أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين0%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف: السيد محمد الصدر
تصنيف:

الصفحات: 250
المشاهدات: 111020
تحميل: 14273

توضيحات:

أضواء على ثورة الحسين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111020 / تحميل: 14273
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

فكلِّمني، وإنْ خرجت إليك مُقنَّع الرأس فلا تُكلِّمني) . فحين خرج إليه مقنع الرأس هابه أبو الصلت أن يتكلم معه(١) ، مُضافاً إلى الرواية التي تقول: فقال له: إلى أين أنت ذاهب - يا ابن رسول الله -؟ فقال:(إلى حيث أرسلتني) (٢) .

إذاً؛ فهو يعلم أنَّه أرسله إلى الموت، ولم تكن إلى ذلك الحين دلالة طبيعيَّة أو عرفيَّة دالَّة على ذلك.

الوجه الثالث: إنَّ المعصومعليه‌السلام يعلم بتكليف شرعي مِن الله عزَّ وجلَّ، بالإلهام أو بالرواية عن جَدِّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تكليفاً وجوبيَّاً أو استحبابيَّاً بالسير في هذا الطريق - طريق الموت -. فهو بذلك يؤدِّي امتثاله لذلك التكليف الوجوبي أو الاستحبابي قُربة إلى الله تعالى، ورجاء لرضاء الله سبحانه وثوابه. تماماً كالعبد المؤمن الاعتيادي حين يُصلِّي، أو يصوم أو يحجُّ أو يتعبَّد عبادة واجبة أو مُستحبَّة. وهذا أحسن الوجوه التي عرفناها للجواب على مثل هذا السؤال على تقدير دلالة الآية الكريم على حُرمة التهلُكة. وقد عرفنا فيما سبق عدم دلالتها على ذلك إطلاقاً.

____________________

الصلت بعد وفات الرضاعليه‌السلام سنة، فضاق صدره فدعا الله بمحمد وآل محمد، فدخل عليه أبو جعفر الجوادعليه‌السلام فضرب يده إلى القيود، ففكَّها وأخذ بيده وأخرجه مِن الدار والحرسة والغَلمة يرونه فلم يستطيعوا أنْ يُكلِّموه فخرج مِن باب الدار، وقال له أبو جعفرعليه‌السلام :(امض في ودائع الله؛ فإنَّك لن تصل إليه و لا يصل إليك أبداً) الكُنى والألقاب ج١ص١٠٠.

(١) الدمعة الساكبة ص ٨٦ - عيون أخبار الرضا للصدوق ج٢ص٢٤٥.

(٢) نفس المصدر.

٦١

رضى الله رضانا أهل البيت

سمعنا الإمام الحسينعليه‌السلام فيما سبق في الخُطبة المرويَّة عنه أنَّه قال:(رضى الله رضانا أهل البيت) (١) . فنزيد هنا إعطاء فكرة كافية عن ذلك، فإنْ فهم هذه الجملة يحتوي على تقسيمين:

التقسيم الأوَّل: النظر إلى معنى الرضى في هذا الجملة، فإنَّنا تارة نفهم نفس الرضى بصفته عاطفة نفسيَّة محبوبة، وأُخرى نفهم منها: الأمر المرضي، يعني: الذي يتعلَّق به الرضى كما هو المتعارف عرفاً التعبير عنه بذلك ولو مجازاً.

التقسيم الثاني: النظر إلى ما هو المتبدأ والخبر في هذه الجملة، فإنَّه قد يكون (رضى الله...) مُبتدأ و (رضانا) خبر، كما هو مُقتضى الترتيب اللفظي لهذه الجملة. كما أنَّه قد يكون العكس صحيحاً، وهو أنْ يكون (رضا الله) خبراً مُقدَّماً و (رضانا) مُبتداً مُؤخَّراً.

وإذا لاحظنا كلا التقسيمين، كانت الاحتمالات أربعة بضرب اثنين في اثنين، ولكلٍّ مِن هذه المحتملات معناها المهمُّ.

ويُمكن أنْ نُعطي فيما يلي بعض الأمثلة لذلك في الفُهوم التالية:

الفَهم الأوَّل: أنْ يكون الرضى بمعنى الأمر المرضي، ويكون (رضى الله) في هذه الجملة هو المبتدأ؛ فيكون المعنى: أنَّ الأمر الذي يرضاه الله عزَّ وجلَّ نرضاه نحن أهل البيت. وهذا هو الفَهم الاعتيادي والمناسب مع السياق في هذه الخُطبة، مِن حيث إنَّهعليه‌السلام يُعبِّر عن رضاه بمقتله لأنَّه أمر مرضيٌّ لله

____________________

(٧٢) أسرار الشهادة للدربندي ص٢٢٧ - كشف الغُمَّة للاربلي ج٢ ص٢٤١.

٦٢

عزَّ وجلَّ.

الفَهم الثاني: أنْ يكون الرضى بمعنى الأمر المرضي، ويكون (رضى الله) في هذه الجملة خبراً مُقدَّماً. فيكون المعنى: أنَّ الأمر الذي نرضاه نحن أهل البيت يرضاه الله عزَّ وجلَّ. أو قُلْ: هو مرضيٌّ لله عزَّ وجلَّ بدوره.

وهذا أمر صحيح وعلى القاعدة، مُطابق لما ورد عنهمعليهم‌السلام بمضمون:(إنَّنا أعطينا الله ما يُريد فأعطانا ما نُريد) (١) ، فتكون تلك الجملة بمعنى الفقرة الثانية مِن هذه الجملة، كما هو واضح للقارئ اللبيب.

الفَهم الثالث: أنْ يكون المراد بالرضى معناه المطابقي، وليس الأمر المرضي. ويكون (رضى الله) في هذه الجملة مُبتدأ. وليس خبراً مُقدَّماً.

