أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين0%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف: السيد محمد الصدر
تصنيف:

الصفحات: 250
المشاهدات: 111044
تحميل: 14273

توضيحات:

أضواء على ثورة الحسين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111044 / تحميل: 14273
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

ثانياً: إنّ الاتّجاهات الأخرى في الكوفة تُمثّل جاليّات قليلة جدّاً.

ثالثاً: إنّ هناك عدد من نفوس الأفراد تُشكّك - على الأقل - في جواز حرب الحسين أمام الله سبحانه، وإن لم تجزم بحرمته وهذا يكفي.

وصحيحٌ أنّ الكوفة غَدرت بأبيه وأخيه، كما قالوا للحسينعليه‌السلام حين أرادوا إرجاع نظره عن السفر إليها، إلاّ أنّ هذا هو الظاهر الذي فعلهُ الأشرار وهم القلّة منهم، وهذا لا ينافي وجود مَن يواليه فعلاً أو يتورّع أمام الله سبحانه وتعالى عن حربه.

وصحيحٌ أنّ الحسينعليه‌السلام لو وصلَ إلى الكوفة فعلاً - وهي تحت حُكم عبيد الله بن زياد - لم يستطع أن يجد أحداً يبايعه، إلاّ أنّ هذا لا يُنتج معنى الإخلاص لابن زياد من قِبل الجميع، بل ينتج أنّ الناس كانوا يومئذٍ في خوف ورعب من إظهار الولاء للحسينعليه‌السلام ، وهذا لا يعني بكلّ وضوح استعداهم لحمل السيف ضدّه، أو قل: لحمله بهذه السعة وبهذه المرارة والقسوة.

النقطة العاشرة: جهود رسول الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة، مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، فإنّه أخذَ البيعة على نطاق واسع وألّب العواطف باتّجاه الحسينعليه‌السلام ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً وسمعَ الناس مواعظه وخطبه، وقرأوا الكتاب الذي كان معه من الحسينعليه‌السلام (١) ، حتّى أثمرَت جهوده بإرسال الكتب إليهعليه‌السلام للوفود إليهم والورود عليهم، وقالوا في كتابهم الأخير:(فأقبِل يا بن رسول الله، إنّما تَقبِل على جُندٍ لك مجنّدة والسلام) (٢) .

____________________

(١) أسرار الشهادة: ص٢٠٠، تاريخ الفتوح لابن أعثم: ج٥، ص٥٦.

(٢) مقتل الخوارزمي: ج١، ص١٩٥، تاريخ الطبري: ج٦، ص١٩٧.

١٨١

وبحسب ما هو المعروف من نظام النفوس أو القلوب - لو صحّ التعبير - أنّها لا يمكن أن تنقلب من هذه الصداقة الحميمة إلى العداوة القاسية بين عشيّة وضُحاها، بدون أن ترى الحسينعليه‌السلام ، أو أن تسمع منه شرّاً أو ترى منه ضرراً وحاشاه.

وقد يخطر في الذهن: إذاً فكيف قُتل الحسينعليه‌السلام ؟ إذ لو تمّ ما قلناه، إذاً لم يخرج إلى قتاله أحد إلاّ شرذِمة قليلة قابلة للسيطرة عليهم أو صدّهم بكلّ سهولة، ولم يحتج الأمر إلى تلك المظالم والآثام.

وجواب ذلك: أنّ الجيش المعادي للحسينعليه‌السلام ، في حدود ما نحتاج إليه من فكرة الآن، يمكن تقسيمه إلى قسمين:

القسمُ الأوّل: وهو الأغلب أو الأغلب جدّاً، وهم الواردون مع الأعداء خوفاً أو طمَعاً أو إحراجاً، أو نحو ذلك من المصاعب الدنيويّة، مع كونهم يتورّعون بقليلٍ أو بكثير عن ضرب معسكر الحسينعليه‌السلام ، إلاّ تحت ضغطٍ مماثل من قِبل قادتهم، وربّما كان بعضهم إذا تلقّى الأمر بالهجوم مع جماعة يجول بفرسه هنا وهناك، باعتبار أنّه متصدي للهجوم ولكنّه لا يَضرب، أو يَضرب بالأقلّ المجزي، أو لا يَضرب إلاّ تحت الإحراج الشديد(١) .

ولا ينبغي أن يخطر في البال: أنّ هؤلاء وأمثالهم ناجون من العقوبة الأخرويّة، وأنّهم أخيار أو إبرار، كلاّ ثمّ كلاّ، يكفي أنّهم يقفون موقفاً مُعادياً للحسينعليه‌السلام ويشاركون في ترويع أصحابه وأهل بيته، وينصرون أعداءه ويكونون مشمولين لقولهعليه‌السلام :(مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا، أكبّهُ الله على منخرَيه في النار) (٢) ، وهم وإن لم يحاربوا الحسينعليه‌السلام حقيقة، إلاّ أنّهم لم ينصروه بكلّ تأكيد.

____________________

(١) الإيقاد للعظيمي: ص١٢٩.

(٢) مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٢٧، البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٣١٥.

١٨٢

والمهمّ الآن: أنّ هذا القسم من الناس هو الذي كان يُشكّل الجمهور الغفير من الجيش المعادي، وأنّ هذا المستوى من التفكير لديهم هو الذي أدّى إلى احتشاد الجمهور ضدّ الحسينعليه‌السلام .

القسم الثاني: وهم المعاندون ضدّ الحسينعليه‌السلام والحاقدون عليه، وهم قلّة موجودة في الكوفة فعلاً، ولا شكّ أنّهم استغلّوا الموقف للخروج، كما لا شكّ أنّ ابن زياد استغلّهم للقتال، كما أنّهم بلا شكّ يُشكّلون جماعة مهمّة وقابلة للتأثير الكبير في المجتمع الكوفي وما حوله، سواء حال جَمع الجيش أو حال القتال، ممّا يشكّل في كربلاء عدداً معتدّاً به من المحاربين، وهو الذي أوجبَ الانتصار العسكري بالمعنى المباشر للجيش المعادي للإمام الحسينعليه‌السلام .

