أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين0%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف: السيد محمد الصدر
تصنيف:

الصفحات: 250
المشاهدات: 111152
تحميل: 14277

توضيحات:

أضواء على ثورة الحسين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111152 / تحميل: 14277
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

ثانياً: إنّ العرف إنّما يكون حجّة في ما يناسب حال العرف ومستواه.

وأمّا ما كان خارجاً عن حال العرف كالأمور الرياضيّة والفلسفيّة، فلا سبيل للعرف إليها، ونحن نعلم أنّ حال أولئك الأبطال الأفذاذ أعلى من أن يفهمه العرف، فالتنزّل بمستواهم إلى درجة العرف الشائع ظلمٌ لهم لا محالة.

ثالثاً: إنّ لسان الحال أصبح مبرّراً لدى البعض إلى نقل كثير من التفاصيل الكاذبة، وهذا أمرٌ خارج عن هذا الدليل لو تمّ، بعد التنزّل عن الوجهين السابقين جَدلاً، فإنّه إنّما يُثبت إمكان البكاء والتضجّر واللطم ونحو ذلك، لا أنّه يُثبت جواز الكذب والدسّ بطبيعة الحال.

الأمرُ الرابع: من مُجوّزات النقل المحتملة عن حوادث كربلاء: ما وردَ بنحو القاعدة العامّة حيث تقول:(قولوا فينا ما شئتم ونزهّونا عن الربوبيّة) (١) .

وتقريبُ الاستدلال بها للنقل: وهو التمسّك بإطلاق قوله(ما شئتم) ؛ فإنّ الفرد قد يشاء أن ينقل الأمور غير المرويّة أو غير المناسبة مع الحال وغير ذلك، ومقتضى إطلاق القاعدة جواز ذلك كلّه، إلاّ أنّ هذا غير صحيح بكلّ تأكيد لعدّة وجوه:

الوجهُ الأوّل: إنّ مثل هذه الرواية غير تامّة سنداً، ومعهُ لا تكون ثابتة أصلاً، فالاستدلال بها - كما هو المشهور بينهم - غير جائز.

الوجهُ الثاني: إنّها مخدوشة في الدلالة أو التعبير وهو قوله فيها:(ونزّهونا عن الربوبيّة)، في حين أنّ الربوبيّة كمال وعَظمة، والتنزيه إنّما يكون عن النقص والخسّة والرذيلة، فهذا إنّما يدلّ على ضعف سندها وعدم ورودها إطلاقاً.

____________________

(١) البحار: ج٢٥، ص٢٦١ بتصرّف.

١٦١

ويمكن أن يكون المتكلّم بها قد قال:(ونزّلونا عن الربوبيّة) ، فَنقلها الراوي بالهاء وهو قوله:(نزّهونا) ، إلاّ أنّ هذا الاعتذار لا يجعلها تامّة سَنداً.

الوجهُ الثالث: إنّ التمسّك بإطلاقها على سَعته غير مُحتمل فمثلاً: هل يمكن أن يشمل قوله:(قولوا فينا ما شئتم) القول السيئ من القدح والشتم ونحوه، إنّ هذا غير محتمل طبعاً، إذاً فالمراد: ما شئتم ممّا هو مناسب مع شأننا، ومن الواضح أنّ كثيراً ممّا نقول عنهم بلسان الحال ليس مناسباً مع شأنهم.

الوجهُ الرابع: إنّ قوله فيها(ما شئتم) يراد به الأوصاف الإجماليّة: ككونهم علماء، أو عظماء، وغير ذلك، ولا يراد بها التفاصيل من نقل الأقوال والأفعال الكاذبة عنه، وإن كانت مناسبة لشأنهم، فضلاً عمّا إذا لم تكن، والمفروض إلى الحديث عن لسان الحال أنّه يكون بالتفاصيل لا بالإجمال.

الوجهُ الخامس: في المعنى الأصلي الذي أفهمهُ من هذه الرواية: وهو أنّ فهمَنا لا يكون له أيّ ارتباط للنقل بالمعنى من قريب أو بعيد، والمعنى الذي أفهمهُ كما يلي:(قولوا فينا ما شئتم من المدائح، أو من صفات الكمال والجلال؛ فإنّكم لا تصلون إلى الواقع الذي اختارهُ الله لنا، وستكون كلّ من مدائحكم وأوصافكم دون مستوانا الواقعي) .

وإذا تصاعدنا نحن في الأوصاف لا نصل إلى صفتهم الحقيقيّة، فضلاً عن أنّنا يمكن أن نتعدّاهم إلاّ إذا ذَكرنا لهم الربوبيّة؛ فإنّها غير ثابتة في حقّهم، فمثلاً نقول: إنّهم مؤمنون، ثمّ نقول: إنّهم ورعون، ثمّ نقول: إنّهم متّقون، ثمّ نقول: إنّهم علماء، ثمّ نقول: إنّهم راسخون في العلم، ثمّ نقول: إنّهم أولياء، ثمّ نقول: إنّهم كأنبياء بني إسرائيل أو أفضل منهم، كلّ ذلك ونحن لم نصل إلى حقائقهم ومستوياتهم الواقعيّة.

١٦٢

الأمرُ الخامس: من مجوّزات النقل المحتملة عن واقعة كربلاء:

ما ورد بنحو القاعدة العامّة:(مَن بكى على الحسين أو أبكى أو تباكى، وجَبت له الجنّة) (١) .

وتقريبُ الاستدلال بها: هو التمسّك بإطلاقها لكلّ قولٍ أو فعل صار سبباً للبكاء على الحسينعليه‌السلام وأصحابه، فإنّه يكون سَبباً لدخول الجنّة أو وجوبها للفرد سواء كان مطابقاً للواقع أو لم يكن.

