الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146402 / تحميل: 9421
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) (١) .

وأمّا أصناف الشهداء ، فمنهم الشهداء الأولياء المقرّبون من البشر ، كالأنبياء والصالحين من الأولياء ، قال سبحانه : ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ) .

وتمييز النبيّين من الشهداء كأنّه نوع تشريف لهم كما قيل .

وقال سبحانه : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمّة شَهِيداً ثمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (٢) ، والأُمّة : الجماعة من النّاس ، وإذا أُضيفت إلى شيء كنبيّ أو زمان أو مكان تميّزت به ، فالآية عامّة لجميع الأولياء ولو اجتمع عدّة منهم في أُمّة نبي ، وقال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّة وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٣) .

والبيان السابق في معنى الشهيد يوضّح أنّ هذه العطيّة والكرامة منه سبحانه ليست عامّة لجميع أُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي خاصّة لبعض الأُمّة والخطاب الواقع لجمع الأُمّة بظاهره باعتبار وجودهم فيها ، وهو ذائع دائر في الخطابات كقوله سبحانه : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء ) (٤) إلى آخر الآية ، فإنّه شامل بظاهره لجميع مَن معه ، وفيهم المنافقون والفاسقون بإجماع الأُمّة ، وأمثاله كثيرة .

وبالجملة : فالشهداء من هذه الأُمّة شهداء على الناس ، والرسول شهيد عليهم ، فالأُمّة الشهيدة وسط بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنّاس كما ذكره سبحانه .

وكذلك قوله سبحانه : ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ

ـــــــــــــ

(١) سورة الزمر : الآيتان ٦٩ و ٧٠ .

(٢) سورة النحل : الآية ٨٤ .

(٣) سورة البقرة : الآية ١٤٣ .

(٤) سورة الفتح : الآية ٢٩ .

١٢١

أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) (١) ، وهذه الآية في اختصاص الشهداء أصرح من سابقتها .

وفي قوله سبحانه :( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ ) إشارة إلى دعاء إبراهيم مع ولده إسماعيلعليهما‌السلام عند بناء الكعبة :( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمّة مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٢) .

ودعاؤهعليه‌السلام حيث إنّه لولْد إبراهيم وإسماعيل معاً ، ولمَن في مكّة ؛ فهو لقريش وحيث إنّهعليه‌السلام دعا أوّلاً بإسلامهم لله ، (وإراءة) الله إيّاه مناسكهم وتوبته لهم ، ثمَّ دعا ببعث رسول يطهّرهم ويزكّيهم ، فهم جمع من قريش جمعوا بين طهارة الذات(٣) والهداية والاهتداء إلى عهود الله ، وبين الإيمان برسوله والتزكّي والتطهّر بتزكيته وتطهيره ، فهم أشخاص مخصوصون بكرامة الله سبحانه من بين الأُمّة .

وقوله :( لِيَكُونَ الرَّسُولُ ) ، بيان لغاية قوله :( هُوَ اجْتَبَاكُمْ ) .

وما ذكرناه في معنى الآية هو الذي تفسّره به الأخبار الواردة عن أئمّة أهل البيت .

ففي (الكافي)(٤) ، و(تفسير العيّاشي)(٥) عن الباقرعليه‌السلام :(نحن الأُمّة الوسطى ، ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه) .

وعن (شواهد التنزيل) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :(إيّانا عنى بقوله : ( وَتَكُونُوا شُهَدَاء

ـــــــــــــ

(١) سورة الحجّ : الآية ٧٨ .

(٢) سورة البقرة : الآيتان ١٢٨ و ١٢٩ .

(٣) أهل السعادة الذاتية والسعادة المكتسبة ، وبعبارة أُخرى : طهارة الذات والتبعيّة (منه قُدِّس سرُّه) .

(٤) الكافي : ١ / ٢١٣ ، الحديث ٢ .

(٥) تفسير العيّاشي : ١ / ٨١ ، الحديث ١١٠ ، مع اختلاف يسير .

١٢٢

عَلَى النَّاسِ ) ، فرسول الله شاهد علينا ، ونحن شهداء الله على خلقه وحجّته في أرضه ، ونحن الذين قال الله : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّة وَسَطاً ) (١) .

وفي المناقب عن الباقرعليه‌السلام ـ في حديث :(ولا يكون شهداء على الناس إلاّ الأئمة والرُّسل فأمّا الأُمّة ، فإنّه غير جائز أن يستشهدها الله وفيهم مَن لا تجوز شهادته في الدنيا على خرمة بقل) (٢) .

وفي (تفسير العيّاشي) عن الصادقعليه‌السلام قال :(ظننتَ أنّ الله تعالى عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ؟! افترى أنّ مَن لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟! كلا ، لم يعنِ الله مثل هذا من خلقه ، يعني الأئمّة الذين وجبت لهم دعوة إبراهيم ، وهم الأُمّة الوسطى ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس) (٣) .

والأخبار في هذا المعنى كثيرة مستفيضة .

ومن هنا يظهر معنى قوله سبحانه( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ) (٤) ، فحيث إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس شاهداً على النّاس من أُمّته بلا واسطة ، بل على الشهداء منهم ، فالمشار إليهم بقوله : ( عَلَى هَـؤُلاء ) هم الشهداء من كلّ أُمّة المذكور في الآية .

وأصرح منها قوله سبحانه :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمّة شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء ) (٥) ؛ وذلك لمكان قوله تعالى :( مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، وقوله : ( نَبْعَثَ ) و( وَجِئْنَا ) .

فرسول الله كما أنّه شهيد على الشهداء من أُمّته ، شهيد على جميع الشهداء .

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل : ١ / ١١٩ ، الحديث ١٢٩ .

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ١٩٤ .

(٣) تفسير العيّاشي : ١ / ٨٢ ، الحديث ١١٤ .

(٤) سورة النساء : الآية ٤١ .

(٥) سورة انحل : الآية ٨٩ .

١٢٣

وروى القمّي في قوله تعالى : ( شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء ) ، يعني على الأئمّة ، فرسول الله شهيد على الأئمّة ، وهم شهداء على الناس(١) .

وفي (الاحتجاج) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في حديث يذكر فيه أحوال أهل الموقف ، قال :(فيقام الرُّسل فيسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها إلى أُممهم ، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إلى أُممهم ، ويسأل الأُمم فيجحدون كما قال الله : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (٢) ، فيقولون : ( مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ) (٣) .

فيستشهد الرُّسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيشهد بصدق الرُّسل ويكذِّب مَن جحدها من الأُمم فيقول لكلّ أُمّة منهم : بلى ، قد جاءكم بشير ونذير ، واللهُ على كل شيء قدير ، أي مقتدر بشهادة جوارحكم بتبليغ الرُّسل إليكم رسالاتهم ؛ ولذلك قال الله لنبيّه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ) ) (٤) ـ الحديث .

وروى العيّاشي في تفسيره عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في صفة يوم القيامة ، قالعليه‌السلام :(يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق ، فلا يتكلّم أحد إلاّ مَن أذن له الرحمن وقال صواباً ، فيقام الرُّسل فيسأل ، فذلك قوله لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ) وهو الشهيد على الشهداء ، والشهداء هم الرُّسل) (٥) .

وقد مرّ كلام في معنى الجحد والحلف والكذب الواقع في هذه الأحاديث .

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمّي : ١ / ١٦٧ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ٦ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٩ .

(٤) الاحتجاج : ١ / ٣١٨ .

(٥) تفسير العيّاشي : ١ / ٢٦٨ ، الحديث ١٣٢ .

١٢٤

ومن الشهداء الملائكة الكَتَبَة ، قال سبحانه :( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) (١) ، وقال :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٢) ، إلى أن قال :( وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) (٣) ، وقال سبحانه : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (٤) ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومن الشهداء : الجوارح والأعضاء ، قال سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٥) ، وقال سبحانه وتعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٦) ، وقال سبحانه :( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم

ـــــــــــــ

(١) سورة يونس : الآية ٦١ .

(٢) سورة ق : الآيات ١٦ ـ ١٨ .

(٣) سورة ق : الآية ٢١ .

(٤) سورة الانفطار : الآيات ١٠ ـ ١٢ .

(٥) سورة يس : الآية ٦٥ .

(٦) سورة النُّور : الآية ٢٤ .

١٢٥

مِّنْ الْخَاسِرِينَ ) (١) .

وسياق الآيات واردة في أهل النار ، فشهادة الجوارح مخصوصة بهم ، وهي من الشواهد على شمول خطابات الفروع لغير المؤمنين .

وقوله تعالى : ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ ) ، وجه تخصيصهم السؤال بالجلود دون الجميع ، أنّ السمع والبصر أرفع من المادة ، وأقرب إلى الحياة والفهم ، بخلاف الجلود ـ وهي الفروج وما يتلوها في الحكم ـ فهي أوغل في المادة ، وشهادتها أعجب وأقطع .

وقوله تعالى : ( قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) ، جوابها لهم .

وقد عدلوا عن الشهادة إلى النطق ، ثمَّ إلى الإنطاق ؛ إشعاراً بأنّ الأمر إلى الله لا إليهم ، فلا وجه لعتابهم له بوضعهم موضع المستقلّ التامّ الاختيار في أمرهم ، بعد ما كان نطق كلّ شيء منه سبحانه وليس لشيء من الأمر شيء ؛ ولذا أردف ذلك بقوله : ( وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

فالبدء والعَوْد كلاهما له سبحانه ، وهو القائم على كلّ نفس فليس سبحانه غائباً عن شيء ، بل هو الرقيب ، وإنّما يرقب الشيء بالشيء ، ويحتجب بالشيء عن الشيء ؛ ولذا أردفه سبحانه بقوله :( وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) كأنّه يقول : ما كنتم تحتجبون عن شهادة الجوارح ، لا لأنّكم لا تحذرون منها ، ومن نتيجة شهادتها ، ولكن ظننتم استقلال الأشياء وغيبة الحقّ سبحانه عنها ، وأنّ كلّ واحد منها منفصل عن الحقّ ، ليس مرصاداً له سبحانه ، فظننتم أنّه لا يعلم كثيراً ممّا تعملون .

