.

3) سورة آل عمران: 39.

4) سورة التحريم: 12.

٣٧٣

منها: ما رواه الشيخ المفيد في المجالس بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام ، عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين... سببٌ طرفه بيد اللَّه وطرف بأيديكم تعملون فيه... ألا وهو القرآن والثقل الأصغر أهل بيتي. ثمّ قال: وايمُ اللَّه إنّي لأقول لكم هذا ورجالٌ في أصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم) (1) .

وروى في البحار أيضاً عن تفسير القمّي وغيره قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أما وأنّي سائلكم عن الثقلين كتاب اللَّه الثقل الأكبر، طرفٌ بيد اللَّه وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به) (2) .

وروى أيضاً في البحار عن تفسير العياشي، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الثقل الأكبر كتاب اللَّه سبب بيد اللَّه وسبب بأيديكم فتمسّكوا به لن تهلكوا أو تضلّوا، والآخر عِترتي، وأنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) (3) .

وروى في البحار أيضاً عن كتاب النشر والطي، عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر كتاب اللَّه عزّ وجلّ، طرفٌ بيد اللَّه تعالى وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به، والثقل الأصغر عِترتي أهل بيتي؛ فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، كإصبعيّ هاتين - وجمع بين سبابتيه - ولا أقول كهاتين - وجمع بين سبابته والوسطى - فتفضل هذه على هذه) (4) .

وروى في بصائر الدرجات عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: (الثقل الأكبر كتاب اللَّه سببٌ طرفه بيد اللَّه وسببٌ طرفه بأيديكم) (5) .

وروى في الخصال عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: (أمّا الثقل الأكبر فكتاب اللَّه عزّ وجلّ سببٌ ممدود

____________________

1) بحار الأنوار، ج12، ص475، نقلاً عن مجالس المفيد، والأمالي للصدوق، ص134.

2) البحار، ج23، ص129، و: ج36، ص328، و: ج89، ص27، تفسير القمّي، ج1، ص3.

3) بحار الأنوار،ج37، ص141، تفسير العيّاشي، ج1، ص4.

4) البحار، ج37، ص128.

5) بصائر الدرجات، ص414.

٣٧٤

من اللَّه ومنّي في أيديكم، طرفه بيد اللَّه والطرف الآخر بأيديكم، فيه علم ما مضى وما بقي إلى أن تقوم الساعة، وأمّا الثقل الأصغر فهو حليف القرآن وهو عليّ بن أبي طالب وعِترته، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) (1) .

وتوضيح دفع الاعتراض:

أوّلاً: إنّ كلّ هذه الروايات قد وصفت الكتاب أو القرآن بالثقل الأكبر، فلم تأت بلفظ المصحف والكتاب، القرآن كما يطلق على المصحف يطلق على أُمّ الكتاب وعلى الكتاب المبين وعلى اللوح المحفوظ وعلى روح القدس، كما تقدّم ذلك مفصّلاً في استعمالات آيات السور والاستعمال الروائي، فالكتاب أو القرآن ذو درجات ومقامات متعدّدة.

ثانياً: القرينةُ على إرادة تلك المقامات العالية من لفظ الكتاب والقرآن في طرق حديث الثقلين الموصوف بالثقل الأكبر، وأنّه ليس المراد به مجرّد المصحف الشريف، وصف صلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن بأنّه سببٌ أحد طرفيه بيد اللَّه والطرف الآخر بيد الناس، ومثله توصيفه بأنّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، ممّا يدلّل على أنّ الموصوف بالثقل الأكبر هو الدرجات الغيبية، كروح القدس وأُمّ الكتاب، وهي الطرف الذي بيد اللَّه، فتكرار هذا الوصف بأنّ له طرفان تأكيد على كون أنّ وصف الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه.

ثالثاً: إنّه ورد في عدّة طرق من ألفاظ الحديث الشريف أنّهما لن يفترقا كإصبعيَّ هاتين، وجمع صلى‌الله‌عليه‌وآله بين سبابتيه، وليس كهاتين وجمع صلى‌الله‌عليه‌وآله بين سبابته والوسطى، وعلّل صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك لئلاّ يفضّل أحدهما على الآخر ممّا يقضي بالتساوي، وأنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه.

____________________

1) الخصال، ج1، ص65.

٣٧٥

رابعاً: إنّه قد ورد في ألفاظ الحديث وصف مجموع الثقلين بأنّه حبل اللَّه الممدود بينه وبين خلقه، ممّا يقضي بأنّ مجموع الثقلين هما حبل واحد باطنهما متّحد كحبل نوري واحد.

وقد تقدّم دلالة الآيات المتعرّضة لحقيقة ليلة القدر وإنزال روح القدس على العترة المطهّرة وتأييد أرواحهم به، كما في قوله تعالى: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (1) ، وغيرها من الآيات.

