أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين0%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف: السيد محمد الصدر
تصنيف:

الصفحات: 250
المشاهدات: 111097
تحميل: 14273

توضيحات:

أضواء على ثورة الحسين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111097 / تحميل: 14273
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

وفي هذا السبيل، أيضاً رويَ عن زينب العقيلة بنت عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّها بعد المقتل وضَعت يديها تحت الجثمان وقالت:(اللهمّ تَقبّل مِنّا هذا القربان) (١) ، وفي بعض الروايات:(هذا القربان القليل) (٢) ، يعني: القليل مهما كان شريفاً وعظيماً أمام عَظمة الله اللامتناهية وأمام استحقاقه اللامتناهي للتضحية والفداء، يبقى قليلاً.

إذاً فالمسألةُ الأهمّ من كلّ شيء هي: أهميّة التوجّه إلى الله والتضحية في سبيله، وتطبيق طاعته والحصول على رضوانه بكلّ صورة مهما كانت الوسائط ومهما كانت النتائج، وهذا هدفٌ صحيح قد تحقّق فعلاً، وقد عَرَفت الأجيال ذلك بكلّ وضوح.

وقد يخطر في البال عن قول زينب سلام الله عليها:(اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان) ، أنّ قولها (منّا) ليس بصحيح؛ لأنّه وإن كان قرباناً عظيماً إلاّ أنّه إنّما قدّمهُ الحسين نفسه، وليس لأحدٍ آخر أن يُقدّمه، بل لا معنى لذلك؛

____________________

(١) الكبريت الأحمر: ج٣، ص١٣ عن الطراز المذهّب.

(٢) نفس المصدر.

١٠١

لأنّ التضحية الحقيقيّة والألم الحقيقي لم يتحمّله غيره ولم يشعر به غيره، فما تفسير كلامها سلام الله عليها؟

جوابُ ذلك: إنّ التضحية العظيمة من هذا القبيل، أو أيّة تضحية أخرى مهمّة، لا تكون ذات مستوى واحد، بل على مستويات متعدّدة؛ لأنّ انطباعها في نفس صاحبها وفي نفوس الآخرين يكون متعدّداً لا محالة، وفي حدود ما نستطيع أن نستفيد منه هنا من المستويات نذكر ثلاثة منها:

المستوى الأوّل: التضحية بمعنى تحمّل الألم والجروح والقتل والصبر عليه طواعية، وهذا المستوى خاصّ بصاحب التضحية، ولا يمكن أن يكون شاملاً لغيره كما قال السائل.

المستوى الثاني: التضحية بمعنى الإعانة لصاحب التضحية بكلّ ما يمكن من جهدٍ وجهاد، وتحمّل كلّ بلاء في سبيله، مضافاً إلى تحمّل فراقه كشخص محبوب أُسريّاً ودينيّاً واجتماعيّاً، وتحمّل الحرمان عن فوائده وتوجيهاته ولطفه.

وهذا المستوى خاصّ بمَن كان مع الحسينعليه‌السلام ، من الركب المعاوِن له في الحياة والموافِق له في الأهداف، فإنّهم رجالاً ونساءً وشيباً وشُبّاناً، أتعَبوا أنفسهم في سبيله تماماً، وتحمّلوا شظفَ(١) العيش وبلاء الدنيا لأجل رضاه الذي يكون سبباً لرضاء الله عزّ وجل، كما قال:(رضا الله رضانا أهل البيت) (٢) ، ومن هذه الناحية وعلى هذا المستوى كانت التضحية تشملهم، فكأنّهم هم اللذين رفعوا الحسينعليه‌السلام قرباناً لله عزّ وجل.

ولا شكّ أنّ العقيلة زينب سلام الله عليها بنت عليعليه‌السلام ، من ذلك الرَكب المضّحي في سبيل الحسينعليه‌السلام ، ولعلّها أهمّ النساء الموجودات فيه على الإطلاق.

____________________

(١) شَظفَ: شظفَ الرجل شَظفاً، كان عيشهُ ضيّقاً وشديداً ويابساً فيقال: شظفَ العيش (أقربُ الموارد: ج١، ص٥٢٩).

(٢) الخوارزمي: ج٢، ص٥، اللهوف: ص٢٦، كشفُ الغُمّة للإربلي: ج٢، ص٢٤١.

١٠٢

ومن هنا صحّ لها أن تدعو وتقول:(اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان) .

المستوى الثالث: الموافقة مع الحسينعليه‌السلام نفسيّاً وقلبيّاً وعاطفيّاً، وبالتالي الموافقة الحقيقيّة على عَمل الحسينعليه‌السلام وتضحيته، وعلى هدف الحسينعليه‌السلام ورسالته، حتّى أنّ الفرد المحبّ له يحسّ كأنّه أعطى قطعة من قلبه أو كبده، وأنّها قُتلت فعلاً بمقتل الحسينعليه‌السلام ، وأنّهُ - أعني المحبّ - وإن كان حيّاً يُرزق في هذه الدنيا وفي كلّ جيل، إلاّ أنّ التضحية تضحيّته والعمل عمله.

ويكفينا من ذلك ما وردَ:(إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى) (١) ،(إنّ نيّة المؤمن خيرٌ من عَمله) (٢) ، وما ورد:(إنّ الراضي بفعل قوم كفاعله) (٣) ، وما وردَ:(إنّ الفرد يُحشر مع مَن يُحبّ) (٤) ، إلى غير ذلك من المضامين التي تجعل التضحية التي قام بها الحسينعليه‌السلام ، منتشرة فعلاً لدى كلّ محبّيه والمتعاطفين معه على مدى الأجيال، وإنّ كلّ واحدٍ منهم يستطيع أن يقول:

اللهمّ تَقبّل منّا هذا القربان، وليس العقيلة زينب فقط.