وهذه هي الغفلة عن الحقّ سبحانه ، وأنّه على كلّ شيء شهيد ، وأنّ كلّ ما يحضر عند شيء أو يعلمه شيء ، فهو حاضر عنده بعينه ، معلوم له بعينه :( وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ) .

واعلم أنّ هذا الأصل ـ وهو أنّ علم الوسائط وقدرتها وسائر كمالاتها بعينها له سبحانه ـ كثير الفروع في القرآن ، كقوله سبحانه :( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ

ـــــــــــــ

(١) سورة فصّلت : الآيات ١٩ ـ ٢٣ .

١٢٦

فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (١) ، وقوله :( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (٢) ، وقوله : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات ، فترى أنّه سبحانه خلط علمه بعلم الألواح والكتبة .

وبما مرّ من المعنى يظهر معنى قوله : ( ثمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٤) ، وقد تكرّر هذا اللفظ في القرآن كثيراً .

ثمَّ اعلم أنّه يتحصّل من الآيات المزبورة ، أنّ الحياة سارية في جميع الأشياء ؛ إذ إيجاد النطق والكلام عند شيء ليس شهادة منه إلاّ إذا كان الكلام له ، وهو الحياة وكذلك إفاضة الحياة يوم القيامة ـ فحسب ـ لشيء ، وإنبائه عن واقعة قبل اتّصافه بالحياة كوقائع الدنيا ، ليس شهادة منه ؛ إذ لا حضور ولا تحمّل .

وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه وتعالى :( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ) (٥) ، وقوله تعالى في وصف آلهتهم :( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة يونس : الآية ٦١ .

(٢) سورة الزخرف : الآية ٨٠ .

(٣) سورة ق : الآيات ١٦ ـ ١٧ .

(٤) سورة التوبة : الآية ٩٤ .

(٥) سورة الأحقاف : الآيتان ٥ و ٦ .

(٦) سورة النحل : الآية ٢١ .

١٢٧

وفيما مرّ من المعاني أخبار كثيرة :

ففي (الكافي) عن الباقر في حديث : (وليست تشهد الجوارح على مؤمن ، إنّما تشهد على مَن حقّت عليه كلمة العذاب فأمّا المؤمن ، فيؤتى كتابه بيمينه) (١) الحديث .

أقول : يشيرعليه‌السلام إلى ما في ذيل آيات الشهادة المذكورة :( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ) (٢) .

وفي (تفسير القمّي)(٣) و(الفقيه)(٤) عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى :( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ) (٥) الآية ، قال : (يعني بالجلود : الفرج والأفخاذ) .

وفي (تفسير القمّي) ، قالعليه‌السلام :(إذا جمع الله الخلق يوم القيامة ، دُفع إلى كلّ إنسان كتابه ، فينظرون فيه فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئاً ، فتشهد عليهم الملائكة ، فيقولون : يا ربّ ، ملائكتك يشهدون لك ، ثمَّ يحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئاً ، وهو قوله : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) . فإذا فعلوا ذلك ، ختم على ألسنتهم وتنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون) (٦) .

ومن الشهداء : الزمان والمكان والأيّام الشريفة والشهور والأعياد والجمع

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٢ / ٥٨ ، الباب ٢٠٣ ، الحديث ١ .

(٢) سورة فصّلت : الآية ٢٥ .

(٣) تفسير القمّي : ٢ / ٢٦٨ .

(٤) ورد الحديث في وصيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام لابنه محمّد بن الحنفيّة (رضي الله عنه) ، حيث استشهد الإمام بقوله تعالى : (( وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ) ، يعني بالجلود : الفروج ) راجع : مَن لا يحضره الفقيه : ٢ / ٣٧٠ ، الباب ٢٢٧ ، الحديث ١ .

(٥) سورة فصّلت : الآية ٢٠ .

(٦) تفسير القمّي : ٢ / ٢٦٧ .

١٢٨

والأرض والبقاع والمساجد وغيرها ، قال سبحانه :( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والبيان المذكور آنفاً يوضّح هاهنا أنّ الأيّام من الشهود ، ويظهر به أنّ كلمة (من) في قوله : ( مِنْكُمْ ) ، ابتدائيّة لا تبعيضيّة ، والشهداء هي الأيّام .

وقال سبحانه :( ثمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) (٢) ، والبيان السابق عائد هاهنا أيضاً وقال سبحانه : ( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) (٣) .

وفي الكافي : عن الصادق ، قال :(إنّ النهار إذا جاء قال : يا بن آدم ، اعمل فيَّ يومك هذا خيراً أشهدُ لك به عند ربّك يوم القيامة ، فإنّي لم آتكَ فيما مضى ، ولا آتكَ فيما بقي وإذا جاء الليل قال مثل ذلك) (٤) .

وروي هذا المعنى ابن طاووس في كتاب (محاسبة النفس) عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام (٥) .

وروى الصدوق في (العلل) عن عبد الله الزرّاد ، قال : سأل كهمس أبا عبد اللهعليه‌السلام ، فقال : يصلّي الرجل نوافله في موضع أو يفرّقها ؟ فقال : (لا بل هاهنا وهاهنا ،

ـــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآية ١٤٠ .

(٢) سورة لقمان : الآيتان ١٥ و ١٦ .

(٣) سورة الزلزلة : الآيات ٢ ـ ٥ .

(٤) الكافي : ٢ / ٤٤٧ ، الباب ٣٨٩ ، الحديث ١٢ .

(٥) محاسبة النفس : ١٥ .

١٢٩

فإنّها تشهد له يوم القيامة) (١) .

ومن الشهداء : القرآن والأعمال والعبادات ، وسيأتي ملخّص الكلام فيها في (فصل : الشفاعة) إن شاء الله .

واعلم أنّ البرهان أيضاً يفيد ما مرّ من شهادة الشهود ؛ فإنّ الأعمال لا تتحقّق بينها وبين شيء من الموجودات نسبة ، إلاّ وهي متحقّقة بين الذات وبين ذلك الموجود ، فإنّ الأعمال من تنزّلاتها ووجوداتها قائمة الذات بتلك الذوات فببقاء الذات تبقى الصادرات عنها بحسب ما يتحقّق بها من الوجود ، وببقائها تبقى النسب التي إلى الأشياء ، وببقاء النسب تبقى الأشياء ؛ ضرورة كون وجوداتها رابطة لا تتحقّق إلاّ بطرفين ، وبحياتها تحيي الجميع ، وبحضورها عن الحقّ سبحانه وبين يديه تعالى بتمام ذاتها وشهادتها وبيانها ما عندها له سبحانه يفعل الجميع ذلك ، والله العالم .

من المعلوم أنّ الحساب ـ وهو : كشف المجهول العددي باستعمال الطرق الموصلة إليه ـ إنّما يتأتّى بلحاظ ظرف العلم والجهل وأمّا إذا فرض نفس الواقع ـ مع الغضّ عن العلم والجهل ـ فلا موضوع لهذا المعنى الذي نسمّيه حساباً وإنّما الذي في الواقع والخارج هو ترتّب النتيجة على المقدّمات ، والمعلوم على العلّة ، فالوضع الذي هو (٦ × ٨ ـ ٣ × ٦) ، يتدرّج فيه باستعمال الأسباب والأعمال الحسابيّة للحصول على النتيجة ، وهي (٣٠) بالنسبة إلينا لجهلنا أوّلاً بذلك ، وتحصيلنا العلم بالحساب ثانياً ، إنّ النتيجة هي الثلاثون .

ـــــــــــــ

(١) علل الشرائع : ٢ / ٣٩ ، الباب ٤٦ ، الحديث ١ .

١٣٠

الفصل العاشر : في الحساب

وأمّا ما في الخارج ، فإنّما هو عدد مع عدد ، لا انفكاك بينهما ولا فصل ، أو ترتّب النتيجة على تراكم أُمور واقعيّة موجودة في الخارج، ليس بينهما فرجة زمانيّة ولا فاصلة مكانيّة .

وعلمه سبحانه بالأشياء الواقعيّة حيث كان عين تلك الأشياء الواقعيّة على ما تعطيه الأُصول البرهانية ، دون الصور المنتزعة عن الخارج مثل علومنا الحصوليّة ، كان القول في علمه سبحانه عين القول في الأُمور الواقعيّة ، فحسابه سبحانه عين حساب الواقع ، وهو ترتّب نتائج الأُمور عليها فيما كان هناك أثر مترتّب .

وقد أخبر سبحانه أنّ لكلّ شيء أثراً في جانبي السعادة والشقاوة يترتّب عليه في الدنيا ، قال سبحانه :( قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (١) ، قال :( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (٢) ، وقال :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) (٣) ، وقال : ( ثمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ) (٤) ، وقال :( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ) (٥) ، وقال : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (٦) .

ومن هذا الباب قوله سبحانه :( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) (٧) ، وقوله : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) (٨) .

والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً ، وهي على كثرتها تفيد : أنّ نتائج الأُمور تتبعها لا محالة في الدنيا والآخرة ، كما أنّ البرهان أيضاً يفيد ذلك .

ـــــــــــــ

(١) سورة يوسف : الآية ٩٠ .

(٢) سورة يوسف : الآية ٥٦ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ٩٦ .

(٤) سورة الروم : الآية ١٠ .

(٥) سورة الطلاق : الآيات ٨ ـ ١٠ .

(٦) سورة الزلزلة : الآيتان ٧ و ٨ .

(٧) سورة الشورى : الآية ٣٠ .

(٨) سورة التغابن : الآية ١١ .