١٨٣

توصياتٌ عامّة للخُطباء

يحسُن بنا قبل الدخول في التفاصيل الآتية أن نلمّ إلمامة، بما ينبغي أن يكون عليه حال الخطباء الحسينيّين، لكي يتطوّروا إلى الأفضل في الدنيا والآخرة، وبذلك يُحرزون خير الدارين وكلّ ما تقرّ به العين.

والنصائح العامّة تنقسم إلى قسمين: منها ما يرتبط بالمسؤوليّة الدينيّة العامّة، ومنها ما يرتبط بواقعة الحسينعليه‌السلام ، ونحن فيما يلي ذاكرون بعون الله الأهمّ ممّا يخطر على البال من كلا القسمين:

أوّلاً: البدء بالخطبة بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، لا بشيء آخر حتّى لو كان ذاكراً للحسينعليه‌السلام ، فإنّ كل ّكلام لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر، وبالبسملة يمكن للخطيب أن يُعاذ في خطبته من الشيطان وأن يُؤيَّد برحمة الرحمان.

ثانياً: الموعظة والإرشاد؛ فإنّه من الضروريات والواجبات في هذا المجتمع وفي كلّ مجتمع، وفي هذا الزمان وفي كلّ زمان، لكي تصل الموعظة إلى أهلها ويستفيد منها أكبر عدد ممكن، سواء كانت الموعظة مرتبطة بقضايا الحسينعليه‌السلام أم لا؟ فإنّ في تلك القضايا من العِبر والمواعظ ما لا حدّ لهُ، فضلاً عن غيرها.

ثالثاً: عدم إيذاء أحد من الناس أو من الطوائف في كلام الخطباء، وهو معنى (التقيّة) فإنّها واجبة على كلّ حال، ما لم يكن الأمر خارجاً عن موردها، يعني أن يَحرز الفرد أنّ كلامه سالم النتيجة.

١٨٤

رابعاً: التورّع عن نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومينعليهم‌السلام وغيرهم كذباً؛ فإنّ الكذب على المعصومين من أعظم الكبائر، والكذب على غيرهم كبيرة، سواء على الأشخاص التاريخيّين، أو على مؤلّفي المصادر، أو على أيّ مؤمنٍ ومؤمنة، وأوضح أسلوب يتّخذه في هذا الصدد أن يقول: (قيل)، أو (روي)، أو (يقال)، ونحو ذلك حتّى لا ينبغي له ذكر أحد من أسماء المؤلّفين، ما لم يَحرز باليقين وجوده في كتابه وصحّة انتساب الكتاب إليه باليقين أو بدليلٍ معتبر.

خامساً: أن يتوّرع من نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومينعليهم‌السلام وغيرهم، باعتبار لسان الحال، شعراً كان ما يقوله الخطيب أم نثراً، فصيحاً كان الكلام أم دارجاً، ما لم يَعلم أو يطمئنّ بأنّ لسان حالهم هو كذلك فعلاً، وقد ناقشنا ذلك مفصّلاً فيما سبق، فراجع.

سادساً: أن يتوّرع الخطيب عن ذِكر الأمور النظريّة والتاريخيّة أو غيرها، ممّا قد يُثير شُبهات حول الأمور الاعتقاديّة في أذهان السامعين، ويكون هو قاصراً أو عاجزاً عن ردّها ومناقشتها أو غافلاً عن ذلك، بل يجب عليه أن يختار ما سيقوله بدقّة وإحكام، وإلاّ فسوف يكون هو المسؤول عن عمله، فيقع في الحرام من حيث يعلم أو لا يعلم.

وينبغي أن يلتفت إلى أنّ هذا ممّا لا يُفرّق فيه بين أن يكون مرتبطاً بحوادث الحسينعليه‌السلام أو غير مرتبط، أو كان مُسلّم الصحّة في اعتقادهم أو غير مُسلّم.

سابعاً: أن يحاول الخطيب سترَ ما سترهُ الله سبحانه وتعالى من الأمور، فلا يُصرّح بأمورٍ قد حَدثت خلال الحرب أو القتل، قد توجِب ذلّة أو مهانة المقتول، أو ما يسمّى في عرفنا (بالبهذلة)، فيسكت عن كلّ شي يوجِب بهذلة المؤمنين الموجودين يومئذٍ، بل كلّ المؤمنين في كلّ جيل، وخاصّة الحسينعليه‌السلام ونسائه وأصحابه وأهل بيته.

١٨٥

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أمرين:

الأمرُ الأوّل: إنّ هذا الذي قلناه الآن غير ما سبق أن نفيناه من وجود الذلّة للحسينعليه‌السلام وأنصاره؛ فإنّهم لم يمرّوا في الذلّة بكلّ تأكيد، ولكنّ المقتولين مرّوا بالذلّة بكلّ تأكيد، وهذا ما تعمّده الأعداء وما يكون طبيعيّاً وجوده عند الحرب، إلاّ أنّ ستره واجب، والتصريح به حرام.

الأمرُ الثاني: إنّ هذا الذي قلناه غير ما سبقَ من حرمة نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين وغيرهم كذباً، بمعنى أنّ الخطيب حتّى لو كان عالِماً بالحال، أو متأكّداً منه، أو قامت عنده الحجّة الشرعيّة لديه، فإنّه أيضاً لا يجوز عليه أن يفتح فَمه بالأمور التي توجب مهانتهم رضوان الله عليهم.

