الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146418 / تحميل: 9424
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كما أنّ الذين لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلّا بالقدر الذي تسعه قدرتهم المالية ولا يحقّ للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك.

وبناء على هذا فالذين لديهم المقدرة والاستطاعة ثمّ يبخلون بها فإنّهم يستحقّون اللوم والتقريع لا الذين لا يملكون شيئا.

وفي نهاية المطاف يبشّرهم الله تعالى بقوله :( سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) أي لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سببا لخروجكم عن الطريق السوي ، فإنّ الدنيا أحوال متقلّبة لا تبقى على حال ، فحذار من أن تقطع المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم.

وكانت هذه الآية بمثابة بشرى أبدية للمسلمين الذين كانوا حينذاك يعيشون ضنكا ماديا وعوزا في متطلّبات الحياة ، فهي تبعث الأمل في نفوسهم وتبشّر الصابرين.

ولم تمض فترة طويلة حتّى فتح الله عليهم أبواب رحمته وبركته.

* * *

بحوث

١ ـ أحكام الطلاق الرجعي

قلنا أنّه في الطلاق الرجعي يستطيع الزوج متى شاء أن يرجع إلى زوجته خلال فترة العدّة إلى آخر يوم منها ، بلا حاجة إلى عقد أو ما شابه ، والطريق إلى ذلك سهل يسير يمكن أن يتمّ بأي حديث أو عمل يشمّ منه رائحة العودة ويدلّ على الرجوع في العلاقة الزوجية ، وقد اختصّت بعض الأحكام التي وردت في الآيات أعلاه مثل «النفقة» و «السكن» بحالة الطلاق الرجعي ، يضاف إلى ذلك عدم خروج المرأة من بيت زوجها أثناء العدّة ، فإنّها أيضا من مختصّات الطلاق الرجعي أمّا الطلاق البائن غير القابل للرجوع ، (كالطلاق للمرّة الثالثة) فإنّه غير

٤٢١

مشمول بتلك الأحكام.

أمّا حقّ النفقة والسكن فهو ثابت للنساء الحوامل إلى حين وضع الحمل.

والتعبير بـ( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) إشارة إلى أنّ كلّ الأحكام السابقة ـ أو بعضها ـ مرتبط بالطلاق الرجعي(١) .

٢ ـ لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها

ليس العقل وحده يحكم بذلك ، وإنّما الشرع هو الآخر شاهد ودليل على ذلك. أي أنّ تكاليف البشر ومسئولياتهم إنّما هي بقدر طاقاتهم وتعبير( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ) التي وردت ضمن الآيات السابقة هو إشارة إلى هذا المعنى.

ولكن ورد في بعض الروايات أنّ المقصود بـ( ما آتاها ) هو «ما أعلمها» أي أنّ الله يكلّف الناس بقدر ما أعلمهم به. ولذا استدلّ بهذه الآية على إثبات «أصل البراءة» في مباحث علم الأصول ، فمن لا يعلم حكما ليس عليه مسئولية تجاه ذلك الحكم.

ونظرا لأنّ عدم الاطّلاع يؤدّي أحيانا إلى عدم المقدرة ، فمن الممكن أن يكون المقصود هو الجهل الذي يكون مصدرا للعجز.

وبناء على هذا فإنّه سيكون للآية مفهوم واسع يشمل عدم القدرة والجهل الذي يؤدّي إلى عدم القدرة على إنجاز التكليف.

٣ ـ أهميّة النظام العائلي

إنّ الدقّة والظرافة التي عالجت بها الآيات القرآنية أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ وباقي الجزئيات المتعلّقة في هذا المجال ، الواردة في آيات قرآنية

__________________

(١) راجع الكتب الفقهيّة للتوسّع في ذلك ومنها كتاب «جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ١٢١».

٤٢٢

اخرى ، تمثّل بمجموعها المنهج والقانون الإسلامي لمواجهة هذه المشاكل.

كلّ ذلك يبرز الأهميّة الخاصّة التي يوليها الإسلام لنظام العائلة ورعاية حقوق المرأة والأبناء. فهو يسعى لمنع وقوع الطلاق قدر الإمكان ، ويحاول استئصال جذور هذا العمل البغيض ، ولكن إذا وصلت هذه الجهود إلى طريق مسدود وأصبح الطلاق والانفصال هو العلاج الوحيد ، عندها يحذّر من ضياع حقوق الأطفال ويرفض أن تذهب هذه الحقوق ضحيّة هذا النزاع ، حتّى أنّه شرع حكم الطلاق بطريقة يمكن في ضوئها الرجوع عنه غالبا.

إنّ أوامر الإمساك بمعروف والطلاق بمعروف ، وكذلك عدم الإضرار والتضييق على النساء والتشدّد في أمرهنّ ، والتشاور الحسن في شؤون الأطفال ، وما إلى ذلك كلّها شواهد على ذلك.

غير أنّ عدم اطّلاع المسلمين على هذه الأحكام وجهلهم بها ، أو إعراضهم عن الالتزام بها رغم علمهم ، أدّى إلى نشوء مشاكل عائلية عديدة حين الطلاق ، وخاصّة في شأن الأطفال. وذلك نتيجة ابتعاد المسلمين عن مصدر الفيض الإلهي الذي هو القرآن. فمثلا في الوقت الذي يدعو القرآن إلى عدم خروج النساء من بيت الزوج في أيّام العدّة ، ولا يحقّ للزوج إكراهها على الخروج أثناء تلك الفترة المحدّدة مما يؤدّي هذا الحكم إلى العدول عن الطلاق ورجوع النساء إلى الحياة الزوجية ، نرى قلّة من النساء والرجال يلتزمون بذلك بعد وقوع الطلاق ، وهذا ما يدعو إلى الأسف حقّا.

* * *

٤٢٣

الآيات

( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) )

التّفسير

العاقبة المؤلمة للعاصين :

في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الأمم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف ، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كلّ من (الطاعة

٤٢٤

والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضيّة طابعا حسيّا.

ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج ، فبعد ذكر وظائف كلّ من الرجال والنساء عند الطلاق ، يحذّر العاصين والمتمرّدين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية :( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً ) (١) .

والمقصود بـ «القرية» هو محل اجتماع الناس ، وهو أعمّ من المدينة والقرية ، والمراد هو أهلها.

«عتت» من مادّة «عتو» على وزن «غلو» بمعنى التمرّد على الطاعة.

و «نكر» على وزن «شكر» ويعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل.

«حسابا شديدا» أي الحساب الدقيق المقرون بالشدّة والصرامة ، ويعني العقاب الشديد الذي هو نتيجة الحساب الدقيق. وهو على كلّ حال إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمرّدة العاصية في هذه الدنيا ، التي هلكت بعضها بالطوفان ، وبعضها بالزلازل ، وآخرون بالصواعق والعواصف ، وأمثالهم حلّ بهم الفناء وبقت ديارهم وآثارهم عبرة للأجيال بعدهم.

لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة :( فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً ) .

وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله ، والخروج من هذه الدنيا ـ ليس فقط بعدم شراء المتاع ـ وإنّما بالانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار.

ويرى البعض أنّ «حسابا شديدا» و «عذابا نكرا» يشيران إلى «يوم القيامة»

__________________

(١) «كأين» على الرّأي المشهور لعلماء الأدب اسم مركب من «كاف» التشبيه و «أي» مع التنوين الذي دخل في بناء هذا الاسم ، ويقرأ مع الوقف كذلك ، وكتب أيضا في كتابة المصاحف ومعناها كمعنى «كم» الخبرية ، رغم وجود فرق بسيط بينهما. وعلى الرأي غير المشهور فإنّها اسم بسيط وكافها ونونها جزء من الكلمة.

٤٢٥

واعتبروا الفعل الماضي من باب الماضي المراد به المستقبل ، ولكن لا داعي لهذا التكلّف ، خاصّة أنّ السورة تحدّثت عن يوم القيامة في الآيات اللاحقة ، فذلك يدلّ على أنّ المراد بالعذاب هنا هو عذاب الدنيا.

ثمّ يشير تعالى إلى عقابهم الاخروي بقوله :( أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) عذابا مؤلما ، مخيفا ، مذلا ، فاضحا ، دائما أعدّه لهم منذ الآن في نار جهنّم.

والآن( فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا ) .

