المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية15%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 210647 / تحميل: 9270
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

لندن إلى ملبورن باستراليا تتم في بضع ثوان، فاذا كان تعقيد نظام أسلاك التليفون يوقعنا في هذه الحيرة، فما بالنا بنظامنا العصبي، وهو أوسع من هذا النظام وأشد تعقيدا؟! ان ملايين الأخبار تجري على أسلاك نظامنا العصبي - الذي أوجدته الطبيعة - من جانب إلى آخر، ليل نهار. وهذه الأخبار هي التي توجه القلب في تدفقها، وفي حركتها، وتتحكم في حركات الأعضاء المختلفة، وتتحكم في الحركات الرئوية. ولو لم يكن هذا النظام موجودا في أجسامنا لصارت الأجسام تلفيقا لاشياء مبعثرة تسلك كل منها مسلكها الخاص.ومركز هذا النظام للمواصلات مخ الانسان، وفي هذا المخ يوجد ألف مليون خلية عصبية، ومع كل هذه الخلايا تخرج أسلاك تنتشر في سائر الجسم، وتسمى هذه الأسلاك «الأنسجة العصبية»، وفي هذه الأنسجة يجري نظام استقبال وارسال للأخبار، بسرعة سبعين ميلا في الساعة. وبوساطة هذه الأنسجة نتذوق، ونسمع، ونرى، ونباشر سائر أعمالنا؛ بل ان هنالك ثلاثة آلاف من الشعيرات المتذوقة وتسمى Taste Buds ولكل منها سلك عصبي خاص متصل بالمخ. وبوساطة هذه الشعيرات يحس بالمذاقات المختلفة. وتوجد في الأذن عشرة آلاف خلية سمعية. ومن خلال نظام معقد، يسري من هذه الخلايا، يسمع مخنا. وفي كل عين مائة وثلاثون مليونا من الخلايا الملتقطة للضوء Light Roceptors ، وتقوم بمهمة ارسال المجموعة التصويرية إلى المخ، وهناك شبكة من الأنسجة الحسية على امتداد جلدنا، فاذا قربنا إلى الجلد شيئا حارا، فان ثلاثين ألفا من الخلايا الملتقطة للحرارة تحس بهذه العملية وترسلها فورا إلى المخ. واذا قربنا إلى الجلد شيئا باردا، فان ربع مليون من الخلايا، التي تلتقط الأشياء الباردة، تحس به، وعندئذ يمتلىء المخ باثرها، ويرتعد الجسم، وتتسع الشرايين الجلدين، فيسرع مزيد من الدم اليها ويزودها بالحرارة، ويرتعد الجسم، ويزودها بالحرارة. واذا أحست هذه الخلايا بحرارة شديدة، فان مخابرات الحرارة توصلها إلى الدماغ، وحينئذ تفرز ثلاثة ملايين من الغدد العرقية - تلقائيا - عرقا باردا الى خارج الجسم. والنظام العصبي يشتمل على عدة فروع. منها (الفرع المتحرك ذاتي) Autonomic Branch ويقوم بأعمال تحدث ذاتيا في الجسم، كعملية الهضم والتنفس وحركات القلب. ويندرج تحت هذا الفرع نظامان: أحدهما (النظام الخالق للحركة) Sympathetic System والآخر: هو المانع لها Payasympathetic وهذا الأخير يقوم بعملية المقاومة والدفاع. ولو ترك الأمر للنظام الاول لازدادت حركة القلب زيادة يترتب عليها موت صاحبه، ولو سيطر النظام الثاني لتوقفت حركة القلب توقفا تاما. وأقسام هذين النظامين تباشر أعمالها في دقة فائقة، وفي توازن عام، ولكن هنالك حالات يزداد فيها نشاط أحد النظامين، فالنظام الأول يتغلب عند الضغط واحتياج القلب إلى قوة مسعفة، وعندئذ تزيد سرعة عمليات القلب والرئة، والنظام الثاني يتغلب عند النوم. فيسود السكون جميع الحركات الجسمية.

٦١

تقليد الطبيعة

ان أحسن الآلات من صناعة الانسان لايمكن أن تقف أمام النظام العجيب الذي يوجد في الكون. ولهذا فان تقليد نظام الطبيعة قد أصبح اليوم مصنوعا خاصا في العلم، يولي أهمية خاصة للسير بالآلات الميكانيكية وفق ذلك النظام. وأصبحنا نرى علما جديدا يسمى (بيونيكس) Bionics لهذه الدراسة. وكانت مقتصرة من قبل على اكتشاف القوى الكامنة في الطبيعة واستغلالها.

واليوم يسلك النظام البيولوجي سبلا كثيرة للحصول على معلومات تساعد على حل مسائل الهندسة. ومن أمثلة استغلال نظام الطبيعة في الصناعة آلة التصوير، وهي في الواقع تقليد ميكانيكي لعين الانسان، فعدسة الكاميرا Lens هي كالشبكة الخارجية للعين، والحجاب الحاجز Diaphragm هو قزحية العين Tyis والفيلم الذي يتأثر بالضوء. انما هو شاشة العين التي توجد فيها خطوط وأشكال مخروطية ترى الأشياء معكوسة(١) . لقد ابتكرت جامعة موسكو آلة نموذجية لالتقاط وقياس (الذبذبات تحت الصوتية) Infra - Sonic Vibrations وهذه الآلة تستقبل وتلتقط أخبار الفيضانات والزلازل وما أشبهها من الكوارث قبل حدوثها بمدة تتراوح بين اثنتي عشرة ساعة، وخمس عشرة ساعة. وهي أقوى من الآلات المستعملة خمس مرات. فمن أين جاء هذا التفكير إلى العلماء؟ لقد استنبطوه من سمكة قنديل البحر، التي تسمى (هلامي) Jelly Fish فقلد المهندسون أعضاءها، وهي شديدة الحساسية، حتى لتحس بالذبذبات تحت الصوتية(٢) !.

وهناك أمثلة كثيرة جدا غير هذه يمكن عرضها، وهي تؤكد أن علماء الطبيعة والتكنولوجيا يقلدون - في تفكيرهم الحديث - النماذج الحية في الطبيعة.

وقد شغلت بال العلماء مسائل كثيرة من أزمان مضت، على حين حلتها الطبيعة منذ زمن بعيد. وان كانت اجهزة التصوير وتلقي الأخبار «التليبرنتر» لايمكن وجودها بغير عقل انساني، فمن المستحيل ان نتصور ان نظام الكون - الذي هو أكثر تعقيدا من أي نظام - قد قام بنفسه بغير عقل وراءه؛ بل لابد أن له مهندسا منظما - هو الاله، ولايمكن أن يتصور العقل نظاما دون منظم، فليس من اللامعقول أن نعتقد بوجود منظم للكون، بل ان من اللامعقول أن ننكر خالق هذا النظام، فالحقيقة أن العقل الانساني لايملك أساسا عقليا لانكار الاله.

___________________

(١) لن يجرؤ صاحب علم منا أن يدعي أن آلة التصوير جاءت عن نفسها، دون اختراع انساني. ولكن الكثيرين من علمائنا يعتقدون أن «العين» جاءت عن صدفة واتفاق محض!!.

(٢) Soviet Land, Delhi, Dec, ١٩٦٣.

