الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146477 / تحميل: 9437
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

المنهج الحادي عشر: معرفتهم التامّة لفظاً، ومعنىً، وشؤوناً، بالكتب السابقة وبالشرايع السابقة، وبتواريخها الخفية، ومنظومة الأولياء.

المنهج الثاني عشر: تطابق السنن الجارية على الأنبياء، المسطُورة في القرآن، مع ما جرى لهم وعليهم في شؤونهم الفردية وشؤونهم العامّة مع الناس. كما في هارون عليه‌السلام ، وعليّ عليه‌السلام . وغيبة الحجّة عليه‌السلام وموسى عليه‌السلام . ونظير الرضا عليه‌السلام ويوسف عليه‌السلام . ونظير يحيى عليه‌السلام والجواد عليه‌السلام . وعيسى، وإدريس، وإلياس، والخضر عليهم‌السلام مع الحجّة (عجل الله فرجه). ومريم عليها‌السلام وفاطمة عليها‌السلام .

المنهج الثالث عشر: وهو إثبات إقدار اللَّه - عزّ وجلّ - لهم على خوارق العادات والمعجزات، باعتراف خصومهم، حيث أسموا ذلك بأنّه سحر من بني هاشم، بدءاً من قريش في العهد المكّي، إلى العهد المدني، وعهد التابعين، وتابعيهم إلى بداية الغيبة.

المنهج الرابع عشر: إثبات العلم اللدنّي لهم عليهم‌السلام ، من تراجم كتب رجال وحديث العامّة، وذلك بواسطة الروايات التي روتها العامّة عنهم، المتضمّن مفادها لدعواهم عليهم‌السلام بعدم استقاء علمهم من غيرهم، وأنّ علمهم لا يَعِي عن إجابة المسائل المختلفة، مضافاً إلى تلّمذ علماء المذاهب على أيديهم دون غيرهم.

وهناك غير ذلك من المناهج، يستطيع الباحث الوقوف عليها في كتب الإمامية المستفادة من الكتاب والروايات والعقل والفطرة السليمة.

٦١

٦٢

نبذة في تطْويف

الآيات القرآنية الدالّة على الإمامة

ولنستعرض جملة يسيرة من تلك الطوائف لا على سبيل الاستقصاء:

الأُولى: آيات الثَّقَلين، وهي جملة من الآيات تفيد عين مفاد حديث الثقلين.

الثانية: آيات الهداية والصراط، وهي جملة من الآيات في السور الدالّة على أنّ هداية الأُمّة هي على عاتق أئمّةٍ هداةٍ يقومون مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثالثة: آيات الاستخلاف، ومفادها بيان السنّة الإلهية في جعل الخليفة في الأرض مزوّداً بالعلم اللدنّي والعلم الأسمائي الجامع.

الرابعة: آيات التبليغ، وهي المتضمّنة للأمر الإلهي بإبلاغ الإمامة والولاية.

الخامسة: آيات الولاية، وهي المتضمّنة للفظ وعنوان الولاية، وأنّها لثلّة من هذه الأُمّة خاصّة.

السادسة: آيات الاصطفاء لذرّية إبراهيم عليه‌السلام ، ومن هذه الأُمّة.

السابعة: آيات الإمامة، المتضمّنة للفظ وعنوان الإمامة.

الثامنة: آيات الأنفال والفي‏ء، والخمس لذي القربى.

التاسعة: آية التسليم على آل ياسين (آيات أولياء الدين وحُجَجِه).

العاشرة: آيات شهادة الأعمال، المتضمّنة لوجود ثلّة من هذه الأُمّة تشهد أعمال الأُمّة في كلّ عصر إلى يوم القيامة، وهم الأشهاد.

الحادية عشر: آيتا التطهير.

الثانية عشر: آية الأشهر الاثني عشر.

٦٣

الثالثة عشر: آيات التولّي والتبرّي.

الرابعة عشر: آيات الكتاب المبين، والمكنون.

الخامسة عشر: آيات ربَّانِيِّ هذه الأُمّة.

السادسة عشر: آيات الوسيلة والسبيل.

السابعة عشر: آيات النور.

الثامنة عشر: آيات ليلة القدر، وصاحبها وليّ الأمر النازل في تلك الليلة.

جدولة مصادر الطوائف

الطائفة الأُولى: آيات حديث الثقلين:

آل عمران: ٧، الواقعة:٧٧ - ٨١، الرعد: ٣٩ و٤٣، النحل: ٦٤ و٨٩، القيامة: ١٩ - ١٦، الأنعام ٣٨ و٥٩، يس: ١٢، النحل: ٤٠ و٧٥، البُروج: ٢٢، ص: ٢٢، يونس: ٦١، فاطر: ٣٢، الحجر: ٧٥ - ٧٦، يوسف: ١١١، العنكبوت: ٤٧، الحج: ٥٤، سَبأ: ٦، البقرة: ١٢١، الأنعام: ١٥٤ - ١٥٥، الأعراف: ١٤٤.

الطائفة الثانية: آيات الهداية والصراط:

الرعد: ٧، سورة الحمد، يونس: ٣٥ و١٣١، الأعراف: ١٨١ و١٨٤، الأنبياء: ٧٣، السجدة: ٢٤، الجِنّ: ١٦، طه: ٨٢ و١٣٥، التوبة: ١١٩، الأنعام: ١٥٣، الإسراء: ١٥٨، النمل: ٧٥، المؤمنون: ٧٣ - ٧٤، النور: ٥٥، الملك: ٢٢، الحج: ٥٤، الفرقان: ٢٧، يونس: ١٨٠، غافر: ٦ و١٠، مريم: ٦ - ٧، محمد: ١٧، الكهف: ٢٤، العنكبوت: ٦٩، المائدة: ٦٧، البقرة: ١٨، يس: ٨٢، إبراهيم: ٢٢.

الطائفة الثالثة: آيات الاستخلاف:

البقرة: ٣٠، النمل: ٦٢، ص: ٢٦، وهي متطابقة مع حديث: خلفائي اثنا عشر من قريش.

الطائفة الرابعة: آيات التبليغ:

المائدة: ٣ و ٦٧.

٦٤

الطائفة الخامسة: آيات الولاية:

النساء: ٥٩، المائدة: ٥٤ - ٥٦، الأحزاب: ٦، آل عمران: ٦٣، النور: ٥٤ و٥٥.

الطائفة السادسة: آيات الاصطفاء لذرّية إبراهيم:

آل عمران: ٣٣ - ٣٤، الحجّ: ٧٥ - ٧٨، البقرة: ٢٣٧، النساء: ٥٤ و٥٨، آل عمران: ٦٨، الزخرف: ٢٦ - ٢٨، الأنبياء: ٧٣، البقرة: ١٢٧ - ١٢٨، آل عمران: ١٦٤.

الطائفة السابعة: آيات الإمامة:

البقرة: ١٢٤، النساء: ١٥٤، هود: ١٧، الأحْقاف: ١٢، يس: ١٢، الأنبياء: ٧٣، السجدة: ٢٤، القصص: ٥.

الطائفة الثامنة: آيات الأنفال والفي‏ء، والخمس لذي القربى:

الحشر: ٧، الروم: ٣٨، الأنفال: ٤١، الشورى: ٢٣، الإسراء: ٢٦.

الطائفة التاسعة: أولياء الدين وحججه، وآيات الأشهر الحُرُم:

آل عمران: ٦١، الصافات: ١٣٠، البراءة: ٣٦.

الطائفة العاشرة: آيات شهادة الأعمال:

البراءة: ١٠٥، النحل: ٨٩، البقرة: ١٤٣، الحجّ: ٧٨، الرعد: ٤٣، آل عمران: ١٤٠، المُطَفِّفِين: ٢١، الواقعة: ١١، النساء: ٤١، الأعراف: ٤٦.

الطائفة الحادية عشر: آيتا التطهير:

الواقعة: ٧٩، آل عمران: ٤٢.

الطائفة الثانية عشر[ لم يذكرها المؤلّف ]

الطائفة الثالثة عشر: التولّي والتبرّي: [ المؤلّف جعل هذه هي الطائفة ١٢]

الأعراف: ٣، الممتحنة: ٤، الزخرف: ٢٦، البقرة: ١٦٦ و١٦٧، البراءة: ١١٤، المجادلة: ٢٢، الشورى: ٢٣، محمّد: ٢٩.

الطائفة الرابعة عشر: آيات الكتاب:

الواقعة: ٧٩، البروج: ٢١ - ٢٢، آل عمران: ٧ و٧٩، النساء: ٥٤، المائدة: ٤٤ و٤٨، الأنعام: ٣٨ و٥٩ و١١٤، البراءة: ٣٦، يونس: ٦١، هود: ١ و٦، الرعد: ٣١ و٣٩ و٤٣، الحشر: ٢١، النحل: ٨٩، الكهف: ٤٩، طه: ٥٢، الحج: ٧٠، الشعراء: ٢، النمل: ١ و ٧٥، سبأ: ٣، الدخان: ٢، الزخرف: ٢ - ٤، فاطر: ١١، الشورى: ٥٢، المطففين: ١٨ - ٢٠، يس: ١٢.

