المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية15%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 210584 / تحميل: 9267
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما، وأنّه لا ينبغي لأحد أن يفضّل أي فئة منهما على الأُخرى، حتّى لا تحدث فتنة. (١)

٢ - حرّمت الإباضيّة الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الّذي يحارب الفاحشة. (٢) وقد انفردوا به من بين سائر المذاهب.

٣ - منعت الإباضيّة المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال؛ فإذا هانت عليه كرامته، وذهب يسأل الناس الزكاة، حَرُم منها عقاباً له على هذا الهوان، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس، والاعتماد على الكفاح. (٣)

مؤسّس المذهب الإباضي ودعاته في العصور الأُولى:

قد تعرّفت على عقائد الإباضيّة، فحان البحث عن أئمّتهم ودعاتهم في العصور الأُولى.

١ - عبد الله بن إباض، مؤسّس المذهب:

هو عبد الله بن إباض، المقاعسي، المري، التميمي، ابن عبيد، ابن مقاعس، من دعاة الإباضيّة، بل هو مؤسّس المذهب.

____________________

(١) انظر: الإباضيّة في مصر والمغرب: ٦١.

(٢) الإباضيّة في موكب التاريخ: ١١١ - ١١٢.

(٣) الإباضيّة في موكب التاريخ: ١١٦.

١٤١

قد اشتهرت هذه الفِرقة بالإباضيّة من أوّل يوم، وهذا يدلُّ على أنّه كان لعبد الله بن إباض، دور في نشوء هذه الفِرقة وازدهارها.

٢ - جابر بن زيد العماني، الأزدي:

جابر بن زيد، أبو الشعثاء، الأزدي، اليحمدي، البصري، مشهور بكنيته، فقيه الإباضيّة، مات سنة ٩٣هـ، ويقال: مائة. يروي عن عبد الله بن عبّاس.

٣ - أبو عبيدة، مسلم بن أبي كريمة (المتوفّى حوالي ١٥٨هـ):

مسلم بن أبي كريمة التميمي، توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة ١٥٨هـ، قال عنه ابن الجوزي: مجهول.

أخذ العلم عن جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وضمار السعيدي، وجعفر السمّاك وغيرهم.

حمل العلم عنه الربيع بن حبيب الفراهيدي؛ صاحب المسند، وأبو الخطّاب المعافري، وعبد الرحمن بن رستم، وعاصم السدراتي، وغيرهم.

٤ - أبو عمرو، ربيع بن حبيب الفراهيدي:

هو من أئمّة الإباضيّة، وهو صاحب المسند المطبوع، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة، ويُعدّ في طليعة الجامعين للحديث والمصنّفين فيه.

١٤٢

٥ - أبو يحيى عبد الله بن يحيى الكندي:

عبد الله بن يحيى بن عمر الكندي، من حضرموت، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة؛ عامل القاسم بن عمر على حضرموت، وهو عامل مروان على اليمن، خرج بحضرموت والتفَّ حوله جماعة عام ١٢٨هـ، وبسط سيطرته على عُمان واليمن والحجاز، وفي عام ١٣٠هـ جهّز مروان بن محمد جيشاً بقيادة عبد الملك بن محمد بن عطيّة السعدي، فكانت بينهم حرب عظيمة، قُتل فيها عبد الله بن يحيى وأكثر من معه من الإباضيّة، ولحق بقيّة الخوارج ببلاد حضرموت.

دول الإباضيّة:

قد قام باسم الإباضيّة، عدد من الدول في أربعة مواضع من البلاد الإسلاميّة:

١ - دولة في عُمان، استقلّت عن الدولة العباسيّة في عهد أبي العباس السفّاح، سنة ١٣٢هـ، ولا تزال إلى اليوم.

٢ - دولة في ليبيا، سنة ١٤٠هـ، ولم تعمّر طويلاً؛ فقد انتهت بعد ثلاث سنوات.

٣ - دولة في الجزائر، قامت سنة ١٦٠هـ، وبقيت إلى حوالي ١٩٠هـ، ثُمَّ قضت عليها الدولة العبيديّة.

١٤٣

٤ - دولة قامت في الأندلس، ولا سيّما في جزيرتي ميورقة ومينورقة، وقد انتهت يوم انتهت الأندلس.

هذه هي الإباضيّة، وهذا ماضيهم وحاضرهم، وقد قدّمنا إليك صورة موجزة من تاريخهم ونشأتهم وشخصيّاتهم وعقائدهم.

١٤٤

١٣

الشِّيعة الإماميّة

الشّيعة لغة واصطلاحاً:

الشيعة لغة هم: الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا، وربّما يطلق على مطلق التابع، قال سبحانه: ( فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّه ) (١) ، وقال تعالى: ( وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٢) .

وأمّا اصطلاحاً، فلها إطلاقات عديدة، بملاكات مختلفة:

١ - الشيعة: من أحبَّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الّذين فرض الله سبحانه مودّتهم، قال عزَّ وجلَّ: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣) . والشّيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين، إلاّ النواصب؛ بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم، ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله:

يـا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

____________________

(١) القصص: ١٥.

(٢) الصافات: ٨٣ - ٨٤.

(٣) الشورى: ٢٣.

١٤٥

كـفاكم مـن عـظيم الشأن أنّكم

مَن لم يصلّ عليكم لا صلاة له (١)

٢ - من يفضّل عليّاً على عثمان، أو على الخلفاء عامّة، مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء، وإنّما يقدّم؛ لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول الأعظم، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم.

٣ - الشيعة من يشايع علياً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمة الناس بعده، نَصَبهم لهذا المقام بأمر من الله سبحانه، وذكر أسماءهم وخصوصيَّاتهم. والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنه في المقام، وقد اشتُهر بأنّ عليّاً هو الوصيّ حتّى صار من ألقابه، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم، وهو يقول في بعض خطبه:

«لا يقاس بآل محمد من هذه الأُمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقِّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة». (٢)

ومُجمل القول: إنّ هذا اللفظ يشمل كلَّ من قال إنّ قيادة الأُمّة لعليّ بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإنّه يقوم مقامه في كلِّ ما يمتُّ إليه، سوى النبوّة ونزول الوحي عليه، كلّ ذلك بتنصيص من الرسول.

وعلى ذلك، فالمقوّم للتشيّع، وركنه الرّكين، هو القول بالوصاية والقيادة، بجميع شؤونها، للإمام (عليه السّلام)، فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك، وأمّا ما سوى ذلك، فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع، ولا يدور عليه إطلاق الشيعة.

____________________

(١) الصواعق: ١٤٨.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٢.

١٤٦

الفصل الأوّل:

مبدأ التشيّع وتاريخ تكوّنه

زعم غير واحد من الكتّاب القدامى والجدد، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلاميّة، من إفرازات الصراعات السياسيّة، وذهب بعض آخر إلى القول إنّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلاميّة، وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الأُمّة الإسلاميّة، باعتباره قطاعاً تكوّن على مرّ الزمن؛ لأحداث وتطورات سياسيّة أو اجتماعيّة أو فكريّة، أدَّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير، ثُمَّ اتسع ذلك الجزء بالتدريج.

وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارئ، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسيّة أو فكريّة، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع وُلِد منذ عهد النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ لَمَا تسرّعوا في إبداء الرأي في ذلك المجال، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ، سوى تاريخ الإسلام ومبدئه، وانّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام، من أوّل يوم أمَر بالصدع وإظهار الحقيقة، إلى أن لبىَّ دعوة ربه.