وقد يخطر في البال في حدود هذه التضحيات المشار إليها: أنّ الأجيال كلّها يجب أن تكون مثل الحسينعليه‌السلام في تضحيّته الجسيمة وفعلته الكريمة.

____________________

(١) إسعاف الراغبين للشيخ محمد صبّان على هامش نور الأبصار للشبلنجي: ص٧٦، مُنية المريد للشهيد الثاني: ص٤٢، جامع السعادات: ج٣، ص١١٢.

(٢) مصباحُ الشريعة: ص٥، مُنية المريد للشهيد الثاني: ص٤٣، جامع السعادات: ج٣، ص١١٨.

(٣) عيون أخبار الرضا للصدوق: ج١، ص٢٧٣، نهج البلاغة: خطبة ١٠٤، وفيها يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :(الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم وعلى كلّ داخلٍ في باطل إثمان: إثمُ العمل به، وإثم الرضا به) .

(٤) الكافي: ج٨، ص٨٠، حديث ٣٥ بتصرّف، أمالي الطوسي: المجلّد الثاني، ص٢٤٥ مجلس يوم الجمعة ٢ رجب.

١٠٣

فتضحّي بالنفس والنفيس في سبيل الأهداف التي قُتل لأجلها الحسينعليه‌السلام .

وجوابُ ذلك: إنّ الأمر ليس كذلك باستمرار، وإنّما قد يحصل ذلك أحياناً قليلة، ولا يحصل ذلك أحياناً كثيرة، وكلّ فردٍ يجب أن يَحسب حساب تكليفه الشرعي أمام الله عزّ وجل، ونشير فيما يلي أنّ التكليف الشرعي كثيراً ما لا يقتضي ذلك، على عدّة مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ التضحية التي أرادها الحسينعليه‌السلام واستهدفَ حصولها - وقد حَصلت فعلاً - هي من الأهميّة والعظمة بحيث لا تكون مقدورة لأحد إطلاقاً، وإنْ زَعم الزاعم لنفسه أنّه يتحمّلها، إلاّ أنّه يَخدع نفسه لا محالة، يكفي في ذلك أنّه (سلام الله عليه) معصوم، وأعمال المعصومين بلا شكّ فوق طاقة الأفراد الاعتياديين مهما تصاعدوا في درجات الإيمان والإخلاص.

ومن هذا القبيل: ما قالهُ أمير المؤمنينعليه‌السلام عن زهده:(ألا وإنّكم لا تقدرونَ على ذلك ولكن أعينوني - يعني على أنفسكم الأمّارة بالسوء -بورعٍ واجتهاد. ..... إلى آخر ما قالهُ)(١) .

المستوى الثاني: إنّه لو كانت تضحيات الحسينعليه‌السلام واجبة على الأجيال بعده، لكانَ أولى مَن يقوم بها أولاده المعصومونعليهم‌السلام ، مع العلم أنّه لم يفعل ذلك ولا واحد منهم.

إذاً، فلماذا يجب أن يكون تكليفنا في الأجيال المتأخّرة مثل تكليفه ولا يكون مثل تكليف وعمل أولاده، مع أنّهم جميعاً معصومون، يكفي أنّنا يمكن أن نأخذ بعمل العدد الأكثر من المعصومين وهو الهدوء وليس الثورة، فإنّ أولادهُ المعصومين تسعة وهو واحد.

المستوى الثالث: إنّ الأصوب والأحجى لكلّ جيل: هو أن يَنظر إلى تكليفه الشرعي أمام الله سبحانه،

____________________

(١) نهج البلاغة: شرح ابن أبي الحديد، كتاب ٤٥، ج ١٦، ص٢٠٥.

١٠٤

هل هو التضحية أو التقيّة؟ ولا شكّ أنّ التكليف الغالب في عصورنا هذه، عصور الغيبة الكبرى هو: التقيّة وليس التضحية؛ لمدى تألّب الأعداء وترصّدهم في العالَم ضدّنا من كلّ صوبٍ وحَدب، بدون وجود طاقة فعليّة عند ذوي الإخلاص لمقابلتهم ومضادّتهم، ومَن تخيّل هذه القابليّة، فهو متوهِّم سوف يُثبت لهُ الدهر أعني بالتجربة وهمّته، والأفضل لهُ هو العمل بالتكليف الفعلي، وهو التقيّة المنتجة لحفظ أهل الحقّ من الهلاك المحقّق في أيّ نقطة من نقاط هذا العالَم المعروف.

الهدف الثامن: المحتَمل لحركة الحسينعليه‌السلام ، ما يذكرهُ بعض الناس، أو طبقة من الناس: من أنّ الحسينعليه‌السلام قُتل من أجل إقامة المأتم عليه والبكاء عليه، فإنّها من الشعائر الدينيّة المهمّة، التي توجِب هداية الكثير من الباطل إلى الحقّ.

ويمكن أن يُستدلّ على ذلك بما وردَ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّ لولَدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تخمُد إلى يوم القيامة) (١) ، وهذه الحرارة أمرٌ وجداني قائم فعلاً يحسّ بها الفرد المحبّ للحسين في قلبه، وهي التي تدفعهُ إلى التعب في هذا الطريق.

