الدروس الشرعية في فقه الامامية الجزء ٣

الدروس الشرعية في فقه الامامية14%

الدروس الشرعية في فقه الامامية مؤلف:
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 416

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 416 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97932 / تحميل: 5188
الحجم الحجم الحجم
الدروس الشرعية في فقه الامامية

الدروس الشرعية في فقه الامامية الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

هذا الإنسان حاضر لديّ :( وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) فيكشف الستار عن كلّ صغيرة وكبيرة صدرت منه.

ولكن ما المراد من «قرينه»؟ للمفسّرين أقوال كثيرة ، إلّا أنّ أغلبهم يرى أنّ المراد منه هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأمورا بتسجيل أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل الله.

والآيات السابقة التي كانت تشير إلى أنّ من يرد عرصات المحشر فإنّ معه سائقا يسوقه وشهيدا يشهد عليه ، تدلّ على هذا المعنى أيضا. زد على ذلك لحن الآية نفسها والآية التي تليها تتناسبان مع هذا المعنى أيضا [فلاحظوا بدقّة].

إلّا أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المراد من قرينه هو «الشيطان» ، لأنّ كلمة «قرين» أطلقت في كثير من آيات القرآن على الشيطان الذي يصطحب الإنسان فيكون معنى الآية على هذا التقدير هكذا : «وقال الشيطان قرين الإنسان : «إنّني أعددت هذا المجرم لجهنّم وبذلت أقصى ما في وسعي من جهد في هذا السبيل».

إلّا أنّ هذا المعنى لا أنّه لا يتناسب مع الآيات السابقة واللاحقة فحسب ، بل لا ينسجم مع تبرئة الشيطان نفسه من إغوائه الإنسان على الذنب كما تصرّح بذلك الآية الواردة بعد عدّة آيات من هذه الآية محلّ البحث.

فطبقا لهذا التّفسير للآية فإنّ الشيطان يعترف بمسؤوليته في إغواء الإنسان ، والحال أنّ الآيات المقبلة نقرأ فيها قوله :( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) فيقع التضادّ بين القولين كما تلاحظون.

وهناك تفسير ثالث وهو أبعد ممّا ذكر آنفا ولا قرينة عليه أبدا ، وهو أنّ المراد من «قرينه» هو من رافق الإنسان في حياته من البشر!!

ثمّ يخاطب الله الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما :( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) .

كلمة «عنيد» مشتقّة من العناد ، ومعناها التكبّر وحبّ الذات وعدم الخضوع

٤١

للحقّ!

ومن هم المخاطبين هنا؟ هناك تفاسير متعدّدة أيضا ، فمنهم من اختار التّفسير آنف الذكر ، ومنهم من قال بأنّهما خازنا النيران.

وقال بعضهم ـ أيضا ـ من المحتمل أن يكون المخاطب واحدا فحسب ، وهو الشاهد الذي يرد عرصة القيامة مع المجرم ، وصرّحت به الآيات آنفة الذكر ، وتثنية الفعل هو من أجل التأكيد ، فكأنّه يؤكّد مرتين : «الق ، الق» واستعمال التثنية في خطاب المفرد وارد في لغة العرب ، إلّا أنّ هذا التّفسير بعيد جدّا. وخير التفاسير وأنسبها هو التّفسير الأوّل.

وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف التي يتّصف بها هؤلاء الكفّار ـ الذميمة المنحطّة إذ تقول الآية :( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ) .

«المنّاع» بحكم كونه صيغة مبالغة فإنّه يطلق على الشخص الذي يمنع كثيرا من الأمور ، فيكون التعبير بـ «منّاع للخير» يقصد به من يمنع كلّ عمل صالح فيه خير وبأيّة صورة كانت.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الآية نزلت في «الوليد بن المغيرة» حيث أنّه كان يمنع أبناء أخيه عن الإسلام ويقول لهم : طالما كنت حيّا فلن أعينكم في حياتكم(١) .

وكلمة «معتد» معناها المتجاوز على الحدود ، سواء أكان متجاوزا لحقوق الآخرين أو لحدود الله وأحكامه!

وكلمة «مريب» مشتقّة من الريب ، وتعني من هو في شكّ ، الشكّ المقرون بسوء الظنّ ، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شكّ من أمرهم فيضلّوا عن سواء السبيل.

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٦٨.

٤٢

ثمّ تضيف الآية التالية لتذكر وصفا ذميما لمن كان من طائفة الكفّار فتقول :( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

أجل :( فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) .

وفي هذه الآيات بيان ستّة أوصاف لأهل النار ، فالأوصاف الخمسة المتقدّمة بعضها لبعض بمثابة العلّة والمعلول ، أمّا الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل لهذه الأوصاف.

لأنّ معنى الكفّار هو من أصرّ على كفره كثيرا ، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.

والمعاند أو العنيد يصرّ على منع الخير أيضا ، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون معتديا متجاوزا على حقوق الآخرين وحدود الله.

والمعتدون يصرّون على إيقاع الآخرين في الشّك والريب وسلب الإيمان عنهم.

وهكذا تبيّن أنّ هذه الأوصاف الخمسة أي «الكفّار والعنيد والمنّاع للخير والمعتدي والمريب» يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا ، وبعضها لبعض يشكّل علاقة اللازم بالملزوم.

وفي الوصف السادس أي( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) يكمن الجذر الأصيل والأساس لجميع الانحرافات الآنف ذكرها ، والمراد من هذا الوصف هو الشرك ، لأنّ التدقيق فيه يكشف أنّ الشرك هو الباعث على جميع هذه الأمور المتقدّمة!

وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة اخرى ممّا يجري على هؤلاء الكفّار وعاقبتهم ، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغويّ في يوم القيامة ، فكلّ من الكفّار يلقي التبعات على الشياطين ، إلّا أنّ قرينه «الشيطان» يردّ عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن :( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) . فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة ، بل هو الذي سلكه باختياره

٤٣

وإرادته واختار هذا الطريق.

وهذا التعبير يشبه ما ورد في سورة إبراهيم الآية (٢٢) إذ يتبرّأ الشيطان من أتباعه فيقول :( ... وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) !!

وبالطبع فإنّ الشيطان لا يريد أن ينكر أثره في إغواء الإنسان إنكارا كليّا ، بل يريد أن يثبت أنّه لم يجبر أحدا على إغوائه ، بل الإنسان بمحض استجابته ورغبته قبل وساوس الشيطان ، فعلى هذا الأساس لا تضادّ بين هذه الآية والآية (٨٢) من سورة (ص) :( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تتحدّث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب ، ولا يظهر فيها كلام على اعتراض الكفّار وردّهم على الشيطان ، إلّا أنّه وبقرينة سائر الآيات التي تتحدّث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية يتّضح جدال الطرفين إجمالا ، لأنّها تقول حاكية عن ربّ العزّة :( قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) وأخبرتكم عن هذا المصير.

إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة :( اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) (١) .

ومن جهة اخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) .(٢) وهذا التهديد والوعيد واردة في سائر آيات القرآن ، وهي حاكية جميعا عن أنّ الله أتمّ الحجّة على الشياطين والإنس كلّهم وحذّر كلا الفريقين من الإغواء والغواية والإضلال والضلال.

ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان ربّ العزّة :( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ

__________________

(١) الإسراء ، الآية ٦٣.

(٢) سورة ص ، الآية ٨٥.

٤٤

لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (١) .

والمراد من «القول» هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه الله سبحانه مرارا في آيات متعدّدة وذكرنا آنفا أمثلة منها.

والتعبير بـ «ظلّام» وهو صيغة مبالغة معناه كثير الظلم ، مع أنّ الله لا يصدر منه أقل ظلم ، ولعلّ هذا التعبير هو إيذان بأنّ مقام عدل الله وعلمه في درجة بحيث لو صدر منه أصغر ظلم لكان يعدّ كبيرا جدّا ولكان مصداقا للظلّام ، فعلى هذا فإنّ الله بعيد عن أي أنواع الظلم.

أو أنّ هذا التعبير ناظر إلى الأفراد والمصاديق ، إذ لو نال عبدا ظلم من الله فهناك نظراء لهذا العبد ، وفي المجموع يكون الظلم كثيرا.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا التعبير دليل على أنّ العباد مخيّرون ولديهم الحريّة «في الإرادة» فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله ، ولا الكفّار مجبورون على الكفر وأتباع طريق الشيطان ، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد تقرّرا لأحد أبدا.

وهنا ينقدح هذا السؤال! وهو :

كيف يقول سبحانه( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ ) ؟ مع أنّ جماعة من العباد يشملهم عفوه وغفرانه؟

والجواب على هذا السؤال : أنّ العفو أيضا وفقا لمنهج دقيق وفرع على عمل أدّاه الإنسان بحيث أنّه على رغم جرمه فهو جدير بالعفو ، وهذا بنفسه أحد السنن الإلهيّة ، وهو أنّ من يستحقّ العفو يشمله عفوه ، وهذا أيضا لا يتغيّر.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية :( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ

__________________

(١) لدي ظرف متعلق بـ «يبدل» واحتمل بعض المفسرين أنه متعلق بالقول ، إلا أن المعنى الأول أنسب

٤٥

مَزِيدٍ) (١) .

والمراد من( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) ما هو؟ هناك تفسيران :

الأوّل : أنّه استفهام إنكاري ، أي أنّ جهنّم تقول لا مجال للزيادة ، وبهذا فينسجم هذا المعنى مع الآية ١٣ من سورة السجدة :( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وهو تأكيد على أنّ تهديد الله يتحقّق في ذلك اليوم تماما وأنّ جهنّم تمتلئ في يوم القيامة من الكفّار والمجرمين.