فيكون المعنى: أنَّ رضى الله سبحانه هو رضى أهل البيتعليهم‌السلام . وهذا صحيح أيضاً ومُطابق للقاعدة. إلاَّ أنَّ الفلاسفة والمتكلِّمين المسلمين قالوا: إنَّه ورد في الكتاب الكريم والسُّنَّة الشريفة، نسبت كثير مِن الأُمور إلى الله سبحانه كالرضى والغضب، والحُبِّ والبُغض، والكِره والإرادة وغير ذلك مِن الصفات(٢) . مع أنَّه قد ثبت في مودر آخر، أنَّ الله تعالى ليس مَحلَّاً للحوادث(٣) ، ويستحيل فيه ذلك: وكلُّ هذه الأُمور مِن قبيل العواطف

____________________

(١) لم نعثر على هذا الحديث بما في أيدينا مِن مصادر التحقيق. ويبدو أنَّ سماحة المؤلِّف قد أخذ هذا المضمون مِن عِدَّة روايات مُجتمعة لا مِن رواية واحدة. والظاهر أنَّ هذه العبارة غير مودجوة نصَّاً في الروايات، وإنَّما من تعبير المؤلِّف لمضمون عدد مِن الروايات، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (بمضمون).

(٢) وقد استدلُّوا على ذلك بالقرآن الكريم فمًثلاً:

الرضى كما في قوله: ( ... رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ... ) البينة آية ٨.

الغضب: كما في قوله: ( ... فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ... ) النحل آية ١٠٦.

الحُبُّ: كما في قوله: ( ... إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) البقرة آية ١٩٥.

الكِرْه: كما في قوله: ( ... كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ... ) التوبة آية ٤٦.

الإرادة: كما في قوله: ( ... وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً... ) الرعد آية ١١.

(٣) أنظر مثلاً: كشف المراد للعلاَّمة ص ٢٩٤

٦٣

المتجدِّدة، التي تستحيل على ذات الله سبحانه. فكيف صحَّ نسبتها إليه سبحانه في الكتاب والسنة؟!

وقد أجاب الفلاسفة والمتكلِّمون بعِدَّة أجوبة عن ذلك، كان مِن أهمِّها: أنَّه جلَّ جلاله يجعل هذه العواطف المتجدِّدة في نفوس أوليائه وأنبيائه وأصفيائه، فإذا علمنا أنَّ أهل البيت هُمْ أولياء الله وأصفيائه، إذاً؛ فيصدق: أنَّ رضى الله رضاهم أهل البيت؛ لأنَّ رضى الله - كما قال الفلاسفة - ليس قائماً بذاته جلَّ جلاله، بلْ قائم بذواتهم (سلام الله عليهم).

٦٤

لماذا لم يعمل الحسينعليه‌السلام بالتقيَّة؟

لا شكَّ أنَّ التقيَّة واجبة عندنا بنصِّ القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة وإجماع علمائنا. أمَّا القرآن الكريم، ففي أكثر مِن آية واحدة كقوله تعالى:( ... إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً... ) . وأمَّا السُّنَّة الشريفة فأكثر مِن نصٍّ كقولهعليه‌السلام :(التقيَّة ديني ودين آبائي) (١) . وقولهعليه‌السلام :(لا دين لمن لا تقيَّة له) (٢) . وقولهعليه‌السلام :(التقيَّة درع المؤمن الحصينة) (٣) وغير ذلك. وأمَّا الإجماع فهو واضح لمن استعرض فتاوى علمائنا، بلْ الحكم يُعتبر مِن ضروريَّات المذهب.

إذاً؛ فالتقيَّة واجبة. وهذا ما حدى بالمعصومينعليهم‌السلام جميعاً العمل بها إلاَّ الحسينعليه‌السلام ، فلماذا لم يعمل بها هذا الإمام الجليل؟! إذ مِن الواضح أنَّ أحداً مِن المعصومين غيره لم يتحرَّك مثل حركته، بلْ كانت الثورات مُتعدِّدة، والحروب في داخل البلاد الإسلاميَّة وخارجها موجودة، وهم مُعرضون عنها لا يُشاركون بأيِّ شيء منها، حتَّى لو كان الثوَّار والمحاربون مِن أبناء عمومتهم كذريَّة الحسن أو الحسين، الذين تحرَّكوا خلال العهدين الأُموي والعباسي بكثرة، عَدَّ منهم في (مقاتل الطالبيِّين) عشرات، إلاَّ أنَّ المعصومين (سلام الله عليهم). لم يكونوا مِن بينهم بأيِّ حال مِن الأحوال، بل كانوا

____________________

(١) سورة آل عمران آية ٢٨.

(٢) أصول الكافي ج٢ص٢١٩حديث ١٢ - باقتضاب - طهران.

(٣) أصول الكافي ج٢ص٢١٧ الحديث الثاني - بتصرُّف واقتضاب - مُختصر بصائر الدرجات ص١٠١.

(٤) أصول الكافي ج٢ ص٢٢١حديث ٢٣ - بتصرُّف واقتضاب.

٦٥

يسلكون سلوكاً مُغايراً لذلك تماماُ عملاً بالتقيَّة الواجبة، التي يحسُّون بضرورتها التشريعيَّة والواقعيَّة (عليهم سلام الله)، لا يُستثنى مِن ذلك إلاَّ واحد مُعيَّن منهم، هو الإمام الحسينعليه‌السلام في حركته العظيمة. فلماذا كان ذلك؟!

والأسباب المتصوَّرة لذلك عِدَّة أُمور مُحتملة، وإنْ لم تكن كلُّها صحيحة، إلاَّ أنَّنا نذكر الأُمور التي قد تخطر على بال القارئ الاعتيادي أيضاً:

الأمر الأوَّل: إنَّ الأخبار الدالَّة على وجوب التقيَّة لم تكن صادرة في زمن الحسينعليه‌السلام ؛ لأنَّها إنَّما صدرت عن الإمامين الصادقينعليهم‌السلام ، وهما عاشا بعد واقعة كربلاء بحوالي قرن مِن الزمن، وإذا لم تكن هذه الأخبار موجودة، فلا دليل على وجوب التقيَّة يوم حركة الحسينعليه‌السلام ؛ ومِن هنا لم يعمل بها.