إنّ الفكر والتفكّر من جهة ، والإيمان والآيات الإلهية من جهة اخرى ، تحذّركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمرّدة التي عصت أمر ربّها ، والإعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم ، فقد ينزل عليكم الله غضبه وعذابه الذي لم يسبق له مثيل إضافة إلى عذاب الآخرة.

وبعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكّرون في آيات الله بقوله :( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ) وهو الشيء الذي يوجب تذكركم.

وأرسل لكم رسولا يتلو عليكم آيات الله الواضحة( رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

علما أنّ هناك خلافا بين المفسّرين في معنى كلمة «ذكر» ولكلمة «رسولا» اعتبر بعضهم أنّ «الذكر» يعني القرآن ، بينما فسّرها البعض الآخر بأنّها تعني (رسول الله) لأنّ الرّسول هو سبب تذكّر الناس ، وطبقا لهذا التّفسير فإنّ كلمة «رسولا» التي تأتي بعدها تعني شخص الرّسول ، وليس في البين كلام محذوف.

ولكن يصبح معنى «الإنزال» هنا هو وجود الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الامّة وبعثه فيها من قبل الله تعالى.

ولكن إذا أخذنا «الذكر» بمعنى «القرآن» فإنّ كلمة «رسولا» لا يمكن أن تكون بدلا ، وفي الجملة محذوف تقديره «أنزل الله إليكم ذكرا وأرسل إليكم رسولا».

٤٢٦

قال البعض : أنّ «الرّسول» يقصد به «جبرائيل» وبهذا يكون النزول نزولا حقيقيّا ، نزل من السماء ، غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة( يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ ) لأنّ جبرائيل لم يقرأ الآيات القرآنية بصورة مباشرة على المسلمين.

وبصورة عامّة ، فإنّ كلّ أي من هذه الآراء يحتوي على نقاط قوّة ونقاط ضعف ، ويبقى التّفسير أو الرأي الأوّل أفضل الآراء أي أنّ «الذكر» يقصد به «القرآن» و «رسولا» يقصد به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وذلك لأنّ القرآن الكريم أطلق على نفسه «الذكر» في آيات كثيرة ، خصوصا أنّها كانت مقرونة بكلمة «إنزال» إلى الحدّ الذي أصبح كلّما جاءت عبارة «إنزال الذكر» تداعى إلى الأذهان القرآن الكريم.

ثمّ نقرأ في الآية (٤٤) من سورة النحل( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) .

وجاء في الآية (٦) من سورة «الحجر»( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) .

وإذا جاء في بعض الروايات عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المقصود من «الذكر» هو رسول الله و «أهل الذكر» هم «الأئمّة» ، فقد يكون المقصود هو المعنى الباطني للآية ، لأنّنا نعلم أنّ «أهل الذكر» في آية( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) النحل (٤٣) ليس خصوص أهل البيتعليهم‌السلام ، بل إنّ شأن نزولها هو علماء أهل الكتاب ، ولكن نظرا لاتّساع معنى الذكر فإنّه يشمل رسول الله كأحد مصاديقه.

على أي حال فإنّ الهدف النهائي من إرسال الرّسول وإنزال هذا الكتاب السماوي ، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وارتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية ، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى.

والواقع أنّ تمام أهداف بعثة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن يمكن تلخيصها بهذه الجملة ، وهي الخروج من الظلمات إلى النور.

٤٢٧

وتجدر الإشارة إلى أنّ «الظلمات» ذكرت بصيغة الجمع بينما ذكر النور بصيغة المفرد ، لأنّ الكفر والشرك والفساد تؤدّي إلى الفرقة والاختلاف ، بينما يؤدّي الإيمان والتوحيد والتقوى إلى الوحدة والتلاحم.

وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله :( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً ) .

وأشار بالفعل المضارع «يؤمن» و «يعمل» إلى أنّ إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان ، وإنّما لهما استمرار وديمومة(١) .

والتعبير بـ (خالدين) دليل على كون الجنّة خالدة ، وبذلك تكون كلمة «أبدا» التي جاءت بعدها تأكيد لهذا الخلود.

والتعبير بـ «رزقا» بصيغة نكرة إشارة إلى عظمة وأهميّة الأرزاق الطيّبة التي يهيّؤها الله لهذه الجماعة ، وقد يتّسع معناها ليشمل كلّ النعم الإلهية في الدنيا والآخرة ، لأنّ الصالحين والمتّقين لهم حياتهم الكريمة حتّى في الحياة الدنيا.

* * *

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ الضمائر في الآية بعضها بصيغة الجمع وبعضها الآخر بصيغة المفرد ، وهذا يعني انّه في الموارد التي جاء بصيغة المفرد يكون بمعنى الجنس والجمع أيضا.

٤٢٨

الآية

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢) )

التّفسير

الهدف من خلق العالم :

هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق ، وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة البارئ جلّ شأنه في خلق السموات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق ، ثمّ تكمل الآية الأبحاث التي وردت في الآيات السابقة حول الثواب العظيم الذي أعدّه الله للمؤمنين المتّقين ، والعهود التي قطعها على نفسه لهم فيما يخصّ حلّ مشاكلهم المعقّدة. إذ من الطبيعي أنّ الذي أوجد هذا الخلق العظيم له القدرة على الوفاء بالعهود سواء في هذا العالم أو العالم الآخر.

يقول تعالى أوّلا :( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ) .

( وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ ) .

بمعنى أنّ الأرضين سبع كما السماوات سبع ، وهذه هي الآية الوحيدة التي

٤٢٩

تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم.

والآن لنر ما هو المقصود من السموات السبع والأرضين السبع؟

مرّت أبحاث مطوّلة في هذا المجال في ذيل الآية (٢٩) من سورة البقرة ، وفي ذيل الآية (١٢) من سورة فصّلت ، لذا نكتفي هنا بإشارة مقتضبة وهي :

إنّه من الممكن أن يكون المراد من عدد (٧) هو الكثرة ، فكثيرا ما ورد هذا التعبير للإشارة إلى الكثرة في القرآن الكريم وغيره ، فنقول أحيانا للمبالغة لو أتيت بسبعة أبحر لما كفت.

وبناء على هذا فسيكون المقصود بالسموات السبع والأرضين السبع هو الإشارة إلى العدد العظيم والهائل للكواكب السماوية والكواكب التي تشبه الأرض.

أمّا إذا اعتبرنا العدد سبعة هو لعدد السموات وعدد الأرضين ، فإنّ مفهوم هذه الآية مع الالتفات إلى الآية (٦) من سورة الصافات التي تقول :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) سيكون شيئا آخر ، وهو أنّ علم البشر ومعرفته مهما اتّسعت فهي محدودة ومتعلّقة بالسماء الاولى التي توجد وراءها ثوابت وسيّارات ستة هي عبارة عن العوالم الاخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيّق.

أمّا الأرضين السبع وما حولها ، فربّما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة ، لأنّ الأرض تتكوّن من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميّا. أو لعلّها تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسّم بها الأرض في السابق وحاليا. علما أنّ هناك اختلافا بين التقسيم السابق والتقسيم الحالي ، فالتقسيم الحالي يقسّم الأرض إلى منطقتين : منطقة المنجمد الشمالي ، والمنجمد الجنوبي. ومنطقتين معتدلتين ، وأخريين حارتين ، ومنقطة استوائية. أمّا سابقا فكان هناك تقسيم آخر لهذه المناطق السبع.

٤٣٠

ويمكن أن يكون المراد هنا من العدد «سبعة» المستفاد من تعبير (مثلهنّ) هو الكثرة أيضا التي أشير بها إلى الكرات الأرضية العديدة الموجودة في العصر الراهن ، حتّى قال بعض علماء الفلك : إنّ عدد الكرات المشابهة للأرض التي تدور حول الشموس يبلغ ثلاثة ملايين كرة كحدّ أدنى(١) .

ونظرا لقلّة معلوماتنا حول ما وراء المنظومة الشمسية ، فإنّ تحديد عدد معيّن حول هذا الموضوع يبقى أمرا صعبا. ولكن على أي حال فقد أكّد علماء الفلك الآخرون أنّ هناك ملايين الملايين من الكواكب التي وضعت في ظروف تشبه ظروف الكرة الأرضية ، ضمن مجرّة المجموعة الشمسية ، وهي تمثّل مراكز للحياة والعيش.

