المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية15%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 210618 / تحميل: 9269
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

حدد لهم الوقت بثلاثة ايام، واعطى السلطة التنفيذية لغيرهم، ليقهرهم على تنفيذ خطته.

لماذا كل هذه القيود التي وضعها، مع تهديدهم بالقتل إن تأخروا عن الموعد ولم يبرموا العهد؟ لا شك انها كانت لقصد الابتعاد عن الخلاف والنزاع الطبيعي لمثل هذا الامر. اذا القى حبله على غاربه.

وهنا وجدنا كيف أحكم عمر بن الخطاب وضع هذه الخطة، اتقاء للخلاف والنزاع على الامارة الذي لا ينفك عادة عن اراقة الدماء، في وقت اراد ألا يتحمل تبعة تعيين شخص الخليفة بعده، او انه في الأصح لم يجد نفسه تميل كل الميل إلا لتعيين احد الثلاثة الذين قد ماتوا يومئذ، وهم ابو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى ابي حذيفة، ومعاذ بن جبل.

***

ولا اعجب ان يكون ابو بكر وعمر تفطنا الى مافي تشريع إلقاء الامر على عاتق اختيار الامة من فساد، وما ينجم منه من جدال وجلاد. ولكن عجبي ممن يتسرع فينسب ذلك التشريع الى النبي الحكيم الذي لا يفعل إلا عن وحي ولا يحكم الا بوحي. ومع ذلك يدعي الاسلام وعرفان الرسول العظيم.

ولو كان للخليفة عثمان كلمة تسمع ورأي يطاع يوم

٤١

حوصر وأيس من الحياة؛ لما تأخر عن تعيين من يخلفه قطعا. ولكن الموقف كان ابعد من ان يتحكم عليه بمثل ذلك، وهو محاط به ليخلع.

ومما يزيدنا اعتقادا بعقم هذا الحل لمشكلتنا الاجتماعية الخطيرة، انا لم نعرف خليفة تعين بهذه الطريقة إلا ابا بكر وعلي بن ابي طالب، وابو بكر كانت بيعته فتنة او فلتة وقى الله شرها على حد تعبير عمر عنها وهو نفسه الذي شيد اركانها، ومع ذلك قال عنها: (فمن دعا الى مثلها فهو الذي لا بيعة له ولا لمن بايعه)(١) .

اما علي عليه السلام، فبعد تمام البيعة له (الشرعية بنظر اصحاب هذا الرأي) قد وجدنا كيف انتفض عليه نفس اهل الحل والعقد، والأسلام بعدُ لم يرث والعهد قريب، وهؤلاء المنتقضون هم جلة الصحابة. فكانت حرب الجمل فحرب صفين اللتان اريقت بهما الاف الدماء المحرمة هدراً، وانتهكت فيهما حرمات الشريعة، وشلت بهما حركة الدين الاسلامي.

ولم نعرف بعد ذلك خليفة تعين إلا بتعيين من قبله أو بحد السيف، ولقد لعب السيف دورا قاسيا جعل العالم الأسلامي يمخر في بحر من الدماء. ولم يجرئ الطامعين بالخلافة على

______________________________

(١) كنز العمال ج٣ رقم ٢٣٢٦ وغيره.

٤٢

خوض غمار الحروب إلا سن هذا القانون. قانون الاختيار، فمهد السبيل لطلحة الزبير ان يشعلا نار حرب الجمل، ومهد لمعاوية ما اجترم، ولابن الزبير تطاوله للخلافة وهو القصير، وللعباسيين ثورتهم على الامويين ولغيرهم ما شئت ان تحدث والحديث ذو شجون.

الى هنا اجد من نفسي القناعة والأطمئنان الى القول بفساد تشريع تعيين الامام باختيار اهل الحل والعقد. وهيهات ان يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع.

وكيف يخفى عليه ضرر هذا التشريع، ولا يخفى على عائشة ام المؤمنين يوم تقول لعمر على لسان ابنه عبد الله:

(لاتدع امة محمد بلا راع. استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا فاني اخشى عليهم الفتنة).

وما ادري لماذا لم يشر احد على محمد عليه افضل التحيات ان يستخلف او يبين على الاقل طريقة الأستخلاف حتى لا يفتتنوا، كما اشارت عائشة على عمر؟ ولماذا لم يسأله احد عن هذا الأمر، وهم يسألونه عن الكبيرة والصغيرة لماذا...؟

والمرجح انه سئل فأجاب، ولكن التأريخ هو المتهم في اهمال مثل هذه القضايا. على ان تأريخ الشيعة لم يهمل مثل هذا السؤال والجواب الصريح عليه.

٤٣

٤ - لا نص في قاعدة الاختيار

لنتنازل الان عن جميع ما قلناه في البحث السابق من فساد تشريع قاعدة الاختيار، ولكن ألا يجب علينا ان نسأل مدعي صدور هذا التشريع من النبي عن الدليل عليه في كتاب أو سنة.

وبودي ان يدلني احد على قول الرسول في هذا الشأن، فما سمعنا عنه انه قال يوما: ان الاختيار في تعيين الأمام لأهل الحل والعقد، او انه امر الأمة باختيار الأمام بعده، لا تصريحا ولا تلويحا. على ان الدواعي جد متوفرة لنقل مثل هذا القول، والقوة والحول في صدر الاسلام الى ما بعده في يد من يرتئي هذا الرأي ويدافع عنه، فليس لأحد ان يدعي ان هذا الاثر قد خفي علينا او امتنع الرواة عن نقله.

أجل! إلا ان الله تعالى قال في كتابه العزيز:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) .

إذن لم يثبت عن النبي قول وتصريح في هذا الأمر من الاتكال على اختيار الأمة، بل قال تعالى:( مَا كَانَ لَهُمُ

٤٤

الْخِيَرَةُ ) . فلنذهب الان من طريق ثانية الى إثبات صحة هذا التشريع، فنقول:

(أليس النبي كان غير غافل عن امر الخلافة! ولكنه سكت عن الحل لمشكلتها بطريق النص على احد من اصحابه، فلا بد انه أوكل ذلك الى اختيار أمته، فيكون سكوته إذن دليلا على هذا الايكال).

وهذا يقرب من التفكير الصحيح لأول وهلة، اذا استطعنا التصديق بسكوته عن النص فلذلك لا يصح إلا اذا ثبت لنا ان لا نص هناك، فوجب ان ننظر فيما تقوله اهل السنة والشيعة من النص على ابي بكر او علي بن ابي طالب. وسيأتي في البحث (٧)و(٨).

ولكن لو فكرنا قليلا، فلا نرضى لمصلح عاقل فضلا عن النبي الكريم ان يرمز لهذا الأمر العظيم الذي وقع فيه اعظم خلاف في الامة بمثل هذا الرمز الخفي. وما الذي يلجئه الى مثل هذا الدليل الصامت إن صح هذا التعبير مع علمه بما سيقع بعده من انشقاق وخلاف تتسع شقته هذا الاتساع، وتتخلله فتن وحروب أنهكت المسلمين وأفسدت روحية الاسلام؟!.

أما كان الجدير اذا لم يكن قد نص على احد ان يصرح لامته بايكال الأمر الى اختيارهم؟ ثم يحدده باختيار اهل الحل والعقد منهم، او يحدده بخصوص اهل المدينة او

٤٥

اهل عاصمة الخلافة، ثم يكتفي باختيار الواحد والاثنين منهم (على ما يذهب اليه جماعة من علماء اهل السنة)، ثم يذكر شروط الامام حتى يعرفوا من يجب ان يختاروه!