إلاَّ أنَّ هذا الوجه غير صحيح لأكثر مِن جواب واحد:

٦٦

أوَّلاً: إنَّ هذه الأخبار المشار إليها تدلُّنا على حُكم واقعي ثابت في الشريعة، يعلم به المعصومون جميعاً (سلام الله عليهم) بما فيهم الحسينعليه‌السلام ؛ فإنَّهم - جميعاً - عالمون بجميع أحكام الشريعة المقدَّسة.

ثانياً: إنَّ الآيات الكريمة دالَّة على ذلك أيضاً، وقد كانت موجودة ومقروءة في زمن الحسينعليه‌السلام .

الأمر الثاني: إنَّ الحسينعليه‌السلام كسائر المعصومينعليهم‌السلام ، عمل بالتقيَّة ردحاً طويلاً في حياته، وإنَّما ترك العمل بها مِن ناحية واحدة فقط، هي الناحية التي أدَّت إلى مقتله في واقعة الطَّفِّ، وهي رفض الطلب الصادر مِن قِبَل الحاكم الأُموي بالبيعة له(١) وتهديده بكلِّ بلاء إذا لم يُبايع، الأمر الذي استوجب صمودهعليه‌السلام ضِدَّ هذا المعنى حتَّى الموت.

____________________

(١) البحار للمجلسي ج٤ص٣٢٦ مناقب ابن شهرآشوب ج٢ص٢٠٨ اللهوف لابن طاووس ص١١.

٦٧

الأمر الثالث: إنَّ الأدلَّة في الكتاب والسُّنَّة على مشروعيَّة التقيَّة، ليست دالَّة على الإلزام والوجوب، بلْ على الجواز على ما سنرى.

أو - بتعبير آخر -: إنَّ العمل بالتقيَّة رخصة لا عزيمة؛ ومِن هنا يُمكن القول: إنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان مُخيَّراً يومئذ بين العمل بالتقيَّة وبين تركها، ولم يكن يُحبُّ العمل بالتقيَّة في حَقِّه، وما دام مُخيَّراً فقد اختار الجانب الأفضل في نظره، وهو فعلاً الأفضل في الدنيا والأفضل في الآخرة، وهو نيله للشهادة بعد صموده ضِدَّ الانحراف والظلم والظلال.

ومِن هنا - أيضاً - كان عمل أصحاب الأئمَّة والمعصومين عموماً، مع العلم أنَّهم كانوا عارفين بالأحكام مُتفهِّمين للشريعة مُرتفعين في درجات الإيمان.

فعمار بن ياسر(١) عَمِل بالتقيَّة حين طلب منه مُشركو قريش الطعن

____________________

(١) عمار بن ياسر: هو بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين... ابن يشجب المذحجي، وهو مِن السابقين الأوَّلين إلى الإسلام، وهو حليف بني مخزوم. أُمُّه سمية وهي أوَّل مِن استُشهد في الإسلام، وقد قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن عادى عمّاراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً بغضه الله) ، وعن عليٍّعليه‌السلام قال:(جاء عمار يستأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: إئذنوا له مرحباً بالطيِّب المطيَّب) ، وعن عائشة قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(ما خيّر عمار بين أمرين إلاَّ اختار أرشدهما) . ومِن مناقبه أنَّه قَدِم المدينة ضحى، فقال عمار:ما لرسول الله بُدٌّ مِن أنْ نجعل له مكاناً؛ لستضلَّ فيه ويُصلِّي فيه فجمع حجارة فبنى مسجد قِبا. وقال عبد الرحمان السلمي: شهدنا صِفِّين مع عليعليه‌السلام فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد مِن أودية صِفِّين إلاَّ رأيت أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يتْبعونه كأنَّه عَلَم لهم.وشهد خزيمة بن ثابت الجمل، وهو لا يسلُّ سيفاً، وشِهَد صفين ولم يُقاتل وقال: لا أُقاتل حتَّى يُقتل عمار فأنظر مَن يقتله؛ فإنِّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (تقتله الفئة الباغية) فلمَّا قُتل قال خزيمة: ظهرت له الضلالة. ثمَّ تقدَّم فقاتل حتَّى قُتل: وقُتل عمار في صِفِّين وعمره يومئد (٩٤) سنة، وقيل: (٩٣) سنة، وقيل: (٩١) سنة. واختلف في قاتله، فقيل: قتله أبو العارية المزني، وقيل: الجهني. طعنه فسقط فلمَّا وقع اكبَّ عليه آخر فاحتزَّ رأسه. أُسد الغابة ج٤ ص ٤٣. بتصرُّف واقتضاب.

٦٨

بالإسلام ونبيِّ الإسلام. وبتلك المناسبة نزلت الآية الكريمة(١) . في حين أنَّ عدداً مِن الآخرين تركوا العمل بها، ودفعوا حياتهم في سبيل ذلك: كميثم التمَّار، وسعيد بن جبير(٢) ، وحجر بن عدي(٣) ، وزيد بن علي

____________________

(١) سورة النحل آية ١٠٦ وهو قوله تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ... ) .