والثّاني : إنّ هذه الجملة فيها طلب للزيادة! أي هل يوجد غير هؤلاء ليدخلوا النار ، وأساسا فإنّ طبيعة كلّ شيء أن يبحث عن سنخه دائما ، فلا النار تشبع من الكفّار ولا الجنّة تشبع من المؤمنين الصالحين.

إلّا أنّ هذا السؤال سيبقى بلا جواب ، وهو أنّ مفهوم هذا الطلب أنّ جهنّم ما تزال غير ممتلئة ، فلا تنسجم مع الآية ١٣ من سورة السجدة آنفة الذكر التي تقول :( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ طلب المزيد لا يدلّ على عدم الامتلاء لأنّه :

أوّلا : قد يكون إناء مليء بالطعام مثلا ، إلّا أنّ شخصا ما يزال يتمنّى أن لو أضيف إليه فيكون متراكما أكثر! ثانيا : هذا الطلب يمكن أن يكون طلبا لتضييق المكان على أهل جهنّم وعقابهم الأليم أو تمنّي السعة لاستيعاب أنفار آخرين أكثر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الآية تدلّ دلالة واضحة أنّ أهل جهنّم كثيرون ، وأنّ صورة جهنّم مرعبة وموحشة وأنّ تهديد الله جدّي وحقّ يربك الفكر في كلّ إنسان فيهزّه ويحذّره ألّا يكون واحدا من أهلها! وهذا التفكير يمكن أن يصيّره ورعا ملتزما فلا يقدم على الذنوب الكبيرة والصغيرة!

__________________

(١) بأي كلمة متعلّق لفظ «يوم»؟ هناك ثلاثة وجوه ـ الوجه الأوّل أنّه متعلّق بمحذوف وتقديره اذكروا. والوجه الثاني أنّه متعلّق بيبدّل. والوجه الثالث أنّه متعلّق بظلّام ، إلّا أنّ الأوّل أولى.

٤٦

وينقدح سؤال آخر ، وهو كيف تخاطب النار وهي موجود غير عاقل فتردّ وتجيب على الخطاب!

ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث :

الاولى : إنّ هذا التعبير نوع من التشبيه وبيان لسان الحال! أي أنّ الله يسأل بلسان التكوين جهنّم وهي تجيب بلسان الحال ، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات المختلفة!

الثّانية : إنّ الدار الآخرة دار حياة واقعية ، فحتّى الموجودات المادية كالجنّة والنار يكون لها نوع من الإدراك ، والحياة والشعور ، فالجنّة تشتاق إلى المؤمنين ، وجهنّم تنتظر المجرمين.

وكما أنّ أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان ، فلا عجب أن تكون الجنّة والنار كذلك!

بل وحسب إعتقاد بعض المفسّرين إنّ ذرّات هذا العالم جميعها لها إدراك وإحساس خاصّ ، ولذلك فهي تسبّح الله وتحمده ، وقد أشارت إليه بعض آيات القرآن كالآية (٤٤) من سورة الإسراء(١) .

والثّالثة : إنّ المخاطبين هم خزنة النار وهم الذين يردون على هذا السؤال.

وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو!

* * *

__________________

(١) يراجع ذيل الآية ٤٤ من سورة الإسراء.

٤٧

الآيات

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) )

التّفسير

ادخلوا الجنّة أيّها المتّقون!

مع الالتفات إلى أنّ أبحاث هذه السورة يدور أغلبها حول محور المعاد والأمور التي تتعلّق به ، ومع ملاحظة أنّ الآيات آنفة الذكر تتحدّث عن كيفية إلقاء الكفّار المعاندين في نار جهنّم وما يلاقونه من عذاب شديد وبيان صفاتهم التي جرّتهم وساقتهم إلى نار جهنّم! ففي هذه الآيات محلّ البحث تصوير لمشهد آخر ، وهو دخول المتّقين الجنّة بمنتهى التكريم والتجلّة وإشارة إلى أنواع النعم في

٤٨

الجنّة ، كما أنّ هذه الآيات تبيّن صفات أهل الجنّة لتتّضح الحقائق أكثر بهذه المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنّة.

فتبدأ الآيات بالقول :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) .

«أزلفت» : من مادّة زلفى ـ على زنة كبرى ـ ومعناها القرب ، أي قرّبت.

والطريف هنا أنّ القرآن لا يقول : وقرّب المتّقين إلى الجنّة ، بل يقول وأزلفت أي وقرّبت الجنّة للمتّقين ، وهذا أمر لا يمكن أن يتصوّر تبعا للظروف الدنيوية وشروطها ، ولكن حيث إنّ الأصول الحاكمة على العالم الآخر تختلف اختلافا بالغا عمّا هي في هذه الدنيا ، فلا ينبغي التعجّب إطلاقا أن يقرّب الله الجنّة للمتّقين بمنتهى التكريم بدلا من أن يذهبوا هم إليها.

كما أنّنا نقرأ في الآيتين (٩٠) و٩١) من سورة الشعراء :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) .

وهذا منتهى اللطف الإلهي لعباده المؤمنين حيث لا يتصوّر فوقه لطف آخر!.

والتعبير بـ( غَيْرَ بَعِيدٍ ) (١) تأكيد على هذا المعنى أيضا.

وعلى كلّ حال ، فمفهوم الآية أنّ هذه القضيّة تقع في القيامة رغم أنّه عبّر عنها بالماضي «أزلفت» لكن الحوادث المستقبلية القطعية كثيرا ما يعبّر عنها بالماضي ـ لأنّ وقوعها سيتحقّق حتما ـ.

وقيل : إنّ إزلاف الجنّة للمتّقين يتحقّق في الدنيا ، لأنّه لا يفصلهم شيء عن الجنّة والتعبير بالماضي يراد به الماضي حقيقة. وعند الموت سيجدون أنفسهم في الجنّة. لكن مع ملاحظة الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدّث عن مشاهد القيامة يبدو أنّ هذا المعنى بعيد ، والمناسب هو التّفسير الأوّل.

ثمّ تبيّن الآيات أوصاف أهل الجنّة فتقول :( هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ

__________________

(١) غير بعيد فيها ثلاثة أوجه إعرابية ، فيحتمل أن تكون ظرفا ، كما يحتمل أن تكون حالا ، ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف تقديره إزلافا غير بعيد.

٤٩

حَفِيظٍ ) .

وقد أشير في هذه الآية إلى وصفين من أوصافهم وهما «أوّاب» «وحفيظ».

وكلمة «الأوّاب» : من مادّة [أوب] ـ على زنة ذوب ـ ومعناها العودة ، ولعلّها تعني التوبة عن الذنوب الكبيرة والصغيرة.

أو أنّها تعني العودة إلى الطاعة ، ومع ملاحظة أنّ هذه الصيغة هي للمبالغة فإنّها تدلّ على أنّ أهل الجنّة رجال متّقون بحيث إنّ أيّ عامل أو مؤثّر أراد أن يبعدهم عن طاعة الله فهم يلتفتون ويتذكّرون فيرجعون إلى طاعته فورا ، ويتوبون عن معاصيهم وغفلاتهم ليبلغوا مقام «النفس المطمئنة».

«الحفيظ» معناه الحافظ ، فما المراد منه؟ هل هو الحافظ لعهد الله إذ أخذه من بني آدم ألّا يعبدوا الشيطان كما ورد في الآية (٦٠) من سورة يس ، أم هو الحافظ لحدود الله وقوانينه أو الحافظ لذنوبه والمتذكّر لها ممّا يستلزم التوبة والجبران ، أو يعني جميع ما تقدّم من احتمالات؟

ومع ملاحظة أنّ هذا الحكم ورد بصورة مطلقة ، فإنّ التّفسير الأخير الجامع لهذه المعاني يبدو أقرب.

واستدامة لبيان هذه الأوصاف فإنّ الآية التالية تشير إلى وصفين آخرين منها ، وهما في الحقيقة بمثابة التوضيح والتّفسير لما سبق ذكره ، إذ تقول الآية :( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) .

عبارة( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ) إشارة إلى أنّهم رغم عدم رؤيتهم الله بأعينهم ، إلّا أنّهم يؤمنون به عن طريق آثاره والاستدلال بها. فيؤمنون إيمانا مقرونا بالإحساس بتحمّل المسؤولية.

ويحتمل أنّ المراد من «الغيب» هو ما غاب عن أعين الناس ، أي أنّهم لا يرتكبون الإثم لا بمرأى من الناس ولا في خلوتهم وابتعادهم عنهم.

وهذا الخوف «أو الخشية» يكون سببا للإنابة ، فيكون قلبهم متوجّها إلى الله

٥٠

ويقبل على طاعته دائما ويتوب من كلّ ذنب ، وأن يواصلوا هذه الحالة حتّى نهاية العمر ويردّوا عرصات المحشر على هذه الكيفية!.

ثمّ تضيف الآية الاخرى بأنّ أولئك الذين يتمتّعون بالصفات الأربع هذه حين تتلقّاهم الملائكة عند أبواب الجنّة يقولون لهم بنهاية التجلّة والإكرام( ادْخُلُوها بِسَلامٍ ) .

«السلام» من كلّ أنواع الأذى والسوء والعذاب والمعاقبة ، السلامة الكاملة في لباس الصحّة والعافية.

ولطمأنتهم يضاف أنّ ذلك اليوم يوم الدعّة و( ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) .