أكل هذه الامور والقيود نستقيها من هذا الدليل الصامت ويكون هذا السكوت حجة على من يشكك في واحد من هذه الشئون فيستحق عقاب الخالق الجبار، ثم مع ذلك يخرج عن ربقة الاسلام ويدخل في زمرة الكافرين؟!.

اللهم اشهد علي اني لا أستطيع ان أؤمن بصحة دليل صامت يدل هذه الدلالة الواسعة على اعظم الشئون العامة التي يعم بلاؤها جميع الخلق في كل زمان ومكان، في وقت الحاجة الى دليل ناطق وحجة واضحة.

اللهم اشهد اني لا استطيع ان أؤمن بذلك إلا اذا فقدت حرية التفكير ومسكة العقل.

٥ - اختلاف امتي رحمة

وأخشى الآن أن أكون قد أخذت بقلمي النعرة المذهبية في بحثي السابق، فبالغت في تشويه تلك الدعوى وخرجت عن خطتي التي رسمتها لنفسي.

وهل تراني اخفف وطأة من تلك السورة، فأطمئن الى

٤٦

تعليل مقبول لذلك الصمت، بأن أقول: إن الرسول إنما ترك بيان هذا الأمر ليوقع الخلاف بين امته رحمة بهم لما روى عنه: (اختلاف أمتي رحمة)؟.

ولكن هيهات! إن لم تؤول الكلمة بما يتفق ومبادئ الاسلام(١) فانها الكذب الصراح على داعية الوحدة ومقاتل نزعات الجاهلية الاولى بسيف من الاخوة الاسلامية انتشل العرب من هوة عميقة للتفرق والنزاع والنزال.

إن أكبر ظاهرة للاسلام بل من أعظم أعماله، تلك الدعوة الى الوحدة المطلقة بأوسع معانيها وتحطيم الفروق حتى بين الشعوب والامم المختلفة. ألا (إنما المؤمنون إخوة).

______________________________

(١) هذه الكلمة مروية من طرق الطرفين. والوارد في تفسيرها عن آل البيت غيرما يتخيل من ظاهرها ففي علل الشرايع: (انه قيل للامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: ان قوما يروون أن رسول الله قال: (اختلاف امتي رحمة)، فقال : صدقوا، فقيل: اذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال ليس حيث تذهب وذهبوا انما أراد قول الله عز وجل( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ ) واختلاف أهل البلدان الى نبيهم ثم من عنده الى بلادهم رحمة... ) الخبر. ومثله في معاني الأخبار للصدوق، وفيه: (انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله، انما الدين واحد).

٤٧

وليس هناك شئ في الاسلام غني عن البرهان بل عن البيان مثل دعوته الى الوحدة والعمل لها بكل الوسائل، ليكون المؤمنون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وقد تجلى ذلك ظاهرا في كثير من الأحكام العملية: في وجوب الحج وصلاة الجمعة والجماعة وحرمة الغيبة واللمز والغمز والقذف... وما الى ذلك مما لا يحصى، وبعد هذا أيمكننا ان نجرأ فندعي ان الرسول يدعو الى الخلاف! وأكثر من ذلك يسعى الى التفرقة، وأية تفرقة هي؟ إن هذا لبهتان عظيم وزور مبين! اللهم اني استجير بك من شطحات القلم والتفكير.

٦ - الاجماع على قاعدة الاختيار

وهنا لا بد أن ننصف في القول فلا نجري الكلام على عواهنه، فأني لم أعرف عن اخواننا أهل السنة أنهم فسروا هذا الصمت المدعى بذلك التفسير إلا من قل. وعلى الاقل انهم لم يجعلوه وحده دليلا على ايكال أمر الخلافة لاختيار أهل الحل والعقد، وإما يستدلون باجماع أهل الصدر الاول على كفاية اختيار أهل الحل والعقد، بدليل بيعة أبي بكر يوم السقيفة. وعندهم الاجماع حجة لما روي عنه عليه الصلاة والسلام، (لا تجتمع أمتي على الخطأ) و (لا تجتمع أمتي على ضلال).

٤٨

ولكن الشيعة لا يعتبرون مثل هذا الاجماع. وإنما يعتبرون الاجماع اذا كشف عن رضى امام معصوم حيث يكون داخلا في أحد المجمعين. وبيعة أبي بكر لم تقترن بموافقة الامام وهو علي بن أبي طالب فلم يتم عندهم الاجماع الذي يكون حجة.

ويذهبون الى أكثر من ذلك، فيقولون إن الاجماع بكل معانيه لم ينعقد على صحة بيعة أبي بكر، لمخالفة علي الذي يدور معه الحق حيثما دار ومخالفة قومه بني هاشم وسعد بن عبادة وابنه وجماعة من كبار الصحابة كسلمان وابي ذر والمقداد وعمار والزبير وخالد بن سعيد وحذيفة اليمان وبريدة وغيرهم. ولم يبايع من بايع منهم بعد ذلك إلا قهرا واضطرارا حفظا لبيضة الاسلام وتوحيدا لكلمة المسلمين. ولا يصح بحال ان يدعي ان هؤلاء ليسوا من اهل الحل والعقد، وهم من تعرف. ويقول الشيعة ايضا: لم يتكرر بعد ذلك تعيين الامام باختيار أهل الحل والعقد، حتى نؤمن بحصول الاجماع على صحة الاختيار في تعيينه، لان كل خليفة تعين إنما تعين بنص السابق عليه أو بحد السيف والقوة، ما عدا علي بن ابي طالب عليه السلام، وهو امام بالنص من النبي صلى الله عليه وآله ولا شأن لاختيار الامة في امامته.

* * *

هكذا اختلف الطرفان، وأجدني الآن حائرا إزاء أدلة

٤٩

الطرفين. واذا اردت ان اعالج في بحثي حادث السقيفة فانما اعالجه من عدة نواح هذه أهمها، فهل استطيع ان استنتج الحكم الفاصل لاحدى الطائفتين؟ هذا ما قد يكشفه مستقبل البحث، وكل آت قريب ولا أتنبأ بالنتيجة قبل وقتها.

وكنت راغبا في بحثي هنا أن احصل على نتيجة حاسمة قبل الدخول في تفسير حوادث السقيفة، بل قبل الدخول في البحث عن النص على الامام بعد النبي في هذا الفصل، ولكني هنا وجدت هذه المسائل متداخلة بعضها آخذ برقاب بعض.

ومع ذلك أجد بامكاني أن أضع تقريرا يقرب من التفكير الصحيح مع الاعراض عما يقوله الطرفان في هذا الشأن، مستعينا بما تقدم في الابحاث السابقة، فهل تعيرني تفكيرك لحظة.

لاحظ انك لا تشك وانا معك ان النبي ما فاه ولا ببنت شفة عن قاعدة انعقاد الامامة باختيار أهل الحل والعقد، مع ان الواجب يدعو للبيان الصريح، كما قلنا آنفا، فلماذا سكت عن ذلك؟.

أكان إهمالا وتوريطا للمسلمين في الخلاف والنزاع، او أنه لم يشرع مثل هذا التشريع؟ والثاني هو الاقرب للصحة. وعليه فما قيمة الاجماع إن تم مع علمنا بان هذا الامر ليس من الدين ولم يشرعه الله على لسان نبيه، على أنا وجدنا في

٥٠

ابحاثنا السالفة ان البرهان الصحيح يقودنا الى الاعتراف بفساد هذا التشريع، فنعلم بنتيجة ان النبي لم يشرعه لأمته، فلا بد ان نتهم الاجماع المدعى باحدى التهم المتقدمة.