٦٢

ثالثا - روح الكون الغريبة:

ليس الكون كسلة المهملات، وانما هو منطو على روح غريبة. وهذه الروح لايمكن أن تصدر الا عن عقل قام بخلق الكون، ويقوم بتدبيره. وليس من الممكن أن يوجد نظام وروح في عملية مادية عمياء، حدثت اتفاقا؛ فالكون متوازن، ومتناسب إلى حد لايمكن تصوره. لقد قال «شادفاش Chadvalsh : «ان من الممكن أن نسأل أي رجل - مؤمنا بالله كان او منكر له - نسأله ان يثبت كيف يمكن ان يكون هذا التوازن في صالحه، اذا كان الكون قد وجد بمحض الصدفة؟»(١) .

لابد للحياة فوق الأرض من أحوال كثيرة، يستحيل اجتماعها بنسبها الخاصة رياضيا. ولكننا نجد أن هذه الحالات المستحيل اجتماعها رياضيا موجودة على سطح الأرض فعلا. وذلك يحتم علينا أن نؤمن بأن هنالك طاقة عظيمة عاقلة وراء الكون؛ هي المتسببة في وجود هذه الحالات.

التوازن المدهش في الأرض

الأرض أهم عالم عرفناه، اذ توجد فيها أحوال لاتوجد في شيء من هذا الكون الواسع، وهي في ضخامتها (كما تبدو لنا) لاتساوي ذرة من هذا الكون العظيم، ولو ان حجمها كان أقل أو أكثر، مما هي عليه الآن لاستحالت الحياة فوقها، فلو أنها كانت في حجم القمر مثلا؛ بأن كان قطرها ربع قطرها الموجود فعلا. لكانت جاذبيتها سدس جاذبيتها الحالية، ونتيجة لذلك لايمكن أن تمسك الماء والهواء من حولها، كما هي الحال في القمر، الذي لايوجد فيه ماء ولايحوطه غلاف هوائي، لضعف قوة الجاذبية فيه. وانخفاض الجاذبية في الأرض إلى مستوى جاذبية القمر سيترتب عليها اشتداد البرودة ليلا حتى يتجمد كل مافيها، واشتداد الحرارة نهارا حتى يحترق كل ماعليها. وكذلك يترتب على نقص حجم الارض إلى مستوى حجم القمر أنها لن تمسك مقدارا كبيرا من الماء. وكثرة الماء أمر ضروري لاستمرار الاعتدال الموسمي على الأرض، ومن ثم أطلق أحد العلماء على هذه العملية لقب «عجلة التوازن العظيمة) Great Balance Wheel(٢) وكذلك سيرتفع الغلاف الهوائي للأرض في الفضاء ثم يتلاشى. ويتبع ذلك أن تبلغ درجة حرارة الأرض أقصى معدلها، ثم تنخفض إلى ادنى درجاتها، على ما سبق ذكره.

وعلى العكس من ذلك، اذا كان قطر الارض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت جاذبيتها

___________________

(١) The Evidence of God, p. ٨٨.

(٢) The Evidence of God, p. ٨٨.

٦٣

الحالية؛ وحينئذ ينكمش غلافها الجوي - الذي هو على بعد خمسمائة ميل - إلى ما دون ذلك. وسيترتب على هذا أن يزيد تحمل كل بوصة مربعة من خمسة عشر رطلا إلى ثلاثين من الضغط الجوي، وهو ضغط يؤثر أسوأ الأثر في الحياة.

ولو أن الأرض تضاعف حجمها، فصارت مثل حجم الشمس مثلا، لبلغت قوة الجاذبية فيها مثل جاذبيتها الحالية مائة وخمسين مرة، ولاقترب غلافها الهوائي، حتى يصير منها على بعد أربعة أميال فقط، بدلا من خمسمائة ميل، ولارتفع الضغط الجوي إلى معدل طن واحد على كل بوصة مربعة. وذلك يؤدي إلى استحالة نشأة الأجسام الحية. وهو من الناحية النظرية يعني أن يصير وزن الحيوان الذي يزيد رطلا واحدا - تحت الكثافة الهوائية - الحالية - خمسمائة رطل. كما يهبط حجم الانسان حتى يصير في حجم فار كبير، ولاستحال وجود العقل في الانسان، لأنه لابد للعقل الانساني من أنسجة عصبية كثيرة في الجسم، ولايوجد هذا النظام الا اذا كان حجم الجسم بقدر معين.

***

نحن قائمون على الأرض ظاهرا، ولكن الأصح ان نقول: نحن ملقون على رؤوسنا، ولتوضيح ذلك نقول: ان الأرض مثل كرة معلقة يسكنها الانسان، فوضع الناس بعضهم بالنسبة إلى بعض على هذه الكرة، ان سكان أمريكا سيكونون تحت سكان اهالي الهند، وسكان الهند سيكونون تحت أقدام سكان أمريكا.

فأرضنا هذه ليست بثابتة، وانما هي تدور بسرعة مقدارها ألف ميل في الساعة، وذلك يجعل وضعنا فوقها أشبه بحصاة وضعت على محيط عجلة تدور بسرعة، يوشك أن تقذف بها في الفضاء، ولكن الأرض لاتقذفنا؛ بل نحن مستقرون عليها، فكيف تمسكنا وهي تدور بهذه السرعة؟!!.

ان في الأرض جاذبية غير عادية، وهي بهذه الجاذبية تشد كل شيء اليها، فجاذبية الأرض وضغط الهواء المستمر يمسكانا فوقها بنسبة معلومة، وهكذا صرنا مشدودين بهاتين العمليتين إلى كرة الأرض من كل ناحية.

وضغط الهواء الذي يكون على كل بوصة مربعة مايقرب من ١٥ رطلا معناه: أن كل انسان يتحمل ما يقرب من ٤٠ر٢٢٨ رطلا من الضغط الجوي على جسمه، ولكن الانسان لايحس بهذا الوزن، لأن الهواء يضغطه من كل ناحية، كما يحدث عندما نسبح في الماء. ثم ان الهواء - وهو علم على مركب معين من الغازات - ذو فوائد كثيرة، لايمكن حصرها في كتاب.

***

٦٤

لقد توصل نيوتن، من خلال مشاهداته ومطالعاته، إلى أن الأجسام يجر بعضها بعضا، ولكنه لم يستطع تعليل هذا، ولذا سلم بأنه لاتفسير لديه لهذه العملية. وقد ذكر هذه المسألة (وهايت هيد) قائلا:

«لقد كشف نيوتن - حين سلم بهذا - عن حقيقة فلسفية عظيمة؛ هي أن الطبيعة لو كانت بغير روح فلن تفسر نفسها، كما أن الشخص الميت لايستطيع أن يحكي لنا واقعا. ان جميع التفسيرات الطبيعية والمنطقية لم تزد أخيرا على أن تكون اظهارا لهدف، لأن الميت لايمكن أن يكون حامل(١) أهداف».

وسوف أدفع حديث (وهايت هيد) إلى الأمام، قائلا² انه اذا لم يكن هذا الكون تحت سلطان «وجود ذي ادراك» فلماذا توجد فيه هذه الروح المدهشة؟.

***

ان الأرض تتم دورة واحدة حول محورها، في كل أربع وعشرين ساعة. ومعنى ذلك أنها تسير حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، فاذا فرضنا أن هذه السرعة انخفضت إلى مائتي ميل في الساعة، لطالت أوقات ليلنا ونهارنا عشر مرات، بالنسبة إلى ما هي عليه الآن، ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس - بشدة حرارتها - كل شيء فوق الارض، ومابقي بعد ذلك ستقضي عليه البرودة الشديدة في اليل.

وهذه الشمس، التي نعدها اليوم وسيلة حياتنا، تبلغ حرارة سطحها اثني عشر ألف درجة فهرنهيت؛ والمسافة بينها وبين الأرض تبلغ مايقرب من ٠٠٠٠٠٠،٩٣ ميلا.