(٢) سعيد بن جبير: لقد كان سعيد مِن التابعين، وكان معروفاً بالزُّهد والعبادة وعلم التفسير، وكان يُسمَّى (جَهْبد العلماء)، وكان يُصلِّي خلف الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، فأخذه خالد بن عبد الله القسري وأرسله إلى الحجَّاج فلمَّا رآه قال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. قال: بلْ شقيُّ بن كُسير. قال: إنَّ أُمِّي أعلم باسمي منك. قال: شقيت أنت شقيت أُمُّك. قال: الغيب يعلمه غيرك. قال: لأبدِّلنَّك ناراً تلظى. قال: لو علمت أنَّ ذلك بيدك لاتَّخذتك إلهاً. قال: فما قولك في محمد؟ قال: نبيُّ الرحمة وإمام الهُدى. قال: فما قولك في علي: أهو في الجَنَّة أو في النار؟ قال: لو دخلتها وعرفت مَن فيها عرفت أهلها. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لستْ عليهم بوكيل. قال: فأيُّهم أحبُّ إليك؟ قال: أرضاهم للخالق. قال: فأيُّهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سِرَّهم ونجواهم. قال: أبيت أنْ تُصدِّقني! قال: بلْ لم أُحبَّ أنْ أُكذِّبك. قال الحجَّاج: فاختر أيَّ قتله أقتلك. قال سعيد: اختر لنفسك - يا حجَّاج - فو الله، ما تقتلني قتله إلاَّ قتلك الله مثلها في الآخرة قال: أفتُريد أنْ أعفو عنك؟ قال: إنْ كان العفو فمِن الله. وأمَّا أنت فلا براءة لك ولا عذر. قال الحجَّاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلمَّا خرج من الباب ضحك. فأُخبر الحجَّاج بذلك فأمر بردِّه وقال: ما أضحكك؟! قال: عجبت مِن جُرأتك على الله وحِلم الله عنك. فأمر الحجَّاج بالنطع فبًسط، فقال: أقتلوه. قال سعيد: وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مُسلماً وما أنا مِن المشركين. قال: شدُّوا به لغير القبلة! قال سعيد: فأينما تولُّوا فثمَّ وجه الله. قال: كبُّوه على وجهه. قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نُعيدكم ومنها نُخرجكم تارة أُخرى. قال الحجَّاج: اذبحوه. قال سعيد: أمَّا أنَّي أَشهد وأحاجُّ أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله. خُذْها منِّي حتَّى تلقاني يوم القيامة. ثمَّ دعا سعيد الله فقال: اللَّهمَّ لا تُسلِّطه على أحد يقتله بعدي، فذبح على النطعرحمه‌الله . ولم يعش الحجَّاج بعده إلاَّ خمس عشرة ليلة ظلَّ يُنادي فيها مالي ولسعيد بن جبير كلَّما أردت النوم أخذ برجلي. وفيات الأعيان لابن خلكان ج٢ ص٣٧٢ ط بيروت مُقارنة بمروج الذهب للمسعودي ج٣ ص١٦٤.

(٣) حجر بن عدي: بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة... بن كندة الكندي، وهو المعروف بحجر الخير، وهو بن الأدبر، وإنَّما قيل لأبيه: عدي الأدبر؛ لأنَّه طعن على إليته مولِّياً فسُمِّي: الأدبر. وفد على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو وأخوه هاني، وشهد القادسيَّة وكان مِن فُضلاء الصحابة، وكان على كندة بصِفِّين وعلى الميسرة يوم النهروان، وشهد الجمل - أيضاً - مع عليٍّعليه‌السلام وكان مِن أعيان أصحابه، ولما ولِّي زياد العراق وأظهر مِن الغلظة وسوء السيرة ما أظهر. خلعه حجر ولم يخلع مُعاوية وتابعه جماعة مِن شيعة

٦٩

الشهيد(١) وغيرهم.

ولو كانت التقيَّة واجبة إلزاماً لكان حال هؤلاء وغيرهم على باطل، مع العلم أنَّهم لا شكَّ على حقٍّ؛ لأنَّهم مُتَّفقهون بالأحكام الإسلاميَّة جزماً. ولاشكَّ أنَّها - مع ذلك - مشروعة؛ فيتعيَّن أنْ تكون مشروعة بنحو التخيير لا بنحو الإلزام.

ومِمَّا دلَّ على ذلك ما روي عن رجلين مِن أهل الكوفة أُخِذا. فقيل لهما: ابريا مِن أمير المؤمنينعليه‌السلام . فبرئ واحد منهما وآبى الآخر. فخُلِّي سبيل الذي برئ. وقُتِل الآخر. فقال الإمام الباقرعليه‌السلام :(أمَّا الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأمَّا الذي لم يبرأ فرجل تعجَّل إلى الجنَّة) (٢) .

____________________

= عليٍّعليه‌السلام ، فكتب فيه زياد إلى مُعاوية، فأمره بأنْ يبعث به وبأصحابه إليه، فبعث بهم مع وائل بن حجر الحضرمي، ومعه جماعة فلمَّا أشرف على مرج عذراء قال: إنِّي لأوَّل المسلمين كبر في نواحيها، فأُنزل هو وأصحابه عذراء وهي قرية عند دمشق، فأمر معاوية بقتله، فشفع أصحابه في بعضهم فشفَّعهم، ثم قَتَل حجر وستَّة معه وأطلق ستَّة، ولما أرادوا قتله صلَّى رَكعتين، ثمَّ قال: لولا أنْ تظنُّون بي غير الذي بي لأطلتهما، وقال: لا تنزعوا عنِّي حديداً، ولا تغسلوا عنِّي دماً؛ فإنِّي لاقٍ مُعاوية على الجادَّة. وقال عبد الرحمان بن الحارث بن هشام لمعاوية بعد مقتل حجر: والله، لا تعدُّ لك العرب حِلماً بعدها ولا رأياً قتلت قوماً بعث بهم أُسارى مِن المسلمين. وكان قتله سنة ٥١ هـ، وقبره مشهور بعذراء، وكان مُجاب الدعوة. أُسد الغابة ج١ص٣٨٥

(١) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويُكنَّى بأبي الحسين، وأُمُّه أُمُّ ولد، أهداها المختار بن أبي عبيدة لعلي بن الحسين، فولدت له زياداً وعمراً وعليَّاً وخديجة. وقد خرج بثورة ضِدَّ الحُكم الأُموي، المتمثِّل بهشام بن عبد الملك آنذاك، ولكن غدر به مَن بايعه مِن أهل الكوفة والمدائن، والبصرة وواسط والموصل، وخراسان والري، وجرجان، والذين وصل عددهم إلى مئة ألف تقريباً. ولكنْ عند خروجه وافاه ٢١٨ مِن رجاله، فقال زيد: سبحان الله! فأين الناس؟! قيل: هم محصورون في المسجد. فقال: لا والله، ما هذا لمن بايع بعذر. ومع هذا العدد القليل خرج فقاتل وأُصيب بسهم في جانب جبهته اليُسرى، فنزل السهم في الدماغ فمات على أثره، ودفنوه أصحابه في العباسيَّة، ولكنَّه أُخرِج وصُلِب (وقيل: إنَّه استمرَّ مصلوباً إلى أيَّام الوليد بن يزيد) وبعدها أُحرق بالنار، ثمَّ جُعِل في قواصِر ثمَّ حُمِل في سقيفة، ثمَّ ذُرِّي في الفرات. مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص١٢٧.