ثامناً: أن لا يروي الخطيب أموراً مستحيلة بحسب القانون الطبيعي حتّى وإن ثَبتت بطريقٍ معتبر؛ لأنّها على أيّ حالٍ ستكون صعبة التحمّل على السامعين، ولعلّ أوضح أمثلة ذلك: ما يذكرهُ بعض الخطباء عن عليّ بن الحسين الأكبر (سلام الله عليه)، أنّه حين ضُرب على رأسه بالعمود تناثرَ مُخّه، وفي بعض المصادر أنّه سالَ مُخّه على كتفيه، ثمّ يقول الخطباء: إنّه في آخر رَمق من حياته دعا أباه الحسينعليه‌السلام ، فبادرَ بالذهاب إليه فأخبرهُ قائلاً:

(هذا جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد سقاني شُربة لا أظمأُ بعدها أبداً) (١) .

مع العلم اليقين أنّ مَن تناثرَ مُخّه، فهو ميّت لا محالة، ولا يستطيع الكلام ولا بكلمة واحدة، فضلاً عن انتظار مدّة إلى أن يصل إليه أبوه؛ فإنّ تَلف المخ طبيّاً يعني الوفاة،

____________________

(١) مقتل الخوارزمي: ج٢، ص٣١، اللهوف لابن طاووس: ص٤٩، البحار: ج٤٥، ص٤٤.

١٨٦

وعدم إمكان استمرار الحياة بكلّ تأكيد، فيكون ما يقوله الخطباء من كلامٍ بعد ذلك مُمتنعاً بحسب القانون الطبيعي، إلاّ أنّ يقول: إنّ مُخّه لم يتناثر ولم يسل على كتفيه، عندئذٍ تكون له فرصة الكلام.

وقد يخطر في البال أمران:

الأمرُ الأوّل: إنّ هذا وأمثاله يمكن أن يحصل بنحو المعجزة؛ فإنّه وإن كان خارقاً للناموس الطبيعي، إلاّ أنّ كلّ معجزة خارقة له بطبيعة الحال، فليكن هذا منها.

وجواب ذلك: إنّنا بحسب ما نفهم، فإنّ واقعة كربلاء بكلّ تفاصيلها ليست قائمة على شيء من المعجزات، وإلاّ لم يكن الإمام الحسينعليه‌السلام في حاجة إلى الحرب، وإلى تحمّل هذا البلاء الدنيوي العظيم، بل كان يمكن بدعاء واحدٍ لله عزّ وجل أن يقتل كلّ أعدائه، وأن يعود إلى المدينة بأسلوب طيّ الأرض، أو أن يُسخّر الجنّ، أو الملائكة في القتال، أو أن يَصرف قلوب أو أذهان أعدائه عن مقاتلته أو قتله إلى غير ذلك من احتمالات السلامة، ولعلّنا نبحث هذا الأمر بمزيدٍ من التفاصيل حين تسنح الفرصة إليه قريباً.

الأمرُ الثاني: إنّه من المروي، بل المؤكّد حصول بعض المعجزات في ساحة كربلاء يومئذٍ، حين يوجد شخص أو أكثر، وربّما مُتعدّدون دعا عليهم الحسينعليه‌السلام ، فحصلَ فيه حادث مروّع:كالموت حَرقاً، أو غرقاً (١) ، أو غير ذلك، وإذا أمكنت المعجزة هناك مرّة أمكنت مرّات.

____________________

(١) كالذي جرى مع (ابن جوزة)، فقد ذَكر السيّد المقرّم في مقتله نقلاً عن مَجمع الزوائد للهيثمي: ج٩، ص١٩٣، ومقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٤٩، وروضة الواعظين للفتّال: ص١٥٩: (أنّ عبد الله بن جوزة أتى الحسينعليه‌السلام وصاحَ: يا حسين، أبشر بالنار، فقال الحسينعليه‌السلام :(كذِبتَ، بل أقدِم على ربٍّ غفور كريم فمَن أنتَ؟ فقال: أنا أبو جوزة، فرفعَ الحسينعليه‌السلام يديه حتّى بانَ بياض إبطيه وقال:اللهمّ جرّهُ إلى النار) ، فغضبَ ابن جوزة وأقحمَ فرسهُ إليه، وكان بينهم نهر فسقطَ عنها، وعَلِقت قدمهُ بالركاب وجالت به الفرس، وانقطعت قَدمه وساقه وفخذه وبقى جانبه الآخر بالركاب، وأخذت تضرب به كلّ حجرٍ وشجر، وألقتهُ بالنار المشتعلة في الخندق.

وكالذي جرى مع محمّد بن الأشعث حينما قال للحسينعليه‌السلام : أيّ قرابة بينك وبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ! فدعا عليه الحسينعليه‌السلام ، فخرجَ من المعسكر لقضاء حاجته، فلَدغهُ عقرب أسود لدغة تركتهُ متلوّثاً في ثيابه ممّا به، وماتَ باديَ العورة (مقتل المقرّم نقلاً عن روضة الواعظين للفتّال: ص١٥٩، الكامل لابن الأثير: ج٤، ص٢٧).

١٨٧

وجواب ذلك على مستويين:

المستوى الأوّل: إنّ المروي من أمثال هذه الحوادث قد حَدثت بأسباب طبيعيّة، مهما كانت ضعيفة، فهي وإن كانت استجابةً لدعاء الحسينعليه‌السلام ومن أقسام المعجزة، إلاّ أنّ الله سبحانه لم يشأ أن تَحدث فجأة وبدون سبب، وإذا عُرف السَبب زالَ العَجَب.

المستوى الثاني: إنّنا لو تنازلنا عن المستوى الأوّل وفرضناها معجزات ناجزة، فيمكننا أن نلتفت إلى أنّ المعجزات على قسمين في حدود ما نستهدفه الآن:

القسم الأوّل: معجزات قد تحصل لإقامة الحجّة على المعسكر المعادي، لجلب الانتباه إلى أنّ الحقّ إلى جانب الحسينعليه‌السلام وأصحابه، وتركيز ذلك في أذهانهم، فإنّني أعتقدُ أنّهم لم يكونوا يحتاجون إلى ذلك في موقفهم أمام الله سبحانه، لوضوح ذلك للمعادين وغيرهم، ولكن قد تقتضي الحكمة الإلهيّة الزيادة في ذلك التركيز واثبات ذلك حسيّاً أمامهم؛ لإمكان أن يرجع بعضهم إلى التوبة، وإن لم يرجع لها فسوف يشعر بضخامة عمله ووخامة عاقبته، وهذا ما يندرج في إجابة دعاء الحسينعليه‌السلام في بعض الأفراد، كما سبق.