٦٥

الطائفة الخامسة عشر [لم يذكرها المؤلف ]

الطائفة السادسة عشر: آيات الوسيلة:

التكاثر: ٨، البقرة: ٢١١، المائدة: ٣٥، الإسراء: ٥٨، الفرقان: ٥٧، سبأ: ٤٧، الشورى: ٢٣.

الطائفة السابعة عشر: آيات مقامهم النوري:

النور: ٣٦ - ٣٥، البقرة: ٣٤ - ٣١ و٣٧، النساء: ١٧١، البقرة: ١٢٤، الكهف: ١٠٩، لقمان: ٢٧، التحريم: ١٢، الأنعام: ١١٥، الأعراف: ١٥٨، الأنفال: ٧، الشورى: ٢٤، آل عمران: ٣٩ و٤٥، إبراهيم: ٢٤، الزخرف: ٢٨، التغابن: ٨، البراءة: ٣٢، الزمر: ٦٩.

أمّا الطائفة الأولى: تفصيل آيات الثقلين، وهي على أنماط:

الأوّل: سورة الحمد.

الثاني : سورة آل عِمران.

الثالث: الواقعة: ٧٨، الأحزاب.

الرابع: سورة الأنعام: ٣٨ و٥٩ و١٥٤، الدخان: ٢ - ١، فاطر: ٣٢، العنكبوت: ٥٠ - ٤٧، البقرة: ١٢١، النمل: ٤٠، الرعد: ٣١ و٣٩ و٤٣، البروج: ٢٢، الأعراف: ١٤٥، يوسف: ١٠١، الاسراء: ١٢ و١٤، المائدة: ٤٨، يونس: ٦١.

الخامس: النحل: ٨٩.

السادس: القيامة: ١٧، النحل: ٦٤.

السابع: سبأ: ٦، الحج: ٥٤.

الثامن: النساء: ٨٣، محمّد: ١٦.

التاسع: المائدة: ٤٤. وهي تتطابق مع طائفة آيات ربانيّو الأمّة.

العاشر: الشورى: ٢٣، الأنعام: ٩٠، يوسف: ١٠٤، سبأ: ٤٧.

الطائفة الثامنة عشر:

آيات ليلة القدر وصاحبها وليّ الأمر النازل فيها، وهي تتطابق مع قالب آيات حديث الثقلين: سورة القدر، سورة الدخان: ٣ - ١، النحل: ١، غافر: ١٥، الشورى: ٥٢.

٦٦

النصوص القرآنية

الدالّة على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام

القسم الأوّل: آيات الثقلين، وهي:

أولاً: آيات الراسخون في علم الكتاب

( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١) .

إنّ الظهور الأوّلي الإجمالي لهذه الآية الشريفة، هو الإعلان عن وجود قسمين من آيات الكتاب الكريم: محكم ومتشابه. كما أنّها تقسّم المكلّفين إلى أقسام: راسخون في العلم، وغير راسخين. وغير الراسخين إلى قسمين: قسم يتَّبع المتشابه، وهم الذين قد زاغت قلوبهم عن الصراط المستقيم وعن الحقّ. والقسم الآخر لا يتّبع المتشابه، ولكنّها ترشد إلى لزوم اتّباع الراسخين في العلم؛ كي يهدوهم إلى تأويل المتشابه بالمحكم.

كما أنّ الآية تُعلِم بأنّ المحكمات لها مقام الأُمومة في آيات الكتاب، ممّا يعني أنّ المتشابهات كفروع لها.

والتأويل لغةً: من الأَوْل، أي الرجوع والأَوب، وانتهاء

____________________

١) سورة آل عمران: ٧.

٦٧

شي‏ء إلى شي‏ء، من آل شي‏ء إلى آخر، أي انتهى إليه.

وتأويل المتشابه، إمّا بمعنى الانتهاء إلى المعنى الحقيقي المراد منه، أو بمعنى انتهاء المتشابه إلى أصله وهو المُحْكَم، وهو يتّحد مع المعنى السابق أيضاً؛ إذ برجوع المتشابه إلى المُحْكَم يوجب كشف المعنى المراد من المتشابه، وأنّه منسجم ومتلائم معه.

وبمقتضى النقطة الأخيرة وما تقدّم، يستلزم أنّ الإحاطة بالمحكم إحاطة تامّة، غير مقدور عليها لغير الراسخين في العلم؛ وذلك لأنّ الإحاطة التامّة بالمُحْكَم تستلزم العلم بتأويل المتشابه؛ إذ المفروض في المحكم أنّ له الأُمومة، والهيمنة، والمرجعية لتفسير بقية الآيات، فعدم العلم بحقيقة المتشابه ناشئ من عدم فرض الإحاطة التامّة بالمحكم، إذ لا تشذ آية في المتشابه عن حيطة المحكمات وقيْمُومَة معانيها على تلك الآيات، فلا تكون متشابهة عند المحيط خبراً بالمحكمات.

وهذا يدلّ على أنّ المتشابه وصفٌ نسبيٌّ إضافي بالإضافة إلى غير الراسخين، وأمّا الراسخون، فلا تشابه لديهم في الآيات، وإن كان التقسيم: إلى المُحْكم الأمّ، وإلى الآيات الفرعية، وصفٌ حقيقي غير إضافي، لنفس الآيات في نفسها.

وكلّ ذلك لا يلزم منه تعطيل الكتاب، أو تجميده، أو فقده لصفة الإعجاز؛ بتوهّم أنّ آياته المحكمات لا يُحاط بها مِن قِبل الكُل، والمتشابه لا يؤخذ به بنفسه؛ لإجمال المراد منه، فيزيغ من يتابعه من دون مفسّرٍ معتَبَرٍ صحيح، والمحكم لا يحاط به؛ وذلك لأنّ الآية في صَدد بيان كيفية الأخذ، واشتراطه باتِّباع الراسخين بالعلم، ومعونتهم وإرشادهم.

فيتبين أنّ الأخذ - الذي لا بدّ منه المفترض في تلك الآية - والتمسّك بالكتاب اللازم يجب أن يكون مقروناً بالتمسّك بأُولي العلم الراسخين، لا أنّها في صَدد

٦٨

حجب الكتاب عن التمسّك به، بل غاية دلالتها أنّ التدبّر بالقرآن، والتمسّك به، يجب أن يكون مقروناً وبمعيّة الراسخين في العلم.

وهذا عين ما يقال: مِن أنّ كلاً من الكتاب والسنّة مصدرٌ للشريعة؛ فإنّ معنى الاثنينيّة في الحجّية ليس بأن يكون كلّ منهما مستقلاً عن الآخر، ولا بأن يكون أحدهما معطِّلاً للآخر، وكونه فاعلاً أو غير فاعل، بل أن يكون هناك معيّة بينهما، وتَشَاهد وتعاضد وتكافل، ومِن ثمّ لا يستلزم تعطيل أحدهما، ولا فقد الكتاب المجيد لإعجازه؛ لأنّ إدراك المعجزة فيه لا يتوقّف على الإحاطة بكلّ محكماته، فضلاً عن متشابهاته، بل يكفي في ذلك معرفة البعض.

وكون الراسخين في العلم ثلّة من هذه الأُمّة الإسلامية، لا خصوص فرد واحد، وكون هذه المجموعة باقيةٌ سلسلتها ما بقيت حجّية القرآن في هذه النشأة، وأنّها لا تُرفع إلاّ برفع الكتاب يوم القيامة، كلّ ذلك؛ لأنّ الكتاب لا يؤخذ به بنحو تامّ إلاّ بهم.

ويستفاد من الآية: أنّ التمسّك بالكتاب على انفراد لا يتحقّق بصورة صحيحةٍ كاملةٍ تامّةٍ إلاّ بهم، كما لا يتحقّق التمسّك بهم إلاّ بالتمسّك بالكتاب؛ لأنّهم هادون إلى محكماته، وتأويل متشابهاته. وهو مفاد حديث الثقلين.

وإنّ علم الراسخين في العلم ليس من العلم الكَسْبي؛ لأنّه لا يؤهّل إلى ذلك مهما بلغ الإحاطة بدرجة من محكمات الكتاب، إذ من الضروري أنّ الكتاب المجيد، الحجّة لكلّ هذه النشأة، لا تنتفي حقائقه ولا تحصى محكماته المحيطة بتطاول هذه النشأة، بل وبالنشآت السابقة واللاحقة، فالعلم التامّ بكلّ الكتاب الذي أثبتته هذه الآية للراسخين في العلم لا يكون إلاّ من سنخ العلم اللدنّي؛ إذ الكتاب المبين الذي يستطر فيه كلّ شي‏ء - ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) - هو من لدن الغيب، والعلم التام به من سِنخه.

٦٩

ولا سيما وأّن الآية قد قرنت - تشريفاً - الراسخين في العلم باللَّه تعالى، ونفتْ العلم بالكتاب كلّه عن الجميع، وحصرته في الذات الإلهية ومن بعده بالراسخين في العلم، ممّا يعطي شَرَافةً وتعظيماً للراسخين في العلم، كحجج لله على خلقه، ووهبهم ذلك النمط اللدنّي من العلم.