١٣١

ثمَّ إنّ الأُمور ونتائجها لا توجد بنفسها ولا بإيجادها ، بل بإفاضة منه سبحانه لوجودها ، فاستتباعها نتائجها استفاضتها منه سبحانه لنتائجها المترتّبة عليها كما أنّ ارتزاق المرزوقين استفاضتها منه سبحانه ما يديم به بقاؤها من الوجود ، فالحساب كالرزق بوجه ، فلا تزال سحابة الفيض تشرب من بحر الرحمة وتمطر مطر الفيض على بحر الإمكان ، فكلّ قطرة لاحقة تستمدّ بها سابقتها ، وهو الرزق ، وترفع بها حاجتها التي تستحقّها وتقتضيها ، وهو الحساب فكما أنّ إفاضة الرزق لها دائم مستمرّ ضروري ، كما قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) (١) ، فكلّ الحساب بينهما دائم مستمرّ ضروري .

وفي (النهج) سُئِلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم ؟ فقالعليه‌السلام :(كما يرزقهم على كثرتهم) ، فقيل : فكيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ قال : (كما يرزقهم ولا يرونه) (٢) ، وهو أنفس كلام في هذا الباب .

وبالجملة : الأُمور ـ ومنها الأعمال ـ لا تنفكّ عن حسابها عند تحقّقها في الخارج أدنى انفكاك ، قال سبحانه : ( وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٣) ، وقال سبحانه :( أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) (٤) ، إذ مع اختصاص الحكم به سبحانه وعدم وجود حاكم غيره يضادّ بحكمه حكمَه ، ويدفع به أمرَه بنحو من الأنحاء : بإبطال وتعويق ، وتضعيف وإنظار ، لا يتصوّر لحكمه سبحانه بطء وتعويض وتأخير ، ولا يمكن فيه مساءة ولا صعوبة ولا يسر ولا عسر ولا غيرها .

فهذه المعاني إذا أُطلقت ، يراد بها حصول معانيها بالنسبة إلى إدراك المحاسَبيِن (بصيغة المفعول) كقوله سبحانه :( وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) (٥) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الذاريات : الآية ٢٣ .

(٢) نهج البلاغة : ٥٢٨ ، حِكم أمير المؤمنين ، رقم ٣٠٠ .

(٣) سورة الرعد : الآية ٤١ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ٦٢ .

(٥) سورة الرعد : الآية ٢١ .

١٣٢

وقوله :( فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً ) (١) ، وقوله :( تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٢) .

وروى في (المجمع) عن أبي سعيد الخدري ، قال : قيل : يا رسول الله ، ما أطول هذا اليوم ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(والذي نفس محمّد بيده ، إنّه ليخفّف على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا) (٣) .

وفيه ـ أيضاً ـ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال :(لو وَلِيَ الحساب غيرُ الله ، لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا ، واللهُ سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة) (٤) .

أقول : وبهذين الخبرين يظهر معنى قوله تعالى : ( كَانَ ) الآية .

فيُخفّف ذلك على المؤمنين ؛ لأنّ وجوههم( يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) ، فيرون الأمر على حقيقته( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) ، ويطول على الكافرين والفاسقين ؛ لـ( إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) . فالاختلاف من جانب الناس وغيره وأمّا بالنسبة إلى سبحانه ، فأمره واحد لا اختلاف فيه .

وبالجملة : فأمر الحساب كما عرفت جارٍ دائماً وأمّا اختصاص يوم القيامة بوقوع الحساب فيه ، فهو من قبيل اختصاصه في كلامه تعالى بخصال أُخرى غير مختصّة به ظاهراً ، كاختصاص المُلك يومئذٍ لله ، وبروز الناس يومئذٍ لله ، وكون الأمر يومئذٍ لله ، وغير ذلك وقد عرفت ـ فيما مرّ ـ معنى ذلك ، فوقوع الحساب فيه هو ظهور النتيجة حقيقةً بتمام المعنى ، فهو ظهور نتيجة الخِلقة ، ووصول الممكن إلى غاية سيره في سبيله من الله إليه ، قال سبحانه :( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ

ـــــــــــــ

(١) سورة الطلاق : الآية ٨ .

(٢) سورة المعارج : الآية ٤ .

(٣) و (٤) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٥٣١ .

١٣٣

مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (١) ، وقال :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) (٢) ، وقال :( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (٣) .

ومن هنا يظهر أنّ الإنسان كلّما قرب من طريق السعادة ، ملازماً للصراط المستقيم ، كان الحساب عليه يسيراً ، فإنّه أقرب إلى النتيجة المقصودة من الخِلقة ، قال سبحانه :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (٤) .

وكلّما بعد عن الحقّ ونكب عن مستقيم الصراط ، كان الحساب عليه عسيراً ؛ فإنّه أبعد عمّا أودع الله عزّ وجلّ في فطرته من نتيجة الخِلقة وغاية الوجود ، قال سبحانه :( فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) (٥) ، وقال :( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ) (٦) ، وقال :( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ ) (٧) .

وينتهي الأمر من الطرفين إلى مَن لا حساب له ، ممَّن لا يليه إلاّ ربّه ، فلا عمل له ، فلا كتاب ولا حساب ، وهم المخلَصون المقرّبون ، قال سبحانه : ( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٨) .

وممّن لا مولى لهم فحبطت أعماهم ، فلا كتاب لهم فلا وزن ولا حساب .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأنبياء : الآية ٤٧.

(٢) سورة المؤمنون : الآية ١١٥ .

(٣) سورة النجم : الآية ٤٢ .

(٤) سورة الانشقاق : الآيتان ٧ و ٨ .

(٥) سورة المدّثر : الآيتان ٩ و ١٠ .

(٦) سورة النبأ : الآية ٤٠ .

(٧) سورة الحاقّة : الآيتان ٢٥ و ٢٦ .

(٨) سورة الصافّات : الآيتان ١٢٧ و ١٢٨ .

١٣٤

روي في (المعاني) عن الباقرعليه‌السلام ، قال :( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ محاسَب معذَّب ، فقال قائل : يا رسول الله ، فأين قول الله : ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذلك العرض يعني التصفّح) (١) .

أقول : وهذا حديث أطبق الفريقان على رواية معناه واتّفقوا على صحّته .

وروى العيّاشي وغيره بطُرق متعدّدة عن الصادقعليه‌السلام في قوله سبحانه :( وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) (٢) (إنّ معناه الاستقصاء (والمداقّة) ، وأنّه يحسب لهم السيّئات ، ولا يحسب لهم الحسنات) (٣) .

وممّا مرّ يتّضح أمر السؤال ، وهو من توابع الحساب ، فإنّ السؤال ، وهو استيضاح ما عند المسئول من حقيقة الأمر والأمر يومئذٍ يدور مدار تفريغ ما عند النفس بحسب الحقيقة من تبعاتها ولواحقها وأذنابها ، التي اكتسبتها من السعادة والشقاوة ، وتفريغ حسابها وتوفية نتيجته لها ، قال سبحانه : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) (٤) ، وهي مكامن النفوس ، وقال سبحانه :( بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ) (٥) ، وقال سبحانه :( وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) (٦) ، وقال سبحانه :( وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ) (٧) .

ـــــــــــــ

(١) معاني الأخبار : ٢٦٢ ، باب كلّ محاسب معذّب ، الحديث ١ .

(٢) سورة الرعد : الآية ٢١ .

(٣) تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٢٥ ، الحديث ٣٩ .

(٤) سورة الطارق : الآية ٩ .

(٥) سورة الأنعام : الآية ٢٨ .

(٦) سورة النساء : الآية ٤٢ .

(٧) سورة البقرة : الآية ٢٨٤ .

١٣٥

وما ورد أنّ الآية منسوخة بقوله تعالى :( إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) (١) ، فمعنى النسخ هو التفسير والبيان ، دون بيان غاية الكم وانقضائها ، فإنّ ذلك مختصّ بالشرائع والأحكام غير جائز في الحقائق .

وقال سبحانه :( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال :( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (٣) ، وقال :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) (٤) .

واعلم أنّ هذه الآيات تعطي عموم السؤال والحساب لجمع الأعمال والنِّعم ، وهو المحصّل من جماعة الأخبار .

ففي نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(كلّ نعيم مسئول عنه يوم القيامة ، إلاّ ما كان في سبيل الله) (٥) .

وفي أمالي المفيد مسنداً عن ابن عيينة ، قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :(ما من عبد إلاّ ولله عليه حجّة ، إمّا في ذنبٍ اقترفه ، وإمّا في نعمةٍ قصّر عن شكرها) (٦) .

وفي كتاب الحسين بن سعيد ، عن الصادقعليه‌السلام :(الدواوين يوم القيامة ثلاثة : ديوان فيه النِّعم ، وديوان فيه الحسنات ، وديوان فيه الذنوب فيقابل بين ديوان النعم وديوان الحسنات ، فتستغرق عامّة الحسنات وتبقى الذنوب) (٧) ، والأخبار في هذه المعاني كثيرة .

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآية ٣٢ .

(٢) سورة الحجر : الآيتان ٩٢ ـ ٩٣ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ٦ .

(٤) سورة الصافّات : الآية ٢٤ .

(٥) نوادر الراوندي : ١٣٧ ، الحديث ١٨٢ .

(٦) ورد في بحار الأنوار نقلاً عن أمالي المفيد : ٧ / ٢٦٢ ، باب ١١ محاسبة العباد ، الحديث ١٣ .

(٧) بحار الأنوار : ٧ / ٢٦٧ ، الباب ١١ كتاب العدل ، ح٣٤ .

١٣٦

وأجمعها معنى ما رواه الصدوق في (التوحيد) عن ابن أُذينة ، عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، ما تقول في القضاء والقدر؟ قال :(أقول : إنّ الله إذا جمع العباد يوم القيامة ، سألهم عمّا عهد إليهم ، ولم يسألوا عمّا قضي عليهم) (١) الحديث .

نعم ، روى أصحابنا عن عليّ والباقر والصادق والرضاعليهم‌السلام في قوله سبحانه :( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (٢) أنّ المراد بالنعيم هو الولاية ، لا ما ترتفع به الحوائج الإنسانية من مأكول ومشروب وملبوس وغيرها .