وهذا المضمون وإن كان مطابقاً للقاعدة؛ لأنّ مَن بكى أو أبكى أو تباكى بإخلاصٍ لله سبحانه وتعالى(٢) وللحسينعليه‌السلام ، فإنّه يستحقّ الثواب الجزيل بلا إشكال، إلاّ أنّ التمسّك بإطلاقها المفروض إنّما يتمّ بغضّ النظر عن المناقشات التالية، وتلك المناقشات تَردّ عليها كرواية منقولة كما هو المشهور، لا كمضمون مشهود على صحّته.

أوّلاً: ضُعف سَند هذه الرواية، فلا تكون معتبرة.

ثانياً: إنّ متعلّق البكاء لم يُذكر في هذه العبارة، ومعه يكون من الواضح أنّه ليس كلّ أهداف البكاء مشروعة، أو لا ثواب عليها على الأقل.

____________________

(١) أمالي الصدوق: ص١٢٥، مجلس ٢٩، البحار: ج٤٤، ص٢٨٨، الدمعة الساكبة: م١، ص٣٠٠.

(٢) وهنا يشير سماحة المؤلِّف إلى أنّ الإخلاص في البكاء، أو التباكي لله بغضّ النظر عمّا إذا كان على الحسينعليه‌السلام أو غيره، فهو سبب في الدخول إلى الجنّة، ويؤيّد ذلك: ما ذكرهُ السيّد المقرّم في مقتله نقلاً عن كنز العمّال: ج١، ص١٤٧ في الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قرأ آخر الزُمر( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ) على جماعة من الأنصار، فبكوا إلاّ شابّاً منهم قال: لم تقطر من عيني قطرة وإنّي تباكيت، فقال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن تباكى فلهُ الجنّة) .

وفي نفس المصدر عن جرير عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:(إنّي قارئ عليكم (ألهاكم التكاثر) مَن بكى فلهُ الجنّة، ومَن تباكى فلهُ الجنّة) كنز العمّال: ج١، ص١٤٨.

وحدث أبو ذر الغفاريرحمه‌الله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن استطاعَ أن يبكي فليبكِ، ومَن لم يستطع فليُشعر قلبه الحزن وليتباكِ؛ فإنّ القلب القاسي بعيد عن الله) مقتل المقرّم نقلاً عن اللؤلؤ والمرجان للنوري ٤٧، ومجموعة شيخ ورام: ص٢٧٢.

ويجب أن نشير هنا إلى أنّ المقصود ليس كلّ بكاء أو تباكي، وإنّما يجب أن يكون البكاء خالصاً لله عزّ وجل منبعثاً من تأثير النفس والرهبة منه سبحانه وتعالى، ويشير إلى ذلك محمّد عبدة في تفسير المنار: ج٨، ص٣٠١ حيث يقول: (التباكي تَكلّف البكاء لا عن رياء).

١٦٣

أو قل: لا تجب لهُ الجنّة بكلّ تأكيد، كمَن بكى للدنيا أو لمصيبة عاطفيّة ونحوها، إذاً فالأمر مقيّد بالبكاء المرضيّ لله عزّ وجل.

ثالثاً: إنّ متعلّق البكاء لم يُذكر في هذه العبارة، حتّى الصالح منه يعني لم يقل: إنّ البكاء من أجل الحسينعليه‌السلام - كما يفهم المشهور - أو من خوف الله عزّ وجل، أو شوقاً إلى الثواب، أو أيّ شيء آخر، ومن هنا لا دليل على اختصاصه بالحسينعليه‌السلام .

رابعاً: إنّ وجوب الجنّة بل مطلق الثواب، لا يكون إلاّ بحفظ الشرائط الأخرى الضروريّة في الدين؛ لوضوح عدم شمولها للكفّار والفَسَقة وأضرابهم، إذاً فيكون المعنى:(مَن أضافَ إلى حسناته البكاء، وجَبت له الجنّة) ، ومن الواضح أنّها لم تقل ذلك بوضوح، إذاً فيبقى إطلاقها غير ثابت.

خامساً: إنّ وجوب دخول الجنّة غير مُحرز لأيّ إنسان غير معصوم، ما لم يَمت مرضيّاً لله عزّ وجل، وأمّا لو زالت حسناته بظلمٍ أو سوء ونحوه، لم يستحقّ الجنّة بكلّ تأكيد، والشاهد على ذلك قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ) (١) ، والسيّئات قد تذهب بالحَسنات، كما أنّ الحَسنات قد تذهب بالسيّئات.

ومعهُ فيكون المعنى:(مَن داومَ على الطاعة طول حياته مع البكاء، وجَبت لهُ الجنّة) ، ومن الواضح أنّه لم يقل ذلك، كلّ ما في الأمر أنّ التمسك بإطلاقها مُشكل.

سادساً: الإخلاص في العمل لم تنصّ عليه الرواية، وهو البكاء في سبيل الله من دون عجب ولا رياء، فلو بكى الفرد على أمواته أو على مصاعب الدنيا، لم يستحقّ الجنّة فضلاً عن أنّها تجب له، لكنّنا ينبغي أن نُفصّل الحديث في البكاء على الأموات بعنوانٍ مستقل.

____________________

(١) سورة الفرقان: آية ٢٣.

١٦٤

١٦٥

البكاءُ على الأموات

وليس المراد البكاء على الأموات حقيقة، بل البكاء الذي يكون في الظاهر على الحسينعليه‌السلام ، وفي القصد الواقعي على الأموات، فهل يكون الفرد عليه مستحقّاً للثواب أم لا؟ وقد عرفنا قبل قليل عدم استحقاقه للثواب لا محالة؛ لعدم وجود الإخلاص والقصد القربي لديه، ولكن وردت في ذلك رواية من حيث إنّ الراوي يسأل الإمامعليه‌السلام بما مضمونه: إنّني أبكي على الحسينعليه‌السلام فأتذكّر أمواتي فأبكي عليهم، فأجابهُ بما مضمونه:(نعم، ابكِ ولو على أمواتك) (١) .