١٤٧

فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد وفاته، عن طريق من نصبه إماماً للناس وقائداً للأُمّة، حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبيّ في غير واحد من المواقف الحاسمة، فإذا كانّ التشيع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصيّ، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الاسلام، والنصوص الواردة عن رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

والشيعة هم المسلمون من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان في الأجيال اللاحقة، هم الّذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة، ولم يغيّروه، ولم يتعدّوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

ففزعوا في الأُصول والفروع إلى عليّ وعترته الطاهرة، وانحازوا عن الطائفة الأُخرى؛ الّذين لم يتعبدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة؛ حيث تركوا النصوص وأخذوا بالمصالح.

إنّ الآثار المرويّة في حق شيعة الإمام عن لسان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ترفع اللّثام عن وجه الحقيقة، وتُعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصيّ، فكانوا معروفين بشيعة عليّ في عصر الرسالة، وأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شك من هذا الأمر، فسأتلو عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام.

____________________

(١) الحجرات: ١.

١٤٨

١ - أخرج ابن مردويه، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟، قال: يا عائشة، أما تقرأين ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) (١) . (٢)

٢ - أخرج ابن عساكر، عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا عند النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأقبل عليّ، فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «والّذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) ، فكان أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة. (٣)

٣ - أخرج ابن عدي، عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة، راضين مرضيّين». (٤)

٤ - أخرج ابن مردويه، عن عليّ، قال: قال لي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ألم تسمع قول الله: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محج<لين». (٥)

٥ - روى ابن حجر في صواعقه، عن أُم سلمة: كانت ليلتي، وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندي، فأتته فاطمة، فتبعها عليّ (رضي الله عنه)، فقال النبيّ: «يا عليّ أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنة». (٦)

____________________

(١) البينة: ٧.

(٢ و٣ و٤ و٥) الدر المنثور: ٦/٥٨٩.

(٦) الصواعق: ١٦١.

١٤٩

٦ - روى أحمد في المناقب: إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لعليّ: «أمَا ترضى أنّك معي في الجنّة، والحسن والحسين وذريّتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذريّتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا». (١)

٧ - أخرج الديلمي: (يا عليّ، إنّ الله قد غفر لك ولذريّتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فابشر إنّك الأنزع البطين). (٢)

٨ - روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يدخلون من أُمّتي الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم»، ثُمَّ التفت إلى عليّ، فقال: «هم شيعتك وأنت أمامهم». (٣)

إلى غير ذلك من الروايات الّتي تُعرب عن أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان متميّزاً بين أصحاب النبيّ؛ بأنّ له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبيّ وبعدها.

الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفِرق:

قد غلب استعمال الشيعة بعد عصر الرسول، تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته، ويعتقد بإمامته ووصايته، ويَظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات؛ نشير إلى بعضها:

١ - روى المسعودي في حوادث وفاة النبيّ: إنّ الإمام عليّاً أقام ومن

____________________

(١) الصواعق: ١٦١.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) مناقب المغازلي: ٢٩٣.

١٥٠

معه من شيعته في منزله، بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر. (١)

٢ - وقال النوبختي (المتوفّى ٣١٣هـ): إنّ أوّل الفِرق، الشيعة؛ وهم فِرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون شيعة عليّ في زمان النبيّ وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه، والقول بإمامته. (٢)

٣ - وقال أبو الحسن الأشعري: وإنّما قيل لهم: الشيعة، لأنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). (٣)

٤ - ويقول الشهرستاني: الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّةً. (٤)

٥ - وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول الله وأحقّهم بالإمامة، وولْده من بعده. (٥)

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات، تُعرب عن أنّ لفيفاً من الأُمّة في حياة الرسول وبعده، إلى عصر الخلفاء وبعدهم، كانوا مشهورين بالتشيّع لعليّ، وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الأُمّة عليه.

____________________

(١) الوصيّة: ١٢١.

(٢) فِرق الشيعة: ١٥.

(٣) مقالات الإسلاميّين: ١/٦٥.

(٤) الملِل والنحل: ١/١٣١.

(٥) الفصل في الملِل والنحل: ٢/١١٣.

١٥١

رواد التشيع في عصر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

وإليك أسماء لفيف من الصحابة الشيعة المعروفين بالتشيّع:

١ - عبد الله بن عبّاس. ٢ - الفضل بن العبّاس. ٣ - عبيد الله بن العبّاس. ٤ - قثم بن العبّاس. ٥ - عبد الرحمن بن العبّاس. ٦ - تمام بن العبّاس. ٧ - عقيل بن أبي طالب. ٨ - أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. ٩ - نوفل بن الحرث. ١٠ - عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. ١١ - عون بن جعفر. ١٢ - محمد بن جعفر. ١٣ - ربيعة بن الحرث بن عبد المُطّلب. ١٤ - الطفيل بن الحرث. ١٥ - المغيرة بن نوفل بن الحارث. ١٦ - عبد الله بن الحرث بن نوفل. ١٧ - عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث. ١٨ - العبّاس بن ربيعة بن الحرث. ١٩ - العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب. ٢٠ - عبد المُطّلب بن ربيعة بن الحرث. ٢١ - جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم، فإليك أسماء لفيف منهم:

٢٢ - سلمان المحمّدي. ٢٣ - المقداد بن الأسود الكندي. ٢٤ - أبوذر الغفاري. ٢٥ - عمّار بن ياسر. ٢٦ - حذيفة بن اليمان. ٢٧ - خزيمة بن ثابت. ٢٨ - أبو أيّوب الأنصاري. ٢٩ - أبو الهيثم مالك بن التيهان. ٣٠ - أُبي بن كعب. ٣١ - سعد بن عبادة. ٣٢ - قيس بن سعد بن عبادة. ٣٣ - عدي بن حاتم. ٣٤ - عبادة بن الصامت. ٣٥ - بلال بن رباح الحبشي. ٣٦ - أبو رافع مولى رسول الله. ٣٧ - هاشم بن عتبة. ٣٨ - عثمان بن حُنيف. ٣٩ - سهل بن حُنيف. ٤٠ - حكيم بن جبلة العبدي. ٤١ - خالد بن سعيد بن العاص. ٤٢ - أبو الحصيب الأسلمي. ٤٣ - هند بن أبي هالة

١٥٢

التميمي. ٤٤ - جعدة بن هبيرة. ٤٥ - حجر بن عدي الكندي. ٤٦ - عمرو بن الحمق الخزاعي. ٤٧ - جابر بن عبد الله الأنصاري. ٤٨ - محمّد بن أبي بكر. ٤٩ - أبان بن سعيد بن العاص. ٥٠ - زيد بن صوحان الزيدي.

هؤلاء خمسون صحابيّاً من الطبقة العليا للشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم، فليرجع إلى الكتب المؤلَّفة في الرجال.

١٥٣

الفصل الثاني:

شبهات حول تاريخ الشيعة

قد تعرّفت على تاريخ التشيع، وأنّه ليس وليد الجدال الكلامي، ولا إنتاج السياسات الزمنيّة؛ وإنّما هو وجه آخر للإسلام، وهما وجهان لعملة واحدة، إلاّ أنّ هناك جماعة من المؤرّخين وكتّاب المقالات، ظنّوا أنّ التشيّع أمر حادث وطارئ على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن مبدئه ومصدره، وراحوا يثيرون الشبهات حول تاريخه، وإليك استعراض هذه الشبهات نقداً وتحليلاً.