ففي ما رواه النعماني في الغيبة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ألاَ وأنّي مخلّف فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عِترتي أهل بيتي، هُما حبل اللَّه، ممدودٌ بينكم وبين اللَّه عزّ وجلّ، ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، سببٌ منه بيد اللَّه وسببٌ بأيديكم، إنّ اللطيف الخبير قد نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كإصبعي هاتين - وجمع بين سبابتيه -، ولا أقول كهاتين - وجمع بين سبابته والوسطى - فتفضّل هذه على هذه) (2) ، وصفٌ في لفظ هذا الطريق لكلٍّ من الثقلين بأنّهما حبل اللَّه الممدود.

كما وصف صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ كلاًّ من الثقلين طرف منه بيد اللَّه وطرف منه بيد الناس، كما أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قرنهما بجمع السبابتين لا بجمع السبابة والوسطى؛ لئلاّ تفضل هذه على هذه.

فكلّ ذلك يؤكّد أنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الغيبي في كلّ من المصحف والعِترة ممّا ينتهي إلى يد اللَّه وقدرته، ويزيدك وضوحاً في هذا المعنى أنّه قد ورد مستفيضاً وصْف عليّ والعِترة بأنّهم حبل اللَّه، نظير ما رواه النعماني أيضاً وبسنده عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام قال:

(كان رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم جالساً ومعه أصحابه في المسجد، فقال: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنّة يسأل عمّا يعني. فطلع رجل طويل، يشبّه برجال مضر، فتقدّم وسلم على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: يا رسول اللَّه، إنّي

____________________

1) سورة غافر: 15.

2) الغيبة للنعماني، ص43.

٣٧٦

سمعت اللَّه عزّوجلّ يقول فيما أنزل: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ) (1) ، فما هذا الحبل الذي أمرنا اللَّه بالاعتصام به وأن لا نتفرّق عنه؟ فأطرق رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ملياً، ثمّ رفع رأسه وأشار بيده إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقال: هذا حبل اللَّه الذي من تمسّك به عُصم في دنياه ولن يضلّ به في آخرته. فوثب الرجل إلى عليّ عليه‌السلام فاحتضنه من وراء ظهره، وهو يقول: اعتصمت بحبل اللَّه وحبل رسوله، ثمّ قام فولّى وخرج) (2) .

وقد عقد النعماني باباً خاصّاً (3) في ذلك، كما روى غيره من المحدّثين من الخاصّة والعامّة مثل ذلك (4) .

وهذه الأحاديث المستفيضة أو المتواترة شاهدة على أنّ وصف الحبل في حديث الثقلين هو لمجموع الثقلين، والحبل كناية أنّ الثقلين لهما امتداد ممدود من عند اللَّه في النشأة الغيبية إلى أن يصل ممتدّاً إلى ما هو ظاهر بين يدي الناس وهو المصحف والعِترة، كما أنّ توصيف جملة من الأحاديث في الثقل الأصغر كالذي رواه في العدد القوية من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (معاشر الناس، أنّ عليّاً والطيبين من وُلده هو الثقل الأصغر، والقرآن هو الثقل الأكبر) (5) .

ومثل ما رواه ابن طاووس في اليقين عن عليّ عليه‌السلام قوله: (يا ابن عبّاس، ويلٌ لمن ظلمني ودفع حقّي وأذهب عنّي عظيم منزلتي، أين كانوا أولئك وأنا أُصلّي مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله صغيراً لم يكتب عليّ صلاة، وهم عبدة الأوثان، وعصاة الرحمن، ولهم يوقد

____________________

1) سورة آل عمران: 103.

2) الغيبة للنعماني، ص42.

3) الغيبة للنعماني، ص39.

4) قد ذكر السيد المرعشي في ملحقات إحقاق الحقّ هذا الحديث، وهو وصف عليّ وأهل البيت بحبل اللَّه، عن مصادر غفيرة، فلاحظ: ج4، ص285 - 288، و: ج14، ص384 - 521، و: ج13، ص385 و48، و: ج18، ص 28، و535 و541، وغيره من المجلّدات، لاحظ الفهرس مادّة ح ب ل.

5) العدد القوية، ص174.

٣٧٧

النيران؟! فلمّا قرب إصعار الخدود، وإتعاس الجدود، أسلموا كرهاً، وأبطنوا غير ما أظهروا؛ طمعاً في أن يُطفئوا نور اللَّه بأفواههم، وتربّصوا انقضاء أمر رسول اللَّه وفناء مدّته، لمّا أطمعوا أنفسهم في قتله ومشورتهم في دار ندوتهم، قال اللَّه عزّ وجلّ: ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (1) و: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ لاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2) . .. ولولا اتّقائي على الثقل الأصغر أن يُبيد، فينقطع شجرة العلم وزهرة الدنيا وحبل اللَّه المتين وحصنه الأمين وُلد رسول ربّ العالمين...) الحديث (3) .

وروى ابن طاووس في التحصين بسنده... قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا معاشر الناس، أمرني جبرئيل عليه‌السلام عن اللَّه تعالى... أن أعلمكم أنّ القرآن الثقل الأكبر، وأنّ وصييّ هذا وابناي ومَن خلفهم مِن أصلابهم حاملاً وصاياهم الثقل الأصغر، يشهد الثقل الأكبر للثقل الأصغر، ويشهد الثقل الأصغر للثقل الأكبر، كلّ واحد منهم ملازم للآخر...) (4) .