وهذا البون الهائل دائم، لايتغير أبدا بزيادة أو نقص، وفي ذلك عبرة عظيمة لنا؛ لانه لو نقص، واقتربت الشمس من الأرض. بمقدار النصف، مثلا، من الفاصل الحالي، فسوف يحترق الورق على الفور من حرارتها، ولو بعد هذا الفاصل، فصار ضعف ما هو عليه الآن فان البرودة الشديدة التي تنجم عن هذا البعد، سوف تقضي على الحياة في الأرض، ولو أنه حل محل الشمس سيار آخر غير عادي، يحمل حرارة تزيد على حرارة الشمس عشرة آلاف مرة، فسوف يجعل من الارض تنورا رهيبا.

ثم ان هذه الارض دائرة في الفضاء، وهي تؤدي عملها بزاوية ٥٣٣ درجة، الأمر الذي تنشأ عنه المواسم، ويترتب عليه صلاحية اكثر مناطق الأرض للزراعة والسكنى، فلو لم تكن الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طول السنة، ولسار بخار البحار شمالا

___________________

(١) The Age of Analysis, p. ٨٥.

٦٥

وجنوبا؛ ولما بقى على الأرض غير جبال الثلج، وفيافي الصحراوات؛ وهكذا تنجم مؤثرات كثيرة تجعل الحياة على ظهر الأرض مستحيلة.

***

فلو كان قياس العلماء صحيحا، وهو: أن المادة قد نظمت ذاتها على هذه الهيئة المناسبة المتوازنة، فما أعجب هذا القياس، وما أكثر اثارته للدهشة!!. يقولون: ان الأرض انشقت من الشمس، ومعنى هذا: أن درة حرارتها كانت في مبدأ أمرها، نفس حرارة الشمس، وهي اثنا عشر ألف درجة فهر نهيت، ثم بدأت الارض تبرد؛ اذ لايمكن اتصال الأوكسجين بالهيدروجين الا بعد أن تنخفض الحرارة إلى أربعة آلاف فهرنهيت - وفي هذه المرحلة وجد الماء، وهكذا استمرت عمليات التقلب على سطح الارض ملايين السنين، حتى جاءت الأرض في صورتها الحالية، منذ أكثر من بليون سنة مضت، وذهبت الغازات من فضاء الارض إلى فضاء الكون، وتحولت بقايا الغازات بعد ذلك إلى المركب المائي، أو انجذبت إلى الاشياء الأرضية، أو بقيت في صورة الهواء؛ وأكثرها في صورة الأوكسجين او النتروجين. وهذا الهواء، في كثافته، يعد جزءا واحدا من ٠٠٠٠٠٠،٢ من أجزاء الأرض. ولم تنجذب كل الغازات إلى الأرض، كما انها كلها لم تتحول إلى (هواء). ولو انه حدث، لاستحالت حياة الانسان، فلو أننا فرضنا المستحيل، ووجدت الحياة في ظروف كهذه - تتحمل فيها البوصة المربعة آلاف في الارطال من الضغط الجوي - لكان من المستحيل أن توجد الحياة في صورة الانسان الحالية.

ولو كانت قشرة الأرض اكثر سمكا، بمقدار عشرة اقدام من سمكها الحالي، لما وجد الأوكسيجين،(١) وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية.

وكذلك لو كانت البحار اعمق بضعة أقدام، أكثر من القاع الحالي، لانجذب (ثاني أكسيد الكربون)، والأوكسجين(٢) ، ولاستحال وجود النباتات على الأرض؛ فضلا عن الحياة.

ولو كان الغلاف الهوائي للارض ألطف مما هو عليه الآن، لاخترقت النيازك كل يوم غلاف الارض الخارجي، ولرايناها مضيئة في الليل، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها، فهذه النيازك تواصل رحلتها بسرعة أربعين ميلا في الثانية، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة، فانها ستحرق كل شيء يمكن احتراقه على الأرض، حتى تصبح الأرض غربالا في وقت ليس ببعيد.

___________________

(١) اذ أن القشرة الأرضية ستمتص حينئذ الأوكسجين.

(٢) حتى يمتصهما الماء.

٦٦

فلو لا ان غلاف الارض الهوائي يقينا من هذه الشهب لاحترقنا. فان سرعتها اكثر من سرعة طلقة البندقية تسعين مرة كما ان حرارتها الشديدة كافية لاهلاك كل شيء، بما فيه الانسان. فنحن أذن في حماية هذا الغلاف الكثيف الموزون، الذي لا تخترقه «الاشعة الشمسية ذات الاهمية الكيماوية) Actinic Rays الا بالقدر الذي يكفي لحياة النبات، وايجاد الفيتامينات، والقضاء على الجراثيم الضارة، وما إلى ذلك. ان هذاالتوازن للكميات، المحتاج اليها، عجيب جدا.، فالغلاف الذي فوق الارض مكون من ستة غازات، منها ٧٨في المائة من النتروجين، و٢١في المائة من الاوكسيجين، والغازات الاخرى توجد بنسب قليلة، هذا الغلاف يضغط الارض بنسبة١٥رطلا في البوصة المربعة، ونسبة الاوكسيجين في هذا الضغط ٣ارطال في البوصة المربعة، والمقادير الاخرى للاوكسيجين الموجود اليوم قد انجذبت إلى الارض، وهي تمثل ٨و٠من الماء الموجود على سطح الارض، والاوكسيجين هو الوسيلة الوحيدة لتنفس سائر حيوانات الارض، ولا طريق إلى ذلك من غير الفضاء.

قانون الضغط والتوازن

وهنا يظهر سؤال هام، وهو. كيف تجمعت هذه الغازات الشديدة الحركة، مع احتفاظها بمقاديرها المتناسبة، التي لابد منه للحياة، في الفضاء؟ والجواب: انه لوكانت نسبة الأوكسيجين ٥٠%،اواكثر، بدلا من ٢١%، لزادت قابلية الاحتراق، بما يساوي ارتفاع هذه النسبة. فاذا احترقت شجرة واحدة في غابة، حينما تكون نسبة الاوكسجين ٢١%فان الانفجار الخاطف، الناجم عن ارتفاع هذه النسبة إلى ٥٠%يجعل احتراق الغابة كلها امرا حتميا في لحظات!

ولو ان هذه النسبة انخفضت فاصبحت١٠% لكان من الممكن، على مدى الكون ان تعتاد الحيوانات الحياة مع انخفاض نسبة الاوكسيجين إلى هذا الحد ولكنه يكون من المستحيل ان تزدهر الحضارة الانسانية، كما هي عليه في الظروف الحاليه(١) .

ولو ان الاوكسيجين الموجود على سطح الارض انجذب مع الاوكسيجين الذي انجذب قبل ذلك في الارض، لكان من المستحيل (الوجود الحيواني الحسي).

ان الاوكسيجين والهيدروجين وثاني اوكسيد الكربون، وغازات الكاربون الاخرى، على اختلاف اشكالها، تتركب معا فتصبح عناصر عظيمة الأهمية للحياة الحيوانية، وللاسس

___________________

(١) اذ ان اعضاء الجسم الانساني على فرض وجودها في هذه الحالة لن تتمكن في تلك الظروف من مواصلة عملها كعادتها اليوم في الظروف المتاحة فعلا، وذلك لاستحالة وجود الانسجة والخلايا البدنية والعقلية الدقيقة في ظل تلك الظروف، لانه كلما قل الاوكسجين قل النشاط الجسماني والعقلي.

