الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146472 / تحميل: 9436
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وسوف أستعرض هنا هذه الخاصة دليلا ثالثا من أدلتي على صدق القرآن الكريم، ولقد أنزل القرآن قبل عصر النهضة، ولكن أحدا من الناس لم يستطع ابطال شيء مما جاء به، ولو كان هذا القرآن من كلام البشر، لعد ذلك ضربا من ضروب الاحالة.

***

نزل القرآن في عصر لم يكن الانسان يعرف فيه عن الطبيعة الا القليل النادر، وكانوا يرون أن الأمطار تنزل من السماء، وأن الأرض مستوية، كالفراش، وأن السماء سقف الأرض، وكانوا يرون أن النجوم مسامير لامعة من الفضة مركبة في قبة السماء، أو أنها قناديل معلقة في الفضاء! وكان أهل الهند الأقدمون يؤمنون بأن الأرض محمولة على أحد قرني «البقرة الأم»، وهي حين تقوم بنقل الأرض من قرن الى آخر يحدث زلزال على البسيطة(١) . وكان العلماء يرون أن الشمس ساكنة بلا حراك، وأن الأرض تدور حولها، الى أن جاء (كوبرنيك) (١٤٧٣/١٥٤٣م)، وعرض فكرته الشهيرة عن حركة الشمس.

***

وهكذا تقدم العلم رويدا رويدا، الى أن زادت قوة المشاهدة والدراسة لدى الانسان، فكشف عن أسرار كثيرة. والآن لانجد جزءا ما من معلوماتنا عن أجزاء الجسم، وشعب العلم المختلفة، الا وقد تغيرت نظرتنا اليه كلية، وثبت بطلان عقائد العصر القديم.

ويدل هذا بكل صراحة على أنه لاوجود لكلام انساني تدوم صحته كليا. لأن الانسان يتكلم عما هو معروف من المعتقدات والعلوم في عصره، انه سوف يسرد ما وجده في زمنه، سواء وقع كلامه في دائرة الشعور أو اللاشعور. ولذلك لانجد كتابا مضى عليه حين من الدهر الا وهو مملوء بالأغلاط والأخطاء من سائر نواحيه، نظرا الى الكشوف الجديدة في كل الميادين.

ولكن مسالة القرآن الكريم تختلف تمام الختلاف عن هذه الكلية! فهو حق وصادق في كل ما قال، كما كان في القرون الغابرة. ولم يطرأ على مقاله أي تغير رغم مضي قرون وعصور طويلة. وهذا في نفسه دليل على أن منبعه عقل جبار يحيط بالأزل وبالأبد علما، وهو يعلم سائر الحقائق في صورها النهائية والحقيقية، ولايخضع علمه ومعرفته لحواجز الزمان والمكان والأحوال. ولو كان هذا الكلام صادرا عن بشر محدودي النظر والعلم لكان الزمان قد أبطله منذ عصور عديدة، كما يحدث لكل كلام انساني في مستقبله.

___________________

(١) شاعت هذه العقيدة الخرافية كذلك في أوساط العوام وأشباه المتعلمين في شرقنا العربي، وان كان تيار المعرفة العامة الآن يقضي على مثل هذه الخرافات - (المراجع).

١٤١

ان المحور الحقيقي لرسالة القرآن هو السعادة الأخروية، فهو بذلك لايدخل في دائرة أي من علومنا وفنوننا الحديثة. ولكن حيث انه يخاطب «الانسان» في حقيقة الأمر، فهو يمس كل ما هو متعلق بالانسان، وهي مسألة دقيقة، وموقف جد خطير. لأن المرء حين يكون جاهلا، أو ناقص المعلومات حول مشكلة ما، ثم يتجرأ ليتكلم عن تلك المشكلة - ولو اجمالا - فلابد أن يكبو في حديثه، وذلك حين يستخدم كلمات أو عبارات لاعلاقة لها بالواقع والحقائق!.

وعلى سبيل المثال: قال أرسطو استدلالا على أسبقية الرجل على المرأة: ان فم المرأة يحوي أسنانا أقل عددا من أسنان الرجل!! ومن المعروف أن هذا الكلام لاعلاقة له بعلم الأجسام، بل هو يدل على أن صاحبه جاهل بهذا العلم، فان عدد الأسنان سواء لدى الرجل والمرأة. ولكن من المدهش حقا أن القرآن - حتى فيما يمس أكثر العلوم الحديثة من ناحية أو أخرى - لايحتوي كلمة ما أثبت العلم فيما بعد، أنها من صنع رجل جاهل بذلك الموضوع، وهذا يوضح صراحة أنه كلام موجود فوق الطبيعة؛ وهو على معرفة تامة بكل شيء على حين لم يكن أحد يعلم شيئا، وهو يعلم أيضا كل ما يجهله البشر في هذا العصر؛ مع تقدم العلوم.

وسوف أورد هنا بعض الأمثلة التي تدل صراحة على أن القرآن الكريم يحيط بالحقائق التي لم تعرف الا في عصرنا هذا، وان كانت احاطته هذه ضمن اشارات غير مقصودة لذاتها.

ويجب ان أقول، تمهيدا لهذا البحث: ان مطابقة كلمات «القرآن» وألفاظه للكشوف الحديثة مبنية على أن العلم الحديث قد استطاع الكشف عن أسرار الواقعة موضوع البحث، فتوفرت لدينا مواد نافعة لتفسير الاشارات القرآنية في ذلك الموضوع. ولو أن دراسة المستقبل في موضوع ما تبطل واقعة من وقائع العلم الحديث كليا أو جزئيا فليس هذا بضائر مطلقا صدق القرآن، بل معناه أن المفسر أخطأ في محاولته لتفسير اشارة مجملة في القرآن، وانني لعلى يقين راسخ بان الكشوف المقبلة سوف تكون أكثر ايضاحا لاشارات القرآن، وأكثر بيانا لمعانيه الكامنة.

***

تقسيم لآيات القرآن

ونستطيع أن نقسم الآيات القرآنية المتعلقة بهذا الجانب الى نوعين:

الأول: ما عرف عنه الانسان - حتى ذلك العصر - أمورا جانبية وسطحية.

والثاني: ما لم يعرف عنه ذلك الانسان شيئا، مطلقا.

١٤٢

ان هناك أشياء كثيرة كان الأقدمون يعرفون عنها بعض المعارف الجزئية، وكانت معرفتهم هذه ناقصة جدا بالنسبة الى المعرفة التي أتيحت للانسان اليوم، بفضل الاختراعات الحديثة. وقد واجه القرآن في هذا الصدد مشكلة كبرى، فهو لم يكن كتابا في العلوم والهندسة، ولذلك لو أنه كان بدأ يكشف عن أسرار الطبيعة لاختلف الناس فيما بينهم حول ما جاء في القرآن، ولاستحال عندئذ بلوغ الهدف الحقيقي من نزول القرآن، وهو اصلاح العقل الانساني وتزكيته. فمن اعجاز القرآن أنه تكلم في لغة العلم، قبل كشفه، كما أنه استعمل كلمات وتعبيرات لم يستوحشها أذواق الأقدمين ولامعارفهم، على حين أحاطت بكشوف العصر الحديث!.

***

النوع الأول

(١) ذكر القرآن الكريم قانونا خاصا بالماء في صورتين: هما الفرقان والرحمن. وجاء في السورة الاولى:

( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (١) .

وأما الآية التي وردت في السورة الأخرى فهي تقول:

( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ ) (٢) .

ان الظاهرة الطبيعية التي يذكرها القرآن في هذه الآيات معروفة عند الانسان منذ أقدم العصور؛ وهي أنه اذا ما التقى نهران في ممر مائي واحد فماء أحدهما لايدخل (أي لايذوب) في الآخر. وهناك، على سبيل المثال، نهران يسيران في «تشاتغام» بباكستان الشرقية الى مدينة «أركان»، في «بورما»، ويمكن مشاهدة النهرين، مستقلا أحدهما عن الآخر، ويبدو أن خيطا يمر بينهما، حدا فاصلا؛ والماء عذب في جانب، وملح في جانب آخر. وهذا هو شأن الأنهار القريبة من السواحل، فماء البحر يدخل ماء النهر عند حدوث «المد البحري»، ولكنهما لايختلطان، ويبقى الماء عذبا تحت الماء الأجاج. وهكذا شاهدت عند ملتقى نهري الكنج والجامونا، في مدينة «الله آباد»، فهما رغم التقائهما لم تختلط مياههما، ويبدو أن خيطا فاصلا يميز أحدهما من الآخر(٣) .

ان هذه الظاهرة، كما قلت، كانت معروفة لدى الانسان القديم. ولكنا لم نكشف

___________________

(١) الفرقان/٥٣.

(٢) الرحمن/٢٠ - ٢١.

(٣) وهو ما كان يشاهد عند التقاء النيل بالبحر الأبيض، قبل بناء السد العالي - (المراجع).

١٤٣

قانونها الا منذ بضع عشرات من السنين. فقد أكدت المشاهدات والتجارب أن هناك قانونا ضابطا للأشياء السائلة، يسمى (قانون المط السطحي) Surface Tension ، وهو يفصل بين السائلين؛ لأن «تجاذب» الجزئيات يختلف من سائل لآخر، ولذا يحتفظ كل سائل باستقلاله في مجاله. وقد استفاد العلم الحديث كثيرا من هذا القانون، الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله سبحانه:( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ ) . وملاحظة هذا البرزخ لم تخف عن اعين القدماء، كما لم تتعارض مع المشاهدة الحديثة، ونستطيع، بكل ثقة، أن نقول: ان المراد من «البرزخ» انما هو «المط أو التمدد السطحي»، الذي يوجد في الماءين، والذي يفصل أحدهما عن الآخر.

ويمكن فهم هذا المط السطحي بمثال بسيط، وهو: أنك لو ملأت كوبا بالماء، فانه لن يفيض الا اذا ارتفع عن سطح الكوب قدرا معينا. والسبب في ذلك أن «جزئيات» السوائل عندما لاتجد شيئا تتصل به فوق سطح الكوب، تتحول الى ما هو تحتها، وعندئذ توجد (غشاوة مرنة) Elastic Film على سطح الماء؛ وهذه الغشاوة هي التي تمنع الماء من الخروج عن الكوب لمسافة معينة، وهي غشاوة قوية لدرجة أنك لو وضعت عليها ابرة من حديد فانها لن تغوص! وهذه الظاهرة هي مايسمى بالمط السطحي، الذي يحول دون اختلاط الماء والزيت، والذي يفصل بين الماء العذب والملح.

***

(ب) وجاءت في القرآن بيانات مماثلة، وعلى سبيل المثال:

( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) (١)

وهذه الآية مطابقة لما كان يراه الرجل القديم؛ فانه كان يشاهد عالما كبيرا قائما بذاته في الفضاء، مكونا من الشمس والقمر والنجوم، ولكنه لم ير لها أية ساريات أو أعمدة، والرجل الجديد يجد في هذه الآية تفسيرا لمشاهدته، التي تثبت أن الأجرام السماوية قائمة دون عمد في الفضاء اللانهائي، بيد أن هنالك «عمدا غير مرئية»، تتمثل في قانون «الجاذبية) Gravitation Pull ، وهي التي تساعد كل هذه الأجرام على البقاء في أمكنتها المحددة.

(ج) وقد قال القرآن عن الشمس والنجوم:

( وَ کُلٌّ فِي فَلَکٍ يَسْبَحُونَ ) (٢)

وكان الانسان في العصر الغابر يشاهد أن النجوم تتحرك تبتعد عن أمكنتها بعد وقت

___________________

(١) الرعد/٢.

(٢) يس/٤٠.

١٤٤

معين. ولذلك لم يكن هذا التعبير القرآني موضع دهشتهم واستغرابهم، ولكن البحوث الحديثة قد خلعت على هذه التعبيرات ثوبا جديدا؛ فليس هنالك تعبير أروع ولا أدق من «السباحة» لدوران الأجرام السماوية في الفضاء البسيط اللطيف!.