وإضافة لهاتين البشارتين بشرى الدخول بسلام ، وبشرى الخلود في الجنّة ، يبشّرهم الله بشريين أخريين بحيث تكون مجموع البشريات أربعا كما أنّهم يتّصفون بأربع صفات يقول :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) .

وإضافة إلى كلّ ذلك فإنّه( لَدَيْنا مَزِيدٌ ) من النعم التي لم تخطر ببال أحد.

ولا يمكن أن يتصوّر تعبير أبلغ من هذا التعبير وأوقع منه في النفس ، إذ يقول القرآن أوّلا :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) على سعة معنى العبارة وما تحمله من مفهوم إذ لا استثناء فيها ، ثمّ يضاف عليها المزيد من قبل الله ما لم يخطر بقلب أحد ، حيث أنّ الله الذي أنعم على المتّقين فشملهم بألطافه الخاصّة وهم يتنعمّون فيها ، وهكذا فإنّ نعم الجنّة ومواهبها ذات أبعاد واسعة لا يمكن أن توصف بأيّ بيان.

كما يستفاد من هذا التعبير ضمنا أنّه لا مقايسة بين أعمال المؤمنين وثواب الله ، بل هو أعلى وأسمى منها كثيرا ، والجميع في يوم القيامة يواجهون فضله أو عدله! ونجازى بعدله!

وبعد الانتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنّة وأهل النار ودرجاتهما ، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والاستنتاج فيقول :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء

٥١

وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها ، إلّا أنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم فهل وجدوا منفذا ومخرجا للخلاص من الموت والعذاب الإلهي( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) ؟!

«القرن» و «الاقتران» في الأصل هو «القرب» أو «الاقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء ، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة ، ويجمع على «قرون» ثمّ أطلق هذا اللفظ على فترة من الزمن حيث يطلق على ثلاثين سنة أحيانا كما يطلق على مائة سنة أيضا ، فإهلاك القرون معناه إهلاك الأمم السابقة.

و «البطش» معناه حمل الشيء وأخذه بالقوّة والقدرة ، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.

و «نقّبوا» : فعل من مادّة نقب ، ومعناه الثقب في الجدار أو الجلد ، غير أنّ الثقب يطلق على ما يقع في الخشب ، والنقب معناه أعمّ وأوسع.

وهذه المفردة إذا استعملت كفعل كما هو في الآية فيعني ذلك الحركة والسير وشقّ الطريق ، كما يعني السيطرة على البلدان والنفوذ فيها أيضا.

«المنقبة» : من المادّة ذاتها ، وتطلق على الصفات البارزة في الشخص وأفعاله الكريمة التي لها تأثير ونفوذ في نفوس الآخرين ، أو أنّها تشقّ له الطريق في الارتفاء والسمو!

و «النقيب» : هو من يبحث عن أحوال جماعة ما ويطّلع على أخبارهم وينفذ في أنفسهم.

و «المحيص» : كلمة مشتقّة من الحيص على زنة «الحيف» ، ومعناها الانحراف والعدول عن الشيء ، ومن هنا فقد استعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة!.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية تنذر الكفّار المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للاعتبار ، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين

٥٢

.. الذين كانوا امما وأقواما أشدّ من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضا» وهذا المعنى ورد مرارا في القرآن منها الآية ٨ من سورة الزخرف إذ نقرأ قوله تعالى :( فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ) .

ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية محلّ البحث تشير إلى «ثمود» هذه الطائفة التي كانت تسكن مناطق جبلية تدعى «بالحجر» وتقع شمال الحجاز ، فكانت تقطنها وتنقّب في الجبال وتحفر صخورها فتصنع منها القصور الرائعة ، غير أنّ ظاهر النصّ أنّ هذه الآية مفهومها واسع ، فيشمل هؤلاء وغيرهم أيضا.

أمّا جملة( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) فيحتمل أن تكون سؤالا على لسان الكفّار السابقين حين أحدق بهم العذاب ، فكانوا يسألون : هل من فرار ومحيص عنه ، كما يحتمل أن يكون سؤالا من قبل الله للكفّار المعاصرين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أي هل استطاع من كان قبلكم من الكفرة الفرار من قبضة العذاب؟ أو هل يستطيع من يعاند النّبي أن يهرب من مثل هذا لو أحدق به؟!

ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكّدا أكثر فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) .

والمراد بـ «القلب» هنا وفي الآيات الآخر من القرآن التي تتكلّم على إدراك المسائل هو العقل والشعور والإدراك ، كما أنّ كتب اللغة تشير إلى أنّ واحدا من معاني القلب هو العقل ، أمّا الراغب فقد فسّر القلب في الآية محلّ البحث بالعلم والفهم ، كما نقرأ في لسان العرب أنّ القلب قد يطلق على العقل أيضا(١) .

كما ورد في تفسير عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام لهذه الآية أنّه قال : إنّ القلب هو العقل(٢) .

والجذر اللغوي لكلمة «قلب» في الأصل : التغيير والتحوّل ، واصطلاحا معناه

__________________

(١) لسان العرب مادّة القلب. [ق لـ ب].

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ـ كتاب العقل والجهل ، الحديث ١١.

٥٣

الانقلاب ، وحيث أنّ فكر الإنسان أو عقله في تقلّب دائم وفي حال مختلفة فقد أطلقت عليه كلمة «القلب» ولذلك فإنّ القرآن يعوّل على اطمئنان القلب والسكينة فيقول :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) كما يقول في آية اخرى :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ،(٢) أجل إنّما يهدّئ هذا الموجود المضطرب ذكر الله فحسب.

أمّا( أَلْقَى السَّمْعَ ) فكناية عن الإصغاء ومنتهى الاستماع بدقّة ، وهناك تعبير في العرف يشبه هذا التعبير يقول «اذني معك» أي إنّني أصغي إليك بدقّة! و «الشهيد» يطلق على من هو حاضر القلب ، أو كما يقال قلبه في المجلس وهو يتابع المسائل بدقّة!.

وهكذا فإنّ مضمون الآية بمجموعة يعني ما يلي : إنّ هناك فريقين ينتفعان بهذه المواعظ والنصيحة فالفريق الأوّل من يتمتّع بالذكاء والعقل ويستطيع بنفسه أن يحلّل المسائل بفكره!

أمّا الفريق الآخر فليس بهذا المستوى ، إلّا أنّه يمكن أن يلقي السمع للعلماء ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.

ويشبه هذا التعبير ما نقرؤه في الآية ١٠ من سورة الملك على لسان أهل النار ، إذ ورد هكذا :( وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) !

لأنّ علائم الحقّ واضحة ، فأهل التحقيق يعرفونها جيّدا ومن لم يكن كذلك فيستطيع أن يعرفها عن طريق إرشاد المخلصين من العلماء.

فعلى هذا يجب أن يتمتّع الإنسان بعقل كاف وعلم واف أو يتمتّع بإذن واعية(٣) .

* * *

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية ٤.

(٢) سورة الرعد ، الآية ٢٨.

(٣) لاحظوا أنّ الآيتين عطفت الموضوعين «بأو» وهذا يدلّ على أنّ واحدا منهما على الأقل ضروري للإنسان!

٥٤

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) )

التّفسير

خالق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى :

تعقيبا على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعدّدة في شأن المعاد ، تشير الآيات محلّ البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد ثمّ تأمر النّبي بالصبر والاستقامة والتسبيح بحمد الله ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه ، فتقول الآية الاولى من هذه الآيات :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) .

«اللغوب» بمعنى «التعب» وبديهي أنّ من لديه قدرة محدودة وأراد أن يعمل عملا فوق طاقته وقدرته فإنّه يتعب ويناله اللغوب والنصب ، إلا أنّ من كان ذا قدرة لا نهاية لها ، وقوّة لا حدّ لها فإنّ التعب والنصب واللغوب لا تعني شيئا لديه فعلى

٥٥

هذا من كان قادرا على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعا ، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يلبسه ثوبا جديدا من الحياة.

بعض المفسّرين ذكر في شأن نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام «ستّة أيّام من أيّام الأسبوع»! ثمّ استراح في اليوم السابع «السبت» فوضع رجلا على رجل اخرى!! وهكذا فإنّهم يرون أنّ الجلوس على هذه الشاكلة غير لائق ، وأنّه خاصّ بالله ، فنزلت الآية آنفة الذكر وحسمت الكلام في مثل هذه الخرافات المضحكة(١) !

إلّا أنّ هذا الشأن لا يمنع من أن يتابع مسألة إمكان المعاد في الوقت الذي هو دليل على توحيد الله وقدرته وعلمه ، إذ خلق السماوات والأرض بما فيهما من عجائب و (ملايين) الأحياء والأسرار المذهلة ونظمها الخاصّة بحيث أنّ التفكّر في زاوية واحدة من هذا الخلق يسوقنا إلى الخالق الذي حرّكت يد قدرته هذه الكواكب ونثرت نور الحياة في كلّ مكان ليكون دليلا عليه.

وقد تكرّر موضوع خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام في آيات متعدّدة من القرآن(٢) .

وكلمة «يوم» يراد منها الفترة الزمنية لا بمعنى أربع وعشرين ساعة أو اثنتي عشرة ساعة ، كأن نقول «كان الناس يعيشون في ظلّ النّبي يوما ، وسلّط عليهم بنو اميّة يوما وبنو العبّاس يوما آخر! إلخ».

وواضح أنّ كلمة «اليوم» في هذه التعبيرات وأمثالها يراد منها الفترة الزمانية سواء كانت سنّة أو شهرا أو جيلا أو آلاف السنين فنقول مثلا : كانت الكرة

__________________

(١) راجع تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١١٠.