القسم الثاني: معجزات لا ربطَ لها بإقامة الحجّة على المعسكر المعادي، بل لعلّ الحكمة تقتضي عدم تحقّقها؛ ليكون البلاء الدنيوي الواقع على معسكر الحسينعليه‌السلام أشدّ، لتكون المقامات لهم أعلى، والثواب أجزل، ورضاء الله سبحانه وتعالى أفضل.

١٨٨

تاسعاً: من الأمور التي ننصح بها الخطيب الحسيني أيّاً كان:

أن يحاول برمجة مصادره جهد الإمكان في قالب موحّد ومنسجم، وليس متنافراً ومتناقضاً من ناحية، ولا متباعداً ومتناثراً من ناحية، بل يذكر أموراً متقاربة تاريخيّاً منسجمة نظريّاً، ويبذل أقصى إمكانه فيه.

عاشراً: أن يَدع ما أمكن التفلسف في الحوادث، أعني التعرّض إلى الحُكم والأسباب التي اقتضتها، ما لم يَحرز في نفسه الإصابة لذلك، وإلاّ فليدع ذلك إلى أهله، وهو خيرٌ له في الدنيا والآخرة من أن يكلّف نفسه ما لا يُطيق، أو أن يُكلّف السامعين ما لا يطيقون، فقد تثبُت الشُبهة في أذهانهم ويكون الخطيب عاجزاً عن ردّها، أو عن إقناع السامعين بالرد، فيتورّط بالحرام من حيث لا يعلم، وليس ذلك فقط، أعني فيما يخصّ كربلاء، أو حركة الحسينعليه‌السلام ، بل كلّ أمور الشريعة على هذا الغرار، فلا ينبغي لأيّ فردٍ التعدّي إلى التفلسف فيها ما لم يَحرز في نفسه الأهليّة والقدرة، وإلاّ فمن الأولى لهُ إيكال عِلمها إلى الله سبحانه:( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) (١) .

ومن أمثلة ذلك: ما سمعتهُ شخصيّاً من بعض الخطباء، حيث كان يُحلّل معنى ما ورد:(لا عَدوى في الإسلام) (٢) ، ولم يكن يُفلح في ذلك، وسمعتُ من بعضهم أيضاً: أنّه كان يُحلّل قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام ، على ما هو مروي في نهج البلاغة:(يا علي، إنّك ترى ما أرى وتسمعُ ما أسمع) (٣) .

____________________

(١) سورة آل عمران: آية ٧.

(٢) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج١٩، ص٣٨١.

(٣) نهج البلاغة: خطبة ١٩٢، ص٣٠١، تحقيق د. صبحي الصالح.

١٨٩

وكلاهما كان عاجزاً عن الوصول إلى حقيقة المعنى، فلو كانا قد تعرّضا إلى ما ينفع الناس من أمورهم الخاصّة والعامّة، لكانَ خيراً لهم وأحسن تأويلاً.

الحادي عشَر: أن يدع الخطيب التشكيك فيما تسالم العامّة - أعني جمهور الناس - على صحّته، فضلاً عن إنكاره بصراحة؛ فإنّه ينبغي أن يستهدف هدايتهم وتوجيههم نحو الطاعة والعقيدة، ومن الواضح أنّهم إذا وجدوا مثل هذا التشكيك في كلامه سوف ينتقدونه وسيسقط من أنظارهم، فيسبّب ذلك عدم سماعهم لمواعظه وإرشاده، أو بُعده عنهم، أو مقاطعتهم له عمليّاً.

ومن هذا القبيل: ما طرَقَ سَمعي من أنّ شخصاً معروفاً في هذا العصر، طبعَ كتاباً عن الحسينعليه‌السلام ، حاولَ فيه بوضوح أن يبرهن على أنّه (سلام الله عليه) لم يكن يعلم بمقتله قبل حصوله، فسقطَ الكتاب والمؤلِّف عن أعين الناس، كما هو أهلٌ له فعلاً، لو صحّ النقل(١) .

الثاني عشر: أن لا يَنسب الخطيب الحسيني وغيره إلى غير المعصومين من المؤمنين - فضلاً عن المعصومينعليهم‌السلام - الوقوع في الحرام، قلّ ذلك أم كثُر؛ فإنّ غير المعصومين وإن كان يمكن ذلك في حقّهم، إلاّ أنّه مع ذلك يجب السكوت عن مثله:

أوّلاً: لأنّهم علماء عظماء من تربية الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

ثانياً: لأنّ نسبة المحرّم إليهم لم يَثبت بطريقٍ معتبر لو وجِد، فيكون ذكرهُ من الكذب الحرام.

ثالثاً: لو تنزّلنا وفَرضنا ثبوته بدليلٍ معتبر، فالسترُ على فاعله أولى وأفضل.

رابعاً: لو تنزّلنا عن كلّ ذلك، فلا أقلّ من عدم تحمّل الجمهور لمثل هذه الروايات،

____________________

(١) كتاب (شهيد جاويد) بالفارسيّة، وقد تُرجم إلى العربيّة باسم واقعة كربلاء (ط).

١٩٠

ممّا يحصل رد فعلٍ غير مناسب لديهم، فإمّا أن يسقط الخطيب من أنظارهم، وإمّا أن يتجرّأوا على الحرام، بعنوان: أنّ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام ، كانوا يعملون الحرام فلماذا لا نعمله، وتكون الخطيئة في النتيجة في ذمّة الخطيب الناقل للرواية.