***

(د) وقال القرآن الكريم عن الليل والنهار:

( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ) (١)

ان هذه الآية الكريمة تشرح للانسان القديم سر مجىء الليل بعد النهار. ولكنها تحوي اشارة رائعة الى دوران الأرض محوريا، وهو الدوران الذي يعتبر سبب مجيء الليل والنهار، طبقا لمعلوماتنا الحديثة.

وسوف أذكر القراء - هنا - بأن من بين المشاهدات التي أدلى بها رجل الفضاء الروسي «جاجارين»، بعد دورانه في الفضاء حول الأرض: أنه شاهد (تعاقبا سريع) Rapid Succession للظلام والنور على سطح الأرض بسبب دورانها المحوري حول الشمس.

وهناك بيانات كثيرة جدا من هذا القبيل في القرآن الكريم.

***

النوع الثاني من الآيات

وأما النوع الثاني من الآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع، فلم يعرف عنها الرجل القديم شيئا ما على الاطلاق.

وقد تناول القرآن تلك الموضوعات، كاشفا الغطاء عن أسرار بالغة الأهمية، ثبت صدقها بعد الدراسات الحديثة، وسوف أعرض في الصفحات التالية بعض الأمثلة من مختلف فروع العلوم الحديثة.

***

أولا: علم الفلك:

يطرح القرآن الكريم فكرة معينة ومحدودة المعالم حول بداية الكون المادي ونهايته، وكانت هذه الفكرة غير معروفة لدى الانسان الجديد قبل قرن من الزمان. أما الانسان القديم فلا مجال للقول بأنه كان من الممكن أن يتطرق عقله الصغير الى هذه الفكرة أو أجزائها، وجاء العلم الجديد ليشهد على ماجاء على في القرآن الكريم.

___________________

(١) الأعراف/٥٤.

١٤٥

يعبر القرآن عن بداية الكون على النحو التالي:

( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ کَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ کَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ) (١) .

أما عن نهاية الكون، فهو يقول:

( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) (٢) .

فالكون، بناء على تفسير هذه الآيات كان منضما ومتماسكا (الرتق: منضم الأجزاء)، ثم بدأ يتمدد في الفضاء، ويمكن رغم هذا التمدد تجميعه مرة أخرى في حيز صغير.

وهذه هي الفكرة العلمية الجديدة عن الكون؛ فقد توصل العلماء، خلال أبحاثهم ومشاهداتهم لمظاهر الكون، الى أن «المادة» كانت جامدة وساكنة في أول الأمر؛ وكانت في صورة غاز ساخن، كثيف، متماسك. وقد حدث انفجار شديد في هذه المادة قبل ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠،٥ سنة على الأقل، فبدأت المادة تتمدد وتتباعد أطرافها. ونتيجة لهذا اصبح تحرك المادة أمرا حتميا، لابد من استمراره، طبقا لقوانين الطبيعة، التي تقول: ان قوة «الجاذبية» في هذه الأجزاء من المادة تقل تدريجيا بسبب تباعدها (ومن ثم تتسع المسافة بينها بصورة ملحوظة).

ويعتقد العلماء أن دائرة المادة كانت ٠٠٠،١ مليون سنة ضوئية، في أول الأمر. وقد أصبحت هذه الدائرة الآن، كما يقول البروفيسور «ايدنجتون»: عشرة أمثال بالنسبة الى الدائرة الحقيقية. وهذه العملية من التوسع والامتداد مستمرة دون ما توقف. وكما يقول البروفيسور «ايدنجتون»:

«ان مثال النجوم والمجرات: كنقوش مطبوعة على سطح بالون من المطاط، وهو ينتفخ باستمرار؛ وهكذا تتباعد جميع الكرات الفضائية عن أخواتها بحركاتها الذاتية، في عملية التوسع الكوني(٣) ».

وأما الأمر الآخر، فقد ثبت لنا صدقه، كما ورد في القرآن. فكان الانسان القديم يرى أن النجوم يبتعد بعضها عن بعض رأي العين؛ ولكننا نراها متقاربة لبعدها الهائل عن الأرض وهي في حقيقة الأمر متباعدة بمسافات قياسية.

ولم يقف الأمر بنا عند هذا الحد، بل عرفنا أيضا أن تلك الأجسام والأجرام التي كنا نشاهدها في قديم الزمن، وكنا نحسبها كاملة وسالمة، أكثرها يحتوي على فضاء خال.

___________________

(١) الأنبياء/٣٠.

(٢) السابقة/١٠٤.

(٣) The Limitations of Science, p. ٢٠.

١٤٦

وقد عرفنا أن كل جسم مادي يدور حول نظام له، مثل النظام الشمسي الذي تدور حوله نجوم وسيارات كثيرة. ومن أمثلته نظام «الذرة». فنحن نشاهد الفضاء الخالى في «النظام الشمسي»، ولكننا نعجز عن مشاهدة فضاء «النظام النوري» لصغر حجمه المتناهي. حتى انه يستحيل مجرد مشاهدة هذا النظام(١) . ومعنى ذلك أن كل شيء لو بدا متماسكا - يحوي حيزا من الفضاء في داخله. ومثاله: أننا لو جردنا الفضاء أو المكان Space من الذرات المادية في الجسم الانساني، ذات الستة الأمتار، فلن نجد الا كمية قليلة جدا من المادة، تكاد تكون متناهية الوجود.

وهكذا يرى علماء الطبيعة الفلكية ( Astro - Physicists ) أننا لو طوينا كل شيء في الكون بدون أن نترك للفضاء مكانا، فسيكون حجم الكون كله ثلاثين ضعفا من حجم الشمس!! ويمكن قياس سعة الكون من أن أبعد مجرة استطاع الانسان الكشف عنها تبعد بضعة ملايين من السنين الضوئية عن النظام الشمسي.

***

٣ - لقد توصل العلماء، خلال أبحاثهم، الى أنه لابد في المستقبل القريب - وطبقا لقانون دوران الأجرام السماوية - أن يقترب القمر من الأرض، حتى ينشق من شدة الجاذبية، وتتناثر أجزاؤه في الفضاء(٢) . وسوف تحدث عملية انشقاق القمر هذه بناء على نفس القانون الذي يحكم المد والجزر في البحار. فالقمر هو أقرب جيراننا في الفضاء، ولايبعد عن الأرض غير٠٠٠،٢٤٠ ميلا، وهذا القرب يؤثر على البحار مرتين يوميا، حيث ترتفع فيها أحيانا أمواج يبلغ طولها ستين مترا، وأما تأثير هذه الجاذبية على سطح الأرض فيبلغ عدة بوصات!!.

ان المسافة الفاصلة بين الأرض والقمر مناسبة تماما لصالح أهل الارض. ولو نقص هذا الفاصل الى خمسين ألفا من الأميال - على سبيل المثال - فسوف يحدث طوفان شديد في البحار، وسوف تغطي أمواجها أكثر مناطق الأرض المأهولة، وسوف يغرق كل شيء، حتىلتتحطم الجبال من شدة تموج البحار، وسوف تحدث شقوق مروعة على سطح الأرض من وطأة الجاذبية!!.

ويرى علماء الفلك أيضا أن الارض قد مرت بكل هذه الأدوار أثناء عملية التكوين، حتى وصلت الى بعدها الحالي من القمر، بناء على قانون الفلك، وهذا القانون هو نفسه سوف يأتي بالقمر قريبا من الأرض مرة أخرى. ويرون أن من المتوقع حدوث هذا قبل

___________________

(١) أنظر التفصيلات من «الذرة» في الباب الرابع من هذا الكتاب.

(‌٢) Man Does not Stand Alone, p. ٢٤.

١٤٧

بليون سنة(١) . وعندئذ سوف ينشق القمر، وسوف يتناثر حول فضاء الأرض في صورة حلقة.

أليست هذه النظرية من أعظم موافقات العلم لتلك النبوءة الواردة في القرآن الكريم، حول انشقاق القمر، حين تقترب القيامة(٢) ؟.

أقرأوا قوله تعالى:

( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) (٣) .

***

ثانيا - علم طبقات الأرض:

١ - جاء في القرآن الكريم، غير مرة، أن الجبال أرسيت في الأرض حفاظا على توازنها، ومن ذلك قوله تعالى:

( وَ أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِکُمْ ) (٤) .

ولقد ظل العلم جاهلا بهذه الحقيقة طوال القرون الثلاثة عشر الماضية، ولكن دارسي الجغرافيا الحديثة يعرفونها جيدا تحت اسم «قانون التوازن) Isostasy ولايزال العلم الحديث في مراحله البدائية بالنسبة الى أسرار هذا القانون، ويقول الأستاذ انجلن:

___________________

(١) هذا مجرد تعبير عن الامكان العلمي، وحدوده الزمنية. وليس ببعيد أن تقع هذه الظاهرة في وقت أقل مما حدده الفلكيون، وكلامهم لاينفي هذا.

(٢) رويت معجزة «انشقاق القمر» في الصحيحين وكتب الحديث الأخرى، بروايات صحيحة الاسناد، ومنها ما رواه عبد الله بن مسعودرضي‌الله‌عنه ، وهو من الشهود العيان لذلك الحادث الخارق، وبرغم ذلك لاتزال مسألة «انشقاق القمر» موضع خلاف شديد بين المفسرين والعلماء. فيرى الجمهور أنه قد حدث فعلا، «. وقال بعض المفسرين: سينشق» كما يرى صاحب التفسير «الكبير»، ومن القائلين به الامام الحسن البصري، وقد نقل عنه أبو حيان الأندلسي القول التالي: «ان المعنى اذا جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية». البحر المحيط، ج - ٨، ص - ١٧٣ وهاك فئة ثالثة من العلماء تؤثر «التوفيق» بين الرأيين، فهم يرون أن معجزة شق القمر، التي جاء ذكرها في الأحاديث وقعت أمام جمع من المسلمين والمشركين «بمنى» في مكة، المكرمة. ويرى الامام الغزالي والشاه ولي الله الدهلوي أنها وقعت «بتصرف البصر». وان الممكن أن تكون قد حدثت فعلا نتيجة انشقاق فلكي. وهكذا ستكون الواقعة الأولى آية أولية للأحداث التي سوف يجرى وقوعها قرب القيامة. وفيها يقول المفسر الهندي الكبير العلامة شبير احمد العثماني في تفسير للقرآن:

«لقد كانت معجزة شق القمر مثالا على أن كل شيء سينشق هكذا عند اقتراب القيامة».

(٣) القمر/١و٢.

(٤) لقمان/١٠.

١٤٨

«من المفهوم الآن أن المادة - الاقل وزنا - ارتفعت على سطح الأرض، على حين أصبحت أمكنة المادة الثقيلة خنادق هاوية، هي التي نراها الآن في شكل البحار. وهكذا استطاع الارتفاع والانخفاض أن يحافظا على توازن الأرض(١) ».:

ويرى عالم آخر من باحثي الجغرافيا:

«وفي البحار، أيضا، توجد وديان مثل وديان البر. ولكن وديان البحر أكثر غورا وأبعد عمقا من تلك التي توجد في البر؛ كما أنها بعيدة عن المجال التجريبي للانسان. ويبدو أنه قد حدثت مغارات عميقة في البحار. (ويبلغ عمق بعض هذه الوديان ٣٥ ألف قدم عن سطح البحر؛ وهذا العمق أعلى من أعظم جبال العالم ارتفاعا. ويبلغ من عمق هذه الوديان البحرية أحيانا أنه لو وضعت فيها قمة «ايفرست»، من سلسلة جبال «الهملايا»، والتي يبلغ طولها ٠٠٢،٢٩، فسيكون سطح البحر فوقها بمسافة ميل كامل)!.