(٢) راجع سورة الأعراف الآية ٥٤ ، سورة يونس الآية ٣ ، سورة هود الآية ٧ ، سورة السجدة الآية ٤ ، الحديد الآية ٤ ، الفرقان الآية ٥٩.

٥٦

الأرضية قطعة متلهّبة يوما ، وبردت يوما فغدت مهيّأة للحياة ، فجميع هذه التعبيرات تشير إلى الفترات الزمنية.

فيستفاد من التعبيرات الواردة في الآية آنفة الذكر أنّ الله خلق جميع السماوات والأرض والموجودات الاخرى في ستّ مراحل أو ستّ فترات زمانية. «وتفصيل هذا الكلام مبيّن في ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف فلا بأس بمراجعته».

إذا ، لا يبقى مجال للسّؤال بأنّه لم يكن قبل خلق السماء والأرض ليل أو نهار فكيف خلقتهما في ستّة أيّام؟!

وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعدّدة فإنّ القرآن يخاطب النّبي ويأمره بالصبر ـ لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحقّ وتصرّ على الباطل فيقول :( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) إذ بالصبر والاستقامة ـ وحدهما ـ يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.

وحيث أنّ الصبر والاستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد ، فخير دعامة لهما ذكر الله والارتباط بالمبدأ ـ مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم ـ لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيبا على الأمر بالصبر قائلا :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ).

وكذلك :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) .

فهذا الذكر والتسبيح والمستمر ينصبّ على صعيد قلبك كانصباب الغيث على الأرض ليهبها الحياة ويسقيها الرواء ، فالتسبيح أيضا يلهم قلبك النشاط والاستقامة بوجه الأعداء المعاندين.

وهناك أقوال مختلفة بين المفسّرين في المراد من «التسبيح» في الأوقات الأربعة «قبل طلوع الشمس وبعد الغروب ومن الليل وأدبار السجود!».

فبعضهم يعتقد أنّ المراد من هذه التعبيرات هو الصلوات الخمس اليومية

٥٧

وبعضا من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي.

فـ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) إشارة إلى صلاة الصبح ، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.

وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.

أمّا قوله :( وَمِنَ اللَّيْلِ ) فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله :( وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب ، وقال ابن عبّاس بهذا التّفسير ـ مع هذا القيد ـ وهو أنّ المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدّى بعد الفرائض ولكن حيث أنّا نعتقد بأنّ ما يؤدّى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما نافلة المغرب ونافلة العشاء فحسب ، فلا يصحّ هذا التعميم آنفا.

كما فسّر بعضهم قوله «قبل طلوع الشمس» بصلاة الصبح ، «وقبل الغروب» بصلاة العصر ، «ومن الليل فسبّحه» بصلاتي المغرب والعشاء ، فلم يذكروا شيئا عن صلاة الظهر هنا ، وهذا دليل على ضعف هذا التّفسير.

ونقرأ في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام الصادق أنّه حين سئل عن الآية :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) قالعليه‌السلام : «تقول حين تصبح وتمسي عشر مرّات لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير»(١) .

ولا يتنافى هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ويمكن أن يجتمعا في الآية معا.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو ورود نظير هذا المعنى باختلاف يسير في الآية (١٣٠) من سورة طه أيضا إذ تقول الآية :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) .

__________________

(١) مجمع البيان ـ ذيل الآيات محلّ البحث ـ.

٥٨

جملة «لعلّك ترضى» ـ تدلّ على أنّ لهذا التسبيح والذكر في هذه الأوقات أثرا مهمّا في اطمئنان القلب ورضا الخاطر ، إذ يمنح القلب قوّة وشدّة بوجه الحوادث.

وهناك لطيفة تسترعي النظر وهي أنّ الآية (٤٩) من سورة الطور تقول هكذا :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) (١) .

وقد ورد في حديث عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال : «المراد بـ( أَدْبارَ السُّجُودِ ) ركعتا نافلة تؤدّيان بعد صلاة المغرب «ينبغي الالتفات إلى أنّ نافلة المغرب أربع ركعات وقد أشير إلى إثنين منهما هنا فحسب» وإدبار النجوم ركعتا نافلة الصبح إذ تؤدّيان عند غروب النجوم وتفرّقها وقبل صلاة الصبح»(٢) .

كما ورد في رواية اخرى أنّ المراد من «ادبار السجود» هو نافلة الوتر التي تؤدّى آخر الليل(٣) .

وعلى كلّ حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب من الجميع وأكثر تناسبا وإن كان مفهوم التسبيح وسعته شاملا لكثير من التفاسير المشار إليها في الرّوايات آنفا.

* * *

ملاحظة

الصبر مفتاح لكلّ فلاح :

لم يكن تعويل القرآن واعتماده على الصبر بوجه المشاكل لأوّل مرّة هنا فحسب ، فطالما أمر النّبي والمؤمنون عامّة في الآيات مرارا بالصبر وأكّد على هذا

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ إدبار هنا جاءت بالكسر على زنة «إقبال» أمّا في الآية محلّ البحث فجاءت أدبار بفتح الهمزة على زنة أفكار ، وهي هنا جمع دبر ومعناه العقب ، فيكون المعنى في أدبار السجود أي بعد كلّ سجدة ، وأمّا معنى إدبار النجوم أي عند تفرّق النجوم.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية محلّ البحث ـ.

(٣) المصدر آنف الذكر.

٥٩

الموضوع كما أنّ التجارب تدلّ على أنّ النصر والغلبة من نصيب أولئك الذين تمتّعوا بالصبر والاستقامة.

ففي حديث عن الإمام الصادق أنّه أمر بعض أصحابه «ولعلّه كان لا يطيق بعض الظروف الصعبة في ذلك الزمان» : «عليك بالصبر في جميع أمورك. ثمّ قالعليه‌السلام إنّ الله بعث محمّدا وأمره بالصبر والمداراة فصبر حتّى نسبوا إليه ما لا يليق فضاق صدره فأنزل الله عليه الآية :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) .

فصبر فكذّبوه أيضا ، ورشقوه بنبال التّهم من كلّ جانب فحزن وتأثّر لذلك ، فأنزل الله عليه تسلية قوله :( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ) .

ثمّ يضيف الإمامعليه‌السلام أنّ النّبي واصل صبره إلّا أنّهم تجاوزوا الحدّ فكذّبوا الله فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي فأنزل اللهعزوجل :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) أي خلقنا السماوات والأرض في عدّة فترات ولم نعجل ولم يمسّنا تعب ونصب ، فعليك أن تصبر ، فصبر النّبي في جميع أحواله ما كان يواجهه حتّى انتصر على أعدائه»(١) .

* * *

__________________

(١) راجع اصول الكافي ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

صلى الله عليه وآله: عمل بيده وأمير المؤمنين عليه السلام، وهو من عمل النبيين والمرسلين والصالحين.

وقال الصادق عليه السلام(١) : إني أشتهي أن يراني الله عزوجل أعمل بيدي وأطلب الحلال.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام(٢) : من أتاه الله برزق ولم يحط إليه برجله ولم يمد إليه يده ولم يتكلم فيه بلسانه ولم يتعرض له كان ممن ذكره الله عزوجل(٣) (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب).

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله(٤) : أنه من طلب العلم تكفل الله برزقه، وفسر بأن يعطف عليه قلوب أهل الصلاح.

وقال الصدق عليه السلام(٥) : إن الله تبارك وتعالى جعل أرزاق المؤمنين من حيث لا يحتسبون، وذلك أن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه.

وقال عليه السلام(٦) : أبى الله عزوجل إلا أن يجعل رزق المؤمن من حيث لايحتسب.

وكان أمير المؤمنين(٧) عليه السلام كثيرا ما يقول: اعلموا علما يقينا أن الله عزوجل لم يجعل للعبد وإن اشتد جهده وعظمت حيلته وكثرت مكائدته أن يسبق ماسمى له في الذكر الحكيم ولم يحل بين العبد في ضعفه وقلة حيلته لن

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ٩ من أبواب مقدمات التجارة ح ١١ ج ١٢ ص ٢٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه: باب المعايش والمكاسب والفوائد والصناعات ح ٣٦١٢ ج ٣ ص ١٦٦.

(٣) الطلاق: ٦٥.

(٤) كنز العمال: كتاب العلم ح ٢٨٧٠٠ ج ١٠ ص ١٣٩.

(٥) وسائل الشيعة: باب ١٤ من أبواب مقدمات التجارة ح ١ ج ١٢ ص ٣٢.

(٦) وسائل الشيعة: باب ١٤ من أبواب مقدمات التجارة ح ٥ ج ١٢ ص ٣٣، وفيه اختلاف يسير.

(٧) وسائل الشيعة: باب ١٣ من أبواب مقدمات التجارة ح ٤ ج ١٢ ص ٣٠.

١٦١

يبلغ ما سمي له في الذكر الحكيم، فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته والعالم بهذا التارك له أعظم الناس شغلا في مضرة.

وقال على السلام(١) : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران عليه السلام خرج يقتبس نارا لاهله فكلمه الله ورجع نبيا، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان عليه السلام، وخرج سحرة فرعون يطلبون العز لفرعون فرجعوا مؤمنين.

وقال الصادق عليه السلام(٢) : قال رسول الله صلى الله عليه وآله: مامن نفقة أحب إلى الله عزوجل من نفقة قصد، ويبغض الاسراف، إلا في الحج والعمرة، فرحم الله مؤمنا كسب طيبا وأنفق قصدا وقدم فضلا.