ونتكلّم عن هذا الهدف ضمن المستويات التالية:

المستوى الأوّل: إنّه ينبغي أن يكون واضحاً أنّ هذا الهدف بمجرّده لا يصلح أن يكون هدفاً لكلّ تلك التضحيات التي قام بها الحسينعليه‌السلام ، إلاّ إذا اندرجت تحت عنوان أهمّ وأعمّ، وهو طاعة الله سبحانه، أو هداية الناس، أو الأجيال لهذه الطاعة، أو التضحية في سبيل عقيدة التوحيد، كما أسلفنا ونحو ذلك، ممّا تكون الشعائر والمآتم مصداقاً لها وتطبيقاً لها، وليس النظر إليها نظراً مستقلاً عن غيرها.

____________________

(١) مستدرك الوسائل: ج٢، ص٢١٧، الكافي للكليني: ج٨، ص٢٠٦.

١٠٥

وهذا ما سيتّضح أكثر من المستويات التالية بعونه سبحانه.

المستوى الثاني: إنّني أعتقدُ أنّ الله سبحانه جَعل بإزاء تضحية الحسينعليه‌السلام نوعين مهمّين من الثواب لا نوعاً واحداً،أحدهما: الثواب الأخروي ، وهو المشار إليه بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الرواية:(إنّ لك في الجنّة لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة) (١) .

وثانيهما: الثواب الدنيوي : وهي عدّة أمور يسّرها الله سبحانه وتعالى خلال الأعوام والأجيال المتأخّرة عن مقتله (سلام الله عليه)، وأعتقدُ أنّه جلّ جلاله إنّما يسّرها لمصلحة الأجيال، وإلاّ فإنّ الحسينعليه‌السلام أجَلّ مِن أن تنالهُ الفائدة منها بقليلٍ ولا بكثير، وإن كنّا نقول: إنّها تصلح أن تكون جزاءً له على التضحية لمدى أهميّتها البالغة كما سنعرف، إلاّ أنّها دنيويّة أي حاصلة في الدنيا، والحسينعليه‌السلام لم يقصد في تضحيته أيّ شيء من أمور الدنيا ممّا قلّ أو كثُر يقيناً، وإنّما حَصلت لأجل مصلحة هداية الآخرين لا أكثر، ونستطيع أن نعدّ منها الأمور التالية:

الأمرُ الأوّل: إنّ الإمامة في ذريّته لا في ذريّة الحسن أخيهعليه‌السلام .

الأمرُ الثاني: حُسن الظنّ به خلال الأجيال ابتداء من قاتليه أنفسهم إلى الأجيال المتأخّرة عنه إلى يوم القيامة، حتّى في ضمائر الأعداء وغير المسلمين، ولذا نسمع قاتلهُ يقول للحاكم الأموي بعد انتهاء الواقعة على ما ورد:

املأ ركابي فضّةً أو ذَهباً

إنّي قتلتُ السيّد المحجّبا

قتلتُ خيرَ الناس أُمّاً وأباً(٢)

____________________

(١) أمالي الصدوق: مجلس ٣٠، ص١٣٥، الخوارزمي: ج١، ص١٨٥، البحار: ج٤٤، ص٣٢٨.

(٢) العقد الفريد: ج٤، ص٣٨١، تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٦١، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٩٦، كشف الغمّة للإربلي: ج٢، ص٢٦٣، مقتل الخوارزمي: ج٢، ص٤٠، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٥٦.

١٠٦

____________________

وقد اختلف المؤرِّخون في قائل الأبيات وبالتالي في قاتل الحسينعليه‌السلام ، ومَن الذين ذَكرهم المؤرّخون في قتل الحسينعليه‌السلام (كما أحصاهم باقر شريف القرشي في حياة الإمام الحسين ج٣) هم:

أوّلاً: سنان بن أنس، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٩٥، مقاتل الطالبيين، اللهوف لابن طاووس، البداية والنهاية: ج٨، ص٨٨ وفيه يقول الشاعر:

وأيّ رزيّةٍ عَدلت حسيناً

غداة يُثيره كفّ سِناني

الاستيعاب: ج١، ص٣٧٩.

ثانياً: شِمر بن ذي الجوشن، الخوارزمي: ج٢، ص٣٦، البحار للمجلسي: ج٤٥، ص٥٦.

ثالثاً: عُمر بن سعد، خُطط المقريزي: ج٢، ص٢٦٨، مناقب ابن شهرآشوب: ج٥، ص١١٩.

رابعاً: خولي بن يزيد الأصبحي، دُرر الإبكار في وصف الصفوة الأخيار: ص٣٨، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٥٩، الفتوح لابن أعثم: ج٥ص٢١٨.

خامساً: شبل بن يزيد الأصبحي، تاريخ الخميس: ج٢، ص٣٣٣، الأخبار الطوال للدينوري: ص٢٣١، حيث قيل إنّ خولي بن يزيد الأصبحي نزلَ عن فرسه ليحتزّ رأس الإمامعليه‌السلام ، فارتَعدت يداه فنزل إليه أخوه شبل، فاحتزّ رأسه ودفعهُ لأخيه.

سادساً: الحُصين بن نمير، المعجم الكبير للطبراني، الإفادة في تاريخ الأئمّة السادة.

سابعاً: رجل من مُذحج، تهذيب التهديب: لابن حجر ج٢، ص٣٥٣ (وقد انفرد بنقله).