هذا من جهة ومن جهة اخرى، انا لا أدري أن هؤلاء الذين اقدموا على الاجتماع في السقيفة لعقد البيعة بدون مشورة من جميع الموجودين في المدينة وغيرهم على أي سناد استندوا وبأية حجة اجتمعوا.

والمفروض ان لاحجة إلا الاجماع، وهو على فرضه بعد لم ينعقد على صحة عملهم؟ فهذا العمل من أساسه كان بغير حجة قائمة ولا بينة واضحة، ولذا قال عمر لسعد بن عبادة: (اقتلوه قتله الله إنه صاحب فتنة).

فلأي شيء استحق القتل ولم يكن يدعو إلا الى نفسه كما دعا غيره؟ ولماذا كان صاحب فتنة؟ ليس إلا لأن دعوته من غير حجة قائمة. وإذا كان قد ثبت من النبي صحة انعقاد الخلافة بأختيار أهل الحل والعقد، ويكتفي بمثل القوم الذين اجتمعوا في السقيفة يومئذ فلم يكن قد دعا سعد إلا الى ما هو مشروع لا يستحق عليه قتلا ولا غضباً.

أما النص المروي: (الأئمة من قريش) فلم يكن معروفاً عند المهاجرين يومئذ او أنهم لم يريدوا ان يعرفوه، ولذا لم يستدلوا له ذلك اليوم، بناء على ما هو الصحيح وإنما

٥١

استدل الخليفة أبو بكر بالقرابة من الرسول وان العرب لا تعرف هذا الأمر إلا بهذا الحي من قريش.

٧ - النص على أبي بكر

لم نتوقف فيما مضى للاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو كل نصب الامام الى اختيار الامة، أو أهل الحل والعقد منهم خاصة... وهنا نبحث عما إذا كان قد عين شخص الامام بعده، فمن هو هذا الامام؟

أصحيح انه هو (أبو بكر)؟ يقطع الباحث ان الأحاديث المروية في النص عليه موضوعة إذا كان يفهم منها النص المدعي وليس أدل على ذلك مما ثبت من تصريحاته نفسه، ولا سيما عندما تمنى قبيل موته ان يسأل عن أشياء ثلاثة ترك السؤال عنها، أحدها أمر الخلافة انه فيمن حتى لا ننازع أهله. ثم من تصريحات خليفته عمر بن الخطاب لا سيما عندما دنت منه الوفاة فصرح ان النبي لم يستخلف. ثم من تصريحات عائشة (وهي المدافعة والمنفحة عن أبيها وقد قامت بقسط وافر من تأييده وتثبيت خلافته) فنفت الاستخلاف لما سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف.(١)

______________________________

(١) ومن الغريب اعتذار ابن حزم: (ان هذا الأثر خفي على عمر كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله كالاستيذان وغيره، أو أنه أراد استخلافا بعهد مكتوب، ونحن نقر ان استخلافه لم يكن بعهد مكتوب. وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك ايضاً... ). ولئن خفي هذا الأمر على عمر وعائشة فعلى غيرهما اخفى واخفى، على ان جمله ارادتها للعهد المكتوب فابعد وابعد.

٥٢

ويكفينا لعدم الوثوق بهذا النص المدعى أن نطلع على مجرى حادث السقيفة، ونعرف استدلال من استدل على صحة بيعته بالاجماع. أولا تراه نفسه يوم السقيفة كيف قدم للبيعة عمر وأبا عبيدة، فقال : (قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين). أتراه كان لا يعلم بالنص عليه، أو كان عالماً به ولكنه أعرض عنه؟ لا شيء منهما يصح أن يقال.

ولا شيء أوضح من خطبته يومئذ إذ يقول فيها: (ان العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب داراً ونسباً).

بل لو كان نص عليه لما كانت العرب تعرف هذا الأمر إلا لشخصه بنص صاحب الرسالة. وليس المقام مقام حياء من الدعوة الى نفسه.

وعندي لا شيء أوضح من وضع الأحاديث في النص

٥٣

عليه وأجد ان الذي ألجأ الى وضعها ان من وضعوها بعد ان ضاقوا ذرعاً بالاستدلال على خلافته بالاجماع، مما وجدوه من مخالفة من خالف ممن لا يمكن اهمال شأنهم. وهذا هو التعصب الذي يحمل صاحبه على الكذب والاختراع، فيقف حجر عثرة دون وصول طالب الحقيقة الى هدفه، ويجعل النفس لا تثق بكل ما يرويه هذا المتعصب فيما يخص معتقده، بل في كل شيء.

* * *

أما قضية تقديمه للصلاة فان صحت (وهي صحيحة بمعنى انه صلى بالمسلمين)، فليس فيها اية اشارة الى تعيينه للخلافة، فضلا عن النص، لأن الامامة في الصلاة ليست بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلا لمن له الامامة، ولا سيما على مذهب اهل السنة، وكان ائمام المسلمين بعضهم ببعض مما اعتادوا عليه، وشاع يومئذ بينهم بترغيب النبي فيه، فقد ورد(١) ان ابا بكر صلى بالناس من دون إذن النبي صلى الله عليه وآله لما ذهب الى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.

ولا اعتقد بصحة ما يروى ان النبي هو الذي قدمه للصلاة وانه صلى أياما، لأن ابا بكر كان من جيش اسامة من غير شك وسيأتي وقد نهى النبي عن التخلف عنه،

______________________________

(١) راجع صحيح البخاري ١ : ٨.

٥٤

وشدد في الاسراع بانفاذه، فكيف يجتمع هذا مع تقديم النبي له للصلاة مدة مرضه؟

نعم الثابت انه صلى صلاة واحدة وهي صلاة الغدير يوم الأثنين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وقبل ان يتمها خرج صاحب الرسالة يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان الأرض من الوجع فصلى بالناس صلاتهم وتأخر ابو بكر. فان عائشة هي التي روت امر النبي بتقديمه لا غيرها، وانها راجعته في ذلك حتى قال لها غاضبا: (انكن لأنتن صواحب يوسف) وهي نفسها تروي خروجه في نفس تلك الصلاة(١) . وكان خروجه بهذه الحال الى الصلاة يوم وفاته وهو يوم الأثنين.

ولو ان النبي كان قدمه للصلاة اشارة الى خلافته، فلماذا خرج بهذه الحال المؤلمة، وصلى بالناس صلاة المضطرين جالسا؟

ولا معنى ما يقال: (انه صلى ابو بكر بصلاة النبي وصلى الناس بصلاة ابي بكر) فمن هو الامام اذن ؟ ان كان أبا بكر فلم يكن قد صلى بصلاة النبي، وان كان النبي فلم تكن الناس قد صلت بصلاة أبي بكر، وتأويله ان صح ان النبي جالسا فلا يرون شخصه وكان مريضا فلا يسمعون

______________________________

(١) صحيح البخاري (١ : ٧٨و٨٤ في حديثين). وصحيح مسلم في باب استخلاف الامام اذا عرض له من كتاب الصلاة.

٥٥

صوته، فكانت الناس تعرف ركوعه وسجوده بصلاة أبي بكر الذي كان بازائه لما تأخر عن مقامه.