(٢٣١) درس

قد يجب التكسب إذا توقف تحصيل قوته وقوت عياله الواجبي النفقة عليه، وقد يستحب إذا قص به المستحب، وقد يحرم إذا اشتمل على وجه قبيح، وهو أقسام: أحدها: ماحرم لعينه كالغناء فيحرم فعله وتعلمه وتعليمه واستماعه والتكسب به، إلا غناء العرس إذا لم يدخل الرجال على المرأة ولم يتكلم بالباطل، ولم تلعب بالملاهي، وكرهه القاضي(٣) ، وحرمه ابن إدريس(٤) والفاضل في التذكرة(٥) ، الاباحة أصح طريقا وأخص دلالة، والنياحة

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ١٤ من أبواب مقدمات التجارة ح ٣ ج ١٢ ص ٣٣.

(٢) وسائل الشيعة: باب ٥٥ من أبوب وجوب الحج وشرائطه ح ١ ج ٨ ص ١٠٦.

(٣) المهذب: ج ١ ص ٣٤٦.

(٤) السرائر: ج ٢ ص ٢٢٢.

(٥) تذكرة الفقهاء: ج ١ ص ٥٨٢.

١٦٢

بالباطل وعمل الصور المجسمة قاله الشيخان(١) ، وطرد القاضي(٢) التحريم في غير المجسمة، ولحلبي(٣) حرم التماثيل وأطلق.

وروي أبوبصير عن الصادق عليه السلام(٤) لابأس بما يبسط منها ويفترش ويوطأ، إنما يكره منها مانصب على الحائط وعلى السرير، وسأله عن الوسائد فيها التماثيل والقمار.

وما يؤخذ به حرام حتى القمار بالجوز والبيض والخاتم والاربعة عشر والطير وأحاديث القصاص والسمار المشتملة على الكذب والحضور في مجالس المنكر لغير الانكار أو الضرورة، وتزيين كل من الرجل والمرأة بزينة الآخر، والغش الخفي كشوب اللبن بالماء وتدليس الماشطة لتزين الخد وتحميره والنقش في اليد والرجل قاله ابن إدريس(٥) .

ووصل شعرها بشعر غيرها، وإعانة الظالم في الظلم لا في غيره من مهامة، كالبناء والغرس والغسل والطبخ، والغيبة والكذب والسب لغير مستحقه والنميمة والهجاء والذم لغير أهله والمدح في غير موضعه. والغزل مع الاجنبية أي محادثتها ومراودتها والتشبيب بها معينة، وبالغلمان مطلقا.

ويجوز التشبيب بنساء أهل الحرب. ويحرم نسخ الكتب المنسوخة وتعلمها وتعليمها وكتب أهل الضلال والبدع، إلا لحاجة من نقض أو حجة أو تقية.

وترحم الكهانة والسحر بالكلام والكتابة والرقبة ولدخنة بعقاقير الكواكب

____________________

(١) النهاية: ص ٣٦٣ ولمقنعة: ص ٥٨٧.

(٢) المهذب: ج ١ ص ٣٤٤.

(٣) الكافي في الفقه: ص ٢٨١.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٩٤ من أبواب مايكتسب به ح ٤ ج ١٢ ص ٢٢٠.

(٥) السرائر: ح ٢ ص ٢١٦.

١٦٣

وتصفية النفس والتصوير والعقد والنفث والاقسام والغرائم بما لا يفهم معناه ويضر بالغير فعله، ومن السحر الاستخدام للملائكة والجن والاستنزال للشياطين في كشف الغائب وعلاج المصاب.

ومنه الاستحضار بتلبس الروح ببدن متفعل، كالصبي والمرأة وكشف الغائب عن لسانه، ومنه النيرنجيات، وهي إظهار غرائب خواص الامتزاجات وأسرار النيرين.

ويلحق بذلك الطلسمات، وهي تمزيج القوى العالية الفاعلة بالقوى السافلة المنفعلة ليحدث عنها فعل غريب، فعمل هذا كله والتكسب به حرام، أما علمه(١) ليتوقى أو لئلا يعتريه فلا، وربما وجب على الكفاية ليدفع(٢) المتنبئ بالسحر.

ويقتل مستحله، ويجوز حله بالقرآن والذكر والاقتسام لابه، وعليه يحمل رواية العلا(٣) بحله.

والاكثر على أنه لا حقيقة له بل هو تخيل، وقيل: أكثره تخائيل وبعضه حقيقي، لانه تعالى وصفه بالعظمة في سحرة فرعون. ومن التخيل السيميا، وهي إحداث خيالات لاوجود لها في الحس للتأثير في شئ آخر، وربما ظهر إلى الحس. ويلحق به الشعبذة، وهي الافعال العجيبة المترتبة(٤) على سرعة اليد بالحركة فيلتبس على الحس، وقيل: الطلسمات كانت معجزات لبعض الانبياء.

____________________

(١) في (م) و (ق): أما عمله.

(٢) في (م) و (ق): لدفع.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٢٥ من أبواب ما يكتسب به ح ١ ج ١٢ ص ١٠٥، وفيه (عن عيسى بن شقفي)(٤) في (م): المرتبة.

١٦٤

أما الكيميا، فيحرم المسمى بالتكليس بالزئبق والكبريت والزاج والتصدية والشعر والبيض والمرارة والادهان، كما يفعله متحشفو الجهال.

أما سلب الجواهر خواصها وإفادتها خواص اخرى بالدواء المسمى بالاكسير، أو بالنار اللينة الموقدة على أصل الفلزات، أو لمراعاة نسبتها في الحجم والوزن، فهذا مما لا يعلم صحته، وتجنب ذلك كله أولى وأحرى.ويحرم القيافة والتكسب بها، سواء استعمل في إلحاق الانساب، أو في قفو الآثار إذا ترتب عليها حرام.وتحرم بيع خط المصحف دون الآلة.ولا يحرم بيع كتب الحديث والعلم المباح.

ويحرم اعتقاد تأثير النجوم مستقلة أو بالشركة، والاخبار عن الكائنات بسببها، أما لو أخبر بجريان العادة أن الله تعالى يفعل كذا عند كذا لم يحرم، وإن كره على أن العادة فيها لا يطرد، إلا فيما قل.

أما علم النجوم فقد حرمه بعض الاصحاب، ولعله لما فيه من التعرض(١) للمحظور من اعتقاد التأثير، أو لان أحكامه تخمينية.

وأما علم هيئة الافلاك فليس حراما، بل ربما كان مستحبا، لما فيه من الاطلاع على حكمة الله تعالى وعظم قدرته.وأما الرمل والفال ونحوهما فيحرم مع اعتقاد المطابقة لما دل عليه، لاستيثار الله تعالى بعلم الغيب.ولا يحرم إذا جعل فالا، لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله(٢) كان يحب الفال.

ويكره الطيرة - يفتح الياء - وهو التشاؤم بالشئ.

____________________

(١) في (ق): لتعريض.

(٢) مسند احمد ابن حنبل: ج ٢ ص ٣٣٢.

١٦٥

(٢٣٢) درس

وثانيها: ما حرم لغايته، كالعود والملاهي من الدف والمزمار والقصب والرقص والتصفيق وآلات القمار، وهياكل العبادة المبتدعة كالصليب والصنم.

وعمل السلاح وبيعه مساعدة لاعداء الدين، سواء كانوا كفارا أو بغاة، وقيده ابن إدريس(١) بحال الحرب، وهو ظاهر الاخبار(٢) ، ويكره لامعها.

وكذا يكره بيع مايكن، كالدرع والبيضة والخف والتجفاف - بكسر التاء - وهو الذي يلبس الخيل.

ولو علم أن المخالف يستعين بالسلاح على قتال أهل الحب لم يكره، وهو مروي عن أبي جعفر(٣) عليه السلام في بيع السلاح على أهل الشام، لان الله يدفع بهم الروم.

والاقرب تحريم بيعه على قطاع الطريق وشبههم، وحيث حرمنا بيعه فهو باطل.

وبيع العنب وما يتخذ منه المسكر ليعمل مسكرا، والخشب والحجر ليعمل صنما أو وثنا أو صليبا أو آلة لهو، وفي رواية ابن حريث(٤) المنع ممن يعمله، وليس فيها ذكرالغاية، واختاره ابن إدريس(٥) والفاضل(٦) ، لان النبي صلى

____________________

(١) السرائر: ج ٢ ص ٢١٦.

(٢) واسئل الشيعة: باب ٨ من أبواب ما يكتسب به ج ١٢ ص ٦٩.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٨ من أبواب مايكتسب به ح ٢ ج ١٢ ص ٦٩.

(٤) وسائل الشيعة: باب ٤١ من أبواب ما يكتسب به ح ٢ ج ١٢ ص ١٢٧.

(٥) السرائر: ج ٢ ص ٢١٨.

(٦) تذكرة الفقهاء: ج ١ ص ٥٨٠.

١٦٦

الله عليه وآله(١) لعن عاصر الخمر.

وهكذا(٢) يحرم بيع الثوب ليغطى به الصنم والصليب، وإجارة المساكن والحمولات للمحرمات، إلا أن يقصد إراقة الخمر أو إتلاف الخنزير.

وثالثها: ما لا نفع مقصود منه للعقلاء، كالحشار وفضلات الانسان.

ويجوز بيع دود القز وبزره والنحل مع انحصارها، وماشهدة مايرفع الجهالة منها.

ولا يجوز بيع المسوخ إن قلنا بعدم وقوع الذكاة عليها، إلا الفيل لعظم الانتفاع بعظمه.

