إشارة السبق الى معرفة الحق الجزء ١

إشارة السبق الى معرفة الحق37%

إشارة السبق الى معرفة الحق مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 151

  • البداية
  • السابق
  • 151 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23483 / تحميل: 6706
الحجم الحجم الحجم
إشارة السبق الى معرفة الحق

إشارة السبق الى معرفة الحق الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لا بقادر، ولان لهم بصحة وقوعه مزية على تعذره لولاها لم يكونوا بأحدهما أولى من الآخر، وهي مستندة إلى القدرة المحدثة، لاستحالة كونها ذاتية أو فاعلية، ولان جواز حصول القدرة وإن لا تحصل، وثبوت التفاضل بين القادرين في كونهم كذلك مع استمرار(١) ما هم عليه من حال وشرط دلالة على ثبوت القدرة إذ لا وجه لشئ من ذلك إلا باعتبارها وقدرهم متعلقة(٢) بحدوث أفعالهم، لاتباع تعلقها صحة الحدوث، وهي متقدمة على الفعل، فيصح(٣) كونها مؤثرة فيه ومخرجة له من العدم إلى الوجود، لان تأخرها يستحيل منه ذلك(٤) فكيف يكون به، ومقارنتها تنافي الاختيار، يقتضي كونها(٥) علة في أثرها، وهو ظاهر الفساد، لمنافاته ما دلت عليه الادلة، فصح كونها متقدمة ومتعلقة بالضدين لصحة التصرف في الجهات المختلفة مع تضادها، ولانها ليست بأحدهما أولى من الآخر، فلو لم تكن متعلقة بهما للزم اجتماعهما عند حدوث الفعل، فلا يخفى فساده(٦) ، وإيجابها الصفة وتعلقها بمتعلقها لما هي عليه في نفسها لكونها لا تعلم إلا كذلك، وهي مختلفة لا متضاد ولا متماثل فيها لتعلق كل جزء منها بجزء من المقدور مع اتحاد الوقت(٧) والجنس والمحل، ولاستحالة أن يصح بكل جزء منها غير ما يصح بالآخر، لكونه إيجاد موجود.

____________________

١ - في " ج ": مع استتار.

٢ - في " أ ": إلا باعتبار قدرهم متعلقة.

٣ - في " ج ": ليصح.

٤ - في " أ ": يستحيل معه ذلك.

٥ - في " ج ": كونهما.

٦ - في " أ ": ولا يخفى فساده.

٧ - في " ج ": ومع إتحاد الوقت.

٢١

فأما مع اختلاف ما ذكرناه فلا انحصار لتعلقها، وهي متفقة فيه(وإن اختلف، لانه لا وجه لاختلافها فيه)(١) وشرط مقدورها أن يكون ممكنا في نفسه، لاستحالة تعلقها بما ليس كذلك.

فعلى هذا يكون تكليف الكافر بالايمان ممكنا، لكونه مقدورا له وحسنا، لكونه إرادة حكيم منزه عن كل قبيح.

وقد يكون واجبا في الحكمة لتكامل شروطه، ولا تأثير لتعلق العالمية بأنه لا يختاره، إذ ليست مؤثرة في معلومها ولا مضادة لوقوعه منه، فكان ممكن الوقوع باعتبار تمكنه واقتداره محالا بسوء اختياره، ولو أوجب تعلق العالمية كفر الكافر، لاوجب إيمان المؤمن، فيقبح التكليف، ويسقط مايترتب عليه، وقد كلف الله سبحانه كل من أكمل له شروطه التي هي الحياة والعقل والاقتدار والتمكين ونصب الادلة وإزاحة العلة وشهوة القبيح والنفار عن الحسن والالطاف المعلومة له، لانه مع إكمالها إذا لم يغن(٢) بالحسن عن القبيح، بل جعل ما أمر به شاقا، لكونه مؤلما منفورا عنه وما نهى عنه كذلك، لكونه ملذا مشتهى، فلولا كونه مكلفا كل من أكمل له فعل المشاق وترك الملذ كان عابثا أو مغريا له بالقبيح ويتعالى الله عنهما ولا وجه لكونه باعتبارها غير مكلف، لانه على الصفات المعتبرة في ثبوت كونه كذلك، وحسن هذا التكليف معلوم، لاستناده إلى مكلف حكيم، ولتضمنه التعريض إلى استحقاق المنافع العظيمة التي لاتستحق إلا به، لقبح الابتداء بمثلها، وذلك هو الغرض به، والتعريض للشئ في حكم إيصاله، والمخاطب به

____________________

١ - ما بين القوسين موجود في " أ ".

٢ - في " أ ": لم يعن.

٢٢

من تكاملت له شروطه المشار إليها، وهو من جملة المشاهدة المسماة إنسانا مالا يتم(١) كونه حيا إلا به، ولا اعتبار بما سوى ذلك، كما لا اعتبار بالسمن بعد الهزال، ولا بالزيادة بعد النقصان، لان الحياة حالة في الجملة.

والافعال صادرة عنها، والاحكام متعلقة بها، والادراك واقع ببعض أعضائه(٢) فلولا أن التكليف منها(٣) مابيناه لم يكن لجميع ماذكرناه وجه، كمالا وجه له بالنسبة إلى الشعر منها والظفر.

وما به يتعلق التكليف إما إلزام بفعل، فإيجاب، أو ما هو أولى، فندب، أو ما منع من فعل، فحظر، أو ما الامتناع(٤) منه أولى، فكراهة ومكروه.

وذاك إما عقلي أو سمعي، من أفعال القلوب أو الجوارح الظاهرة، داخل تحت الطاقة والاستطاعة، لكونه مقدورا للمكلف، بشهادة(٥) العقول بقبح تكليف ما لايطاق، سواء كان بفقد(٦) قدرة أو آلة أو شرط من شروطه التي لا يحسن إلا معها، ولكونه مستحيلا بأن لا يكون مقدورا، ولا وجه لقبحه إلا لكونه تكليفا بما لا يطاق، لثبوت حسنه بثبوت الطاقة، وانتفائه بانتفائها، ولا يتعلق بما لا حكم له ولا استحقاق به كالمباح.

ويعتبر في قيام المكلف به، معرفته بمكلفه سبحانه على صفاته جملة

____________________

١ - في " ج ": لم يتم.

٢ - في " ج ": أعضائها.

٣ - في " ج ": فلولا أن المكلف منها.

٤ - في " ج ": وأما منع من فعل فخطر وما الامتناع...

٥ - في " أ ": لشهادة.

٦ - في " أ ": لفقد.

٢٣

وتفصيلا، وبالتكليف على صفته وبكيفية ترتيبه وإيقاعه، وإلا لم يفد قيامه به، ولابد من فاصل بين التكليف وبين مايستحق عليه، لانه لو اتصل به ممازجا أو معاقبا لزم الالجاء المنافي له، وحصول المستحق على الوجه المنافي لما به يستحق محال، فكان انقطاعه واجبا لذلك، وهو إما بالفناء(١) أو بغيره مما تتعلق به المصلحة، وتقتضيه الحكمة، ولا ضد للجواهر إلا الفناء وبوجوده إلا في محل(٢) ينتفى وجودها جملة، ووجود مايتبعها ويختص بها تبعا لانتفائها، وطريق إثباته السمع، وهو إجماع الامة وظواهر الآيات وما هو معلوم من الملة الاسلامية والشريعة النبوية، فيكون عدم الجواهر به حقيقيا لامجازيا، وإعادتها بأعيانها لايفائها، والاستيفاء منها مقدور له سبحانه، ليتميزها(٣) بما لا تعلم إلا عليه، ولا يصح خروجها عنه، لاستحالة خروج المعلوم عن كونه معلوما، ولا تجب إعادة ما زاد من الجملة على ما به يكون الملكف مكلفا، بل ذلك راجع إلى اختيار الحكيم ولا إعادة من لا مستحق له أو عليه.وما علم تعالى أنه يقرب المكلف إلى ما كلف فعلا واجتنابا، أو يكون معه أقرب باختياره هو المسمى باللطف والصلاح، وهو إما عام أو خاص، أو ماهو أخص منهما، إما من فعله تعالى(٤) أو من فعل المكلف لنفسه أو من فعل غيره له إذا كان في المعلوم فعله أو ما يقوم مقامه، والحكمة تقتضي فعله لوجوبه، لانه جار مجرى التمكين والاقدار، وقبح منعه كقبح منعهما، ولان منعه مناقض للغرض

____________________

١ - في " أ ": بالغناء، وكذا فيما يأتي.

٢ - كذا في " ج ": وفي غيرها: لا في محل.

٣ - في " ج ": لتميزها.

٤ - في " أ ": أو من فعله تعالى.