وربّما ستكشف التطورات العلمية القادمة معلومات أوسع وأسرار اخرى حول تفسير مثل هذه الآيات.

ثمّ يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه( يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ ) .

وواضح أنّ المراد من «الأمر» هنا هو الأمر التكويني لله تعالى في خصوص إدارة وتدبير هذا العالم الكبير ، فهو الهادي وهو المرشد وهو المبدع لهذا المسار الدقيق المنظّم ، والحقيقة أنّ هذه الآية تشبه الآية (٤) من سورة السجدة حيث تقول :( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ) .

على أي حال فإنّ هذا العالم سيفنى ويتلاشى إذا ما رفعت عنه يد التدبير والهداية الإلهية لحظة واحدة.

وأخيرا يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول :( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) .

__________________

(١) تفسير «المراغي» ، ج ٢٨ ، ص ١٥١ ، في حديث نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لهذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض.(تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ١٥).

٤٣١

كم هو تعبير لطيف ، إذ يعتبر الهدف من هذا الخلق العظيم هو تعريف الإنسان بصفات الله في علمه وقدرته ، وهما صفتان كافيتان لتربية الإنسان.

ومن ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ الله محيط بكلّ أسرار وجوده ، عالم بكلّ أعماله ما ظهر منها وما بطن. ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد الله في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين ، كلّ ذلك غير قابل للتخلّف والتأخّر.

نعم ، إنّ هذا الخالق العظيم الذي له هذه «القدرة والعلم» والذي يدير هذا العالم بأجمعه ، لا بدّ أنّ أحكامه على صعيد تنظيم علاقات البشر وقضايا الطلاق وحقوق النساء ستكون بمنتهى الدقّة والإتقان.

أوردنا بحثا مفصّلا حول موضوع «الخلقة» في ذيل الآية (٥٦) من سورة الذاريات.

الجدير بالذكر أنّ هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم تبيّن الهدف من خلق الإنسان أو الكون ، وقد تبدو مختلفة ، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنّها ترجع إلى حقيقة واحدة.

١ ـ في الآية (٥٦) من سورة الذاريات يعتبر «العبادة» هي الهدف من خلق الجنّ والإنس( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

٢ ـ وفي الآية (٧) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السموات والأرض :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) .

٣ ـ في الآية (١١٩) من سورة هود يقول : إنّ الرحمة الإلهية هي الهدف «ولذلك خلقهم».

٤ ـ وفي الآية مورد البحث اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف «... لتعلموا ...».

٤٣٢

إنّ تدقيقا بسيطا في هذه الآيات يرينا أنّ بعضها مقدّمة للبعض الآخر ، فالعلم والمعرفة مقدّمة للعبودية ، والعبادة هي الاخرى مقدّمة للامتحان وتكامل الإنسان ، وهذا مقدّمة للاستفادة من رحمة الله «فتأمّل!»

ربّنا قد عرفتنا بهدف خلقك العظيم فأعنا على الوصول إلى ذلك الهدف.

اللهمّ ، إنّ رحمتك واسعة وكرمك دائم وقدرتك نافذة ، فأفض علينا من رحمتك.

اللهمّ ، إنّك أنزلت القرآن والرّسول لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فأخرجنا من ظلمات الذنوب وأهواء النفوس وأنر قلوبنا بنور الإيمان والتقوى.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الطلاق

* * *

٤٣٣
٤٣٤

سورة

التّحريم

مدنيّة

وعدد آياتها اثنتا عشرة آية

٤٣٥
٤٣٦

«سورة التّحريم»

محتوى السورة :

تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسيّة :

القسم الأوّل : يرتبط بقصّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه ، فنزلت الآيات من ١ ـ ٥ وفيها لوم لزوجات الرّسول لأسباب سنذكرها في سبب النزول.

القسم الثّاني : خطاب لكلّ المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب ، وهو من الآية ٦ ـ ٨.

القسم الثّالث : وهو الآية التاسعة التي تتضمّن خطابا إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضرورة مجاهدة الكفّار والمنافقين.

القسم الرّابع : وهو القسم الأخير للسورة ، من الآية ١٠ ـ ١٢ ويتضمّن توضيحا للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء ، وهما (مريم العذراء ، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح ، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الاقتداء بالنموذجين الأوّلين.

فضيلة تلاوة سورة التحريم :

في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة يا أيّها النّبي لم تحرّم ما

٤٣٧

أحل الله لك أعطاه الله توبة نصوحا»(١) .

وفي حديث عن الإمام الصادق قال : «من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه الله من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن وعوفي من النار وأدخله الله الجنّة بتلاوته إيّاهما ومحافظته عليهما لأنّهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣١١.

(٢) (ثواب الأعمال) طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٦٧.

٤٣٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) )

اسباب النّزول

وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث

٤٣٩

والتّفسير والتاريخ ، عن الشيعة والسنّة ، انتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي :

كان رسول الله يذهب أحيانا إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتّى «تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ عليها الأمر ، ولذا قالت : إنّها قد اتّفقت مع «حفصة» إحدى (أزواج الرّسول) على أن يسألا الرّسول بمجرّد أن يقترب من أيّ منهما بأنّه هل تناول صمغ «المغافير» (وهو نوع من الصمغ يترشّح من بعض أشجار الحجاز يسمّى «عرفط» ويترك رائحة غير طيّبة ، علما أنّ الرّسول كان يصرّ على أن تكون رائحته طيّبة دائما) وفعلا سألت حفصة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا السؤال يوما وردّ الرّسول بأنّه لم يتناول صمغ «المغافير» ولكنّه تناول عسلا عند زينب بنت جحش ، ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى ، خوفا من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ «المغافير» وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرّسول قد حرّم على نفسه طعاما حلالا فيقتدون بالرّسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم ، أو خوفا من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك.

لكنّها أفشت السرّ فتبيّن أخيرا أنّ القصّة كانت مدروسة ومعدّة فتألّم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك كثيرا فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرّر ذلك مرّة اخرى في بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وجاء في بعض الروايات أنّ الرّسول ابتعد عن زوجاته لمدّة شهر بعد هذا الحادث(٢) ، انتشرت على أثرها شائعة أنّ الرّسول عازم على طلاق زوجاته ، الأمر الذي أدّى إلى كثرة المخاوف بينهنّ(٣) وندمن بعدها على فعلتهن.

* * *

__________________

(١) هذا الحديث أورده في الأصل (البخاري) في ج ٦ ، من صحيحه ص ١٩٤ ، والتوضيحات التي ذكرت في الأقواس تستفاد من كتب اخرى.

(٢) تفسير القرطبي وتفاسير اخرى ذيل الآية مورد البحث.

(٣) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ١٦٣.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

الهرمية، ومن قبيل ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (١) ، الدالّ على أنّ دور الهادي هو الهداية الإيصالية، ومن قبيل الروايات الدالّة على أنّ الإمام يحضر على الصراط في الحشر والنشر.

ويوافق هذا اضطراب الأُطروحة الصوفية في الإمامة والولاية، مع ضمور ما انتهوا إليه بالقياس إلى ما ورد في الروايات ممّا يشفّ عن أنّهم ليسوا أصحاب النظرية.

ولابدّ من التنبّه إلى أنّ واحدة من ألوان الاختراق الفكري هي مسخ المفاهيم عن حقيقتها واستبدالها بمحتوى آخر، ويأخذ هذا اللون من الاختراق طابع الثبات في الذهنية العامّة في بعض حالاته، فتقع الأُمّة في شرك التحريف من دون أن تشعر؛ وذلك لأنّ عملية المسخ لم تأت معلنة وإنّما متلبّسة بصورة الحقّ، حيث استغلّ القائمون بهذه المهمّة فكر العلاقات بين المعاني والمعاني وبين ألفاظها مع المعاني كذلك أو وحدها، بعد التفاتهم إلى أنّ اللفظ يكتسب حسناً من معناه الحسن؛ نتيجة العلقة الوطيدة بين اللفظ والمعنى، والكناية والاستعارة والمجاز العقلي مرتبط كلّه بهذا المجال الذي ذكرناه، وهو معبّر عن بعد إيجابي في اللغة.