الشبهة الأُولى:

الشيعة ويوم السقيفة

إنّ مأساة السقيفة جديرة بالقراءة والتحليل، وقد تخيّل لبعض المؤرخين أنّ التشيّع ظهر بعدها.

يقول الطبري: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة؛ ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منّا الأمراء ومنكم الوزراء - إلى أن

١٥٤

قال: - فبايعه عمر، وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلاّ عليّاً، ثُمَّ قال: أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ، وفيه طلحة والزّبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مسلطاً بالسيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.

وقال أيضاً: وتخلّف عليّ والزّبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتّى يُبَايَع عليّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقالا: خذوا سيف الزبير. (١)

يُلاحظ عليه: أنّ هذه النصوص تدلّ على أنّ فكرة التشيّع لعليّ، كانت مختمرة في أذهانهم منذ عهد الرسول إلى وفاته، فلمّا رأت الجماعة أنّ الحق خرج عن محوره، عمدوا إلى التمسّك بالحق بالاجتماع في بيت عليّ، الّذي أوصّاهم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) به طيلة حياته؛ إذ من البعيد جداً أن يجتمع رأيهم على عليّ في يوم واحد في ذلك اليوم العصيب، فالمعارضة كانت استمراراً لما كانوا يلتزمون به في حياة النبيّ، ولم تكن فكرة خلقتها الظروف والأحداث.

كان أبوذر وقت أخذ البيعة غائباً، ولمّا جاء، قال: أصبتم قناعة، وتركتم قرابة، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم، لَمَا اختلف عليكم اثنان. (٢)

وقال سلمان: أصبتم ذا السن، وأخطأتم المعدن، أمّا لو جعلتموه فيهم، ما اختلف منكم اثنان، ولأكلتموها رغداً.

وروى الزبير بن بكار في الموفقيّات: إنّ عامّة المهاجرين، وجلّ الأنصار، كانوا لا يشكّون أنّ عليّاً هو صاحب الأمر.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٢/٤٤٣ - ٤٤٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢/١٠٣.

١٥٥

وروى الجوهري في كتاب السقيفة: إنّ سلمان والزبير وبعض الأنصار، كان هواهم أن يبايعوا عليّاً.

وروى أيضاً: إنّه لمّا بويع أبو بكر واستقرَّ أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وهتفوا باسم الإمام عليّ، ولكنّه لم يوافقهم. (١)

ومن المستحيل عادة، اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء، في يوم واحد، بل يُعرب ذلك عن وجود جذور لها، قبل رحلة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويؤكد ذلك نداءاته الّتي ذكرها في حق عليّ وعترته، في مواقف متعدّدة، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفةن ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى عليّ؛ إنّما هو لأجل مشايعتهم لعليّ زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وما هذا إلاّ إخلاصاً و وفاءاً منهم للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأين هو من تكوّن التشيع يوم السقيفة؟!

الشبهة الثانية:

التشيّع صنيع عبد الله بن سبأ

كتب الطبري في تاريخه يقول:

كان عبد الله بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء، أُمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثُمَّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثُمَّ البصرة، ثُمَّ الكوفة، ثُمَّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشّام، فأخرجوه حتّى أتى

____________________

(١) شرح نهج البلاغة: ٦/٤٣ - ٤٤.

١٥٦

مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممّن يزعم أنّ عيسى يرجع، ويكذِّب بأنّ محمّداً يرجع، وقد قال الله عز وجل: ( إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى‏ مَعَادٍ ) (١) ، فمحمّد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فقُبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلّموا فيها، ثُمَّ قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبيّ، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصيّ محمّد، ثُمَّ قال: محمّد خاتم الأنبياء، وعليّ خاتم الأوصياء، وإنّ عثمان غاصب حق هذا الوصيّ وظالمه، فيجب مناهضته لإرجاع الحق إلى أهله.

وقد بثّ عبد الله بن سبأ دُعاته في البلاد الإسلاميّة، وأشار عليهم أن يُظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطعن في الأُمراء، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير، والتابعي الصالح، من أمثال: أبي ذر، وعمّار بن ياسر، ومحمّد بن حذيفة، وعبد الرحمن بن عديس، ومحمّد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الأشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم، فكانت السبئيّة تثير الناس على ولاتهم، تنفيذاً لخطة زعيمها، وتضع كتباً في عيوب الأمراءن وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار، فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمين؛ بتحريض السبئيّين، وقدومهم إلى المدينة، وحصرهم عثمان في داره؛ حتّى قتل فيها، كلّ ذلك كان بقيادة السبئيّين ومباشرتهم.

إنّ المسلمين بعدما بايعوا علياً، ونكث طلحة والزبير بيعتهما، وخرجا إلى البصرة، رأى السبئيّون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّه إن تمّ ذلك

____________________

(١) القصص: ٨٥.

١٥٧

سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلاً وقرروا أن يندسّوا بين الجيشين، ويثيروا الحرب بكرة، دون علم غيرهم، وإنّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل، قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسّون من السبئيّين في جيش عليّ، من كان بإزائهم من جيش البصرة، ففزع الجيشان وفزع رؤساؤهما، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً، ثُمَّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم. (١)

إلى هنا انتهت قصة السبئيّة؛ الّتي ذكرها الطبري في تاريخه.

نظرنا في الموضوع:

١ - إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصة، لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن؛ إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء، وأسلم في عصر عثمان، استطاع أنّ يُغري كبار الصحابة والتابعين ويخدعهم، ويطوف بين البلاد، واستطاع أن يكوّن خلايا ضدَّ عثمان، ويستقدمهم إلى المدينة، ويؤلّبهم على الخلافة الإسلاميّة، فيهاجموا داره ويقتلوه، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم بإحسان، هذا شيء لا يحتمله العقل، وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب!!

إنّ هذه القصّة تمسّ كرامة المسلمين والصحابة والتابعين، وتصوّرهم أُمّه ساذجة؛ يغترّون بفكر يهوديٍّ وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكرون.

٢ - إنّ القراءة الموضوعيّة للسيرة والتاريخ، تُوقفنا على سيرة عثمان بن

____________________

(١) انظر تاريخ الطبري: ٣/٣٧٨، نقل بتصرف وتلخيص.

١٥٨

عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، وينفون المخالفين ويضربونهم، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة؛ لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر؛ حتّى أنفتق له فتق في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه. إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمالها، يغضّون الطرف عمّن يؤلّب الصحابة والتابعين على إخماد حكمهم، وقتل خليفتهم في عقر داره، ويجر الويل والويلات على كيانهم!!

٣ - إنّ رواية الطبري، نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم؛ مثلاً: السري؛ الّذي يروي عنه الطبري، إنّما هو أحد رجلين:

أ - السري بن إسماعيل الهمداني؛ الّذي كذّبه يحيى بن سعيد، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ. (١)

ب - السري بن عاصم بن سهل الهمداني؛ نزيل بغداد (المتوفّى عام ٢٥٨هـ)، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته؛ يربو على ثلاثين سنة، كذّبه ابن خراش، ووهّاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث، وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات؛ لا يحلّ الاحتجاج به، فالاسم مشترك بين كذّابين، لا يهمّنا تعيين أحدهما.