فعن الصادقعليه‌السلام أنّه قال لأبي حنيفة :(بلغني أنّك تفسّر النعيم في هذه الآية بالطعام الطيّب والماء البارد في اليوم الصائف) ، قال : نعم ، قالعليه‌السلام :(لو دعاك رجل وأطعمك طعاماً طيباً ، وسقاك ماء بارداً ، ثُمَّ امتنّ عليك به ، إلى ما كنت تنسبه؟) قال : إلى البخل ، قالعليه‌السلام :(أفيبخل الله تعالى ؟! ) ، قال : فما هو ؟ قالعليه‌السلام :(حبّنا أهل البيت) (٣) .

وفي (الاحتجاج) عن عليّعليه‌السلام ـ في حديث ـ أن النعيم الذي يسأل عنه العباد :( رسول الله ومَن حلّ محلّه من أصفياء الله فإنّ الله أنعم بهم على من اتّبعهم من أوليائهم) (٤) .

وفي (المحاسن) عن أبي خالد الكابلي ، عن الباقرعليه‌السلام في حديث بعد ذكر الآية ، قالعليه‌السلام :(إنّما تسألون عمّا أنتم عليه من الحقّ) (٥) الحديث .

والاعتبار العقلي يساعد هذا المعنى ، فإنّ الولاية ـ وهي معرفة الله والتحقّق بها ـ

ـــــــــــــ

(١) التوحيد : ٣٥٤ ، الباب ٦٠ ، الحديث ٣ .

(٢) سورة التكاثر : الآية ٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٧ / ٤٩ ، باب ١١ كتاب العدل ، مع اختلاف يسير .

(٤) الاحتجاج : ١ / ٣٣٢ .

(٥) المحاسن : ٢ / ١٦٣ ، الباب ٦ ، الحديث ٨٣ .

١٣٧

حيث كانت غاية الخلقة ، فلا غاية غيرها فكلّ إفاضة إنّما تكون نعمة وملائمة للكمال والراحة إذا وقعت في طريق الغاية ، أو لوحظت من حيث صحّة وقوعها في طريقها ، لكنّها بعينها إذا وقعت في طريق يضادّ الغاية صارت نقمة ، وإذا لم تقع في طريق أصلاً كانت لغواً باطلاً فكلّ شيء نعمة من حيث إيصاله الإنسان إلى ساحة الولاية وأمّا مع الغضّ عن ذلك ، فلا نعمة .

فصحّ أنّ النعمة المطلقة هي التوحيد والنبوّة والولاية كما في بعض الروايات وصحّ أنّ النعمة بالنسبة إلينا هي الولاية كما في بعض آخر ، فافهم والله الولي الحقّ .

الفصل الحادي عشر : في الجزاء

قال سبحانه :( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (١) .

ومجازاة المحسن بالجنّة والمسيء بالنّار فيها آيات كثيرة جدّاً ، وقد جعلها سبحانه أحد الدليلين على وقوع الحشر ، فقال :( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (٢) .

فإنّ الحكيم من حيث هو حكيم ، كما يستحيل أن يفعل فعلاّ لا غاية له ولا نتيجة متولّدة من فعله كما هو مفاد الدليل الأوّل ، كذلك يستحيل عليه أن يهمل أمر جماعة فيهم الصالح والطالح ، والظالم والمظلوم ، فلا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .

ثمَّ إنّك ترى أنّه سبحانه أقرّ النسبة بين العمل والجزاء ، فالإحسان يجزى بالإحسان ، والإساءة تجازى بالإساءة .

ثمَّ جاوز وعده ووعيده مطلق الإحسان والإساءة ؛ فأيّد بذلك أنّ بين الأعمال وجزائها نِسباً خاصّة وارتباطات مخصوصة .

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآية ٣١ .

(٢) سورة ص : الآيتان ٢٧ و ٢٨ .

١٣٨

ثمَّ جاز كلامه سبحانه ذلك بأن أخبر بالعينيّة والإتّحاد بين العمل وجزائه ، قال سبحانه : ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (١) .

فصدر الآية يحكي عن النسبة المذكورة ، ووسطها عن الاتّحاد بين العمل والجزاء ، وذيلها عن الجزاء العادل ، وهو سبب النسبة والعينيّة المذكورتين .

وما ذكرناه من معنى الحساب وحقيقته في الفصل السابق ، عائد هاهنا أيضاً إليه تعالى ، وقال سبحانه :( وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) (٢) ، وقال : ( وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) (٣) ، وقال :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (٤) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالّة على أنّ ما يعمله الإنسان من خير أو شرّ سيُرَدّ إليه بعينه .

ثمَّ شرح سبحانه معنى هذه العينيّة فقال :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٥) ، فبيّن أنّ معصيتهم على كونها في هذه النشأة في صورة كتمان ما أنزل الله وشراء الثمن القليل بذلك ، فهي بعينها متصوّرة في الباطن بصورة أكل النّار كما ورد مثله في أكل مال اليتيم ظلماً .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأحقاف : الآية ١٩ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٨١ .

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٨١ .

(٤٩ سورة الزلزلة : الآيتان ٧ و ٨ .

(٥) سورة البقرة : الآية ١٧٤ .

١٣٩

ثمَّ أردف سبحانه ذلك بقوله : ( أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) (١) ، فبيّن أنّ هؤلاء بدّلوا الهدى والمغفرة بهذا الضلال والعذاب والهدى والمغفرة مرتَّبان على الاستقامة والتقوى ، كما أنّ أكل النّار والضلالة والعذاب تترتّب على الكتمان والشراء المذكورين فالتعرّض منه سبحانه بالتبديل فيما يترتّب على المعاصي ، دون ظاهر نفس المعاصي ، وتبديله سبحانه أكل النّار وأخواته بمعنى عامّ ـ وهو الضلال والعذاب ـ بيان منه تعالى لكون تبديل صورة الأفعال مطّرداً في جانبي الطاعات والمعاصي جميعاً ، فافهم وتدبّر .

ثمَّ بيّن سبحانه ذلك في المؤمنين خاصّة فقال :( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ) (٢) ، وقال :( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) (٣) ، وهو روح الإيمان وقال : ( وَلَكِن جَعَلْنَاهُ) أي النور المنزل على رسول الله ( نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ) (٤) ، وهو روح القدس وقال :( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (٥) ، وقال :( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) (٦) ، إلى غير ذلك من الآيات .

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ١٧٥ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٥٧ .

(٣) سورة المجادلة : الآية ٢٢ .

(٤) سورة الشورى : الآية ٥٢ .

(٥) سورة الحديد : الآية ٢٨ .

(٦) سورة الحديد : الآية ١٩ .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

الهرمية، ومن قبيل ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (١) ، الدالّ على أنّ دور الهادي هو الهداية الإيصالية، ومن قبيل الروايات الدالّة على أنّ الإمام يحضر على الصراط في الحشر والنشر.

ويوافق هذا اضطراب الأُطروحة الصوفية في الإمامة والولاية، مع ضمور ما انتهوا إليه بالقياس إلى ما ورد في الروايات ممّا يشفّ عن أنّهم ليسوا أصحاب النظرية.

ولابدّ من التنبّه إلى أنّ واحدة من ألوان الاختراق الفكري هي مسخ المفاهيم عن حقيقتها واستبدالها بمحتوى آخر، ويأخذ هذا اللون من الاختراق طابع الثبات في الذهنية العامّة في بعض حالاته، فتقع الأُمّة في شرك التحريف من دون أن تشعر؛ وذلك لأنّ عملية المسخ لم تأت معلنة وإنّما متلبّسة بصورة الحقّ، حيث استغلّ القائمون بهذه المهمّة فكر العلاقات بين المعاني والمعاني وبين ألفاظها مع المعاني كذلك أو وحدها، بعد التفاتهم إلى أنّ اللفظ يكتسب حسناً من معناه الحسن؛ نتيجة العلقة الوطيدة بين اللفظ والمعنى، والكناية والاستعارة والمجاز العقلي مرتبط كلّه بهذا المجال الذي ذكرناه، وهو معبّر عن بعد إيجابي في اللغة.

ولكن البعض قد يستفيد من لفظ محبّب إلى القلوب، أو ذي قداسة وحرمة لمحبوبيّة أو حرمة محتواه، بتفريغه من محتواه واستبدال المعاني بمعاني أُخر، فضلاً عن تقنيع المعاني بألفاظ أُخرى ووضع محتوى جديد له لا يمتّ إلى الدين بصلة، كاستعمال العدالة في الظلم الخاصّ، ومن ثمّ قيل: من أجل تحريف الدين يكفي مسخ المعاني دون التلاعب بالألفاظ (٢) .

____________________

١) سورة الرعد ٧: ١٣.

٢) الاعتراضات على الشيعة في قضية البطون: =

٤٨١

كما يمكن أن يكون ذلك واحدة من حِكَم ومبرّرات حرمة التعرّب بعد الهجرة، وهو يشمل استيطان بلاد الكفر وما يسمّى بالمهجر مطلقاً، وهو الوقوع في عملية مسخ في محتوى الدين. وعلى هذا الأساس كانت أوّل مهمّة لابدّ أن ينجزها الباحث هي التأكّد من ضبط معنى اللفظ قبل أن يدخل في التفاصيل.

وواحدة من الألفاظ التي تعرّضت لهذا النوع من المسخ للمعنى كلمة الباطن و(الغيب)، حيث أصبحت تعبّر عن اتّجاه منحرف فاقد للشرعية، فوصمت اللفظتين بهذا الطابع السلبي، ومن هنا فإنّ فكرة البطن في الفكر الشيعي وإن كانت حقيقة؛ لكون أئمّة أهل البيت هم المطّلعين على اللوح المحفوظ والكتاب المبين والكتاب المكنون، ولكن بالمعنى الذي مرّ، تحديده مع العلاقة التي ألفتنا إليها بين البطن والظهر.