ثامناً: المهاجر بن أوس، نصّ على ذلك السبط بن الجوزي ولم يذكرهُ غيره (مرآة الزمان في تاريخ الأعيان).

أقول: والراجح في هذه الأقوال كلّها أنّ قاتل الحسين عليه‌السلام هو: الشِمر بن ذي الجوشن (لعنهُ الله)؛ وذلك لعدّة مرجّحات منها: إنّ الزيارة القائميّة صريحة به، وهي زيارة الناحية والواردة عن الإمام الحجّة (عجّل الله فرجهُ) والتي يقول فيها: (فلمّا رأت النساء جَوادكَ مخزيّاً نظرنَ سَرجك عليه ملويّا.... وإلى مصرعكَ مبادرات، والشمرُ جالسٌ على صدرك واضعاً سيفه على نحرك، قابض على شيبتك بيده، ذابح لك بمهنّده..... إلخ) (مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي: ص٤٥٦).

١٠٧

____________________

وهكذا جملة من الروايات المعتبرة، ومع ذلك لا شكّ في أنّ خولي بن يزيد الأصبحي وسنان بن أنس (لعنهما الله)، ممّن لهُ مدخليّة في قتل الحسينعليه‌السلام ، لذلك قال بعض العلماء: إنّ القاتل كان ثلاثتهم حيث ذَكر البعض أنّ هؤلاء الثلاثة عندما قَدِموا إلى عمر بن سعد ومعهم رأس الحسينعليه‌السلام قال خولي: أنا ضربتهُ بسهم فأرديته عن جواده إلى الأرض، وسنان يقول: أنا ضربتهُ بالسيف ففلقتُ هامتهُ، والشمر يقول: أنا أبنتُ رأسه عن بدنه (أسرار الشهادة للدربندي: ص٤٢٧).

١٠٨

الأمرُ الثالث: تأثير تضحيتهُ الجسيمة في هداية الناس وتكاملهم إيماناً، كلّ حسب استحقاقه، في أيّ مكانٍ وزمان وجِد الفرد إلى يوم القيامة، ومهما كانت نقطة بدايته، حتّى لو كان كافراً، بل حتّى لو كان معانداً أحياناً.

الأمرُ الرابع: هذه الحرارة التي في قلوب المؤمنين من محبّيه، والتي أشرنا إليها فيما سبق، والتي أوجَبت تزايد ذكراه وتزايد اللوعة على ما أدّاه من تضحيات وما عاناه من بلاء.

الأمرُ الخامس: إنّ ذِكر أيّ معصوم غير الحَسنعليه‌السلام بما فيهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليعليه‌السلام ، في أيّ مجلسٍ من مجالس محبّيه، وفي أيّ مناسبة للحديث سواء كانت مأتماً، أو خطبة، أو موعظة أو غيرها؛ فإنّها لا تكاد تكون تامّة ولا مُرضية للقلوب ما لم تقترن بذكر الحسينعليه‌السلام ، والتألّم لمصابه.

الأمرُ السادس: البكاء عليه لدى محبّيه جيلاً بعد جيل وإقامته المآتم والشعائر عليه (سلام الله عليه)، وهذا هو الذي ذَكرهُ بعض الناس كهدفٍ مستقل كما ذكرنا، وهو إنّما يصحّ كنتيجة طبيعيّة وفّقَ الله سبحانه وتعالى محبّيه إليها لأجل مصلحتهم وهدايتهم، وسنتكلّم عنها في المستوى الآتي من الحديث بعونه سبحانه لنفهمها بشكلٍ واضح.

المستوى الثالث: الحديث عن البكاء عليه وإقامة المآتم لذكرى مُصابه، وهنا ينبغي لنا أن نقول: إنّ في قضيّة الحسينعليه‌السلام جانبَين مهمّين لا يكاد أحدهما أن يكون أقلّ أهميّة من الآخر:

الجانبُ الأوّل: جانب النعمة والرحمة، بهذا التوفيق الإلهي العظيم للحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته، بهذه المقامات وهذا الثواب الجزيل والعطاء الهني، وهذا الجانب يقتضي الفرح والاستبشار لا الحُزن والتألّم، بل كلّما كان البلاء الدُنيوي أكثر، كان الثواب الأخروي والتقرّب الإلهي أكثر، فيكون الاستبشار أكثر.

١٠٩

وهذا ما وردَ عن أصحابه المقاتلينَ معهُ أنّه قال أحدهم:(عمّا قليل سنُعانق الحوَر العين) (١) .

وقال آخر:(ليس بيننا وبين الجنّة إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم) (٢) ، وهم يَعلمون أنّهم سيُعانون الجَرح والقتل والبلاء الصارم، ومن ذلك قول الشاعر يصف العبّاسعليه‌السلام أخو الحسين، وقد حاربَ معه وأبلى بلاءً حسناً وعظيماً قال الشاعر:

عَبَست وجوهُ القوم خوفَ الموت

والعبّاسُ فيهم ضاحكٌ يتبسّم(٣)

ومنه قول عليّ بن الحسين الأكبر فيما وردَ عنه:(لا نُبالي أوَقَعنا على الموت أم وقَعَ الموت علينا) (٤) ، يعني: ما دُمنا على الحقّ كما ورد في أوّل الرواية، وعدم المبالاة يعني عدم الحُزن والتألّم لهذا البلاء النازل، وإنّما هو الصبر بإيمانٍ والجلد بيقين، بل الاستبشار برحمة الله ورضوانه.