ومقتضى حجّية الكتاب وحجّية الراسخين في العلم، أنّ حجّيته مرهونة بحجّيتهم، وحجّيتهم مرهونة بحجّيته أيضاً، فالحجّتان من سنخ واحد، ممّا يدلّ على عصمتهم؛ وإلاّ لو جاز عليهم الخطأ لانسدّ باب العلم في الكتاب، ولزم التعطيل.

ويشير إلى مقام حجّيتهم ذيل الآية: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) (١) ، وإشارة الآية إلى مثل هذه المضامين إنّما يتفطّن إليها ذو اللبّ، لا ذو الذهنية القشرية الذي لا يبصر إلاّ القشور. وكذلك الآية التالية: ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) (٢) ، أي أنّ ذوي الألباب بتفطّنهم لحجيّة الراسخين في العلم بمعيّة الكتاب العزيز، يكونون قد اهتدوا إلى كيفية التمسّك بالكتاب والأخذ به من دون زيغ قلوبهم عن الحقّ؛ إذ من تفرّد بالأخذ بالكتاب من دون التمسّك بالراسخين بالعلم، قد حكمت عليه الآية بزيغ قلبه، فلذلك اتّبع المتشابه، وأنّ اتّباعه للمتشابه طلباً لفتنة الناس عن الحقّ وعن الدين، وطلباً لتأويل الكتاب وعطفه على ما يوافق أهوائهم وجهالتهم.

كما أنّ جملة ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) (٣) ، المجعولة صفة للراسخين في العلم - على تقدير الواو عاطفة -، أو خبر - على تقدير كون الواو استئنافية -، فإنّ

____________________

١) سورة البقرة: ٢٦٩.

٢) سورة آل عمران: ٨.

٣) سورة آل عمران: ٧.

٧٠

الجملة الدالّة على علم الراسخين بالعلم بالتأويل - حيث إنّ الضمير عائد إلى التأويل -، وتعلّق الإيمان به، تستلزم العلم به بنحو ما، لا سيّما وأنّه قد وصف بإضافته إلى أنّه من عند اللَّه، والتوصيف يستلزم التعيين، كما أنّ وصفهم بالراسخين بالعلم أيضاً مشعرٌ بذلك، وكذا إرداف ذكرهم للمستثنى وهو الباري تعالى، وكذا قولهم بعدم مخالفة المتشابه للمحكم؛ لأنّ كلّ منهما من عند اللَّه تعالى، أي وحدتهما في ذلك دالّ على معرفتهم بكيفية رجوع المتشابه إلى المحكم، أي تأويله به.

مضافاً إلى أنّه لو لم يكن ثلّة من هذه الأُمّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تَعْلَم متشابه القرآن، وكيفية تأويله بالمحكم، لكان يلزم حينئذٍ تعطيل الكتاب بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا هو مفاد حديث الثقلين.

وبذلك تدلّ الآية على اختصاص علم الكتاب بهم بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون غيرهم من الأُمّة.

ثمّ إنّ مقتضى إحاطتهم بعلم الكتاب هو إحاطتهم بناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، ومطلقه ومقيّده، وموارد نزوله، وعزائمه من رخصه، ومغايرة متشابهه من محكمه.

وهذه الحجّية لهم بمعيّة حجّية الكتاب كما تقدّم في تبين كيفية العمل بالكتاب، وتنفي الاستقلالية، أي استقلالية غيرهم بالفهم للاستفادة من الكتاب، فحينئذٍ، يعمل بموازين الدلالة المقرّرة في علوم الأدب، بضميمة الاستعانة بالثقل الآخر.

مضافاً إلى وجوه التشاهد الآتية بين هذه الآية وبقية آيات الثقلين، الدالّة على إحاطة الراسخين في العلم في هذه الأُمّة بالكتاب كلّه.

٧١

ثانياً: آيات مَن عندهم بيان تبيان الكتاب لكلّ شي‏ء

وهم كما في قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (١) .

وقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إلاّ الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (٢) .

و: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتفصيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (٣)

و: ( ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) (٤) .

أمّا الآية الأولى الدالّة على الثقل الأوّل - بل الثقلين معاً - فقد فُسّر ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) بأنّه تبيان لكلّ أُمور الدين، أي العلوم الدينية. والتفسير الآخر أنّ فيه تبياناً لكلّ شي‏ء من أُمور الدين وغيره، فيشمل العلوم الدينية وغير الدينية، لا سيّما أنّ معارف الدين محيطة بكلّ الحقائق الكونية.

وتقريب الاستدلال في الآية يتمّ على كِلا القولين، وقد وقع المفسّرون من العامّة في حَيص بَيص في تفسير معنى الآية فلاحظ كلماتهم، وإن كان الثاني هو الصحيح؛ لِما في قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٥) ؛ وقوله تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ

____________________

١) سورة النحل: ٨٩.

٢) سورة العنكبوت: ٤٩ - ٥٠.

٣) سورة الأعراف: ١٤٥.

٤) سورة الأنعام: ١٥٤.

٥) سورة النمل: ٧٥.

٧٢

إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (١) .

وقوله تعالى: ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (٢) .

وقوله تعالى: ( يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالّة على إحاطة الكتاب بكلّ صغيرة أو كبيرة. مضافاً إلى ما سيأتي في المجموعة الثالثة.

ثمّ إنّ شمولية الكتاب أوسع من التوراة، كما دلّت عليه الآيات في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) (٤) .

وهذا هو الثقل الأوّل، بل في الآية إشارة إلى الثقل الثاني أيضاً، حيث تُبيِّن وجود شاهد في كلّ أُمّة، والأُمّة الجيل من الناس أو القرن، أي وجود شاهد في كلّ قرن يشهد على الناس أعمالهم، ويكون هذا الشاهد من نفس أُمّة ذلك القرن، ويكون الرسول شاهداً على هؤلاء.

قال الفخر الرازي في ذيل الآية: اعلم أنّ هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلّفين عن المعاصي، واعلم أنّ الأُمّة عبارة عن القرن والجماعة، إذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان: الأوّل: إنّ المراد أنّ كلّ نبيّ شاهد على أُمّته. والثاني: إنّ كلّ جمع وقرن يحصل في الدنيا فلابدّ وأن يحصل فيهم واحد يكون شاهداً عليهم، أمّا الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلّم)، فهو الرسول؛ بدليل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٥) .

وثبت أيضاً أنّه لابدّ في كلّ زمان بعد زمان الرسول من الشهيد.

____________________

١) سورة الأنعام: ٥٩.

٢) سورة الأنعام: ٣٨.

٣) سورة الرعد: ٣٩.

٤) سورة الأعراف: ١٤٥.

٥) سورة البقرة: ١٤٣.

٧٣

فتحصل من هذا أنّ عصراً من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس، وذلك الشهيد لابدّ وأن يكون غير جائز الخطأ؛ وإلاّ لافتقر إلى شهيد آخر، ويمتدّ ذلك إلى غير نهاية، وذلك باطل، فثبت أنّه لابدّ في كلّ عصرٍ من أقوام تقوم الحجّة بقولهم، وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأُمّة حجّة. (١)

أقول: ما تبيّن من دلالة الآية هو الحقّ من لزوم شاهد غير جائز عليه الخطأ، ولكن تطبيق ذلك على إجماع الأُمّة غاية الوهن؛ فإنّ الأُمّة منقسمة في أكثر أمرها، فأين الشاهد في ما اختلفت فيه.

وحيث أنّ الشاهد لابدّ أن يكون عالماً بأعمال العباد، كما يشير إليه قوله تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (٢) ، فيرى أعمال العباد حين صدورها.

ومن الواضح أنّ علم كلّ ذلك كان لدى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ ما كان ينزل عليه شي‏ء إلاّ كان يعلمه ويعلّمه غيره، لكن لا يحيط بكلّ تعليمه إلاّ الأُذن الواعية، كما قال تعالى: ( لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (٣) ، وهي أُذن عليّ عليه‌السلام كما جاء في أحاديث الفريقين (٤) .

وقد قال تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٥) ، وقال تعالى:

____________________

١) الفخر الرازي، ج ٢٠، ص ٩٩، في ذيل الآية.

٢) سورة التوبة: ١٠٥.

٣) سورة الحاقّة: ١٢.

٤) روى ذلك الطبري في تفسيره، وأبو نعيم في حلية الأولياء، والواحدي النيسابوري في أسباب النزول، والثعلبي في تفسيره، والرازي في تفسيره، والمتّقي الهندي في كنز العمّال، والقرطبي في تفسيره، والسيوطي في الدرّ المنثور، وابن كثير في تفسيره. لاحظ بقية المصادر: إحقاق الحقّ، ج ٣، ص ١٤٧، و ج ١٤، ص ٢٢٠ - ٢٤١، و ج ٢٠، ص ٩٢ - ٩٧.

٥) سورة النحل: ٤٤.

٧٤

( َمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) (١) ،

وقال تعالى: ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٢) .