وهذه الرواية أيضاً غير معتبرة السند، ومعهُ يبقى الأمر على القاعدة الأوّليّة وهي عدم وجود الثواب، إلاّ في بعض الموارد التي نشير إليها فيما بعد.

وإن كانت الرواية معتبرة السند، فقد تمّ المطلب، يعني أنّنا نأخذ بمحتواها: وهو وجود الاستحباب حتّى في هذه الصورة، وهي البكاء على الأموات، ما دام الظاهر هو البكاء على الحسينعليه‌السلام ، والأمر غير خاصّ بواحدٍ معيّن بطبيعة الحال، فقد يبكي ألف من الموجودين على أمواتهم بهذه الصورة، وهذا ما يدلّ على أنّ الشارع المقدّس - لو صحّت الرواية - يريد حفظ الظاهر أو الصورة الظاهريّة لبكاء الناس، وإن كان قصدهم مختلفاً، وهذا ليس جزافاً، بل فيه فوائد وحِكم ومصالح حقيقيّة، يمكن أن نُدرك منها ما يلي:

أوّلاً: حفظُ تسلسل الشعائر الدينيّة واستمرارها.

ثانياً: إثبات وجود هذه الشعائر أمام مَن لا يؤمن بها أو لا يُنجزّها.

____________________

(١) الكافي للكليني: ج٢، ص٤٨٣، بنفس المعنى.

١٦٦

ثالثاً: الإسعاد في البكاء للآخرين؛ لأنّهم لا يعلمون أنّي أبكي على أمواتي، بل يتخيّلون أنّي أبكي على الحسينعليه‌السلام بحرارة؛ لأنّ البكاء فيه إسعاد وهو انتقال أو عدوى العاطفة من فردٍ إلى آخر، والإسعاد في البكاء معنى لغوي مأخوذ من السعادة؛ لأنّ الباكي يشعر براحة وسعادة حين يجد نفسه بين الباكين من أجله.

رابعاً: التربية النفسيّة من الناحية الدينيّة للفرد نفسه وللآخرين أيضاً، فإنّه إذا قصدَ اليوم البكاء على أمواته، فسوف يقصد غداً البكاء على الحسينعليه‌السلام ، بمعنى أنّ الدافع المتدنّي سوف يتقلّص في نفسه حتّى يزول.

ومن هنا نعرف ما أشرنا إليه: من أنّ الفرد يمكن أن يحصل على الثواب، حتّى لو بكى على أمواته، إن كان القصد الظاهري هو البكاء على الحسينعليه‌السلام ، لكن بشرط أن يقصد هذه الأمور الصحيحة التي ذكرناها الآن ونحوها، لا أن يكون البكاء متمحّضاً للأموات حقيقة.

نعود الآن إلى ما كنّا فيه من تعداد الوجوه المحتملة المجوّزة للنقل عن حوادث كربلاء المقدّسة، وقد سبقَ أن ذكرنا منها خمسة أمور:

الأمرُ السادس: من مجوّزات النقل المحتملة: جواز قول الشِعر في حادثة الطف بلا إشكال، وهذا ممّا عليه السيرة المتشرّعة في مذهبنا من زمن الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام وإلى الآن فالسيرة قطعيّة الصحّة، والشِعر عن الحسينعليه‌السلام قطعي الجواز، بل قطعي الاستحباب، بل لعلّ فيه الوجوب الكفائي إذا شحّ مُعيّنه في مكانٍ أو زمانٍ معيّن.

ومن المعلوم أنّ الشرع يحتوي على: المجاز، والمبالغة، والتورية، والمعاني العاطفيّة والخياليّة وغير ذلك كثير، وهذا ما يدلّ على جواز أن ننسب إلى موضوع القصيدة - بما فيها حوادث كربلاء - ما نشاء من خلال القصيدة نفسها، سواء كان وارداً في رواية معتبرة أو غير معتبرة، أو غير وارد على الإطلاق.

إلاّ أنّ هذا الوجه قابل للمناقشة في عدّة أمور:

١٦٧

أوّلاً: إنّه لو تمّ لاختصّ بالشِعر ولا يمكن أن يشمل النثر؛ لأن النثر خالٍ عرفاً وعادة عن الخيالات المستعملة في الشِعر، وهذا الوجه لو تمّ فإنّما يجيز تلك الخيالات دون غيرها.

ثانياً: إنّ الخيالات والمبالغات ليست من نوع الكذب عرفاً وعقلائيّاً، إذاً فالتعميم من جواز ذلك إلى جواز الكذب والدسّ في الشعر غير صحيح تماماً.

ثالثاً: إنّ السيرة كما ثبتَ في علم الأصول دليلٌ لا إطلاق له ولا لسان له، يؤخذ منه بالقدر المتيقّن، والقدر المتيقّن هنا: هو الشِعر الخالي من الكذب والدسّ فيكون جائزاً، ولا يمكن التعميم بدليل السيرة إلى غيره.

وقد يخطر في البال: أنّ السيرة الموروثة عندنا هي على وجود الكذب في الشِعر بهذا الصدد، وهي سيرة مُمضاة من قِبل الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

فمن ذلك قول دعبل الخزاعي (عليه الرحمة) أمام الإمام الرضاعليه‌السلام :

أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً

وقد ماتَ عطشاناً بشطّ فُراتِ

إذن للَطمتِ الخدّ فاطم عندهُ

وأجرَيتِ دمعَ العين في الوَجناتِ(١)

____________________

(١) للشاعر دعبل الخزاعي، أدب الطف: ج١، ص٢٩٧.