«ومن الظواهر المحيرة أن هذه الخنادق البحرية توجد قرب السواحل البرية بدل أن توجد في أعالي البحار. ومن ذا يستطيع أن يعلم قدر ذلكم الضغط الهائل، الذي أحدث هذه المغارات السحيقة في قاع البحار. ولكن قرب هذه الوديان من الجزر والبراكين يدل على أن هناك علاقة بين طول الجبال والخنادق البحرية. وهو أن الأرض يقوم توازنها على أساس الارتفاع والعمق (في أجزائها المختلفة). ويرى بعض كبار علماء الجغرافيا أنه من الممكن أن تكون الأغوار البحرية علامات على جزر قد تظهر في المستقبل. وسببه أن الرواسب والمخلفات لكل من البر والبحر تترسب في هذه الوديان، وقد سويت مناطق كبيرة من هذه الوديان بعد أن ملأتها هذه الرواسب. ولهذا من الممكن - بناء على عدم التوازن الذي يحدث عن هذه العملية - أن تبرز جبال جديدة في أي وقت، أو تظهر سلسلة جديدة من الجزر، ومما يؤكد ذلك أنه قد وجدت آثار الرواسب البحرية في بعض الجبال الساحلية.

وعلى كل حال، لاتوجد نظرية - في ضوء المعلومات الحالية للانسان - لتقوم بتفسير الوديان البحرية، وهذه المغارات الدائمة البرودة، والتي توجد في ظلام حالك، وتحت ضغط قدره سبعة أطنان على كل بوصة، لازال ذلك كله لغزا أمام الانسان، كألغاز البحر الأخرى(٢) !!».

٢ - وقد جاء في القرآن الكريم أنه قد مض على الأرض زمن طويل سواها الله خلاله؛ قال تعالى:

___________________

(١) C. R Von Anglen , Geomovpholgy, pp. ٢٦ - ٢٧ , (N.Y., ١٩٤٨)

(٢) The World We Live In, N. Y., ١٩٥٥.

١٤٩

( وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِکَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا ) (١) .

وهذه الآية الكريمة تطابق مطابقة عجيبة أحدث الكشوف العملية؛ وهو: «نظرية تباعد القارات» أو انتشارها ( Theory of Drifting Continents ). مغزى هذه النظرية: أن جميع القارات كانت في وقت من الأوقات أجزاء متصلة، ثم انشقت وبدأت «تنقذف»، أو تنتشر من تلقاء نفسها، وهكذا وجدت قارات تحول دونها بحار واسعة.

وقد طرحت هذه النظرية في العالم عام ١٩١٥، لأول مرة، حين أعلن خبير طبقات الأرض الألماني الأستاذ «الفريد واجنر» أنه لو قربت القارات جميعا، فسوف تتماسك ببعضها، كما يحدث في ألعاب الالغاز التي تسمى Jigsaw Puzzle ويمكن مشاهدتها في الأشكال الثلاثة، التي تبين هذه النظرية «انظر ص١٥٠».

وهناك شبه كبير يوجد على سواحل البحار المختلفة، كأن نجد جبالا متماثلة عمرها الأرضي (واحد)؛ وكأن نجد فيها دواب وأسماكا ونبات متماثلة أيضا! وهذا هو مادفع عالم النباتات البروفيسور رونالد جود ( Rand Good ) في كتابه: جغرافيا نباتات الزهور ( Geography of Flwoering Plants ) - الى أن نقول:

«لقد اتفق علماء النباتات على النظرية القائلة بأنه لايمكن تفسير ظاهرة وجود نباتات متماثلة في مختلف قارات العالم الا اذا سلمنا بأن أجزاء الأرض هذه كانت متصلا بعضها ببعض في وقت من الأوقات».

وقد أصبحت هذه النظرية علمية تماما بعد تصديق «الجاذبية الحجرية» لها ( Fossil Magnetism )، فان العلماء اليوم - بعد دراسة اتجاهات ذرات الحجارة - يستطيعون تحديد موقع أي بلد وجدت به هضبة تلك الحجارة في الزمن القديم. وقد أكدت هذه الدراسة في «الجاذبية الأرضية» أن أجزاء الأرض لم تكن موجودة في القديم بالأمكنة التي توجد بها اليوم، وانما كانت في ذلك المكان الذي تحدده «نظرية تباعد القارات، وفي هذا الأمر يقول البروفيسور بلاكيت(٢) :

«ان دراسة أحجار الهند تبين أنها كانت توجد في جنوب خط الاستواء قبل سبعين مليون سنة؛ وهكذا تثبت دراسة جبال جنوب افريقيا أن القارة الافريقية انشقت عن القطب الجنوبي قبل ثلاثمائة مليون سنة(٣) ».

___________________

(١) النازعات/٣٠ - ٣١.

(٢) P.M.S.Blacket ، أستاذ (الطبيعة) في الكلية الملكية بلندن - المعرب.

(٣) أنظر التفصيل: ريدز دايجست، عدد يونيه (حزيران) من عام ١٩٦١.

١٥٠

لقد ورد في الآية المذكورة آنفا لفظة «الدحو»، ومعناه تسوية الشيء ونثره، كما يقال «دحا المطر الحصى عن وجه الأرض»، وهذا هو نفس مفهوم الكلمة الانجليزية: « Drift » التي استخدمت في التعبير عن النظرية الجغرافية الحديثة. لسنا نملك أمام هذا التوافق المدهش بين ماورد في الماضي البعيد، وما اكتشف بالأمس القريب - الا أن نؤمن بأن هذا الكلام صادر عن موجود يحيط علمه بالماضي، والحال، والمستقبل، على السواء.

ثالثا - علم الأغذية: ان قائمة الأغذية التي يقررها لنا القرآن الكريم تحرم (الدم)، وكان الانسان غافلا عن أهمية هذا التحريم، ولكن التحليلات التي أجريت للدم قد أكدت أن هذا القانون كان مبنيا على أهمية خاصة بالنسبة الى الصحة. فالتحليل يثبت أن (الدم) يحتوي كمية كبيرة من «حمض البوليك) Uric Acid ، وهو مادة سامة تضر بالصحة لو استعملت غذاء. وهذا هو السر في الطريقة الخاصة التي أمر بها القرآن في ذبح الحيوانات. والمراد من «الذبح» في المصطلح الاسلامي هو الذبح بطريقة معينة حتى يخرج سائر الدم من جسم الحيوان، وهي أن نقطع الوريد الرئيسي. الذي يوجد في العنق، فقط. وأن نمتنع عن قطع الأوردة الأخرى، حتى يمكن استمرار علاقة المخ بالقلب الى ان يموت الحيوان، لكيلا يكون سبب الموت الصدمة العنيفة التي وجهت الى أحد أعضاء الحيوان الرئيسية، كالدماغ، أو القلب، أو الكبد، والمقصود من هذا هو أن الدماء تتجمد في العروق، وتسري الى أجزاء الجسم، لو مات الحيوان في الحال - على اثر صدمة عنيفة - وهكذا يتسمم اللحم كله، نتيجة سريان «حمض البوليك» في أنحائه. ولقد حرم القرآن لحم (الخنزير)، ولم يعرف الانسان في الماضي شيئا عن أسرار هذا التحريم، ولكنه يعرف اليوم أن لحم الخنزير يسبب أمراضا كثيرة، لأنه يحتوي أكبر كمية من «حمض البوليك» بين سائر الحيوانات على ظهر الأرض، أما الحيوانات الأخرى، غير الخنزير، فهي تفرز هذه المادة بصفة مستمرة عن طريق البول. وجسم الانسان يفرز٩٠% من هذه لمادة بمساعدة (الكليتين). ولكن الخنزير لايتمكن من اخراج «حمض البوليك» الا بنسبة اثنتين في المائة(٢%)، والكمية الباقية تصبح جزءا من لحمه ولذلك يشكو الخنزير من آلام المفاصل، والذين يأكلون لحمه، هم الآخرون، يشكون من آلام المفاصل، والروماتيزم(١) ،

___________________

(١) ليكن مفهوما هنا أنه عند وصف تاثير أي غذاء، لايمكن الا بيان تأثيره الذاتي من المنافع والمضار، وليس معناه أن تأثير ذلك الغذاء سوف يكون واحدا لدى كل انسان يأكله. والسبب في ذلك أن الانسان لايأكل شيئا بمفرده، وانما يبتلعه مع مأكولات من أنواع عديدة، ولذلك قد ينقص تأثير ذلك الغذاء، أو يزول في بعض الأحايين، نتيجة ردود الفعل والأغذية المضادة لتأثير ذلك الغذاء، وعلى رغم ذلك كله فلايمكننا وصف تأثير أي شيء الا بما عرف عنه بصفته الفردية.

١٥١

وما الى ذلك من الأمراض المماثلة(١) .

***

ان الباحث في القرآن الكريم يجد أمثلة لاحصر لها من هذا القبيل الذي أشرنا الى بعضه في الصفحات الماضية، وهي دليل قطعي على أن القرآن صادر عن عقل غير انساني. وتؤكد البحوث التي اضطلع بها العلماء في العصر الحاضر بطريقة مدهشة صدق تكلم النبوءة، التي وردت في القرآن الكريم:

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (٢) )

***

وسوف أختم هذا الباب بواقعة رواها العالم الهندي المغفور له الدكتور عناية الله المشرقي، وهو يقول:

«كان ذلك يوم أحد، من أيام سنة١٩٠٩، وكانت السماء تمطر بغزارة، وخرجت من بيتي لقضاء حاجة ما، فاذا بي أرى الفلكي المشهور السير جيمس جينز الاستاذ بجامعة كمبردج، ذاهبا الى الكنيسة، والانجيل والشمسية تحت ابطه، فدنوت منه، وسلمت عليه، فلم يرد علي، فسلمت عليه مرة أخرى، فسألني: «ماذا تريد مني؟» فقلت له: «أمرين، ياسيدي! الأول هو: أن شمسيتك تحت ابطك رغم شدة المطر!» فابتسم السير جيمس وفتح شمسيته على الفور. فقلت له: «وأما الأمر الآخر فهو: ما الذي يدفع رجلا ذائع الصيت في العالم - مثلك - أن يتوجه الى الكنيسة؟» وأمام هذا السؤال توقف السير جيمس لحظة، ثم قال: «عليك اليوم أن تأخذ شاي المساء عندي». وعندما وصلت الى داره في المساء، خرجت «ليدي جيمس» في تمام الساعة الرابعة، بالضبط، وأخبرتني أن السير جيمس ينتظرني. وعندما دخلت عليه في غرفته، وجدت أمامه منضدة صغيرة موضوعة عليها ادوات الشاي. وكان البروفيسور منهمكا في أفكاره. وعندما شعر بوجودي، سألني: «ماذا كان سؤالك؟»، ودون أن ينتظر ردي، بدأ يلقي محاضرة عن تكوين الأجرام السماوية، ونظامها المدهش، وأبعادها وفواصلها اللامتناهية، وطرقها، ومداراتها وجاذبيتها، وطوفان أنوارها المذهلة، حتى انني شعرت بقلبي يهتز بهيبة الله وجلاله. وأما (السير جيمس)

___________________

(١) لعل العلة الأخرى في تحريم الخنزير أساسا انه حيوان قذر، يأكل النجاسات، فالى جانب التحريم القطعي النصي له، يمكن أن نلحظ فيه علة تحريم(الجلالة) التي تأكل النجاسة، فقد نهى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أكلها أو شرب ألبانها. أنظر: بداية المجتهد لابن رشد - ٢/٤١٨ (المراجع).

(٢) فصلت/ ٥٣.

١٥٢

فوجدت شعر رأسه قائما، والدموع تنهمر من عينيه، ويداه ترتعدان من خشية الله، وتوقف فجأة. ثم بدأ يقول: «يا عناية الله! عندما ألقى نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الالهي، وعندما أركع أمام الله واقول له: «انك لعظيم!» أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء، وأشعر بسكون وسعادة عظيمين. وأحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة، أفهمت، ياعناية الله خان، لماذا أذهب الى الكنيسة؟».ويضيف العلامة عناية الله قائلا: لقد أحدثت هذه الحاضرة طوفانا في عقلي، وقلت له: «ياسيدي لقد تأثرت جدا بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي، وتذكرت بهذه المناسبة آية من آي كتابي المقدس، فلو سمحتم لي، لقرأتها عليكم»، فهز رأسه قائلا: «بكل سرور»، فقرأت عليه الآية التالية:

( ومن الجبال جدد بيض وحمر، مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. انما يخشى الله من عباده العلماء ) .(١) .