الفائدة الرابعة:

إنّ القضايا التي تعرّض لها موسى مع الخضر قد وقعت بنفسها له من قبل، فوضْع أُمِّه له في اليم يشبه خرق السفينة من جهة تعرّضها للغرق ولم تغرق، وقتله للقبطي، وهو لم يكن مقصوداً، يشبه قتل الخضر للغلام، واستسقائه لبنات شعيب، وعدم أخذه الأجرة مع جوعه وضناه الشديد على ذلك، كإصلاح الحائط

____________________

= ١ - توسعة مع إغراق في الجانب الغيبي للأئمّة؛ وذلك لاستحكام الجانب الحسّي المادّي لأصحاب الاعتراض.

٢ - تطبيق الظاهر على الغيب بغرض التناسب بينهما بالشكل الذي مرّ؛ وذلك لحصر أصحاب الاعتراض الشريعة ومعارف الدين في ظاهر الألفاظ وإنكار العملي غير اللساني للتأويل الحقّ.

٣ - تصوير المنظومة الهرمية وأنّ قطبها الإمام عليه‌السلام ؛ وذلك لحصر أصحاب الاعتراض آليات وأدوات الإدارة والتدبير للنظام البشري بما يكون على السطح المعلن الرسمي.

٤٨٢

من دون أخذ الأجرة مع جوعهما. فهذه الأُمور الثلاثة التي حصلت للخضر كانت قد حصلت له مثيلاتها ممّا يكشف عن موازاة بين ما وقع لكلّ منهما.

وهذا مصداق لما قيل في بحوث المعرفة؛ من أنّ كلّ إنسان في كلّ حادثة تقع له تكون مورداً لاستغرابه قد وقعت له حادثة شبيهة لها من قبل ولم يستغرب منها؛ لأنّه كان عارفاً بأسبابها آنذاك، ولكنّه غفل عنها عند الاستغراب الآن، بل كلّ ما سيقع للإنسان في مستقبل أيامه وفي البرزخ وعرصات يوم القيامة كلّها يندرج في قوله تعالى: ( هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) (١) .

وقد ظهرت تفسيرات متعددة لهذه الموازاة:

أوّلها: تفسير أهل المعنى والذوق.

أن يُري اللَّه تعالى عباده أنّ سرّ القدرة هو تكرّر ما يجري في السابق على أساس وحكمة.

وثانيها: تفسير المفسّرين.

لأجل إعلام موسى أنّ علمه محدود وأنّ الإحاطة الكلّية محجوبة عنه. وهذا التفسير مقبول على شرط أن لا يتنافى مع العصمة.

ولكن كلا التفسيرين ناقصان، ومن ثمّ نقدّم تفسيراً ثالثاً مقتبساً من القرآن متمّماً لهما، وهو:

إنّ هناك تطابقاً بين عالم القضاء والقدر والإرادات التكوينية، أي بين السنن الكونية الإلهية، وبين الشريعة بحسب الظاهر، وأنّهما جميعاً تسعيان لغاية واحدة ولا تتخلّف في الجميع.

ومن ثمّ يفهم قوله تعالى: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) (٢) وقوله تعالى: ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (٣) ،

____________________

١) سورة البقرة: ٢٥.

٢) سورة البقرة: ٩.

٣) سورة الأنفال: ٣٠.

٤٨٣

ورتّب على ذلك ما في قوله تعالى: ( لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّى‏ءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ ) (١) . إذ يتصوّر هؤلاء أنّهم نقضوا إقامة الشريعة الظاهرة بمكرهم ودسائسهم، فأجابهم القرآن بأنّ عملهم هذا وإن كان رأس فتنة الشرّ ومكرهم تكاد تزول الجبال منه، كما هو الحال في شر إبليس، إلاّ أنّه في مجموع نظام الخلقة يصبّ في تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة من دون أن يشعروا، إذ الإرادات التكوينية تأخذ مجالها نحو غايتها، وهي في نفسها غاية الشريعة بحسب الدرجتين، وهذا لا يعني نفي شرّية عملهم ولا نفي شرّية إبليس ولا مشروعيته، إلاّ أنّ الباري تعالى يوظّفه في منظومة الخير كما هو الحال في العقرب، والأفعى، والذئب.

وهذا العالم هو عالم القضاء القدر والإرادات التكوينية قد يعبّر عنه بعالم الملائكة كما في لغة القرآن، وقد يعبّر عنه بعالم العقول والنفوس الكلّية كما في لغة الاصطلاح الفلسفي، حيث جعل العقل الأخير والعقول التي قبله تعبيراً عن القضاء، والنفس الكلّية تعبيراً عن لوح القدر، وقد يعبّر عنه بعالم الأنوار والأرواح والنفوس، مع مغايرة الثالث للثاني بأنّه أدنى درجة، كما استقرّ عليه الاصطلاح عند أهل المعرفة، أخذاً له من الشرع، وهو عالم الولاية.

وهذا العالم ذو درجات متسلسلة تكويناً، وقد عبّر عنه الفلاسفة بالنظام العليّ والعلمي، ونظام الوجوب والعلم، مع استثناء لوح القدر حيث لا يكون مبرماً.

وقد لوحظ على الحكماء بأنّ فهمهم وإحاطتهم بهذه العوالم محدودة، ومن ثمّ لم يعكسوا لنا إلاّ صورة نظام جامد يفتقد الحياة، ومن ثمّ لم يتفاعل الناس معهم كما تفاعل مع الأنبياء والأوصياء ومن بعدهم أهل المعنى، حيث قدّموا صورة مفعمة بالحياة لتلك العوالم، وأعطوا صورة عنها بأنّها موجودات حية مختارة، مع

____________________

١) سورة فاطر: ٤٣.

٤٨٤

حفظ الفارق أيضاً بين تصوير العرفان والدين، في حين لم يتمكّن الحكماء إلاّ بتقديم كلّيات تؤمن حالة من المعرفة من بعيد لا أكثر. والمتكلّم اعتمد على الحسن والقبح وفيه حيوية العقل العملي، ومن ثمّ كان واحداً من امتيازاته.

وبعبارة أُخرى: إنّ الفلاسفة وإن قبلوا أنّ الملائكة موجودات حيّة مختارة، ولكنّهم في الوقت نفسه قالوا بأنّها أسباب تكوينية لا تتخلّف، مع تركيزهم على هذه الزاوية في عموم كلماتهم، ومن ثمّ فسّروا الأمر في: ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ) (١) ، و ( هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٢) والأمر بالسجود لآدم، بأنّها ليست أمراً اصطلاحياً، وإنّما بالأسباب التكوينية التي لا تتخلّف، وهي لفتة صحيحة وغير صحيحة بمعنى آخر!

فهي صحيحة: من جهة أنّه ليس هناك أوامر اعتبارية وإنشاءات وشريعة ظاهرة.

وهي غير صحيحة: من جهة أنّها أوامر حقيقية، فلا مبرّر لتأويلها بالسبب الموهم لانعدام الاختيار، وإن كان الفلاسفة لا ينفون الاختيار، وإنّما هي شريعة كونية في الإرادات الإلهية التكوينية، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : (إنّ حكم اللَّه في أهل السماء والأرض واحد) (٣) ، فهم مختارون حقيقة، وإمكان المخالفة موجودة وباب التكامل مفتوح، فقد ورد أنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً.

نعم: المخالفة لا تكون بالمعصية؛ فإنّ القرآن صريح في أنّهم لا يعصون، كما أنّهم لم يتوفّروا على داعي المعصية - كما جاء في الحديث الشهير - وهي الشهوة

____________________

١) سورة التحريم: ٦.

٢) سورة الأنبياء: ٢٧.

٣) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.

٤٨٥

والغرائز الحيوانية، وإنّما تتحقّق المخالفة بترك الأولى الناشئ من محدودية العلم بسبب محدودية وجودهم، فيقعون في مخالفة الواقع الأوّلي.

وتصوير إمكان المخالفة في عالم النفوس الكليّة أوضح، حيث إنّها تحتاج إلى تأمّل ورَويّة في أخذ قرار العلم، بالإضافة إلى محدودية الوجود واختلافها في درجة العلم مع الملائكة التي من سنخ العقول.

وبهذا العرض يمكن أن نفهم اعتراضهم (أتجعل فيها) ، وقضية (فطرس) وعشرات الروايات التي يظهر منها تخلّف الملائكة عن الصواب، لكن بنحو ترك الأولى لا المعصية، بل إنّ الموجود كلّما تجرّد كلّما كان أقوى وجوداً وصفة ومنها الاختيار والحياة، فالملائكة أشدّ اختياراً وحياةً، ومع تصوير القدرة البشرية لابدّ أن تكون هذه القدرة موجودة هناك وبنحوٍ أرقى وأشدّ.

وبعد كلّ هذا يتّضح أنّ فكرة الأمر والنهي متصوّرة في عالم الملائكة بشقّيه العقلي والنفسي، فلا داعي للتأمّل، بل بهذا العرض يتبين الوساطة في الفيض، وفي قوس النزول أيضاً علّة اختيارية، ما به الوجود لا ما منه الوجود؛ فإنّه خاصّ به تعالى. وقد قرّر ذلك في مباحث الفلسفة أيضاً، إلاّ أنّ نمط البحث العقلي النظري لا يترقّى في تصويره إلى بيان أنّ نظام الأسباب في حين كونه نظام وجوب؛ فهو بأفعال اختيارية تنفيذاً للأمر الإلهي.

ويتّضح أنّ المطلب الذي أوقع البحث العقلي في التقريب الناقص للموضوع، وإلى حدٍّ قد ينعكس منه الجبر وأنّ القضية ذات نظام ذاتي لا يمكن الخروج عنه، نظير ما قالته اليهود من أنّ يد اللَّه مغلولة، هو اعتمادهم على لغة العقل وحده منفصلاً عن النقل.

والمؤسف أنّ البعض لم يرضَ بالنقلة الإيجابية التي خطاها صدر المتألّهين في حكمته حيث طعّمها بالقرآن والسنّة، آخذاً عليه أنّه خروج عن منهج البحث

٤٨٦

الفلسفي الذي يتطلّب التمحّض في العقليات.