٦٧

التي تقوم عليها الحياة الانسانية، وبناء عليه لا يوجد احتمال ٠٠٠٠٠٠،١٠١ ان تجتمع، هذه الغازات في تناسبها المطلوب، وبجميع خصائصها اللازمة للحياة، علىكوكب معين، بطريق الصدفة.

ولذلك يقول احد كبار علماء الطبيعة:

« Science has no ecplanation to offer for the facts, and to say it is ‘accidental’ is to defy mathematics »

«ان العلم لا يملك أي تفسير للحقائق والقول بانه حدثت «اتفاقا» انما يعتبر تحديا وتصادما مع الرياضيات». ان هناك وقائع كثيرة جدا، لا طريق لنا إلى فهمها او تفسيرها، الا اذا سلمنا بان للعقل يدا عليا في احداثها.

فمن الخصائص المهمة التي توجد في الماء: ان كثافة الثلج Density تقل بنسبة كبيرة عن كثافة الماء، فألماء أذن مادة معلومة، تقل كثافتها بعد التجمد ولهذا الامر قيمة عظيمة بالنسبة إلى الحياة، اذ يترتب على هذه الخاصة ان الثلج يطفو على سطح الماء، ولا ينزل إلى قاع البحار والانهار، ولولا ذلك، لكان الماء كله قد تجمد في البحار، والانهار، والخزانات المائية، ان الثلج يقوم بدور الحاجب للماء الذي تحته، كيما تبقى حرارته دون درجة التجمد، فتبقى الاسماك والحيوانات المائية على قيد الحياة.، فاذا ما جاء موسم الربيع ذاب الثلج، ولولا خاصة الثلج هذه لعانى سكان الاقطار الباردة الكثير من المتاعب والمصائب، الناجمة عن عدم ذوبان الثلج.

***

لقد اصاب مرض الاندوثيا Endothia في اوائل القرن العشرين اشجار (شاه بلوط) الثمينة في غابات امريكا، وانتشر بسرعة فائقة فقال بعض من راى تلك المواضع الخربةالكبيرة في «مظلة الغابات»: انها لن تمتليء ابدا!!

ولم يكن أي نوع من الاشجارـ حتى ذلك الحين قد انتزع هذا الامتياز الذي كان خاصا بهذا النوع من اشجارالبلوط، ذات الاخشاب الثمينة الغالية حتى كان يلقب:. «ملك اشجار الغابات الامريكية »قبل وصول وباء الأندوثيا من آسيا سنة ١٩٠٠م تقريبا.

اما الآن، فلا توجد هناك اية اثار لشاه بلوط، ذلك الشجر العظيم، في الغابات الامريكية. ولكن سرعان ما امتلات تلك المواضع في غابات امريكا بنوع آخر من الاشجار، يسمى: «التيوليب»، كانت لا تحتل من الغابات الا حيزا صغيرا، ولم تكن مزدهرة.

٦٨

لقد انتهزت اشجار «التيوليب»هذه الفرصة، فازدهرت وحلت محل شاه بلوط. اليوم لا يتذكر أي تاجر اخشاب امريكي وجود اشجار شاه بلوط، فقد حلت محلها اشجار «التيوليب»، التي تتضخم كل سنة بنسبة بوصة واحدة في الجذع. وترتفع ست بوصات في الفروع والاغصان، كما تعطي خشبا ممتازا يستعمل في جميع الصناعات الدقيقة.

***

ومن الاحداث العلمية الهامة التي وقعت في هذا القرن ما حدث في استراليا. لقد زرعوا نوعا خاصا من «الصبار» في مزارعها لكي يحميها.ولم يكن في استراليا أي نوع من الدودة يعادي ويأكل هذا النبات ذا الشوك، فاخذ ينتشر انتشارا رهيبا ومروعا، حتى استولى على منطقة توازي مساحة جزر بريطانيا كلها، لقد هاجم الصبار القرى والمدن، وخرب المزارع والحقول، حتى استحالت الزراعة، ولم يتمكنوا من استئصاله باية طريقة لقد اصبح جيشا جبارا، يزحف لكي يسيطر على استراليا كلها، وهي لا تجد ما تقاوم به، واستمرت هذه الحال، حتى خرج علماء الحشرات، يبحثون عن دودة تأكل الصبار. فاكتشفوا دودة لا تعيش الا عليه، ولا غذاء لها سواه، وقد كان نسلها يزيد بسرعة، ولا عدولها في حشرات استراليا، وسرعان ما تغلبت هذه الدودة الصغيرة على جيش الصبار العظيم، وانتهت مصائب استراليا!!

ايمكن ان يكون هذا القانون«قانون الضبط والتوازن Checks and Balances قد حدث دون تخطيط واع، هكذا صدفة واتفاقا؟!

السنن الرياضية المحكمة

وفي الكون سنن رياضية محكمة، بصورة تدعو إلى الدهشة والاكبار، وحتى المادة الجامدة، التي لا تملك شعورا لا يمكن ان تجري على غير نظام، وانما هي تتبع قوانين صارمة معلومة، ولفظ الماء، اينما كان الماء على هذه الارض الواسعة، لن يكون معناه سوى مادة سائلة تحتوي على١،١١%من الهيدروجين، و٩،٨٨% من الاوكسيجين. ولذلك يستطيع أي عالم يجري عملية تسخين الماء في معمله ان يقول بكل قطعية: ان درجة حرارة غليان الماء هي (١٠٠) سنتي جراد، دون ان يرى مقياس الحرارة، ما دام ضغط الهواء ٧٦٠م.م. فاذا كان ضغط الهواء اقل، فسوف نحتاج طاقة اقل لتوفير الحرارة التي تدفع جزئيات الماء. وتعطيها صورة البخار، وحينئذ سوف تنخفض درجة غليان الماء، وعلى العكس، لو كان ضغط الهواء اكثر من ٧٦٠م.م. فستزداد درجة غليان، بمقدار زيادة ضغط الهواء. لقد جربوا هذه العملية مرارا، إلى ان تمكنوا من البت في امر الغليان، حتى قبل تسخين الماء، والتنبؤ بدرجة غليانه دون استعمال المقياس. ولو لم يكن هذا النظام والضبط

٦٩

في المادة وعمليات الطاقة، لما وجد الانسان اسسا يقيم عليها كشوفه ومنجزاته العلمية. ولولا النظام والضبط لحكمت عالمنا الاتفاقات والصدف المحضة!ولكان من المستحيل على علماء الطبيعة ان يقولوا. انه بمباشرة عمل ما في حالة معينة تحصل نتيجة كذا.

نظام العناصر والدورية

ان أول شيء يشاهده الطالب في معمل الكيمياء هو نظام العناصر ودوريتها، وقد وضع العالم الروسي «ماندليف» خريطة للعناصر الكيماوية، بمقاديرها الجوهرية، وسميت بـ«الخريطة الدورية) Periodic Chart ، وفي ذلك الوقت لم تكن كل العناصر قد تم كشفها، حتى تملأ كل الخانات الموجودة في الخريطة، فتركها «ماندليف» خالية؛ إلى أن ملأها العلماء فيما بعد، كما تخيلها العالم الروسي من قبل كشفها بسنين طويلة، وهذه الخريطة تحوي جميع العناصر الجوهرية بأرقام وقوائم مختلفة. ومعنى الأرقام الجوهرية هو العدد الخاص الذي يوجد في مركز الذرة، من الشحنات الكهربية الايجابية «البروتون»، وهذا العدد هو الفارق بين ذرة عنصر وذرة عنصر آخر؛ فالهيدروجين، الذي نعتبره أبسط عنصر يوجد في مركز ذرته شحنة واحدة من الكهربية الايجابية، وكذلك توجد في العنصر المسمى «هيليم» شحنتان، وفي «ليثيم» ثلاث شحنات. وما كان لنا ان نتمكن من وضع خرائط العناصر المختلفة الا بناء على قوانينها الرياضية العجيبة. وهل هناك مثال للضبط أفضل من أننا عثرنا على العنصر رقم (١٠١) بمجرد معرفة شحناته الكهربية الخمسة عشر؟!!.