فصرخ السير جيمس قائلا:

ماذا قلت؟ - انما يخشى الله من عباده العلماء؟! مدهش! وغريب، وعجيب جدا!! ان الأمر الذي كشفت عنه دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة، من أنبا محمدا به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك، فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى من عند الله. ويستطرد السير جيمس جينز قائلا: لقد كان محمدا أميا، ولايمكنه أن يكشف عن هذا السر بنفسه، ولكن «الله» هو الذي أخبره بهذا السر. مدهش! وغريب، وعجيب جدا(٢) !!».

___________________

(١) فاطر٥٣.

(٢) مجلة «نقوش» الباكستانية، العدد الخاص بالشخصيات العالمية، شخصية (المرحوم - العلامة عناية الله المشرقي ص - ١٢٠٨ - ٩).

- والعلامة «المشرقي» هذا من أعظم علماء الهند في الطبيعة والرياضيات، ويتمتع بشهرة كبيرة في الغرب لاكتشافاته العديدة وأفكاره الجديدة، وهو أول من عرض فكرة القنبلة الذرية، غير أنه ترك الميدان العلمي، فخاض غمار السياسة نظرا لسوء حالة المسلمين في الهند (كان ذلك قبل الاستقلال) فأسس «حزب الخدام الالهيين) Khaaksar Party ، وكان رجاله (المتطرفون) يؤمنون بوجوب اقامة الفرائض الدينية بالقوة، واتخذوا من «المعول» شعارا لحركتهم. ومن أهم مؤلفات العلامة: «التكملة» (لرسالة الاسلام)!، وقد طلبت منه «لجنة جائزة نوبل» أن يترجم هذا الكتاب الى اللغة الانجليزية لاعطائه جائزة العلم، ولكن العلامة رفض الفكرة بشدة قائلا:

«لست في حاجة الى جائزة لاتعترفلجنتها باللغة الأردية العظيمة!» - المعرب.

١٥٣

الباب الثامن الدين ومشكلات الحضارة التشريع

السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه عند البحث في المشكلات الحضارية يكون دائما عن التشريع أو الدستور. فهذه المشكلات تنشأ عن علاقة الفرد بغيره، والتشريع هو الذي يحدد هذه العلاقة على أساس من العدل والانصاف. ولكن من المذهل أن أقول: ان الانسان لم يفلح الى الآن في الكشف عن دستور حياته! صحيح أن جميع الدول في العالم قائمة على أسس الدستور؛ ولكن هذه الدساتير مخفقة تماما في الوصول الى أهدافها، بل لايوجد هناك مايسوغ وجود هذه الدساتير سوى أنها تنفذ بالقوة والاجبار.

ومن الحقائق المعروفة لرجال القانون أن جميع الدساتير الرائجة في هذا العصر تفقد أية أسس علمية أو نظرية تجيز بقاءها. ويرى الأستاذ (فولر) L.L.Fuller أن «القانون لم يكشف عن نفسه بعد!». وفولر هذا هو الذي وضع كتابا أسماه: «القانون يبحث عن نفسه The Law in Quest of Itself ».

***

وقد وضعت كتب لاحصر لها حول هذا الموضوع بالذات؛ وبذلت عقول جبارة من علمائنا أوقاتها في سبيل البحث عن مقومات القانون. وكما يرى محرر «موسوعة تشامبرز» «لقد أعطى القانون أهمية علم هام، حتى رفع من شانه الى أقصى الحدود». ولكن كل هذه الجهود لم توفق في الحصول على صورة متفق عليها من القانون. وقد تشعبت بهم السبل، حتى قال خبير في التشريع: «لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون، فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا!!».

وقد انقسم خبراء التشريع الى مدارس فكرية كثيرة؛ ولكننا - رغم تعدد هذه المدارس - قد لانجد لبعض كبار علماء القانون فيها مكانا! يقول البروفيسور

١٥٤

١٥٥

(باتون) G. W. Paton عن «جون آستين»: «انه لايصلح لأي من الأقسام العريضة Broad Divisions(١) »:

وأما السبب وراء هذا الاختلاف بين خبراء التشريع، فهو عدم توصلهم الى أساس صحيح يمكن اقامة صريح التشريع عليه. انهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد. ومثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مماثلة؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت الى الماء مرة أخرى!!.

ومن ثم باءت كل الجهود - التي استهدفت الحصول على الدستور المثالي - بالفشل الذريع.

ويعبر الأستاذ «و. فريدمان» عن هذه المشكلة قائلا:

«. وانها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر، من نهاية الى أخرى(٢) !».

***

وقد لاحظ «جون آستين» أن الدستور - أي دستور - لايصبح نافذ المفعول الا اذا كانت تسنده قوة من ورائه، فعرف «القانون» في كتابه، الذي نشر لأول مرة عام ١٨٦١، على النحو التالي:

«القانون هو الحكم الذي أصدره «رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدنى منه في المرتبة السياسية(٣) ».

وقد أصبح التشريع بناء على هذا التعريف «مرسوما لصاحب السيادة(٤) »! ولذلك شن المحدثون من العلماء حملة شديدة على هذه الفكرة، وقالوا: أنه لايمكن منع انحرافات الحكام الا اذا كان «رضا الشعب العام» دعامة أساسية في التشريع. وأنكروا أي قانون أو دستور لايحرز رضا الجماهير؛ وترتب على ذلك أن ضوابط كثيرة، يجمع على صحتها وافادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق - لايمكن تنفيذها، لأن الشعب لايوافق عليها. وعلى سبيل المثال لم يتمكن الأمريكيون من ادخال مشروع قرار يحرم الخمر، لأن الشعب لم يرض عنه. كما اضطر البريطانيون الى ادخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل،

___________________

(١) A. Text Book of Jurisprudence, ١٩٠٥ , p. ٥.

(٢) W. Friedman, Legal Theory, p. ١٨.

(٣) A. Text Book of Jurisprudence , p. ٥٦.

(٤) المرجع السابق ض - ٤.

١٥٦

واضطروا الى اباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية، على الرغم من ضجيج المثقفين، واحتجاج علماء القانون!.

***

وهناك مسالة أخرى اختلف حولها علماء القانون: هل القانون قابل للتغير أو لا؟.

لقد لقيت نظرة «القانون الطبيعي» رواجا كبيرا في القرون الوسطى، وفي العصور التي تلتها، ومؤادها أن الطبيعة البشرية هي المصدر الحقيقي للتشريع:

«فالطبيعة تطالب أن يكون حق السيطرة والحكومة لمطالبها الطبيعية ودعائمها الرائدة. وقد أعطت الطبيعة هذه الدعائم للانسان في صورة «العقل»، ولذلك لابد من اقامة حكومة بقوة العقل(١) »:

وقد أعطت هذه النظرية أساسا كونيا للمشرعين، فقيل: انه لابد من دستور موحد صالح لكل العصور. وهذه هي نظرية علماء القرنين السابع والثامن عشر حول القانون. ثم جاءت مدرسة أخرى ادعت استحالة معرفة الأسس الكونية للدستور. ويقول (كوهلير) في هذا:

«ليس هناك دستور أبدي، وأي تشريع يصلح لعصر ما ليس - بالضرورة - صالحا لعصر آخر. وليس لنا الا أن نجهد أنفسنا في البحث عن دستور يلائم كل حضارة، على حدة. فقد يكون دستور ما خيرا لطائفة من الناس، ثم يسبب هلاك طائفة أخرى(٢) ».

وقد قضت أفكار هذه المدرسة الأخيرة على تحكم القانون واستقراره، فهي تدعو الانسان الى فكرة التغيير العمياء، والنسبية Relativism ؛ وهي لن تنتهي الى حد ما، حيث أنها تفتقر الى الاساس. وقد قلبت هذه الفكرة جميع القيم الانسانية راسا على عقب.

***

وهناك مدرسة أخرى تدعو الى احراز أكبر قدر من مقومات العدل في التشريع. ويكتب «اللورد رايت) Lord Wright معلقا على فكرة دين راسكو باوند»:

«ان راسكو باوند يدعو الى فكرة - اطمأننت الى صدقها بعد جميع تجاربي ودراستي في القانون - وهي أن الهدف الأساسي والابتدائي للتشريع هو «البحث عن العدل(٣) ».

___________________

(١) Boden Liener, Jurisprudence, p. ١٦٤.

(٢) Philosophy of Law, p. ٥.

(٣) Interpretation of Modern Legal Philosophies, N.Y. ١٩٤٧ , p. ٧٩٤.

١٥٧

فاذا سلمنا بهذه النظرية واجهنا سؤالا هاما هو: «ماالعدل؟»؛ «وكيف يمكن تعيينه؟»، وهكذا مرة أخرى، نرجع الى «جون آستين»!.

ومرة أخرى نقف أمام ظاهرة أن الانسان لن يستطيع الكشف عن أساس واقعي للتشريع، رغم الجهود الجبارة التي بذلت في هذا الحقل منذ مئات السنين، ويزداد يوما بعد يوم شعور بالمرارة وخيبة الأمل بين رجال التشريع، لأن الفلسفة الحديثة قد فشلت في بحثها عن أهداف الدستور.

ويتساءل البروفيسور جورج وهيتكروس باتون قائلا:

«ما (المصالح) التي لابد للدستور المثالي أن يحافظ عليها؟ انه سؤال يتعلق «بالقيم»، ويدخل في دائرة فلسفة التشريع. وما أكثر ما نرجو من الفلسفة أن تساعدنا؛ ولكن ما أقل ماهي مستعدة لبذله في هذه السبيل. فقد فشلنا في الكشف عن «ميزان للقيم»» يمكن قبوله لدى جميع الأطراف.

والحقيقة أنه ليس هناك من أساس لشيء من النظم الا للدين؛ ولكن الحقائق الدينية تصلح كعقيدة ووجدان، ولايمكن قبولها على أساس الاستدلال المنطقي(١) ».

وقد نقل البروفيسور «باتون» رأيا لبعض علماء التشريع - يقول: ان جميع محاولات الدراسة الفلسفية للبحث عن «الأهداف» في فلسفة التشريع قد انتهت الى غير ما نتيجة(٢) . ويتساءل «باتون»: أهناك حقا«قيم مثالية» تحدد الأسس عند تطوير التشريعات؟ لم يتمكن المشرعون من التوصل الى هذه القيم حتى الآن، غير أنها لابد منها». ويستطرد قائلا:

«لقد استخرج أصحاب نظرية (القانون الطبيعي) القديمة أسسهم من الحقائق الالهامية في الدين. ولكن اذا ما أردنا نحن أن نأتي بتشريع علماني، فاين سنجد أساس القيم المتفق عليها(٣) ؟».

وهذه التجربة المريرة تدعو الانسان للعودة الىالجهة التي انحرف عنها منذ قرون. فقد كان الدين يسهم اسهاما فعالا في وضع دساتير في الزمن القديم. ويرى خبير القانون المعروف السير هنري مين: أنه «لايوجد مثال واحد في القوانين، التي تم تسجيلها كتابة، من قانون الصين الى بيرو، الا وكان ذا علاقة بالطقوس الدينية والعبادات منذ بداية أمره(٤) ».

___________________

(١) A Text Book of Jurisprudence, p. ١٠٤.

(٢) المصدر السابق: ص١٠٦،

(٣) المصدر السابق - ١٠٩.

(٤) Sir Henry Maine, Early Law & Custom, P. ٥.

١٥٨

لقد آن الأوان أن نعترف بالحقيقة القائلة: بأن البشر لايستطيعون وضع دستور لهم بدون هدى الله. وبدلا من المضي في الجهود التي لاتأتي بنتائج مثمرة، علينا أن نعترف بالواقع الذي يدعونا اليه «الدكتور فرويدمان»، حين يقول:

«يتضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنه لابد من هداية الدين لتقييم المعيار الحقيقي للعدل. والأساس الذي يحمله الدين لاعطاء العدل صورة عملية ينفرد هو به في حقيته وبساطته(١) ».