٢٤

المجري بالتكليف إليه، والحكم لايناقض غرضه، لكونه منافيا لحكمته، وشروطه تقدمه على ما هو لطف فيه، وثبوت مناسبته بينهما وخلوه من كل مفسدة، وهو فيما لا يتعلق بالدين غير واجب، إذ لا وجه لوجوب الاصلح الدنياوي، ولا طريق إليه، لاستحالة كونه تعالى في كل حال غير منفك من الاخلال بالواجب، وتقتضيه المفسدة، ولا يجب المنع منها بل الاعلام بها والتمكين من دفعها، لازاحة العلة، واستتمام الغرض بذلك.

ولا وجه في اللطف إذا كان مصلحة في أمر أو لمكلف مفسدة في غيره ولآخر، كما لا وجه لكل مصلحة لا تتم إلا بمفسدة.

ومعرفة الله تعالى واجبة، لكونها أصلا لجميع التكاليف المكتسبة، عقلا وشرعا، لكون اللطف الذي هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب على الطاعة مشروطا بثبوتها، ومتوقفا على حصولها، ولكونها شرطا في شكر نعمه سبحانه تعالى وعبادته، التي هي كيفية في شكره الذي لا يصح إلا بعد صحتها، ولا يثبت حقيقته إلا بعد ثبوتها.

وكلما لايتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا وصلة إليها في دار التكليف إلا بالنظر الحاصل على شروطه، لاستحالة كونها ضرورية أو حاصلة عن طريق يرجع إلى الضرورة، لثبوت الخلاف فيها، وارتفاعه في كل ضروري.

ولسنا في تكليف العلم بالمكلف مضطرا إلى العلم به، أو سمعه(١) ، لتوقف العلم بصحة السمعيات على تقدمها، وأن السمع(٢) مؤكد لوجوبها، فكانت

____________________

١ - في " ج ": أو سمعية.

٢ - في " أ ": وإنما السمع.

٢٥

باعتبار ماذكرناه نظرية واستدلالية، وكان النظر واجبا لوجوبها، وهي على التحقيق أول الواجبات، فيكون ما هو وصلة إليها وسبب فيها كذلك(١) لان ما عدا النظر من جميع الواجبات العقلية والسمعية قد يخلو المكلف منها إما وجوبا أو جوازا، أو لا يخلو من وجوبه عليه، فكان أول الواجبات وصلة وترتيبا.

وإنما يجب عند حصول الخوف والرجاء، وقد يحصل خوف المكلف بسبب لا يتعدى عنه، لتدبره ما هو عليه من أحواله، وما هو فيه من النعم ظاهرا وباطنا، وبسبب خارج عنه، لسماعه اختلاف العقلاء في المذاهب والآراء، مع فقدهما وفقد ما به يحصل كل واحد منهما، لابد من ورود الخاطر عليه، وأولى ما كان كلاما داخل سمعه متضمنا إخافته من إهمال النظر وحثه على استعماله(٢) وتجويز الضرر يقتضي وجوب الاحتراز منه، معلوما كان أو مظنونا، وذلك باعث على النظر ومؤكد لوجوبه، وهو مولد للعلم مع تكامل شروطه، لكونه واقعا بحسبه وتابعا له، يقل بقلته ويكثر بكثرته، فكان مسببا عنه ومتولدا من جهته، ومن لم يولد نظره العلم فلتقصير منه، أما في النظر أو في المنظور فيه أو لانه نظر في الشبهة لا في الدليل، والنظر فيها لا يولد شيئا ولا يفضي بصاحبه إلا إلى الجهل أو الشك، والجهل ليس مسببا ولا متولدا عن النظر، لكونه نقيض العلم وضده، لاستحالة الجمع بين النقيضين.

والمنظور فيه لاكتساب المعرفة الواجبة ما خرج عن مقدور كل قادر بقدرة(٣) مما يختص سبحانه بالاقتدار عليه، ومن الجائز في أصل العقل أن يخلو

____________________

١ - في " أ ": وسبب إليها فيها كذلك.

٢ - في " أ ": وحقه على استعماله.

٣ - في " ج ": مقدرة.

٢٦

العاقل من كل تكليف، لكن ذلك مشروط بأن يغنيه بالحسن عن القبيح، ولا يثبت ذلك إلا بأن يكون مشتهيا للحسن(١) ، نافرا عن القبيح لا بالعكس من ذلك، فبتقديره يكون خلوه من التكليف جائزا، لكونه غير مناف للحكمة، ويكون كمال عقله مع ما يضامه من أصول النعم الباطنة والظاهرة نعمة منه سبحانه عليه، وإحسانا إليه، والعقل يقتضي حسن الابتداء بذلك لاقبحه.

ومما يتفرع على ركن العدل الكلام في الوعد والوعيد، وهو ما يستحق بالتكليف فعلا وتركا، والمستحقات ستة: المدح والذم والثواب والعقاب والشكر والعوض، فالمدح يتميز بكونه دالا على الارتفاع، والذم بكونه دالا على الاتضاع، والثواب بوقوعه مستحقا على وجه التعظيم، والعقاب بوقوعه مستحقا على وجه الاهانة، والشكر بوقوعه اعترافا مقصودا به التعظيم، والعوض بانقطاعه(٢) وتعريه من تعظيم.

ويعتبر في المدح والذم العلم بما به يستحقان، والقصد إلى كل واحد منهما، والوضع العرفي فيهما، ويثبتان بالقول حقيقة وبالفعل مجازا، ويشتملان على أسماء ودعاء، ويستعمل كل واحد منهما بحسب الموجب له مطلقا في موضع، مقيدا في غيره، ويعلمان عقلا، لاقتضاء ضرورته(٣) لهما.

فما به يستحق المدح، إما فعل الواجب لوجه وجوبه، أو الندب لوجه ندبيته، أو اجتناب القبيح لوجه قبحه، أو إسقاط الحقوق لوجهها(٤) لايستحق

____________________

١ - في " أ ": مشتبها للحسن.

٢ - في " ج ": والعوض إنقطاعه.

٣ - في " أ ": بإقتضا ضرورية.

٤ - في " أ ": لوجههما.

٢٧

على ما سوى ذلك، وعلى ما به يثبت استحقاقه ثبت استحقاق الثواب بشرط حصول المشقة في الفعل والترك، أو في سببهما وما به يتوصل إليهما.

وطريق العلم باسحقاقه العقل، لثبوت إلزام المشاق التي لولا ما في مقابلتها من الاستحقاق لم يحسن إلزامها، ولا كان له وجه(١) فبوجوهها تعين اللطف فيها، وبما يقابلها من الاستحقاق تعين فيها وجه الحكمة، ولزم احتمالها والصبر عليها.

وبدوامه السمع لحسن تحمل المشاق للمنافع المنقطعة عقلا، إذ ليس فيه ما يقتضي اشتراط دوامها، فيكون القطع على دوامه وصفاته سمعا(٢) بإجماع جميع الامة، ولا يلزم حمله على المدح، لاشتراكهما في جهة الاستحقاق، لانهما وإن اشتركا في ذلك فقد اختلفا في غيره، ويثبت(٣) أحدهما في موضع يستحيل ثبوت الآخر فيه.

وما به يستحق الذم(٤) أما فعل القبيح أو الاخلال بالواجب لايستحق بغيرهما، ومما به يثبت(٥) استحقاقه ثبت استحقاق العقاب بشرط اختيار المكلف ذلك على ما فيه مصلحته.

وطريق العلم به السمع، لان العقل وإن أجازه ولم يمتنع منه إلا أنه لا قطع به على ثبوت استحقاق، لخلوه من دلالة قطعية على ذلك، ضرورة واستدلالا،

____________________

١ - في " أ ": وإلا كان له وجه.

٢ - في " ج ": سعيا.وفي " أ ": سميعا.والظاهر أن مارقمناه في المتن هو الصحيح.

٣ - في " ج ": وثبت.

٤ - في " أ ": وما به يستحق بالذم.

٥ - في " ج ": وما يثبت.

٢٨

فالمرجع بإثباته قطعا إلى السمع المقطوع على صحته، وهو الاجماع والنصوص القرآنية، ولا يلزم عليه الاغراء(١) لان تجويزه عقلا، والقطع عليه سمعا زاجر لا إغراء معه.

وإذا كان الاصل الذي(٢) هو ثبوت استحقاقه لا يعلم إلا سمعا، فالفرع الذي هو دوامه وانقطاعه أولى بذلك.

وقد أجمعت الامة(٣) على دوام عقاب من مات من العصاة، كافرا، ولا إجماع على دوام عقاب من عداهم من عصاة المؤمنين، فهم على ما كانوا عليه، من ثبوت استحقاق الثواب الدائم وإن استحقوا معه بعصيانهم العقاب، لان انقطاع عقابهم ممكن بتقديمه، ودوام ثوابهم المجمع عليه مانع من انقطاعه، لامكان حصوله معاقبا للاستيفاء منهم، ولا مانع من ذلك كما لا مانع من استحقاقهم المدح في حالهم فيها مستحقون الذم، لوجوب مدحهم بإيمانهم وذمهم بفسقهم، وما تعذر ذلك من فاعل واحد إلا لفقد الآلة لا لفقد(٤) الاستحقاق، فإنه لو كان له لسانان لمدح بأحدهما وذم بالآخر، ولو مدح بلسانه وذم بما يكتب بيده وبالعكس من ذلك لصح(٥) ، وكان جامعا بينهما في حال واحدة، فكما لا تنافي بين ثبوت استحقاقهما إلا على أمر واحد بل على أمرين مختلفين، فكذلك لا تنافي أيضا بين ثبوت استحقاق مايتبعهما من ثواب وعقاب، وكما أجمعت الامة على دوام

____________________

١ - في " أ ": ولا يلزم الاغراء.