ليس من الممكن أن يطلق العلماء على هذا النظام الرائع في الطبيعة عبارة: (الصدفة الدورية) Periodic Chance ، وانما هو (القانون الدوري) Periodic Law وليس من الممكن أو نتنكر لماتطلبه هذه الضوابط والنظم من وجود اله ومهندس. فان عدم ايمان العلم الحديث بالاله انكار في الواقع لكشوفه كنتيجة حتمية!.

«سوف يحدث كسوف للشمس يوم ١١ أغسطس سنة ١٩٩٩م، ويمكن رؤيته كاملا في كورنفال(١) »، ليس هذا مجرد تنبؤ قياسي، ولكن علماء الفلك يؤمنون بأنه لابد من هذا الكسوف، بناء على نظام دوران الشمس الموجود حاليا.

ولكم نتحير عندما نرفع أعيننا إلى السماء، ونشاهد الكواكب والنجوم التي لاحصر لها؛ ان هذ الكرات السماوية، التي لاتزال معلقة في الفضاء، منذ قرون لانعرف عدتها، نور في الفضاء الفسيح السحيق على نظام معين معلوم بحيث يمكننا معرفة جميع الوقائع

___________________

(١) بلدة في جنوب غربي انجلترا - المراجع.

٧٠

المستقبلة قبل وقوعها بقرون. انه نظام لامثيل له، من الذرة إلى قطرة الماء، إلى الكواكب السحيقة في أجواء الفضاء. نظام تستنبط على أساسه قوانين علمية!.

ان نظرية «نيوتن» تفسر دوران الكرات الفلكية، وبناء على هذه النظرية استطاع العالمان: آدمز ولافرييز أن يتنبآ بوجود كوكب، لم يكن معروفا وجوده في وقتهما، وبناء على قولهما وجه مرصد برلين في ليلة من ليالي سبتمبر سنة ١٨٤٦ تلسكوبا إلى الجهة التي أشارا اليها، وسرعان ما وجد رجال المرصد الكوكب الذي نسميه اليوم (السيار نبتون)، في أسرة الشمس!!.

***

خصائص حكمية

ان أبعد الأمور عن القياس، وأعظمها استحالة، هو أن نؤمن بأن الكون وقطعيته. الرياضية، قد جاءا نتيجة «صدفة»!.

فمن الخصائص الحكيمة في هذا الكون كونه صالحا لتصرفات الانسان عند الضرورة، ولنأخذ النتروجين على سبيل المثال. فان ٧٨% من النتروجين توجد في كل هبة من الرياح، وكذلك توجد في أجزاء كيماوية أخرى، ونسميها حينئذ «النتروجين المركب»، وهذه كلها يستغلها النبات لكي يهىء لنا الجزء النتروجيني في غذائنا؛ فلولا هذه العملية، لهلك الحيوان والانسان، وكل ما يعتمد على النبات في أكله جوعا وفاقة؛ فان أي نبات غذائي لاينمو بدون هذا التحليل الكيماوي.

ان هناك طريقتين لاثالثة لهما، لتحليل النتروجين في الأرض، والطريقة الأولى: هي «العملية الجرثومية»، وتقوم بأدائها الجراثيم التي تعيش في جذور الشجرة تحت الأرض، وهذه الجراثيم تأخذ النتروجين من الهواء، وتصنع من «النتروجين المركب»، ويبقى هذا النتروجين تحت الأرض، بعد الحصاد، مع الجذور. وأما العملية الثانية التي تصنع النتروجين المركب فهي (الرعد). فكلما احتك الرعد في الفضاء، مزج شيئا من الأوكسجين في النتروجين، ويصل هذا النتروجين المركب إلى الحقول عن طريق الأمطار التي تلي العملية، والكمية التي تحصلها الحقول من هذا المركب بسهولة، كل سنة، هي ما يقرب من خمسة أرطال لكل «ايكر»(١) من الأرض، وهي تساوي ثلاثمائة رطل من نترات الصوديوم(٢) .

___________________

(١) مقياس انجليزي لسلطح الأرض، وهو أقل من (فدان) المراجع.

(٢) The Nature and properties of Soils. Lyon, Buckman and Brady ,

٧١

ولكن هذه الكمية من النتروجين المركب لا تكفي، لأن الحقول التي تزرع لمدة طويلة، ينفذ مافيها منه. ولذلك نرى الزراع يحولون المواسم الزراعية من حقل لآخر، بعد وقت معلوم. وأعجب ما حدث في هذا القرن - عندما ضاقت الأرض بما رحبت على سكانها، وقل النتروجين لكثرة الزراعة، وخافت الانسانية من القحط والفاقة - اكتشافنا في هذه المرحلة الخطيرة «طريقا ثالثة» لاستمداد النتروجين من الهواء، وكانت الجهود الأولى، التي بذلت في هذا الصدد، أنهم جربوا عملية خلق رعد صنعي في الفضاء باستعمال آلات قوتها ٠٠٠٠٠٠،٣ حصان؛ غير أنهم لم ينجحوا الا في صناعة كمية ضئيلة من النتروجين المركب. وتقدم الانسان بهذه التجارب، حتى كشف الطريق الثالثة² وهي استخدام الهواء في صناعة النتروجين المركب، في صورة (السماد). وهكذا استطاع أن يهيىء لغذائه جزءه الضروري، الذي لولاه لهلك جوعا. وهذا حدث عجيب في تاريخ الارض؛ فان الانسان كشف للمرة الأولى في تاريخه حلا لأزمة الغذاء، وابتعدت أشباح الكارثة عن سكان الأرض، حين كان من المستحيل أن يتجنبوها!!.

***

ان هناك أمورا كثيرة تؤكد وجود الحكمة والروح في الكون، وكل مالدينا من علم يؤكد لنا أن ما قد كشف أقل بكثير مما لم نستطع حتى الآن الكشف عنه! وبرغم ذلك فان ماكشفه الانسان كثير جدا، حتى اننا لو أردنا فهرسة عناوين هذه العلوم، فسنحتاج إلى سفر ضخم جدا، بالنسبة إلى هذا الكتاب الذي بين يدي القارىء، وسوف يبقى بعد ذلك ايضا الكثير منها دون فهرسة.

ان كل ما يمكن للسان الانساني أن يلفظه عن آلاء الله وآياته سوف يكون غاية في النقص، فمهما فصلناها وأسهبنا في تفسيرها، فسنخرج آخر الأمر مقتنعين بأننا لم نحط بها، وانما تناولنا منها «بعض الشيء».

والحق انه لو قدر أن تنكشف للانسان جميع العلوم الكونية، ثم يجلس سكان المعمورة، وقد هيئت لكل فرد منهم جميع الوسائل، في أكمل صورها، فان هؤلاء جميعا لن يستطيعوا تدوينها ابدا. أليس هذا هو مصداق قوله تعالى:

( وَ لَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ کَلِمَاتُ اللَّهِ ) : وقوله تعالى:( قُلْ لَوْ کَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِکَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) (١) !!.