اننا نجد في الدين جميع الأسس اللازمة التي يبحث عنها المشرعون لصياغة دستور مثالي، ولكي يتضح صدق ما نقوله، نأتي بالدراسة الوجيزة التالية في أهم مشكلات التشريع الانساني:

أولا - مصدر التشريع

وأول الأسئلة وأهمها بالنسبة لأي تشريع هو البحث عن مصدر هذا التشريع: من الذي يضعه! ومن ذا يعتمده حتى يصبح نافذ المفعول؟.

لم يصل خبراء التشريع الىاجابة عن هذا السؤال حتى الآن. ولو أننا خولنا هذا الامتياز للحاكم، لمجرد كونه حاكما، فليس هناك أساس نظري وعلمي يجيز تمتعه - هو أو شركاؤه في الحكم - بذلك الامتياز، ثم ان هذا التحويل من ناحية أخرى لايجدي نفعا؛ فان اطلاق أيدي الحكام ليصدروا أي شيء لتنفيذه بوسيلة القوة - أمر لاتطيقه ولاتحتمله الجماهير.

ولو أننا خولنا سلطة التشريع لرجال المجتمع، فهم أكثر جهالة وحمقا، لأن المجتمع - أي مجتمع - اذا نظرنا اليه ككل، لايتمتع بالعلم والعقل والتجربة، وهي أمور لابد منها عند التشريع. فهذا العمل يتطلب مهارة فائقة وعلما وخبرة، وهو مالاتستطيع العامة من الجماهير الحصول عليه؛ كما أنها، وان أرادت، لن تجد الوقت الكافي لدراسة المشكلات القانونية وفهمها.

وللخروج من هذه المشكلة توصل رجال القانون الى حل وسط، وهو أن يقوم (البالغون) من أفراد المجتمع بانتخاب ممثلين لهم، وهؤلاء بدورهم يصدرون التشريعات باسم الشعب.

ومن الممكن أن ندرك حماقة هذا الحل الوسط، حين نجد أن حزبا سياسيا لايتمتع الا بأغلبية٥١% من مقاعد البرلمان يحكم على حزب الأقلية، الذي يمثل ٤٩% من أفراد المجتمع البالغين. والأمر لايقف عند هذا الحد، بلان هذا الحل يحتوي على فراغ كبير جدا تنفذ

___________________

(١) Legal Theory, p. ٤٥٠.

١٥٩

منه «أقلية» لتحكم علىأغلبية السكان. وعلى سبيل المثال، فان الحكومة التي تحكم الهند الآن، قد وصلت الى مقاليد الحكم عن طريق الانتخابات العامة الخمسية الثالثة، التي أجريت في البلاد عام ١٩٦٢. وقد فاز حزب «المؤتمر القومي» بنسبة ٧٠% من مقاعد البرلمان، في حين أن نواب هذا الحزب لم يحصلوا الا على ٤٠% من أصوات الشعب، في الانتخابات. وهذا هو ما حدث في الانتخابات الخمسية الأولى والثانية، التي أجريت قبل سنة١٩٦٢(١) ، وحصل حزب المؤتمر في كلتيهما على أقل من ٥٠% من مجموع الأصوات! ولكنه رغم ذلك كان له الحق في تشكيل الحكومة، لأن أصوات الناخبين الأخرى كانت موزعة بين نواب الأحزاب (المعارضة). ولم تكن بطولة حزب المؤتمر الا في أنه أحرز أصواتا اكثر من أي حزب آخر «على حدة»!.

ولا أستثني من هذه الاقعدة الا الانتخابات الموزعة، التي تجري في الدول الشيوعية، فيفوز زعماؤها بأرقام خيالية للأصوات!.

وهكذا نقف مرة أخرى أمام ظاهرة البحث عن أساس القانون ومصدره.

والدين يستجيب لهذا التحدي الخطير، الذي قد يدمر سعادة البشرية كلها. انه يقول: ان مصدر «التشريع» هو «الله» وحده، خالق الأرض والكون؛ فالذي أحكم قوانين

___________________

(١) أجريت الانتخابات العامة الأولى والثانية في عامي ١٩٥١ - ٥٢، وعام ١٩٥٧، كما أن الانتخابات العامة الرابعة أجريت في عام ١٩٦٧، أي بعد صدور هذا الكتاب، وفي هذه الأنتخابات «فقد المؤتمر، لأول مرة في تاريخه ثماني ولايات: غلبت فيها أحزاب أو مجموعة نيابية ائتلافية. وقد سبق في انتخابات سنة ١٩٦٢ (و١٩٥٧) أن ألف الشيوعيون حكومة ائتلافية بالاستعانة ببعض الأحزاب السيايسة في ولاية (كيرالا) أما في انتخابات ١٩٦٧ فقد انهزم حزب المؤتمر هزيمة فادحة في ولايات: كيرالا، ومدراس، وأوريسة، وبيهار، كما لم يتمكن من احراز أكثرية مطلقة (تمكنه من تأليف الوزارة) في ولايات: البنغال الغربية، وأوتار براديش، وراجستان وبنجاب.».

ومعناه: أن حزب المؤتمر فقد الحكم على نصف الولايات (البالغ عددها ست عشرة ولاية)، ورغم ذلك تمكن هذا الحزب من تشكيل الحكومة الاتحادية (المركزية)، لأن نوابه «الذين أحرزوا هذه المرة أقل من نصف مقاعد البرلمان!» ويمثلون الأغلبية بالنسبة الى عشرات من الأحزاب الأخرى المتنازعة فيما بينها على المصالح والمناقشات العقيمة! ولو اتفقت هذه الأحزاب فيما بينها فكونت جبهة نيابية ائتلافية (كما فعلت بعض الأحزاب في الولايات الاقليمية) لاحتلت مقاعد الحكم ولاضطر نواب حزب المؤتمر الى الجلوس في مقاعد «المعارضة»!.

ويتضح من هذا جليا: «كيف تنفذ اقلية في الفراغ الدستوري الموجود في تشريعاتنا فتحكم على الأغلبية!» - المعرب.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

وهو: كيف ارتبطت بالتكليم الإلهي، وكيف وثقت أنّه من عند اللَّه مع أنّها ليست نبيّاً ولا وصيّ نبيّ؟ كما لم يتمّ ذلك بتوسّط نبي زمانها، بل تمّ ذلك من دون وساطة رسول أصلاً، وكيف صدّقت بنبوّة نبيّ آت وبشريعته المقبلة؟ وكيف قامت ببدايات أعباء الرسالة قبل عيسى، حتّى جعلها القرآن في درجة عيسى؟ كما يظهر من قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) ، و ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ ) ، و ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) ، و ( كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ.. ) (١) ، الدالّة جميعاً على أنّ مريم كانت في مصاف الرسالة ومن أصول الدين، خاصّة مع الالتفات إلى أنّ المخاطب به مثل زكريا - على فرض حياته - ويحيى وأنبياء زمانها. لا جواب على هذا السؤال سوى أنّها معصومة مصطفاة، وأنّ لها مقاماً لا يقلّ عن مقام النبوّة.

ومع كلّ هذا، لا عجب أن تكون فاطمة عليهما‌السلام شافعة للأنبياء، كما في الرواية المنقولة، كيف لا وهي من أهل آية التطهير الذين شهد القرآن أنّهم يَمُسُّون الكتاب المكنون كلّه، ولديهم العلم بالكتاب المبين العلويّ كلّه، بينما لم ينعت القرآن الأنبياء أولي العزم، فضلاً عن غيرهم، بأنّهم يعلمون الكتاب كلّه، بل قال في حقّ موسى عليه‌السلام مثلاً: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (٢) ، فما اُوحي لموسى هو (من كلّ شي‏ء)، وفي حقّ عيسى عليه‌السلام : ( قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) (٣) ، فكان ما جاء به بعض العلم، بينما وصف القرآن أنّه مهيمن على ما بين يديه من الكتب التي بعث بها الأنبياء السابقين، وأنّه تبياناً لكلّ شي‏ء.

____________________

١) سورة النساء: ١٧١.

٢) سورة الأعراف: ١٤٥.

٣) سورة الزخرف: ٦٣.

٥٢١

أو: (على معرفتها دارت القرون الأولى) ، بل يمكن أن نسجّل جملة امتيازات قرآنية للسيدة الزهراء على مريم عليهما‌السلام .

الامتياز الأوّل: افتراق في نوعية التطهير بين فاطمة الزهراء عليها‌السلام وبين مريم، حيث إنّ الذي ورد في مريم التعبير بصيغة الفعل الماضي، وهو دالّ على وقوع التطهير فيما سبق وإلى حدّ درجة من العصمة، بينما الذي ورد في فاطمة عليهما‌السلام هو إذهاب الرجس عنها، أي توقيتها عن أن يقترب إليها وإلى أصحاب الكساء الرجس، وعبّر عن التطهير بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار وأكّد بالفعل المطلق ( تطهيراً ) ، مضافاً إلى أنّ هذا التطهير الخاصّ المستمرّ هو من نمط خاصّ بسيد الأنبياء وأهل بيته أصحاب الكساء، فأين ذاك من ذا؟

الامتياز الثاني: إنّ لفاطمة علم الكتاب دون مريم عليهما‌السلام ؛ لأنّ فاطمة عليها‌السلام من المطهّرين في أُمّة النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وصف المطهّرون من هذه الأُمّة بقوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) (١) ، وهو وصف للقرآن، ثمّ أردف بـ: ( لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٢) .

فشهود حقيقة القرآن والكتاب كلّه بتلك الدرجة من الكرامة في كنانة الكتاب وهو ذو المجد القرآن المجيد في حفظ اللوح المحفوظ، ولفاطمة عليهما‌السلام حيث إنّها من المطهّرين في آية التطهير علم الكتاب الموصوف في القرآن بأوصاف متعدّدة: ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٣) ، و ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٤) ، وغيرها من الأوصاف.

وهذا العلم شهودي لدنّي، بينما لم يكن للمطهّرين في الشرائع السابقة حتّى الأنبياء هذا المقام؛ إذ إنّهم لم يشهدوا إلاّ ما تنزّل عليهم، بينما مريم سلام اللَّه عليها

____________________

١) سورة الواقعة: ٧٧ - ٧٨.

٢) سورة الواقعة: ٧٩.

٣) سورة الأنعام: ٥٩.

٤) سورة الرعد: ٣٩.

٥٢٢

وصفت بأنّها صدّقت بالكتب وهو غيب بالنسبة إليها، وبهذه الآيات يتبين أحد دلالات القرآن بأفضلية خاتم الأنبياء وأهل بيته على سائر الأنبياء.

الامتياز الثالث: وهو وليد للامتياز السابق، وهو شهادة الأعمال لارتباطه بالكتاب المكنون، وقد حفل ملف آيات الإشهاد في القرآن الكريم على جميع الناس من الأوّلين والآخرين، أنّ هؤلاء الأشهاد من هذه الأُمّة، وأنّ سيد الأنبياء هو الشاهد على الأشهاد، وأنّ هؤلاء الأشهاد هم من ذرّية إبراهيم وإسماعيل، كما أشارت إليه آخر سورة الحج، ودعاء إسماعيل وإبراهيم في سورة البقرة، وكذا في سورة الدهر؛ حيث بينت أنّ عباد اللَّه الذين يطعمون الطعام للمسكين، واليتيم، والأسير، هم الذين يسقون الأبرار من عين الكافور، فلهم الإشراف على الأبرار وأعمالهم كما في سورة المطفّفين أيضاً، وهذا المقام لم تُنعت به مريم عليها‌السلام في القرآن الكريم.