(٢) أصول الكافي ج٢ص٢٢١ حديث ٢١ ط طهران

٧٠

ولذا يُمكن القول: بأنَّه لم يثبت أنَّ ترك التقيَّة حرام، إلاَّ قوله في أحدى الروايات:(التقيَّة ديني ودين آبائي) و(لا دين لمن لا تقيَّة له) (١) .

وهي لا شكَّ دالَّة على الإلزام. إلاَّ أنَّها ساقطة بالمعارضة مع الروايات الدالَّة على الرخصة، كالرواية السابقة(٢) ، فيبقى حُكم التقيَّة على التخيير.

والآيات الكريمة أيضاً غير دالَّة على الإلزام، منها قوله تعالى:( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ) (٣) .

وقوله تعالى:( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٤) .

وفي كلتا الآيتين يُعتبَر حًكم التقيَّة استثناء مِن أمر حرام وهو: موالاة الكافرين في الآية الأُولى، والكفر في الآية الثانية. والاستثناء مِن مورد الحضر أو الحُرمة لا يدلُّ على أكثر مِن الجواز، وذلك كما قال الفقهاء حول قول تعالى:( ... وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ... ) (٥) ، فإنَّ حكم الصيد في استثناء مِن جانب حُرمته في حال الإحرام مع احتمال استمراره بعده؛ فيكون دالَّاً على مُجرَّد الجواز.

نعم، قد تكون التقيَّة واجبة إلزاماً، فيما إذا توقَّف عليها هدف اجتماعيٌّ عامٌّ مُهمٌّ، كالمحافظة على بَيضة الإسلام، إلاَّ أنَّه لم يكن الأمر يومئد هكذا، بلْ

____________________

(١) أصول الكافي ج٢ ص٢٢٤ حديث ٢ ط طهران.

(٢) رواية الرجلين اللذين أُخِذا مِن أهل الكوفة.

(٣) سورة آل عمران آية ٢٨.

(٤) سورة النحل. آية ١٠٦.

(٥) سورة المائدة آية ٢.

٧١

بالعكس على ما سوف نعرف، فإنَّ حفظ الإسلام يومئذ كان مُتوقِّفاً على التضحية لا على التقيَّة.

الأمر الرابع: مِن أسباب ترك الإمام الحسينعليه‌السلام للعمل بالتقيَّة: إنَّنا حتَّى لو تنزَّلنا عمَّا قلناه في الأمر الثالث، وفرضنا التقيَّة إلزاميَّة. إلاَّ أنَّ هذا الحكم بالإلزام ساقط بالمزاحمة مع الأهمِّ، إذ مِن الواضح مِن سياق الآيات أنَّ الأمر بالتقيَّة إنَّما هو في موارد فرديَّة مُتفرِّقة، والإمام الحسينعليه‌السلام واجه قضايا عامَّة تقتضي ترك التقيَّة والعمل بالتضحية:

أهمُّها: الطلب منه بمُبايعة الحاكم الأُموي - يومئذ - يزيد بن مُعاوية(١) .

وهو ما يترتَّب عليه نتائج وخيمة بالغة في الأهمِّيَّة، قد تؤدِّي إلى اندراس الإسلام الحقيقي، مُنذ عصره إلى يوم القيامة.

ومِن القضايا العامَّة المهمَّة التي واجهها (سلام الله عليه) طلب أهل الكوفة لمبايعتهم له وولايته الفعليَّة عليهم(٢) . وهو حُكم عامٌّ ومُهمٌّ شرعاً ومُتقدِّم على حُكم التقيَّة.

وكلا الأمرين لم يواجهه أحد مِن أولاده المعصومين التسعةعليهم‌السلام ؛ ومِن هنا كان عملهم بالتقيَّة مُتعيِّناً، ومِن الممكن القول: إنَّهم لو واجهوا ما واجهه الحسينعليه‌السلام لكان ردَّ فعلهم كردِّ فعله تماماً.

الأمر الخامس: إنَّ الحسينعليه‌السلام عَلِم - علماً طبيعيَّاً أو إلهاميَّاً - أنَّه سوف يموت على كلِّ حال حتَّى في مكَّة، فضلاً عن غيرها مِن بلاد الله؛ ولذا ورد عنه:(أنَّهم سوف يقتلوني حتَّى لو وجدوني مُتعلِّقاً بأستار الكعبة) (٣)

____________________

(١) البداية والنهاية لابن كثير ج٢ص١٤٦ - مروج الذهب للمسعودي ج٣ ص٦٥.

(٢) اللهوف لابن طاووس ص١٤ - تاريخ الفتوح لابن أعثم ج٥ ص٤٦ - أسرار الشهادة للدربندي ص١٩٩.

(٣) مرآة العقول للمجلسي ج٢ص١٩٤- مُثير الأحزان لابن نما الحلِّي ص٤١. بالمضمون، مِن الشبكة.

٧٢

ومَن يكون حاله هو العلم اليقين بموته، يرتفع عنه حُكم التقيَّة مِن قاتله، وله أنْ يفعل ما يشاء. تصوَّر شخصاً محكوماً عليه بالإعدام، وسوف يصعد عمَّا قليل على خشبة المشنقة، فعندئذ تهون الدنيا في نظره، ويُمكنه أنْ يفعل أو يقول ما يشاء تجاه جلاَّديه؛ لأنَّهم سوف لن يزيدوا على قتله على أيَّ حال.

فعلى ذلك كان حال الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومعه فضَّل أنْ يموت بهذا الشكل عن أنْ يموت خامل الذِّكر مُحوَّطاً بالذلة والنسيان.