ولكن البعض قد يستفيد من لفظ محبّب إلى القلوب، أو ذي قداسة وحرمة لمحبوبيّة أو حرمة محتواه، بتفريغه من محتواه واستبدال المعاني بمعاني أُخر، فضلاً عن تقنيع المعاني بألفاظ أُخرى ووضع محتوى جديد له لا يمتّ إلى الدين بصلة، كاستعمال العدالة في الظلم الخاصّ، ومن ثمّ قيل: من أجل تحريف الدين يكفي مسخ المعاني دون التلاعب بالألفاظ (٢) .

____________________

١) سورة الرعد ٧: ١٣.

٢) الاعتراضات على الشيعة في قضية البطون: =

٤٨١

كما يمكن أن يكون ذلك واحدة من حِكَم ومبرّرات حرمة التعرّب بعد الهجرة، وهو يشمل استيطان بلاد الكفر وما يسمّى بالمهجر مطلقاً، وهو الوقوع في عملية مسخ في محتوى الدين. وعلى هذا الأساس كانت أوّل مهمّة لابدّ أن ينجزها الباحث هي التأكّد من ضبط معنى اللفظ قبل أن يدخل في التفاصيل.

وواحدة من الألفاظ التي تعرّضت لهذا النوع من المسخ للمعنى كلمة الباطن و(الغيب)، حيث أصبحت تعبّر عن اتّجاه منحرف فاقد للشرعية، فوصمت اللفظتين بهذا الطابع السلبي، ومن هنا فإنّ فكرة البطن في الفكر الشيعي وإن كانت حقيقة؛ لكون أئمّة أهل البيت هم المطّلعين على اللوح المحفوظ والكتاب المبين والكتاب المكنون، ولكن بالمعنى الذي مرّ، تحديده مع العلاقة التي ألفتنا إليها بين البطن والظهر.

الفائدة الرابعة:

إنّ القضايا التي تعرّض لها موسى مع الخضر قد وقعت بنفسها له من قبل، فوضْع أُمِّه له في اليم يشبه خرق السفينة من جهة تعرّضها للغرق ولم تغرق، وقتله للقبطي، وهو لم يكن مقصوداً، يشبه قتل الخضر للغلام، واستسقائه لبنات شعيب، وعدم أخذه الأجرة مع جوعه وضناه الشديد على ذلك، كإصلاح الحائط

____________________

= ١ - توسعة مع إغراق في الجانب الغيبي للأئمّة؛ وذلك لاستحكام الجانب الحسّي المادّي لأصحاب الاعتراض.

٢ - تطبيق الظاهر على الغيب بغرض التناسب بينهما بالشكل الذي مرّ؛ وذلك لحصر أصحاب الاعتراض الشريعة ومعارف الدين في ظاهر الألفاظ وإنكار العملي غير اللساني للتأويل الحقّ.

٣ - تصوير المنظومة الهرمية وأنّ قطبها الإمام عليه‌السلام ؛ وذلك لحصر أصحاب الاعتراض آليات وأدوات الإدارة والتدبير للنظام البشري بما يكون على السطح المعلن الرسمي.

٤٨٢

من دون أخذ الأجرة مع جوعهما. فهذه الأُمور الثلاثة التي حصلت للخضر كانت قد حصلت له مثيلاتها ممّا يكشف عن موازاة بين ما وقع لكلّ منهما.

وهذا مصداق لما قيل في بحوث المعرفة؛ من أنّ كلّ إنسان في كلّ حادثة تقع له تكون مورداً لاستغرابه قد وقعت له حادثة شبيهة لها من قبل ولم يستغرب منها؛ لأنّه كان عارفاً بأسبابها آنذاك، ولكنّه غفل عنها عند الاستغراب الآن، بل كلّ ما سيقع للإنسان في مستقبل أيامه وفي البرزخ وعرصات يوم القيامة كلّها يندرج في قوله تعالى: ( هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) (١) .

وقد ظهرت تفسيرات متعددة لهذه الموازاة:

أوّلها: تفسير أهل المعنى والذوق.

أن يُري اللَّه تعالى عباده أنّ سرّ القدرة هو تكرّر ما يجري في السابق على أساس وحكمة.

وثانيها: تفسير المفسّرين.

لأجل إعلام موسى أنّ علمه محدود وأنّ الإحاطة الكلّية محجوبة عنه. وهذا التفسير مقبول على شرط أن لا يتنافى مع العصمة.

ولكن كلا التفسيرين ناقصان، ومن ثمّ نقدّم تفسيراً ثالثاً مقتبساً من القرآن متمّماً لهما، وهو:

إنّ هناك تطابقاً بين عالم القضاء والقدر والإرادات التكوينية، أي بين السنن الكونية الإلهية، وبين الشريعة بحسب الظاهر، وأنّهما جميعاً تسعيان لغاية واحدة ولا تتخلّف في الجميع.

ومن ثمّ يفهم قوله تعالى: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) (٢) وقوله تعالى: ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (٣) ،

____________________

١) سورة البقرة: ٢٥.

٢) سورة البقرة: ٩.

٣) سورة الأنفال: ٣٠.

٤٨٣

ورتّب على ذلك ما في قوله تعالى: ( لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّى‏ءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ ) (١) . إذ يتصوّر هؤلاء أنّهم نقضوا إقامة الشريعة الظاهرة بمكرهم ودسائسهم، فأجابهم القرآن بأنّ عملهم هذا وإن كان رأس فتنة الشرّ ومكرهم تكاد تزول الجبال منه، كما هو الحال في شر إبليس، إلاّ أنّه في مجموع نظام الخلقة يصبّ في تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة من دون أن يشعروا، إذ الإرادات التكوينية تأخذ مجالها نحو غايتها، وهي في نفسها غاية الشريعة بحسب الدرجتين، وهذا لا يعني نفي شرّية عملهم ولا نفي شرّية إبليس ولا مشروعيته، إلاّ أنّ الباري تعالى يوظّفه في منظومة الخير كما هو الحال في العقرب، والأفعى، والذئب.

وهذا العالم هو عالم القضاء القدر والإرادات التكوينية قد يعبّر عنه بعالم الملائكة كما في لغة القرآن، وقد يعبّر عنه بعالم العقول والنفوس الكلّية كما في لغة الاصطلاح الفلسفي، حيث جعل العقل الأخير والعقول التي قبله تعبيراً عن القضاء، والنفس الكلّية تعبيراً عن لوح القدر، وقد يعبّر عنه بعالم الأنوار والأرواح والنفوس، مع مغايرة الثالث للثاني بأنّه أدنى درجة، كما استقرّ عليه الاصطلاح عند أهل المعرفة، أخذاً له من الشرع، وهو عالم الولاية.

وهذا العالم ذو درجات متسلسلة تكويناً، وقد عبّر عنه الفلاسفة بالنظام العليّ والعلمي، ونظام الوجوب والعلم، مع استثناء لوح القدر حيث لا يكون مبرماً.

وقد لوحظ على الحكماء بأنّ فهمهم وإحاطتهم بهذه العوالم محدودة، ومن ثمّ لم يعكسوا لنا إلاّ صورة نظام جامد يفتقد الحياة، ومن ثمّ لم يتفاعل الناس معهم كما تفاعل مع الأنبياء والأوصياء ومن بعدهم أهل المعنى، حيث قدّموا صورة مفعمة بالحياة لتلك العوالم، وأعطوا صورة عنها بأنّها موجودات حية مختارة، مع

____________________

١) سورة فاطر: ٤٣.

٤٨٤

حفظ الفارق أيضاً بين تصوير العرفان والدين، في حين لم يتمكّن الحكماء إلاّ بتقديم كلّيات تؤمن حالة من المعرفة من بعيد لا أكثر. والمتكلّم اعتمد على الحسن والقبح وفيه حيوية العقل العملي، ومن ثمّ كان واحداً من امتيازاته.

وبعبارة أُخرى: إنّ الفلاسفة وإن قبلوا أنّ الملائكة موجودات حيّة مختارة، ولكنّهم في الوقت نفسه قالوا بأنّها أسباب تكوينية لا تتخلّف، مع تركيزهم على هذه الزاوية في عموم كلماتهم، ومن ثمّ فسّروا الأمر في: ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ) (١) ، و ( هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٢) والأمر بالسجود لآدم، بأنّها ليست أمراً اصطلاحياً، وإنّما بالأسباب التكوينية التي لا تتخلّف، وهي لفتة صحيحة وغير صحيحة بمعنى آخر!