٤ - عبد الله بن سبأ، أسطورة تاريخيّة، لأنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده، وزمن إسلامه، ومحتوى دعوته، يُشرف

____________________

(١) ميزان الاعتدال: ٢/١١٧.

١٥٩

المحقّق على القول: بأنّ عبد الله بن سبأ، شخصيّة خرافيّة، وضعها القصّاصون، وأرباب السمر والمجون، في عصر الدولتين: الأُمويّة والعباسيّة.

وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل أسطورة تاريخيّة، حاكها أعداء الشيعة، نكاية بالشيعة؛ حيث قال:

وأكبر الظنِّ أنّ عبد الله بن سبأ هذا، إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلَّ الفتنة ولم يثرها.

إنّ خصوم الشيعة أيّام الأُمويّين والعباسيّين، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته، من ناحية، وليشنعوا على عليّ وشيعته من، ناحية أُخرى، فيردوا بعض أُمور الشيعة إلى يهوديٍّ أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة؟!، وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم؛ في أمر عثمان، وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه، موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنُكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم، رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديّاً وكانت أُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثُمَّ أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثُمَّ أُتيح له من النجاح ما كان يبتغي، فحرّض المسلمين على خليفتهم حتّى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أنّ تُقام عليها أُمور التاريخ. (١)

____________________

(١) الفتنة الكبرى: ١٣٤.

١٦٠

القسم الثالث من وظائف البنك:

الاستثمار

ويقصد بالاستثمار توظيف البنك لجزءٍ من أمواله الخاصّة أو الأموال المودَعة لديه في شراء الأوراق المالية، والتي تكون غالباً على شكل سنداتٍ توخّياً للربح وحفاظاً على درجةٍ من السيولة التي تتمتّع بها تلك الأوراق المالية ؛ لإمكان تحويلها السريع إلى نقودٍ في أكثر الأحيان.

واتّجار البنك بالسندات يعتبر من الناحية الفقهية كاتّجار أيّ شخصٍ آخر بشراء وبيع تلك السندات.

وتُميِّز البنوك من الناحية الفنية بين الاستثمارات والقروض بعدّة اعتبارات:

منها: أنّ القرض يقوم غالباً على استعمال الأموال لفترةٍ قصيرةٍ نسبياً، خلافاً للاستثمارات التي تؤدّي إلى استعمالٍ للأموال في آمادٍ أطول وإن كان العكس قد يصدق أحياناً.

ومنها: اختلاف دور البنك ومركزه في الاستثمار والقرض، ففي الاستثمار هو الذي يبدأ المعاملة ويدخل السوق عارضاً المال ليوظّف في فترةٍ طويلة، وفي القرض يكون الابتداء من العميل المقترض. كما أنّ دور البنك في القرض دور رئيسي ؛ لأنّه أهمّ المقرِضين، بينما دوره في الاستثمار ليس بتلك الدرجة ؛ لأنّه

١٦١

يدخل إلى سوق الأوراق المالية كواحدٍ من المستثمِرين.

وهذه تَميّزات من وجهة النظر الفنّية.

وأمّا من وجهة النظر الفقهية فيمكن تكييف تعاطي السندات على أساسين:

الأوّل: أن نفسّر العملية على أساس عقد القرض، فالجهة التي تصدّر السند بقيمةٍ اسميةٍ نفرضها (١٠٠٠) دينار، وتبيع السند ب- (٩٥٠) ديناراً مؤجّلاً إلى سنةٍ هي في الواقع تمارس عملية اقتراض، أي أنّها تقترض (٩٥٠) ديناراً من الشخص الذي يتقدّم لشراء السند، وتدفع إليه دَينَه في نهاية المدّة المقررة، وتعتبر الزيادة المدفوعة وهي (٥٠) ديناراً في المثال الذي فرضناه فائدةً ربويةً على القرض.

الثاني: أن نفسّر العملية على أساس عقد البيع والشراء بأجل، فالجهة التي تصدّر السند في المثال السابق تبيع (١٠٠٠) دينارٍ مؤجّل الدفع إلى سنةٍ ب- (٩٥٠) ديناراً حاضراً، ولا بأس أن يختلف الثمن عن المثمن في عقد البيع ويزيد عليه، ولو كانا من جنسٍ واحدٍ ما لم يكن هذا الجنس الواحد مكيلاً أو موزوناً.

والواقع أنّ تفسير العملية على أساس بيعٍ ليس إلاّ مجرّد تغطيةٍ لفظيةٍ للعملية التي لا يمكن إخفاء طبيعتها بوصفها قرضاً مهما اتّخذت من تعبير ؛ لأنّ العنصر الأساسيّ في القرض هو أن يملك شخص مالاً من شخصٍ آخر وتصبح ذمّته مثقلةً بمثله له، وهذا هو تماماً ما يقع في عمليات شراء السندات، أو تمليك الجهة المصدّرة للسندات (٩٥٠) ديناراً حاضراً وتصبح ذمّتها مثقلةً بالمبلغ مع زيادة.

فالعملية إذن عملية إقراض من البنك، ولا تختلف من الناحية الفقهية عن إقراض البنك لأيّ عميلٍ من عملائه الذين يتقدمون إليه بطلب قروض، والزيادة التي يحصل عليها البنك نتيجةً للفرق بين القيمة الاسمية للسند وقيمته المدفوعة

١٦٢

فعلاً من قبل البنك هي رباً، وحكمها حكم سائر الفوائد التي يتقاضاها البنك على قروضه. وعلى هذا فإنّ البنك اللاربوي لا يتعاطى هذه العملية الربوية إلاّ بالنسبة إلى سنداتٍ تصدّرها الحكومة أو جهة من الجهات التي يسمح البنك اللاربوي لنفسه أن يأخذ الفائدة منها، وفقاً للنقطة الرابعة من المعالم الرئيسية لسياسة البنك اللاربوي التي تقدّمت في الفصل الأوّل.

فالبنك اللاربوي يمكنه أن يوظّف جزءاً من أمواله في شراء الأوراق المالية إذا كانت تمثّل سنداتٍ حكوميةً أو سنداتٍ مصدّرةً من جهةٍ أخرى يجوز أخذ الفائدة منها للبنك اللاربوي، ولا يمكنه أن يتعاطى بيع وشراء السندات خارج نطاق هذه الحدود.

١٦٣

١٦٤

الملاحق الفقهية

١٦٥

١٦٦

الملحق (١)

[ مناقشة التخريجات التي تحوّل الفائدة إلى كسب محلّل ]

يعالج هذا الملحق - على مستوىً موسّعٍ من الناحية الفقهية - التخريجات المتعدّدة التي تستهدف تحويل الفائدة إلى كسبٍ محلّلٍ وتطويرها بشكلٍ مشروع، مع مناقشة تلك التخريجات.

لاحظنا في وضع سياسة البنك اللاربوي تجاه الفوائد الربوية على القروض أن تصاغ بشكلٍ يميّزها بقدر الإمكان نصّاً وروحاً عن فكرة الربا المحرَّم في الإسلام.