وكيف يبيّن ما لم يعلمه، وكيف يفرض أنّ علمه عند غير رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ مع أنّ بيانه على عهدة ووظيفة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ببيان كلّ الكتاب.

ثمّ إنّ عملية إنزال حقائق الكتاب لتبيان ما فيه لم ينقطع ويرتفع بموت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ هو باقٍ لتنزّله كلّ عام ليلة القدر إلى يوم القيامة، فعلمه في كلّ الكتاب لابدّ أن يكون باقياً في ثلّة من هذه الأُمّة، وهو الثقل الثاني، وهو الذي تشير إليه الآية الثانية من قوله تعالى: ( َمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ الظَّالِمُونَ ) (٣) ، و ( بَلْ ) للإضراب إمّا عمّا سبق في الآيات عليها، أو عن كون علم الكتاب، أي كون الآيات بيّنات في صدور من عدا الذين أوتوا العلم. وعلى كلا التقديرين تدلّ على حصر علمِ وبيان ما في الكتاب بالذين أُوتوا العلم، والضمير ( هو ) عائد إلى الكتاب المجيد، بمقتضى السياق ومقتضى توصيفه بالآيات.

ثمّ إن الذين أُوتوا العلم قد ذُكروا في آيات أُخر، كقوله تعالى: ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (٤) ، وقوله تعالى: ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٥) ، وقوله تعالى: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (٦) ، وقوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

____________________

١) سورة النحل: ٦٤.

٢) سورة القيامة: ١٧ - ١٩.

٣) سورة العنكبوت: ٤٨ - ٤٩.

٤) سورة سبأ: ٦.

٥) سورة الحج: ٥٤.

٦) سورة النحل: ٢٧.

٧٥

وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) ، وقوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاّ الصَّابِرُونَ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ) (٣) ، وقوله تعالى: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (٤) .

وهذه الآيات تصفهم بصفات التحلّي بالعلم اللَّدنِّي والعلم بالكتاب كما في قولهم: ( لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٥) ، حيث بمقتضى علمهم بالكتاب المحيط بالنشأتين لا يجهلون كيفية أحكام النشأة الأخرى.

كما أنّ الآيات آنفة الذكر أثبتت لهم رؤية ومعاينة الذي أُنزل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الوحي.

ويُستفاد من سورة النحل أنّ الذين أُوتوا العلم هم المعصومون؛ إذ أُبعد عنهم مطلق الخزي، كما أنّ إثبات التكلّم في مواطن من يوم القيامة والبعث، دالّ على رفعتهم ومكانتهم وكونهم ذوي صلاحيات من المقام المحمود، وأنّهم لا تأخذهم أهوال يوم القيامة ولا أهوال البعث، وقد وصف اللَّه تعالى مشاهد ذلك اليوم بقوله: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) (٦) .

وأيضاً قد أطلق على القرآن في سورة القصص: ( طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ

____________________

١) سورة الروم: ٥٦.

٢) سورة القصص: ٨٠.

٣) سورة محمّد: ١٦.

٤) سورة المجادلة: ١١.

٥) سورة الروم: ٥٦.

٦) سورة النبأ ٣٨.

٧٦

الْمُبِينِ ) (١) ، وكذا في سور أخرى (٢) ، وكذا ما مرّ في الطائفة الثانية من وصف الكتاب بأنّ فيه تبيان كلّ شي‏ء، وقد نُعت الكتاب المبين في القرآن بأنّ ما من غائبة في السماء ولا في الأرض إلاّ فيه، وأنّه فيه مفاتح الغيب وما في البرّ والبحر وكلّ شي‏ء. وكذا ما مرّ في الطائفة الأُولى من وصف الآيات المحكمات للكتاب بأنّها أُمّ الكتاب، وقد ذُكر في آيات هذه الطائفة: أنّ كلّ ما يمحى ويثبت في المشيئة الإلهية هو في أُمّ الكتاب. فمحكمات الكتاب هي أُمّ الكتاب.

ويتحصّل حينئذٍ: أنّ القرآن الكريم يشتمل على جميع مسائل علوم الدين والعلوم الأُخرى، وهذا يعزّز عموم مفاد الطائفة الثانية؛ من أنّ في الكتاب تبيان كلّ شي‏ء. ويدعم ذلك أنّ القرآن قد وُصِف أنّه مهيمن على الكتب السابقة، كما في قوله تعالى: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) (٣) - والهيمنة هي الإحاطة -، مع أنّه قد وصفت بعض الكتب السماوية المتقدّمة باحتوائها على غير علوم الدين، كقوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) (٤) ، فإنّ المجي‏ء بعرش بلقيس بقدرة علمٍ من الكتاب ليس ممّا يرتبط بالأحكام.

وكذا قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) (٥) ، فقوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٦) ، دالّ على أنّ حقيقة القرآن تشمل وتحوي المشيئات الإلهية، وهما: مشيئة المحو، ومشيئة الإثبات. فضلاً عن القضاء والقدر الإلهيين.

____________________

١) سورة القصص: ١ - ٢.

٢) سورة الزخرف: ٢. القمر: ٥٢ - ٥٣. الشعراء: ٢. يوسف: ١.

٣) سورة المائدة: ٤٨.

٤) سورة النمل: ٤٠.

٥) سورة الرعد: ٣١.

٦) سورة الرعد: ٣٩.

٧٧

كما أنّ في الكتاب عِلم بكافّة الكائنات والمخلوقات الأرضية والسماوية، بمقتضى قوله تعالى: ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ) (١) ، وقوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ٍ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٣) ، هذا كلّه في الثقل الأوّل وهو الكتاب الكريم.

أمّا الثقل الثاني، فمضافاً إلى الآيات في الطائفتين السابقتين؛ حيث بيّنت أنّ تأويل كلّ الكتاب والإحاطة بمحكماته هو عند الراسخين في العلم، وأنّ مجموع القرآن الكريم آيات بيّناتٍ في صدور الذين أوتوا العلم، وهم الراسخون في العلم المشار إليهم، وهم المطهَّرون في آية التطهير، الذين يمسُّون الكتاب المكنون، كما في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٤) . وهم المعبّر عنهم بمن عنده علم الكتاب، في قوله تعالى: ( قُلْ كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (٥) ، وهذه الآية آخر سورة الرعد المكّية نزولاً، ولم يكن قد أسلم يومئذٍ في مكّة من أهل الكتاب أحد، فالمراد بها هو أحد المسلمين التابعين لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّن شرّف بهذا العلم.

فقد ذُكرت أقوال في المراد من الآيتين المتقدِّمتين:

أحدها: إنّه هو اللَّه، كما عن الحسن، والضحّاك، وسعيد بن جبير، والزجاج.

____________________

١) سورة الأنعام: ٥٩.

٢) سورة النمل: ٧٥.

٣) سورة سبأ: ٣.

٤) سورة الواقعة: ٧٧ - ٧٩.

٥) سورة الرعد ٤٣.

٧٨

واستُدلّ له بقول ابن عبّاس، إنّه كان يقول: ومن عند اللَّه علم الكتاب (١) .

وثانيها: إنّ المراد به أهل الكتاب، منهم: عبد اللَّه بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري، كما نسب إلى ابن عبّاس وعبد الملك بن عمير، وجندب، وغيرهم (٢) .

ومقتضى ذلك أن تكون مدنية، كما عن ابن مردويه، وابن الزبير، والكلبي، ومقاتل. وكلا القولين كما ترى في الضعف والسقوط؛ فإنّ ظاهر الآية اثنينية الشهادة والشاهدين، والسورة كلّ آياتها مكّية، والآية الأخيرة مذكورة في سياق نتيجةٍ للآيات السابقة، فكيف يفكّك النزول بينها فتكون سابقتها مكّية وهي خاصّة مدنية؟ وليس هذا إلاّ تعصّب وعناد ممجوج. وسيأتي بسط الحديث في ذلك أكثر بعد الطائفة الثالثة.

ثمّ إنّه يستفاد من الطائفة الثانية أُمور:

الأمر الأوّل: أنّ هذه الطائفة - بمجموع الآيتين - دالّة على لزوم الرجوع إلى ثلّةٍ معصومةٍ في مقام التمسّك بالكتاب العزيز، وعند إرادة تبيين الأحكام الشرعية والمعارف من الكتاب العزيز، نظير ما تقدّم في الطائفة الأُولى.

الأمر الثاني: تدلّ أيضاً على استمرار بقاء تلك الثلّة ببقاء القرآن وبقاء هذا الدين؛ حيث إنّ هذه الملحمة القرآنية في الآية الأُولى - وهي دعوى بيان حكم وعلم كلّ شي‏ء في القرآن - على مرّ الأزمان والعصور محتاجة إلى من يبيّن ذلك من القرآن.

الأمر الثالث: أنّ حجّية هؤلاء - الثلّة - عِدْل حجّية القرآن، وإنّ هذه الحجّية

____________________

١) فتح القدير، للشوكاني، ج٣، ص٩٠، دار إحياء التراث العربي.

٢) المصدر السابق، ج٣، ص٨٩.