وإذا كان غير المعصومين يحسّ بذلك، فكيف بالمعصومين ومنهم الحسين نفسه، وإذا كان أصحابه وذووه ممّن هو تحت ذلك البلاء العظيم نفسه، لا يشعرون بالحُزن والألم النفسي بل بالاستبشار، فكيف ينبغي أن يكون حال مَن سواهم من الناس من مُحبّين وأولياء.

الجانبُ الثاني: جانبُ الحُزن والألم لِمَا أصاب الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه ونسائه من: بلاءٍ، وقتلٍ، وتشريد، وسبي، وإذلال، وهي حادثة بمجموعها تُعتبر أعظم ما وقعَ من البلاء الدُنيوي على أيّ مجموعة أخرى من

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٤١، أسرار الشهادة للدربندي: ص٢٤٩.

(٢) نفس المصدر بتصرّف.

(٣) للسيّد جعفر الحلّي، المتوفّى فجأةً في شعبان لسبع بقينَ منه سنة ١٣١٥هـ (أدبُ الطف: ج٨ (ص٩٩ - ١١٥).

(٤) الطبري: ج٦، ص٢٣١، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٨٢، اللهوف: ص٣٠.

١١٠

البشر خلال التاريخ البشري الطويل، ومن هنا كان ردّ فعلها المأساوي أعظم وأجلّ من كلّ حادثةٍ أخرى في العالَم مُماثلة أو غير مُماثلة، ومن هنا قال الشاعر عنها:

وفجائعُ الأيّام تبقى مُدةً

وتزول وهي إلى القيامة باقية(١)

وكلا هذين الجانبين المشار إليهما ناجزان فعلاً في حادثة الحسينعليه‌السلام ، ويحتوي كلّ منهما على نقطة قوّة ونقطة ضُعف، ينبغي أن نلاحظهما لكي نعرف القيمة الحقيقيّة لكلّ منهما أوّلاً، ولماذا اختيرَ الجانب الثاني المأساوي في هذا الصدد؟

ولكلٍّ نقطةٍ قوّة في أحدهما يُقابله نقطة ضعف في الجانب الآخر.

فنقطةُ القوّة في الجانب الأوّل: هي كونه جانباً أُخرويّاً محضاً، تُقابلهُ النقطة في الجانب الآخر، وهو كونه جانباً دنيويّاً؛ لوضوح أنّ البلاء الذي عاناه الحسينعليه‌السلام ومَن معه، بلاءٌ دنيوي خالص لا يشوبه بلاء أخروي إطلاقاً، بل لهُ في الآخرة أعلى المقامات وأرفع الدرجات.

ونقطةُ القوّة في الجانب الثاني: كونهُ سبباً لتربية المجتمع تربية صالحة ومؤكّدة أكثر من الجانب الأوّل بكثير، ذلك المجتمع المتربّي في حالته الاعتياديّة على العواطف الشخصيّة والأُسريّة والدنيويّة عموماً، إذاً فمن المصلحة توجيه هذه العواطف إلى وجهة صالحة ومربّية، فكما يبكي المؤمن على وَلده أو والديه، فليبكِ على الحسينعليه‌السلام وأصحابه؛ لينال في الآخرة ثواباً ويُقيم للدين شعاراً.

____________________

(١) للشيخ عبد الحسين الأعسم بن الشيخ محمّد علي بن الحسين، بن محمّد الأعسم الزبيدي النجفي، ولِدَ في حدود سنة ١١٧٧هـ، وتوفي ١٢٤٧ هـ بالطاعون العام في النجف الأشرف عن عُمرٍ يُناهز السبعين، ودُفن مع أبيه في مقبرة آل الأعسم، وهذا البيت من قصيدة طويلة مطلعها:

قد أوهَنَت جلدي الديار الخالية

مــن أهلـها ما للديار وماليه

 (أدبُ الطف: ج٦، ص٢٨٧ - ٢٩٤).

١١١

ومن هنا يكون توجيه البكاء والحزن للمؤمنين نحو الدين ونتائجه الطيّبة، أكثر بكثير ممّا يوجبهُ الفرح والاستبشار المشار إليه في الجانب الأوّل.

مضافاً إلى أنّ الفهم العام لأيّ شيء بما فيها واقعة الحسينعليه‌السلام ، إنّما هو ظاهرها الدُنيوي وليس واقعها الأخروي، فكان من الأفضل توجيه الناس إلى ما يفهمون والاستفادة لهم بمقدار ما يدركون.

ومن هنا وردَ عن الشريعة المقدّسة وقادتها الأوائل بشكلٍ متواتر لا يقبل الشك، الحثّ على البكاء على الحسين وحادثته المروِّعة(١) ، وكان الطعنُ في ذلك ومناقشته بقصدٍ مُخلص أو مُغرض ناشئ من خطأ فاحش لا يُغتفر.

فمن أمثلة ما ورد: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على الحسينعليه‌السلام عند ولادته(٢) ، وأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ذَكر واقعة الطف، وأنّه نظرَ إلى كفّي ولدهُ العبّاسعليه‌السلام ، وتنبّأ بأنّهما يُقطعان في تلك الواقعة(٣) ، وأنّ الإمام الحسنعليه‌السلام حين كان على فراش الموت مسموماً سمعَ أخاه الحسين يبكي عليه، فقال له:(أتبكي عليّ أم أنا أبكي عليك، لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، فإنّ لك يوماً أعظم من هذا اليوم) (٤) .