وأمّا إذا قطعنا النظر عن هذه الملاحظة فهناك تخريجات فقهية متعدّدة يمكن تصويرها بصدد محاولة تحويل الفائدة إلى وجهٍ مشروع. ولكي يستكمل البحث عناصره الفقهية نذكر في ما يلي أهمّ ما يمكن أن يقال أو قيل فعلاً من هذه التخريجات مع مناقشتها:

[ التخريج الأوّل:]

إنّه في القرض يتمثّل عنصران: أحدهما المال المقترَض من الدائن للمدين، والآخر نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من المقرض. والربا: هو وضع زيادةٍ

١٦٧

بإزاء المال المقترَض. فالفائدة حيث توضع في مقابل المال المقترَض تصبح رباً محرَّماً، ولكنّها إذا فرضت بإزاء نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من الدائن على أساس الجُعالة تخرج بذلك عن كونها رباً.

فالشخص الذي يحاول أن يحصل على قرضٍ يقوم بإنشاء جُعالةٍ يعيّن فيها جُعلاً معيّناً على الإقراض، فيقول: من أقرضني ديناراً فله درهم. وهذه الجعالة تُغري مالك الدينار فيتقدم إليه ويقرضه ديناراً، وحينئذ يستحق عليه الدرهم، وهذا الاستحقاق لا يجعل القرض ربوياً ؛ لأنّه بموجب عقد القرض، بل هو استحقاق بموجب الجعالة.

ولهذا لو فرض أنّ الجعالة انكشف بطلانها بوجهٍ من الوجوه ينتفي بذلك استحقاق المقرِض للدرهم وإن كان عقد القرض ثابتاً ؛ لأنّ استحقاق الدرهم نتج عن الجعالة، لا عن عقد القرض. والدرهم في الجعالة موضوع بإزاء الإقراض بما هو عمل، لا بإزاء المبلغ المقترَض بما هو مال.

فهذا نظير من يجعل جعالةً لمن يبيع بيته، فلو قال شخص: من باعني داره كان له درهم، كان البائع مستحقّاً للدرهم لا بموجب عقد البيع، بل بموجب الجعالة، وهو بإزاء نفس البيع والتمليك بعوضٍ بما هو عمل، لا بإزاء الدار المبيعة. ولهذا لا يسري على الدرهم حكم العوضين.

والكلام حول هذا التقريب من جهتين: الأولى من جهة الصغرى. والثانية من جهة الكبرى.

أمّا من جهة الصغرى فقد فرض في هذا التقريب أنّ الدرهم موضوع بإزاء نفس عملية الإقراض، لا على المال المقترَض، ولكن يمكن أن يقال بهذا الصدد: إنّ الارتكاز العقلائي قائم على كون الدرهم في مقابل المال المقترَض، لا في

١٦٨

مقابل نفس الإقراض، وجعله بإزاء عملية الإقراض مجرّد لفظ.

وعليه فلا نتصور الجعالة في ذلك ؛ لأنّ الجعالة فرض شيءٍ على عمل لا على مال. وبعد إرجاع الدرهم في محلّ الكلام بالارتكاز العقلائي إلى كونه مجعولاً في مقابل المال لا تكون هناك جعالة، بل يكون الدرهم ربوياً ؛ لأنّه زيادة على المال المقترَض.

وأمّا من جهة الكبرى بمعنى أنّا لو افترضنا أنّ المتعاملَين - الدائن والمدين - تحرّرا من ذلك الارتكاز العقلائي واتّجهت إرادة المدين حقيقةً إلى جعل الدرهم بإزاء نفس عملية الإقراض فهل هذه الجعالة صحيحة أو لا ؟

ولكي نعرف جواب ذلك لا بدّ أن نعرف حقيقة الجُعالة، فإنّه يمكن القول فيها: إنّ استحقاق الجعل المحدّد في الجعالة ليس في الحقيقة إلاّ بملاك ضمان عمل الغير بأمره به لا على وجه التبرّع، فأنت حين تأمر الخيَّاط الخاصّ بأن يخيط لك الثوب فيتمثل لأمرك تضمن قيمة عمله وتشتغل ذمّتك باُجرة المثل. وهذا نحوٌ من ضمان الغرامة في الأعمال على حدِّ ضمان الغرامة في الأموال، وبإمكانك في هذه الحالة أن تحوِّل أجرة المثل منذ البدء إلى مقدارٍ محدّد، فنقول: من خاط الثوب فله درهم، أو إذا خِطْتَ الثوب فلك درهم، فيكون الضمان بمقدار ما حدّد في هذا الجعل، ويسمّى هذا جعالة.

فالجعالة بحسب الارتكاز العقلائيّ تنحلّ إلى جزأين: أحدهما الأمر الخاصّ أو العام بالعمل، أي بالخياطة مثلاً. والآخر تعيين مبلغٍ معيّنٍ بإزاء ذلك.

والجزء الأوّل من الجعالة هو ملاك الضمان، والضمان هنا من قبيل ضمان الغرامة، لا الضمان المعاوضي.

والجزء الثاني يحدّد قيمة العمل المضمونة بضمان الغرامة، حيث إنّ أجرة

١٦٩

المثل هي الأصل في الضمان ما لم يحصل الاتفاق على الضمان بغيرها.

وإذا تحقّق هذا فيترتّب عليه أنّ الجعالة لا تُتَصوّر إلاّ على عملٍ تكون له أجرة المثل في نفسه وقابل للضمان بالأمر به، كالخياطة والحلاقة. وأمّا ما لا ضمان له في نفسه ولا تشمله أدلّة ضمان الغرامة فلا تصحّ الجعالة بشأنه ؛ لأنّ فرض الجعل في الجعالة ليس هو الذي ينشئ أصل الضمان، وإنّما يحدّد مقداره.

وعلى هذا الأساس لا تصحّ الجعالة على الإقراض بما هو عمل ؛ لأنّ مالية الإقراض في نظر العقلاء إنّما هي مالية المال المقترض، وليس لنفس العمل بما هو مالية زائدة. ومع فرض كون مالية المال المقترَض مضمونةً بالقرض فلا يتصوّر عقلائياً ضمان آخر لمالية نفس عملية الإقراض.

وبتعبيرٍ واضح ليس عندنا في نظر العقلاء إلاّ ماليَّة واحدة، وهي مالية المال المقترض، وتضاف إلى نفس عملية الإقراض باعتبار ذلك المال، فليس هناك إلاّ ضمان غرامةٍ واحد، ولا يتصوّر في الارتكاز العقلائي ضمانان من ضمانات الغرامة: أحدهما للعمل، والآخر للمال المقترض، والمفروض أنّ المال المقترَض مضمون بعقد القرض، والضمان الحاصل بعقد القرض هو من نوع ضمان الغرامة، وليس ضماناً معاوضياً، ومعه فلا مجال لفرض ضمان غرامةٍ آخر لنفس عملية الإقراض.

وبناءً على ذلك لا تصحّ الجُعالة على الإقراض ؛ لأنّ الجُعالة دائماً تقع في طول شمول أدلّة ضمان الغرامة للعمل المفروض له الجعل، ففي موردٍ لا تشمله أدلّة ضمان الغرامة ولا يكون العمل فيه مضموناً بالأمر على الآمر لا تصحّ فيه الجعالة.

١٧٠

[ التخريج الثاني: ]

إنّ الفائدة إنّما تحرم بوصفها تؤدّي إلى ربويَّة القرض، والقرض الربويّ حرام. وأمّا إذا حوّلنا العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فلا تكون الفائدة رباً قرضياً، وتصبح بالتالي جائزة. وأمّا تحويل العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فيتمّ إذا استطعنا أن نميِّز بين الحالتين التاليتين:

الأولى : إذا افترضنا أنّ زيداً مَدينٌ لخالد بعشرة دنانير ومطالب بوفائها فيأتي إلى البنك ويقترض عشرة دنانير ويسدّد بها دَيْنه.