٢ - في " ج ": وإذا كان الاصل فيه الذي.

٣ - في " أ ": وقد اجتمعت الامة.

٤ - في " أ ": وما تعذر ذلك من فاعل واحد إلا لفقد.

٥ - في " ج ": يصح.

٢٩

عقاب الكفار، أجمعوا أيضا عدا الوعيدية(١) على إنقطاع عقاب من وصفنا حالهم.

ولاستحالة الجمع بين دائمي الثواب والعقاب، وجب كون المنقطع متقدما على الدائم الذي يحصل بدلا منه ومعاقبا له.

____________________

١ - هم القائلون بعدم جواز العفو عن الكبائر عقلا كالمعتزلة ومن تبعهم.

٣٠

الكلام في الاحباط وبطلانه

وقد ثبت بما ذكرناه أن المستحق من الثواب لا ينفيه شئ ولا يسقطه مسقط، لان اسقاطه منافي للحكمة(٢) لكونه مستحقا على الله لا على غيره، فتقدير سقوطه بعد ثبوته مناف لحكمته تعالى.

وإذا صح ذلك بطل التحابط بين الطاعات والمعاصي، وبين المستحق عليهما.

ويبطله أيضا أنه لا تنافي بين ذلك، لكونه متجانسا، فإن جنس ما يقع طاعة أو معصية واحد لا تضاد فيه ولا اختلاف بينهما إلا بالوجوه التي يقع عليها وهي تابعة لاختيار الفاعل وقصده، بل مما يصح تعريها منها.

فإن دخول الدار بإذن صاحبها كدخولها بغير إذنه، وأحد الدخولين(٣) طاعة والآخر معصية، وجنسما واحد لا اختلاف فيه إلا بالوجه الواقع عليه، وكذلك، جنس ما يقع ثوابا أو عقابا واحد، لا مضادة فيه ولا انفصال بينهما(٤) إلا بالشهوة لاحدهما والنفار من الآخر، فإن جنس الالم واللذة واحد.وادراكهما بطريق واحد، ولا افتراق بينهما

_______________________

٢ - في " ج ": مناف للحكم.

٣ - في " ج ": كدخوله بغير إذنه وأحد المدخولين.

٤ - في " ج ": ولا انفعال بينهما.

٣١

إلا بالشهوة والنفار، ولولا ذلك ما إلتذ أحدنا بما يتألم به غيره وبالعكس من ذلك، فإن المبرود يلذ له ما يولم المحرور من النار وغيرها من الحرارات.

وإذا كان جنس المستحق واحدا، وما به يثبت(١) استحقاقه أيضا كذلك لم يعقل دخول التحابط فيه، لانه لا معنى له إلا التنافي الذي لايدخل إلا في المتضادات ولا في المتجانسات(٢) ، على أنه لو صح - وهيهات - لكان بين الموجودات والمستحق معدوم لم يوجد بعد، فكيف يدخل الاحباط؟

____________________

١ - في " ج ": وما به ثبت.

٢ - في " ج ": " لا في المتجانسات " بدون الواو.

٣٢

الكلام في بطلان التكفير(٣)

ولو جمع جامع بين الطاعة والمعصية على حد واحد، لم يثبت له على رأي الوعيدية به استحقاق، وكان بمنزلة من لم يطع ولم يعص، لاله ولا عليه، وهو ظاهر الفساد.

وإذا بطل التحابط فالتكفير أيضا باطل، لان صغائر الذنوب في استحقاق الذم والعقاب عليها ككبائرها، وإن زاد ما يستحق على الكبائر بالنسبة إلى ما يستحق على الصغائر، ولان إثبات الصغير مكفر(٤) لا وزر بها مبني على اثبات الكبيرة محبطة لا أجر معها، فبطلانهما واحد.

ومسقط العقاب على الحقيقة عفو الله أما عند التوبة التي هي تذم التائب

_______________________

٤ - هكذا في النسخ التي بأيدينا.

٣ - ما بين المعقوفين منا.

٣٣

على ما مضى منه من القبيح وعلى أن لا يعود إلى مثله مستقبلا مع الخروج من حق ثبت في الذمة إن كان لله تعالى، فبتلافيه وادائه إن كان مما يؤدى، وقضائه إن كان مما يقضى، وإن كان لبعض العباد فبتأديته وفعل ما يجب في مثله.

وإذا صحت التوبة كانت مقبولة إجماعا، وسقوط العقاب عندها تفضل من الله لا وجوبا، لانه لو وجب على وجه تكون هي المؤثرة في الاسقاط لم يكن له سبحانه بذلك تكرم ولا تمنن ولا اختيار ولا تمدح، مع أن ذلك كله له بقبولها، فيكون الوجوب من حيث استحال خلاف الوعد عليه تعالى لا من حيث كونها مؤثرة في اسقاط ما هو حق له.

وأما عند عفوه ابتداء، والعقل شاهد بحسنه، لانه إذا كان العقاب حقا له لاحق فيه لغيره بل لا يسقط باسقاطه حق الغير جرى حسن اسقاطه مجرى حسن اسقاط الدين، وكان في الحسن أبلغ منه، لكونه محضا، وأكده أن سبحانه لا ينتفع بإستيفاء ولا يستضر بإسقاط، ولا يناط بذلك شئ من وجوه القبح(١) ، وحسن الاحسان مما تشهد به أوائل العقول، والسمع دال على ثبوته، ولا إغراء بذلك لما يقابله(٢) .

وأما عند الشفاعة التي هي قبولها، لا نزاع فيه، كثبوتها ولا وجه لحقيقتها(٣) إذا كانت في زيادة المنافع للاستغناء عنها، ولجواز العكس فيها بأن يعود الشفيع مشفوعا فيه، فتكون حقيقة في إسقاط المضار، وهو الذي يقتضيه العقل، ويؤكده

____________________

١ - في " أ ": من وجوه القبيح.

٢ - في " ج ": لا يقابله.

٣ - في " ج ": فحقيقتها.

٣٤

السمع، ومع فقد جميع ذلك، وخلو المرجى له منه، لابد من إنتهائه إلى الثواب الدائم بعد الاقتصاص منه(١) بالعقاب المنقطع كما بيناه.

والايمان وإن كان في أصل الوضع عبارة عن التصديق إلا أنه يختص شرعا بتصديق ما يجب اعتقاده من وحدانية الله تعالى وعدله ونبوة أنبيائه وإمامة أوليائه، وما يترتب على ذلك من تحليل حلاله وتحريم حرامه وبعثه ومعاده.

فالمؤمن هو المصدق المعتقد لذلك بقلبه لا المظهر له بلسانه من دون إعتبار اعتقاده، فإن كانت موافقة باطنه لظاهره في الصدق والاخلاص معلومة، أما بكونه معصوما أو مشارا إليه بذلك ممن في اشارته الحجة، فمدحه مطلق وإلا فهو مقيد، وإن كان اعتقاده ذلك مستندا إلى معرفة تفصيلية فهو الغاية والاجزاء ما لابد منه(٢) من علم الجملة، وإن كان خاليا من الحجة على كل وجه واقعا على وجه المطابقة لمعتقده(٣) لا ببرهان(٤) قطعي وعلم يقيني، بل مجرد القبول والتسليم، فهو الذي يسمى تقليدا إلا أن صاحبه مقلد لاهل الحق في حقهم، فله بذلك مزية على مقلدي أهل الباطل في باطلهم، وهو عند بعض علماء الطائفة مصيب في اعتقاده، مخطئ في تقليده، فيرتجى له من العفو ما يرجى لغيره من مستضعفي أهل الحق، بناء على أنه لا وجه لتكفير أحد من الطائفة على أي حال كان.والكفر وإن كان في الاصل الجحود المأخوذ من الستر والتغطية، إلا أنه

____________________

١ - في " ج ": بعد الاختصاص.

٢ - في " أ " ولا اجزائه ما لابد منه.

٣ - في " أ ": وإن كان خاليا من الحجة على كل وجه المطابقة لمعتقده.

٤ - في " ج ": لا برهان.