الامتياز الرابع: آية المباهلة، لا بتقريبها السطحي وهو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يباهل إلاّ بأعزّ ما لديه، وإنّما بما يستبطنه هذا التقريب من معنى دقيق وهو: أنّ المباهلة نوع من الدعاء والملاعنة، والقسم والحلف لإثبات الحقّ وتوثيقه، فالآية تدلّ على أنّ الدين في بُعده الغيبي مرتبط بهؤلاء الخمسة.

بعد الالتفات إلى أنّ الذي كان يستهدفه الرهبان من هذه العملية إطفاء برهان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يمثّل رمز الدعوة وحربتها، فضمّ النبيّ تلك الصفوة معه في هذه العملية للتدليل على رمزيتهم وأنّهم أصحاب الدعوة أيضاً وشركاؤه، فمن قَبِله فبها، ومن ثمّ قال تعالى: ( فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) ، في مقابل الصادقين، فكان التعبير بالجمع لا بالمفرد (على من كان كاذباً)، فهي شهادة بالشركة على أنّ نبوّته خاتمة وهي دين ____________________

١) سورة آل عمران: ٦١.

٥٢٣

الإسلام، ونبوّته خاتمة النبوّات وأنّ المسيح عبد اللَّه ورسوله، خاصّة مع وجود قرابة آخرين له، ولفيف من الصحابة، وبعضهم يُزْعَم له شأن في الإسلام، إلاّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يشركهم في العملية.

أضف إلى ذلك أنّ تعيين هؤلاء كان من اللَّه سبحانه وتعالى وليس من النبيّ، ممّا يؤكّد أنّ القضية ليست بحكم المَعزَّة والقرابة.

ولو أبيت عن قبول دلالة القصّة على فكرة كون أصحاب الدعوى شراكة بنحو الطولية والتبعية، وأنّها لا تعني إلاّ التوثيق وقد حصل بهؤلاء، فنقول: إنّ التوثيق عادة يكون بالثقل، وإنّ هؤلاء عليهم‌السلام أثقل المسلمين، ومن ثمّ تمّ اختيار اللَّه لهم للوقوف إلى جانب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه العملية، فهم وثيقة للدين كما هو صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعندما نستذكر زيارة الرضا عليه‌السلام نلحظ فيها أنّ كلّ إمام في عصره آية حقّانية للنبيّ ومعجزة صدقه.

النموذج القرآني السادس: قصّة أُمّ موسى

سورة القصص من آية ١ إلى ١٣.

في المقدّمة نشير إلى مدلول آية: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ... ) ، فإنّ الواضح منها الاستمرار، وبيان السنّة الإلهية وقاعدة القضاء والقدر، وإلاّ لو كانت خاصّة بالأُمم السابقة لجاء التعبير (وأردنا) بصيغة الماضي لا بصيغة المضارع الدالّ على الاستمرار.

قوله تعالى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ) :

أ - يلحظ الشبه الكبير بين خفاء ولادة موسى وخفاء شخصه وظفره، وبين خفاء ولادة صاحب الزمان (عج) وخفاء شخصه وظفره.

ب - لم ينصّ في الآية على أنّ الوحي كان بتوسّط نبيّ أو رسول أو وصيّ، بل

٥٢٤

في الروايات أنّها نوديت، وأنّه مباشرة، في الوقت ذاته لا دلالة في الآية على أنّه من أيّ قسم من الأقسام الثلاثة للوحي.

قوله تعالى: ( أَنْ أَرْضِعِيهِ... ) ، سلسلة من الأوامر في كيفية التعاطي مع الوليد الجديد بشكل يحفظه مع إخبار الغيب المستقبلي: ( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

مثل هذه الأوامر التفصيلية من اللَّه تعالى هي لخواصّ من هو حجّة، مصطفاة من القسم الرابع الذي يتجسّد فيه إعمال الحقّ تعالى ولايته مباشرة، ومن دون توسيط نبيّ تلك الأُمّة. ولكن من دون خروج عن الشريعة الظاهرة آنذاك بالشكل الذي بيّناه في قصّة الخضر، ولهذه الأوامر دلالة على أنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي الفطري كما قد يتصوّر أنّه من قبيل: ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ... ) (١) بعد الالتفات إلى أنّ متعلّقات الأوامر المذكورة ليست ممّا تُدركه الفطرة.

يضاف إلى ذلك الإخبارات بالغيب التي رافقت الأوامر، واطمينان أُمّ موسى بالوحي المذكور، دليل مقامها وسموّ مكانتها، وإلاّ لتلكّأت لاحتمال أن يكون نفث الجنّ، أو مكاشفة وإلقاءات شيطانية. وبتعبير آخر: أنّ الوحي المباشر، وقبولها له لا يعقل إلاّ مع كون القناة معصومة، وإلاّ لم تكن تستوثق منه.

هذه القصّة وسابقاتها تدفعُ الإنكارَ على مقولة الشيعة: بأنّ الإمام يرتبط بالوحي‏. بعد وضوح معتقدهم أنّه ليس وحي نبوّة، علماً أنّ القرآن لم يحدّثنا عن حجّية أُمّ موسى بدائرة أوسع من حجّيتها على نفسها في ما يرتبط بطبيعة التعامل مع الوليد.

قوله تعالى: ( وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ، فقد آمنت أُمّ موسى برسالته قبل أن يُرسل، كما

____________________

١) سورة النحل: ٦٨.

٥٢٥

آمن الأنبياء السابقون بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يولد، وكما نصّت الزهراء البتول بإمامة الأئمّة حيث دوّنوا في اللوح الأخضر الذي نزل من السماء.

قوله تعالى: ( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) ، توضّح عن رابطة الأُمّ بطفلها، وأنّها امتحنت بأصعب شي‏ء كما امتحنت السيدة مريم بكرامتها وعِرضها وعفّتها، وهي سيدة العفّة في زمانها.

لولا أن جاء التسديد الإلهي لمثل هؤلاء البشر الذين اختاروا تنفيذ الإرادة ولو على حساب أعزّ ما لديهم: ( لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ) .

النموذج القرآني السابع: قصة لقمان

وهذا النموذج وإن لم يكن نموذج للإمامة ولا للحجّية المصطفاة، إلاّ أنّه نموذج على الهبة اللدنية الإلهية، وهي ليست مقام نبوّة أيضاً. نعم الحجّية في الحكمة هو في ذاتها ومقالاتها حيث إنّها منطوية على الدليل والبرهان، وهاهنا نقاط يُلفت إليها:

١ - تشير الروايات إلى أنّ لقمان لم يصل إلى مقام الحكمة إلاّ بعد أن واظب على جملة من السنن، منها أنّه لم يكن يتكلّم إلاّ عند الحاجة.

٢ - وتشير أيضاً إلى أنّه قبل أن يُمنح هذا المقام خيّر بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة، على العكس من داود.

٣ - وتشير أيضاً إلى أنّ سلمان المحمدي أعظم حكمةً من لقمان، وفي زيارته والروايات الواردة في شأنه إشارة إلى مقامات خاصّة، من قبيل أنّه (باب علم الوحي) و (أدرك علم الأوّلين والآخرين)، بل في الروايات يستشهد الصادق عليه‌السلام بكلمات سلمان وهو دليل حكمة سلمان.

٤ - وفي الروايات: مَن أخلص للَّه أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة على

٥٢٦

لسانه.

٥ - يظهر من سورة لقمان وممّا ورد في سلمان أنّ هذا المقام والمنزلة مفتوح لكلّ مَن يجاهد نفسه، ومثل مقامات أُخرى كالصدّيقين. وفي رواية في كفاية الأثر للخزّاز وغيره يشرح الصادق عليه‌السلام هذه المقامات ويذكر الطريق إليها.

٦ - يظهر أنّه مقام لدني كالنبوّة بحكم التخيير.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ... ) ، وقد وردت الحكمة في آل إبراهيم وآيات أُخر، منها: ( مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) (١) ، ويظهر من الآية أنّها علم إلهي خاصّ يغاير النبوّة والمقامات الأُخر في الجملة، وهذا العلم لدني ويمنح وليس فطرياً؛ بقرينة: ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ، فإنّ تعلّم الكتاب ليس فطرياً.

وقد عُرّفت الحكمة بتعريفات متعدّدة أشرنا إليها في كتاب العقل العملي، والحقّ أنّها: العلم الذي يتلقّاه العقل العملي فيتمّ الإذعان به والتصديق، فهي ليست صفة عملية بحتة ولا علمية بحتة.

قوله تعالى: ( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ... ) ، الظاهر من (أن) أنّها تفسيرية، وبالتالي الظاهر من الآية تفسير الحكمة بالشكر، ممّا يعبّر عن أنّ رأس الحكمة شكر اللَّه.

وقد أخذ قِبال الشكر في القرآن الكفر: ( إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) ، كما قابلت الروايات بين الجهل والعقل، ممّا يعني كلّ ذلك أنّ هذه الصفات ليست إدراكية محضة، وإنّما عملية، من ثمّ كان الشغل الشاغل للأنبياء هو العقل العملي الذي هو تحت اختيار الإنسان، وأمّا الإدراك والعلم، فالفطري منه موجود من دون اختيار.

ثمّ لا ريب أنّ العلم الذي مُنح للقمان، والذين نُعتوا بالحكمة، وإن لم يندرج تحت واحد من الأقسام الحجج، إلاّ أنّ علم الحكم حجّيته منطوية فيه لانطواء

____________________

١) سورة البقرة: ٢٦٩.

٥٢٧

البرهان والدليل في أقضيتها.

ويستفاد من هذه نتيجتان مفصليتان بعد الالتفات إلى النقاط التالية:

١ - إنّ لقمان ليس نبيّاً باتّفاق الجميع.

٢ - إنّ المستعرض لحكمة لقمان في القرآن هو اللَّه تعالى، أي لم تُعرض حكمته في القرآن على لسان نبيّ وإنّما على لسان الحقّ تعالى.

٣ - إنّ استعراض الحقّ تعالى لحكمته كاستعراضه لكلام الأنبياء.

٤ - بل استعراضه يمتاز عن سنن بعض الأنبياء من جهة أنّ شرائعهم منسوخة ولا يفهم أبديتها إلاّ بالقرينة: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (١) ، بينما الظاهر من حكمة لقمان أبديتها، بنكتة كونها كلّيات فوقانية، فهي البنية التحتية للشرائع، أو لأنّها حكمة، أو لأنّها فطرية عقلية مستوسعة، والكلّ واحد تقريباً.

نعم، تمتاز سنن الأنبياء عن الحكمة بأنّها تنزل الهداية للتفاصيل ولدائرة أوسع بكثير من الحكمة، بينما الحكمة هي في دائرة الكلّيات.

٥ - لم يذكر حجّية حكمة لقمان من جهة عرضه على نبيّ أو من جهة إقرار القرآن لها، وإنّما حجّيتها من جهة تضمّنها للدليل والبرهان.

٦ - إنّ حجّية الحكمة هي من حجّية العقل، وحجّية العقل تلازم حُكم الشرع؛ لأنّه كلّ ما حَكم به العقل البديهي أو النظري المبدّه حكم به الشرع، فهو لا يختلف روحاً عن التشريع الظاهر، وإن كان تشريعاً باطناً كما يسمّى العقل بالرسول الباطن.

من ثمّ وبعد أن عرفنا أنّ طبيعة الحكمة ليست إلاّ علماً خاصّاً أُودع من قبل اللَّه تعالى في فطرة لقمان بنحو البسط، فهي لا تختلف عن العلوم الفطرية التي

____________________

١) سورة المائدة: ٤٨.

٥٢٨

يمتلكها البشر جميعاً من هذه الزاوية، إلاّ في أنّها أوسع نطاقاً من الآخرين، فحينئذٍ أمكن أن نفهم:

أوّلاً: ما ورد في الروايات أنّ العقل رسول باطن وحجّة باطنة ومنزّل منزلة قناة الوحي، الظاهر في أنّ كلّ إنسان مرتبط بعلم اللَّه تعالى وإرادته في دائرة البديهيات أو النظريات المبدّهة. وبهذا يكون ردّاً على الأشاعرة، والسلفيين، والظاهريين، وقبلهم أصحاب السفسطة، حيث أنكروا العقل أو حجّيته.