ويحسن بنا الآن أن نذكر لهذا الأمر مثالين يخطران على البال؛ لأجل التدليل بهما أوّلاً، ولأجل التعرّض إلى فلسفتهما وأسبابهما ثانياً:

المثال الأوّل: قولهُ عن نساء الحسينعليه‌السلام في وصف حالهنّ بعد مقتله، وذلك في زيارة الناحية:(فخرجنَ من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات، وللوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مُذلّلات، وإلى مصرعك مُبادرات) (١) .

حيث إنّ الظاهر الأوّلي لقوله: ناشرات الشعور، كونهنّ كذلك أمامَ الرجال الأجانب من المعسكر المعادي، وهو ممّا لا شكّ في حُرمته في الشريعة المقدّسة، فيكون ذكرهُ من نسبة المحرّم إلى نساء الحسينعليه‌السلام .

وجوابُ ذلك من وجوه:

الوجهُ الأوّل: ضعف هذه الرواية سنداً، فهي لا تقوم كدليلٍ معتبر على أيّ شيء فيها، فينتفي الأمر من أصله.

الوجه الثاني: لو تنزّلنا وفرضناها معتبرة، فالدليل إنّما يكون معتبراً في حدود ما يمكن تصديقه والأخذ به من المعاني والأفكار، وأمّا ما لا يمكن فيه ذلك فلا يكون الدليل معتبراً أو حجّة فيه، فإذا نَسَبت أيّة رواية إلى هؤلاء الأجلاّء أيّ محرّم - والعياذ بالله - كانت هي الساقطة عن الحجيّة، لا أنّ التصديق بمضمونها يكون ممكناً، وليست هذه الرواية ببدَعٍ عن ظواهر القرآن الكريم، حيث ثبتَ في علم الأصول أنّها إنّما تكون حجّة، إذا لم تكن منافية للدليل القطعي.

____________________

(١) زيارة الناحية المقدّسة المرويّة عن الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه).

١٩١

وأمّا إذا كانت منافية له، لم تكن حجّة كقوله تعالى:( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (١) ، أو قوله تعالى:( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (٢) ، بعد قيام الدليل العقلي القطعي على استحالة ثبوت مثل هذه الأمور للذات الإلهيّة المقدّسة.

الوجهُ الثالث: أنّ النساء كنّ مدهوشات وحائرات الفكر وغير شاعرات بواقعهنّ، لمدى الحُزن والأسى الذي تَملَكهنّ وسيطر عليهنّ لمقتل الحسينعليه‌السلام وأصحابه، فإذا كُنّ قد خرجنَ أمام الرجال الأجانب، فهنّ غير ملتفتات إلى واقعهنّ وغافلات عن الحكم الشرعي أو قل: ناسيات له، فلا يكون الحكم فعليّاً أو مُنجّزاً في حقّهنّ أو قل: إنّهن معذورات بالنسبة إليه، وهذا الوجه له درجة من الوجاهة، بعد التنزّل عن الوجهين السابقين، وهو المشهور بين الناس، ولعلّه هو المقصود في الزيارة لو كانت معتبرة سنداً، إلاّ أنّه مع ذلك لا يخلو من استبعادٍ لأمرين نذكرهما مع إحالة القناعة بهما إلى وجدان القارئ اللبيب:

الأمرُ الأوّل: إنّ النساء كنّ كثيرات كعشرة أو أكثر، ولم تكن واحدة أو اثنتين مثلاً، فإذا أمكنَ سيطرة الحزن بشدّة على واحدة أو اثنتين ونحو ذلك، لم يكن ذلك في الجميع باستمرار أو قل طيلة الوقت، فلا أقلّ من أنّ واحدة أو أكثر تلتفت لحالهنّ فيجب عليها تنبيههنّ على ذلك ويتمّ الأمر.

الأمر الثاني: إنّه يُستبعد جدّاً أن يكون مقتضى الحكمة الإلهيّة ذلك؛ لأنّ الحسينعليه‌السلام وأصحابه قُتلوا في سبيل الله والدين، فمن الصعب أو من السخف أن نتصوّر أنّ في التقدير الإلهي أن يصدر العصيان الصريح، والمنظر القبيح من نسائه الأشدّ ارتباطاً به من بعد مقتله مباشرة.

____________________

(١) سورة الفتح: آية ١٠.

(٢) سورة طه: آية ٥.

١٩٢

الوجه الرابع: للجواب على هذه الرواية: إنّه لم يقل في الرواية: ناشرات الشعور أمام الرجال الأجانب، أم أمام الأعداء ونحو ذلك، بل من الواضح أنّهن ناشرات الشعور فقط، وهذا من الممكن بل المتعيّن أن يكون ضمن التعاليم الدينيّة أو الحجاب الإسلامي، فإذا ضَممنا إلى ذلك هذه الفكرة، وهي: إنّ النساء في الشرق كنّ و لازلنَ، قد ورثنَ الأمر عن الأجيال السابقة ورأيناه عَياناًَ، وهو اعتياد النساء في حالة الحزن والمصيبة على الالتزام بنشر شعورهنّ وإرسالها وذلك لأمرين:

أحدهما: أنّ ذلك بنفسه علامة الحزن والحِداد.

وثانيهما: أنّ ذلك ناشئ من إعراضها عن الزينة حزناً، أو من ضيق نفسها عن التمشّط أساساً، إمّا حقيقةً، أو أنّ المرأة تريد أن تُظهر ذلك أمام الآخرين، أو أن تكون في هذا الحال كغيرها من النساء؛ فإنّ التزام النساء بعادات بعضهنّ البعض ممّا هو واضحٌ ومُسلّم.

فإذا ضَممنا هذه الفكرة إلى ما سبقَ أمكننا أن نقول: إنّ نساء الحسينعليه‌السلام ناشرات الشعور، حِداداً على هذا المصاب الجَلل، وحزناً وإظهاراً لزيادة المصاب، وليس في الأمر ولا في الرواية بالمرّة أنّهنّ كنّ ناشرات الشعور أمام الرجال الأجانب، بل كنّ كذلك في مجتمعهنّ الخاصّ، أعني النساء أمام بعضهنّ البعض.