والأحاديث مضطربة في هذا الباب ، مع أن أكثرها عن عائشة ام المؤمنين واختلافها الجوهري في ستة امور:

١ - (في علاقة عمر بالصلاة) فيذكر بعضها ان النبي قال: (مروا عمر) بعد مراجعة عائشة عن أبيها فأبي عمر وتقدم أبو بكر وبعضها ذكر انه أبتداء أمر عمر، فقال عمر لبلال قل له ان أبا بكر على الباب. وحينئذ أمر أبا بكر. وبعضهم ذكر انه اول من صلى عمر بغير اذن النبي فلما سمع صوته قال : (يأبى الله ذلك والمؤمنون) وفي بعضها انه أمر أبا بكر ان يصلي نفس الصلاة التي صلاها عمر بالناس، وفي بعضها صلى عمر وكان ابو بكر غائبا. وفي بعضها ان النبي أمر أبا بكر وأبو بكر قال لعمر صل بالناس فامتنع.

٢ - (في من أمره النبي ليأمر ابا بكر)، فبعضها تذكر عائشة ، وبعضها بلالا، وبعضها عبد الله بن زمعة.

٣ - (فيمن راجعه في أمر أبي بكر)، فبعضها تذكر عائشة وحدها راجعته ثلاث مرات أو أكثر، وبعضها تذكر عائشة راجعته ثم خالت لحفصة فراجعته مرة أو مرتين ، فلما زجرها النبي قالت لعائشة: ( ما كنت لأصيب منك خيراً).

٥٦

٤ - ( في الصلاة المأمور بها)، فبعضها يخصها بصلاة العصر وبعضها بصلاة العشاء، والثالث بصلاة الصبح.

٥ - (في خروج النبي)، فبعضها تذكر انه خرج وصلى ، واخرى تقول أخرج رأسه من الستار والناس خلف ابي بكر ثم القى الستار ولم يصل معهم.

٦ - (وفي كيفية صلاة النبي بعد الخروج)، فيذكر بعضها انه ائتم بأبي بكر بعد أن دفع في ظهره ومنعه من التأخر. وبعضها ان أبا بكر تأخر وائتم بالنبي. وبعضها ان ابا بكر صلى بصلاة النبي والناس بصلاة ابي بكر. وبعضها ان النبي ابتدأ بالقراءة من حيث انتهى ابو بكر.

٧ - (في جلوس النبي الى جنب ابي بكر) فبعضها تذكر جلوسه الى يساره، وبعضها الى يمينه.

٨ - (في مدة صلاة ابي بكر)، فبعضها تجعلها طيلة مرض النبي، واخرى تخصها بسبع عشر صلاة، وثالثة بثلاثة أيام، ورابعة بستة، ويظهر من بعضها انه صلى صلاة واحدة.

٩ - (في وقت خروج النبي الى الصلاة)، فبعضها صريحة في انه خرج لنفس الصلاة التي امر بها ابا بكر، وبعضها صريحة في انه خرج لصلاة الظهر بعد صلاة ابي بكر اماما، وبعضها صريحة في خروجه لصلاة الصبح.

٥٧

وهذه الاختلافات كما رأيت في جوهر الحادثة. ولم يظهر من الأخبار تعدد امر النبي له بالصلاة ولا تعدد خروجه. وهذا كله يذهب بالاطمئنان بتصديقها في خصوصيات الحادثة لا سيما فيما يتعلق بأمر النبي له، نعمُ يعلم منها شيء واحد على الاجمال هو صلاة ابي بكر بالناس قبل خروج النبي.

ولعل أبا بكر كان مخدوعا في تبليغه أمر النبي، كما جاء في الحديث ان عبد الله بن زمعة خدع عمر بن الخطاب فبلغه أمر النبي له بالصلاة.

واحسب ان اصل الواقعة ان النبي صلى الله عليه وآله أمر الناس بالصلاة لما تعذر عليه الخروج من دون ان يخص احداً بالتقديم، فتصرف متصرف ، وتأول متأول. ولما بلغ ذلك اسماع النبي التجأ ان يخرج يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان الأرض من الوجع، فصلى بالناس جالسا صلاة المضطرين، ليكشف للناس هذا التصرف الذي استبد به عليه.

واستغرب توبيخه لعائشة لما راجعته عن أبيها إذ قال لها: (انكن لأنتن صواحب يوسف). لماذا هذا التوبيخ القارص؟ وأي شيء صنعته تستحق به هذا اللوم؟ ألا أنها ضنت على أبيها بهذه الكرامة، فلئن لم تستحق المدح فعلى الأقل لا تستحق مثل هذا التوبيخ.

ومن هنا يتطرق الشك ايضا في صحة تقديم النبي لأبي

٥٨

بكر، ويبدو أنه كان من أمرها وتدبيرها، فلذا وجهت اليها هذه الكلمة اللاذعة، لا لمراجعة هناك. ولا شك انها ترغب لأبيها كل فضيلة وتلزه لزاً. ولذا التجأت ان تعتذر عن مراجعتها المستغربة منها التي ادعتها بانها انما كانت تحب ان يصرف عن أبيها لأنها رأت ان الناس لا يحبون رجلا قام مقام النبي ابداً وانهم سيتشأمون به في كل حدث كان.

ألا تراها كيف بعثت الى ابيها تدعوه لما بعث النبي الى علي يدعوه ليوصيه، وكذلك صنعت حفصة لأبيها، ولكن النبي لما رآهم قد اجتمعوا أمرهم بالانصراف وقال: (فإن تك لي حاجة ابعث اليكم)(١) وهذا قول من عنده ضجر وغضب باطن.

والنتيجة: انه ليس هناك ما يستحق ان يسمى نصا ، ولا اشارة الى خلافة ابي بكر.

٨ - النص على علي بن أبي طالب

اذن، أفصحيح ما تقوله الشيعة من النص على علي عليه السلام؟ ايها القارئ! بودي ان يكون حياديا، فلا تنظر الى ما تقوله الشيعة عن هذا الرجل إلا بتقزز، حتى لا اكلفك

______________________________

(١) الطبري (٣ : ١٩٥).

٥٩

بالرجوع الى كتبهم واخبارهم. وانا معك الان سأطرحها جانبا. وما يدرينا لعل حبهم وتعصبهم لصاحبهم يسوقانهم الى القول عنه بما لم يكن، كما ساق أهل السنة الى رواية النص على أبي بكر. فلنأخذ حذرنا من الان.

وبعد هذا اترانا نحذر من مؤلفات اهل السنة وصحاحهم في حق علي، وهم ان تعصبوا فعليه، لا له؟ كلا؟ فان الكثير من محدثيهم يحذرون كل الحذر من رواة مدحه وفضائله، فيقدح المؤلف منهم في الراوي الذي تشم منه رائحة الميل اليه، ويرسلون الطعن في الحديث ارسالا فيقولون: (وفي متنه غرابة شديدة)، وليس إلا لأنه لا يتفق وعقيدته ويكفي في الثقة بالمحدث ان يكون ممن يميل عنه كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمران بن حطان وامثالهم.

وقبل ذلك نجد سيوف بني أمية مسلولة على رؤس الرواة لئلا ينسبوا فضيلة لهذا الذي ناصبوه العداء وسنّوا سبّه على المنابر والمعابر. ونجدهم كيف كانوا يغدقون بالاعطيات على الطاعنين فيه والمنحرفين عنه.