____________________

(١) أمالي الصدوق: ص١٢٥، مجلس ٢٩، الدمعة الساكبة: م١، ص٣٠٠، البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٢٨١.

ومن هذه الأخبار: ما وردَ في البحار ج٤٤، أوّل باب ثواب البكاء ص٢٧٨، بسنده عن عليّ بن الحسين بن فضّال عن أبيه قال: قال الرضا عليه‌السلام : (مَن تذكّر مصابنا وبكى لما ارتُكبَ منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومَن ذَكر فبكى وأبكى، لم تبكِ عينهُ يوم تبكي العيون، ومَن جلسَ مجلساً يُحيى فيه أمرنا، لم يمُت قلبه يوم تموت القلوب) .

وفي أمالي الصدوق بسنده عن أبي محمود قال، قال الرضا عليه‌السلام : (المحرّم شهرٌ كان أهل الجاهليّة يُحرِّمون فيه القتال فاستُحلّت فيه دماؤنا وهُتكت في حُرمتنا وسُبيَ فيه ذرارينا ونساؤنا..... إلى أن قال .... فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام) .

(٢) الخصائص الكبرى للسيويطي: ج٢، ص١٢٥، البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٢٥١.

(٣) أسرارُ الشهادة للدربندي: ص٢٦٣.

(٤) مُثير الأحزان لابن نما: ص٣١، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٣٨، البحار: ج٥، ص١٥٤.

١١٢

وأمّا الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، فقد أصبحَ أحد الخمسة البكّائين من البشر، وهم:آدم، ويعقوب، ويوسف، والزهراء، وهو، سلام الله عليهم أجمعين؛ وذلك لكثرة بكائه على أبيه سلام الله عليه، في زمنٍ صعب كان يعيشه من حال المطاردة والتقية، فكان لا يمكنه الدعوة إلى حقّ أبيه وإعلان الاهتمام به إلاّ بالبكاء، ومن هنا كان من البكّائين، حتّى كان يخلط طعامه وشرابه بالدموع(١) .

وأمّا قصيدة دعبل (رحمة الله عليه) التي قرأها على الإمام الرضاعليه‌السلام ، فبكى لها، وجَمَع العَلَويات خلف الستر؛ لكي يسمعنَ ويبكينَ(٢) فهي رواية أشهر من أن تُذكر، وفيها يقول دعبل:

أفاطمُ لو خِلتِ الحُسين مُجدّلاً (٣)

وقد ماتَ عطشاناً بشطِّ فُرات

إذن لَلَطمتِ الخدّ فاطم عندهُ

وأجريتِ دَمع العين في الوَجَناتِ(٤)

____________________

(١) مناقبُ ابن شهرآشوب: ج٣، ص٣٠٣ ط النجف، أمالي الصدوق: مجلس ٢٩، ص١٢٤.

ويتجلّى هذا الأمر فيما نَقلهُ ابن شهرآشوب عن الإمام الصادق حيث قال: (بكى عليّ بن الحسين عشرين سنة، وما وضِع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتّى قال مولىً لهُ: جُعلتُ فداكَ يا بنَ رسول الله، إنّي أخافُ أن تكون من الهالكين، فقال الإمام: إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى  الله، وأعلم من الله  ما لا تعلمون، إنّي لم أذكُر مصرع بني فاطمة إلاّ وخَنَقتني العبرة) .

وفي رواية ٍأخرى قال مولىً له: أمَا آنَ لحزنكَ أن ينقضي؟ فقال له: (ويحكَ، إنّ يعقوب النبيّ كان له اثنا عشر ابناً فغيّب الله واحداً منهم فابيضّت عيناهُ من كثرة بكائه عليه، واحدودبَ ظهرهُ من الغمِّ وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرتُ إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حُزني) ابن شهرآشوب: ج٣٢، ص٣٠٣.

(٢) مقتل الخوارزي: ج٢، ص١٣٠، الدمعة الساكبة: ص٧٧ (نقلاً عن الإربلي في كشف الغمّة).

(٣) مُجّدلاً: بمعنى مرمي مُلقى على الأرض قتيلاً (مجمعُ البحرين: ج٥، ص٣٣٦).

(٤) للشاعر دعبل الخزاعي (١٤٨ هـ - ٢٤٦ هـ) وهذان البيتان من قصيدته التائيّة المشهورة التي مطلعها: =

١١٣

وحَسبُ فهمي أنّه لمدى تأثير البكاء في النفوس أوّلاً، وفي الإعلام ثانياً، وفي التربية ثالثاً، حَصَلت هناك من المعصومين (سلام الله عليهم) عدّة أمور ممّا اقتضى التركيز عليها:

منها: أنّه بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موت أولاده، كما وردَ عنه أنّه قال:(يَحزن القلب، وتدمعُ العين، ولا نقول ما يُسخِط الربّ) (١) .

ومنها: أنّ الإمام الباقرعليه‌السلام كما وردَ، أوصى بمالٍ يُصرف من ثُلثه في نوادب يندُبنَهُ في عرفة عند الحج، عشر سنوات(٢) .