الثانية : أنّ زيداً في الفرض السابق يتّصل بالبنك ويأمره بتسديد دَيْنه ودفع عشرة دنانير إلى خالد وفاءً لِما لَه في ذمّته.

والنتيجة واحدة في الحالتين، وهي أنّ زيداً سوف تبرأ ذمّته من دين خالد عليه، وسوف يصبح مديناً للبنك بعشرة دنانير، ولكنّ الفارق الفقهي بين الحالتين أنّ زيداً في الحالة الأولى يمتلك من البنك عشرة دنانير معيّنةً على أن يصبح مديناً بقيمتها، وهذا هو معنى القرض، فإنّه تمليك على وجه الضمان. وأمّا في الحالة الثانية فزيد لا يمتلك شيئاً، وإنّما تشتغل ذمّته ابتداءً بعشرة دنانير للبنك من حين قيام البنك بتسديد دينه. واشتغال ذمّته بذلك قائم على أساس أنّ البنك بوفائه من ماله الخاصّ لدَين زيدٍ قد أتلف على نفسه هذا المال، ولمّا كان هذا الإتلاف بأمرٍ من زيدٍ فيضمن زيد قيمة التالف، فالعشرة التي دفعها البنك إلى دائن زيدٍ لم تدخل في ملكية زيد، وإنّما هي ملك البنك ودخلت في ملكية دائن زيدٍ رأساً ؛ لأنّ وفاء دين شخصٍ بمال شخصٍ آخر أمر معقول، كما حقّقناه في محلّه، وهذا معناه أنّه لم يقع قرض في الحالة الثانية، وإنّما وقع أمر بإتلافٍ على وجه الضمان. فلو التزم

١٧١

زيد للبنك حين إصدار الأمر له بالوفاء بأن يعطيه أكثر من قيمة الدين إذا امتثل الأمر لم تكن هذه الزيادة الملتزم بها موجبةً لوقوع قرضٍ ربوي ؛ لأنّ الضمان ليس ضماناً قرضياً، وإنّما هو ضمان بسبب الأمر بالإتلاف.

وبتعبيرٍ آخر: أنّ الربا المحرّم إنّما يكون في المعاملة كعقد القرض أو البيع أو الصلح ونحو ذلك، وأمّا ضمان الغرامة بقانون الأمر بالإتلاف فهو لا يستبطن تمليكاً معاملياً فلا يجري فيه الربا المحرّم، فلا يكون فرض زيدٍ في هذه الحالة فائدةً للبنك من الفائدة القرضية المحرّمة.

ويمكن المناقشة في هذا التقريب بأمرين:

الأوّل : أنّ الدليل الدالّ على حرمة إلزام الدائن مدينَه بزيادةٍ على الدين الذي حصل بالقرض يدلّ عرفاً - وبإلغاء الخصوصية بالارتكاز العرفي - على حرمة إلزام الدائن مدينَه بالزيادة فيما إذا كان الدين حاصلاً لا بسبب القرض، بل بسبب الأمر بالإتلاف، كما في المقام بحسب الفرض ؛ لأنّ التفرقة بين الحالتين تعني أنّ المدين إذا أصبح مديناً في مقابل تملّك شيءٍ بالقرض فلا يجوز إلزامه بالزيادة، وإذا أصبح مديناً لا في مقابل تملّك شيءٍ فيجوز إلزامه بالزيادة، فكأنّ تملّك شيءٍ له دخل في الإرفاق به وتحريم إلزامه بالزيادة، وهذا على خلاف الارتكاز العرفي، وعليه فتثبت حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية أيضاً.

الثاني : أنّا إذا سلّمنا عدم حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية لعدم كونها زيادةً في عقد القرض فلا بدّ من سببٍ معامليّ يجعل المدين ملزماً بدفع الزيادة، والمفروض عدم وجود عقد القرض لكي يُشترط على المدين في ضمن ذلك العقد دفع الزيادة.

وقد يراد تصوير هذا السبب عن طريق جُعالةٍ يجعلها زيد فيقول للبنك: إذا

١٧٢

سددت ديني البالغ عشرة دنانير فلك دينار، فيستحقّ البنك حينئذٍ عشرة دنانير بقانون ضمان الغرامة، وديناراً بقانون الجُعالة بإزاء عمله وهو تسديد الدين، وهذه الجعالة تختلف عن الجعالة التي مرّت بنا في الوجه السابق ؛ لأنّ تلك جعالة على عملية الإقراض، أي بإزاء التمليك على وجه الضمان. وأمّا هذه فليست جعالةً على التمليك ؛ لِمَا تقدّم من أنّه لا يوجد تمليك من البنك لزيدٍ في الحالة الثانية التي ندرسها الآن، وإنّما هي جعالة على تسديد البنك لدين زيدٍ على أساس أنّ هذا التسديد عمل محترم يمكن فرض جعالةٍ له.

ولكن بالرغم من هذا فإنّ هذه الجعالة تواجه نفس الاعتراض الذي أثرناه على الجعالة المتقدّمة في التقريب السابق ؛ لأنّ تسديد البنك لدين زيدٍ ليس له ماليَّةٌ إضافية وراء مالية نفس المال الذي يسدّده لخالد بعنوان الوفاء. والمفروض أنّ هذا المال المسدَّد مضمون فلا يتحمّل المورد ضماناً آخر لنفس عملية التسديد. وإذا لم يُتصوّر الضمان لم تصحَّ الجعالة ؛ لِمَا تقدّم من أنّها لا تنشئ الضمان، وإنّما تحدِّده في الجعل المعيَّن.

نعم، إذا افترضنا أنّ تسديد البنك لدين زيدٍ كانت له قيمة مالية زيادةً على القيمة المالية للمال المسدَّد جاء فيه ضمان الغرامة، وبالتالي صحَّت الجعالة فيه، وذلك كما إذا كان تسديد البنك لدين زيدٍ يتمثّل في جهدٍ زائدٍ على مجرّد دفع المال إلى دائن زيد، وذلك حين يكون دائن زيدٍ في بلدٍ آخر مثلاً ويأمر زيدٌ البنكَ بإرسال مبلغٍ من المال إلى ذلك البلد ودفعه إلى دائنه، فإنّ ممارسة البنك لهذه العملية لها قيمة مالية زائدة على القيمة المالية لنفس المال المدفوع، وهذه القيمة المالية الزائدة مضمونة على زيدٍ بسبب أمره للبنك بتسديد دينه وتحويله إلى دائنه، وفي مثل هذه الحالة يمكن لزيدٍ أن يقوم بجعالةٍ معيّنةٍ فيجعل للبنك جعلاً خاصّاً على عملية التحويل والتسديد.

١٧٣

[ التخريج الثالث: ]

وهنا تقريب يختصّ ببعض القروض، وهي ما كان من قبيل القروض التي تدفع إلى المدين خارج البلاد. فمثلاً: قد يتقدّم شخص إلى البنك في بغداد طالباً منه أن يزوِّده بخطابٍ إلى وكيله في الهند يأمره فيه بإقراضه مبلغاً معيّناً من المال، فيزوّده البنك بهذا الخطاب، ثمّ يقدِّمه الشخص إلى الوكيل في الهند ويقترض بموجبه المبلغ المحدَّد. وعقد القرض هنا وقع في هذا المثال في الهند.