١٦٨

فقد أثبتَ اللطمَ والبكاء لفاطمة الزهراءعليها‌السلام ، مع أنّهُ غير متحقّق جَزماً؛ لأنّ الزهراءعليها‌السلام لم تكن موجودة في الدنيا لدى مقتل وَلدها الحسينعليه‌السلام ، مع ذلك فقد سَمعها الإمام الرضاعليه‌السلام ولم يعترض عليها.

وجواب ذلك يكون على مستويين:

المستوى الأوّل: ما قالهُ علماء المنطق من أنّ القضيّة الشرطيّة تصدق حتّى مع كِذب طرفيها، وأوضح مثال له: إنّ قولنا: إذا طَلعت الشمس فالنهار موجود، يصدُق في الليل كما يصدق في النهار، ولا يتوقّف على طلوع الشمس فعلاً، أو وجود النهار فعلاً، بل يكفي في صِدق الشرطيّة صدق الملازمة والتوقّف ما بين فعل الشرط وفعل الجزاء، وهو في المثال توقّف وجود النهار على طلوع الشمس.

ومن الواضح أنّ هذين البيتين لدعبل الخزاعي إنّما هو قضيّة شرطيّة، وليست فعليّة أو واقعيّة، فلا يدلّ على أنّ الزهراء قد بَكت فعلاً أو لطمت؛ وإنّما قال:(لو خِلتِ الحسين) ، و(لو) حرفٌ من حروف الشرط فتكون قضيّة شرطيّة، فيمكن أن تصدق مع كِذب طرفيها كما سبق في المثال.

المستوى الثاني: إنّه قد يخطر في البال أنّنا قلنا في المستوى الأوّل الذي انتهينا منهُ، أنّ القضيّة الشرطيّة تصدق بصدق الملازمة وإن كانت موجودة في مثل قولنا: إذا طَلعت الشمس فالنهار موجود، إلاّ أنّها غير موجودة في قول دعبل:(أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً) ، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الزهراءعليها‌السلام ماذا سيكون ردّ فعلها إذا عَلمت بمقتل ولدها، وخاصّة بعد أن أشرنا فيما سبقَ من أنّ قضيّة الإمام الحسينعليه‌السلام فيها جانبان:الاستبشار، والحُزن . ولا شكّ أنّ الحُزن أقرب إلى المضمون الدنيوي، وإن كانت لهُ نتائج دينيّة كما سبق، كما لا شكّ أنّ الاستبشار أقرب إلى المضمون الأخروي أو الواقعي.

ومن المعلوم أنّ الزهراء (سلام الله عليها) تكون في الآخرة مُطّلعة على الواقعيّات،

١٦٩

ومع الاطّلاع على الواقعيّات، فمن الممكن أن يكون ردّ فعلها هو الاستبشار لا الحزن، فكيف يقول دعبل الخزاعي هذين البيتين؟ نُعيدهما لكي يطّلع القارئ الكريم مجدّداً:

أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً

وقد ماتَ عطشاناً بشطّ فُراتِ

إذن للَطمتِ الخدّ فاطم عندهُ

وأجرَيتِ دمعَ العين في الوَجناتِ

فإذا التفتنا والحال هذه إلى أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام قد أقرّ عمل دعبل وباركهُ، إذاً فمن الممكن القول: إنّ أمثال ذلك من جِنس الكذب، وهو عَرض ما هو مُحتمل باعتبار أنّه يقين فيكون جائزاً بإقرار الإمامعليه‌السلام .

وجوابُ ذلك من عدّة وجوه نَذكر المهمّ منها: وهو أنّ دِعبل الخزاعي - حيث قال هذين البيتين وأضرَابهما - إنّما يُعبّر عن مستواه في الإيمان واليقين، ومقتضى مستواه: هو أن يُفهِم الزهراء (سلام الله عليها) بهذا المقدار لا أكثر، ومن الصعب عليه أن يلتفت إلى ما ذكرناه من احتمال الاستبشار برحمة الله عزّ وجل، والإمامُ الرضاعليه‌السلام لم يجد مصلحة في تنبيهه على ذلك، إذ لعلّها من الحقائق التي يصعب عليه تحمّلها، فمن الأفضل استمرار غفلتهُ عنها، طبقاً لقانون:(دَعوا الناس على غَفلاتهم) (١) ، أو قانون:(كلِّموا الناس على قَدر عقولهم) (٢) .

ومن هنا يتّضح: أنّه ليس كلّ إقرار من قِبل الأئمّة سلام الله عليهم حُجّة في إثبات الصحّة، بل يُشترط في الإقرار إمكان المناقشة فيه والنهي عنه، فإذا لم يَنهِ وهو يُمكنه النهي، إذاً يدلّ ذلك على الإقرار، وأمّا إذا لم يُمكنه النهي على الإطلاق، إذاً فسوف لن يكون سكوتهُ دالاً على الإقرار.

____________________

(١) أشار إليها سماحة المؤلِّف في المقدّمة الثانية، فراجع.

(٢) أصول الكافي: ج١، ص٦٧، حديث ١٥، البحار للمجلسي: ج٢، ص٦٩ ـ٧٠، حديث ٢٣ - ٢٤.

١٧٠

وموردنا من هذا القبيل؛ لأنّ دعبل لم يكن يتحمّل إيضاح الفكرة له، وخاصّةً أنّ الإمامعليه‌السلام لا يجد في ذلك مَفسدة دينيّة؛ لأنّ الأعمّ الأغلب من الناس إنّما هُم بمنزلة دعبل أو دون مستواه، فلا يكون من المنافي مع مستواهم أن يسمعوا أبياته.

إذاً، فليس في هذه الرواية - لو تمّت سَنداً - أيّ إقرار على قول ما خالفَ الواقع من الحوادث أو الأقوال أو الأفعال، لا في الشِعر ولا في النَثر.