فهي صحيحة: من جهة أنّه ليس هناك أوامر اعتبارية وإنشاءات وشريعة ظاهرة.

وهي غير صحيحة: من جهة أنّها أوامر حقيقية، فلا مبرّر لتأويلها بالسبب الموهم لانعدام الاختيار، وإن كان الفلاسفة لا ينفون الاختيار، وإنّما هي شريعة كونية في الإرادات الإلهية التكوينية، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : (إنّ حكم اللَّه في أهل السماء والأرض واحد) (٣) ، فهم مختارون حقيقة، وإمكان المخالفة موجودة وباب التكامل مفتوح، فقد ورد أنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً.

نعم: المخالفة لا تكون بالمعصية؛ فإنّ القرآن صريح في أنّهم لا يعصون، كما أنّهم لم يتوفّروا على داعي المعصية - كما جاء في الحديث الشهير - وهي الشهوة

____________________

١) سورة التحريم: ٦.

٢) سورة الأنبياء: ٢٧.

٣) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.

٤٨٥

والغرائز الحيوانية، وإنّما تتحقّق المخالفة بترك الأولى الناشئ من محدودية العلم بسبب محدودية وجودهم، فيقعون في مخالفة الواقع الأوّلي.

وتصوير إمكان المخالفة في عالم النفوس الكليّة أوضح، حيث إنّها تحتاج إلى تأمّل ورَويّة في أخذ قرار العلم، بالإضافة إلى محدودية الوجود واختلافها في درجة العلم مع الملائكة التي من سنخ العقول.

وبهذا العرض يمكن أن نفهم اعتراضهم (أتجعل فيها) ، وقضية (فطرس) وعشرات الروايات التي يظهر منها تخلّف الملائكة عن الصواب، لكن بنحو ترك الأولى لا المعصية، بل إنّ الموجود كلّما تجرّد كلّما كان أقوى وجوداً وصفة ومنها الاختيار والحياة، فالملائكة أشدّ اختياراً وحياةً، ومع تصوير القدرة البشرية لابدّ أن تكون هذه القدرة موجودة هناك وبنحوٍ أرقى وأشدّ.

وبعد كلّ هذا يتّضح أنّ فكرة الأمر والنهي متصوّرة في عالم الملائكة بشقّيه العقلي والنفسي، فلا داعي للتأمّل، بل بهذا العرض يتبين الوساطة في الفيض، وفي قوس النزول أيضاً علّة اختيارية، ما به الوجود لا ما منه الوجود؛ فإنّه خاصّ به تعالى. وقد قرّر ذلك في مباحث الفلسفة أيضاً، إلاّ أنّ نمط البحث العقلي النظري لا يترقّى في تصويره إلى بيان أنّ نظام الأسباب في حين كونه نظام وجوب؛ فهو بأفعال اختيارية تنفيذاً للأمر الإلهي.

ويتّضح أنّ المطلب الذي أوقع البحث العقلي في التقريب الناقص للموضوع، وإلى حدٍّ قد ينعكس منه الجبر وأنّ القضية ذات نظام ذاتي لا يمكن الخروج عنه، نظير ما قالته اليهود من أنّ يد اللَّه مغلولة، هو اعتمادهم على لغة العقل وحده منفصلاً عن النقل.

والمؤسف أنّ البعض لم يرضَ بالنقلة الإيجابية التي خطاها صدر المتألّهين في حكمته حيث طعّمها بالقرآن والسنّة، آخذاً عليه أنّه خروج عن منهج البحث

٤٨٦

الفلسفي الذي يتطلّب التمحّض في العقليات.

ولا نقصد بذلك التفكيك في العمل بالنقل بمعزل عن العقل، وإنّما الغرض هو التنبيه على عدم الجمود على القواعد الفلسفية والعرفانية والكلامية مع ضرورة الخوض فيها، وأنّها بدونها تكون عملية التفقّه في العقائد سطحية، لكن اللازم الترقّي بالتوغّل أكثر في روايات أهل البيت؛ لاكتشاف المعارف التي قصرت المناهج عن الوصول إليها، مع أنّها مدلَّلة بنكات بينة في الروايات، لكن لم يحصل التنبّه إليها في العلوم العقلية، بل جملة كثيرة مترامية من المسائل لم تعنون في البحوث العقلية.

وبعد كلّ هذا، اتّضح نظام عالم الملائكة وأنّه مختار ومتكامل ومعصوم، ووقوع المخالفة لإرادة المولى بنحو ترك الأولى بسبب الجهل الممكن تلافيه، ومن ثمّ أمكن تعقّل الأمر والنهي الحقيقيين فيه، وأنّه لا يختلف عن البشر إلاّ في قضية الشهوة والغرائز، ويشترك معه في باقي الخصوصيات. وهذا ما يستفاد من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام - في بيان أمر اللَّه الملائكة بالسجود لآدم وإباء إبليس -: (فمن ذا بعد إبليس يَسلَمُ على اللَّه بمثل معصيته؟ كلاّ، ما كان اللَّه سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمرٍ أخرج به منها ملكاً، إنّ حُكمَه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين اللَّه وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حِمىً حرّمه على العالمين) (١) .

فصريح كلامه عليه‌السلام أنّ الأحكام الإلهية بحسب دائرة الدين واحدة لأهل النشأة الأرضية والنشآت الأُخرى، فدين اللَّه واحد في العوامل وليس يخصّص بدار الدنيا، وكلامه عليه‌السلام يشير إلى قوله تعالى: ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) (٢) .

____________________

١) نهج البلاغة، الخطبة القاصِعة.

٢) سورة آل عمران: ٨٣.

٤٨٧

ومن ثمّ نقول: إنّ هذا النظام الملائكي قد كلّف بشريعة مطابقة لشريعة السنن الإلهية الكونية والظاهرة، بعد التذكير بأنّنا قد انتهينا من تصوير الشريعتين الظاهرة والكونية في نظام التكوين، بأنّها شريعة واحدة والوسيلة في التلقّي والتطبيق مختلفة، بيان ذلك:

إنّ الشريعة الظاهرة عبارة عن صفحة نازلة قد دُوّن فيها كلّ ما في عالم التكوين في قوس الصعود والنزول ونشأة الدنيا وهي الواقعة بين القوسين، نهاية الأوّل وبداية الثاني، وبهذا التصوير يفهم قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (١) ، فإنّه يدلّ بوضوح على عدم وجود شرعة أجنبية عن شرعة الظاهر.

وبهذا نصل إلى نتيجة وهي: إنّ القضايا التكوينية التي واجهها موسى قبل لقائه بالخضر المشابهة للقضايا التي شاهدها مع الخضر، أيضاً مطابقة لشريعة الظاهر بنفس البيان، سوى أنّ القضايا التي واجهها موسى أوّلاً حديث ضمن المسار التكويني، والتي واجهها ثانياً مع الخضر حدثت على أساس الشريعة الكونية.

الفائدة الخامسة:

إنّ الأئمّة عليهم‌السلام يطبّقون الشريعة الكونية في السنّة الإلهية التكوينية ويعملون بموازينها جنباً إلى جنب عملهم بالشريعة بدرجة الظاهرة.

وبتعبير آخر: إنّ الأئمّة في تطبيقهم للشريعة الظاهرة يستخدمون كلتا الوسيلتين: العلم اللدنّي والعلم الحسّي، ويشهد لذلك تعليلهم لبعض القضايا بعلم القضاء والقدر، مثل: (شاء اللَّه أن يراهنّ سبايا).

وشاهد آخر: إقدامهم على ما يعلمون، كالإقدام على القتل، فإنّ تفسيره

____________________

١) سورة النحل: ٨٩.

٤٨٨

الصحيح هو العلم اللدنّي، حيث كان استشهادهم بعد إجراء قانون التزاحم بين الملاكات الكاملة أولى (١) .

وظهر أيضاً: أنّ مهمّة الهداية الإيصالية لا تخصّ الملائكة - كما يظهر ذلك من العامّة - بل تعمّ قسماً من البشر الذين يتمتّعون بمواصفات خاصّة، بل يظهر من القرآن أنّهم أكمل من الملائكة. وظهر كذلك أنّ الإمامة غاية النبوة وأنّ الهداية الإيصالية غاية الهداية الإرائية.