إلاَّ أنَّ هذا الوجه بمُجرَّده لا يتمُّ؛ لأنَّهعليه‌السلام لو كان قد قَبِل بالمباعية لكفُّوا عن العزم على قتله، وهذا واضح لديه ولدى غيره.

إذاً؛ فالعلم بموته إنَّما بصفته رافضاً للمبايعة صامداً ضدَّها. إذاً فيرجع هذا الوجه إلى وجه آخر مِمَّا ذكرناه كالوجه الرابع السابق.

الأمر السادس: إنَّ حُكم التقيَّة وإنْ كان نافذ المفعول عليهعليه‌السلام وغيره مِن البشر، إلاَّ أنَّه مُخصَّص في حقِّهعليه‌السلام فهو خارج عن حكمها بالتخصيص والاستثناء. وقد ثبت لديه التخصص، إمَّا بالإلهام، وأمَّا بالرواية عن جَدِّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ؛ ولذا لم تكن التقيَّة في حقِّه واجبة ولا تركها عليه حراماً.

وربَّما عُدَّ مِن الأدلَّة في هذا الصدد، ما ورد مِن بكاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على مقتل الحسينعليه‌السلام يوم ميلاده(٢) ، لعلمه المسبق بذلك، وهو ما يُستفاد

____________________

(١) البحار للمجلسي ج٤٤ ص٣٢٨ - أسرار الشهادة للدربندي ص٢٢٤

(٢) الخصائص الكبرى ج ٢ ص١٢٥ - أمالي الصدوق ص١١٨ الحديث ٥ - البحار للمجلسي ج٤٤ص٢٥٠- تاريخ أبن عساكر ترجمة الإمام الحسين ص١٨٣.

ولهذا بكاه عدد مِن الصحابة (رضوان الله عليهم)، منهم سلمان الفارسي حيث مرَّ على كربلاء حين مجيئه إلى المدائن، فقال هذه مصارع إخواني، وهذا موضع مَناحتهم ومِهراق دمائهم، يُقتل بها ابن خير الأوَّلين والآخرين. (رجال الكشِّي ص١٣ ط هند)، وكذا بكاه أمير المؤمنين في مسيره إلى صِفِّين نزل =

٧٣

منه جواز حركته واحترام ثورته؛ فيكون مُخصِّصاً لما دلَّ على حُرمة التقيَّة لو وجد.

وهذا الوجه أكيد الصحَّة، لو تمَّ بالدليل كون التقيَّة عزيمة لا رُخصة، وهو الوجه الذي يشمل أهله وأصحابه وأهل بيته، الذين رافقوه في حركته وآزروه في ثورته؛ فإنَّ التقيَّة إنْ كانت واجبة في حقِّهم أساساً، فهي لم تكن واجبة عندئذ، بلْ مُستثناة عنهم بأمر إمامهم الحسين نفسه؛ حيث أوجب عليهم المسير معه والقتل بين يديه(١) ، بلْ التقيَّة لم تكن واجبة مِن هذه الناحية على أيِّ واحد مِن البشر على الإطلاق؛ تمسُّكاً بما ورد عنه (سلام الله عليه):(مَن سمع واعيتنا ولم ينصرنا اكبَّه الله في النار) (٢) .

وهو دالٌّ بوضوح على لزوم نصره ووجوب ترك التقيَّة مِن هذه الناحية، وكذلك ما ورد عنه أنَّه قالعليه‌السلام حيث بقي وحيداً بعد مقتل أصحابه وأهل بيته:(هل مِن ناصر ينصرنا وهل مِن ذابٍّ عن حرم رسول الله) (٣) ، وسنذكر بعونه تعالى أنَّ هذا إنَّما قال الحسينعليه‌السلام لأجل إقامة الحُجَّة

____________________

= فيها، وأومأ بيده إلى موضع منها، فقال:(ههنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم - ث مَّ أشار إلى موضع آخر وقال: -ههنا مِهراق دمائهم ثقل لآل محمد ينزل، ههنا - ثمَّ قال: -واهٍ لك يا تربة، ليحشرنَّ منك أقواماً يدخلون الجنَّة بغير حساب ) وأرسل عبرته وبكى مَن معه لبكائه وأعلم الخواصَّ مِن صَحبه بأنَّ ولده الحسين يُقتل ههنا في عُصبة مِن أهل بيته وصحبه هُمْ سادة الشهداء لا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق (مقتل المقرَّم نقلاً عن كامل الزيارات ص٢٧).

بلْ يتعدَّى الأمر إلى الأنبياء السابقين على نبيِّنا الأعظم وآله وعليه السلام، فلقد بكاه آدمعليه‌السلام والخليل إبراهيم معه، فإنَّه كالشهيد مع الأنبياء مُقبلاً غير مُدبِر، وكأنِّي أنظر إلى بُقعته وما مِن نبيٍّ إلاَّ وزارها وقال:(إنَّك لبُقعة كثيرة الخير، فيك يُدفن القمر الزاهر) كامل الزيارات لابن قولويه ٦٧.

(١) مُثير الأحزان لابن نما ص ٣٩ البحار للمجلسي ج٤٥ ص٨٦ أمالي الصدوق ص١٣١.

(٢) أمالي الصدوق ص ١٣٢ - مقتل الخوارزمي ج١ ص٢٢٧ البحار ج٤٤ ص٣١٥.

(٣) اللهوف لابن طاووس ص ٤٩ كشف الغمَّة للأربلي ج٢ ص٢٦٢.

٧٤

على الآخرين.

كما يشمل أهله وأصحابه (رضوان الله عليهم) وجوه أُخرى لترك التقيَّة مِمَّا سبق، كالأمر الثالث الذي ذكرناه وهو كونها تخيريَّة وليس إلزاميَّة، والأمر الثاني والأمر الرابع، فراجع.