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أنّ الحُزن الحقيقي، إنّما هو على أهل الدنيا وأهل الشر وأهل العِناد، على اعتبار أنّهم اختاروا لأنفسهم الغفلة والشرّ والعناد، وقد رويَ أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام بكى على أعدائه في كربلاء(١) ، باعتبار أنّهم اجتمعوا ضدّ إمامهم ومولاهم الحقيقي وعَرّضوا أنفسهم لهذه الجرائم النكراء.

وأمّا تصوّرهعليه‌السلام عن شهادته والبلاء الذي مرّ عليه: فهو الاستبشار والفرح بحُرمة الله ونعمته جلّ جلاله، كما أنّ الحُزن يكون على أولئك المشمولين لقولهعليه‌السلام :(مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا أكبّه الله على مَنخريه في النار) (٢) ، وهذا هو بكاء الأبوّة الواقعيّة حين يحسّ الأب بتمرّد أولاده عليه، والواقع أنّ تمرّدهم ليس ضدّه بل ضدّ ربّهم من ناحية، وضدّ أنفسهم من ناحية أخرى، فتكون المصيبة عليهم منهم أكبر؛ لأنّه لن يُعاقَب إلاّ فاعل الجريمة.

وقد يخطر في البال: إنّ هذا البلاء في كربلاء أصبحَ - بحسب ما شرحناه - سبباً للاستبشار وللبكاء في نفس الوقت في نفس الحسينعليه‌السلام ، وهذا تناقض غير معقول، فلابدّ أن يكون للمسألة تفسير آخر.

وجوابُ ذلك: إنّ هذا البلاء بنفسه له جانبان أو نظرتان أو لحاظان:

____________________

(١) الخصائص الحسينيّة للتستري: ص٧٨.

(٢) البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٣١٥.

١٧١

الجانب الأوّل: جانب نسبته إلى فاعليه وهم الجيش المعادي، وهو بهذا الاعتبار موجِب للحزن والبكاء من الناحية الدينيّة، للأسف الشديد على وجود هذا العصيان والطغيان من قِبل أفراد الجيش المعادي.

الجانب الثاني: جانب نسبته إلى المظلومين بهذا البلاء وهم الحسينعليه‌السلام وأصحابه، وهو الجانب المسبِّب لفيض رحمة الله ونعمته، وهو الموجِب للاستبشار.

ومن اعتبارٍ آخر يمكن أن نقول: إنّ لهذا البلاء - كأيّ بلاءٍ آخر - نسبتان: نسبة إلى الخالق ونسبة إلى المخلوق، باعتبار أنّ أفعالنا الاختياريّة كلّها لها هاتين النسبتين، فالفاعل المباشر المختار لها هو الواحد البشري، والفاعل الخالق لها بصفتها أحد أفراد الكون المخلوق هو الله سبحانه، إذاً فالنسبتان ثابتتان لكلّ الأفعال الاختياريّة بما فيها المظالم والبلاء الذي يُنزله الظالمون بالمظلومين، ومنه البلاء الواقع على جيش الحقّ في كربلاء، فمن زاوية نسبته إلى فاعليه البشريّين وهم الجيش المعادي تترتّب عدّة نتائج، منها:

أوّلاً: كونهم يتحمّلون مسؤوليّته الأخلاقيّة والقانونيّة في الدنيا والآخرة، وهم بهذا الاعتبار يكون لهم عقاب الدنيا والآخرة.

ثانياً: جانب الحزن والبكاء عليهم أسفاً على توريط أنفسهم على ذلك، وتزايد عصيانهم لله سبحانه، ومن زاوية نسبة هذا البلاء إلى الله عزّ وجل تترتّب عدّة نتائج منها:

أوّلاً: وجوب التسليم والرضا بقضاء الله وقدره بإيجاده للبلاء، ومن هنا ورد عنه (سلام الله عليه):(رضا الله رضانا أهل البيت) (١) ، وقد سبقَ تفسيره.

____________________

(١) مقتل الخوارزمي: ج٢، ص٥، أسرار الشهادة للدربندي: ص٢٢٥.

١٧٢

ثانياً: إنّ هذا البلاء مهما كان كثيراً، فهو أقلّ من استحقاق الله سبحانه للطاعة، وأقلّ من استحقاق النفس للقهر، ومن هنا وردَ عنه (سلام الله عليه):(هوّنَ ما نزلَ بي أنّه بعينِ الله) (١) .

ثالثاً: الاستبشار بوجود نعمة الله وثوابه، الذي يُعتبر هذا البلاء على عظمته مقدّمة أو سبباً بسيطاً بالنسبة إليه.

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس: ص٤٩، البحار للمجلسي: ج٤٥، ص٤٦.

١٧٣

تألّبُ الناس ضدّه

إنّ ممّا يُبالغ في التأكيد عليه الخطباء الحسينيّون، لأجل الزيادة في المصيبة وحشد العواطف هو: التأكيد على تألّب الناس ضدّ الحسينعليه‌السلام ، حتّى أنّ أفراد القبائل - وهي مئات الألوف - قد خَرجت كلّها لحرب الحسينعليه‌السلام ، ولبعض الخطباء سياق كلامي خاصّ يُعدِّد فيه رايات القبائل التي أقبلَت للحرب، فيعدِّد أسماء خمسة عشر قبيلة أو أكثر من الساكنين في الكوفة وجنوب العراق:كتميم، وفزارة، وبجيلة، ومذحج، وربيعة، وطي، وأسد، وبني فلان، وبني فلان ..... كما ورَدَنا في التاريخ أنّ سوق الحدّادين في الكوفة بقيَ مشتغلاً ليلاً ونهاراً أيّاماً متطاولة قد تبلغ شهراً أو أكثر، لإصلاح السيوف والرماح والسهام والنبال، مُقدّمة للخروج لحرب الحسينعليه‌السلام (١) .