ومنها: أنّ نساء الحسينعليه‌السلام من قريبات وبعيدات، بقينَ على حالة الحزن والبكاء المتواصل وترك الراحة والهدوء عدّة سنوات، حتّى حَصَلت حركة

____________________

=

تجاوبنَ بالأرنان والزَفرات

نوائح عُجم اللفظ والنُطقات

وقد أنشدَها على الإمام الرضاعليه‌السلام ، فلمّا وصلَ إلى قوله:

وقبرٌ ببغداد لنفس زكيّةٍ

تَضمّنها الرحمان في الغُرفاتِ

قال الرضاعليه‌السلام :(أفلا أُلحِق لك بيتين بهذا الموضع بها تمام قصيدتك، فقال: بلى، يا بن رسول الله، فقال الإمام الرضاعليه‌السلام :

وقبرٌ بطوسٍ يا لها من مصيبةٍ

ألَحّت على الأحشاءِ بالزَفرات

إلى الحشر حتّى يبعث الله قائماً

يُفــرِّجُ عنّا الغمِّ والكُربات

فقال دعبل: هذا القبر الذي بطوس قبرُ مَن؟ قال الرضاعليه‌السلام : هو قبري) أدبُ الطف: ج١، ص٢٩٥ - ٣٠٩.

(١) الخصائص الحسينيّة للتستري: ص٤٠، ط النجف، تُحف العقول للحسن بن علي البحراني: ص٣٢. =

١١٤

____________________

= (٢) وسائل الشيعة للعاملي: ج٣، ص٢٣٩، ونَقلهُ المرحوم المقرّم في مقتله عن التهذيب للطوسي: ج٢، ص١٠٨، وكتاب المكاسب، والمنتهى للعلاّمة الحلّي: ج٢، ص١١٢، والذكرى للشهيد الأوّل المبحث الرابع من أحكام الأموات، وفي مَن لا يحضرهُ الفقيه: ص٣٦ أنّهعليه‌السلام أوصى بثمانمائة درهم لمأتمهِ، وأن يُندب في المواسم عشر سنين.

وادّعى بعضهم أنّ هذا العمل غير جائز، باعتبار أنّ صوت المرأة عورة ويَحرم على الأجانب سماعه، وقد ردّ هذا القول السيّد المقرّم في مقتله: ص١٠٥ بأفضل جواب، بحيث لم يبقَ شكّ في بطلان هذا القول وصحّة فعل الإمامعليه‌السلام ، فراجع.

١١٥

المختار الثقفي(١) الذي حاولَ قتل المعتدين من قَتَلة الحسينعليه‌السلام وأصحابه في الطف(٢) .

ومنها: أنّ الدعاء الموسوم بالندبة(٣) ، إنّما هو إشعار للنفس بالحزن العميق لغيبة الإمام المهديعليه‌السلام ، فلماذا الحُزن إن كان في غيبته حكمة إلهيّة وتسبّب لانتصاره يوم ظهوره؟ وما ذلك إلاّ لأنّ البكاء شكل من أشكال التربية، وشكل من أشكال الإعلام.

ولنسمع فيما يلي فَقرات من دعاء الندبة هذا؛ لنجد التركيز فيه على الحُزن العميق:(ليتَ شِعري أين استقرّت بكَ النوى؟ (٤) بل أيّ أرضٍ تَقلّك أو ثرى؟ أبرضوى أو غيرها أم ذي طوى؟ (٥) ، عزيزٌ عليّ أن أرى الخلق ولا تُرى، ولا أسمعُ لك حسيساً ولا نجوى، عزيزٌ عليّ أن تُحيط بكَ دونيَ البلوى

____________________

(١) هو المختار بن أبي عبيد بن عمرو بن عمير، بن عوف بن عقدة بن غبرة بن عوف بن ثقيف الثقفي، أبو إسحاق، كان أبوه من جُلّة الصحابة، وولِدَ المختار عام الهجرة وليست له صُحبة ولا رواية.

وقد خرجَ يطلب بثأر الحسين بن عليعليه‌السلام ، واجتمعَ عليه كثير من الشيعة بالكوفة فغلبَ عليها وطلبَ قَتَلة الحسينعليه‌السلام ، فَقَتلهم ومنهم: شمر بن ذي الجوشن الضبابي، وخولي بن يزيد الأصبحي، وعمر بن سعد بن أبي وقّاص، وهو أمير الجيش الذي قاتلَ الحسين، وقتلَ ابنهُ حَفصاً، وقتلَ عُبيد الله بن زياد، حيث كان ابن زياد بالشام، فأقبلَ في جيش إلى العراق، فسيّر إليه المختار إبراهيم بن الأشتر في جيش فلقيه في أعمال الموصل، فقتلَ ابن زياد وغيره، ولذلك أحبّه كثيرٌ من المسلمين وأبلى في ذلك بلاءً حسناً.

وكان يُرسل المال إلى: ابن عمر، وابن عبّاس، وابن الحنفيّة وغيرهم فيقبلونهُ منه، وكان ابن عمر زوج أخت المختار وهي: صفيّة بنت أبي عُبيد، ثُمّ سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جمعٍ كثير من أهل الكوفة وأهل البصرة، فَقَتلَ المختار بالكوفة سنة ٦٧هـ، وكانت إمارتهُ على الكوفة سنة ونصف، وكان عمرهُ سبعاً وستّين سنة (أُسد الغابة: ج٤، ص٣٣٦).

(٢) تاريخ الطبري: ج٦، ص٣٨، ط مصر.

(٣) انظر في مفاتيح الجنان: ص٥٣٢.

(٤) النوى: البُعد والوجه الذي يذهب فيه وينويه المسافر من قربٍ أو بُعد (أقربُ الموارد: ج٢، ص١٣٦٣).

(٥) ذي طوى: موضع قُرب مكّة (أقربُ الموارد: ج١، ص٧٢٤).