ولذا تراني اطمئن كل الاطمئنان وانت معي لا شك الى كل حديث خلص من هذه العقبات، واستطاع ان يطلع رأسه من بين الأحاديث ظافرا بالصحة والتأييد، فسجلته كتب اهل السنة وصحاحهم في فضل علي والنص على خلافته، ومع هذا فستجدني لا اعتمد إلا على بعض

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الشبهة الثالثة:

التشيّع فارسي المبدأ أو الصبغة

ثمّة شبهة طرحها المستشرقون؛ الّذين اعتقدوا بأنّ التشيّع ظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن علّتها وسبب حدوثها، حتّى انتهوا إلى القول بأنّ التشيّع فارسي المبدأ أو الصبغة، والترديد بين الأمرين؛ لأجل أنّ لهم في المقام رأيين:

١ - إنّ التشيّع من مخترعات الفرس؛ اخترعوه لأغراض سياسية، ولم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس.

٢ - إنّ التشيّع عربي المبدأ، وإنّ لفيفاً من العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الإسلام، ولمّا أسلموا، اعتنقوه وصبغوه صبغة فارسيّة، لم تكن له من قبل.

أمّا الأُولى، فقد اخترعها المستشرق دوزي، وحاصله: إنّ للمذاهب الشيعي نزعة فارسيّة، لأنّ العرب كانت تدين بالحرّيّة، والفرس تدين بالمُلك والوراثة، ولا يعرفون معنى الانتخاب، ولمّا انتقل النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى دار البقاء، ولم يترك ولداً، قالوا عليّ أولى بالخلافة من بعده.

يُلاحظ عليه: أوّلاً: إنّ التشيّع، حسب ما عرفتْ، ظهر في عصر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو الّذي سمّى أتباع عليّ بالشيعة، وكانوا متواجدين في عصر النبيّ وبعده، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرس، سوى سلمان في الإسلام.

١٦١

إنّ روّاد التشيّع في عصر الرسول والوصي، كانوا كلّهم عرباً، ولم يكن بينهم أيُّ فارسيٍّ، سوى سلمان المحمّدي، وكلّهم يتبنّون فكرة التشيّع.

وثانياً: إنّ التاريخ يدلّنا على أنّ الفرس دخلوا في الإسلام يوم دخلوا، بالصبغة السنيّة، وهذا هو البلاذري يحدّثنا في كتابه، ويقول:

كان ابرويز وجّه إلى الديلم، فأتى بأربعة الآف، وكانوا خدمه وخاصّته، ثُمَّ كانوا على تلك المنزلة بعده، وشهدوا القادسيّة مع رستم، ولمّا قُتل وانهزم المجوس، اعتزلوا، وقالوا: ما نحن كهؤلاء، ولا لنا ملجأ، وأثرنا عندهم غير جميل، والرأي لنا أنّ ندخل معهم في دينهم، فاعتزلوا. فقال سعد: ما لهؤلاء، فأتاهم المغيرة بن شعبة، فسألهم عن أمرهم، فأخبروه بخبرهم، وقالوا: ندخل في دينكم، فرجع إلى سعد، فأخبره، فأمنهم. فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد، وشهدوا فتح جلولاء، ثُمَّ تحوّلوا فنزلوا الكوفة مع المسلمين. (١)

لم يكن إسلامهم يومذاك، إلاّ كإسلام سائر الشعوب، فهل يمكن أن يقال: إنّ إسلامهم يومذاك كان إسلاماً شيعيّاً.

وثالثاً: إنّ الإسلام كان يمشي بين الفرس بالمعنى الّذي كان يمشي في سائر الشعوب، ولم يكن بلد من بلاد إيران معروفاً بالتشيّع، إلى أن انتقل قسم من الأشعريّين الشيعة إلى قم وكاشان، فبذروا بذرة التشيّع، وكان ذلك في أواخر القرن الأوّل، مع أنّ الفرس دخلوا في الإسلام في عهد الخليفة الثاني - أي في سنة ١٧هـ، وهذا يعني أنّه قد انقضت عشرات الأعوام، ولم يكن عندهم أثر من التشيّع.

____________________

(١) فتوح البلدان: ٢٧٩.

١٦٢

شهادة المستشرقين على أنّ التشيّع عربي المبدأ:

إنّ لفيفاً من المستشرقين وغيرهم، صرّحوا بأنّ العرب اعتنقت التشيّع قبل الفرس، وإليك نصوصهم:

١ - قال الدكتور أحمد أمين: إنّ الفكر الفارسيّ استولى على التشيّع؛ لقدمه على دخول الفرس في الإسلام، وقال: والّذي أرى؛ كما يدلّنا التاريخ، أنّ التشيّع لعليّ بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام، ولكن بمعنى ساذج، ولكن هذا التشيّع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الأُخرى في الإسلام، وحيث إنّ أكبر عنصر دخل في الإسلام، الفرس، فلهم أكبر الأثر في التشيّع. (١)

٢ - قال المستشرق فلهوزن: كان جميع سكان العراق - في عهد معاوية - خصوصاً أهل الكوفة،شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل، خصوصاً، القبائل ورؤساء القبائل. (٢)

٣ - وقال المستشرق جولد تسيهر: إنّ من الخطأ القول بأنّ التشيّع ومراحل نموّه، يمثّل الأثر التعديلي الّذي أحدثته أفكار الأُمم الإيرانيّة في الإسلام، بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع؛ مبنيٌّ على سوء فهم الحوادث التاريخيّة؛ فالحركة العلويّة نشأت في أرض عربيّة بحتة. (٣)

____________________

(١) فجر الإسلام: ١٧٦.

(٢) الخوارج والشيعة: ١١٣.

(٣) العقيدة والشريعة: ٢٠٤.

١٦٣

٤ - يقول المستشرق آدم متز: إنّ مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانيّة يخالف الإسلام، فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها عدا المدن الكبرى، مثل مكة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً، مثل عُمان وهجر وصعدة، أمّا إيران، فكانت كلّها سنّة ما عدا قم، وكان أهل اصفهان يغالون في معاوية حتّى اعتقد بعض أهلها انّه نبيّ مرسل. (١)

٥ - يقول الشيخ أبو زهرة: إنّ الفرس تشيّعوا على أيدي العرب، وليس التشيّع مخلوقاً لهم، ويُضيف: وأمّا فارس وخراسان وما وراءهما من بلدان الإسلام، فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيّعون، فراراً بعقيدتهم من الأُمويّين أوّلاً، ثُمَّ العباسيّين ثانياً، وإنّ التشيّع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً قبل سقوط الدولة الأُموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها. (٢)

٦ - قال السيِّد الأمين: إنّ الفرس الّذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أوّل الأمر إلاّ القليل، وجلّ علماء السنّة وأجلاّؤهم من الفرس، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم النيسابوري والبيهقي، وهكذا غيرهم ممّن أتوا في الطبقة التالية. (٣)

____________________

(١) الحضارة الإسلامية: ١٠٢.

(٢) الإمام جعفر الصادق: ٥٤٥.

(٣) أعيان الشيعة: ١/٣٣.

١٦٤

تحليل النظريّة الثانيّة:

إنّ هذه النظريّة وإن كانت تعترف بأنّ التشيّع عربي المولد والمنشأ، ولكنّها تدّعي أنّه اصطبغ بصبغة فارسيّة بعد دخول الفرس في الإسلام.