فإن قال قائل: إنّ هذا الوجه مُحتمل وليس أكيداً، قلنا: إنّه بعد التنزّل عن كلّ ما سبق ممّا يقتضي كونه أكيداً، فإنّ مجرّد الاحتمال هنا يكفينا، كأطروحة موهِنة للاستدلال بهذه الرواية ضدّ نساء الحسينعليه‌السلام ، أو قيامهنّ بالمحرّمات، وإذا دَخلَ الاحتمال بطلَ الاستدلال.

المثال الثاني: لِمَا رويَ من قضايا الحسينعليه‌السلام ، ممّا يكون ظاهره العمل بشيءٍ من المحرّمات، مع التعرّض إلى جوابه:

١٩٣

ما وردَ في تاريخ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه): من أنّه حين أُخذَ مكتوفاً إلى عُبيد الله بن زياد، رأى قُلّة(١) ماء بارد فقال:اسقوني منها ، فقال له بعضهم: انظر إليها ما أبرَدها، لن تذوق منها حتّى تذوق الحميم، إلى أن تقول القصّة: إنّه صُبّ لهُ في قدح ماء وقرّبه إلى فمه لكي يشربه، فامتلأ القدح دَماً؛ لأنّه كان قد حَصلت له ضربة على شَفته العليا ووصلت إلى أسنانه فسكبَ الماء، فملؤوه لهُ مرّة أخرى، فامتلأ القدح دماً فسكبه، فلمّا كانت الثالثة قال:لو كان من الرزق المقسوم لشربتهُ (٢) .

ففي هذه الحادثة يمكن أن نلاحظ كملاحظة أوّليّة: عدم مشروعيّة مطالبة مسلم بن عقيلعليه‌السلام بالماء؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون ملتفتاً إلى جرحه الذي في فَمه أم لا، والجَرح لم يكن مضت عليه مدّة طويلة، ولعلّه كان ينزف لحدّ الآن.

أمّا عدم التفاته إليه فهذا مُستبعد جدّاً، باعتبار الدم الذي ينزف، وإن لم يكن له دم كان الألم موجوداً، ومن الصحيح أنّه (سلام الله عليه) يتحمّله ويصبر عليه، إلاّ أنّ ذلك لا يعني نسيانه، بحيث يستطيع أن يأكل أو يشرب كأيّ إنسانٍ اعتيادي.

فإذا كان ملتفتاً إلى الجَرح، فلماذا طلبَ الماء وهو يعلم سَلفاً باختلاطه بالدم؛ لأنّ الدم وإن لم يكن ينزف بشدّة، ولكنّه إذا شربَ الماء فسوف يدخل الماء في الجرح ويحدث نزف جديد يقيناً، فهذا فيه احتمالان باطلان لإتمام الاستشكال ومُحتمل ثالث صحيح للجواب عليه:

____________________

(١) القُلّة: بمعنى الجرّة، وقيل: الكوز الصغير (أقرب الموارد: ج٢، ص١٠٣٤ بتصرّف).

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢١٥، ط نجف، تاريخ الطبري: ج٦، ص٢١٢، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٧٤، مقاتل الطالبيين: ص١٠٧.

١٩٤

أمّا الاحتمالان الباطلان فهما:

الأوّل: أن يكون مسلم بن عقيلعليه‌السلام مستعدّاً لشرب الماء المختلط بالدم بالرغم من نجاسته، وهذا باطلٌ؛ لأنّه حرام أوّلاً، وينصّ التاريخ على تركه وإراقة الماء ثلاث مرّات ثانياً.

الثاني: تبذير الماء بحيث كان كلّما امتلأ دَماً أراقهُ، وخاصّة في المرّة الثالثة حيث كان من المعلوم حصول نفس النتيجة، وهذا الاحتمال باطل أيضاً؛ لأنّه وإن كان تبذيراً إلاّ أنّه ليس بمحرّم على مسلم بن عقيل في ذلك المورد، لوجود المصلحة فيه - على ما سيأتي - ولكن لو صحّ أحد هذين الاحتمالين لتمّ الاستشكال، ولم يبقَ عندنا من جواب إلاّ الطعن بسند هذه القصّة نفسها، واحتمال كونها مكذوبة أساساً أو تأكيد ذلك؛ لأنّنا نَجلّ مسلم بن عقيل عن مثل هذا الإسفاف.

ولكنّ الاحتمال الثالث والأخير يصلح جواباً على الإشكال أساساً: وهو أنّنا ينبغي أن نلتفت إلى أنّ طلبهُ للماء كان في أوّل دخوله على عبيد الله بن زياد، فأراد أن يبرهن له عمليّاً وحسيّاً على حاله السيّئة دنيويّاً والبلاء الحاصل عليه قبل القبض عليه وشدّ وثاقه، فهو مُتعب جدّاً وعطشان جدّاً ومجروح جَرحاً بليغاً، مضافاً إلى كونه أسيراً ومكتوفاً، ولئن كان في شرب الماء نوع من الراحة لهُ، فهو قد أصبحَ بحالٍ بحيث لا يستطيع أن يشرب الماء ليرتاح حتّى بهذا المقدار، كلّ هذا فَهَمهُ عُبيد الله بن زياد من تنفيذ طلبه ومحاولته لشرب الماء، بل أكثر من ذلك وهو: أنّ الجرح بليغ إلى درجة لا يؤمَل معه انقطاع الدم حتّى في الصبّة الثالثة للماء.

وهذا الذي أشرنا إليه: من أنّ المصلحة تقتضي وجود هذه الصّبة فلا تكون تبذيراً، فقد كان طلبهُ بيان عملي لشرح حاله لا أكثر، وبهذا يندفع الإشكال السابق جملةً وتفصيلاً.