كما ورَدنا: أنّ الناس الخارجين في هذا السبيل، كانوا من الكثرة بحيث لم يستطيعوا أن يجدوا وسائط النقل من الجمال والأفراس والحمير حتّى رَكبوا البقر والثيران(٢) ، ثمّ يستشهد الخطباء بقول الشاعر:

بجحافلٍ في الطف أوّلها

وأخيرها بالشام متّصل(٣)

وهذا المفهوم الشعري يناسب أن تكون آلاف الكيلومترات بين كربلاء والشام (وهي منطقة دمشق الآن)(٤) ، وهي ليست في الحدود الشرقيّة لسوريا بل على الحدود الغربية لها، وهي الحدود مع لبنان.

والمسافة بينهما تُقدّر بحوالي ألفي كيلومتر، فإذا كانت كلّها مملوءة بالجيش المعادي كخطّ طويل مُحتشد في هذا البر المتطاوِل، فكم سوف يكون عدد أفراده؟

____________________

(١) أسرار الشهادة للدربندي: ص٤٤٥ بتصرّف.

(٢) مع الحسين في نهضته لأسد حيدر: ص١٧٣.

(٣) للشيخ الحاج حمّادي الكوّاز (١٢٤٥ - ١٢٨٣هـ)، توفي في مرض السِل وعمره فيما يُعتقد لم يتجاوز ٣٨ سنة، وهذا البيت من قصيدة طويلة والتي مطلعها:

أدهاك ما بي عندما رَحلوا

فأزالَ رَسمك أيّها الطَلَلُ

أدب الطف: ج٧، ص١٦١ - ١٧٢.

(٤) معجم البلدان للحَمَوي: ج٢، ص٤٦٣.

١٧٤

إنّ الكيلومتر الواحد الممتدّ لن يكفي في امتلائه بالناس ألف إنسان بطبيعة الحال، بل لن يكفي ضِعف هذا العدد، ولكنّنا لو اقتصرنا على ألف لكان المجموع مليونين من الناس على أقلّ تقدير، وقد يصل الرقم إلى أربعة ملايين، مع أنّ أعلى رقم مُحتمل للجيش المعادي للحسينعليه‌السلام هو مئة وعشرون ألفاً(١) .

____________________

(١) اختلفَ المؤرّخون كثيراً في عدد الجيش الذي قاتلَ الحسينعليه‌السلام ، بل بعضهم قد بالغَ في كثرة الجيش إلى حدٍّ قال فيه العلماء: إنّه شاذ، كالذي ذكرهُ ابن العصفور البحراني حيث قال: إنّ عدد الجيش الخارج على الحسين قد بلغَ خمسمئة ألف، والأغرب من هذا أنّه يقول: إنّ الحسينعليه‌السلام قد قتلَ منهم (٤٠٠ ألف)، وينقل لنا ذلك الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة فيعلِّق على هذا القول بقوله: (نعم، إنّ هذا يجوز ويصحّ بالقوّة اللاهوتيّة لا البشريّة، بل الاستغراب والاستبعاد من جهةٍ أخرى وهي: إنّ المحاربة والقتل كانت بالسيف والرمح يومئذٍ، وقد وقَعت شهادة الإمامعليه‌السلام قريب من الغروب أو العصر من ذلك اليوم، فهذا الوقت القليل لا يسع لتلك المقاتلات والمحاربات الكثيرة منهعليه‌السلام ، فهذا أمرٌ ظاهر عند الكل ولاسيّما إذا لوحِظَ في العين محاربات الأصحاب وفتية بني هاشم) أسرار الشهادة: ص٤١٤. أمّا الأرقام التي وردت في عدد الجيش والتي يمكن احتمال صحّتها فهي كما يلي: ١- ٨٠ ألف، بُغية النُبلاء: ج٢، الدمعة الساكبة: ص٣٢٢ نقلاً عن أبي مخنف وتحفة الأزهار لابن شدقم. ٢- ٧٠ ألف، أسرار الشهادة للدربندي: ص٢٣٧، سفينةُ النجاة للعيّاشي. ٣- ٥٠ ألف، شرح شافية أبي فراس: ج١، ص٩٣. ٤- ٣٥ ألف، مناقب ابن شهرآشوب: ج٤، ص٩٨، ط قم. ٥-٣٠ ألف، مطالب السؤول، عُمدة الطالب: ص١٨١، الدمعة الساكبة: ص٣٢٢، أسرار الشهادة للدربندي: ص٢٣٧. ٦- ٢٢ ألف، مرآة الجنان: ج١، ص١٣٢، شَذرات الذهب: ج١، ص٦٧. ٧-٢٠ ألف، الصواعق المحرقة: ص١١٧، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ص١٧٨، اللهوف لابن طاووس، مُثير الأحزان لابن نما الحلّي. ٨- ١٦ ألف، الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة: ص١٦٨. ٩- ٨ آلاف، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: ص٩٢. ١٠- ٦ آلاف، الصراط السوي في مناقب آل النبي: ص٨٧. ١١- ٤ آلاف، البداية والنهاية لابن كثير: ج٨، ص١٦٩.والراجح بين هذه الأقوال: هو أنّ عدد الجيش (٣٠ ألفاً)؛ وذلك لأنّ الروايات التي تنصّ على هذا العدد أكثر من غيرها، ولوجود الرواية التي يذكرها الصدوق في أماليه بإسناده عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال: (إنّ الحسين دَخلَ على أخيه الحسن عليه‌السلام في مرضه الذي استُشهد فيه، فلمّا رأى ما بهِ بكى، فقال له الحسن عليه‌السلام: ما يُبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي لِمَا صُنعَ بك، فقال الحسن عليه‌السلام : إنّ الذي أوتيَ إليّ سمٌ أُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلفَ إليك ثلاثون ألفاً.. الخ) نقلهُ المجلسي في البحار: ج٢٥، ص١٥٤، ابن شهرآشوب في المناقب: ج٣، ص٢٣٨، ط نجف، ابن نما الحلّي في مُثير الأحزان.