أما السباع فما يصلح للصيد يجوز بيعه، كالفهد والهر والبازي.

وقول القاضي(٣) بالصدقة بثمن الهرة ولا يتصرف فيه بغير الصدقة، متروك، والرواية(٤) مصرحة بإباحته(٥) .

وأما غيره كالاسد والنمر والنسر فالشيخان(٦) على تحريم البيع والتكسب بها، ونقل في المبسوط(٧) الاجماع على ذلك في مثل الاسد والذئب، وقال ابن الجنيد(٨) : لا يصرف ثمن ما لا يؤكل لحمه من السباع والمسوخ في مطعم ولا مشرب، وابن إدريس(٩) جوز ذلك تبعا للانتفاع بجلدها، بناء على وقوع

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ح ٣ ج ١٢ ص ١٦٤.

(٢) في باقي النسخ: وكذا.

(٣) لم نعثر عليه في المصادر المتوفره لدينا، ونقله عنه في المختلف: ج ١ ص ٣٤١.

(٤) وسائل الشيعة: باب ١٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٣ ج ١٢ ص ٨٣.

(٥) في (م) و (ق): بالاباحة.

(٦) المقنعة: ص ٥٨٩ والنهاية: ص ٣٦٤ وفي المبسوط: ج ٢ ص ١٦٦.

(٧) المبسوط: ج ٢ ص ١٦٦.

(٨) المختلف: ج ١ ص ٣٤٠.

(٩) السرائر: ج ٢ ص ٢٢٠.

١٦٧

الذكاة عليها.

وأما الكلاب فاتفقوا على جواز بيع الصائد، وقيده الشيخ(١) بالسلوقي - بفتح السين وضم اللام - منسوب إلى قرية باليمن.

وعلى منع بيع كلب الهراش، واختلفوا في كلب الحائط والزرع والماشية، فمنع من بيعه في الخلاف(٢) وتبعه القاضي(٣) ، والوجه الجواز وفاقا لابن إدريس(٤) وابن حمزة(٥) ، ولو قلنا بالمنع من بيعها ففيها ديات على القاتل، سيأتي إن شاء الله تعالى. ويجوز اقتناء الجرو للتعليم، ولو قبل الهراش التعليم جاز.

ولا يلحق كلب الماء بالبري، خلافا لابن إدريس(٦) .

ولا يجوز اقتناء الحيات والعقارب والسباع الضارية، والترياق المشتمل على محرم، والسموم الخالية عن المنفعة. ويجوز بيع لبن الاتن والمرأة لا الرجل والخنثى.

وليس الملك فاقد الطريق من قبيل ما لا ينتفع به فيجوز بيعه، ويكون حكمه حكم المعيب، ولا القرد الحافظ من قبيل المنتفع به لندوره وعدم الوثوق.

ورابعها: الاعيان النجسة والتنجسة غير القابلة للطهارة، وفي الفضلات الطاهرة خلاف، فحرم المفيد(٧) بيعها إلا بول الابل، وجوزه الشيخ في الخلاف(٨) والمبسوط(٩) ، وهو الاقرب لطهارتها ونفعها.

____________________

(١) النهاية: ص ٣٦٤.

(٢) الخلاف: ج ٢ ص ٨٠ المسألة ٣٠٢.

(٣) كما نقله عنه في المختلف: ج ١ ص ٣٤١، ولكن صرح بالجواز في إجارة مهذبه: ج ١ص٥٠٢.

(٤) السرائر: ج ٢ ص ٢٢٠.

(٥) الوسيلة: ص ٢٤٨.

(٦) السرائر: ج ٢ ص ٢٢٠.

(٧) المقنعة: ص ٥٨٧.

(٨) المبسوط: ج ٢ ص ١٦٧.

(٩) الخلاف: ج ٢ ص ٨٢ مسألة ٣١٠.

١٦٨

(٢٣٣) درس

وخامسها: تعلق حق غير البائع به كما الغير، وما يختص به من الاشياء وإن لم يملك، والوقوفات المطلقة. ومن وجد عنده سرقة أو غصب فأقام بينه بالشراء اندفع عنه قرار الضمان إن كان جاهلا، وتخير(١) مالكها في الرجوع على من شاء مع تلفها.

ويجوز للولي تقويم أمته المولى عليه وشراؤها، ولا يجوز مباشرتها قبل ذلك، وقال الصدوق(٢) : يجوز للاب مباشرة جارية الابن مالم يكن مسها، لخبر إسحاق بن عمار(٣) ، ويحمل على فعل ذلك بطريقه الشرعي. ويجوز التناول من مال الولد الصغير حيث تجب نفقة الاب، ومن مال الكبير حيث يمتنع من الانفاق الواجب. ولا يجوز تناول الام من مال الولد شيئا، إلا بإذن الولي أو مقاصة.

وليس لها الاقتراض من مال الصغير، وجوزه علي بن بابويه(٤) الشيخ(٥) والقاضي(٦) ، وربما حمل على الوصية. ولو صالح الولي غريم اليتيم بدون حقه روعي الصلاح، ويبرأ المدعى عليه إذا كان مقرا معسرا، ولو كان منكرا أو موسرا لم يبرأ.

ويجوز شراء ما يأخذ الجائر بإسم الخراج والزكاة والمقاسمة، وإن لم يكن

____________________

(١) في باقي النسخ: ويتخير.

(٢) علل الشرائع: ص ٥٢٥.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٧٩ من أبواب ما يكتسب به ح ٢ ج ١٢ ص ١٩٨.

(٤) المختلف: ج ٢ ص ٣٤٥.

(٥) النهاية: ص ٣٦٠.

(٦) المهذب: ج ١ ص ٣٤٩.

١٦٩

مستحقا له.

وتناول الجائزة منه إذا لم يعلم غصبيتها(١) ، وإن علم ردت على المالك، فإن جهله تصدق بها عنه، واحتاط ابن إدريس(٢) بحفظها ولوصية بها، وروي أنها كاللقطة، قال: وينبغي إخراج خمسها والصدقة على إخوانه منها، والظاهر أنه أراد الاستحباب في الصدقة.

وترك أخذ ذلك من الظالم مع الاختيار أفضل، ولا يعارضه أخذ الحسنين عليهما السلام(٣) جوائز معاوية، لان ذلك من حقوقهم بالاصالة.ولا يجب رد المقاسمة وشبهها على المالك.ولا يعتبر رضاه.ولا يمنع تظلمه من الشراء.وكذا لو علم أن العامل يظلم، إلا أن يعلم الظلم بعينه.

نعم يكره معاملة الظلمة، فلا تحرم(٤) ، لقول الصادق عليه السلام(٥) : كل شئ فيه حرام وحلال فهو حلال حتى يعرف الحرام بعينه.

ولا فرق بين قبض الجائر إياها أو وكيله، وبين عدم القبض، فلو أحاله بها وقبل الثلاثة أو وكله في قبضها أو باعها، وهي في يد المالك أو في ذمته جاز التناول، ويحرم على المالك المنع.

وكما يجوز الشراء يجوز سائر المعاوضات والهبة والصدقة والوقف، ولا يحل تنوالها بغير ذلك.

والاجير الخاص ليس له العمل لغير المستأجر في زمان الاجارة، بخلاف المطلق.

____________________

(١) في باقي النسخ: غصبها.

(٢) السرائر: ج ٢ ص ٢٠٣.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٥١ من أبواب ما يكتسب به ح ٤ ج ١٢ ص ١٥٧.

(٤) في باقي النسخ: ولا تحرم.

(٥) وسائل الشيعة: باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ١ ج ١٢ ص ٥٩، وفيه اختلاف.

١٧٠

وللزوجة التصدق بالمادوم من مال الزوج، إلا مع نهيه أو إضراره، وليس لغيرها ذلك، ولا لها تناول غير ذلك، والمادوم مايؤتدم به كالملح واللحم، وفي تعديته إلى الخبز والفاكهة نظر.والزوج يحرم عليه تنال شئ من مالها، إلا برضاها.ولو ملكته مالا كره له التسري به.ويحتمل كراهة جعله صداقا لضرة إلا بإذنها.ويجوز للوكيل أو الوصي في الدفع إلى قبيل إعطاء عياله إذا كانوا منهم، والتفصيل إذا كانوا غير محصورين.وفي جواز أخذه لنفسه رواية صحيحة(١) ، وعليها الاكثر، وربما جعله الشيخ(٢) مكروها، لرواية اخرى صحيحة(٣) بالمنع.

والفضلات عند الصائغ كتراب الصياغة يجب دفعها إلى مالكها، فإن جهل تصدق بها عينا أو قيمة.

ولا يجوز تملكها ولو كان الصائغ مستحقا للصدقة.

وفي رواية علي الصائغ(٤) تصدق بالتراب أما لك أو لاهلك أو قريبك، وأنه لو خاف من استحلال صاحبه التهمة جازت الصدقة.

ولا يجوز بيع الوقف، سواء كان على جهة عامة أو خاصة، وفي الحبس والسكنى نظر، إذا لم يقترن بمدة، ومع اقترانها بالمدة المعلومة يجوز البيع.وكذا لا تباع ام الولد، إلا فيما سلف.

ولا يجوز شراء المشتبه إذا كان أصله التحريم، كالذبيحة المطروحة أو التي في يد الكافر، وكذا الجلد.

ويجوز شراؤهما من المسلم، ومن المجهول حاله إذا كان في بلد الاسلام.

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ٨٤ من أبواب مايكتسب به ح ٢ ج ١٢ ص ٢٠٦.