___________________

(١) لقمان/٢٧.

(٢) والكهف١٠٩.

٧٢

ان كل ما أتيحت له الفرصة كي يطالع صفحة من هذا الكون، سيعترف مصدقا أنه لامبالغة في هذه الكلمات الالهية، وانما هي تعبير بسيط عن الحقائق الموجودة فعلا.

***

صدفة أم عمليات حكيمة؟

ان معارضي الدين يسلمون بكل ما طرحناه في الصفحات الماضية من الأنظمة العجيبة، والحكمة غير العادية، والروح التي تسري في الكون، ولكنهم يفسرونها بطريقة أخرى؛ انهم عاجزون عن أن يجدوا فيها رمزا أو اشارة لمنظم ومدبر. فاذا بهم يرون أن كل هذا جاء نتيجة «صدفة محضة».

واستمع إلى قول «هكسلي»:

«لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير! فكذلك كان الكون، الموجود الآن، نتيجة لعمليات عمياء، ظلت تدور في «المادة»، لبلايين السنين(١) ».

ان أي كلام من هذا القبيل «لغو مثير»، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان؛ فان جميع علومنا تجهل - إلى يوم الناس هذا - آية صدفةأنتجت واقعا عظيما ذا روح عجيبة، في روعة الكون، فنحن نعرف بعض الصدف، وما ينشأ عنها من آثار، فعندما تهب الرياح تصل «حبوب اللقاح» من وردة حمراء إلى وردة بيضاء، فتأتي بوردة صفراء. هذه صدفة لاتفسر قضيتنا الا تفسيرا جزئيا استثنائيا. فان وجود الوردة في الأرض بهذا التسلسل، ثم ارتباطها المدهش مع نظام الكون، لايمكن تفسيره بهبة رياح صدفة. انها تأتي بوردة صفراء ولكنها لاتأتي بالوردة نفسها! ان الحقيقة الجزئية الاستثنائية التي توجد في مصطلح «قانون الصدفة» باطلة كل البطلان، اذا ما أردنا تفسير الكون بها.

يقول البروفيسور ايدوين كونكلين:

«ان القول بأن الحياة وجدت نتيجة «حادث اتفاقي» شبيه في مغزاه بأن نتوقع اعداد معجم ضخم، نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة(٢) ».

وقد قيل: ان تفسير الكون بوساطة (قانون الصدفة) ليس «بكلام فارغ». بل هو

___________________

(١) The Mysterious Universe, pp. ٣ - ٤.

(٢) The Evidence of God , p. ١٧٤.

٧٣

كما يعتقد السير جيمس جينز ينطبق على «قوانين الصدفة الرياضية المحضة»

Purely Mathematical Laws of Chance(١)

ويقول احد العلماء الاميركيين:

«ان نظرية الصدفة ليست افتراضا، وانما هي نظرية رياضية عليا، وهي تطلق على الأمور التي لاتتوفر في بحثها معلومات قطعية، وهي تضمن قوانين صارمة للتمييز بين الباطل والحق، وللتدقيق في امكان وقوع حادث من نوع معين، وللوصول إلى نتيجة، هي معرفة مدى امكان ووقوع ذلك الحادث عن طريق الصدفة(٢) ».

***

ولو افترضنا أن المادة وجدت بنفسها في الكون، وافترضنا أيضا أن تجمعها وتفاعلها كان من تلقاء نفسها (ولست أجد أساسا لأقيم عليه هذه الافتراضات) ففي تلك الحال أيضا لن نظفر بتفسير الكون، فان «صدفة» أخرى تحول دون طريقنا. فلسوء حظنا: أن الرياضيات التي تعطينا نكتة «الصدفة» الثمينة، هي نفسها التي تنفي أي امكان رياضي في وجود الكون الحالي، بفعل قانون الصدفة.

لقد استطاع العلم الكشف عن عمر الكون وضخامة حجمه، والعمر والحجم اللذان كشف عنهما العلم الحديث غير كافيين في أي حال من الأحوال، لتسويغ ايجاد هذا الكون عن قانون الصدفة الرياضي.

ويمكننا أن نفهم شيئا عن قانون الصدفة من المثال التالي:

«لو تناولت عشرة دراهم، وكتبت عليها الأعداد، من ١ إلى ١٠، ثم رميتها في جيبك، وخلطتها جيدا، ثم حاولت أن تخرجها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي، بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى. فامكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه(٣) في المحاولة الأولى هو واحد على عشرة؛ وامكان أن تتناول الدرهمين(١،٢) بالترتيب، واحد في المائة، وامكان أن تخرج الدراهم(١،٢،٣،٤) بالترتيب هو واحد في العشرة آلاف. حتى ان الامكان في أن تنجح في تناول الدرهم ١ إلى ١٠ بالترتيب واحد في عشرة بلايين من المحاولات!!».

لقد ضرب هذا المثال العالم الأميركي الشهير «كريسي موريسن»، ثم استطرد قائلا:

___________________

(١) Mysrerious Universe, p. ٣.

(٢) The Evidence of God, p. ٢٣.

(٣) Man Doesnot Stand Alone p. ١٧.

٧٤

«ان الهدف من اثارة مسألة بسيطة كهذه، ليس الا أن نوضح كيف تتعقد «الوقائع» بنسبة كبيرة جدا في مقابل «الصدفة»(١) .

ولنتأمل الآن في أمر هذا الكون، فلو كان كل هذا بالصدفة والاتفاق، فكم من الزمان استغرق تكوينه بناء على قانون الصدفة الرياضي؟.

ان الأجسام الحية تتركب من «خلايا حية»، وهذه (الخلية) مركب صغير جدا، ومعقد غاية التعقيد، وهي تدرس تحت علم خاص يسمى (علم الخلاي) Cytology ومن الأجزاء التي تحتوي عليها هذه الخلايا: البروتين، وهو مركب كيماوي من خمسة عناصر، هي: الكربون، والهيدروجين، والنتروجين، والأوكسجين، والكبريت. ويشمل الجزىء البروتيني الواحد أربعين ألفا من ذرات هذه العناصر!!.

وفي الكون أكثر من مائة عنصر كيماوي، كلها منتشرة في أرجائه، فأية نسبة في تركيب هذه العناصر يمكن أن تكون في صالح قانون الصدفة»؟ أيمكن أن تتركب خمسة عناصر - من هذا العدد الكبير - لايجاد «الجزيء البروتيني» بصدفة واتفاق محض؟! اننا نستطيع أن نستخرج من قانون الصدفة الرياضي ذلك القدر الهائل من (المادة) الذي سنحتاجه، لنحدث فيه الحركة اللازمة على الدوام؛ كما نستطيع أن نتصور شيئا عن المادة السحيقة التي سوف تستغرقها هذه العملية.

لقد حاول رياضي سويسري شهير، هو الأستاذ (تشارلز يوجين جواي) أن يستخرج هذه المدة عن طريق الرياضة. فانتهى في أبحاثه إلى أن (الامكان المحض) في وقوع الحادث الاتفاقي - الذي من شأنه أن يؤدي إلى خلق كون،اذا ما توفرت المادة - هو واحد على ١٠/٦٠(أي: ١٠×١٠ مائة وستين مرة). وبعبارة أخرى: نضيف مائة وستين صفرا إلى جانب عشرة!! وهو عدد هائل لايمكن وصفه في اللغة.