٣٥

اختص شرعا بجحود ما وجب التصديق به، أو جحود ما لايتم الايمان إلا به، فالجاحد لذلك هو الكافر الذي يجب إطلاق دمه، وتجري عليه أحكام أهل الكفر والفسق، وإن كان في الوضع الخروج، إلا أنه اختص شرعا بالخروج من طاعة إلى معصية، فالخارج بذلك مع صحة اعتقاده هو المؤمن الفاسق الذي قد بينا أحكامه، لانه لا منافاة بين ثبوت الايمان ووقوع الفسق، لصحة الجمع بين الطاعة والمعصية والحسنة والسيئة في وقت واحد من فاعل واحد، كمن تصدق بيمينه وسرق بشماله، أو سبح بلسانه ورأى محظورا بطرفه قصدا، وقد أومأنا إلى ذلك متقدما.وجميع ماأشرنا إليه من أحكام الايمان والكفر معلومة مقطوع عليها بالسمع خاصة، وهو إجماع الطئفة المحقة، لخلو العقل من طريق يقطع به على كل واحد منهما.

[الكلام في سؤال القبر ]

وسؤال القبر وما يتبعه - من نعيم أو عذاب - والبعث والنشور والموافقة والحساب والميزان والصراط وتطائر الكتب وشهادة الاعضاء والانتهاء بحسب الاستحقاق إلى جنة يختص نعيمها بالملاذ والمسار، وإلى نار يختص عذابها بالايلام والمضار وما يتبع ذلك ويترتب عليه، حق يجب إعتقاده والقطع عليه، لانه مما لا يتم الايمان إلا به وطريق العلم به إجماع الامة والنصوص القرآنية والنبوية(١) ولا اعتداد بمخالفة من خالف في شئ منه، لسبق الاجماع وتقدمه على خلافه.

____________________

١ - في " ج ": والنبوة.

٣٦

والشكر يستحق على النعم المقصود بها جهات النفع، فإن كان كمال المنعم بها معلوما وبلغت أعلى المبالغ، كنعم الله ونعم أنبيائه وأوليائه، كان شكرها مطلقا، وإلا فهو مقيد، وطريق العلم باستحقاقه ضرورة العقل، لانه من جملة علومه.

والعوض يستحق على الآلام لا على غيرها، ويعلم وجوبه بوجوب الانتصاف الذي لا يتم إلا به، وثبوت الآلام معلوم(١) بوجدانه وإدراكه، والفرق بين حصوله وارتفاعه، ولا يكاد يشتبه الامر فيه على عاقل، فإن كان من فعل الله تعالى فأما مبتدئ لا عن سبب، والوجه فيه لطف بعض المكلفين، أما المفعول به إن كان مكلفا أو غيره وبذلك ثبت الغرض به وانتفى العبث عنه، ولابد فيه من عوض زائد موف(٢) عليه ينغمر(٣) بالنسبة إليه في جانبه، ويحسن لاجله تحمله، وبذلك ثبت العدل به وانتفى الظلم عنه.

أو مسبب فأما في الدنيا، وهو ما حصل عن تعريض المعرضين، وحسنه معلوم بجريان العادة به، وإن خرقها فيه لا لوجه ممتنع، والعرض فيه على المعرض، لانه فاعل المسبب(٤) وأمام في الآخرة فلاوجه له إلا الاستحقاق، وهو المقتضى حسنه، وإن كان من فعل غيره سبحانه، فإما حسن وهو ما كان لاجتناب نفع حسن لايجتلب إلا به، أو دفع ضرر عظيم لا يندفع إلا به، أو لمدافعة متعد(٥) غير مقصود إيلامه، أو لاتباع أمر مشروع وإذن متبوع، أو لاقامة

____________________

١ - في " ج ": وثبوت الالم معلوم.

٢ - في " ج ": " موقوف " بدل " موف ".

٣ - في " أ ": يتغمر.

٤ - في " أ " فاعل السبب.

٥ - في " ج ": أو لمدافعة معتد.

٣٧

حق وأداء مستحق، فكل هذه الوجوه يحسن فيها الالم.

وإما قبيح وهو ماعداها مما لم يكن على وجه منها، وهو الظلم الذي لابد فيه من الانتصاف، وعوضه على فاعله(١) جزء بجزء، لاستحقاقه بمقدار المستحق عليه، وكلما يصح حدوثه يصح التوقيت به، لاستحالته بما لايصح فيه ذلك.

ولا أجل للانسان إلا واحد، وهو الوقت الذي يحدث فيه عليه الحادث من موت أو قتل، فكما أن أجل الموت وقت حصوله، فكذلك أجل الوقت، وبقاء المقتول لولا قتله وموته كلاهما بالنسبة إلى قادرية الله تعالى وحسن اختياره جائز، ولا دلالة على القطع على أحدهما، لاستحالة تعجيزه سبحانه، والتعجيز عليه(٢) بقطع ما لاوجه للقطع به، فيكون الوقف في ذلك مع تجويز(٣) كل واحد منهما كافيا في اعتقاد الحق الذي لابد منه، وما يصح إنتفاع المنتفع به على وجه لا منع فيه عليه هو المسمى رزقا، وبذلك خرج الحرام عن كونه كذلك، ويعين أنه لا رزق إلا الحلال المطلق الذي به المدح، ولاجتلابه توجه الامر.

والسعر وإن كان عبارة عن تقدير البدل، فقد يختلف بالغلاء تارة، وبالرخص أخرى، فإن كان من قبل الله سبحانه فهما من قبيل اللطف، وعوض آلام الغلاء عليه خاصة، وإن كانا من قبل العباد اما بالاكراه أو بفعل أسبابهما(٤) فعوض ما فيه العوض على من هو بسببه.

____________________

١ - هكذا في " ج " وفي غيرها: وعرضه على فاعله.

٢ - في " أ ": والعجز عليه.

٣ - في " ج ": مع تجوز.

٤ - في " ج ": اما بالاكراه لا بفعل أسبابهما.

٣٨

أما الكلام في ركن النبوة

فإن بعثة الانبياء ممكنة، لكونها مقدورة وحسنة، لاستنادها إلى حكيم منزه عن كل قبيح، لانه لما بعثهم وصدقهم بإظهار المعجزات مع استحالة تصديقه الكذابين، وإظهاره المعجزات لغير التصديق، ثبت القطع على حسنها، وربما كانت واجبة من حيث وجب الاعلام بالمصالح والمفاسد التي لا يمكن العلم بها والاطلاع على ما وجب منها فعلا وتركا إلا ببعثتهم، فيكون الوجه فيها ظاهرا، وهو إرشاد المكلفين إلى ما لا سبيل لهم إلى الاسترشاد إليه إلا بهم.

واللطف في الواجب واجب، كما أنه في الندب ندب، وعصمة الانبياء مطلقة بالنسبة إلى جميع الاوقات، وجميع ما منه العصمة واجبة، لانه لو جاز عليهم شئ من القبائح قدح في أدائهم وتبليغهم المقطوع على صدقهم فيه بظهور المعجز عليهم، فكان لايبقى لاحد طريق إلى العلم بصدقهم الذي لولا القطع عليه تعذر الوثوق بهم، والقبول منهم، وذلك مناف للغرض في بعثتهم الذي منافاته تنافي الحكمة، وتناقضها، فكما وجب تنزيههم عن الكذب في الاداء والتبليغ ليصح الرجوع إليهم والاقتداء بهم، فكذلك وجب تنزيههم عن كل قبيح لا تسكن مع تجويزه النفوس إليهم، لنفورها عنهم.

ولا يثبت ذلك التنزيه التام الذي لايبقى للتنفر معه(١) وجه إلا بعصمتهم على الاطلاق، وهو ما أردناه.وبالعلم المعجز الظاهر على يديهم أو نص صادق يثبت القطع على

____________________

١ - في " أ ": للتنفير معه.

٣٩

صدقهم.

وشرط المعجز في دلالته على التصديق أن يكون متعذرا في جنسه أو صفته المخصوصة، لكونه من فعل الله تعالى، أو جار مجرى فعله(١) ، لان الدعوى عليه، فما تصديها إلا إليه خارقا للعادة الجارية بين المبعوث إليهم، لان المعتاد لا إبانة به ولا دلالة فيه مطابقا لدعوى المدعى على وجه التصديق له، لان المتراخى لا قطع به على ذلك، لتجويز(٢) دخول الحيلة فيه.

فإذا حصل على هذه الشروط دل على صدق من ظهر على يديه، واختص به، وسمي لذلك معجزا، لانه إذا وجب في حكمته سبحانه تصديق المدعى عليه، من حيث كان صادقا عليه في دعواه، وكان غاية تصديقه منه بالقول أن يقول: هذا صادق فيما ادعاه علي، فكذلك إذا فعل له ماذكرناه مما يقوم(٣) في تصديق ادعائه مقام قوله إنه صادق فيه، ولا فرق في ذلك بين القول والفعل القائم في إقامة الحجة به مقامه، كما لا فرق بين أن تكون الدعوى نبوة أو إمامة أو غيرهما من مراتب الصلاح، إذ وجه الحكمة في وجوب تصديق الجميع إذا تعلقت المصلحة به واحد، فتجويزه في موضع والمنع منه في آخر لا وجه له.