(٢) الاستبصار: ب ٢٨١ في الرجل يعطي شيئا ليفرقه في المحتاجين و..ج ٣ ص ٥٤.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٨٤ من أبواب مايكتسب به ح ٣ ج ١٢ ص ٢٠٦.

(٤) وسائل الشيعة: باب ١٦ من أبواب الصدف ح ١ ج ١٢ ص ٤٨٥.

١٧١

وأما المشتبه الذي أصله الاباحة فيجوز شراؤه، كالماء المتغير المشتبه استناد تغيره إلى النجاسة، والمشتبه الذي لا يعرف له أصل كما في يد الظالم، والمعروف بالخيانة والسرقة فيجوز شراؤه، وتركه أولى.

(٢٣٤) درس

وسادسها: ما يجب على المكلف فعله إما عينا كالصلاة اليومية، أو كفاية كتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وفي فتاوي المرتضى(١) هذا واجب على الولي فإذا استأجر عليه جاز، والوجه التحريم. أما ثمن الكفن والماء ولكافور فليس بحرام.

ولو استؤجر على مازاد على الواجب من هذه جاز كالغسلات المندوبة، والزيادة في الكفن وتعميق القبر والحمل إلى المشاهد الشريفة، فلو بذل له اجرة تزيد عليه لم ترحم إذا كان هو المقصود.

ومن الواجب الذي يحرم أخذ الاجرة عليه تعليم الواجب عينا أو كفاية، من القرآن العزيز والفقه والارشاد، إلى المعارف الالهية بطريق التنبيه. ولا تحرم الاجرة على العلوم الادبية والطب والحكمة.

وأما القضاء وتوابعه فمن الارتزاق من بيت المال.

ويحرم عليه(٢) الاجرة والجعالة من المتحاكمين وغيرهما، وقال الباقر عليه السلام(٣) : الرشا في الحكم كفر بالله وبرسوله.

وكذا تحرم الاجرة على وظيفة الامامة، وإقامة الشهادة، وتحملها وإن قام

____________________

(١) لم نعثر عليه في كتبه المتوفرة ليدنا، ونسبه إلى المرتضى أيضا في المسالك: ج ١ ص ١٦٦.

(٢) في باقي النسخ: وليحرم فيه.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٥ من أبواب مايكتسب به ح ١ ج ١٢ ص ٦١.

١٧٢

غيره مقامه.

ولو أخذ الاجرة على مازاد على الواجب من الفقه والقرآن جاز على كراهية.

ويتأكد مع الشرط ولا يحرم، لقول الصادق عليه السلام(١) : لو أن المعلم أعطاه رجل دية ولده كان مباحا، فلو استأجره لقراء‌ة مايهدي إلى ميت أو حي لم يحرم، وإن كان تركه أولى.

ولو دفع إليه بغير شرط فلا كراهية، والرواية عن النبي صلى الله عليه وآله(٢) ، وعن علي عليه السلام(٣) يمنع الاجرة على تعليم القرآن يحمل على الواجب، أو على الكراهية.

وكذا الرواية عن الباقر عليه السلام(٤) أن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن من احتاج الناس إليه لتفقههم فسألهم(٥) الرشوة. ويجوز الاستئجار على عقد النكاح وغيره من العقود، وأما على تعليم الصيغة وإلقائها على المتعاقدين فلا.

وكذا تجوز الاجرة على الخطبة والخطبة في الاملاك.

ويجوز الاستئجار على نسخ القرآن والفقه وتعليمه وإن تعين(٦) ، ونقل ابن إدريس(٧) إجماعنا على جواز أخذ الاجرة على نسخ القرآن وتعليمه، ورحمهما في الاستبصار(٨) مع الشرط، والرواية(٩) بالنهي ضعيفة السند، والاجماع على جعله

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ٢٩ من أبواب ما يكتسب به ح ٢ ج ١٢ ص ١١٢.

(٢) وسائل الشيعة: باب ٢٩ من أبواب مايكتسب به ح ٧ ج ١٢ ص ١١٣.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٣٠ من أبواب مايكتسب به ح ١ ج ١٢ ص ١١٣.

(٤) وسائل الشيعة: باب ٨ من أبواب آداب القاضي ح ٥ ج ١٨ ص ١٦٣.

(٥) في باقي النسخ: فيسألهم.

(٦) في باقي النسخ: وإن تعين تعليمه.

(٧) السرائر: ج ٢ ص ٢٢٣.

(٨) الاستبصار: باب الاجر على تعليم القرآن ج ٣ ص ٦٥.

(٩) وسائل الشيعة: ب ٢٩ من أبواب ما يكتسب به ح ٤ ج ١٢ ص ١١٢.

١٧٣

مهرا يلزم منه حل الاجرة، ولو سلمت الرواية حملت على الكراهية. والولاية عن العادل جائزة، بل مستحبة. وتجب مع الالزام، أو عدم وجود غيره. ويحرم عن الجائر، إلا مع الاكراه فينفذ ماأكره عليه، إلا الدماء المحرمة.

قال الصادق عليه السلام(١) : من سود أسمه في ديوان ولد سابع حشره الله يوم القيامة خنزيرا. ولو ظن القيام بالحق والاحتساب المشروع لم يحرم. ويجوز له إذا كان مجتهدا إقامة الحدود، معتقدا أنه عن العادل. ويستحب له تحمل الضرر اليسير في ترك الولاية. ولايجوز تحمل الضرر الكثير في نفسه أو بدونه أو من يجري مجراه من قريب ومؤمن، وجوز تحمله في المال ولا يجب.

وهنا مسائل: تجوز المقاصة المشروعة من الوديعة على كراهية. وينبغي له أن يقول اللهم إني لن آخذه ظلما ولا خيانة، وإنما أخذته مكان مالي الذي اخذ مني، لم أزدد عليه شيئا، لرواية(٢) أبي بكر الحضرمي.

وكذا يكره لاحد الشريكين إذا خانه الشريك مقابلته بفعله، ألا بإذنه للرواية(٣) .

الثانية: لا يجوز بيع المشتركات قبل الحيازة، كالكلا والماء والنار والحجاره والتراب، ويجوز بعده وإن كثر وجودها.

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ٤٢ من أبواب مايكتسب به ح ٩ ج ١٢ ص ١٣٠.

(٢) وسائل الشيعة: باب ٨٣ من أبواب ما يكتسب به ح ٤ ج ١٢ ص ٢٠٣.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٨٣ من أبواب مايكتسب به ح ٩ ج ١٢ ص ٢٠٤.

١٧٤

ولا يجوز بيع الارض المفتوحة عنوة، ولا بيع مابها من بناء وشجر وقت الفتح.

نعم لو جدد فيها شيئا من ذلك جاز بيعه، وربما قيل: يبيعها تبعا لآثاره.

وروى(١) أبوبردة جواز بيع أرض الخراج من صاحب اليد، والخراج على المشتري، وفي رواية إسماعيل(٢) بن الفضل إيماء إليه.

الثالثة: يجوز أخذ الاجرة على كتابة العلوم المباحة، ويكره على كتابة القرآن مع الشرط، لفحوى الرواية(٣) .

ويكره كتابته بالذهب وتعشيره به، لرواية محمد الوراق(٤) ، قال الصادق(٥) عليه السلام: لا يعجبني أن يكتب إلا بالسواد، ولا يحرم ذلك على الاقوى.

الرابعة: يحرم بيع الحر وشراؤه، ولا عبرة بإذنه ولو كان حربيا. نعم لو أثبت يده عليه وباعه جاز، لحصول الرق حينئذ. ويجوز إجارته واجارة الحر نفسه للعمل المباح.

الخامسة: لو باع المصحف على كافر بطل على الاصح، وقيل، تصح وتزال يده قهرا، ببيعة على مسلم. ويجوز بيع كتب السنن على الاقوى.

السادسة: يحرم التطفيف في الكيل والوزن، قل أم كثر. والاقرب أنه من الكبائر لتوعد الله تعالى عليه.

السابعة: يحرم بيع بيض لا يحل أكله ولا ينتفع به، كبيض الرخم والحداء. ويجوز بيع مايؤكل أو ينتفع بفرخه، كبيض جوارح الطير على القول بجواز بيعها.

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ٧١ من أبواب جهاد العدو وما يناسبه ح ١ ج ١١ ص ١١٨.

(٢) وسائل الشيعة: باب ٧٢ من أبواب جهاد العدو وما يناسبه ح ٤ ج ١١ ص ١٢٠.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٣١ من أبواب ما يكتسب به ح ٣٠ ج ١٢ ص ١١٦.

(٤) وسائل الشيعة: باب ٣٢ من أبواب ما يكتسب به ح ٢ ج ١٢ ص ١١٧.

(٥) نفس المصدر السابق

١٧٥

الثامنة: تحرم أخذ الاجرة على الاذان والاقامة، ولا يحرم فعلهما لو أخذ الاجرة، خلافا للقاضي(١) .

ويجوز الارتزاق من بيت المال.

التاسعة: الاقرب أنه لا يحرم خصي الحيوان غير الآدمي إذا كان فيه نفع وفاقا لابن الجنيد(٢) وابن إدريس(٣) وخلافا للشامين(٤) .

العاشرة: حرم الحلبي(٥) الرمي عن قوس الجلاهق، ولا يعلم دليله، إلا ما روى(٦)(٧) العامة، وقيده الفاضل(٨) بطلب اللهو والبطر.

الحادية عشرة: لا يجوز سلوك طريق يغلب فيها تلف النفس مطلقا أو المال المضر به، ولا أخذ الاجره على تزويق المساجد وزخرفتها. ويجوز بيع جلد غير المأكول إذا ذكي وكان مما يقع عليه الذكاة قبل دبغه إجماعا، وإن حرمنا استعماله قبل دبغه.