والسرُّ في سقوط التقيَّة، كما أشرنا عن جميع البشر في ذلك العصر، مِن هذه الجهة، لا ينبغي أنْ يكون خافياً وحاصله: إنَّ الناس لو كانوا قد استجابوا بكثرة وزخم حقيقيَّين، وإذا كانت أعداد مُهمَّة منهم قد أدركت مصالحها الواقعيَّة في نصر الحسينعليه‌السلام لتحقُّق النصر العسكري له فعلاً، ولفشل عدوِّه الأُموي الظالم.

بلْ في المستطاع القول: بأنَّه مع حُسن التأييد يكون زعيماً فعليَّاً على كلِّ بلاد الإسلام، فيحكمها بالعدل وبشريعة جَدِّه رسول الله، غير أنَّ المجتمع في ذلك الحين كان مُتخاذلاً جاهلاً، ولله في خلقه شؤون.

٧٥

حدود أهداف الحسينعليه‌السلام

حينما نُريد أنْ نتحدَّث عن أهداف الحسينعليه‌السلام في ثورته، فإنَّما نتحدَّث - كما أسلفنا - في حدود فَهمنا ومدى إدراكنا، وهو البعيد عن فَهم الواقعيَّات والمحجوب أساساً عن الوصول إلى تلك المستويات، فنحن نتحدَّث عن أقصى ما نُدركه مِن أمر منطقيٍّ ومعقول، كأُطروحة مقبولة ومُحتملة في هذا الصدد، وليس كشيء قطعيٍّ وناجز، ونحن نعلم أنَّ ما خفي علينا مِن الحقِّ أكثر مِمَّا اتَّضح لنا بكثير. وخاصَّة ونحن نعرف - كما سبق أيضاً - بأنَّ أقوال المعصومين وأفعالهم مُطابقة للحكمة الإلهيَّة ومُساوقة للعلم الإلهي؛ لما لهم مِن التأييد والتسديد منه جلَّ جلاله؛ ومِن المعلوم أنَّ الحكمة والعلم الإلهيَّين غير محدودين، ونحن محدودون (ولا يُمكن للمحدود أنْ يُدرك اللاَّ محدود).

ولو تنزَّلنا عن ذلك جدلاً، أمكننا القول: بأنَّ الواحد مِن المعصومينعليه‌السلام هو أفضل مِن أفضل واحد مِن البشر رأيناه أو سمعنا عنه، في جميع المستويات وعلى أيِّ صعيد، والفرد مهما أوتي مِن قوَّة تفكير وحِدَّة ذكاء فهو أدنى منهم بمراتب عظيمة، ومِن المعلوم أنَّ الأدنى لا يُمكن أنْ يُدرك جميع ما لدى الأعلى، ولا يُمكن أنْ يفهم مُستواه إلاَّ إذا كان مُساوياً له.

خُذْ إليك مثلاً: إنَّ الطفل الدارس في المدارس الابتدائيَّة - أو مَن هو على شاكلته هل - يصحُّ أنْ نتصوَّر أنْ يفهم الرياضيَّات المعمّقة والفلسفة المحقَّقة، أو علوم الفيزياء أو الكيمياء المفصَّلة. وهكذا مُستوى أيِّ واحد منَّا تِجاه أيِّ واحد مِن المعصومينعليهم‌السلام ؛ اذاً، فالتعرُّف على كلِّ حقيقتهم وأهدافهم إنْ لم يكن مُحالاً، فهو بمنزلة المحال.

٧٦

ولكنْ في حدود ما نفهم، فإنَّنا حين نُريد أنْ نطرح بعض الأفكار عن أهداف الإمام الحسينعليه‌السلام في ثورته، فتلك الأفكار لابُدَّ أنْ تكون حاوية على عدد مِن الشروط لابُدَّ منها، ولا يُمكن أنْ تكون أفكارنا جُزافيَّة أو مُطلقة.

الشرط الأوَّل: أنْ يكون الشيء الذي نتصوَّره هدفاً للإمام الحسينعليه‌السلام أمراً مرضيَّاً لله عزَّ وجلَّ، لا تشوبه شائبة عصيان أو أنْ يكون مرجوحاً في الشريعة المقدَّسة، بما في ذلك حُبُّ الدنيا وطلب المال والجاه والسيطرة المنفصلة عن الأمر الإلهي والتكليف الشرعي.

الشرط الثاني: أنْ يكون الهدف الذي نتصوَّره مُناسباً مع حال الحسينعليه‌السلام وشأنه، لا أنْ يكون هدفاً مُوقَّتاً أو مُتدنِّياً أو ضئيلاً؛ فإنَّ ذلك مِمَّا لا يصحُّ له وجود هذه التضحية الكبيرة، التي أقامها الحسينعليه‌السلام وعاناها، فإنَّها عندئذ لا تكون معقولة ولا عقلانيَّة، وإنَّما لابُدَّ أنْ يكون الهدف مُعمَّقاً وواسعاً وأكيداً وشديداً، بحيث يسع كلَّ هذه التضحيات.

الشرط الثالث: أنْ يكون أمراً مُتحقِّقاً، أما في الحال أو في الاستقبال، ولا يجوز أنْ نطرح له هدفاً فاشلاً وغير مُتحقِّق أو غير قابل للتحقُّق؛ فإنَّه خلاف الحكمة الإلهيَّة، ولا يُمكن أنْ ننسب ما هو فاشل وعاطل إلى الحكمة اللاَّ مُتناهية.

مثال ذلك: إنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام لو كان قد استهدف النصر العسكري العاجل، أو إزالة حكم بني أُميَّة، أو مُمارسة الحُكم في المجتمع فعلاً، فهذا ونحوه مِن الأهداف القطعيَّة الفشل، لأنَّها لم تحدث ولم يكن مِن الممكن أنْ تحدث؛ إذاً فهو ليس بأمر مُستهدَف، وإنْ تخيَّله بعض مِن المفكِّرين أو عدد منهم، إلاَّ أنَّه لا شكَّ في بطلانه؛ لأنَّ هدفهعليه‌السلام راجع إلى أهداف

٧٧

الحكمة الإلهيَّة، ومثل هذه الأهداف لا يُمكن أنْ تكون فاشلة؛ لأنَّ الله تعالى كما هو حكيم هو قادر، فهو يستطيع أنْ يُنفِّذ ما في حكمته بكلِّ تقدير، فلو استهدف الله سبحانه هدفاً لحصل، وحيث إنَّه لم يحصل فهو - إذاً - غير مُستهدف.