ومشاهدة المعجز لمن يشاهده يقتضي علمه به، وإلا فالخبر(٤) المتواتر فيه إذ ذاك يفيد العلم، القطع به مع فقد مشاهدته، ولا يتميز الخبر بكونه متواترا(٥) مفيدا ماذكرناه، إلا بأن يكون على شروطه التي هي كون مخبره في الاصل مشاهدا

____________________

١ - في " أ ": أو جاريا مجرى فعله.

٢ - في " أ ": لتجوز.

٣ - في " ج ": مما يقدم.

٤ - في " أ ": وإلا فالمخبر.

٥ - في " ج ": لكونه متواترا.

٤٠

هذا الإنسان حاضر لديّ :( وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) فيكشف الستار عن كلّ صغيرة وكبيرة صدرت منه.

ولكن ما المراد من «قرينه»؟ للمفسّرين أقوال كثيرة ، إلّا أنّ أغلبهم يرى أنّ المراد منه هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأمورا بتسجيل أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل الله.

والآيات السابقة التي كانت تشير إلى أنّ من يرد عرصات المحشر فإنّ معه سائقا يسوقه وشهيدا يشهد عليه ، تدلّ على هذا المعنى أيضا. زد على ذلك لحن الآية نفسها والآية التي تليها تتناسبان مع هذا المعنى أيضا [فلاحظوا بدقّة].

إلّا أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المراد من قرينه هو «الشيطان» ، لأنّ كلمة «قرين» أطلقت في كثير من آيات القرآن على الشيطان الذي يصطحب الإنسان فيكون معنى الآية على هذا التقدير هكذا : «وقال الشيطان قرين الإنسان : «إنّني أعددت هذا المجرم لجهنّم وبذلت أقصى ما في وسعي من جهد في هذا السبيل».

إلّا أنّ هذا المعنى لا أنّه لا يتناسب مع الآيات السابقة واللاحقة فحسب ، بل لا ينسجم مع تبرئة الشيطان نفسه من إغوائه الإنسان على الذنب كما تصرّح بذلك الآية الواردة بعد عدّة آيات من هذه الآية محلّ البحث.

فطبقا لهذا التّفسير للآية فإنّ الشيطان يعترف بمسؤوليته في إغواء الإنسان ، والحال أنّ الآيات المقبلة نقرأ فيها قوله :( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) فيقع التضادّ بين القولين كما تلاحظون.

وهناك تفسير ثالث وهو أبعد ممّا ذكر آنفا ولا قرينة عليه أبدا ، وهو أنّ المراد من «قرينه» هو من رافق الإنسان في حياته من البشر!!

ثمّ يخاطب الله الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما :( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) .

كلمة «عنيد» مشتقّة من العناد ، ومعناها التكبّر وحبّ الذات وعدم الخضوع

٤١

للحقّ!

ومن هم المخاطبين هنا؟ هناك تفاسير متعدّدة أيضا ، فمنهم من اختار التّفسير آنف الذكر ، ومنهم من قال بأنّهما خازنا النيران.

وقال بعضهم ـ أيضا ـ من المحتمل أن يكون المخاطب واحدا فحسب ، وهو الشاهد الذي يرد عرصة القيامة مع المجرم ، وصرّحت به الآيات آنفة الذكر ، وتثنية الفعل هو من أجل التأكيد ، فكأنّه يؤكّد مرتين : «الق ، الق» واستعمال التثنية في خطاب المفرد وارد في لغة العرب ، إلّا أنّ هذا التّفسير بعيد جدّا. وخير التفاسير وأنسبها هو التّفسير الأوّل.

وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف التي يتّصف بها هؤلاء الكفّار ـ الذميمة المنحطّة إذ تقول الآية :( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ) .

«المنّاع» بحكم كونه صيغة مبالغة فإنّه يطلق على الشخص الذي يمنع كثيرا من الأمور ، فيكون التعبير بـ «منّاع للخير» يقصد به من يمنع كلّ عمل صالح فيه خير وبأيّة صورة كانت.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الآية نزلت في «الوليد بن المغيرة» حيث أنّه كان يمنع أبناء أخيه عن الإسلام ويقول لهم : طالما كنت حيّا فلن أعينكم في حياتكم(١) .

وكلمة «معتد» معناها المتجاوز على الحدود ، سواء أكان متجاوزا لحقوق الآخرين أو لحدود الله وأحكامه!

وكلمة «مريب» مشتقّة من الريب ، وتعني من هو في شكّ ، الشكّ المقرون بسوء الظنّ ، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شكّ من أمرهم فيضلّوا عن سواء السبيل.

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٦٨.

٤٢

ثمّ تضيف الآية التالية لتذكر وصفا ذميما لمن كان من طائفة الكفّار فتقول :( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

أجل :( فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) .

وفي هذه الآيات بيان ستّة أوصاف لأهل النار ، فالأوصاف الخمسة المتقدّمة بعضها لبعض بمثابة العلّة والمعلول ، أمّا الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل لهذه الأوصاف.

لأنّ معنى الكفّار هو من أصرّ على كفره كثيرا ، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.

والمعاند أو العنيد يصرّ على منع الخير أيضا ، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون معتديا متجاوزا على حقوق الآخرين وحدود الله.

والمعتدون يصرّون على إيقاع الآخرين في الشّك والريب وسلب الإيمان عنهم.

وهكذا تبيّن أنّ هذه الأوصاف الخمسة أي «الكفّار والعنيد والمنّاع للخير والمعتدي والمريب» يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا ، وبعضها لبعض يشكّل علاقة اللازم بالملزوم.

وفي الوصف السادس أي( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) يكمن الجذر الأصيل والأساس لجميع الانحرافات الآنف ذكرها ، والمراد من هذا الوصف هو الشرك ، لأنّ التدقيق فيه يكشف أنّ الشرك هو الباعث على جميع هذه الأمور المتقدّمة!

وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة اخرى ممّا يجري على هؤلاء الكفّار وعاقبتهم ، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغويّ في يوم القيامة ، فكلّ من الكفّار يلقي التبعات على الشياطين ، إلّا أنّ قرينه «الشيطان» يردّ عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن :( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) . فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة ، بل هو الذي سلكه باختياره

٤٣

وإرادته واختار هذا الطريق.

وهذا التعبير يشبه ما ورد في سورة إبراهيم الآية (٢٢) إذ يتبرّأ الشيطان من أتباعه فيقول :( ... وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) !!

وبالطبع فإنّ الشيطان لا يريد أن ينكر أثره في إغواء الإنسان إنكارا كليّا ، بل يريد أن يثبت أنّه لم يجبر أحدا على إغوائه ، بل الإنسان بمحض استجابته ورغبته قبل وساوس الشيطان ، فعلى هذا الأساس لا تضادّ بين هذه الآية والآية (٨٢) من سورة (ص) :( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تتحدّث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب ، ولا يظهر فيها كلام على اعتراض الكفّار وردّهم على الشيطان ، إلّا أنّه وبقرينة سائر الآيات التي تتحدّث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية يتّضح جدال الطرفين إجمالا ، لأنّها تقول حاكية عن ربّ العزّة :( قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) وأخبرتكم عن هذا المصير.

إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة :( اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) (١) .

ومن جهة اخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) .(٢) وهذا التهديد والوعيد واردة في سائر آيات القرآن ، وهي حاكية جميعا عن أنّ الله أتمّ الحجّة على الشياطين والإنس كلّهم وحذّر كلا الفريقين من الإغواء والغواية والإضلال والضلال.

ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان ربّ العزّة :( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ

__________________

(١) الإسراء ، الآية ٦٣.

(٢) سورة ص ، الآية ٨٥.

٤٤

لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (١) .

والمراد من «القول» هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه الله سبحانه مرارا في آيات متعدّدة وذكرنا آنفا أمثلة منها.

والتعبير بـ «ظلّام» وهو صيغة مبالغة معناه كثير الظلم ، مع أنّ الله لا يصدر منه أقل ظلم ، ولعلّ هذا التعبير هو إيذان بأنّ مقام عدل الله وعلمه في درجة بحيث لو صدر منه أصغر ظلم لكان يعدّ كبيرا جدّا ولكان مصداقا للظلّام ، فعلى هذا فإنّ الله بعيد عن أي أنواع الظلم.

أو أنّ هذا التعبير ناظر إلى الأفراد والمصاديق ، إذ لو نال عبدا ظلم من الله فهناك نظراء لهذا العبد ، وفي المجموع يكون الظلم كثيرا.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا التعبير دليل على أنّ العباد مخيّرون ولديهم الحريّة «في الإرادة» فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله ، ولا الكفّار مجبورون على الكفر وأتباع طريق الشيطان ، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد تقرّرا لأحد أبدا.