الثانية عشرة: لا يجوز للاجير على عمل التقصير عما استؤجر له، ولو زاد عن ذلك في الجودة كان أفضل، ولو خص بالزيادة بعض المستأجرين كره.

ومن ثم ينبغي للمعلم التسوية بين الصبيان، ويكره تفضيل بعضهم على بعض في التعليم والاجرة، إلا مع الشرط، وقال ابن إدريس(٩) : إذا آجر نفسه لتعليم مخصوص جاز التفضيل بحسبه، وأن استوجر لتعليمهم مطلقا حرم

____________________

(١) المهذب: ج ١ ص ٣٤٥.

(٢) المختلف: ج ١ ص ٣٤١.

(٣) السرئر: ج ٢ ص ٢١٥.

(٤) الكافي في الفقه: ص ٢٨١، والمهذب: ج ١ ص ٣٤٥.

(٥) الكافي في الفقه: ص ٢٨٢.

(٦) كنز العمال: ح ٤٠٦٧٥ ج ١٥ ص ٢٢٢.

(٧) في (ق): ما رواه.

(٨) المختلف: ج ١ ص ٣٤٢.

(٩) السرائر: ج ٢ ص ٢٢٤.

١٧٦

التفضيل، وإن كان اجرة بعضهم أكثر، ورواية حسان(١) المعلم عن الصادق عليه السلام تشعر بالكراهية.

الثالثة عشرة: يجوز بيع عظام الفيل، واتخاذ الامشاط منها، فقد كان للصادق(٢) عليه السلام منه مشط، ولا كراهة فيه وفاقا لابن إدريس(٣) والفاضل(٤) ، وقال القاضي(٥) : يكره بيعها وعملها.

(٢٣٥) درس في المناهي

وهي أقسام ثلاثة: أحدها: ما نهي عنه لعينه فيفسد بيعه، كبيع حبل الحبلة أي نتاج النتاج، أو البيع بأجل إلى نتاج النتاج.

والملاقيح، وهي ما في الارحام، والمضامين وهي ما في الاصلاب.

والملامسة كالبيع في الظلمة من غير وصف، أو تعليق البيع على اللمس.

والمنابذة على تفسيري الملامسة، وقد تفسر بالمعاطاة، وهو ضعيف.

وبيع الحصاة، مثل بعتك ماتقع عليه حصاتك، أو ما بلغته حصاتك من الارض، أو يجعل نفس رمي الحصاة بيعا.

وبيعين(٦) في بيعه، أما البيع بشرط الابتياع، وأما بثمنين نقدا أو

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ٢٩ من أبواب ما يكتسب به ح ١ ج ١٢ ص ١١٢.

(٢) وسائل الشيعة: باب ٣٧ من أبواب مايكتسب به ح ٢ ج ١٢ ص ١٢٣.

(٣) السرائر: ج ٢ ص ٢٢٠.

(٤) المختلف: ج ١ ص ٣٤٢.

(٥) المهذب: ج ١ ص ٣٤٦.

(٦) في باقي النسخ: وبيعتين.

١٧٧

نسيئة(١) ، فالاقرب في الاول الصحة: ويحمل النهي على الكراهية.

والقرض يجر نفعا، كشرط رد الصحاح عن المكسرة.

وبيع المكره باطل، إلا أن يرضى بعد الاكراه.

ولو خاف من ظالم فأقر ببيعه كأن تلجئه فيحرم تملكه على المقر له.

ومن المناهي الربا، سواء كان في البيع، أو القرض، أو باقي المعاوضات على الاصح.

وثانيها: ما نهي عنه لعارض فلا يفسد بيعه، كالنهي عن البيع على بيع آخر وفسر بالزيادة على المشتري بعد تقدير(٢) الثمن وإرادة العقد، ويأمر البائع بالفسخ في زمن الخيار ليشتري منه بأزيد، وأمر المشستري به ليبيعه بأنقص أو خيرا منه، وقال بتحريم الامرين الشيخ(٣) وابن إدريس(٤) ، وتوقف الفاضل(٥) . وقطع الفاضلان(٦) بكراهية الدخول في السوم، ومنه البيع بعد نداء الجمعة، وبيع المعتكف. ومنه النجش، وهو رفع السعر ممن لا يريد الشراء للحض عليه، وكرهه قوم، والاقرب التحريم، لانه خديعة، ولا يبطل العقد، وقال ابن الجنيد(٧) : إذا كان من البائع أبطله، وقال القاضي(٨) : يتخير المشتري، لانه تدليس، وقطع في

____________________

(١) في باقي النسخ: ونسيئة.

(٢) في باقي النسخ: بعد تقرر.

(٣) المبسوط: ج ٢ ص ١٦٠.

(٤) السرائر: ج ٢ ص ٢٣٥.

(٥) المختلف: ج ١ ص ٣٤٧.

(٦) المختلف: ج ١ ص ٣٤٧ والشرائع: ج ٢ ص ٢٠.

(٧) المختلف: ج ١ ص ٣٤٦.

(٨) لم نعثر عليه في كتبه المتوفرة لدينا ونقله عنه في المختلف: ج ١ ص ٣٤٦.

١٧٨

المبسوط(١) بأنه لا خيار إذا لم تكن بمواطاة للبائع(٢) ، وقوى عدم الخيار أيضا مع مواطاته، وقيد الفاضلان(٣) الخيار بالغبن كغيره من العقود.

ومنه تلقي الركبان لاربعة فراسخ فناقصا للبيع، أو الشراء عليهم، مع جهلهم بسعر البلد.

ولو زاد على الاربعة أو اتفق من غير قصد، أو تقدم بعض الركب إلى البلد، أو السوق فلا تحريم.

وفي رواية منهال(٤) لا تلق ولا تشتر مما يتلقى ولا تأكل منه، وهي حجة التحريم، كقول الشاميين(٥) وابن إدريس(٦) وظاهر المبسوط(٧) ، وفي النهاية(٨) والمقنعة(٩) يكره، حملا للنهي على الكراهية.

ثم البيع صحيح على التقديرين، خلافا لابن الجنيد(١٠) .

ويتخير الركب، وفاقا لابن إدريس(١١) ، لما روي عن(١٢) النبي صلى الله عليه وآله فيمن تلقى، فصاحب السلعة بالخيار، ومع الغبن يقوى ثبوته.

والخيار فوري.

____________________

(١) المبسوط: ج ٢ ص ٨٣.

(٢) في (م) و (ق): لمواطاة البيع.

(٣) الشرائع: ج ٢ ص ٢٢ وتذكرة الفقهاء: ج ١ ص ٥٢٢.

(٤) وسائل الشيعة: باب ٣٦ من أبواب آداب التجارة ح ٢ ج ١٢ ص ٣٢٦.

(٥) الكافي في الفقه: ص ٣٦٠، وفيه: يكره، ولم نعثر على قول ابن البراج، ونقله عنه في المختلف: ج ١ ص ٣٤٦.

(٦) السرائر: ج ٢ ص ٢٣٧.

(٧) المبسوط: ج ٢ ص ١٦٠.

(٨) النهاية: ص ٣٧٥.

(٩) المقنعة: ص ٦١٦.

(١٠) المختلف: ج ١ ص ٣٤٦.

(١١) السرائر: ج ٢ ص ٢٣٧.

(١٢) مستدرك الوسائل: باب ٢٩ من أبواب عقد البيع وشروطه ح ٤ ج ١٣ ص ٢٨١. ونقله عنه في الغنية.

١٧٩

ومنه الاحتكار، وهو حبس الغلات الاربع والسمن والزيت والملح على الاقرب فيهما، توقعا للغلاء، والاضهر تحريمه مع حاجة الناس إليه، ومظنتها الزيادة على ثلاثة أيام في الغلاء وأربعين في الرخص، للرواية(١) ، فيجبر على البيع حينئذ.

ولا يسعر عليه إلا مع التشدد، لقول البني صلى الله عليه وآله(٢) : إنما السعر إلى الله.

لا يسعر في الرخص قطعا، فيحرم فعله.

ومنه الغش بما يخفى كما سلف، وإخفاء العيب الباطن، والتدليس.

(٢٣٦) درس

وثالثها: ما نهي عنه نهي تنزيه فلا يحرم، كبيع الاكفان والرقيق والذباحة والنحر صنعة والقصابة الحياكة والنساجة والحجامة بشرط، وأمر النبي صلى الله عليه واله(٣) بصرف كسبها في علف الناضح.

وكذا كسب القابلة مع الشرط، واجرة ضراب الفحل، وكسب الاماء إلا مع الامانة، كسب الصبيان، ومن لا ورع له، وركوب البحر للتجارة للتغرير بالدين والنفس، ومعاملة الظلمة إلا لضرورة(٤) ، والسلفة والادنين والمحارفين، وذوي العاهات.

ومعاملة الاكراد ومجالستهم ومناكحتهم، وعلل ابن إدريس(٥) بأنهم لا بصيرة لهم لتركهم مخالطة الناس وذوي البصائر، ومعاملة أهل الذمة.

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ٢٧ من أبواب آداب التجارة ح ١ ج ١٢ ص ٣١٢.

(٢) وسائل الشيعة: باب ٣٠ من أبواب آداب التجارة ح ١ ج ١٢ ص ٣١٧.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٩ من أبواب مايكتسب به ح ٢ ج ١٢ ص ٧١.

(٤) في باقي النسخ: للضرورة.

(٥) السرائر: ج ٢ ص ٢٣٣.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416