١٧٥

صحيحٌ أنّ هذا الرقم بالنسبة إلى جيوش الدول في العالَم المعاصر بسيط جدّاً، وقد استطاعت الدول أن تبلغ الملايين في تعداد أفراد جيوشها، لكنّ هذا لا ينطبق على إمكانيّات الدول السابقة، ولا على أسلحتها، ولا على وسائط نقلها، وخاصّةً بعد أن كان النظام القديم هو الخروج الاختياري للفرد أوّلاً، وتَحمّل مسؤوليّته الاقتصاديّة والعناية بأموره وأسلحته بنفسه ثانياً، ولا دخلَ للقيادة في ذلك حتّى التدريب على الأسلحة لم يكن، فكيف يمكن أن تحصل الأعداد الضخمة من الجيوش؟

فإذا أخذنا بنظر الاعتبار طريقة القتال القديمة، وقد كانت كلّها بالسلاح الأبيض - كما هو المصطلح اليوم - هذه طريقة تُعتبر لحدّ الآن مؤلمة ألماً شديداً، وليس في النفوس الهمّة الكافية لتحمّلها، ولا شكّ أنّ الناس يُفضلّون الراحة على التورّط في الحروب مهما كانت، فضلاً عن قتال شخصٍ مُحقّ جليل القدر كالإمام الحسينعليه‌السلام ، على أنّه توجد فيما يخصّ الحسينعليه‌السلام عدّة نقاط تصلح كقرائن واضحة على عدم تألّب الناس عليه إلى الحدّ الذي يتصوّره الآخرون:

١٧٦

النقطة الأولى: كون الحسينعليه‌السلام معروف بالنسبة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وأمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما هو معروف بالعلم والصلاح، سواء من قِبل مَن يؤمن بإمامته أو مَن لا يؤمن.

النقطة الثانية: إنّه اجتمعَ إليه في جيشه أُناس معروفون بالصلاح والأهميّة:كحبيب بن مظاهر الأسدي، ومسلم بن عوسجة (١) ، وبُرير بن خضير، وغيرهم كثير، فمَن كان غافلاً عن أهميّة الحسينعليه‌السلام - باعتباره عاشَ أغلب حياته في الحجاز بعيداً عن الكوفة - فلا أقلّ من أن يتعرّف على أمثال هؤلاء من أصحابه رضوان الله عليهم.

النقطة الثالثة: الخُطَب والمواعظ التي صدرت من الحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته إلى الجيش المعادي قبل التحام الحرب؛ فإنّها وإن لم تؤثّر في توبة هذا الجيش أو تفرّقهم أو التحاقهم بمعسكر الحسينعليه‌السلام ، ولكنّها لا شكّ أثّرت على أقلّ تقدير في تحريك بعض عواطفهم إليه: كالشَفَقة دنيويّاً، والتعرّف على مستواه دينيّاً، وهذا أمر يقتضي فتور الهمّة في ممارسة حربه وضربه محالة.

____________________

(١) هو مُسلم بن عَوسجة بن سعد بن ثعلبة... الأسدي السعدي، ذَكرتهُ عامّة المصادر التاريخيّة بأنّه أوّل قتيل من أنصار الحسينعليه‌السلام بعد الحَملة الأولى.

كان شريفاً في قومه صحابيّاً جليلاً ممّن رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وروى عنه، وكان ممّن كاتبَ الحسينعليه‌السلام من أهل الكوفة ووفى له بذلك، فقد كان يأخذ البيعة له على يد مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وعَقدَ لهُ مسلم على ربع مذحج وأسَد لمحاربة ابن زياد، وبعد فَشل الثورة وقَتل مسلم وهاني اختفى مدّة بين قومه ثمّ خرجَ بأهله مُتخفيّاً إلى الحسينعليه‌السلام ، فأدركهُ وهو في كربلاء فاستشهدَ بين يديه، ويبدو من خلال المصادر الباحثة عنه، أنّه كان شيخاً كبير السنّ ومن الشخصيّات الأسديّة البارزة في الكوفة (واقعة الطف لبحر العلوم: ص٥٢٦).

١٧٧

النقطة الرابعة: قولهم للحسينعليه‌السلام :(قلوبُنا معك وسيوفنا عليك) ، وهذا معناه: أنّ السيوف وإن كانت عليه ظاهراً، إلاّ أنّ القلوب معهُ واقعاً فمن غير المحتمل أن توجد لهم همّة حقيقيّة لحربه.

النقطة الخامسة: ما وردَ في التاريخ عنه شخصيّاً: أنّ أفراد الجيش المعادي كانوا يتحامون عن قتله(١) ، و لا يريد كلّ منهم أن يكون هو البادئ بالضرب ضدّه، ومن دلائل ذلك: أنّه وردَ عن أصحابه أنّهم التحموا في مبارزات مفردة مع الأعداء، مع أنّه لم يرِد ضدّ الحسينعليه‌السلام ذلك أصلاً، بل كان يكتفي بالهجوم على الجيش ككلّ، وهم يفرّون من بين يديه فرار المِعزى إذا شدّ فيها الذئب، كما وردَ مثاله في التاريخ(٢) .

النقطة السادسة: ما وردَ من بعض أفراد الجيش المعادي، بل ربّما عددٍ منهم، كانوا يُشفقون على الحسين وأصحابه، حتّى أنّ عمر بن سعد - وهو قائد الجيش كلّه - شوهِدَ والدموع تنزل من عينيه أكثر من مرّة(٣) .

وممّا يَدعم ذلك: ما وردَ من أنّ الحسينعليه‌السلام حين أخذَ ولدهُ الرضيع ليطلب لهُ الماء، اختلفَ العسكر في شأنه فقال بعضهم:إن كان ذنبٌ للكبار فما ذنبُ الصغار ، وقال البعض:لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية (٤) .