٧٩

بنحو مَعِيٍّ، ومن الواضح اقتضاء ذلك عصمة تلك الثلّة عِلماً وعَملاً؛ وإلاّ لاختلّ وانسدّ باب الرجوع في الكتاب إلى كلّ شي‏ء؛ أمّا العصمة العلمية، فلأنّ الآية الثانية تدلّ على أنّ مجموع القرآن هو بيّنٌ في صدورهم، والمفروض أنّ القرآن فيه تبيان لكلّ شي‏ء، مضافاً إلى أنّه مع فرض الجهل العِلمي في تلك الثلّة يستلزم حصول العَجَز لكافّة الأُمّة عن الوصول إلى كلّ ما يحتاجونه من أحكام الكتاب ومعارفه.

وأمّا في صورة عدم العصمة العملية؛ فلأنّه سوف تُفقد الأمانة والوثوق في الرجوع إلى أقوالهم.

الأمر الرابع: أنّ هذه الطائفة تعضد الاستثناء في الطائفة الأُولى من أنّ الذي يعلم متشابه القرآن إنّما هو اللَّه والراسخون في العلم؛ حيث إنّ في هذه الطائفة دلالة على أنّ آيات القرآن بيّنة عندهم غير متشابهة.

الأمر الخامس: أنّ العلم الذي بتوسّطه صار مجموع القرآن بيّن لهم، إيتائي، فهذا العلم هبة معطاة من اللَّه تعالى، لا تسبيبي (كسبي)، أي إنّه علم لدنِّي.

وقد أشار إليه القرآن الكريم في آيات عديدة، كما في سورة الكهف، حيث قوله تعالى: ( فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ) (٣) . وقوله تعالى: ( إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٤) ، وقوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (٥) ، وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ

____________________

١) سورة الكهف: ٦٥.

٢) سورة البقرة: ٢٤٧.

٣) سورة النمل: ٤٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فالمراتب القلبية تدرك الشي‏ء بوجوده العيني وهويته العينية. أمَّا القوة العقلية، فهي تعمل أكثر لاصطياد المدرك بمعناه ومفهومه ويمكن التمثيل للفرق بين الإدراكين بمَن يُدرك الشي‏ء المقابل للمرآة تارة، ويدرك تارة أخرى صورته في المرآة.

والمرآة هي القوى الإدراكية الحصولية العقلية.

6 - إن الإدراكات العقلية يتصوَّر فيها التصور والشك والترديد والجزم. أمَّا في المدركات القلبية، فهي صحيحة دوماً، على صواب أبدا، لا مكان للشك فيها حال المعاينة القلبية؛ والسر في ذلك أنه في الإدراكات العقلية يكون المدرَك هو صورة الشي‏ء، والحاكي عن الشي‏ء، فيرد التساؤل عن مدى مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، (وقد ذكرنا في نهاية التنبيه الأول مشكلة الخطأ في الفكر البشري وكيفية معالجته، وأن تحصيل اليقين في الأمور النظرية من الأمور الصعبة) بخلاف ما إذا كان نفس الشي‏ء وعينه حاضرا، فإنه يكون يقينا؛ لا لبس فيه ولا ترديد. ومن هنا نجد أن الكثير من روّاد علم المعارف الإلهية أشار إلى ندرة الحصول على اليقين، بل كلّها ظنون متاخمة لليقين، وتطرق إلى ذلك السيد الصدر في بحثه عن الاستقراء ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) .

ومن هنا نعرف السر في حثِّ كثير من العلماء على تنزيه النفس وتربيتها لنيل تلك العلوم اليقينية، وألّا يُقتصر على تحصيل العلوم التي لا تتجاوز الصور؛ إذ الإدراكات القلبية أشرف من العلوم الحصولية وإن كانت هي البوابة المأمونة لها.

7 - إن مراتب الإدراكات القلبية تتفاوت شدة وضعفا؛ حيث إن الوصول إلى الحقائق يتبع سعة ظرفية الواصل (المدرِك)، فقد يصل الإنسان إلى هذه المراتب بنحو العرض، وقد يصل إلى تلك المراتب وتكون بالنسبة إليه كفصل جوهري؛ حيث يكون قد حصل لذاته تكامل ورقي وجودي أوصله إلى تلك المرحلة فيتصفَّح حيث ما شاء في العالم الغيبي.

١٠١

فالذي يُدرك الغيب لا يعني أنه أدرك كل الغيب، فاللَّه عزَّ وجلَّ لا تحيطه الأبصار والقلوب، بل عرفته القلوب بحقائق الإيمان.

8 - مما ذكرنا يتَّضح السر في أن المسلمين قد صرفوا النظر عن العلوم الحصولية والعلوم المادية، وأوغلوا في بحوث الاعتقادات وفقه الأحكام من أجل تحصيل ذلك اليقين ونيل المراتب القلبية، وذلك مع تهذيب النفس وانشغالها بالعبادة، حتّى تتهيأ النفس لتصفُّح أنوار الملكوت وتقوى الإدراكات القلبية، فمنهم مَن وصل إلى المراد؛ وهو المتَّبع لطريقة أهل البيت‏ عليهم‌السلام ومنهم مَن ضل الطريق وأضل غيره.

9 - إن معرفة الإنسان لنفسه هي بوابة المعرفة الربوبية؛ وذلك لأن كل مخلوق هو آية لخالقه، وكل كامل نازل هو آية للكمال الصاعد، فيقال: إن كل غيب نازل له حكاية تكوينية لغيب صاعد، وهذه الحكاية ليست على نسق حكاية الصور الحصولية، بل هي حكاية الرقيقة عن الحقيقة، كما عبَّر بذلك الفلاسفة، أو حكاية المظهر عن الظاهر كما عبَّر العرفانيُّون، لكن هذه الحكاية وإن كانت غير قابلة للخطأ والصواب، بل هي صواب دائم، إلاَّ أنها ليست حكاية إحاطة؛ لأن الرقيقة لا تمثِّل كل كمالات الحقيقة.

10 - من الأمور التي تدلِّل على أهمية الإدراكات القلبية هو رجوع جميع الإدراكات العقلية إليها؛ بيان ذلك:

إنه قد ثبت في محلِّه رجوع جميع التصورات والتصديقات النظرية إلى البديهيات التصورية والتصديقية؛ وهي رأس مال الإنسان في تحصيل علومه، وحينما نقوم بتحليل هذه البديهيات نرى أنها في تكونها محتاجة إلى الإدراكات القلبية؛ فعندما نقول: إنه صادق، فيعني عدم احتمال اللاّمطابقة؛ والسر في ذلك أن النفس تدرك ذاتها ووجودها، والصورة نفسها مدرَكة لديها بالعلم الحضوري، فالمحكي والحاكي كلاهما موجود لدى النفس فلا يحتمل اللاّنطباق، وهذا ببركة

١٠٢

العلم الحضوري.

ونفس الشي‏ء يقال في أول البديهيات التصديقية، وهو استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، فموضوع القضية: اجتماع النقضين، ومحمولها هو: الامتناع، حيث تقيس النفس بين مفهوم الوجود ونفي الوجود، وحيث إن للوجود محكيَّاً، فترى أن هذا المحكي مع نفي هذا المفهوم لا يجتمعان.

من خلال هذا العرض نصل إلى حقيقة في وجود الإنسان هي: إنه في اتصاله بعالم المادة يكون عبر قنطرة الصور الحصولية. أمَّا اتصاله بالغيب، فهو اتصال حضوري مباشر.

الجهة الثانية:

حول ضابطة حُجِّـيَّة المعارف القلبية.

قد يتراءى لغْوية هذا البحث؛ وذلك لِمَا ذكرناه سابقاً من أن المدرَك بالقلب هو عين ومتن الواقع فلا يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو حُجَّة كلُّه، بل كل إدراكه صدق، ولكن في الواقع نحن بحاجة إلى هذا البحث؛ وذلك لأن العرفاء أنفسهم يشيرون في بحث المكاشفات إلى أن المكاشفات على أقسام، وأن الإدراكات الحضورية على درجات، وأن بعض الأشياء العينية قد تكون من تسويل وتمثُّلات العيانية من الشياطين أو كون قوى النفس قد اختلقتها، فلا يمكن القول بحجية كل الإدراكات القلبية. فكما ذكرنا في العلوم الحصولية؛ قد تحصل الحجب والأمراض التي تمنع عن إدراك الحقائق، فهنا كذلك تحصل حُجُب النفس التي تحجب الواقع عن إدراكه. وقد تعرَّضنا - وبنحو مفصَّل - في بحث الرؤية القلبية (1) إلى أن تصرُّف الشياطين والجن في

____________________

(1) انظر كتاب: دعوى السفارة في الغيبة الكبرى - مسألة: الرؤية القلبية.

١٠٣

قلب الكائن البشري، هو تصرف تكويني وفعل حضوري، ولكن ليس حضور الحقائق العالية.

ـ وقد ذكر القيصري نفسه في مقدمات شرح الفصوص، والسيد حيدر الآملي في نصِّ النصوص، على أن مِن الكشف ما هو رحماني ومنه الشيطاني ومنه النفساني.... فقالوا: إن الميزان في تمحيص المكاشفة الصحيحة عن الخاطئة هو الكتاب والسنة؛ باعتبار أن الكتاب ارتباط بعالم الغيب، وأن القرآن تنزُّل من الصقع الربوبي.