وهذه النكتة هي المحور الأصلي في القصّة، بقرينة أسى النبي الذي ورد في أوّل السورة: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ) (٢) ، فكانت قصّة الخضر وغيرها لتطمين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الهداية الإيصالية موجودة وبواسطتها ستتحقّق الأغراض المجموعية والفردية للشريعة الظاهرة.

فإنّ الإرادة الإلهية لمّا كانت تعني بالتحفّظ على أغراض الشريعة الكلّية في الجزئيات التفصيلية بالنسبة إلى عموم المجتمع، وبالأغراض التي تعدّ استراتيجية بالنسبة إلى الشريعة الظاهرة، كما نلحظ ذلك في قضية الخضر، فإنّه يدلّ بالأولوية

____________________

١) نحن لا نرمي بأطروحتنا هذه التفكيك والعمل بالنقل بلا أُصول وبمعزل عن العقل، وإنّما أردنا التنبيه على عدم الجمود على قواعد الفلسفة والعرفان والكلام، مع قبول فائدتها لتكون عملية التفقّه في العقائد تامّة، وإنّما لابدّ من الترقّي بالتوغّل أكثر في الكتاب وروايات أهل البيت لاكتشاف معارف قصرت المناهج تلك من الوصول إليها، وهي مستمدّة ومعتمدة على قواعد بديهية في الروايات لم يتنبّه إليها في الفلسفة، بل قد تدفع إلى إعادة النظر في تلك القواعد كالحركة التكاملية في المجرّدات.

فلا معنى للجمود على قواعد نظرية قد تكون مترامية في نظريتها، وتأويل ما هو بديهي‏ ونصّ في الروايات من أنّ هناك حركة اختيار ومخالفة الأمر في عالم الملائكة.

٢) سورة الكهف: ٦.

٤٨٩

على أنّ الإرادة الإلهية والهداية الإيصالية لا تهمل ما كان بالغ الأهمّية في الشريعة الظاهرة كالشؤون المرتبطة بالدولة والحكم وهداية المجموع.

الخلاصة:

وهذا استعراض لأهمّ المحاور التي وردت في هذه الآيات الكريمة:

المحور الأوّل: وجود تشكيلة من أولياء اللَّه الذين اختارهم اللَّه حججاً على عباده يقومون بدور وظّفوا له ومن وراء الستار، وقد جاء في سورة الكهف (١) ذكر مواصفاتهم.

المحور الثاني: إنّ الإمامة غاية النبوّة، وقد جاءت القصّة لتؤكّد هذا الأمر وطمأنة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الهداية الإيصالية ستتكفّل تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة والهداية الإرائية التي قام بها الرسول الأعظم على أكمل وجه.

المحور الثالث: هناك قسم آخر من الحجج وراء الرسالة والنبوّة والإمامة، والذي تمثّله الزهراء عليها‌السلام ومريم عليها‌السلام والخضر عليه‌السلام مع حفظ الفارق، وقد أشارت الروايات (٢) إلى هذا القسم.

المحور الرابع: وجود شريعتين ظاهرة وكونية في الإرادات ومن دون بينونة بينهما.

المحور الخامس: الملاك والحكم في الشريعتين أو درجتي الشريعة واحد، إنّما الاختلاف في وسيلة الإحراز والإنفاذ.

المحور السادس: التزاحم الملاكي ظاهرة غالبة في الشريعة الكونية، وحلّه هو ترجيح أحد الملاكين الأهم، يتمّ بواسطة العلم اللدنّي بعد مقايسة بين الملاكين ولكن لا بحدود ضيقة مقطعية.

المحور السابع: إنّ الملائكة في قوس النزول مخاطبون ومكلّفون بالدين

____________________

١) سورة الكهف: ٤٥.

٢) البحار، ج٢٣، باب أنّ الأئمّة محدّثون.

٤٩٠

والشريعة في السنن والإرادات الإلهية الكونية، بعد أن كانت لهم إرادة واختيار وتكامل، ممّا يمكن به تعقّل التكليف والطاعة والمخالفة، مع قبول عصمتهم وأنهم لا يعصون اللَّه ما أمرهم، مع الالتفات إلى تبعيتهم في الدين للأنبياء والرسل الذين لهم مقام الإمامة وخلافة اللَّه في الأرض، كما أسجدهم الباري تعالى لآدم، والذي يهدف إلى خضوعهم وتبعيتهم لخليفة اللَّه في أرضه، هذا بعد أن كانت شرائع الأنبياء مشتملة على قوس النزول والصعود والفروع.

وبعبارة أُخرى: أنّ الشرائع التي بُعث بها الأنبياء وإن كانت مختصّة بأهل الأرض من الإنس والجنّ لكنّ الدين المتّحد بين الأنبياء فهو عامّ لأهل السماء والملائكة، كما أنّه عامّ لكلّ النشآت والخلائق.

المحور الثامن: ولاية كلّ نبيّ ورسول مقامٌ أرفع من نبوّته وإمامته، ولكنّ النبيّ أرفع مقاماً من الوليّ الحجّة المعاصر له؛ حيث كان الأوّل محيطاً بالإرادات الكلّية والثاني بالجزئية، فهو تابع للأوّل.

المحور التاسع: إلفتنا لأقسام التأويل، وفرق الباطن عن الظاهر، وفرق الشريعة الكونية عن الظاهر، ولمّا كان الأوّل مأخوذاً فيه الانتهاء والرجوع أمكن أن نضع إصبعنا على الجامع بين الأقسام: إنّ كلّ عالم سابق له تأويله في اللاحق.

ونضيف: أنّ هناك عكس التأويل، فعالم الذرّ والميثاق يفسّران العديد من الظواهر التي تجري لأشخاص في النشأة، وبتعبير أوضح: كما أنّ النشأة اللاحقة تأويل للسابقة، كذا السابقة لها نوع تفسير لِلاّحقة، وهذا هو الذي أشارت له أخبار الطينة: (لو علم الناس كيف خلق اللَّه تبارك وتعالى هذا الخلق لم يلم أحدٌ أحداً...) (١) وكذا روايات الذرّ والميثاق.

____________________

١) الكافي، ج٢، ص٤٤.

٤٩١

المحور العاشر: إنّ الهداية الإيصالية هداية المجموع والجميع؛ فإنّها كما تُعنى بالأغراض المرتبطة بالمجموع البشري كذا تُعنى بأغراض كلّ فرد بل حتّى الواسطة.

النموذج الثاني القرآني: قصّة ذي القرنين.

سيتمّ الإلفات إلى المحاور التالية:

١ - مرتبة ذي القرنين.

٢ - القوّة التي مُنحت له.

٣ - التدبير الإلهي لجزئيات وتفاصيل المجتمع البشري في قصّة ذي القرنين.

٤ - ربط القصّة بالمحور الأصلي في سورة الكهف.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ ) ، ظاهر في أنّ قصّة ذي القرنين شائعة لدى الأقوام، وأنّ الرجل وقصّته حقيقة تاريخية عاشتها البشرية.

قوله تعالى: ( سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ) ، ظاهر في أنّ القرآن لا يروي كلّ تفاصيل القصّة، وإنّما يقتصر على بعض ملامحها.

قوله تعالى: ( إِنَّا مَكَّنَّا ) تعريف بشخصيّة الرجل كما في قصّة الخضر حيث ابتدأت بالتعريف به، وهذا التمكين هبة وأنّ التمكين هاهنا تمكين لدنّي. والتمكين لا يطلق على المُلك اليسير وإنّما على الملك الواسع العظيم، ومن ثمّ ذكر ذلك في سورة يوسف والآيات الواردة في نشأة المهدي عليه‌السلام في جانب الخير، وفي عاد ونمرود في جانب الشرّ.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَبًا ) ، لا سبب كلِّ شي‏ء، ولكن مع كون (من) تبعيضية إلاّ أنّها دخلت على (كلّ شي‏ء) ، ومن ثمّ شكّل هذا الإعطاء ميزة وخصوصية لذي القرنين؛ لأنّ (كلّ) تفيد

٤٩٢

العموم، ومدخولها في غاية الإبهام والعمومية.

قوله تعالى: ( سَبَبًا ) ، لم يُستعمل في القرآن في غير ذي القرنين، نعم ذكرت منفية عن غيره، مثل: ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ ) (١) ، و ( لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ ) (٢) ، و ( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (٣) . والسبب في اللغة: كلّ شي‏ء يقتدر به على شي‏ء آخر، سوى أنّه في القرآن استعمل في الوسيلة غير المتعارفة.