ولا نقصد بذلك التفكيك في العمل بالنقل بمعزل عن العقل، وإنّما الغرض هو التنبيه على عدم الجمود على القواعد الفلسفية والعرفانية والكلامية مع ضرورة الخوض فيها، وأنّها بدونها تكون عملية التفقّه في العقائد سطحية، لكن اللازم الترقّي بالتوغّل أكثر في روايات أهل البيت؛ لاكتشاف المعارف التي قصرت المناهج عن الوصول إليها، مع أنّها مدلَّلة بنكات بينة في الروايات، لكن لم يحصل التنبّه إليها في العلوم العقلية، بل جملة كثيرة مترامية من المسائل لم تعنون في البحوث العقلية.

وبعد كلّ هذا، اتّضح نظام عالم الملائكة وأنّه مختار ومتكامل ومعصوم، ووقوع المخالفة لإرادة المولى بنحو ترك الأولى بسبب الجهل الممكن تلافيه، ومن ثمّ أمكن تعقّل الأمر والنهي الحقيقيين فيه، وأنّه لا يختلف عن البشر إلاّ في قضية الشهوة والغرائز، ويشترك معه في باقي الخصوصيات. وهذا ما يستفاد من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام - في بيان أمر اللَّه الملائكة بالسجود لآدم وإباء إبليس -: (فمن ذا بعد إبليس يَسلَمُ على اللَّه بمثل معصيته؟ كلاّ، ما كان اللَّه سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمرٍ أخرج به منها ملكاً، إنّ حُكمَه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين اللَّه وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حِمىً حرّمه على العالمين) (١) .

فصريح كلامه عليه‌السلام أنّ الأحكام الإلهية بحسب دائرة الدين واحدة لأهل النشأة الأرضية والنشآت الأُخرى، فدين اللَّه واحد في العوامل وليس يخصّص بدار الدنيا، وكلامه عليه‌السلام يشير إلى قوله تعالى: ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) (٢) .

____________________

١) نهج البلاغة، الخطبة القاصِعة.

٢) سورة آل عمران: ٨٣.

٤٨٧

ومن ثمّ نقول: إنّ هذا النظام الملائكي قد كلّف بشريعة مطابقة لشريعة السنن الإلهية الكونية والظاهرة، بعد التذكير بأنّنا قد انتهينا من تصوير الشريعتين الظاهرة والكونية في نظام التكوين، بأنّها شريعة واحدة والوسيلة في التلقّي والتطبيق مختلفة، بيان ذلك:

إنّ الشريعة الظاهرة عبارة عن صفحة نازلة قد دُوّن فيها كلّ ما في عالم التكوين في قوس الصعود والنزول ونشأة الدنيا وهي الواقعة بين القوسين، نهاية الأوّل وبداية الثاني، وبهذا التصوير يفهم قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (١) ، فإنّه يدلّ بوضوح على عدم وجود شرعة أجنبية عن شرعة الظاهر.

وبهذا نصل إلى نتيجة وهي: إنّ القضايا التكوينية التي واجهها موسى قبل لقائه بالخضر المشابهة للقضايا التي شاهدها مع الخضر، أيضاً مطابقة لشريعة الظاهر بنفس البيان، سوى أنّ القضايا التي واجهها موسى أوّلاً حديث ضمن المسار التكويني، والتي واجهها ثانياً مع الخضر حدثت على أساس الشريعة الكونية.

الفائدة الخامسة:

إنّ الأئمّة عليهم‌السلام يطبّقون الشريعة الكونية في السنّة الإلهية التكوينية ويعملون بموازينها جنباً إلى جنب عملهم بالشريعة بدرجة الظاهرة.

وبتعبير آخر: إنّ الأئمّة في تطبيقهم للشريعة الظاهرة يستخدمون كلتا الوسيلتين: العلم اللدنّي والعلم الحسّي، ويشهد لذلك تعليلهم لبعض القضايا بعلم القضاء والقدر، مثل: (شاء اللَّه أن يراهنّ سبايا).

وشاهد آخر: إقدامهم على ما يعلمون، كالإقدام على القتل، فإنّ تفسيره

____________________

١) سورة النحل: ٨٩.

٤٨٨

الصحيح هو العلم اللدنّي، حيث كان استشهادهم بعد إجراء قانون التزاحم بين الملاكات الكاملة أولى (١) .

وظهر أيضاً: أنّ مهمّة الهداية الإيصالية لا تخصّ الملائكة - كما يظهر ذلك من العامّة - بل تعمّ قسماً من البشر الذين يتمتّعون بمواصفات خاصّة، بل يظهر من القرآن أنّهم أكمل من الملائكة. وظهر كذلك أنّ الإمامة غاية النبوة وأنّ الهداية الإيصالية غاية الهداية الإرائية.

وهذه النكتة هي المحور الأصلي في القصّة، بقرينة أسى النبي الذي ورد في أوّل السورة: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ) (٢) ، فكانت قصّة الخضر وغيرها لتطمين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الهداية الإيصالية موجودة وبواسطتها ستتحقّق الأغراض المجموعية والفردية للشريعة الظاهرة.

فإنّ الإرادة الإلهية لمّا كانت تعني بالتحفّظ على أغراض الشريعة الكلّية في الجزئيات التفصيلية بالنسبة إلى عموم المجتمع، وبالأغراض التي تعدّ استراتيجية بالنسبة إلى الشريعة الظاهرة، كما نلحظ ذلك في قضية الخضر، فإنّه يدلّ بالأولوية

____________________

١) نحن لا نرمي بأطروحتنا هذه التفكيك والعمل بالنقل بلا أُصول وبمعزل عن العقل، وإنّما أردنا التنبيه على عدم الجمود على قواعد الفلسفة والعرفان والكلام، مع قبول فائدتها لتكون عملية التفقّه في العقائد تامّة، وإنّما لابدّ من الترقّي بالتوغّل أكثر في الكتاب وروايات أهل البيت لاكتشاف معارف قصرت المناهج تلك من الوصول إليها، وهي مستمدّة ومعتمدة على قواعد بديهية في الروايات لم يتنبّه إليها في الفلسفة، بل قد تدفع إلى إعادة النظر في تلك القواعد كالحركة التكاملية في المجرّدات.

فلا معنى للجمود على قواعد نظرية قد تكون مترامية في نظريتها، وتأويل ما هو بديهي‏ ونصّ في الروايات من أنّ هناك حركة اختيار ومخالفة الأمر في عالم الملائكة.

٢) سورة الكهف: ٦.

٤٨٩

على أنّ الإرادة الإلهية والهداية الإيصالية لا تهمل ما كان بالغ الأهمّية في الشريعة الظاهرة كالشؤون المرتبطة بالدولة والحكم وهداية المجموع.

الخلاصة:

وهذا استعراض لأهمّ المحاور التي وردت في هذه الآيات الكريمة:

المحور الأوّل: وجود تشكيلة من أولياء اللَّه الذين اختارهم اللَّه حججاً على عباده يقومون بدور وظّفوا له ومن وراء الستار، وقد جاء في سورة الكهف (١) ذكر مواصفاتهم.

المحور الثاني: إنّ الإمامة غاية النبوّة، وقد جاءت القصّة لتؤكّد هذا الأمر وطمأنة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الهداية الإيصالية ستتكفّل تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة والهداية الإرائية التي قام بها الرسول الأعظم على أكمل وجه.

المحور الثالث: هناك قسم آخر من الحجج وراء الرسالة والنبوّة والإمامة، والذي تمثّله الزهراء عليها‌السلام ومريم عليها‌السلام والخضر عليه‌السلام مع حفظ الفارق، وقد أشارت الروايات (٢) إلى هذا القسم.

المحور الرابع: وجود شريعتين ظاهرة وكونية في الإرادات ومن دون بينونة بينهما.

المحور الخامس: الملاك والحكم في الشريعتين أو درجتي الشريعة واحد، إنّما الاختلاف في وسيلة الإحراز والإنفاذ.

المحور السادس: التزاحم الملاكي ظاهرة غالبة في الشريعة الكونية، وحلّه هو ترجيح أحد الملاكين الأهم، يتمّ بواسطة العلم اللدنّي بعد مقايسة بين الملاكين ولكن لا بحدود ضيقة مقطعية.

المحور السابع: إنّ الملائكة في قوس النزول مخاطبون ومكلّفون بالدين

____________________

١) سورة الكهف: ٤٥.

٢) البحار، ج٢٣، باب أنّ الأئمّة محدّثون.

٤٩٠

والشريعة في السنن والإرادات الإلهية الكونية، بعد أن كانت لهم إرادة واختيار وتكامل، ممّا يمكن به تعقّل التكليف والطاعة والمخالفة، مع قبول عصمتهم وأنهم لا يعصون اللَّه ما أمرهم، مع الالتفات إلى تبعيتهم في الدين للأنبياء والرسل الذين لهم مقام الإمامة وخلافة اللَّه في الأرض، كما أسجدهم الباري تعالى لآدم، والذي يهدف إلى خضوعهم وتبعيتهم لخليفة اللَّه في أرضه، هذا بعد أن كانت شرائع الأنبياء مشتملة على قوس النزول والصعود والفروع.

وبعبارة أُخرى: أنّ الشرائع التي بُعث بها الأنبياء وإن كانت مختصّة بأهل الأرض من الإنس والجنّ لكنّ الدين المتّحد بين الأنبياء فهو عامّ لأهل السماء والملائكة، كما أنّه عامّ لكلّ النشآت والخلائق.

المحور الثامن: ولاية كلّ نبيّ ورسول مقامٌ أرفع من نبوّته وإمامته، ولكنّ النبيّ أرفع مقاماً من الوليّ الحجّة المعاصر له؛ حيث كان الأوّل محيطاً بالإرادات الكلّية والثاني بالجزئية، فهو تابع للأوّل.