وأخرج في البحار عن... بسنده عن الكاظم، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حال مرضه، قال: (... أصحاب الكساء الخمسة، أنا سيدهم ولا فخر، عِترتي أهل بيتي السابقون المقرّبون يسعد من اتّبعهم... اسودّت وجوه قوم وردوا ظماء مظمّئين إلى نار جهنّم، مزّقوا الثقل الأوّل الأعظم وأخّروا الثقل الأصغر، حسابهم على اللَّه) (5) .

وما روى المجلسي في البحار: (... قال أمير المؤمنين: يا كميل نحن الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر وقد أسمعهم رسول اللَّه...) (6) .

____________________

1) سورة آل عمران: 54.

2) سورة التوبة: 32.

3) اليقين، ص324.

4) التحصين، ص582، وكذلك رواه ابن فتال في روضة الواعضين، ج1، ص94.

5) البحار، ج22، ص495.

6) البحار، ج74، ص276، وبشارة المصطفى، ص29.

٣٧٨

وكذلك روى المجلسي في البحار: (ألَم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر وركزت فيكم الإيمان) (1) .

وهذا النمط من ألفاظ حديث الثقلين هو الآخر فيه جملة من القرائن الدالّة على أنّ نعت الأكبر أو الأعظم هو ليس مقتصر على المصحف الشريف، بل هو نعت للكتاب والقرآن، وهما اسمان - كما تقدّم - صادقان في الدرجة الأولى على الوجود الغيبي للقرآن، وهو أُمّ الكتاب، والكتاب المبين، واللوح المحفوظ، وروح القدس، ومن مراتبه النازلة المصحف الشريف، وهذه المراتب العالية كما هي متنزّلة في ألفاظ المصحف الشريف بنحو الوجود اللفظي وفي معانيه بطور عالم المعاني، فهو متنزّل أيضاً - أي: روح القدس - بحقيقته ووجود التكويني لا الاعتباري على العِترة كما تقدّم مبسوطاً في دلالة الآيات والروايات من الفريقين على ذلك.

وهذا التنزّل يجعل من العِترة قرآناً ناطقاً، بينما المصحف الشريف قرآناً صامتاً يستنطق، أي في مقام التطبيق للإرادات الإلهية في الموارد والحوادث الواقعة حين بعد حين إلى يوم القيامة، وهو أحد معاني التأويل، ويكون تطبيق العِترة بنطق قرآني وإشراف من روح القدس الذي هو حقيقة القرآن، بخلاف المصحف الشريف؛ فإنّ أخذ الأُمّة به لتطبيقه من دون العِترة استنطاق منهم ظنّي، وتطبيق ظنّي أيضاً.

فنعت الأكبر صفة للحبل الممدود من اللَّه، طرفه بيده وتنزّله منشَعِب إلى المصحف والعِترة الطاهرة. ومن القرائن التي تقدّمت من الروايات أيضاً أنّ أمير المؤمنين مع وصفه للعِترة بالثقل الأصغر إلاّ أنّه وصفهم أيضاً بشجرة العلم وحبل

____________________

1) البحار، ج24، ص209.

٣٧٩

اللَّه المتين، وهو تأكيد على أنّ التسمية بالثقل الأصغر هو في مقابل الكتاب في درجاته العالية، كأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ وروح القدس، ولأجل تنزّله عليهم وراثةً عن رسول اللَّه وصفوا بأوصاف الثقل الأكبر، وهو كونهم حبل اللَّه المتين، مع أنّ الحبل ذو طرفين كما مرّ. وكذلك وصفهم بشجرة العلم فإنّه للدلالة على الامتداد من الأرض إلى سماء الغيب، فالنعت بالأصغر بلحاظ أنّهم أوعية لنزول القرآن، وهم قرآن ناطق بلحاظ أنّ النازل عليهم هو الأكبر.

ومن القرائن أيضاً: أنّ الثقل الأوّل الأعظم الذي مُزّق ليس المراد منه مجرّد المصحف الشريف، إنّما يُراد منه عدم العمل بالكتاب، وقد تقدّم أنّ التطبيق الوحياني للكتاب إنّما يحصل بتوسّط العِترة بتنزّل روح القدس. نعم، يبقى لتطبيق المصحف بحدود دائرة المحكمات في حال كون الموارد والحوادث بيّنة الوجه أنّه تطبيق يقيني.

روى العيّاشي عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال:

(إنّما مثل عليّ عليه‌السلام ، ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة، كمثل موسى عليه‌السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه، ذلك أنّ اللَّه قال لموسى: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَلاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (1) ، ثمّ قال: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (2) . وقد كان عند العالم علم لم يُكتب لموسى في الألواح، وكان موسى يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته، وجميع العلم قد كُتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه، وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلموه وحفظوه،

____________________

1) سورة الأعراف: 144.

2) سورة الأعراف: 145.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592