وهنا ينقدح هذا السؤال! وهو :

كيف يقول سبحانه( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ ) ؟ مع أنّ جماعة من العباد يشملهم عفوه وغفرانه؟

والجواب على هذا السؤال : أنّ العفو أيضا وفقا لمنهج دقيق وفرع على عمل أدّاه الإنسان بحيث أنّه على رغم جرمه فهو جدير بالعفو ، وهذا بنفسه أحد السنن الإلهيّة ، وهو أنّ من يستحقّ العفو يشمله عفوه ، وهذا أيضا لا يتغيّر.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية :( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ

__________________

(١) لدي ظرف متعلق بـ «يبدل» واحتمل بعض المفسرين أنه متعلق بالقول ، إلا أن المعنى الأول أنسب

٤٥

مَزِيدٍ) (١) .

والمراد من( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) ما هو؟ هناك تفسيران :

الأوّل : أنّه استفهام إنكاري ، أي أنّ جهنّم تقول لا مجال للزيادة ، وبهذا فينسجم هذا المعنى مع الآية ١٣ من سورة السجدة :( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وهو تأكيد على أنّ تهديد الله يتحقّق في ذلك اليوم تماما وأنّ جهنّم تمتلئ في يوم القيامة من الكفّار والمجرمين.

والثّاني : إنّ هذه الجملة فيها طلب للزيادة! أي هل يوجد غير هؤلاء ليدخلوا النار ، وأساسا فإنّ طبيعة كلّ شيء أن يبحث عن سنخه دائما ، فلا النار تشبع من الكفّار ولا الجنّة تشبع من المؤمنين الصالحين.

إلّا أنّ هذا السؤال سيبقى بلا جواب ، وهو أنّ مفهوم هذا الطلب أنّ جهنّم ما تزال غير ممتلئة ، فلا تنسجم مع الآية ١٣ من سورة السجدة آنفة الذكر التي تقول :( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ طلب المزيد لا يدلّ على عدم الامتلاء لأنّه :

أوّلا : قد يكون إناء مليء بالطعام مثلا ، إلّا أنّ شخصا ما يزال يتمنّى أن لو أضيف إليه فيكون متراكما أكثر! ثانيا : هذا الطلب يمكن أن يكون طلبا لتضييق المكان على أهل جهنّم وعقابهم الأليم أو تمنّي السعة لاستيعاب أنفار آخرين أكثر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الآية تدلّ دلالة واضحة أنّ أهل جهنّم كثيرون ، وأنّ صورة جهنّم مرعبة وموحشة وأنّ تهديد الله جدّي وحقّ يربك الفكر في كلّ إنسان فيهزّه ويحذّره ألّا يكون واحدا من أهلها! وهذا التفكير يمكن أن يصيّره ورعا ملتزما فلا يقدم على الذنوب الكبيرة والصغيرة!

__________________

(١) بأي كلمة متعلّق لفظ «يوم»؟ هناك ثلاثة وجوه ـ الوجه الأوّل أنّه متعلّق بمحذوف وتقديره اذكروا. والوجه الثاني أنّه متعلّق بيبدّل. والوجه الثالث أنّه متعلّق بظلّام ، إلّا أنّ الأوّل أولى.

٤٦

وينقدح سؤال آخر ، وهو كيف تخاطب النار وهي موجود غير عاقل فتردّ وتجيب على الخطاب!

ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث :

الاولى : إنّ هذا التعبير نوع من التشبيه وبيان لسان الحال! أي أنّ الله يسأل بلسان التكوين جهنّم وهي تجيب بلسان الحال ، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات المختلفة!

الثّانية : إنّ الدار الآخرة دار حياة واقعية ، فحتّى الموجودات المادية كالجنّة والنار يكون لها نوع من الإدراك ، والحياة والشعور ، فالجنّة تشتاق إلى المؤمنين ، وجهنّم تنتظر المجرمين.

وكما أنّ أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان ، فلا عجب أن تكون الجنّة والنار كذلك!

بل وحسب إعتقاد بعض المفسّرين إنّ ذرّات هذا العالم جميعها لها إدراك وإحساس خاصّ ، ولذلك فهي تسبّح الله وتحمده ، وقد أشارت إليه بعض آيات القرآن كالآية (٤٤) من سورة الإسراء(١) .

والثّالثة : إنّ المخاطبين هم خزنة النار وهم الذين يردون على هذا السؤال.

وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو!

* * *

__________________

(١) يراجع ذيل الآية ٤٤ من سورة الإسراء.

٤٧

الآيات

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) )

التّفسير

ادخلوا الجنّة أيّها المتّقون!

مع الالتفات إلى أنّ أبحاث هذه السورة يدور أغلبها حول محور المعاد والأمور التي تتعلّق به ، ومع ملاحظة أنّ الآيات آنفة الذكر تتحدّث عن كيفية إلقاء الكفّار المعاندين في نار جهنّم وما يلاقونه من عذاب شديد وبيان صفاتهم التي جرّتهم وساقتهم إلى نار جهنّم! ففي هذه الآيات محلّ البحث تصوير لمشهد آخر ، وهو دخول المتّقين الجنّة بمنتهى التكريم والتجلّة وإشارة إلى أنواع النعم في

٤٨

الجنّة ، كما أنّ هذه الآيات تبيّن صفات أهل الجنّة لتتّضح الحقائق أكثر بهذه المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنّة.

فتبدأ الآيات بالقول :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) .

«أزلفت» : من مادّة زلفى ـ على زنة كبرى ـ ومعناها القرب ، أي قرّبت.

والطريف هنا أنّ القرآن لا يقول : وقرّب المتّقين إلى الجنّة ، بل يقول وأزلفت أي وقرّبت الجنّة للمتّقين ، وهذا أمر لا يمكن أن يتصوّر تبعا للظروف الدنيوية وشروطها ، ولكن حيث إنّ الأصول الحاكمة على العالم الآخر تختلف اختلافا بالغا عمّا هي في هذه الدنيا ، فلا ينبغي التعجّب إطلاقا أن يقرّب الله الجنّة للمتّقين بمنتهى التكريم بدلا من أن يذهبوا هم إليها.

كما أنّنا نقرأ في الآيتين (٩٠) و٩١) من سورة الشعراء :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) .

وهذا منتهى اللطف الإلهي لعباده المؤمنين حيث لا يتصوّر فوقه لطف آخر!.

والتعبير بـ( غَيْرَ بَعِيدٍ ) (١) تأكيد على هذا المعنى أيضا.

وعلى كلّ حال ، فمفهوم الآية أنّ هذه القضيّة تقع في القيامة رغم أنّه عبّر عنها بالماضي «أزلفت» لكن الحوادث المستقبلية القطعية كثيرا ما يعبّر عنها بالماضي ـ لأنّ وقوعها سيتحقّق حتما ـ.

وقيل : إنّ إزلاف الجنّة للمتّقين يتحقّق في الدنيا ، لأنّه لا يفصلهم شيء عن الجنّة والتعبير بالماضي يراد به الماضي حقيقة. وعند الموت سيجدون أنفسهم في الجنّة. لكن مع ملاحظة الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدّث عن مشاهد القيامة يبدو أنّ هذا المعنى بعيد ، والمناسب هو التّفسير الأوّل.

ثمّ تبيّن الآيات أوصاف أهل الجنّة فتقول :( هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ

__________________

(١) غير بعيد فيها ثلاثة أوجه إعرابية ، فيحتمل أن تكون ظرفا ، كما يحتمل أن تكون حالا ، ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف تقديره إزلافا غير بعيد.

٤٩

حَفِيظٍ ) .

وقد أشير في هذه الآية إلى وصفين من أوصافهم وهما «أوّاب» «وحفيظ».

وكلمة «الأوّاب» : من مادّة [أوب] ـ على زنة ذوب ـ ومعناها العودة ، ولعلّها تعني التوبة عن الذنوب الكبيرة والصغيرة.

أو أنّها تعني العودة إلى الطاعة ، ومع ملاحظة أنّ هذه الصيغة هي للمبالغة فإنّها تدلّ على أنّ أهل الجنّة رجال متّقون بحيث إنّ أيّ عامل أو مؤثّر أراد أن يبعدهم عن طاعة الله فهم يلتفتون ويتذكّرون فيرجعون إلى طاعته فورا ، ويتوبون عن معاصيهم وغفلاتهم ليبلغوا مقام «النفس المطمئنة».

«الحفيظ» معناه الحافظ ، فما المراد منه؟ هل هو الحافظ لعهد الله إذ أخذه من بني آدم ألّا يعبدوا الشيطان كما ورد في الآية (٦٠) من سورة يس ، أم هو الحافظ لحدود الله وقوانينه أو الحافظ لذنوبه والمتذكّر لها ممّا يستلزم التوبة والجبران ، أو يعني جميع ما تقدّم من احتمالات؟

ومع ملاحظة أنّ هذا الحكم ورد بصورة مطلقة ، فإنّ التّفسير الأخير الجامع لهذه المعاني يبدو أقرب.

واستدامة لبيان هذه الأوصاف فإنّ الآية التالية تشير إلى وصفين آخرين منها ، وهما في الحقيقة بمثابة التوضيح والتّفسير لما سبق ذكره ، إذ تقول الآية :( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) .