يقول فلهاوزن: إنّ آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيّين، أمّا كون هذه الآراء قد انبثقت من الإيرانيّين، فليست تلك الملائمة دليلاً عليه، بل الروايات التاريخيّة تقول بعكس ذلك؛ إذ تقول إنّ التشيع الواضح الصريح كان قائماً أوّلاً في الأوساط العربيّة، ثُمَّ انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي، وجمع بين هؤلاء وبين تلك الأوساط.

ولكن لمَّا ارتبطت الشيعة العربيّة بالعناصر المضطهدة تخلّت عن تربية القوميّة العربيّة، وكانت حلقة الارتباط هي الإسلام، ولكنّه لم يكن ذلك الإسلام القديم، بل نوعاً جديداً من الدين. (١)

أقول: إنّ مراده أنّ التشيع كان في عصر الرسول وبعده بمعنى الحب والولاء لعليّ، لكنّه انتقل بيد الفرس إلى معنى آخر؛ وهو كون الخلافة أمراً وراثيّاً في بيت عليّ (عليه السّلام)، هذا هو الّذي يصرّح به الدكتور أحمد أمين ويقول: إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع، والمقصود من الاستيلاء، هو جعل الخلافة أمراً وراثيّاً كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان وغيرهم.

يلاحظ عليه: أنّ كون الحكم والملك أمراً وراثيّاً لم يكن من خصائص

____________________

(١) الخوارج والشيعة: ١٦٩.

١٦٥

الفرس، بل وراثيّة الحكم كانت سائدة في جميع المجتمعات، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة وغسّان وحمير في العراق والشام واليمن كان هو الوراثة، والحكم في الحياة القبلية في الجزيرة العربيّة كان وراثيّاً، والمناصب المعروفة لدى قريش؛ من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام والسدانة، كانت أُموراً وراثيّة، حتّى أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يغيّرها، بل أنّه أمضاها، ومن هنا نرى أنّه قد دفع مفاتيح البيت لبني شيبة؛ لما كانت السدانة منصباً لهم أيّام الجاهليّة، فتخصيص الفرس بالوراثة وغمض العين عن غيرهم أمر عجيب!!، فعلى ذلك يجب القول إنّ التشيّع اصطبغ بصبغة فارسيّة وغسّانيّة وحميريّة وأخيراً عربيّة، فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس - مع كونها آنذاك - فكرة عامّة عالميّة؟!

١٦٦

الفصل الثالث:

في بيان متطلّبات الظروف في

عصر الرسول في مجال القيادة الإسلاميّة

لا شك أنّ الدين الإسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الأُمّة من شؤون النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ما دام على قيد الحياة، ثُمَّ إنّه وقع الاختلاف بين أصحاب المقالات والفِرق في صيغتها بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهل كانت متبلورة في صيغة النص أو في انتخاب الأُمّة؟

الشيعة ترى أنّ القيادة منصب تنصيصي، والّذي ينصّ على خليفة الرسول هو الله سبحانه عن طريقه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، بينما يرى أهل السنّة غير ذلك، ولكلّ من الاتّجاهين دلائل وبراهين، والمقصود هنا دراسة متطلّبات الظروف وتقييمها في عصر الرسالة، فهل كانت المصالح تكمن في تعيين القائد أو كانت تكمن في خلافه؟، فدراستها تسلّط الضوء على البحث الثالث وهو وجود النص من الرسول وعدمه، وإليك بيان ذلك:

إنّ الظروف السياسيّة الّتي كانت سائدة في المنطقة، كانت توجب على الرسول أن يعيّن القائد، وكانت المصلحة الإسلاميّة تقتضي ذلك؛ لأنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي: الروم، الفرس، المنافقين؛

١٦٧

وخطرهم يتمثّل بشن هجوم مفاجئ كاسح، أو إلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين، فمصالح الأُمّة كانت توجب توحيد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي والداخلي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدو في جسم الأُمّة الإسلاميّة والسيطرة عليها، وعلى مصيرها، وبذلك يخسر الّذين كانوا يتآمرون على ضرب الإسلام بعد وفاة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

أمّا العدو الأوّل، فقد كان الإمبراطورية الرومانيّة الّتي كانت تشكّل أحد أضلاع المثلّث الخطر الّذي كان يحيط بالكيان الإسلامي ويهدده من الخارج.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربيّة، وكانت تشغل بال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على الدوام، حتّى أنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتّى لحظة الوفاة والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أوّل مواجهة عسكريّة بين المسلمين والجيش الرومي، في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدتّ هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريّين البارزين الثلاثة؛ وهم: جعفر الطيار، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة.

ولقد أدّى انسحاب الجيش الإسلامي بعد مقتل القادة المذكورين، إلى تزايد جرأة الجيش الرومي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في السنة التاسعة للهجرة (غزوة تبوك) على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه المواجهة العسكرية، وقد

١٦٨

استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد للأُمّة الإسلامية هيبتها من جديد.

أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الّذي كان يهدد الكيان الإسلامي، فكان الامبراطوريّة الفارسيّة. وقد بلغ غضب هذه الامبراطوريّة على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومعاداتها لدعوته، أن أقدم إمبراطور إيران (خسروپرويز) على تمزيق رسالة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وتوجيه الإهانة إلى سفيره بإخراجه من بلاطه والكتابة إلى واليه في اليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو يقتله إن امتنع.

وخسرو هذا وإن قُتل في زمن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إلاّ أنّ استقلال اليمن الّتي رزحت تحت استعمار الإمبراطورية الفارسيّة ردحاً طويلاً من الزمن، لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك، وكان غرور أُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياؤهم، لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة (القوة الإسلاميّة) لهم.

والخطر الثالث؛ وهو الأعظم؛ كان هو خطر حزب النفاق الّذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس، على تقويض دعائم الكيان الإسلامي من الداخل، إلى درجة أنّهم حاولوا اغتيال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب يقول في نفسه: إنّ الحركة الإسلاميّة سينتهي أمرها بموت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ورحيله، وبذلك يستريح الجميع!

فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الأقوياء الّذين كانوا يتربّصون بالإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه، يصحّ أن يترك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أُمّته

١٦٩

الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس، من دون أن يعيّن لهم قائداً دينيّاً سياسيّاً؟!

إنّ المعطيات الاجتماعيّة توحي بأنّه كان من الواجب أن يدفع رسول الإسلام، بتعيين قائد للأُمّة، ظهور أي اختلاف وانشقاق فيها من بعده، ويضمن بذلك استمرار وبقاء الأُمّة الإسلاميّة، وإيجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حولها.

إنّ تحصين الأُمّة وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون مطالبة كلّ فريق الزعامة لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة، لم يكن متحققاً إلاّ بتعيين قائد للأُمّة، وعدم ترك الأُمور للأقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعيّة تهدينا إلى صحّة نظريّة (التخصيص على القائد بعد الرسول)، ولعلّه لهذه الجهة ولجهات أُخرى، طرح الرسول مسألة الخلافة في بدء الدعوة، واستمر بذلك إلى آخر ساعة من عمره الشريف.

***

إنّ الرسول الأكرم لم تقتصر مسؤوليّاته على تلقّي الوحي الإلهي وإبلاغ الآيات النازلة عليه، بل كانت تتجاوز ذلك كثيراً، فقد كانت وظائف ثلاث تقع على عاتقه، بالإضافة إلى ما يقوم به من سائر الوظائف:

١ - كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يفسّر الكتاب العزيز، ويشرح مقاصده، ويبيّن أهدافه، ويكشف رموزه وأسراره.