وهذا الإعطاء حَبوة إلهية ومنحة، وهي القدرة اللدنّية؛ بقرينة أنّه لم يذكر لغيره، وأنّه أردف الإتيان بالسبب، وأنّ ذا القرنين من الأولياء الحجج كما سيأتي، وأنّه قد استعملت فيه نفس التعبيرات المستعملة في سليمان.

ثمّ إنّ المراد من السبب في عالمنا - كما يظهر من الروايات وجاء في كلمات الحكماء والمتكلّمين - المعدّ، لا سيّما في عالم المادّة، لا الفاعل ومعطي الوجود؛ فإنّه منحصر به تعالى، فهو ما منه الوجود وغيره ما به الوجود.

ويترتّب على ذلك أنّ كلّ المعادلات والقوانين في هذا العالم لا ضرورة بتّية فيها بعد أن لم تكن الظواهر من الأسباب سوى معدّات تعدّ القابل وتهيئه لاستقبال الفيض الإلهي، بل ليس معدّات عالم الطبيعة هي تمام المعدّات، بل توجد معدّات أُخرى ملكوتية فضلاً عن الأسباب الفاعلية، لا سيّما أنّ بعض الأسماء الإلهية تقتضي بعض المعدّات التي لا نعلم بها.

وبه يمكن تفسير جملة من التخلّفات مثل: ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٤) ، ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ... ) .

والواو فيها استئنافية، فيكون المفاد أنّه بالإضافة إلى تمكينه - الذي قُيّد بـ (في

____________________

١) سورة ص: ١٠.

٢) سورة غافر: ٣٦.

٣) سورة البقرة: ١٦٦.

٤) سورة الأنبياء: ٦٩.

٤٩٣

الأرض) - الإيتاء وهو المنسجم مع عمومية التعبير الذي سبقت الإشارة إليه، وهو الظاهر من الروايات حيث ذكرت أنّها من أسباب السماوات والأرض، بل الظاهر من الروايات أنّه أوتي ملكوت السماوات والأرض، حيث جاء التعبير بـ (كشط له).

( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) من تلك الأسباب.

( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) سار بالأسباب التي زوّد بها، وقد ذكرت الروايات أنّه كان يسير في فتوحاته بالزئير.)مغرب الشمس(إشارة إلى أقاصي الأرض، وقد يقال بأنّ رحلته فضائية في السماء كما مرّ إشارة الروايات إلى أنّ الأسباب التي أوتيها سماوية وأرضية وأنّه (كُشط له).

قوله تعالى: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) ، خطاب مباشر منه تعالى لذي القرنين، ومن ثمّ قيل إنّه نبيّ، ولكنّه خلاف ظاهر القرآن حيث لم يصفه بالنبوّة ولا بالبعثة والرسالة، مع أنّه في مقام الإجابة عن التساؤل عن الغموض في حال ذي القرنين.

وهذا هو الظاهر من الروايات أنّه محدّث، كما يلاحظ ذلك في أجوبة الأئمّة عليهم‌السلام عندما كانوا يُسألون عن علمهم فكانت الإجابة أنّه كصاحب موسى وذي القرنين، أي ليست علومهم بنبوّة، ولكنّه علم لدنّي معصوم، والوحي المباشر لا يعني النبوّة وإنّما التشريف والحظوة في الاصطفاء، نظير: ( يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

____________________

١) سورة آل عمران: ٤٥ - ٤٧.

٤٩٤

قوله تعالى: ( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا ) ، تدلّ على أنّ الحاكمية - القيادة السياسية والقوّة التنفيذية - أوّلاً وبالذات هي للَّه تعالى، وكلّ حاكم عداه سواء كان نبياً أو وصياً أم غيرهما من الحجج المصطفين، فحاكميته في طول حاكمية اللَّه تعالى. حيث يظهر من الآية أنّ هذا التخيير الإجرائي والتدبير السياسي التفصيلي منحه اللَّه لذي القرنين، ممّا يدلّل على أنّ الحكومة السياسية التنفيذية بيده تعالى، ولم تفوّض للبشر بمعزل عن اللَّه، كما عليه أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. والقيادة السياسية شعبة من شعب الهداية الإيصالية كما سيأتي توضيحه.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) ، والحديثُ الحديث، مع دلالتها على أنّ ذا القرنين كان معنياً بتدبير عدّة مجتمعات وفي مجالات متعدّدة.

قوله تعالى: ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) ، ممّا يكشف أنّهم كانوا في تخلّف مدني حتّى على مستوى الضروريات والأولويات، وقد كُلّف ذو القرنين برفع هذا التخلّف. والروايات أيضاً تدلّ على أنّ من مهام الإمام والولي الحجّة هو رفع هذا النمط من التخلّف، كما في تصدّي الإمام الباقر عليه‌السلام في حساب المسافة في قضية البريد وصكّ النقود، وتصدّي أئمّة أهل البيت لتأسيس جملة من العلوم، كما هو شأن الأنبياء السابقين حيث جاءوا للبشرية بأُسس العلوم (١) ، وهذا مقتضى العناية الإلهية بعد أن كانت لضروريات العيش مدخلية في التكامل الروحي للأُمّة.

قوله تعالى: ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) يدلّ على إحاطة الربّ تعالى بتفاصيل ما يجري وأنّها محور عنايته واهتمامه، فكان كلّ ما يجري تحت نظره.

وبعد اتّضاح الصورة في ملامح ذي القرنين يمكن أن نخرج ببعض النتائج التالية، وهي:

____________________

١) لاحظ كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، للسيد حسن الصدر.

٤٩٥

أوّلاً: إنّ تمكينه في الأرض لأجل استصلاح المجتمعات البشرية وإيصالها إلى الكمال المنشود ببناء حضارتهم ومدَنيتهم بالقدر اللازم، وإرساء العدل، وإفشاء الصلاح ورفع الظلم عنه، كما يبدو ذلك من النماذج التي تعرّض لها القرآن من حياته.

والقرآن - كما ذكرنا سابقاً - يتناول التعريف بالحياة الشخصية للرجالات والأُمم السابقة كسنن إلهية، ويركّز على المحاور ذات العبرة التي تساهم في رسم العقيدة والشريعة، والروايات حدّثتنا عن جملة من الأبعاد الشخصية لهؤلاء.

وما ذكر من ملك ذي القرنين الذي مُكّن منه مع النماذج التدبيرية التي قام بها، تلحظ أنّها وثيقة الصلة في سورة الكهف بالمحور الأصلي وهي طمأنينة الرسول بأنّ الهداية الإيصالية، وهي مقام الإمامة، أنّها هي التي ستحقّق أهداف الرسالة، والهداية الإرائية التي هي مقام النبوّة.

قوله تعالى: ( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) ، تخلّفهم أكثر من القوم الذين التقى بهم سابقاً.

ثانياً: قوله تعالى: ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) ، مع أنّ ذا القرنين أوتي كلّ ما سبق وأنّه منصوب من قبل اللَّه تعالى وفي الوقت الذي زوّد بتلك القدرة اللدنية وقد ملك فيها الدنيا، إلاّ أنّه يطلب الإعانة، ممّا يعني أنّ الغرض الإلهي لا يتحقّق بالإلجاء، وإنّما لابدّ للأُمّة أن تنهض بمسؤوليتها، في الوقت الذي منّ اللَّه عليها بالهداية الإيصالية أي بنصب الإمام لهم.

ومن هنا أمكن أن نفهم توجيه الخطاب بالحكم ووظائف الدولة للأُمّة، وأنّه لا يعني أنّ الولاية بيد الأُمّة كما فهمه البعض، كما لا يعني أنّ الأُمّة مرفوع عنها المسؤولية تماماً في هذا المجال، وإنّما تعني أنّ هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الأُمّة تجاه الحكم والوالي، وهي الإعانة والتجاوب والطاعة، حيث لم تكن سنة اللَّه الإلجاء وكن فيكون في نشأة الدنيا، وبالتالي اليد الواحدة - يد الوالي - لا

٤٩٦

تصفّق، كما في المثل، فنصب الإمام من اللَّه للناس لا يعني إسقاط التكليف عن الأُمّة بنصرته وتمكينه وإقداره من قبلهم، فهناك تكليف مُلقى على عاتق الإمام كما أنّ هناك تكليف مُلقى على عاتق المأمومين وهم الأُمّة.