نلاحظ ممَّا تقدَّم أن العرفاء ركَّزوا على نكتة أن المدرَكات قد لا تكون من الحقائق؛ فلذا يجب الاعتماد على الميزان المعصوم وإدراك معصوم.

ويتبقى جانب آخر نشير إليه؛ وهو تنزُّل المدركات القلبية إلى المدركات العقلية، حيث إن العلوم الحضورية يجب أن تنزَّل إلى القوة العقلية حتّى يستطيع أن يستفيد منها الإنسان وتكون مؤثِّرة في واقعه الحياتي، وهذا التنزّل يجب أن يكون مأموناً؛ والمقصود بالأمن: أن الصور الحصولية التي يلتقطها العقل يجب أن تكون متطابقة مع حقائق الأشياء التي توصَّل إليها بالعلم الحضوري.

فكما ذكرنا سابقا، توجد أمراض تمنع من تنزّل إدراكات العقل النظري وتمنع من سيطرة العقل العملي على القوة السفلى، فهنا أيضاً توجد أمراض وأخطار تمنع من حصول الإدراكات العقلية الصحيحة. فالعقل هو كالمرآة التي تنطبع عليه مدركات القلب، فقد يكون المنطبِع شبح الحقيقة لا عين الحقيقة، وقد تكون الصورة مشوشة. وبتعبير أخر: إن مرآة العقل قد تشوبها حجب بسبب الأخلاق الرديئة أو الأعمال السيئة، فلا تنطبع فيها صور الحقائق بنحو صاف وسليم. ومن هنا نحتاج إلى ضابط وميزان لتمييز الحجة من اللاّحجة؛ حيث ليس لنا أمان من الزلل والخطأ، لا في نفس المدرَك، ولا في تنزُّله. و من هنا تظهر الميزة

١٠٤

للفرد المعصوم؛ حيث إنه لا يدرك إلاّ ما هو حق، ولا يتنزَّل إلاّ بتنزّل من الحق. ومن هنا نرى أن القران يُوصف بأوصاف متعددة ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) فهو مدرك حق، ( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) أي المعصومون من الذنوب والخطأ، ( بالحَقِّ أنْزَلناهُ وَبالحَقِّ نَزَلَ ) فالعصمة في صدوره لا تكفي، بل عصمة في التنزُّل من العوالم العلوية. فالقران الكريم سار مسيرة طولية؛ من العوالم العلوية إلى نفس النبي الأطهر صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن يصل إلى رسم الخط، فيجب أن يحرز أن هذا الرسم والصوت مطابق لقوة الإدراك الحسي، وهي مطابقة لقوة المخيَّلة المطابقة لقوة العاقلة العملية المطابقة للعقل النظري المطابق للقلب ومراتبه القلبية المطابق لِمَا أُوحي له من اللَّه عزَّ وجل؛ لذلك نُفي عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله الجنون ونفي عنه الشعر ونفي عنه الكهانة، فقواه العقلية تسير بالسير الفطري مطابقة المادون للأعلى وعدم تصرُّف الشيطان في قلبه. فكل ذلك الوارد في وصف القرآن والوارد في وصف الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ من أجل بيان أن هذه القناة معصومة مأمونة من الخطأ والزلل. وهذا دليل على أنه ليست كل مدركات القلب حجة، وإلاّ لَمَا احتيج إلى كل ذلك التأكيد ودفع الشبهات.

فالضابطة والميزان في كل ذلك هو الكتاب والسنة؛ حيث يعبِّران عن الوحي المعصوم، وكذلك العقل البديهي والنظري، فيمكن عرض التنزُّل على تلك البديهيات ليعلم الصحيح منها من السقيم.

وهذه النتيجة لا تعني إنكار الغيب أو إنكار للمدركات القلبية، بل هي الضابطة التي تحتاج إليها النفوس البشرية غير المعصومة، ونحن لا ننفيها بنحو مطلق، بل ننفي الحجية المطلقة لها.

١٠٥

خاتمة:

حول العلاقة بين الحجج الأربع.

لقد مضى الكلام في هذا الفصل حول الطرق والحجج الأربع؛ اثنان نقليَّان هما: الكتاب والسنة، واثنان تكوينيَّان هما: العقل والقلب. والغرض من هذه الخاتمة هو الإشارة إلى الارتباط والعلاقة بين هذه الطرق.

وقد ذكر للعلاقة بينها أمور:

ـ إن الفلسفة وهي الباحثة عن مدركات العقل، والعرفان وهو الباحث عن لغة الإدراكات الحضورية، تلميذان يؤهِّلان لفهم نكات الوحي.

ـ إن العقل والقلب يُرجع إليهما في رفع متشابهات النص، وإنه يُرجع إلى محكمات النص لتُرفع متشابهات العقل والقلب، فيُرفع متشابه كلٍّ منهما بمحكم الآخر.

ـ إن العقل والقلب شأنهما الإدراك. أمَّا الوحي، فهو نفس المدرَك.

ـ وقال البعض: إن وظيفة العقل والقلب هي التصور، وأمّا الحكم، فهو من وظيفة الوحي؛ بمعنى أن المخاطَب هو العقل والقلب، أمّا نفس الخطاب، فهو الكتاب والسنة؛ حيث إنهما مواد الوحي. فالمخاطَب ليس هو القوى النازلة، بل المخاطب هو العقل والقلب، واللغة اللسانية وظيفتها إحداث التصوّر، واللغة العقلية وظيفتها إحداث أصل الإدراك، والحكم والتصديق يكون من الشارع، فالمدرِك لهذا الحكم والتصديق والتصوير هو العقل، والمدرِك لهذه الإشعاعات النورية هو القلب. فكما أن الألفاظ موصلة للمعنى و بها يُحتج، فكذلك في لغة العقل بهما يحتجُّ على الإنسان، فالعقل والقلب هما المخاطبان ولغة الخطاب هي الوحي.

بتعبير آخر: إن العقل أيضاً يحكم ويصدِّق ويُدرك التصورات، ولكن يتبع حكم الوحي والشارع، فليس فيه إلغاء لدورهما.

١٠٦

ـ إن هناك سنناً تكوينية جعلها اللَّه عزَّ وجلَّ في طريقة التفكير البشري، فالعلم وإن كان نوراً يقذفه اللَّه في قلب الإنسان، إلاّ أن طريقة القذف تعتمد على أحد نحوين:

الأوَّل: هي الوصول إلى الاستنتاج عن طريق تهيئة المقدِّمات والمواد، وعبر مراعاة موازين ما يسمَّى بالمنطق، وذكرنا أنها مُعِدَّات تعدُّ الإنسان لكي يفاض عليه النتائج.

والآخر: هو التصفية والتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل والإيمان والمعارف، فيصلُ الإنسان إلى العلوم الحضورية، وهذا مسلك الإشراق والعرفاء....

فهاتان سنتان تكوينيتان في نيل الفكر والمعرفة الإنسانية، ويضاف إلى هاتين السنتين سنة وطريقة ثالثة وهي الوحي(الكتاب والسنة).

وهذه الطُرق ليست متقابلة، بل يجب الاستعانة بكل منها مع الأخر. فإذا استمد الإنسان بالسنُّتين التكوينيَّتين دون الوحي، فإن ذلك يعني خسران المعارف الهائلة، وكذلك لا يستفيد تمام وكمال الفائدة من الرافد الأخير إلاّ بالرافدين الأوَّليين لأنهما قناتيْ وطريقي المعارف.

ـ ووجه آخر لبيان العلاقة وهو أن الرياضة العقلية في العلوم العقلية، والرياضة القلبية في العلوم القلبية العرفانية بالغتا الأهمية من حيث كونهما مُعدَّتان للتأهُّل وخوض الوحي لفهم أسراره.

والعمدة التي تدور حولها جميع هذه الأجوبة لبيان العلاقة هو بيان التلازم بين هذه الطُرق المختلفة، بوضع كلٍّ في دوره الموظَّف له؛ بحيث لا يُلغى أحدهما الأخر، بل الوصول إلى الحالة الوسطية. وهذه الوجوه هي لبيان تلك الحالة الوسطية؛ ومنها جعل العقل والقلب الحجة الباطنة، وجعل الوحي الحجة الظاهرة.

١٠٧

وفي حديث طويل عن الصادق عليه‌السلام : (أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا تنفع شي‏ء إلا به، العقل الذي جعله اللَّه زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون.... وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل وأن النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقل. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله اللَّه قوامه وزينته وهدايته، عَلِم أن اللَّه هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة،وأن له معصية، فلم يجد عقله يدله على ذلك، وعلم أنه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه...)الحديث (1) .

لقد بيَّن الإمام عليه‌السلام أن مصدر الأمور وأسسها هو العقل،ثُمَّ سأل سائل: هل يكتفي بالعقل؟ فقال: إنه علّم العقل بأنه لا يصل إلى الحقائق من رضى اللَّه وغيرهما.... بل يصل إليها بعلم الوحي، فلابدَّ منهما كليهما.