١٩٥

مُسلم بن عقيل في الكوفة

حيث تحدّثنا عن مسلم بن عقيل ويُعتبر الحديث عنه حديثاً عن أوّل قضايا الحسينعليه‌السلام تقريباً، أودُّ بهذه المناسبة أن أعرض عدّة أفكار، أعرضها في العناوين التالية:

الأخوّة

حين أرسل الإمام الحسينعليه‌السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة، كتبَ معهُ كتاباً يُعرّفه لأهلها ويصفهُ بأنّه:(أخي وابن عمّي، وثقتي من أهل بيتي، والمفضّل عندي) (١) ، فهذه عدّة صفات:

أمّا كونهُ ابن عمّه: فهو تعبير عن قرابته فعلاً؛ لأنّ عليّاً وعقيل (سلام الله عليهما) أخوان شقيقان، وهما أبوا الحسين ومسلم.

وأمّا كونهُ أخاه: فهو على ما أعتقد أهمّ هذه الصفات على الإطلاق؛ لأنّه لم يكن أخاً شقيقاً حقيقة ولا غير شقيق، فلابدّ من حَمله على أحد معنيين: إمّا المعنى المجازي، أو المعنى المعنوي، ولا تنافي بينهما؛ لأنّه في الظاهر أخ مجازي وفي الباطن أخ معنوي.

وفي هذا الصدد ينبغي أن نلتفت إلى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين آخى بين أفراد المهاجرين والأنصار وترك عليّاًعليه‌السلام ، شكى إليه علي بأنّه لم يُعيّن له أخاً؟ فقال:(جَعلتك أخاً لنفسي) (٢) ، ومن هنا وردَ تشريفه بهذه الصفة بأنّه المخصوص بالأخوّة، يعني مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه ليست أخوّة مجازيّة بل أخوّة معنويّة وحقيقية على المستوى الإلهي.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص١٩٨، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤٢، مقتل الخوارزمي: ج١، ص١٩٥، الإرشاد للمفيد: ص٢٠٤، ط نجف.

(٢) أسد ُالغابة لابن الأثير: ج٤، ص١٦، مناقب ابن شهرآشوب: ج٢، ص٨٥ بتصرّف.

١٩٦

ومحلّ الشاهد من ذلك أنّنا نسأل: لماذا نحمل أخوّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الأخوّة المعنويّة، ولا نحمل أخوّة الحسين على نفس المضمون، فإمّا أن نحملهما معاً على عالَم المجاز، وإمّا أن نحملهما معاً على عالَم المعنى، و لا يحقّ لنا أن نحمل بعضها هكذا وبعضها هكذا؟

وحيث تعيّن أن تكون أخوّة عليعليه‌السلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله معنوية، كذلك ينبغي أن تكون أخوّة مسلم بن عقيل للحسينعليه‌السلام معنوية، كلّ ما في الأمر أنّ الفرق بين الأخوّتين: هو الفرق بين الشخصين أعني عليّاً ومسلماً من ناحية، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والحسين من ناحية ثانية، فهذه الأخوّة أدنى من تلك الأخوّة؛ لأنّها تختلف عنها باختلاف الحسين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّها مع ذلك شريفة وعظيمة جدّاً، بحيث لا تُقاس معها أيّ أخوّة أخرى في البشريّة.

هذا، وأمّا قوله:(ثقتي من أهل بيتي) فهو واضح المعنى، غير أنّ فيه جهتين من الحديث لابدّ من خوضهما:

الجهة الأولى: أنّ الوثاقة لا مَحالة تختلف، فهناك الثقة، وهناك الأوثق، وهناك الأوثق منه، وهكذا.

أمّا كلام الإمام الحسينعليه‌السلام ، فيدلّ على أنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ثقة للإمام المعصومعليه‌السلام ، وهذه أعلى أشكال الوثاقة بعد العصمة.

الجهة الثانية: أنّه قد يقع السؤال: أنّ في العبارة دلالة أو إشعاراً بأنّه أوثق من غيره من الهاشميّين(من أهل بيتي) ، ولا يوجد مَن هو في مستواه، مع أنّ فيهم الكثيرين ممّن يعدلونهُ في الوثاقة:كالعبّاس بن علي، وعليّ بن الحسين الأكبر، والقاسم بن الحسين السبط، فضلاً عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسين (عليه وعليهما السلام) ، وهو الإمام المعصوم بعد الحسينعليه‌السلام ؟

١٩٧

وجواب ذلك على مستويين:

المستوى الأوّل: إنّ قوله:(ثقتي من أهل بيتي) ، لا دلالة فيه على أنّ ثقاتهعليه‌السلام منحصرون فيه، وإنّ غيره ليس من ثقاته، أو أدنى منه في وثاقته؛ فإنّ هذه الاستفادة وأمثالها تسمّى في علم الأصول من مفهوم الوصف، وهو باطل على ما هو المبرهن عليه هناك؛ فإنّك لو وصفتَ شخصاً كريماً لم يكن معناه أنّ الآخرين ليسوا كُرماء، أو لا يوجد كريم غيره، وخاصّة إذا فَصَلنا نقطة بين الصفتين: أعني(ثقتي) من ناحية، و(من أهل بيتي) من ناحية أخرى؛ فإنّ هذا المعنى يكون واضح جدّاً، ولا دليل على ارتباطهما من هذه الناحية.

وعلى أيّ حال، فلو كان ظاهر العبارة ذلك، لابدّ من حَرفها عن ظاهرها وتأويلها؛ لأنّ الظاهر إنّما يكون حجّة مع عدم قيام الدليل على بطلانه، ومن العلوم بالضرورة أنّ مثل هذا الظاهر - بعد التنزّل جَدلاً عمّا قلناه - يكون غير مُحتمل الصحّة.

هذا، وكلّ هذه المستويات من الكلام يمكن أن نقولها في الصفة الأخرى، وهي قوله:(والمفضّل عندي) ، فراجع وتأمّل، مضافاً إلى أنّها رواية غير معتبرة السند.