ثمّ تستعرض الآيات تفصيل بناء السدّ للدلالة على أنّ الأولياء يعملون بالأسباب الظاهرية، على العكس من توقّع الناس أن يكون سيرة ولي اللَّه فيهم كلّها بالإعجاز وخرق الأسباب.

قوله تعالى: ( رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) في حال أنّ بناء السدّ كان من خلال الأسباب الطبيعية، ولكن لم تكن تلك الأسباب مكتشفة آنذاك، ومن ثمّ كان رحمة، حيث اطّلعوا على بعض أسرار الطبيعة.

فتلخّص:

أوّلاً: إنّ هناك قدرة لدنية، زُوّد بها ذو القرنين، وملكاً عريضاً، ربما كان أوسع من ملك سليمان.

وثانياً: وكان برنامجه استصلاح الأقوام البشرية المغلوبة والمتخلّفة والمتناحرة، فأفشى العدل في قوم، وهيّأ ضروريات المدنية لآخرين، وبنى السدّ لثالث.

وثالثاً: وبأسباب طبيعية كُشفت لهم.

ورابعاً: مع نفي الإلجاء وحفظ دور الأُمّة ومسؤوليتها.

وقد ألفت القرآن إلى كلّ هذا في حياة هذا الولي؛ لرفع أسى صلى‌الله‌عليه‌وآله وطمأنته بأنّ الأغراض التي على أساسها كان التشريع ستحقّق من خلال الهداية الأمرية في إمامة الأُمّة، كما قال تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة ) (١) .

____________________

١) سورة الأنبياء: ٧٣.

٤٩٧

النموذج الثالث القرآني: قصة أصحاب الكهف

وهذه السورة متميزة ببحث الإمامة بنحو مركّز جدّاً، ولو سمّيت بسورة الإمامة لكان حرياً، لا سيّما وأنّه ذكر نموذج رابع فيها وهو استخلاف آدم كخليفة للَّه في الأرض، وإطواع جميع الملائكة له، وهذه الواقعة برمتها عنوان كبير لمعتقد الإمامة، فسلسلة البحث في كلّ هذه السورة يدور حول الوصول إلى أهداف الرسالة وغاياتها بتوسّط الإمامة، وأصحاب الكهف وإن لم يكونوا حججاً مصطَفين، إلاّ أنّ الحديث عنهم له صلة بالإمامة من جهة صلة هدايتهم بالهداية الإيصالية، وهي الإمامة عبر قناة الروح لا عبر قناة الهداية الإرائية وهي النبوّة الظاهرة والسماع بالحسّ.

قوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ ) ، بيان أنّ عالمنا عالم الامتحان، فلا إلجاء ولا جبر، كما في قوله تعالى: ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (١) ، وإنّما اختيار واختبار، كما في قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) (٢) .

وقد توسّطت هذه الآية بين آية ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ... ) وقصّة الكهف؛ للتنويه على أنّ الهداية الإيصالية وإن كانت متحقّقة في إمامة الإمام إلاّ أنّ المسؤولية ما زالت قائمة على الأُمّة، ولابدّ أن تخطو باختيارها نحو الكمال ومن اللَّه التسديد والتأييد.

ثمّ إنّ سورة أهل الكهف مكّية، نزلت إثر محاولة قريش إحراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما استعانت بثلاثة أرسلتهم إلى نجران للتوفّر على مسائل معقّدة يعجز عن الإجابة عليها، فكانت: أهل الكهف، وصاحب موسى، وذو القرنين. وقد قال علماء نصارى ويهود نجران: إنّ محمّداً إن أجاب عنها فهو نبيّ وإلاّ فلا، ثمّ طلبوا سؤاله برابعة إن

____________________

١) سورة الغاشية: ٢٢.

٢) سورة تبارك: ٢.

٤٩٨

أجاب عنها فهو ليس بنبيّ، وهو: عن الساعة ومتى هي؟

وتذكر الرواية أنّ الرسول أوعد بالإجابة غداً من دون تعليق وعده على المشيئة الإلهية فحُبس عنه الوحي أربعون يوماً، فاغتمّ وحزن كثيراً، وكذا حزن عمّه أبو طالب عليه‌السلام حتّى نزل الوحي بالإجابة.

والملفت للنظر ترابط هذه القصص الثلاث في فكرة الهداية الإيصالية التي هي حقيقة الإمامة، مع أنّ اليهود اختاروها على أساس من المسائل الصعبة لا أكثر.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتَ ) ، لا دلالة في السورة على أنّ أصحاب الكهف أولياء وحجج، وإنّما هم من القسم الخامس وهو الأولياء غير الحجج، وقد شُرّفوا بمقام أوجب ذكرهم.

قوله تعالى: ( الرَّقِيم ) ، في الروايات أنّ أسماءهم مرقومة في لوح من رصاص، رقّمها الملك الكافر الذي كان يريد قتلهم، أو الذي عرفهم بعد إفاقتهم فرقّم أسماءهم على هذا اللوح ووضعه على قبورهم بعد موتهم.

( أَمْ حَسِبْتَ ) تدلّ على أمرين:

الأوّل: البعث والمعاد كما سنبين.

والثاني: إنّ الغلبة للَّه تعالى، وإن أغراضه ستتحقّق، فهؤلاء مجموعة غلبت على أمرها من رواد الباطل وعلى رأسهم المَلك آنذاك، إلاّ أنّ الدائرة دارت عليهم فانقرضوا وبقيت تلك المجموعة المستضعفة خالدة تشكّل نبراساً للحقّ.

وارتباط هذا البعد بالمحور الأصلي واضح، وأنّه مهما حصل وفعل أهل الباطل، ومهما قويت شوكتهم فلن يعيق تحقّق الغرض الإلهي، فإنّ المغلوب ظاهراً غالب باطناً، أي في الخفاء والمآل.

ومن ثمّ يفهم السرّ في ترديد الرأس الشريف المقطوع للحسين عليه‌السلام المشال على رأس الرمح لهذه الآية المباركة وهو يُطاف به في بلدان أُمّة الإسلام.

٤٩٩

والروايات تشير إلى هذا المضمون.

قوله تعالى: ( الْفِتْيَة ) أشرنا ويأتي تفصيل أنّ هؤلاء ليسوا من الأولياء الحجج، وقصّتهم معجزة. ومن ثمّ نفهم أنّ المعجزة ذات طابع الرحمة تكشف عن شرف من تقوم فيهم وعلوّ مقامهم.

هذا في المعجزة الرحمة، والعكس بالعكس، فالمعجزة العذاب كالقمّل، والضفادع، والدم، تعبّر عن ذلّة من قامت فيه المعجزة وخسّتهم.

كما أشرنا إلى أنّ هؤلاء الفتية صاروا عظة وعبرة وقدوة للبشرية، ممّا يؤكّد أنّ مقامهم وإن لم يصل حدّ الحجّية إلاّ أنّه مقام رفيع ومكانة مرموقة في مجال التكامل المعنوي، ومن هنا جاء في الدعاء: (اللهم إنّي أسألك بكلّ عبد امتدحته فيه)، أي في القرآن. ولم يقتصر القرآن في ذكر هذا النمط من البشر على أصحاب الكهف، وإنّما ذكر آخرين، كمؤمن آل فرعون.

قوله تعالى: ( إِذْ أَوَى ) ، ظاهر في نوع الإلجاء والاستجارة، ويؤكّد ذلك طلبهم الرحمة الخاصّة من اللَّه تعالى، ممّا يكشف عن عمق محنتهم.

قوله تعالى: ( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) ، عبّرت عن كلا الطرفين بالحزب، مع أنّ أهل الكهف قلّة جدّاً، ممّا يدلّ على التفخيم، وأنّهم يمثّلون خطّاً هو خطّ الهداية.

قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ) ، النوم نوع من التُوفّي كما أشار إليه القرآن الكريم، ونظير البعث الإيقاظ من النوم للتعريف بالأطول بقاءً، والتدليل على أنّ الهداية الإيصالية لا تتخلّف، وهذا هو البعد المرتبط بالمحور الأصلي.

وفي الروايات بيّن هدف بعثة أصحاب الكهف من رقدتهم بأنّه: دحض دعوى الكافرين حيث كانوا ينكرون المعاد، كما يشير إليه قوله تعالى: ( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592