ولا يتوَّهم أن الشريعة والمعارف تجريد وغيب محض، بل هو غيب وشهادة؛ وذلك أنَّنا إذا حافظنا على موازين تلقِّي معارف الغيب، حينئذٍ يكون التنزُّل سليماً حتّى إلى عالم الحس والشهادة، فبيوت الغيب يجب أن تُؤتى من أبوابها، فلابدَّ من التدرُّج عبر بوَّابة العقل،ثُمَّ بوَّابة القلب، فكما أن سنة اللَّه مع عالم المخلوقات جرت بالتدرُّج، فكذلك تنزُّل هذه المعارف.

فالنتيجة أن التمسُّك بالوحي ورفض العقل والقلب، هو رفض للوحي أيضا؛ وذلك لأن المخاطَب بالكتاب والسنّة هو العقل، وجعل المخاطب غير العقل وإلغاء شرط العقل هو في الواقع إلغاء للكتاب والسنّة.

وكذلك مَن تمسّك بالعقل من دون الكتاب والسنّة، فقد ضيَّع العقل أيضا؛

____________________

(1) أصول الكافي، ج 1، ص29.

١٠٨

وذلك لأن التمسُّك بالعقل والقلب هو إبقاء الإنسان في الحدود النازلة وعدم ارتقائه إلى المعاني العالية، وهو حرمان للعقل من المعارف الإلهية، وكذلك مَن ادعى أنه يفهم الكتاب والسنة من دون الالتفات إلى النكات العقلية، فقد أنزل المعارف من مستواها العالي؛ فلابد من الوسطية والتوازن.

وقد حاول العلاّمة الطباطبائي أن يذكر في كل مسألة الفحص في هذه الطرق الأربعة، ولا يقتصر على جانب دون آخر. وممَّن حاول أيضاً الجمع بين هذه الطرق، الملاّ صدرا في الحكمة المتعالية، وبغض النظر عن مدى موفقية كلٍّ منهما في النتائج التي توصَّلا إليها، إلاّ أنها محاولة جريئة وجديدة في بابه، فلم يقصر فكره على طريقة واحدة ومنهجية واحدة؛ حيث إنه استفاد من نكات مذكورة في السنّة في إيجاد براهين عقلية لأمور عجز العقل في السابق عن إثباتها كالمعاد الجسماني.

ـ أمَّا الشيخ الأنصاري، فيذكر في الرسائل:

أن التنافي بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية، لو قُدِّر وجوده، لا يخرج عن صور ثلاث:

إمَّا صورة التعارض لدليلين قطعيَّين.

وإمّا صورة تعارض نقلي قطعي وعقلي نظري.

وإمّا صورة تعارض نقلي ظنِّي وعقلي قطعي (نظري وبديهي).

أمَّا الصورة الأولى، فلا وجود لها ولم يشر أحد من الباحثين إليها قط.

أمَّا الصورة الثانية، فهي وإن كانت بدواً تعارض، إلاّ أن الإنسان إذا دقَّق ولاحظ في مواد الدليل العقلي، لوجد أنها ظنية وليست قطعية، والمشكلة تكمن أنَّنا - للوهلة الأولى - لا نلتفت إلى ذلك، بل بعد فترة من الزمن، حيث نتصوّر استحكام التعارض؛ والسرُّ في عدم التعارض هو: أن الوحي برهان وقطعي حيث ثبتت واقعيَّـته، وأنه من واجب الوجود، فلا يمكن أن يتصادم مع العقل القطعي. وقد نبَّه الملاّ صدرا إلى أن

١٠٩

قول المعصوم يمكن أن يستخدم كوسط في البرهان لعصمته عن الخطأ.

أمَّا الصورة الثالثة، فإنه لو أعيد النظر في العقل القطعي وتأكَّدتَ مِن قطعيَّـته، فإنه يكون قرينة على التصرُّف في الظاهر الظني والتأويل.

وتوجد صورة رابعة في التعارض بين الظني النقلي والظني العقلي، وفي هذه الصورة نلاحظ أن العقل الظني ليس بحجة. أمّا النقلي الظني، فقد ذكرنا في بداية بحثنا إمكان اعتباره ووقوعه كما يظهر من عبارة الشيخ في بحث الانسداد، ومال إلى ذلك كثير من علمائنا كالبهائي والشيخ الطوسي والميرزا القمي وغيرهم.

ويشير الشيخ إلى توصية هامة وهي:

أنه في بحوث المقام يجب التتبُّع وبذل الجهد للحصول على المعارف النقلية، القطعية منها والظنية المعتبرة، بناءً على اعتباره في التفاصيل النظرية في شعب المعرفة، فكما نجهد أنفسنا في البحوث العقلية البحتة أو القلبية، فإنه يجب بذل الجهد بعناية فائقة في تحصيل القطعيَّات النقلية. وممَّا يؤسف له قلَّة الجهود المبذولة في هذا المضمار بالقياس إلى حجم النقل الواصل بأيدينا وبالقياس إلى ما يُبذل من جهود في المجال الآخر، فإنه لو أثريت البحوث العقلية الاستدلالية في المعارف النقلية، لتوفّر تبويب كثير من الطوائف للأدلة النقلية، ولأمكن العثور على جمٍّ كبيرٍ من القرائن والاستفاضات المعنوية في كثير من المسائل.

١١٠

الفصل الثاني:

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

١١١

١١٢

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

المبحث الأوَّل:

لمحة تاريخية

إن الناظر للتاريخ الإسلامي وللمذاهب التي نشأت في هذا الدين وما ذكرته لنا في مسألة الخلافة والحاكمية، يرى كم هو البون الشاسع بين المبدأ والمنتهى، وبين التنظير والتطبيق لدى أكثر المذاهب الإسلامية، فكثير ممَّن رفعوا راية الشورى لم يثبتوا على مبدأ واحد وقول متَّحد منذ بداية الخلافة الإسلامية وحتّى يومنا هذا؛ لا يوجد تطابق بين ما ادعوه من شوروية الحكم وما طُبِّق. كما أن بعض القائلين بالنص في عصرنا لم يثبتوا على مقولتهم، بل نرى ذلك البعض يحاول أن يخفِّف من وطأتها ويدمجها مع الشورى، ويحاول أن يجعلها شورى عند التطبيق... وهكذا.

بعض الباحثين في شؤون المِلل والنحل ذكروا لنا اتجاهاً ثالثاً بين الشورى والنص؛ وهو التلفيق بين هاتين النظريتين، ولم يعدُّوها من القول بالنص، بل يجعلونها من القول بالشورى، وأوضح مثال على ذلك هو: ما سارت عليه الزيدية والإسماعيلية؛ حيث حسبوا أن هناك تصادماً بين القول بالنص وبين لزوم إقامة الحكم الإسلامي، وهذا التصادم هو الذي ألجأهم إلى التلفيق. وهذا المنزلق استطاعت الإمامية أن تخرج منه، وحافطت على وتيرة القول بالنص من دون تلفيق مع الشورى. وقد يكون من الأمور التي دفعت إلى التلفيق هو إحجام مَن نُص عليه

١١٣

عن إقامة الحكم السياسي، مع عدم الالتفات إلى أن الأئمَّة عليهم‌السلام كانت لهم حكومة حقيقية مبسوطة على كل مَن شاء الرجوع إليهم. وإن المتتبِّع للروايات المتناثرة هنا وهناك، يرى أن الأئمَّة كانوا يمارسون كل أنواع السلطة وكافَّة شؤونها، وأنهم لم يحجموا في واقع الأمر، وإنما قد أدبر الناس عنهم.

وأكثر مؤلفي الشيعة ممّن تعرَّضوا للمِلل والنحل ردُّوا شبه الزيدية؛ فراجع: إكمال الدين والغيبة للطوسي، وأصول الكافي للكليني، والكشِّي في رجاله.

فنرى الشهرستاني في المِلل والنحل يقول: (والاختلاف في الإمامة على وجهين؛ أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال: إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار، قال بإمامة كل مَن اتفقت عليه الأمة أو جماعة معتبرة من الأمّة؛ إمّا مطلقاً، وإمّا بشرط أن يكون قرَشيَّاً على مذهب قوم، وبشرط أن يكون هاشمياً على مذهب قوم) (1) .

وقال: (الخلاف الخامس: في الإمامة. وأعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كلِّ زمان...) ثُمَّ نقل كلام عمر حين حضر مع أبي بكر سقيفة بني ساعدة: (فقبْل أن يشتغل الأنصار بالكلام مَدَدت يدي إليه، فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة، إلاّ أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللَّه المسلمين شرَّها، فمَن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيّما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فإنها تَغِرَّة يجب أن يقتلا.... وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة) (2) .

وقال: (الخلاف الثامن: في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة.

____________________

(1) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص33.

(2) المصدر، ص 30 ـ31.

١١٤

فمن الناس مَن قال: قد ولَّيت علينا فظَّاً غليظاً. وارتفع الخلاف....) (1) .