حيث عرفت أنّ هذا النمط من العلم موجود ويوجب اليقين والجزم، وأنّه قد استوسع للقمان، وفي الروايات إشارة إلى أنّ مصدراً من مصادر علومهم عليهم‌السلام هذا النمط من العلم وهو الحكمة، لكن بدائرة تفوق كلّ من أوتي الحكمة.

ثانياً: النقض على أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان؛ حيث أنكروا وجود مصدر للحجّية والارتباط بالسماء غير النبوّة، مع أنّا لاحظنا وجود قنوات أُخرى لها، وجود ضامر في كلّ إنسان وأنّها قد توسّع للبعض لا بتوسّط نبيّ، فالحال في الإمام الذي هو خليفة اللَّه تعالى في أرضه المعلّم علم الأسماء كلّها أوضح.

بل إنّ أهل سنّة الجماعة إذا ارتضوا العقل كالمعتزلة، متجاوزين المسلك الأشعري ولو في مساحة محدودة، فلا بدع في سنّة اللَّه في الإمامة بعد أن كان العقل قناة إلى جنب قناة النبوّة، فيمكن للَّه تعالى أن يفتح قناة ثالثة أو يوسّع من قناة العقل والفطرة، وتكون ملزمة وحجّة.

والملفت أنّ القرآن لم يذكر جملة من الأنبياء، أو ذكر جملة أُخرى منهم ولم يذكر لهم قولاً، في الوقت الذي تعرّض فيه لجملة من المؤمنين مع عرض كلماتهم، كمؤمن آل فرعون، ومؤمن آل ياسين، وزوجة فرعون، بالإضافة إلى النماذج التي سبقت الإشارة إليها بمَن فيهم لقمان.

٥٢٩

وليس ذكر مثل هؤلاء إلاّ للعِبرة، وليس ذكر كلماتهم إلاّ للاحتجاج في أنّ الحجّية الذاتية لا تنحصر بالنبوّة، إذ قد تكون من خلال علم فطري تفتّق، أو علم لدنّي خاصّ مُنح من قبل اللَّه تعالى، إلاّ أنّ حجّية النبوّة والإمامة دائرتها أوسع بلا مقايسة مع دائرة حجّية العقل الفطري البديهي.

قوله تعالى: ( أَنِ اشْكُرْ... ) ، وجوب الشكر في الحكمة العملية يوازي في الحكمة النظرية وجوب وجوده تعالى.

قوله تعالى: ( فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) ، بدليل: ( إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ، و ( حَمِيد ) ، فيها إشعار إلى أنّه يشكر مَن شكره: ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) ، أو يعني جامع الكمالات.

قوله تعالى: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ، في هذه الآية وعموم الآيات القرآنية يلاحظ الترابط بين البعد النظري والعملي، فالشرك أعظم غلطة وكذباً وجهلاً على مستوى الإدراك، والظلم العظيم أعظم قبحاً في العقل العملي.

قوله تعالى: ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ... ) ، المداقّة في الحساب - وكما ورد في سورة الزلزلة - ممّا لا يدركه العقل لوحده، كذا باطن الفعل في الملكوت بمقتضى الآية المبين فيها، حيث إنّ إتيان اللَّه به يوم الحساب دليل بقائه وثباته.

قوله تعالى: ( فِي السَّمَوَاتِ ) ، إمّا كناية عن الإحاطة الإلهية، أو إشارة إلى وجود جزاء لأهل السماء مجهول الكيفية لنا، كما يبدو من آيات وروايات متعدّدة، مثل: ( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إلاّ مَا عَلَّمْتَنَا ) ، وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة حول الملائكة: (إنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً)، و.. الكاشف عن وجود ظاهرة العمل والجزاء في الملائكة.

قوله تعالى: ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة ) ، بعد أن فرغ من توحيد اللَّه ومعاده ودخل في استعراض كلّيات الشريعة، وفيه دلالة على أنّ الصلاة ثابت في كلّ شريعة، حيث كانت فطرية، وأنّ الأمر بالمعروف فطري، وهو وإن كان في الفقه الاصطلاحي يقابل

٥٣٠

الجهاد والقصاص والديات والقضاء، إلاّ أنّه بالمعنى الأعمّ شامل لها، بل شامل لكلّ معروف بعد أن كان الإتيان به يستبطن الدعوة لإقامته. والصبر يكشف عن أنّ الأُمور العملية فيها عناء ولا يتمّ إلاّ بالصبر.

قوله تعالى: ( وَلا تُصَعِّرْ ) ، فعل جارحي ناتج عن الكبر.

قوله تعالى: ( مَرَحًا ) الزهو، وهو الترف والفرح للمادّيات المذموم في القرآن.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) ، إنباء لقمان عن المحبّة الإلهية، والتي على أساسها أمكنه العلم بالمحبوبات، وعلى أساس ذلك أمكنه النسبة. ويعرّف أيضاً: أنّ الحكمة ليست علماً صرفاً، وإنّما هي التي تستوجب العمل. وبه يمكن الردّ على من يقول: إنّ حكم العقل منجّز فقط. حيث ظهر أنّه يلازم حكم الشرع، بل يمكن نسبته إليه تعالى.

قوله تعالى: ( إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ ) ، فيه دلالة على إلمامه الواسع بالخليقة، وإن كان قد ورد أنّ المراد بذلك صوت بعض أصحاب التابوت في قعر جهنّم.

النموذج القرآني الثامن: قصّة آصف بن برخيا صاحب سليمان.

وتبدأ من آية ٣٥ إلى آية ٤١ من سورة النحل.

قال تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ.. ) ، إنّما كان سليمان حريصاً على السرعة الخاطفة في إحضار عرش بلقيس لإظهار مقام آصف وأنّه وصيّه والإمام من بعده، كذا جاء في الروايات عنهم عليهم‌السلام ، ويعاضده سياق الآيات.

والإتيان بالوصف: ( عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) مشعر بالعلّية، وأنّ الوصف هذا هو الذي أهّله للقيام بهذا العمل. وآصف ليس نبيّاً بالاتّفاق، فتدلّ الآية على توفّر غير الأنبياء أيضاً على علم لدنّي وهو خاصّ، وصنّف هذا العلم بعلم الكتاب وهو علم مرتبط بالأديان،

٥٣١

وبالدقّة: علم السنن الإلهية الكونية والشريعة بحسب التكوين.

وقد جاءت أوصاف العلوم اللدنية في الروايات متنوّعة: علم الكتاب، فصل الخطاب، علم الوصايا، علم الأصلاب، علم شهادة الأعمال، علم المنايا والبلايا، علم التأويل، علم تأويل الأحاديث، منطق الطير، وغيرها. كما ألفت القرآن إلى علم الكتاب في مواضع متعدّدة:

أ - ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا... ) (١) .

وقد نزلت الآية في كفّار قريش الذين طالبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقوم بتسيير الجبال المحيطة بالبيت الحرام بعيداً، ويقطّع الهضاب في مكّة كي تصير الأرض سهلة زراعية كأرض الشام وتذهب حُزونتها، ويحيي لهم موتاهم ممّن مضى، إلاّ أن القرآن ذكر أنّ المطلوبات الثلاثة لو أُنجزت بالقرآن لا بالمصحف الشريف المقدّس لما آمنوا، فهذه الآية دالّة على أنّ هذه الأُمور ممّا يمكن تحقّقها بحقيقة القرآن إلاّ أنّه تعالى لم يأذن لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتحقيقها وإيجادها بتوسّط ما لديه من حقيقة القرآن؛ لأنّ مشركي قريش لا يفون بشرطهم باستجابتهم للإيمان، ممّا يكشف عن أنّ هذه الأُمور تحصل بالقرآن، سوى أنّه لم يحصل لأنّه لا يؤدّي إلى وفائهم وإيمانهم.

ب - ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) (٢) ، فالخشية ها هنا عظيمة، ومن ثمّ جاء: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ، ومن الواضح أنّ نفس المصحف الشريف لو وضع على جبل لا يوجب تصدّعه، فمن الواضح أنّ المراد هو نزول حقيقة القرآن على الذات الحقيقية الخفية للجبل، حيث يثبت القرآن الكريم للأشياء الجامدة ذاتاً خفية وراء أجسامها، كقوله تعالى:

____________________

١) سورة الرعد: ٣١.

٢) سورة الحشر: ٢١.

٥٣٢

( أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) (١) ، و ( وَإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (٢) ، ممّا يثبت أنّ لذوات الأشياء إدراك وشعور.

ج - وفي آيات أُخرى: ( آتَانِيَ الْكِتَابَ ) (٣) وما أشبه، دالّة على مؤهّلات النبيّ الظاهرة في أنّ إيتاء الكتاب غير جعل النبوّة، وإنّما هو مقام غيبي آخر وعلم لدني قد يقترن بالنبوّة.

د - قوله تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٤) ، وقوله تعالى: ( مَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٥) ، الدالّ على أنّ كلّ شي‏ء مستطرّ في الكتاب والكتاب المبين، فالذي لديه علمه يحيط بذلك أو لديه بعضه فيحيط بقدر منه.

والقرآن هو الكتاب كما ورد في الواقعة وهي قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) (٦) ، وكذا في سورة الدخان وهي قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ... ) (٧) ، وغيرها من السور الدالّة. وقد منح شطر من العلم المزبور لآصف بن برخيا.

ونرجع دفّة الكلام إلى أصل القصّة وبدايتها، من قوله تعالى: ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ

____________________

١) سورة فصلت: ٢١.

٢) سورة الإسراء: ٤٤.

٣) سورة مريم: ٣٠.

٤) سورة الأنعام: ٥٩.

٥) سورة النمل: ٧٥.

٦) الواقعة: ٧٧ - ٧٨.

٧) سورة الدخان: ١ - ٣.

٥٣٣

أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (١) .

والمفاد الأوّلي لهذه الآية: أنّ جليس سليمان لم يصفه القرآن بأنّه نبيّ ولا مرسل، بل لديه علم من الكتاب، في حين يثبت له القرآن الكريم علم غير كسبي.

ثمّ يستفاد من الآية أُمور:

أوّلاً: إنّ جليس سليمان الذي هو آصف بن برخيا - والذي عليه الفريقان - لم يكن نبيّاً ولا مرسلاً، مع ذلك زوّد بعلم لدنّي غير كسبي، ممّا يعني أن هذا العلم لا يختصّ بنبيّ ولا رسول، بل تعلّق بغيرهما، ولكونه حجّة من الحجج الإلهية.

ثانياً: إنّ علمه لدني غير كسبي، ودليل ذلك:

١ - وصفه القرآن الكريم بأنّه علم من الكتاب توطئة لبيان القدرة على المجي‏ء بعرش بلقيس، والوصف دخيل في العلّية، حيث وصف علمه بعلم الكتاب، فالعلّة والسبب لهذا الفعل هو العلم غير الكسبي بل اللدنّي كما يقال في علم البلاغة والبيان الوصف مشعر بالعلّية.

٢ - إنّ آصف بن برخيا مؤهّل لهذه المهمّة الإلهية التي تُعدّ إحدى المقامات العالية التي لا ينالها إلاّ أهلها، ممّا يعني أنّ آصف بن برخيا في درجة من الطاعة والعبودية يستحقّ عندها الاصطفاء لهذه الحبوة الكريمة. على أنّ الكتاب المشار إليه في الآية لم يكن هو الكتاب الخطّي المنقوش، بل هو الكتاب الحقيقي الملكوتي الذي يهيمن على النشآت الأُخرى، لذا ورد لفظ الكتاب في القرآن الكريم في عدّة موارد مشيراً إلى هذه الحقيقة، كما في قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٢) ، وقد أشارت إلى ذلك سورة الواقعة في قوله تعالى: ( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاّ

____________________

١) سورة النمل: ٣٨ - ٤٠.

٢) النمل: ٧٥.