وأمّا قياسه - أعني مسلم بن عقيلعليه‌السلام بالإمام المعصومعليه‌السلام - فهو غير مُحتمل أصلاً في ضمير المؤمنين ووجدانهم، وإنّما مراد الحسينعليه‌السلام لو أراد تفضيله على الآخرين، فإنّما يريد غير المعصومين منهم بطبيعة الحال.

المستوى الثاني: أن ننظر إلى أنّ الحسينعليه‌السلام لماذا اختار مسلماً بالذات للسفارة عنه في الكوفة، مع أنّ أهل بيته عديدون، فإذا أجبنا - كما سنسمع بعد قليل - أنّه هو الوحيد الصالح منهم للسفارة، أمكننا عندئذٍ أن نفهم من العبارة أنّه(ثقتي من أهل بيتي، والمفضّل عندي): ممّن هو صالح لهذه السفارة والمهمّة، وعندئذٍ لا بأس أن يكون هو الوحيد الموصوف بها.

١٩٨

وعلينا الآن استعراض بعض الموانع المحتملة التي كانت تحول دون إرسال غيره في هذه المهمّة:

أوّلاً: كان هناك جماعة لا يناسبهم العمر اجتماعيّاً للقيام بهذه المهمّة مهما كانوا علماء حكماء؛ لأنّهم كانوا شبّاناً صغاراً:كالقاسم بن الحسن، والإمام السجّاد عليه‌السلام ، وكذلك عليّ بن الحسين الأكبر على بعض الروايات(١) .

ثانياً: كان هناك أكثر من واحد يتّصف بالعوق المانع عن أداء المهمّة: كالعمى في عبد الله بن جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، والضُعف العام عن الحرب، أو ضُعف الذراعين عن الضرب، كما وردَ عن محمّد بن الحنفية وهو ابن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

ثالثاً: يبدو أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام تجنّبَ عن عمدٍ إيكال المهمّة إلى أولاد عليعليه‌السلام وأحفاده، بل أخرَجها عن هذه العائلة تماماً، والوجه الذي يبدو من ذلك - بغضّ النظر عمّا يأتي -: هو إجلال هذه العائلة عن مهمّةٍ أدنى منها، ويمكن لكثيرين من غيرهم القيام بها، وسيكون مسلم بن عقيل هو خير مَن يكون من خارج الأسرة.

رابعاً: ما يذكرهُ عدد من الخطباء: من أنّ الحسينعليه‌السلام حين حَجبَ المهمّة، أو مَنعها عن أخيه العبّاسعليه‌السلام ، وابنه الأكبر وأضرابهم، إنّما ذَخرها بذلك لنيل الشهادة معه في كربلاء، وهو مقام أسمى وأعظم؛ فإنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام وإن كان من شهداء الحسينعليه‌السلام ، إلاّ أنّ الشهادة بين يدي الحسين وسمعه وبصره، ولأجل الدفاع المباشر عنه مهمّة أعلى وأصفى وأقدس أمام الله عزّ وجل، وهذا على أيّ حال مربوط بالعلم الإلهامي الذي يُعرِّفه الإمام الحسينعليه‌السلام من قضاء الله وقَدَره.

____________________

(١) حيث كان عُمرُ عليّ الأكبر - على ما هو الأشهر بين المؤرّخين وأرباب المقاتل والنَسب - نحو ٢٧ سنة، كما عن الطريحي في المنتخب، وعُمر السجّاد يوم الطف ٢٣ سنة، كما في الإيقاد للعظيمي، وكان عُمر القاسم يوم الطف لا يتجاوز الحُلم، كما في مقتل الخوارزمي.

١٩٩

احتلالُ الكوفة

قد يخطر على البال السؤال: أنّ مسلم بن عقيل لماذا لم يحتل الكوفة احتلالاً عسكريّاً ويسيطر على الحكم فيها، وخاصّة بعد أن تمّ لديه مبايعة اثني عشر ألفاً من أنصاره(١) ، وقد كانوا وَعَدوه أو وعَدوا الحسينعليه‌السلام - في بعض كتبهم إليه - أن يطردوا النعمان بن بشير، حاكم الكوفة ممثّلاً عن الحاكم الأموي، وقالوا:

(ثمّ إنّه ليس علينا إمام غيرك، فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا جماعة ولا عيد، ولو بَلَغنا إقبالك إلينا، أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام إن شاء الله تعالى) (٢) .

وواضحٌ: أنّ إقبال مُمثّل الحسين ورسوله عليهم، كإقبال الحسين نفسه، فلماذا لم يفعلوا ذلك، ويتسبّبوا في أخذ زمام السلطة من قِبل مسلم بن عقيلعليه‌السلام ؟

والجوابُ على ذلك - بغضّ النظر عمّا قلناه في مقدّمات هذا البحث من أنّ عقولنا قد تقصر عن نيل الواقعيات أوّلاً، وأنّ هؤلاء العظماء عند الله كأمثال مسلم بن عقيل ممّن لهم التأييد والتسديد من الله سبحانه ثانياً، ومعهُ ينسدّ السؤال عن ذلك وغيره - يمكن بأمور:

الأمر الأوّل: إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) لم يكن مُخوّلاً من قِبل الحسينعليه‌السلام بالحرب، ولا باستلام الحكم في الكوفة؛ وإنّما كان مخوّلاً فقط لاستكشاف الحال في الكوفة وإرسال الخبر إلى الحسينعليه‌السلام ،

____________________

(١) هذا ما ذكرهُ المسعودي في مُروج الذهب: ج٣، ص٦٦، والكليني في كفاية الطالب: ص٢٨٢.

أمّا في مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٠ ذَكر أنّهم عشرون ألفاً، أمّا في تاريخ الطبري، والإرشاد للمفيد، ونهاية الإرَب للنويري، والإيقاد للعظيمي أنّهم ثمانية عشر ألفاً، وقد ذَكر ابن نما الحلّي في مُثير الأحزان أنّهم أربعون ألفاً.

(٢) الخوارزمي: ج١، ص١٩٤، الطبري: ج٦٥، ص١٩٧، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٦٦، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤١.

٢٠٠