عبارة( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ) إشارة إلى أنّهم رغم عدم رؤيتهم الله بأعينهم ، إلّا أنّهم يؤمنون به عن طريق آثاره والاستدلال بها. فيؤمنون إيمانا مقرونا بالإحساس بتحمّل المسؤولية.

ويحتمل أنّ المراد من «الغيب» هو ما غاب عن أعين الناس ، أي أنّهم لا يرتكبون الإثم لا بمرأى من الناس ولا في خلوتهم وابتعادهم عنهم.

وهذا الخوف «أو الخشية» يكون سببا للإنابة ، فيكون قلبهم متوجّها إلى الله

٥٠

ويقبل على طاعته دائما ويتوب من كلّ ذنب ، وأن يواصلوا هذه الحالة حتّى نهاية العمر ويردّوا عرصات المحشر على هذه الكيفية!.

ثمّ تضيف الآية الاخرى بأنّ أولئك الذين يتمتّعون بالصفات الأربع هذه حين تتلقّاهم الملائكة عند أبواب الجنّة يقولون لهم بنهاية التجلّة والإكرام( ادْخُلُوها بِسَلامٍ ) .

«السلام» من كلّ أنواع الأذى والسوء والعذاب والمعاقبة ، السلامة الكاملة في لباس الصحّة والعافية.

ولطمأنتهم يضاف أنّ ذلك اليوم يوم الدعّة و( ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) .

وإضافة لهاتين البشارتين بشرى الدخول بسلام ، وبشرى الخلود في الجنّة ، يبشّرهم الله بشريين أخريين بحيث تكون مجموع البشريات أربعا كما أنّهم يتّصفون بأربع صفات يقول :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) .

وإضافة إلى كلّ ذلك فإنّه( لَدَيْنا مَزِيدٌ ) من النعم التي لم تخطر ببال أحد.

ولا يمكن أن يتصوّر تعبير أبلغ من هذا التعبير وأوقع منه في النفس ، إذ يقول القرآن أوّلا :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) على سعة معنى العبارة وما تحمله من مفهوم إذ لا استثناء فيها ، ثمّ يضاف عليها المزيد من قبل الله ما لم يخطر بقلب أحد ، حيث أنّ الله الذي أنعم على المتّقين فشملهم بألطافه الخاصّة وهم يتنعمّون فيها ، وهكذا فإنّ نعم الجنّة ومواهبها ذات أبعاد واسعة لا يمكن أن توصف بأيّ بيان.

كما يستفاد من هذا التعبير ضمنا أنّه لا مقايسة بين أعمال المؤمنين وثواب الله ، بل هو أعلى وأسمى منها كثيرا ، والجميع في يوم القيامة يواجهون فضله أو عدله! ونجازى بعدله!

وبعد الانتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنّة وأهل النار ودرجاتهما ، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والاستنتاج فيقول :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء

٥١

وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها ، إلّا أنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم فهل وجدوا منفذا ومخرجا للخلاص من الموت والعذاب الإلهي( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) ؟!

«القرن» و «الاقتران» في الأصل هو «القرب» أو «الاقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء ، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة ، ويجمع على «قرون» ثمّ أطلق هذا اللفظ على فترة من الزمن حيث يطلق على ثلاثين سنة أحيانا كما يطلق على مائة سنة أيضا ، فإهلاك القرون معناه إهلاك الأمم السابقة.

و «البطش» معناه حمل الشيء وأخذه بالقوّة والقدرة ، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.

و «نقّبوا» : فعل من مادّة نقب ، ومعناه الثقب في الجدار أو الجلد ، غير أنّ الثقب يطلق على ما يقع في الخشب ، والنقب معناه أعمّ وأوسع.

وهذه المفردة إذا استعملت كفعل كما هو في الآية فيعني ذلك الحركة والسير وشقّ الطريق ، كما يعني السيطرة على البلدان والنفوذ فيها أيضا.

«المنقبة» : من المادّة ذاتها ، وتطلق على الصفات البارزة في الشخص وأفعاله الكريمة التي لها تأثير ونفوذ في نفوس الآخرين ، أو أنّها تشقّ له الطريق في الارتفاء والسمو!

و «النقيب» : هو من يبحث عن أحوال جماعة ما ويطّلع على أخبارهم وينفذ في أنفسهم.

و «المحيص» : كلمة مشتقّة من الحيص على زنة «الحيف» ، ومعناها الانحراف والعدول عن الشيء ، ومن هنا فقد استعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة!.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية تنذر الكفّار المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للاعتبار ، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين

٥٢

.. الذين كانوا امما وأقواما أشدّ من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضا» وهذا المعنى ورد مرارا في القرآن منها الآية ٨ من سورة الزخرف إذ نقرأ قوله تعالى :( فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ) .

ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية محلّ البحث تشير إلى «ثمود» هذه الطائفة التي كانت تسكن مناطق جبلية تدعى «بالحجر» وتقع شمال الحجاز ، فكانت تقطنها وتنقّب في الجبال وتحفر صخورها فتصنع منها القصور الرائعة ، غير أنّ ظاهر النصّ أنّ هذه الآية مفهومها واسع ، فيشمل هؤلاء وغيرهم أيضا.

أمّا جملة( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) فيحتمل أن تكون سؤالا على لسان الكفّار السابقين حين أحدق بهم العذاب ، فكانوا يسألون : هل من فرار ومحيص عنه ، كما يحتمل أن يكون سؤالا من قبل الله للكفّار المعاصرين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أي هل استطاع من كان قبلكم من الكفرة الفرار من قبضة العذاب؟ أو هل يستطيع من يعاند النّبي أن يهرب من مثل هذا لو أحدق به؟!

ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكّدا أكثر فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) .

والمراد بـ «القلب» هنا وفي الآيات الآخر من القرآن التي تتكلّم على إدراك المسائل هو العقل والشعور والإدراك ، كما أنّ كتب اللغة تشير إلى أنّ واحدا من معاني القلب هو العقل ، أمّا الراغب فقد فسّر القلب في الآية محلّ البحث بالعلم والفهم ، كما نقرأ في لسان العرب أنّ القلب قد يطلق على العقل أيضا(١) .

كما ورد في تفسير عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام لهذه الآية أنّه قال : إنّ القلب هو العقل(٢) .

والجذر اللغوي لكلمة «قلب» في الأصل : التغيير والتحوّل ، واصطلاحا معناه

__________________

(١) لسان العرب مادّة القلب. [ق لـ ب].

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ـ كتاب العقل والجهل ، الحديث ١١.

٥٣

الانقلاب ، وحيث أنّ فكر الإنسان أو عقله في تقلّب دائم وفي حال مختلفة فقد أطلقت عليه كلمة «القلب» ولذلك فإنّ القرآن يعوّل على اطمئنان القلب والسكينة فيقول :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) كما يقول في آية اخرى :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ،(٢) أجل إنّما يهدّئ هذا الموجود المضطرب ذكر الله فحسب.

أمّا( أَلْقَى السَّمْعَ ) فكناية عن الإصغاء ومنتهى الاستماع بدقّة ، وهناك تعبير في العرف يشبه هذا التعبير يقول «اذني معك» أي إنّني أصغي إليك بدقّة! و «الشهيد» يطلق على من هو حاضر القلب ، أو كما يقال قلبه في المجلس وهو يتابع المسائل بدقّة!.

وهكذا فإنّ مضمون الآية بمجموعة يعني ما يلي : إنّ هناك فريقين ينتفعان بهذه المواعظ والنصيحة فالفريق الأوّل من يتمتّع بالذكاء والعقل ويستطيع بنفسه أن يحلّل المسائل بفكره!

أمّا الفريق الآخر فليس بهذا المستوى ، إلّا أنّه يمكن أن يلقي السمع للعلماء ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.

ويشبه هذا التعبير ما نقرؤه في الآية ١٠ من سورة الملك على لسان أهل النار ، إذ ورد هكذا :( وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) !

لأنّ علائم الحقّ واضحة ، فأهل التحقيق يعرفونها جيّدا ومن لم يكن كذلك فيستطيع أن يعرفها عن طريق إرشاد المخلصين من العلماء.

فعلى هذا يجب أن يتمتّع الإنسان بعقل كاف وعلم واف أو يتمتّع بإذن واعية(٣) .

* * *

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية ٤.

(٢) سورة الرعد ، الآية ٢٨.

(٣) لاحظوا أنّ الآيتين عطفت الموضوعين «بأو» وهذا يدلّ على أنّ واحدا منهما على الأقل ضروري للإنسان!

٥٤

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) )

التّفسير

خالق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى :

تعقيبا على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعدّدة في شأن المعاد ، تشير الآيات محلّ البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد ثمّ تأمر النّبي بالصبر والاستقامة والتسبيح بحمد الله ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه ، فتقول الآية الاولى من هذه الآيات :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) .