وقال في الباب السادس: (الشيعة: هم الذين شايعوا عليَّاً(رضي الله عنه‏)على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصَّاً ووصيَّةً؛ إمَّا جليَّاً وإمَّا خفيَّاً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل‏ عليهم‌السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامّة وإرساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولِّي والتبرِّي قولاً وفعلاً، وعقداً، إلاّ في حال التقيَّة، ويخالفهم بعض الزيدية في ‏ذلك) (2) .

وقال في الزيدية: (أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(رضي الله عنهم) ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة(رضي اللَّه عنها)، ولم يجوِّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلاّ أنهم جوَّزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إماماً واجب الطاعة.... وجوَّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة).ثُم َّذكر السليمانية من فِرق

الزيدية: (أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول: إن الإمامة شورى بين الخلق ويصحُّ أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها تصحُّ في المفضول مع وجود الأفضل، وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقَّاً باختيار الأمة حقَّاً اجتهادياً. وربَّما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي(‏رضي الله عنه‏) خطأً لا يبلغ درجة الفسق... قالوا: الإمامة من مصالح الدين، ليس يحتاج إليها لمعرفة اللَّه تعالى وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل، لكنَّها يحتاج إليها لإقامة الحدود

____________________

(1) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص31.

(2) المصدر، ص131.

١١٥

والقضاء....) (1) .

وقال عن الصالحية والبترية من الزيدية:

(وقولهم في الإمامة كقول السليمانية... وأكثرهم - في زماننا - مقلِّدون؛ لا يرجعون إلى رأي واجتهاد. أمَّا في الأصول، فيرون رأي المعتزلة حذو القُذَّة بالقُذَّة، ويعظِّمون الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمَّة أهل البيت. وأمَّا في الفروع، فهم على مذهب أبي ‏حنيفة....) (2) .

ويقول سعد بن عبداللَّه الأشعري القمي - وهو من الفقهاء، أخذ أصل كتابه في الفِرق عن النوبختي والأخير من المتكلِّمين له كتاب: الفِرق والمقالات، إلاّ أن سعداً أضاف على ما أخذه -: (واختلف أهل الإهمال في إمامة الفاضل والمفضول؛ فقال أكثرهم: هي جائزة في الفاضل والمفضول إذا كانت في الفاضل علّة تمنع عن إمامته، ووافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلاّ للفاضل المتقدِّم. واختلف الكل في ‏الوصية؛ فقال أكثر أهل الإهمال: توفِّي رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يوصِ إلى أحد من الخلق... ) ثُمَّ عدّ البترية والسليمانية من فِرق الزيدية من أهل الإهمال (3) .

وقال عن الجارودية من الزيدية: (.... فقالوا بتفضيل علي، ولم يروا مقامه لأحد سواه، وزعموا أن مَن رفع عليَّاً عن هذا المقام، فهو كافر، وأن الأمة كفرت وضلَّت في تركها بيعته، ثُمَّ جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي، ثُمَّ في الحسين بن علي، ثُمَّ هي شورى بين أولادهما؛ فمَن خرج منهم وشهر سيفه ودعا إلى نفسه، فهو مستحقٌّ للإمامة) (4) (... وزعموا أن الإمامة صارت بالنص من رسول اللَّه لعلي بن أبي طالب، ثُمَّ الحسن بن علي، وبعد أن مضى الحسين بن علي لا تثبت إلاّ

____________________

(1) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص137 - 142.

(2) المصدر، ص142 - 143.

(3) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص72.

(4) المصدر، ص18.

١١٦

باِختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم) (1) .

وفي المقالات لأبي الحسن الأشعري المتوفَّى 324 هـ (ص 467 - 451) قال: (وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت، حتّى يظهر لها الإمام، وحتّى يأمرها بذلك....).

فهو يشير إلى نفس النكتة التي ألمح إليها الشهرستاني من حصر الحاكمية لدى الإمامية في النص، وفي قبالهم المعتزلة والزيدية والخوارج والمرجئة؛ حيث يرون خلاف ذلك.

ومن خلال هذه اللمحة التاريخية يتَّضح لنا أمران:

1 - إن الصياغات المختلفة للشورى، والتلفيق بينها وبين النص، معدودة عند أصحاب التراجم والمؤرِّخين في منهج يقابل النص.

2 - إن بعض الفِرق الشيعية - في الأصل - انتقلت من النصِّ إلى الشورى أو إلى التلفيق بسبب ما رأوه من تصادم بين النص وبين مسلَّمة لزوم إقامة الحكومة الإسلامية؛ حيث عجزت أفكارهم عن إيجاد حلٍّ ضمن إطار النص، بخلاف فقهاء الإمامية الاثنى عشرية الذين استطاعوا - مع بقائهم وتمسُّكهم بالنص - إيجاد صيغ بديلة عن الشورى أو التلفيق.

ومن أمثلة هذه الفِرق: الزيدية؛ الذين ذهبوا - نتيجة هذا التصادم - إلى ما ذهبوا إليه. وقد عقد الشيخ الصدوق في كتابه: إكمال الدين وإتمام النعمة (ص 77) فصلاً في الجواب عنه.

____________________

(1) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص19.

١١٧

١١٨

المبحث الثاني:

النظريَّات المختلفة في إدارة شؤون الحكم ودور الشورى فيها (1)

النظرية الأولى المشهورة:

من أن للأمة صلاحية البتِّ في ولاية الحكم والقيادة من رأس الهرم إلى كافَّة

____________________

(1) مجموع هذه النظريات وأدلَّتها ووجوهها الآتية مستخلصة من الكتب التالية:

1 - تفسير المنار، محمد رشيد رضا.

2 - روح البيان، الآلوسي.

3 - فقه الدولة الإسلامية، الشيخ المنتظري، ج1.

4 - مفاهيم القرآن، دراسة موسَّعة عن صيغة الحكومة الإسلامية، الشيخ السبحاني.

5 - بيام قرآن، ج10 (قرآن مجيد وحكومت اسلامى)، الشيخ مكارم الشيرازي.

6 - طرح حكومت اسلامى، الشيخ مكارم الشيرازي.

7 - تفسير الميزان، ج4، ص124، العلامة الطباطبائي.

8 - الحكومة الإسلامية في أحاديث الشيعة، للشيخ السلطاني، والمظاهري، والمصلحي، والخرازي، والأستادي.

9 - الاجتماع السياسي الإسلامي، الشيخ شمس الدين.

10 - مجلَّة: حكومت إسلامي، ع 1 و 2، مقالات الشيخ مهدي الحائري.

11 - تنبيه الأمَّة وتنزيه الملَّة، الميرزا النائيني.

12 - حكومت در إسلام، السيد الروحاني.

13 - الإسلام يقود الحياة، ص172، الشهيد السيد الصدر.

14 - الفقه - الاجتهاد والتقليد، ج1، السيد الشيرازي.

وغيرها من الكتب التي صدرت أخيراً عن الحكومة الإسلامية وخصَّت الشورى بباب أو فصلٍ مستقل.

١١٩

الأجنحة، وهذه النظرية مع شهرتها إلاّ أنها لا تجد أساساً تطبيقياً في التاريخ الإسلامي من انتخاب الخلفاء الثلاثة إلى دولة بني أميّة وبني العبّاس؛ لذا نجد أن معالمها قد تكاملت مع العصور المتأخرة ويمكن التعبير عنها بالمصطلح الحديث: إن السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الأمة.

ولكن بقي في هذه النظرية نقاط لم تحسم:

منها: أن المدار في الانتخاب هل هو على الأكثرية الكمية أو على الكيفية؛ ممَّا قد يَصطلح عليه أهلُ الحلِّ والعقد؟ وعلى الفرضية الأولى: هل هي مطلق الكثرة النسبية؛ ولا يلتفت إلى الطرف المقابل ولو كان بنسبة 40% فما فوق، حتّى وإن كان الطرف الأقل أكثر وعياً وأبصر بالأمر؟

ثُم هل المدار على ما يهوى المنتخِبون من دون ملاحظة شرائط ومواصفات في المنتخَب أو أنهم مقيَّدون في ‏انتخابهم بشرائط خاصة؟ وهل عليهم مراعاة توفُّرها بالنحو الأكمل في المنتخَب أم بأيِّ درجة كانت؟

ومنها: أن الأساس القانوني أو - بتعبير آخر - شرعية الحاكم في تولِّي السلطة لم يتم تشخيصه وتحديده؛ فهل الحاكم المختار هو وكيل عن الجماعة في إدارة شؤونها العامة؟ وهذا يعني وجود عقد وكالة بينهم، مع ما يستلزمه هذا من القول بأنه وكالة من نوع خاص؛ إذ لا تسري عليه كل أحكام الوكالة.

أو أن سلطة الحاكم المختار هي ولاية على الأمة؟ وهذه يُتصوَّر على نحوين:

أحدهما: أن تنقل الأمة الولاية التي لديها على نفسها إلى هذا الحاكم.

والأخر: أن يكون له الولاية من قبل أهل الحلِّ والعقد الذين يجعلون الحاكم المنتخَب له الولاية، فتكون ولايته طولية كما في ولاية حاكم المدينة المعيّن من قبل الإمام المعصوم.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592