المحور التاسع: إلفتنا لأقسام التأويل، وفرق الباطن عن الظاهر، وفرق الشريعة الكونية عن الظاهر، ولمّا كان الأوّل مأخوذاً فيه الانتهاء والرجوع أمكن أن نضع إصبعنا على الجامع بين الأقسام: إنّ كلّ عالم سابق له تأويله في اللاحق.

ونضيف: أنّ هناك عكس التأويل، فعالم الذرّ والميثاق يفسّران العديد من الظواهر التي تجري لأشخاص في النشأة، وبتعبير أوضح: كما أنّ النشأة اللاحقة تأويل للسابقة، كذا السابقة لها نوع تفسير لِلاّحقة، وهذا هو الذي أشارت له أخبار الطينة: (لو علم الناس كيف خلق اللَّه تبارك وتعالى هذا الخلق لم يلم أحدٌ أحداً...) (١) وكذا روايات الذرّ والميثاق.

____________________

١) الكافي، ج٢، ص٤٤.

٤٩١

المحور العاشر: إنّ الهداية الإيصالية هداية المجموع والجميع؛ فإنّها كما تُعنى بالأغراض المرتبطة بالمجموع البشري كذا تُعنى بأغراض كلّ فرد بل حتّى الواسطة.

النموذج الثاني القرآني: قصّة ذي القرنين.

سيتمّ الإلفات إلى المحاور التالية:

١ - مرتبة ذي القرنين.

٢ - القوّة التي مُنحت له.

٣ - التدبير الإلهي لجزئيات وتفاصيل المجتمع البشري في قصّة ذي القرنين.

٤ - ربط القصّة بالمحور الأصلي في سورة الكهف.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ ) ، ظاهر في أنّ قصّة ذي القرنين شائعة لدى الأقوام، وأنّ الرجل وقصّته حقيقة تاريخية عاشتها البشرية.

قوله تعالى: ( سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ) ، ظاهر في أنّ القرآن لا يروي كلّ تفاصيل القصّة، وإنّما يقتصر على بعض ملامحها.

قوله تعالى: ( إِنَّا مَكَّنَّا ) تعريف بشخصيّة الرجل كما في قصّة الخضر حيث ابتدأت بالتعريف به، وهذا التمكين هبة وأنّ التمكين هاهنا تمكين لدنّي. والتمكين لا يطلق على المُلك اليسير وإنّما على الملك الواسع العظيم، ومن ثمّ ذكر ذلك في سورة يوسف والآيات الواردة في نشأة المهدي عليه‌السلام في جانب الخير، وفي عاد ونمرود في جانب الشرّ.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَبًا ) ، لا سبب كلِّ شي‏ء، ولكن مع كون (من) تبعيضية إلاّ أنّها دخلت على (كلّ شي‏ء) ، ومن ثمّ شكّل هذا الإعطاء ميزة وخصوصية لذي القرنين؛ لأنّ (كلّ) تفيد

٤٩٢

العموم، ومدخولها في غاية الإبهام والعمومية.

قوله تعالى: ( سَبَبًا ) ، لم يُستعمل في القرآن في غير ذي القرنين، نعم ذكرت منفية عن غيره، مثل: ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ ) (١) ، و ( لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ ) (٢) ، و ( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (٣) . والسبب في اللغة: كلّ شي‏ء يقتدر به على شي‏ء آخر، سوى أنّه في القرآن استعمل في الوسيلة غير المتعارفة.

وهذا الإعطاء حَبوة إلهية ومنحة، وهي القدرة اللدنّية؛ بقرينة أنّه لم يذكر لغيره، وأنّه أردف الإتيان بالسبب، وأنّ ذا القرنين من الأولياء الحجج كما سيأتي، وأنّه قد استعملت فيه نفس التعبيرات المستعملة في سليمان.

ثمّ إنّ المراد من السبب في عالمنا - كما يظهر من الروايات وجاء في كلمات الحكماء والمتكلّمين - المعدّ، لا سيّما في عالم المادّة، لا الفاعل ومعطي الوجود؛ فإنّه منحصر به تعالى، فهو ما منه الوجود وغيره ما به الوجود.

ويترتّب على ذلك أنّ كلّ المعادلات والقوانين في هذا العالم لا ضرورة بتّية فيها بعد أن لم تكن الظواهر من الأسباب سوى معدّات تعدّ القابل وتهيئه لاستقبال الفيض الإلهي، بل ليس معدّات عالم الطبيعة هي تمام المعدّات، بل توجد معدّات أُخرى ملكوتية فضلاً عن الأسباب الفاعلية، لا سيّما أنّ بعض الأسماء الإلهية تقتضي بعض المعدّات التي لا نعلم بها.

وبه يمكن تفسير جملة من التخلّفات مثل: ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٤) ، ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ... ) .

والواو فيها استئنافية، فيكون المفاد أنّه بالإضافة إلى تمكينه - الذي قُيّد بـ (في

____________________

١) سورة ص: ١٠.

٢) سورة غافر: ٣٦.

٣) سورة البقرة: ١٦٦.

٤) سورة الأنبياء: ٦٩.

٤٩٣

الأرض) - الإيتاء وهو المنسجم مع عمومية التعبير الذي سبقت الإشارة إليه، وهو الظاهر من الروايات حيث ذكرت أنّها من أسباب السماوات والأرض، بل الظاهر من الروايات أنّه أوتي ملكوت السماوات والأرض، حيث جاء التعبير بـ (كشط له).

( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) من تلك الأسباب.

( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) سار بالأسباب التي زوّد بها، وقد ذكرت الروايات أنّه كان يسير في فتوحاته بالزئير.)مغرب الشمس(إشارة إلى أقاصي الأرض، وقد يقال بأنّ رحلته فضائية في السماء كما مرّ إشارة الروايات إلى أنّ الأسباب التي أوتيها سماوية وأرضية وأنّه (كُشط له).

قوله تعالى: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) ، خطاب مباشر منه تعالى لذي القرنين، ومن ثمّ قيل إنّه نبيّ، ولكنّه خلاف ظاهر القرآن حيث لم يصفه بالنبوّة ولا بالبعثة والرسالة، مع أنّه في مقام الإجابة عن التساؤل عن الغموض في حال ذي القرنين.

وهذا هو الظاهر من الروايات أنّه محدّث، كما يلاحظ ذلك في أجوبة الأئمّة عليهم‌السلام عندما كانوا يُسألون عن علمهم فكانت الإجابة أنّه كصاحب موسى وذي القرنين، أي ليست علومهم بنبوّة، ولكنّه علم لدنّي معصوم، والوحي المباشر لا يعني النبوّة وإنّما التشريف والحظوة في الاصطفاء، نظير: ( يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

____________________

١) سورة آل عمران: ٤٥ - ٤٧.

٤٩٤

قوله تعالى: ( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا ) ، تدلّ على أنّ الحاكمية - القيادة السياسية والقوّة التنفيذية - أوّلاً وبالذات هي للَّه تعالى، وكلّ حاكم عداه سواء كان نبياً أو وصياً أم غيرهما من الحجج المصطفين، فحاكميته في طول حاكمية اللَّه تعالى. حيث يظهر من الآية أنّ هذا التخيير الإجرائي والتدبير السياسي التفصيلي منحه اللَّه لذي القرنين، ممّا يدلّل على أنّ الحكومة السياسية التنفيذية بيده تعالى، ولم تفوّض للبشر بمعزل عن اللَّه، كما عليه أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. والقيادة السياسية شعبة من شعب الهداية الإيصالية كما سيأتي توضيحه.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) ، والحديثُ الحديث، مع دلالتها على أنّ ذا القرنين كان معنياً بتدبير عدّة مجتمعات وفي مجالات متعدّدة.

قوله تعالى: ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) ، ممّا يكشف أنّهم كانوا في تخلّف مدني حتّى على مستوى الضروريات والأولويات، وقد كُلّف ذو القرنين برفع هذا التخلّف. والروايات أيضاً تدلّ على أنّ من مهام الإمام والولي الحجّة هو رفع هذا النمط من التخلّف، كما في تصدّي الإمام الباقر عليه‌السلام في حساب المسافة في قضية البريد وصكّ النقود، وتصدّي أئمّة أهل البيت لتأسيس جملة من العلوم، كما هو شأن الأنبياء السابقين حيث جاءوا للبشرية بأُسس العلوم (١) ، وهذا مقتضى العناية الإلهية بعد أن كانت لضروريات العيش مدخلية في التكامل الروحي للأُمّة.

قوله تعالى: ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) يدلّ على إحاطة الربّ تعالى بتفاصيل ما يجري وأنّها محور عنايته واهتمامه، فكان كلّ ما يجري تحت نظره.

وبعد اتّضاح الصورة في ملامح ذي القرنين يمكن أن نخرج ببعض النتائج التالية، وهي:

____________________

١) لاحظ كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، للسيد حسن الصدر.

٤٩٥

أوّلاً: إنّ تمكينه في الأرض لأجل استصلاح المجتمعات البشرية وإيصالها إلى الكمال المنشود ببناء حضارتهم ومدَنيتهم بالقدر اللازم، وإرساء العدل، وإفشاء الصلاح ورفع الظلم عنه، كما يبدو ذلك من النماذج التي تعرّض لها القرآن من حياته.

والقرآن - كما ذكرنا سابقاً - يتناول التعريف بالحياة الشخصية للرجالات والأُمم السابقة كسنن إلهية، ويركّز على المحاور ذات العبرة التي تساهم في رسم العقيدة والشريعة، والروايات حدّثتنا عن جملة من الأبعاد الشخصية لهؤلاء.

وما ذكر من ملك ذي القرنين الذي مُكّن منه مع النماذج التدبيرية التي قام بها، تلحظ أنّها وثيقة الصلة في سورة الكهف بالمحور الأصلي وهي طمأنينة الرسول بأنّ الهداية الإيصالية، وهي مقام الإمامة، أنّها هي التي ستحقّق أهداف الرسالة، والهداية الإرائية التي هي مقام النبوّة.