ومن حقّ المقِرض - بمقتضى إطلاق عقد القرض - إلزام المقترِض بالوفاء في نفس مكان القرض ؛ لأنّ مكان وقوع القرض هو الأصل في مكان الوفاء بمقتضى الإطلاق. وعليه فيكون من حقّ البنك أن يطالب مدينَه بالوفاء في نفس المكان الذي تَمَّ في إقراضه عن طريق وكيله في الهند، غير أنّ المدين غير مستعدٍّ لذلك، فإنّه يريد الوفاء في العراق حالة رجوعه من سفره، لا في الهند، فيمكن للبنك في هذه الحالة أن يطالب بمقدار الفائدة لا بإزاء المال المقترض، بل بإزاء تنازله عن الوفاء في ذلك المكان المعيّن. وليس هذا رباً ؛ لأنّ البنك في الواقع قد أقدم على الإقراض مستعدّاً لقبول نفس المبلغ إذا دفع له في نفس المكان، وإنّما يطالب بالزيادة لقاء تنازله عن المكان، فيكون المقترض بين أمرين: فإمَّا أن يقتصر على دفع نفس المبلغ على أن يدفعه في نفس المكان الذي وقع فيه القرض، وإمَّا أن يدفع زيادةً عليه لقاءَ إسقاط الدائن حقّه في الوفاء في المكان المعيّن. وسوف يختار المقترض الأمر الثاني.

وفي الواقع أنّ هذا الوجه هو الذي جوّزنا للبنك على أساسه أن يأخذ عمولةً على التحويل، كما يأتي مفصَّلاً. ولكن لا يمكن استخدام البنك اللاربوي

١٧٤

لهذا الوجه لكي يطالب بكامل مقدار الفائدة الربوية بإزاء إسقاط حقّ المكان إلاّ بأن ينقلب القرض ربوياً ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يوافق على تسلّم نفس المبلغ دون زيادةٍ إذا دفع إليه في مكان القرض، وإمّا أن يرفض تسلّم المبلغ بدون زيادةٍ ولو دفع إليه في ذلك المكان. فإن كان يرفض تَحَوَّل القرض بذلك إلى قرضٍ ربوي، وإن كان يوافق فبإمكان المدين حين يحلّ أجَل دَينِه وهو في العراق وتتوفّر لديه قيمة الدين الذي اقترضه أن يتّصل ببنكٍ آخر من البنوك الأخرى الربوية، ويطلب منه تحويل قيمة الدين إلى مكان القرض - أي الهند في المثال المتقدّم - ولا تطلب منه البنوك الربوية حينئذٍ إلاّ أجرة زهيدةً على التحويل ؛ لأنّه سوف يدفع القيمة إليها نقداً.

[ التخريج الرابع: ]

ما هو شائع في بعض الأوساط الفقهية من إمكان تحويل القرض إلى بيع فيخرج بذلك عن كونه ربوياً ما دام النقد من الأوراق النقدية التي لا تمثّل ذهباً ولا فضةً، ولا تدخل في المكيل أو الموزون، فبدلاً عن أن يقرض البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ فيكون قرضاً ربوياً، يبيع البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين مثلاً، والثمن هنا وإن زاد على المثمن مع وحدة الجنس ولكنّ ذلك لا يحقّق الربا المحرَّم في البيع ما لم يكن العوضان من المكيل أو الموزون. والدينار الورقي ليس مكيلاً ولا موزوناً، فيتوصّل البنك بهذا الطريق إلى نتيجة القرض الربوي عن طريق البيع.

وقد يقال: إنّ هذا لا يحقّق كلّ مكاسب القرض الربوي المحرَّم ؛ لأنّ الشخص الذي أخذ ثمانية دنانير مع تأجيل الوفاء إلى شهرين مثلاً لو كان أخذها

١٧٥

على أساس القرض الربوي فبإمكان البنك المقرِض على هذا الأساس أن يلزمه بفائدةٍ جديدةٍ فيما إذا تأخّر عن الدفع بعد شهرين. وأمّا إذا كان قد أخذها على أساس الشراء بمعنى أنّه اشترى ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين، فليس للبنك أن يطالبه إلاّ بالثمن المحدَّد في عقد البيع والشراء - وهو عشرة - حتى لو تأخّر عن الدفع بعد شهرين. ولو طالبه بفائدةٍ على التأخّر كان ذلك فائدةً على إبقاء الدين، ويعود حينئذٍ محذور الربا المحرَّم.

ولكن بالإمكان التخلّص من ذلك: بأن يشترط بائع الثمانية بعشرةٍ على المشتري في عقد البيع أن يدفع درهماً مثلاً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه المشتري عن دفع الثمن المقرّر من حين حلول أجله، ولا يكون هذا رباً، فإنّ إلزام المدين هنا بدفع الدرهم يكون بحكم البيع، لا بحكم عقد القرض، وليس في مقابل الأجل، فكما كان يمكن للبائع أن يشترط على المشتري أن يهب له درهماً في كلِّ شهرٍ إلى سنةٍ ويكون المشتري ملزماً حينئذٍ بذلك كذلك له أن يشترط عليه أن يدفع له درهماً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه عن دفع الثمن. فليس الشرط هو شرط أن يكون له درهماً في جميع الشهور التي تسبق دفع الثمن من حين حلول الأجل، وحيث إنّه شرط في عقد البيع فيكون لازماً.

والحاصل: أنّ اشتراط دفع شيءٍ في عقد القرض غير جائز ؛ لأنه يُصيِّر القرض ربوياً. كما أنّ اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل بنحو شرط النتيجة غير جائز ولو وقع ضمن عقد بيع ؛ لأنّه من اشتراط الربا. وفي المقام: الشرط المدّعى لا هو واقع في عقد القرض ليؤدّي إلى وجود قرضٍ ربوي، ولا هو من اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل ليكون من اشتراط الربا المحرَّم، فلا مانع من نفوذه.

١٧٦

وبذلك يحصل البنك المقرِض على تمام مكاسب الربا.

والتحقيق: أنّ بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ في الذمّة لا يجوز تبعاً للسيّد الأستاذ (دام ظلّه الوارف)(١) ؛ لأنّه في الحقيقة وبحسب الارتكاز العرفي قرض قد ألبس ثوب البيع، فيكون من القرض الربوي المحرَّم.

وليس هذا بتقريب أنّ البيع لا يصدق على مثل هذه المعاملة ؛ لأنّ البيع متقوّم بالمغايرة بين الثمن والمثمن، ولا مغايرة في المقام بينهما ؛ لأنّ الثمن ينطبق على نفس المثمن مع زيادة. فإنّ هذا التقريب يندفع بكفاية المغايرة الناشئة من كون المثمن عيناً خارجيةً والثمن أمراً كلّياً في الذمّة، ومجرّد قابليته للانطباق ضمناً على تلك العين لا ينافي المغايرة المصحِّحة لعنوان البيع، وإلاّ لَلزم البناء على عدم صحة بيع القيمي بجنسه في الذمّة مع الزيادة، كبيع فرسٍ بفرسين في الذمّة، مع أنّ هذا منصوص على جوازه في بعض الروايات(٢) . وهذا يكشف عن المغايرة المقوِّمة لحقيقة البيع يكفي فيها هذا المقدار، فليس الإشكال إذن من جهة عدم تحقّق المغايرة.