١١٦

ولا ينالُك منّي ضجيجٌ ولا شكوى هل من معُين فأُطيل معهُ العويل والبكاء؟ هل من جزوعٍ فأُساعدُ جَزعهُ إذا خلا؟... هل قَذيت عينٌ فساعَدتها عيني على القذى؟ هل إليك يا بن أحمدٍ سبيل فتلقى؟ هل يتّصل يومنا منك بغدهِ فنحظى إلخ) (١) هذا، وسيأتي مزيد إيضاح وتفصيل حول هذه الفكرة بعون الله تعالى.

____________________

(١) مفاتيحُ الجنان للشيخ عبّاس القمّي: (دُعاء الندبة).

١١٧

١١٨

أسئلةٌ حول شَخص الحُسينعليه‌السلام

نُثير فيما يلي عدداً من الأسئلة عن بعض الجوانب العامّة من واقعة كربلاء، ممّا يرتبط بشخص الحسينعليه‌السلام جهد الإمكان، بصفتهِ الشخص الرئيسي والأهمّ هناك، وكذلك بصفتهِ الشخص الوحيد المعصوم المطلّع على الواقعيّات فيهم، نُثير هذه الأسئلة لكي نستفيد من أجوبتها تاريخيّاً ومعنويّاً:

السؤالُ الأوّل: لا شكّ أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام ، قد حصلَ تاريخيّاً أنّه بعد أن قُتلَ أصحابه وأهل بيته بقى وحيداً فريداً بين الأعداء، لا يجد له ناصراً ولا مُعيناً (١) ، فهل شعرَ بذلك من الناحية المعنويّة؟

جوابهُ: النفي بطبيعة الحال؛ لأنّه يشعُر أنّهُ مع الله جلّ جلاله ومَن كان مع الله كان الله معهُ، وقال تعالى:( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (٢) ، وقال تعالى:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ) (٣) ، وما دامَ الحسينعليه‌السلام مع الله سبحانه، إذاً لا يهمّهُ أن يكون أحد من الخلق معهُ على الإطلاق.

وقد يخطر في البال: إنّ هذا الذي قلناه ينافي ما ورد عنهُعليه‌السلام أنّه قال في ذلك الحال:(هل من ناصرٍ ينصُرنا؟ هل من مُعينٍ يُعيننا؟ هل من ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (٤) ، وهذا يدلّ على أنّه طلبَ النُصرة من الآخرين على أيّ حالٍ، وهذا هو الفهم العام بكلّ تأكيد لهذه العبارة، من كلّ مَن جَعلَ الدنيا مبلغ علمهُ وأقصى همّه وغاية تفكيره.

____________________

(١) الدمعةُ الساكبة: م١، ص٣٤٠، أسرار الشهادة للدربندي: ص٣٦٩.

(٢) سورة محمّد: آية ٧.

(٣) سورة البقرة: آية ١٥٢.

(٤) اللهوف: ص٤٣، المنتخب للطريحي: ص٣١٢، الدمعةُ الساكبة: ص٣٤٠.

١١٩

وهو لا شكّ يحتوي على سوء فهمٍ فضيع لهذه العبارة، فإنّ الحسينعليه‌السلام إنّما قالها لا لأجل نفسه، وحاشاهُ أن ينظر إلى غير الله عزّ وجل، وهو الذي قيل إنّه استشهدَ ببعض الأبيات ممّا سمعناهُ فيما سبق:

تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا

وأيتمتُ العيال لكي أراكا

ولو قطّعتَنني في الحُبّ إرباً

لما مالَ الفؤاد إلى سواكا

والمهمّ أنّ هذا الأمر شَعرَ به عددٌ لا يُستهان به من الناس طول التاريخ، ممّن لا يتّصف بالعصمة فكيف حال المعصوم نفسه، وإنّما نتخيّلُ نحنُ غير ذلك؛ لأنّنا لا نفهم مستوى المعصوم، ولا يخطر في بالنا ما يمكن أن يكون عليه تجاه الله عزّ وجل، وإنّما طَلبُ الناصر من قِبَلهعليه‌السلام كان لفائدة الآخرين بلا شكّ، ولكنّه اتخذ تلك الحالة سبيلاً للنطق بتلك التعبيرات، حتّى لا يضع كلّ موعظة في غير محلّها ولكي يتكلّم مع الناس على قدر عقولهم.

وما يمكن أن يُتصوّر من فوائد لهذه الجملة، عدّة أمور:

الأمرُ الأوّل: طلبُ الناصر ممّن يولَد ويوجد خلال الأجيال، ليكون مُحبّاً للحسينعليه‌السلام ، سائراً في طريقه، مُضحيّاً في سبيل دينه بمقدار ما يقتضيه حاله، وكلّ مَن كان كذلك في أيّ زمانٍ ومكان فقد أجاب الحسينعليه‌السلام للنُصرة.

الأمرُ الثاني: طلبُ الناصر من البشر الموجودين في ذلك العصر، وتذكيرهم بمسؤوليّتهم الكبرى المباشرة في الذبّ عن إمامهم المعصومعليه‌السلام أمام الله عزّ وجل، وذلك يكون موازياً لمضمون ما وردَ من أنّ:(مَن سَمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا أكبّه الله على مَنخرَيه في النار) (١) .

____________________

(١) أسرار الشهادة: ص٢٣٣، البحار: ج٤٤، ص٣١٥، الخوارزمي: ج١، ص٢٢٧.

١٢٠