«اللغوب» بمعنى «التعب» وبديهي أنّ من لديه قدرة محدودة وأراد أن يعمل عملا فوق طاقته وقدرته فإنّه يتعب ويناله اللغوب والنصب ، إلا أنّ من كان ذا قدرة لا نهاية لها ، وقوّة لا حدّ لها فإنّ التعب والنصب واللغوب لا تعني شيئا لديه فعلى

٥٥

هذا من كان قادرا على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعا ، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يلبسه ثوبا جديدا من الحياة.

بعض المفسّرين ذكر في شأن نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام «ستّة أيّام من أيّام الأسبوع»! ثمّ استراح في اليوم السابع «السبت» فوضع رجلا على رجل اخرى!! وهكذا فإنّهم يرون أنّ الجلوس على هذه الشاكلة غير لائق ، وأنّه خاصّ بالله ، فنزلت الآية آنفة الذكر وحسمت الكلام في مثل هذه الخرافات المضحكة(١) !

إلّا أنّ هذا الشأن لا يمنع من أن يتابع مسألة إمكان المعاد في الوقت الذي هو دليل على توحيد الله وقدرته وعلمه ، إذ خلق السماوات والأرض بما فيهما من عجائب و (ملايين) الأحياء والأسرار المذهلة ونظمها الخاصّة بحيث أنّ التفكّر في زاوية واحدة من هذا الخلق يسوقنا إلى الخالق الذي حرّكت يد قدرته هذه الكواكب ونثرت نور الحياة في كلّ مكان ليكون دليلا عليه.

وقد تكرّر موضوع خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام في آيات متعدّدة من القرآن(٢) .

وكلمة «يوم» يراد منها الفترة الزمنية لا بمعنى أربع وعشرين ساعة أو اثنتي عشرة ساعة ، كأن نقول «كان الناس يعيشون في ظلّ النّبي يوما ، وسلّط عليهم بنو اميّة يوما وبنو العبّاس يوما آخر! إلخ».

وواضح أنّ كلمة «اليوم» في هذه التعبيرات وأمثالها يراد منها الفترة الزمانية سواء كانت سنّة أو شهرا أو جيلا أو آلاف السنين فنقول مثلا : كانت الكرة

__________________

(١) راجع تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١١٠.

(٢) راجع سورة الأعراف الآية ٥٤ ، سورة يونس الآية ٣ ، سورة هود الآية ٧ ، سورة السجدة الآية ٤ ، الحديد الآية ٤ ، الفرقان الآية ٥٩.

٥٦

الأرضية قطعة متلهّبة يوما ، وبردت يوما فغدت مهيّأة للحياة ، فجميع هذه التعبيرات تشير إلى الفترات الزمنية.

فيستفاد من التعبيرات الواردة في الآية آنفة الذكر أنّ الله خلق جميع السماوات والأرض والموجودات الاخرى في ستّ مراحل أو ستّ فترات زمانية. «وتفصيل هذا الكلام مبيّن في ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف فلا بأس بمراجعته».

إذا ، لا يبقى مجال للسّؤال بأنّه لم يكن قبل خلق السماء والأرض ليل أو نهار فكيف خلقتهما في ستّة أيّام؟!

وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعدّدة فإنّ القرآن يخاطب النّبي ويأمره بالصبر ـ لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحقّ وتصرّ على الباطل فيقول :( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) إذ بالصبر والاستقامة ـ وحدهما ـ يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.

وحيث أنّ الصبر والاستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد ، فخير دعامة لهما ذكر الله والارتباط بالمبدأ ـ مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم ـ لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيبا على الأمر بالصبر قائلا :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ).

وكذلك :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) .

فهذا الذكر والتسبيح والمستمر ينصبّ على صعيد قلبك كانصباب الغيث على الأرض ليهبها الحياة ويسقيها الرواء ، فالتسبيح أيضا يلهم قلبك النشاط والاستقامة بوجه الأعداء المعاندين.

وهناك أقوال مختلفة بين المفسّرين في المراد من «التسبيح» في الأوقات الأربعة «قبل طلوع الشمس وبعد الغروب ومن الليل وأدبار السجود!».

فبعضهم يعتقد أنّ المراد من هذه التعبيرات هو الصلوات الخمس اليومية

٥٧

وبعضا من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي.

فـ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) إشارة إلى صلاة الصبح ، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.

وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.

أمّا قوله :( وَمِنَ اللَّيْلِ ) فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله :( وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب ، وقال ابن عبّاس بهذا التّفسير ـ مع هذا القيد ـ وهو أنّ المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدّى بعد الفرائض ولكن حيث أنّا نعتقد بأنّ ما يؤدّى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما نافلة المغرب ونافلة العشاء فحسب ، فلا يصحّ هذا التعميم آنفا.

كما فسّر بعضهم قوله «قبل طلوع الشمس» بصلاة الصبح ، «وقبل الغروب» بصلاة العصر ، «ومن الليل فسبّحه» بصلاتي المغرب والعشاء ، فلم يذكروا شيئا عن صلاة الظهر هنا ، وهذا دليل على ضعف هذا التّفسير.

ونقرأ في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام الصادق أنّه حين سئل عن الآية :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) قالعليه‌السلام : «تقول حين تصبح وتمسي عشر مرّات لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير»(١) .

ولا يتنافى هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ويمكن أن يجتمعا في الآية معا.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو ورود نظير هذا المعنى باختلاف يسير في الآية (١٣٠) من سورة طه أيضا إذ تقول الآية :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) .

__________________

(١) مجمع البيان ـ ذيل الآيات محلّ البحث ـ.

٥٨

جملة «لعلّك ترضى» ـ تدلّ على أنّ لهذا التسبيح والذكر في هذه الأوقات أثرا مهمّا في اطمئنان القلب ورضا الخاطر ، إذ يمنح القلب قوّة وشدّة بوجه الحوادث.

وهناك لطيفة تسترعي النظر وهي أنّ الآية (٤٩) من سورة الطور تقول هكذا :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) (١) .

وقد ورد في حديث عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال : «المراد بـ( أَدْبارَ السُّجُودِ ) ركعتا نافلة تؤدّيان بعد صلاة المغرب «ينبغي الالتفات إلى أنّ نافلة المغرب أربع ركعات وقد أشير إلى إثنين منهما هنا فحسب» وإدبار النجوم ركعتا نافلة الصبح إذ تؤدّيان عند غروب النجوم وتفرّقها وقبل صلاة الصبح»(٢) .

كما ورد في رواية اخرى أنّ المراد من «ادبار السجود» هو نافلة الوتر التي تؤدّى آخر الليل(٣) .

وعلى كلّ حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب من الجميع وأكثر تناسبا وإن كان مفهوم التسبيح وسعته شاملا لكثير من التفاسير المشار إليها في الرّوايات آنفا.

* * *

ملاحظة

الصبر مفتاح لكلّ فلاح :

لم يكن تعويل القرآن واعتماده على الصبر بوجه المشاكل لأوّل مرّة هنا فحسب ، فطالما أمر النّبي والمؤمنون عامّة في الآيات مرارا بالصبر وأكّد على هذا

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ إدبار هنا جاءت بالكسر على زنة «إقبال» أمّا في الآية محلّ البحث فجاءت أدبار بفتح الهمزة على زنة أفكار ، وهي هنا جمع دبر ومعناه العقب ، فيكون المعنى في أدبار السجود أي بعد كلّ سجدة ، وأمّا معنى إدبار النجوم أي عند تفرّق النجوم.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية محلّ البحث ـ.

(٣) المصدر آنف الذكر.

٥٩

الموضوع كما أنّ التجارب تدلّ على أنّ النصر والغلبة من نصيب أولئك الذين تمتّعوا بالصبر والاستقامة.

ففي حديث عن الإمام الصادق أنّه أمر بعض أصحابه «ولعلّه كان لا يطيق بعض الظروف الصعبة في ذلك الزمان» : «عليك بالصبر في جميع أمورك. ثمّ قالعليه‌السلام إنّ الله بعث محمّدا وأمره بالصبر والمداراة فصبر حتّى نسبوا إليه ما لا يليق فضاق صدره فأنزل الله عليه الآية :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) .

فصبر فكذّبوه أيضا ، ورشقوه بنبال التّهم من كلّ جانب فحزن وتأثّر لذلك ، فأنزل الله عليه تسلية قوله :( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ) .

ثمّ يضيف الإمامعليه‌السلام أنّ النّبي واصل صبره إلّا أنّهم تجاوزوا الحدّ فكذّبوا الله فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي فأنزل اللهعزوجل :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) أي خلقنا السماوات والأرض في عدّة فترات ولم نعجل ولم يمسّنا تعب ونصب ، فعليك أن تصبر ، فصبر النّبي في جميع أحواله ما كان يواجهه حتّى انتصر على أعدائه»(١) .

* * *

__________________

(١) راجع اصول الكافي ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151