٥٣٤

الْمُطَهَّرُونَ ) (١) ، وفي سورة الرعد وصف لهذا الكتاب: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا... ) (٢) ، وكما في سورة الحشر قوله تعالى: ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) (٣) ، فالإنزال المشار إليه هو إنزال ملكوتي حقيقي، وليس هذا المصحف المنقوش بل بوجوده اللدنّي الملكوتي. ومن آثار هذا العلم اللدنّي إمكانية حامله بإتيان عرش بلقيس قبل أن يرتدّ الطرف، وهي قدرة خارقة عجيبة حاز عليها آصف بن برخيا بتحمّله هذا العلم الإلهي الذي هو بعض ذلك العلم، لتنكير كلمة (علم) الواردة في الآية ولفظة (من) ممّا يشير إلى أنّ آصف حُبي ببعضه فقط.

كما يجب التنويه إلى أنّ وجود علم الكتاب عند غير الأنبياء دليل تشريك في المسؤولية والحجّية بينهم وبين مَن عنده علم الكتاب وهم الحُجج. وبانتظام ومطابقة بين علم الكتاب في سورة الرعد وعلم الكتاب في سورة الواقعة يُتنبه إلى حقائق:

الأُولى: إنّ سوراً عديدة تفسّر الكتاب المبين بالقرآن، كما هو عليه سورة الدخان في قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) (٤) ، والتنزيل إشارة إلى أنّ المنزّل هو ذلك القرآن الذي وصفته الآية بالكتاب المبين، وكما في سورة الواقعة عند قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) (٥) ، وقوله تعالى في سورة النمل: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٦) ، ممّا يعني أنّ الكتاب المشار هو القرآن الكريم.

____________________

١) سورة الواقعة: ٧٨ - ٧٩.

٢) سورة الرعد: ٣١.

٣) سورة الحشر: ٢١.

٤) سورة الدخان: ١ - ٣.

٥) سورة الواقعة: ٧٧ - ٧٨.

٦) سورة النمل: ٧٥.

٥٣٥

الثانية: إنّ الكتاب تارةً يُطلق على جنس الكتاب، وتارةً يُطلق على الكتاب العهدي للام العهدية، والمقصود من الكتاب هنا هو القرآن الكريم لورود اللام العهدية في تعريفه، وأنّ للقرآن مواقع ومنازل كونية ملكوتية، وأنّ المصحف الشريف هو أنزل تلك المواقع والمنازل، ومن ثمّ وصف في الآيات بأنّه تنزيل الكتاب، أي الدرجة والموقع النازل من الكتاب لا المواقع المكنونة الغيبية القدسية ذات المجد والكرامة.

الثالثة: إنّ القرآن الكريم وصفه اللَّه تعالى بأنّه مهيمن على الكتاب، وهذه الصفة تعني الإحاطة، فما نزل على الأنبياء من الحقائق العلمية والتي أودعت في كتب مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى فهي مودعة مثلها في القرآن الكريم.

والخلاصة:

إنّ ما كان عند آصف بن برخيا هو بعض علم الكتاب أي بعض من القرآن؛ إذ الكتاب هو القرآن الشامل لكلّ الكتب التي أسلفنا.

وتبين عند ذلك أنّ الكتاب له وحدة واحدة وهو القرآن، أي: أنّ المعارف السماوية وحقائقها كلّها أودعت في القرآن الكريم، وإذا كان آصف بن برخيا قد علِم بعض حقائق القرآن فكيف بمَن أُحيط بعلمه كلّه، ظاهراً وباطناً، وهو رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الحجج المعصومين من أهل بيته الطاهرين (صلوات اللَّه عليهم أجمعين)؟.

النموذج القرآني التاسع: قصّة عُزير

قوله تعالى: ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ

٥٣٦

اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) (١) ، على اختلاف الروايات عند الفريقين فإنّ الذي مرّ على قرية هل هو (إرميا) النبيّ أم هو عزير الذي هو أحد الحجج الإلهية؟

وعلى كلا الوجهين فإنّ الذي يهمّنا هو أنّ الكلام الإلهي المقصود في الآية كونه إسناداً مباشراً إلى اللَّه تعالى فهذا الوحي والخطاب الإلهي خوطب به الذي مرّ على القرية.

وعلى فرض أنّ المقصود هو عُزير - وهو المشهور بين الفريقين - فإنّ عُزير لم يكن نبيّاً، بل هو حجّة من حجج اللَّه تعالى، ومع ذلك فقد حصل على مقام التكليم مع اللَّه تعالى مباشرة، ممّا يعني أنّ التكليم الإلهي ليس من مختصّات مقام النبوّة فقط، بل يشترك معها مقام الحجج الإلهية كذلك.

ولسائل أن يقول: إذا كان نبيّ اللَّه إبراهيم قد سأل اللَّه تعالى بنفسه ما سأل عُزير حين قال حكاية عن إبراهيم: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٢) ، فكان ذكره في مقام مدح وثناء، بينما كان تساؤل عُزير في مقام ذمّ واستياء، كما يفيد ظاهر الآيتين وسياقهما.

وقد ذهب المفسّرون أنّ إبراهيم كان في تساؤله طلباً واستفهاماً وغايته الاطمئنان القلبي، في حين كان تساؤل عُزير استنكاراً لقدرة اللَّه تعالى، وأنّ إبراهيم استعمل أدباً خاصّاً في طرحه لهذا التساؤل الاستفهامي، لذا فإنّ الإحياء الذي وقع لإبراهيم كان فيه كرامة في حين كان الإحياء لدى عُزير واقعاً في نفسه حيث كان محلاًّ لقدرة اللَّه تعالى.

____________________

١) سورة البقرة: ٢٥٩.

٢) سورة البقرة: ٢٦٠.

٥٣٧

إضاءة حول الرَّجعة:

وفي قوله تعالى: ( كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) .

فالمحاورة التي جرت بين اللَّه تعالى وبين عُزير كانت على مستوى الروح وليس على مستوى البدن؛ لأنّ بدن عُزير لم يتمّ إنشاء إعادته أثناء المحاورة، فلا سمع بدني عندئذٍ ولا لسان ولا جوارح أُخرى تُقدِره على ذلك.

كما أنّ طبيعة النفس الإنسانية إذا وجدت في نشأة بعد نشأة أُخرى فإنّها تكون في حالة غيبوبة، ولدى النفس إقبال على النشأة الجديدة وذهول عن النشأة السابقة، كما في قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ يَوْمًا ) (١) ، وهذا ممّا يؤيّد ما تذهب إليه الإمامية في الرجعة، وذلك أنّه لو أُشكل بأنّ القول بالرجعة ينافي كون الدنيا دار امتحان وذلك بسبب إبطال الامتحان فيما سبق من النشآت، ممّا يعني أنّ أهل جهنّم عندما يرجعون إلى دار الدنيا قبل يوم القيامة بسبب ما ذاقوه من عذاب البرزخ سوف يتوبون وأنّ أهل الحقّ سوف يزدادون في أعمال الخير وهذا خلاف حكمة الامتحان في دار الدنيا.

والجواب: إنّ النفس عندما تقبل على نشأة أُخرى جديدة فإنّها تنسى النشأة السابقة وتعيش في نشأة جديدة.

ونفس الجواب يُجاب به لمن أشكل من فلاسفة المسلمين من الخاصّة حيث يستشكلون في عالم الذرّ من أنّ فرض وجود روح والمخاطبة في عالم لو كان كذلك لما نُسي عالم الذرّ في عالم النشأة اللاحقة، وكما أشكل ملاّ صدرا - إضافة إلى ما سبق - بقوله: ولكنّا معطّلين الوجود في عالم الذرّ أي لو كانت النفس غير

____________________

١) سورة طه: ١٠٢ - ١٠٤.

٥٣٨

حادثة بحدوث البدن، بأن كانت أسبق منه في الخلق، واستدلّ بأنّا لا نتذكّر أنّا كنّا في حركة وتأثير وفعّالية، ومن ثمّ اختار وأسّس نظريته أنّ النفس جسمانية الحدوث وروحانية البقاء، ورفض كون النفس روحانية الحدوث وروحانية البقاء.

والجواب عن كلّ ذلك هو: أنّ انبعاث النفس إلى نشأة جديدة وانشدادها إليها ينسيها مشاهد النشأة السابقة والنشآت السابقات، كما يقصّه لنا القرآن الكريم حول نسيان النفوس نشأة البرزخ. علماً أنّ السؤال الفطري في عالم الذرّ لا ينافي النسيان في النشأة اللاحقة.

وقوله تعالى: ( فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ) .

إنّ بدن عُزير في الظاهر قد بُلي، أمّا الطعام والشراب لم يبلَ، وهو نوع إعجاز، والقدرة الاعجازية هنا تعلّقت بالطعام والشراب الذي لابدّ من فساده ولم يفسد، وإحياء ما قد بُلي وهو عُزير.

وهذا شاهد قرآني على طول عمر الإمام الحجّة (عج)؛ فإذا أمكن إبقاء قابلية الطعام والشراب على البقاء ففي قدرته تعالى على إبقاء الإمام الحجّة (عج) أولى.

وقوله تعالى: ( وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ) ، أي: معجزة للناس، ولم يكن عُزير نبيّاً ولا رسولاً.

إنّ كون الشي‏ء آية لعموم النوع والجنس مثل خلق الإنسان، فلا تكون الحجّية لكلّ واحد من الناس بخصوصه في خلقته، في حين لو كان الإعجاز لشخص معين من حيث هو فعل اللَّه تعالى لشخص من باب التكريم والرحمة، فإنّ هذه الكرامة هي قدرة اللَّه تعالى تظهر في الشخص الذي هو في مقام الحجّة الإلهية.

على أنّ الذي يُحبى بالمعجزة الإلهية لا يمكن أن يكون غير حجّة؛ لأنّ ذلك سيكون تغريراً بالمكلّفين، نعم، فيما إذا كانت المعجزة لا من باب التكريم بل من باب النقمة، فإنّ الذي تقع عليه المعجزة عندئذٍ ليس بحجّة، كما حدث لفرعون

٥٣٩

وأمثاله من الظالمين.

كما أنّ أغلب موارد غير الحجّة لا يُعبّر عنها بالجعل، بل يُعبّر عنها بغير ذلك، نحو: (ليكون آية)، ( فَالْيَوْمَ نُنَجّيِكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (١) ، في حين موارد الحجّية أغلبها عبّر عنها القرآن الكريم (بالجعل)، كما في قوله تعالى: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً ) (٢) ، وقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (٣) ، وهذا ما يؤيّد حجّية عُزير، فقوله تعالى: ( وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ) (٤) ، والآية هنا آية تكوينية.

قوله تعالى: ( قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

وهذا أحد مؤيّدات حجّية عُزير؛ لأنّ العلم هنا إشارة إلى العلم اللدنّي لا الاكتسابي، ومن القرائن المؤيّدة أنّ عُزير له مقام الحجّة، ذكره في دعاء أُمّ داود في النصف من رجب، حيث ورد ذكره في سياق الحجج كلقمان، وخالد بن حنظلة، وغيرهما.

قوله تعالى: ( قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ ) ، إنّ اليهود ادّعوا أنّ العُزير ابن اللَّه لا على سبيل البنوّة، بل تشريفاً، كقوله تعالى: ( قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) (٥) ، أي: اتّخاذ تشريفي لا حقيقي على سبيل البنوّة. لذا فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين حاجج اليهود - كما في رواية الطبرسي في الاحتجاج - وسألهم عن سبب اتّخاذهم هذه الدعوى، وكون عُزير هو ابن اللَّه، فقالوا: لأنّه أحيى التوراة فأقرّهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّه أحيى التوراة، ولكن لم يؤيّدهم على دعواهم الفاسدة أنّه ابن اللَّه. وهذه بنفسها قرينة على أنّ الإحياء للتوراة لا يكون إلاّ من قبل وصي.

____________________

١) سورة يونس: ٩٢.

٢) سورة مريم: ٢١.

٣) سورة المؤمنون: ٥٠.

٤) سورة البقرة: ٢٥٩.

٥) سورة الكهف: ٤.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592