الشرط الرابع: إنَّه يُمكن أنْ يُقال: إنَّ مِن شروط فهم أهدافهعليه‌السلام أنْ يكون مذكوراً في كلامه؛ لأنَّنا إنَّما نعلم بالأُمور مِن أصحابها، وأهل الحلِّ والعقد فيها. وقديماً قال الشاعر:

وأهل البيت أدرى بالذي فيه.

وليس لنا أنْ نُضيف مِن عندنا شيئاً، وإنَّما نسمع منه (سلام الله عليه) مثل قوله:(... إنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أُريد ان آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) (١) ، بعد أنْ وصف المجتمع بضُعف الدين وقلَّة الالتزام بالتعاليم:(... ولم يَبقَ منها إلاَّ صُبابة كصُبابة الإناء وخِسَّة عَيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أنَّ الحقَّ لا يُعمل به وأنَّ الباطل لا يُتناهى عنه) (٢) .

فالغرض مِن هذا العرض، هو أنَّ الهدف إنْ كان مذكوراً في كلامه (سلام الله عليه) أخذنا به، وإنْ لم يكن قد ذكره أعرضنا عنه، ولم نعتبره هدفاً حقيقيَّاً له.

إلاَّ أنَّ هذا الشرط غير صحيح؛ لعِدَّة أجوبة يُمكن أنْ تورد ضِدَّه:

الجواب الأوَّل: ضعف الروايات الناقلة لكلامه (سلام الله عليه)، إذاً فلم يردنا عن طريق صحيح بيان أهدافه (سلام الله عليه)، فلو اشترطنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى معرفة الأهداف إطلاقاً.

الجواب الثاني: أنَّ هناك قانوناً عرفيَّاً وشرعيَّاً، مُتَّبعاً في التفاهُم بين جميع الناس - وإنْ لم يكن يلتفت إليه الكثيرون بصراحة - وهو قانون:(كلِّم الناس

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ج١ص١٨٨ - مناقب بن شهر آشوب ج٣ص٢٤١ نجف

(٢) اللهوف لابن طاووس ص ٣٤ - تاريخ الطبري ج٣ ص٢٢٥.

٧٨

على قدر عقولهم) (١) ، والحسينعليه‌السلام لا شكَّ أنَّ المجتمع في ذلك الحين لم يكن يُطيق فهم واستيعاب أهدافه الحقيقيَّة مِن حركته؛ لأنَّه كان حديث عهد بالدين وبشريعة سيِّد المرسلين، ولم يكن المجتمع يومئذ تربَّى بالمقدار المطلوب، وإنَّما كان فهمه للدين بسيطاً وتطبيقه للتعاليم قليلاً، ما عدا نفر يسير مِن الناس؛ وبالتالي لم تكن هذه الألف وحوالي النصف مِن السنين، قد مرَّت وأثَّرت في تربية المجتمع وتكامل فهمه العقلي والنفسي تكاملاً مُعتدَّاً به، وكلَّما مرَّت السنين أكثر كان هذا التكامل أكثر لا محالة.

فإذا لم يكن بيان أهدافه مُمكناً عندئذ، فخير له أنْ يطويها في نفسه وأنْ يكتمها عن غيره، وإنَّما يقول للآخرين بمُقدار ما هو مُمكن فقط، مِمَّا لا يكون هو الهدف الحقيقي لحركتهعليه‌السلام ، ولا أقلَّ مِن احتمال ذلك، الأمر الذي يسقط به هذا الشرط الرابع.

الجواب الثالث على هذا الشرط: إنَّ هناك بعض الأعمال يُعتبر التصريح بأهدافها إفساداً لها، وتكون عندئذ عقيمة وغير مُنتجة، وهذا أحد التأويلات المهمَّة لما ورد(استعينوا على أُموركم بالكِتمان) (٢) .

وما ورد:(مِن أنَّ التصريح بالشيء قبل إنجازه موجب لإفساده) (٣) .

وهذا المعنى ظاهر للعيان بالتجربة، في كثير مِن الأُمور الشخصيَّة والعامَّة؛ إذاً فمِن المحتمل أنْ يكون تصريح الحسينعليه‌السلام بأهدافه قبل حركته، مُفسد لها مُخرِّب لنتائجها؛ ومِن هنا سيكون المتعيِّن عليه كِتمان ما يُريده والصمت عمَّا

____________________

(١) أصول الكافي ج١ ص٦٧ حديث ١٥. بتصرُّف.

(٢) إسعاف الراغبين على هامش نور الأبصار للشبلنجي ص٧٧. بتصرُّف - تحف العقول للبحراني ص ٤٠.

(٣) مرآة العقول لللمجلسي ج٩ ص ١٨٦. بتصرُّف.

٧٩

يستهدفه حِفظاً للنتائج مِن الضياع؛ إذ مِن المؤسف حقَّاً وجِدَّاً، وجود حركة مُهمَّة مِن هذا القبيل، التي قام بها (سلام الله عليه) وتضحية ضخمة على هذا الغِرار، ومع ذلك لا تكون مُنتجة ولا نافعة؛ إذاً فمِن الضروري أنْ تُكتم أهدافه الحقيقيَّة في سبيل صحَّتها وإنتاجها.

إذن؛ فهذا الشرط الرابع، وهو أنْ نتوقَّع سماع الأهداف منهعليه‌السلام ليس بصحيح، وهذا بخلاف ما سوف نذكره بعون الله تعالى مِن الأهداف، فإنَّها إنَّما تأتي بعد إنجاز حركته ووجودها وإلقائها، بلْ بعد حصول عدد مُعتدٍّ به مِن نتائجها، وإنَّما يختصُّ ما قلنا بالتصريح بالهدف قبل الحركة لا بعدها.

٨٠