١٧٠

٢ - وكان يبيّن أحكام الحوادث الجديدة الطارئة على المجتمع الإسلامي، عن طريق القرآن الكريم وسنّته.

٣ - وكان يصون الدين من التحريف والدَّس، فكان وجوده مدار الحق وتمييزه عن الباطل، وكانت حياته ضماناً لعدم تطرّق الدسّ والتحريف إلى دينه.

ولا شكّ أنّ موت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفقدانه، سيوجدان فراغات هائلة في المجالات الثلاثة، فيجب إعداد قائد له القابليّة والصلاحيّة في سدّ تلك الفراغات، لا يقوم به إلاّ من كان يتمتّع به الرسول؛ عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي، فيكون وعاء علم النبيّ ومخزن أسراره ومودع حكمه حتّى يقوم بتلك الوظيفة العظيمة.

ومن الواضح أنّ هذه الكفاءات والمؤهّلات المعنويّة، لا تحصل لشخص بطريق عادي، ولا بالتربية البشرية المتعارفة، بل لابدّ من إعداد إلهي خاص، وتربية إلهيّة خاصّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر لا يمكن للأُمّة أن تتعرّف بنفسها على هذا الشخص، وتكتشف من تتوفّر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات بالطرق العادية.

كلّ ذلك يُثبت نظريّة التنصيص وإنّه لا محيص عن تعيين القائد بتنصيص الرسول بأمر من الله سبحانه؛ أي تنصيب من يتّصف بتلك الكفاءات الّتي لا يكتسبها إلاّ من تربّى في حضن الرسالة والرسول.

١٧١

الفصل الرابع:

ما هو مقتضى الكتاب والسنّة

في صيغة الخلافة بعد الرَّسول؟

إنّ مقتضى الكتاب والسنّة في صيغة القيادة بعد الرسول، هو التنصيص، لا التفويض إلى الأُمّة، ولا ترك الأمر إلى الظروف والصدف. فنقدّم الكلام في السنّة، فإنّها صريحة في التعيين، وأمّا الكتاب، فسيأتي البحث عنه.

فنقول: إنّ سيرة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ونصوصه، وفي مواقف مختلفة، تُثبت بوضوح أنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) غرس النواة الأُولى في أمر القيادة منذ أن أصحر بالدعوة وتعاهدها إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

وهذه النصوص من الكثرة والوفرة بحيث إنّه لا يمكن استيعابها ولا ذكر كثير منها، ويكفينا مؤونة ذلك الموسوعات الحديثيّة في المناقب والفضائل والمؤلفات الكلاميّة في أمر الولاية. ونحن نكتفي بالقليل من الكثير.

[ مرجعيَّة أهل البيت السّياسيَّة بعد الرسول: ]

١ - التنصيص على الخليفة في حديث بدء الدعوة:

بُعث الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لهداية الناس وإخراجهم من الوثنيّة إلى التوحيد، ومن

١٧٢

الشر إلى الخير، ومن الشقاء إلى السعادة، وكانت الظروف المحدقة به قاسية جداً؛ لأنّه بُعث في أُمّة عريقة في الوثنيّة، ويخاطبهم سبحانه: ( لِتُنذِرَ قَوْماً مّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) (١) ، فأخذ بالدعوة سرّا،ً ونشر دينه خفاء سنوات عديدة، إلى أن نزل قوله سبحانه: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) ، فعند ذلك أمر الرسول، عليّ بن أبي طالب؛ وهو شاب يافع يتراوح عمره بين ١٣ إلى ١٥ سنة، أمره رسول الله أن يعدّ طعاماً ولبناً، ثُمَّ دعا ٤٥ رجلاً من سُراة بني هاشم ووجوههم، وبعد أن فرغوا من الطعام، قال رسول الله: «إنّ الرائد لا يكذب أهله، والله الّذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول الله إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنّها الجنة أبداً أو النار أبداً».

ثُمَّ قال: «يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عزَّ وجلَّ أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم».

ولمّا بلغ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى هذا الموضع، وقد أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم، قام عليّ (عليه السّلام) فجأة وقال: «أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله»، فقال له رسول الله: اجلس، ثُمَّ كرر دعوته ثانية وثالثة، وفي كلّ مرّة يحجم القوم عن تلبية دعوته، ويقوم عليّ ويعلن استعداده لمؤازرة النبيّ ويأمره رسول الله بالجلوس، حتّى إذا كان في المرّة الثالثة، أخذ رسول الله بيده، والتفت إلى

____________________

(١) يس: ٦.

(٢) الشعراء: ٢١٤.

١٧٣

الحاضرين من عشيرته الأقربين، وقال: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا». (١)

وينبغي الإشارة إلى نكتة؛ وهي أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أعلن وزيره وخليفته ووصيّه يوم أعلن رسالته، وكأنّهما فرقدان في سماء الوحي لا يفترقان، وما القيادة بعد النبيّ إلاّ استمرار لوظائف النبوّة، وإن كانت النبوّة مختومة؛ ولكن الوظائف والمسؤوليّات كانتا مستمرّتين.

٢ - حديث المنزلة:

روى أصحاب السير والحديث، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خرج إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه، فقال له عليّ: «أخرج معك؟» فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «لا»، فبكى عليّ، فقال له رسول الله: «أمَا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؛ إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي».

أخرجه البخاري في صحيحه (٢) ، والاستثناء يدلّ على ثبوت ما لهارون من المناصب لعلي، سوى النبوّة.

٣ - حديث الغدير:

إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة؛ رواه الصحابة والتابعون والعلماء في كلّ عصر وجيل، ولسنا بصدد إثبات تواتره وذكر مصادره، فقد

____________________

(١) مسند أحمد: ١/١١١، تاريخ الطبري: ٢/٦٢ - ٦٣، الكامل في التاريخ: ٢/٤٠ - ٤١.

(٢) صحيح البخاري: ٥/ باب فضائل أصحاب النبيّ، باب مناقب عليّ.

١٧٤

قام غير واحد من المحقّقين بهذه المهمّة، وإنّما الهدف إيقاف القارئ على نصوص الخلافة في حق عليّ، حتّى يقف على أنّ النبيّ الأعظم هو الباذر الأوّل لبذرة التشيّع والدعوة إلى عليّ بالإمامة والوصاية، وعلى أنّ مسألة التشيّع قد نشأت قبل رحلته، ونذكر في المقام ما ذكره ابن حجر، وقد اعترف بصحة سنده، يقول: إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خطب بغدير خم؛ تحت شجرات، فقال: «أيّها الناس؛ إنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبيّ إلاّ نصف عمر الّذي يليه من قبله، وإنّي لأظنّ أن يوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟».

قالوا: نشهد إنّك قد بلّغت وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً.

فقال: «أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ ناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟».

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال: (اللّهم اشهد)، ثُمَّ قال: «يا أيّها الناس، إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا - يعني عليّاً - مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

ثُمَّ قال: «يا أيّها الناس، إنّي فرطكم وإنّكم واردون عليّ الحوض، حوض أعرض ممّا بين بصرى إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضة، وإنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله عزّ وجلّ، سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به لا تضلّوا

١٧٥

ولا تبدلّوا، وعترتي أهل بيتي، فإنّه نبأنّي اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتّى يردا عليّ الحوض». (١)

وأخرجه غير واحد من أئمة الحديث، منهم: الإمام أحمد في مسنده (٢) ، والحاكم في مستدركه (٣) ، والنسائي في خصائصه (٤) .