ان امكان حدوث الجزيء البروتيني عن (صدفة) يتطلب مادة يزيد مقدارها بليون مرة عن المادة الموجودة الآن في سائر الكون، حتى يمكن تحريكها وضخها، وأما المدة التي يمكن فيها ظهور نتيجة ناجحة لهذه العملية، فهي أكثر من ١٠/٢٤٣ سنة(٢) !.

ان جزيء البروتين يتكون من «سلاسل» طويلة من الأحماض الأمينية Amino - Acids وأخطر مافي هذه العملية هو الطريقة التي تختلط بها هذه السلاسل بعضها مع بعض، فانها لو اجتمعت في صورة غير صحيحة لأصبحت سما قاتلا، بدل أن تصبح موجدة للحياة.

___________________

(١) Man Does not Stand Alone, p. ١٧.

(٢) أي: مائتان وثلاثة وأربعون صفرا أمام عشر سنين - المترجم.

٧٥

لقد توصل البروفيسور ج.ب. ليتز G. B. Leathes إلى أنه يمكن تجميع هذه السلاسل فيما يقرب من ١٠/٤٨ صورة وطريقة. وهو يقول: انه من المستحيل تماما أن تجتمع هذه السلاسل - بمحض الصدفة - في صورة مخصوصة من هذه الصور التي لاحصر لها، حتى يوجد الجزيء البروتيني الذي يحتوي أربعين ألفا من أجزاء العناصر الخمسة التي سبق ذكرها.

ولابد أن يكون واضحا للقارىء أن القول بالامكان في قانون الصدفة الرياضي لايعني أنه لابد من وقوع الحادث الذي ننتظره، بعد تمام العمليات السابق ذكرها، في تلك المدة السحيقة؛ وانما معناه أن حدوثه في أثناء تلك المدة محتمل، لا بالضرورة، فمن المكن على الجانب الآخر من المسألة ألا يحدث شيء مابعد تسلسل العملية إلى الأبد!.

***

هذا الجزيء البورتيني ذو وجود «كيماوي»، لايتمتع بالحياة الا عندما يصبح جزءا من الخلية، فهنا تبدأ الحياة، وهذا الواقع يطرح أهم سؤال في بحثنا: من أين تأتي الحرارة، عندما يندمج الجزيء بالخلية؟. ولاجواب عن هذا السؤال في أسفار المعارضين الملحدين.

ان من الواضح الجلي أن التفسير الذي يزعمه هؤلاء المعارضون، متسترين وراء قانون الصدفة الرياضي، لاينطبق على الخلية نفسها، وانما على جزء صغير منها، هو الجزيء البروتيني وهو ذرة لايمكن مشاهدتها بأقوى منظار بينما نعيش، وفي جسد كل فرد منا، مايربو على أكثر من مئات البلايين من هذه الخلايا!!. لقد أعد العالم الفرنسي (الكونت دي نواى) Cotme de Nouy بحثا وافيا حول هذا الوضوع، وخلاصة البحث: أن مقادير (الوقت، وكمية المادة، والفضاء اللانهائي) التي يتطلبها حدوث مثل هذا الامكان هي أكثر بكثير من المادة والفضاء الموجودين الآن، وأكثر من الوقت الذي استغرقه نمو الحياة على ظهر الأرض، وهو يرى: أن حجم هذه المقادير التي سنحتاج اليه في عمليتنا لايمكن تخيله أو تخطيطه في حدود العقل الذي يتمتع به الانسان المعاصر، فلأجل وقوع حادث - على وجه الصدفة - من النوع الذي ندعيه، سوف نحتاج كونا يسير الضوء في دائرته ١٠/٨٢ سنة ضوئية (أي: ٨٢ صفرا إلى جانب عشرة سنين ضوئية!!) وهذا الحجم أكبر بكثير جدا من حجم الضوء الموجود فعلا في كوننا الحالي؛ فان ضوء أبعد مجموعة للنجوم في الكون يصل الينا في بضعة (ملايين) من السنين الضوئية فقط. وبناءا على هذا، فان فكرة أينشتين عن اتساع هذا الكون لاتكفي أبدا لهذه العملية المفترضة. أما فيما يتعلق بهذه العملية المفترضة نفسها، فاننا سوف نحرك المادة المفترضة في الكون المفترض، بسرعة خسمائة (تريليون) حركة، في الثانية الواحدة، لمدة ١٠/٢٤٣ بليون سنة

٧٦

(٢٤٣ صفرا أمام عشرة بلايين)، حتى يتسنى لنا حدوث امكان في ايجاد جزيء بروتيني يمنح الحياة.

ويقول «دي نواي» في هذا الصدد: لابد ألا ننسى أن الأرض لم توجد الا منذ بليونين من السنين، وأن الحياة - في أي صورة من الصور - لم توجد الا قبل بليون سنة، عندما بردت الأرض(١) ».

هذا، وقد حاول العلماء معرفة عمر الكون نفسه، وأثبتت الدراسة في هذا الموضوع أن كوننا موجود منذ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠،٥ سنة. وهي مدة قصيرة جدا، ولاتكفي على أي حال من الأحوال لخلق امكان، يوجد فيه الجزيء البروتيني، بناء على قانون الصدفة الرياضي.

وأما مايتعلق بأرضنا التي ظهرت عليها الحياة، فقد عرفنا عمرها بصورة قاطعة، فهذه الأرض كما يعتقد العلماء، جزء من الشمس، انفصل عنها نتيجة لصدام عنيف وقع بين الشمس وسيار عملاق آخر، ومنذ ذلك الزمان أخذ هذا الجزء يدور في الفضاء، شعلة من نار رهيبة، ولم يكون من الممكن ظهور الحياة على ظهوره حينئذ لشدة الحرارة، وبعد مرور زمن طويل أخذت الأرض تبرد، ثم تجمدت وتماسكت، حتى ظهر امكان بدء الحياة على سطحها.

ونستطيع معرفة عمر الكون بشتى الطرق، وأحسن طريقة عرفناها لهذه الدراسة، هي التي توصلنا اليها بعد كشف (العناصر المشعة) Radio - Active Elements ، فان الذرات الكهربية تخرج من هذه العناصر بنسبة معلومة بصفة دائمة؛ وهذا (التحلل) Disintegration يقلل الذرات الكهربية في هذه العناصر، لتصبح تلقائيا عناصر غير مشعة عبر الزمان، واليورانيوم أحد هذه العناصر المشعة، وهو يتحول إلى معدن (الرصاص) بنسبة معينة نتيجة لتحلل الذرات الكهربية، وهذه النسبة في الانتشار لاتتغير تحت أي ظرف، من أدنى أو أقصى درجات الحرارة أو الضغط، ولهذا سنكون على صواب لو اعتبرنا أن سرعة تحول اليورانيوم إلى (الرصاص) محددة وثابتة لاتتغير.

ان قطع اليورانيوم توجد في كثير من الهضبات والجبال، ومما لاشك فيه أن هذا اليورانيوم هو جزء من ذلك الجبل، منذ أن تجمد في شكله الأخير، عند تجميد الارض. وعلى جانب هذا اليورانيوم نجد قطعا من الرصاص، ولانستطيع أن ندعي أن كل هذا الرصاص نتج عن تحلل اليورانيوم. والسبب في هذا أن الرصاص الذي يتكون من تحلل اليورانيوم يكون أقل وزنا من الرصاص العادي، وبناء على هذه القاعدة الثابتة يمكننا أن نجزم بما اذا

___________________

(١) Human Destiny, pp. ٣٠ - ٣٦.