إذاً، فليسوا كلّهم على رأيٍ واحد، وكان يوجد فيهم مَن هو مستعدّ للمناقشة، وإن لم يكن يظنّ أنّ الأمر سوف يؤول بالحسين وأصحابه إلى هذه الدرجة من البلاء.

____________________

(١) الخوارزمي: ج٢، ص٣٥.

(٢) البحار للمجلسي: ج٤٥، ص٥٠، اللهوف لابن طاووس: ص٥١.

(٣) الكامل لابن الأثير: ج٤، ص٣٢، تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٥٩.

(٤) مقتل الخوارزمي: ج٢، ص٣٨.

١٧٨

النقطة السابعة: إنّ أهل الكوفة وضواحيها يومئذٍ، ممّا لا دليل تاريخيّاً على كثرتهم بهذا المقدار الوفير، ولعلّ مجموع أفرادهم من رجال ونساء وأطفال لم يكن يتجاوز المئة ألف أو المئة والعشرين، فكيف يخرج من المئة وعشرين مئة وعشرون؟ وهل يخرجون كلّهم من نساء وأطفال وشيوخ وعَجَزة، مع العلم أنّهم يقولون: إنّهم مئة وعشرون ألف مُحارب، وليسوا من هذا القبيل، وهل يمكن أن نقول: إنّ الكوفة خَلَت تماماً من الرجال في ذلك الحين، ولم يبقَ مَن يحرس البيوت ويقوم بشؤونها؟

فإذا ضَممنا إلى هذا الاستبعاد أمراً آخر: وهو أنّ كثيراً من أهل الكوفة، كان يمكنهم عدم تسليم أنفسهم للحرب ضدّ الحسينعليه‌السلام : إمّا بالجلوس في داره عدّة أيّام، أو بالسفر خارج الكوفة عدّة أيّام، أو بالتعلّل بالمرض، أو بحاجة العائلة إليه، أو بوجود مريض لديه، أو غير ذلك كثير، وعَلمنا مع ذلك: أنّهم كانوا يتحامون عن حربه وضربه، إذاً فكم من النسبة بقيت ممّن يمكن أن يخرج من أهل الكوفة فعلاً لحرب الحسينعليه‌السلام ؟

النقطة الثامنة: إنّ من جملة ما أوجبَ تجمّع الجيش: هو أنّ أمير الكوفة يومئذٍ عبيد الله بن زياد، وعدَ بمضاعفة العطاء للأفراد الخارجين في هذا الجيش، أو أنّه وعدَ بزيادة كلّ فردٍ منهم عشرة دنانير(١) ذهبيّة في ذلك الحين، على اختلاف النقل التاريخي.

ونحن إذا أخذنا بأضعف الاحتمالات وأقلّها: وهو أن يكون الجيش ثلاثين ألف وأنّ العطاء عشرة لكلّ فردٍ، فستكون الدنانير الموزّعة ثلاثمائة ألف دينار ذهبي، فهل كان عبيد الله بن زياد يملك هذا المقدار من الدنانير؟

____________________

(١) تاريخ الفتوح لابن أعثم: ج٥، ص١٥٧، ط ٩، أسرار الشهادة للدربندي: ص٢٥٦، الأخبار الطوال للدينوري: ص٢٧٣.

١٧٩

مضافاً إلى ما يحتاجهُ هو وتحتاجه قيادة الجيش المعادي الذاهب إلى كربلاء منها، مع العلم أنّ النقد بالأساس في تلك العهود كان قليلاً والمسكوك منه يكاد يكون نادراً، فمن أين حصلت هذه الألوف من الدنانير الذهبيّة؟

وهنا يخطر في البال: أنّ الناس اكتفوا بمجرّد الوعد وإن لم يقبضوا المال، وكان هذا كافياً لحثّهم على الخروج إلى الحرب.

وجوابُ ذلك من وجوه أهمّها:

إنّ الفرد المحارب يحتاج إلى المال لخروجه، ويحتاج إلى المال لعائلته الباقية في المدينة، ويحتاج المال لسلاحه، وحاله الاقتصادي الخاص به لا يساعد في الأعمّ الأغلب من التخلّي عن ذلك.

إذاً، فاكتفاؤهم بالوعد أمر مستبعد، فإذا ضَممنا إلى ذلك عِلمهم بقلّة النقد أساساً، وصعوبة توزيعه من قِبل عُبيد الله بن زياد - كما أشرنا - لم يبقَ لهم أيّ دافعٍ حقيقي للتصديق بهذا الوعد الزائف.

النقطة التاسعة: ولعلّها الأهمّ وإن جعلناها في المؤخّرة من هذه النقاط: هي أنّ الكوفة بلد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والد الحسينعليه‌السلام قبل سنوات قليلة من ذلك الحين، وأغلبهم جدّاً قد شاهدَ ذلك الإمام وسمعَ خُطبه ومواعظه سلام الله عليه، وشاهدَ وَلده الإمام الحسنعليه‌السلام وسمعَ منه، بل وشاهدَ الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه في مُقتبل عمره، ولم يعرفوا منهم إلاّ الخير والصلاح، بل ما هو أفضل كما هو معلوم، فمن أين يأتي هذا الحقد المتزايد والتألّب المكثّف على الإمام الحسينعليه‌السلام فجأة وبدون سابق إنذار كما يعبّرون، لمجرّد أنّ عُبيد الله بن زياد أمرَ بالزيادة الماليّة القليلة؟

صحيح أنّ الكوفة أو أنّ سكّانها لم يكونوا مُجمعين على الولاء لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل كان فيها اتّجاهات مختلفة حتّى من الدهريّة والخوارج وغيرهم، إلاّ أنّ الذي يُفيدنا في المقام أمور:

أوّلاً: إنّ الأغلب من سكّانها كان وما زال موالياً لأمير المؤمنينعليه‌السلام .

١٨٠