ولو أردنا استقصاء مصادر الحديث ومسانيده ورواته، من الصحابة والتابعين والعلماء، لأحوجنا ذلك إلى تأليف مفرد، وقد قام بحمد الله أعلام العصر ومحقّقوه بذلك المجهود.

والمهمّ هو دلالة الحديث على الولاية العامّة والخلافة الكبرى لعليّ بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويكفي في ذلك التدبّر في الأُمور التالية:

١ - إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال في خطبته: «أنا أولى بهم من أنفسهم» ، ثُمَّ قال: «فمن كنت مولاه»، وهذه قرينه لفظيّة على أنّ المراد من المولى هو الأولى، فالمعنى: إنّ الله أولى بي من نفسي، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ومن كنت أولى به من نفسه، فعليّ أولى به من نفسه، وهذا هو معنى الولاية الكبرى للإمام (عليه السّلام).

٢ - ذيل الحديث؛ وهو قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»، وفي بعض الطرق: «وانصر من نصره، واخذل من خذله» ، فإنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لمّا نصبه إماماً

____________________

(١) الصواعق: ٤٣ - ٤٤.

(٢) مسند الإمام أحمد: ٤/٣٧٢.

(٣) مستدرك الحاكم: ٣/١٠٩.

(٤) الخصائص العَلَويّة: ٢١.

١٧٦

على الأُمّة بعده، كان يعلم أنّ تطبيق هذا الأمر رهن توفر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال، مع علمه بأنّ في الملأ من يحسده، وفيهم من يحقد عليه، وفي زمرة المنافقين من يضمر له العداء، فعاد يدعو لمن والاه ونصره، وعلى من عاداه وخذله، ليتمّ أمر الخلافة، وليعلم الناس أنّ موالاته موالاة الله، وأنّ عداءه عداؤه.

والحاصل: إنّ هذا الدعاء لا يناسب إلاّ من نصب زعيماً للإمامة والخلافة.

٣ - إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) صدّر كلامه بأخذ الشهادة من الحضّار بأن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، ثُمَّ قال: «إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم»، فقال: «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه».

٤ - إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ذَكَر قبل بيان الولاية قوله: «كأنّي دعيت فأجبت» ، أو أما ما قرب من ذلك، وهو يُعرب أنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يبق من عمره إلاّ قليل، يحاذر أن يدركه الأجل، فأراد سدَّ الفراغ الحاصل بموته ورحلته بتنصيب عليّ إماماً وقائداً من بعده.

هذه القرائن وغيرها، الموجودة في كلامه، تُوجب اليقين بأنّ الهدف من هذا النبأ في ذلك المحتشد العظيم؛ ليس إلاّ إكمال الدين وإتمام النعمة، من خلال ما أعلن عنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّ عليّاً قائد وإمام الأُمّة.

شبهتان واهيتان:

ثمّة لفيف من الناس؛ ممّن يعاند الحقيقة ولا يرضى بقبولها، أبدى شبهتين ضعيفتين، نذكرهما على وجه الإجمال:

١٧٧

الشبهة الأُولى:

إنّ المولى يُراد به معان مختلفة، فمنها المحبّ والناصر، فمِن أين عُلم أنّ المراد بها المتولِّي، والمالك للأمر، والأولى بالتصرّف؟

يُلاحظ عليه: أنّ لفظ المولى ليس له إلاّ معنى واحد وهو الأولى. قال سبحانه: ( فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (١) .

وقد فسّره غير واحد من المفسّرين؛ بأنّ المراد أنّ النار أولى بكم، غير أنّ الّذي يجب التركيز عليه؛ هو أنّ الأولى هو المعنى الوحيد للمولى، وأنّ كلّ ما ذكر من المعاني المختلفة له إنّما هي من موارد استعماله ومتعلّقاته.

الشبهة الثانية:

المراد أنّه أولى بالإمامة مآلاً، وإلاّ كان هو الإمام مع وجود النبيّ، ولا تَعَرُّض فيه لوقت المآل، فكان المراد حين يوجد عقد البيعة له، فلا ينافي حينئذ تقديم الأئمّة الثلاثة عليه. (٢)

وهذه الشبهة من الوهن بمكان، وذلك لأنّه لا يجتمع مع حكمة المتكلّم وبلاغته، ولا مع شيء من أفعاله العظيمة وأقواله الجسيمة، وهو يستلزم أن لا تعمّ ولايته جميع الناس والحضّار، فيخرج عن ولايته الخلفاء الثلاثة، مع أنّ الشيخين

____________________

(١) الحديد: ١٥.

(٢) الصواعق المحرقة: ٤٤.

١٧٨

حينما سمعا قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قالا له: بخٍ بخٍ لك يا عليّ، أمسيت مولاي ومولى كلَّ مؤمن ومؤمنة. (١)

مرجعية أهل البيت الفكريّة بعد الرّسول:

دلّت الأحاديث السابقة على أنّ الزعامة السياسية والخلافة بعد الرسول تتمثّل في عليّ وعترته، وهناك أحاديث متوفرّة تسوقنا إلى مرجعيّتهم الفكريّة، منها:

٤ - حديث الثقلين:

إنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أيقظ الغافلين، وبيّن مرجع الأُمّة بعد رحلته بهتافه المدوّي، وقال: «يا أيّها الناس، إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي». (٢)

وأخرجه غير واحد من كبار المحدّثين، منهم: الإمام أحمد في مسنده (٣) ، والحاكم في مستدركه. (٤)

٥ - حديث السفينة:

إنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يشبّه أهل بيته بسفينة نوح، ويقول: «ألا إنّ مثَل أهل بيتي

____________________

(١) مسند أحمد: ٤/٢٨١.

(٢) كنز العمّال: ١/٤٤.

(٣) مسند أحمد: ٥/١٨٢.

(٤) المستدرك: ٣/١٤٨.

١٧٩

فيكم مثَل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق». (١)

ومن المعلوم أنّ المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق، لأنّ هذه المنزلة ليست إلاّ لحجج الله ولفيف من أهل بيته.

والمراد من تشبيهّهم (عليهم السّلام) بسفينة نوح: إن من لجأ إليهم في الدّين؛ فأخذ فروعه وأُصوله عن أئمتهم الميامين نجا من عذاب الله، ومن تخلّف عنهم كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله، غير أنّ ذاك غرق في الماء، وهذا غرق في الجحيم.

وفي هذه الأحاديث الخمسة غنى وكفاية لطلاّب الحق.

الأئمة الاثنا عشر في حديث الرسول:

إنّ هناك روايات تحدّد وتعيّن عدد الأئمّة بعد الرسول وإن لم تذكر أسماءهم، ولكنّها تذكر سماتهم، وهذه هي أحاديث الأئمة الاثني عشر، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد، نذكرها إكمالاً للبحث:

١ - أخرج البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله، يقول: «يكون اثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: «كلّهم من قريش». (٢)

٢ - أخرج مسلم عنه أيضاً، قال: دخلت مع أبي على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فسمعته

____________________

(١) المستدرك: ٣/١٥١.

(٢) صحيح البخاري: ٩/١٠١، كتاب الأحكام، الباب ٥١.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377