قوله تعالى: ( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) ، تخلّفهم أكثر من القوم الذين التقى بهم سابقاً.

ثانياً: قوله تعالى: ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) ، مع أنّ ذا القرنين أوتي كلّ ما سبق وأنّه منصوب من قبل اللَّه تعالى وفي الوقت الذي زوّد بتلك القدرة اللدنية وقد ملك فيها الدنيا، إلاّ أنّه يطلب الإعانة، ممّا يعني أنّ الغرض الإلهي لا يتحقّق بالإلجاء، وإنّما لابدّ للأُمّة أن تنهض بمسؤوليتها، في الوقت الذي منّ اللَّه عليها بالهداية الإيصالية أي بنصب الإمام لهم.

ومن هنا أمكن أن نفهم توجيه الخطاب بالحكم ووظائف الدولة للأُمّة، وأنّه لا يعني أنّ الولاية بيد الأُمّة كما فهمه البعض، كما لا يعني أنّ الأُمّة مرفوع عنها المسؤولية تماماً في هذا المجال، وإنّما تعني أنّ هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الأُمّة تجاه الحكم والوالي، وهي الإعانة والتجاوب والطاعة، حيث لم تكن سنة اللَّه الإلجاء وكن فيكون في نشأة الدنيا، وبالتالي اليد الواحدة - يد الوالي - لا

٤٩٦

تصفّق، كما في المثل، فنصب الإمام من اللَّه للناس لا يعني إسقاط التكليف عن الأُمّة بنصرته وتمكينه وإقداره من قبلهم، فهناك تكليف مُلقى على عاتق الإمام كما أنّ هناك تكليف مُلقى على عاتق المأمومين وهم الأُمّة.

ثمّ تستعرض الآيات تفصيل بناء السدّ للدلالة على أنّ الأولياء يعملون بالأسباب الظاهرية، على العكس من توقّع الناس أن يكون سيرة ولي اللَّه فيهم كلّها بالإعجاز وخرق الأسباب.

قوله تعالى: ( رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) في حال أنّ بناء السدّ كان من خلال الأسباب الطبيعية، ولكن لم تكن تلك الأسباب مكتشفة آنذاك، ومن ثمّ كان رحمة، حيث اطّلعوا على بعض أسرار الطبيعة.

فتلخّص:

أوّلاً: إنّ هناك قدرة لدنية، زُوّد بها ذو القرنين، وملكاً عريضاً، ربما كان أوسع من ملك سليمان.

وثانياً: وكان برنامجه استصلاح الأقوام البشرية المغلوبة والمتخلّفة والمتناحرة، فأفشى العدل في قوم، وهيّأ ضروريات المدنية لآخرين، وبنى السدّ لثالث.

وثالثاً: وبأسباب طبيعية كُشفت لهم.

ورابعاً: مع نفي الإلجاء وحفظ دور الأُمّة ومسؤوليتها.

وقد ألفت القرآن إلى كلّ هذا في حياة هذا الولي؛ لرفع أسى صلى‌الله‌عليه‌وآله وطمأنته بأنّ الأغراض التي على أساسها كان التشريع ستحقّق من خلال الهداية الأمرية في إمامة الأُمّة، كما قال تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة ) (١) .

____________________

١) سورة الأنبياء: ٧٣.

٤٩٧

النموذج الثالث القرآني: قصة أصحاب الكهف

وهذه السورة متميزة ببحث الإمامة بنحو مركّز جدّاً، ولو سمّيت بسورة الإمامة لكان حرياً، لا سيّما وأنّه ذكر نموذج رابع فيها وهو استخلاف آدم كخليفة للَّه في الأرض، وإطواع جميع الملائكة له، وهذه الواقعة برمتها عنوان كبير لمعتقد الإمامة، فسلسلة البحث في كلّ هذه السورة يدور حول الوصول إلى أهداف الرسالة وغاياتها بتوسّط الإمامة، وأصحاب الكهف وإن لم يكونوا حججاً مصطَفين، إلاّ أنّ الحديث عنهم له صلة بالإمامة من جهة صلة هدايتهم بالهداية الإيصالية، وهي الإمامة عبر قناة الروح لا عبر قناة الهداية الإرائية وهي النبوّة الظاهرة والسماع بالحسّ.

قوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ ) ، بيان أنّ عالمنا عالم الامتحان، فلا إلجاء ولا جبر، كما في قوله تعالى: ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (١) ، وإنّما اختيار واختبار، كما في قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) (٢) .

وقد توسّطت هذه الآية بين آية ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ... ) وقصّة الكهف؛ للتنويه على أنّ الهداية الإيصالية وإن كانت متحقّقة في إمامة الإمام إلاّ أنّ المسؤولية ما زالت قائمة على الأُمّة، ولابدّ أن تخطو باختيارها نحو الكمال ومن اللَّه التسديد والتأييد.

ثمّ إنّ سورة أهل الكهف مكّية، نزلت إثر محاولة قريش إحراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما استعانت بثلاثة أرسلتهم إلى نجران للتوفّر على مسائل معقّدة يعجز عن الإجابة عليها، فكانت: أهل الكهف، وصاحب موسى، وذو القرنين. وقد قال علماء نصارى ويهود نجران: إنّ محمّداً إن أجاب عنها فهو نبيّ وإلاّ فلا، ثمّ طلبوا سؤاله برابعة إن

____________________

١) سورة الغاشية: ٢٢.

٢) سورة تبارك: ٢.

٤٩٨

أجاب عنها فهو ليس بنبيّ، وهو: عن الساعة ومتى هي؟

وتذكر الرواية أنّ الرسول أوعد بالإجابة غداً من دون تعليق وعده على المشيئة الإلهية فحُبس عنه الوحي أربعون يوماً، فاغتمّ وحزن كثيراً، وكذا حزن عمّه أبو طالب عليه‌السلام حتّى نزل الوحي بالإجابة.

والملفت للنظر ترابط هذه القصص الثلاث في فكرة الهداية الإيصالية التي هي حقيقة الإمامة، مع أنّ اليهود اختاروها على أساس من المسائل الصعبة لا أكثر.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتَ ) ، لا دلالة في السورة على أنّ أصحاب الكهف أولياء وحجج، وإنّما هم من القسم الخامس وهو الأولياء غير الحجج، وقد شُرّفوا بمقام أوجب ذكرهم.

قوله تعالى: ( الرَّقِيم ) ، في الروايات أنّ أسماءهم مرقومة في لوح من رصاص، رقّمها الملك الكافر الذي كان يريد قتلهم، أو الذي عرفهم بعد إفاقتهم فرقّم أسماءهم على هذا اللوح ووضعه على قبورهم بعد موتهم.

( أَمْ حَسِبْتَ ) تدلّ على أمرين:

الأوّل: البعث والمعاد كما سنبين.

والثاني: إنّ الغلبة للَّه تعالى، وإن أغراضه ستتحقّق، فهؤلاء مجموعة غلبت على أمرها من رواد الباطل وعلى رأسهم المَلك آنذاك، إلاّ أنّ الدائرة دارت عليهم فانقرضوا وبقيت تلك المجموعة المستضعفة خالدة تشكّل نبراساً للحقّ.

وارتباط هذا البعد بالمحور الأصلي واضح، وأنّه مهما حصل وفعل أهل الباطل، ومهما قويت شوكتهم فلن يعيق تحقّق الغرض الإلهي، فإنّ المغلوب ظاهراً غالب باطناً، أي في الخفاء والمآل.

ومن ثمّ يفهم السرّ في ترديد الرأس الشريف المقطوع للحسين عليه‌السلام المشال على رأس الرمح لهذه الآية المباركة وهو يُطاف به في بلدان أُمّة الإسلام.

٤٩٩

والروايات تشير إلى هذا المضمون.

قوله تعالى: ( الْفِتْيَة ) أشرنا ويأتي تفصيل أنّ هؤلاء ليسوا من الأولياء الحجج، وقصّتهم معجزة. ومن ثمّ نفهم أنّ المعجزة ذات طابع الرحمة تكشف عن شرف من تقوم فيهم وعلوّ مقامهم.

هذا في المعجزة الرحمة، والعكس بالعكس، فالمعجزة العذاب كالقمّل، والضفادع، والدم، تعبّر عن ذلّة من قامت فيه المعجزة وخسّتهم.

كما أشرنا إلى أنّ هؤلاء الفتية صاروا عظة وعبرة وقدوة للبشرية، ممّا يؤكّد أنّ مقامهم وإن لم يصل حدّ الحجّية إلاّ أنّه مقام رفيع ومكانة مرموقة في مجال التكامل المعنوي، ومن هنا جاء في الدعاء: (اللهم إنّي أسألك بكلّ عبد امتدحته فيه)، أي في القرآن. ولم يقتصر القرآن في ذكر هذا النمط من البشر على أصحاب الكهف، وإنّما ذكر آخرين، كمؤمن آل فرعون.

قوله تعالى: ( إِذْ أَوَى ) ، ظاهر في نوع الإلجاء والاستجارة، ويؤكّد ذلك طلبهم الرحمة الخاصّة من اللَّه تعالى، ممّا يكشف عن عمق محنتهم.

قوله تعالى: ( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) ، عبّرت عن كلا الطرفين بالحزب، مع أنّ أهل الكهف قلّة جدّاً، ممّا يدلّ على التفخيم، وأنّهم يمثّلون خطّاً هو خطّ الهداية.

قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ) ، النوم نوع من التُوفّي كما أشار إليه القرآن الكريم، ونظير البعث الإيقاظ من النوم للتعريف بالأطول بقاءً، والتدليل على أنّ الهداية الإيصالية لا تتخلّف، وهذا هو البعد المرتبط بالمحور الأصلي.

وفي الروايات بيّن هدف بعثة أصحاب الكهف من رقدتهم بأنّه: دحض دعوى الكافرين حيث كانوا ينكرون المعاد، كما يشير إليه قوله تعالى: ( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592