بل المهمّ في الإشكال دعوى صدق القرض على هذه المعاملة وإن أنشئت بعنوان البيع، وذلك بتحكيم الارتكاز العرفي إمّا بلحاظ الصغرى، أي تشخيص المراد الجدّي للمتعاملين، فيقال: إنّ المراد المعاملي لهما جدّاً بقرينة الارتكاز هو القرض، وليس الإنشاء بالبيع إلاّ من باب تغيير اللفظ. , وإمّا بلحاظ الكبرى، أي بتوسعة دائرة القرض بحسب الارتكاز العرفي بحيث يشمل هذه المعاملة وإن اُريد بها البيع جدّاً.

____________________

(١) منهاج الصالحين (للسيّد الخوئي) ٢: ٥٤ - ٥٥، المسألة ٢٢٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٣، الباب ١٦ من أبواب الربا، الحديث ٣.

١٧٧

أمّا تحكيم الارتكاز العرفي بلحظ الصغرى وجعله قرينةً على تشخيص المراد الجدّي للمتعاملَين فقد يقال في دفعه: إنّ المقصود بالمراد الجدّي الذي يستكشف بلحاظ الارتكاز إن كان هو الغرض الشخصي للبائع والمشتري من المعاملة، فمن الواضح أنّ مجرّد كون الغرض الشخصي من هذه المعاملة نفس الغرض الشخصي في موارد القرض لا يخرجها عن كونها بيعاً ؛ لأنّ الأغراض الشخصية للمتعاملين ليست مقوّمةً لأنواع المعاملات المختلفة.

وإن كان المقصود بالمراد الجدّي المنشأ جدّاً في المعاملة فمن الواضح أيضاً أنّ الإنشاء الجدّي سهل المؤونة ؛ لأنّه يرجع إلى الاعتبار، ولا معنى لتحكيم ارتكازٍ خارجيّ على اعتبارات المتعاملَين، إذ بإمكان البائع والمشتري أن يُنشئا التمليك بعوضٍ في مقام الجعل والاعتبار بدلاً عن إنشاء التمليك على وجه الضمان.

ودعوى: أنّ التمليك بعوضٍ في مقام بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة عين التمليك على وجه الضمان ؛ ولهذا يكون قرضاً، مدفوعة: بأنّ التمليك بعوضٍ يشتمل على جعل الضمان المعاوضي، ولهذا يحصل التمليك والتملّك بنفس العقد في البيع، وأمّا التمليك على وجه الضمان فهو لا يشتمل على الضمان المعاوضي، بل على التمليك بنحوٍ يستتبع جريان قانون ضمان الغرامة بتفصيلٍ لا يسعه المقام. ولهذا كان نفوذ القرض على القبض، ولم يكن عقد القرض مشتملاً على المعاوضة.

وهكذا يتّضح أنّ التمليك بعوضٍ والتمليك على وجه الضمان مجعولان اعتباريان مختلفان، وإن تصادفا بحسب النتيجة في مورد تبديل ثمانية دنانير خارجيةٍ بمثلها في الذمّة.

١٧٨

ولهذا فقد يكون من الأفضل التمسّك بالارتكاز العرفي وتحكيمه بلحاظ الكبرى، بحيث يقال: إنّه لمَّا كان القرض بمقتضى الأصل في الارتكاز العقلائي هو تبديل المال المثليِّ الخارجيِّ بمثله في الذمّة - وتعميمه للقيميات ليس إلاّ بنحوٍ من العناية - فيصدق عرفاً عنوان القرض على المعاملة التي تتكفّل بهذا التبديل ولو كان المنشأ فيها عنوان التمليك بعوض. فالعرف لا يريد من كلمة (القرض) إلاّ المعاملة التي تؤدّي إلى ذلك النحو من التبديل، ومعه يصبح بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة قرضاً عرفياً، وتلحقه أحكام القرض التي منها عدم جواز الزيادة.

[ التخريج الخامس: ]

وقد يقال انطلاقاً من فكرة تبديل القرض ببيع: إنّ الدنانير الثمانية في المثال السابق لا تُباع بثمانية دنانير في الذمّة مع زيادة دينارين - أي بعشرةٍ - ليقال: إنّ هذا يعتبر في النظر العرفي قرضاً ؛ لأنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، بل تباع بعملةٍ أخرى تزيد قيمتها على الدنانير الثمانية بحسب أسعار الصرف بمقدار ما تزيد العشرة على الثمانية.

مثلاً: تباع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تُومان في الذمّة، وحيث إنّ النقود الورقية من هذا القبيل لا يجري عليها أحكام بيع الصرف فلا يجب فيها التقابض في المجلس، بل يجوز أن يكون الثمن مؤجّلاً إلى شهرين، وفي نهاية شهرين يمكن للبائع أن يتقاضى من المشتري (٢٠٠) تومان، أو ما يساوي ذلك من الدنانير العراقية من باب وفاء الدين بغير الجنس.

وهكذا تحصل نفس النتيجة المقصودة لمن يريد أن يقرض قرضاً ربوياً دون قرض.

١٧٩

ولئن قبل في بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ: إنّه قرض لكونه تبديلاً للشيء بمثله في الذمّة، فلا يقال هذا في بيع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ؛ لعدم المماثلة فيكون طابع البيع هو الطابع الوحيد لهذه المعاملة.

ولكنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا لم نَدَّعِ قَرضيَّة هذه المعاملة أيضاً بحسب النظر العرفي بضمّ ارتكاز إلى الارتكاز السابق الذي كان فحواه: أنّ كلّ معاملةٍ مؤدّاها تبديل الشيء بمثله في الذمّة تعتبر قرضاً عرفاً. والارتكاز الجديد الذي لا بدّ من ضمّه هو ارتكاز النظر في باب النقود إلى ماليّتها دون خصوصياتها، وهذا الارتكاز معناه أنّ المنظور إليه عرفاً من بيع ثمانية دنانير بكذا توماناً هو تبديل ماليةٍ بمالية، وحينئذٍ يشمله عنوان القرض بالنحو المقرّر في الارتكاز السابق ؛ إذ يصدق عليه أنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، إذ بعد أن كان المركوز في النظر العرفي ملاحظة المالية فقط في الدنانير والتُوامين التي وقعت مثمناً وثمناً، فلا يبقى تغاير بين الثمن والمثمن إلاّ في كون أحدهما خارجياً والآخر ذمّياً، وهذا معنى تبديل الشيء إلى مثله في الذمّة الذي هو معنى القرض بمعناه الارتكازي الأوسع الذي يشمل بعض البيوع أيضاً.

فهذا التقريب لا يتمّ أيضاً إذا تمّت الارتكازات المشار إليها، وإلاّ أمكن تصحيحه إذا توفّرت الإرادة الجدّية لمبادلة ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ولم تكن التوامين مجرّد ثمن مأخوذٍ في مقام اللفظ، أو في مقام اعتبارٍ غير جدّيّ يغطّي وراءه الثمن الحقيقي الذي هو عشرة دنانير.

[ التخريج السادس: ]

يمكن للبنك أن يعتبر نفسه وكيلاً عن المودِعين في الإقراض من أموالهم، فهو حين يقرض من الودائع التي لديه يحتفظ لهذه الودائع بملكية أصحابها

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377