٧٧

كانت أية قطعة من الرصاص من اليورانيوم، أو أنها قطعة رصاص عادي، ونحن هنا نستطيع أن نحتسب المدة التي استغرقتها عملية تحلل اليورانيوم بدقة، فهو يوجد في الجبل من أول يوم تجمد فيه، ونستطيع بذلك معرفة مدة تجمد الجبل نفسه!.

لقد أثبتت التجاب ا،ه قد مر الف وأربعمائة مليون سنة على تجمد تلك الجبال، التي تعتبر - علميا - اقدم جبال الأرض، وقد يظن البعض منا أن عمر الأرض يزيد ضعفا أو ضعفين عن عمر هذه الجبال، ولكن التجارب العلمية تنفي بشدة هذه الظنون الشادة، ويذهب البروفيسور (سوليفان) إلى أن «المعدل المعقول» لعمر الأرض هو ألفا مليون سنة(١) !.

***

ولنتأمل الآن، بعدما تبين لنا أن المادة العادية غير ذات الروح، تحتاج إلى بلايين البلايين من السنين، حتى يتسنى مجرد امكان لحدوث (جزيء بروتيني) فيها بالصدفة! فكيف آذن جاءت في هذه المدة القصيرة في شكل مليون من أنواع الحيوانات، وأكثر من ٠٠٠،٢٠٠ ألف نوع من النبات؟ وكيف انتشرت هذه الكمية الهائلة على سطح الأرض، في كل مكان؟ ثم كيف جاء من خلال هذه الأنواع الحيوانية ذلك المخلوق الأعلى الذي نسميه «الانسان»؟ ولاأدري كيف نجرؤ على مثل هذه الاعتقادات، في حين أننا نعرف جيدا أن نظرية النشوء والارتقاء تقوم على أساس «تغييرات صدفية محضة»؟! وأما هذه التغيرات، فقد حسبها الرياضي «باتو) Patau ، وانتهى إلى أن اكتمال «تغير جديد» في جنس ما، قد يستغرق مليونا من الأجيال(٢) :

فلنفكر في أمر (الكلب) الذي يزعمون أنه جد (الحصان) الأعلى، كم من المدة، على قول الرياضي باتو سوف يستغرقها الكلب، حتى يصبح حصانا؟!.

وما أصح ماقاله عالم الأعضاء الاميركي مارلين ب. كريدر:

«ان الأمكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق - عن طريق الصدفة - في نسبها الصحيحة، هو ما يقرب من «لاشيء»(٣) .

لقد أطلت في هذا البحث حتى نتبين مدى سخافة فكرة الخلق بالصدفة، وبطلانها، ولست - في الحق - أشك في أنه يستحيل وجود الجزيء البروتيني والذرة عن الصدفة، كما لايمكن ان يكون عقلك هذا - الذي يتأمل في أسرار الكون وخفاياه - من ثمار الخلق

___________________

(١) JWN Sullivan Limitations of Science, p. ٧٨.

(٢) The Evidence of God , p. ١١٧.

(٣) Ibid, p. ٦٧.

٧٨

الصدفي، مهما بالغنا في افتراضاتنا عن المدة الطويلة التي استغرقتها عملية المادة في الكون. ونظرية الخلق هذه ليست مستحيلة في ضوء قانون الصدفة الرياضي فحسب، وانما هي لاتتمتع بأي وزن منطقي في نفس الوقت.

وأي كلام من هذا القبيل سخيف وملىء بالصلافة. ومثاله كمن يزعم أن سقوط كوب مملوء بالماء أو بالقهوة سوف يرسم خريطة العالم على الأرض!! لامانع من أن أسأل هذا الرجل: من أين جاء بهذا الفرش الأرضي، والجاذبية، والماء، والكوب، حتى يقع هذا الاتفاق الغريب؟!.

***

ولقد ولغ عالم البيولوجيا «هيكل) Haeckel في زعمه حين قال:

ايتوني بالهواء، وبالماء وبالأجزاء الكيماوية، وبالوقت، وسأخلق الانسان». ولكن «هيكل» نسى أو تجاهل في هذه القالة: أنه بتقريره احتياجه إلى المادة والأحوال المادية، ينفي زعمه من تلقاء نفسه!.

يقول الأستاذ «كريسي موريسن»(١) في هذا الصدد:

«ان هيكل يتجاهل في دعواه: الجينات الوراثية، ومسالة الحياة نفسها، فان أول شيء سيحتاج اليه عند خلق الانسان، هو الذرات التي لاسبيل إلى مشاهدتها، ثم سيخلق (الجينات)، أو حملة الاستعدادات الوراثية، بعد ترتيب هذه الذرات، حتى يعطيها ثوب الحياة. ولكن امكان الخلق في هذه المحاولةبعد كل هذا، لايعدو واحدا على عدة بلايين، ولو افترضنا أن «هيكل» نجح في محاولته، فانه لن يسميها «صدفة»، بل سوف يقررها، ويعدها نتيجة لعبقريته»(٢) .

***

ولنختم هذا البحث بقول عالم الطبيعة الأميركي «جورج ايرل ديفيس»:

(لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه، فان معنى ذلك أن يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الاله. وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الاله)، ولكن الهنا هذا سوف يكون عجيبا: الها غيبيا وماديا في آن واحد!! انني أفضل أن أؤمن بذلك الاله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلا من أن أتبنى مثل هذ الخزعبلات(٣) ».

___________________

(١) رئيس أكاديمية العلوم الأميركية بنيويورك (سابقا) - المترجم.

(٢) Man Does not Stand Alone, p. ٨٧.

(٣) The Evidence of God , p. ٧١.

٧٩

الباب الخامس : دليل الآخرة

من أهم الحقائق التي يدعونا الدين إلى الايمان بها: فكرة الآخرة. والمراد بها: أن هناك عالما آخر غير عالمنا الحاضر؛ وسوف نعيش في ذلك العالم خالدين؛ وأن عالمنا هذا هو مكان للاختبار والابتلاء، وجد فيه الانسان لأجل معلوم؛ وأن الله سوف ينهي هذا العالم حين يحين أجله، لبناء العالم الآخر، على طراز جديد وأن الناس سوف يبعثون مرة أخرى؛ وسوف تعرض أعمالهم - خيرا أو شرا - على محكمة الله، الذي يجزي كل انسان بما عمل في الحياة الدنيا.

أهذه النظرية صحيحة؟ أم باطلة؟ وهل هناك امكان لهذه الآخرة؟ سوف نعرض هنا بعض جوانب القضية.

***

أولا: امكان الآخرة

ليكن الجانب الأول من هذا العرض، هو البحث عن «امكان» وقوع الآخرة. فهل هنالك وقائع واشارات تصدق هذه الدعوى؟.

ان فكرة (الآخرة) تقتضي - أول ما تقتضي - ألا يكون الانسان والكون، في شكلهما الحالي أبديين، وقد علمنا في الصفحات الماضية - بما لايدع مجالا للشك - أن ابدية الكون والانسان مستحيلة، وأيقنا، يقينا لايتزعزع، بأن الانسان يموت، وأن الكون سينتهي طبقا لقانون «الطاقة المتاحة». ولست أدري اذا ما كان هنا طريق للنجاة من هذه النهاية المروعة.

***

أ - مسألة الموت:

ان الذين لايؤمنون بالعالم الثاني - الآخرة - يحاولون بدافع الغريزة أن يجعلوا من هذا الكون عالما أبديا لأفراحهم، ولذلك بحثوا كثيرا عن أسباب «الموت»، حتى يتمكنوا من الحيلولة دون وقوع هذه الاسباب، من أجل تخليد الحياة، ولكنهم أخفقوا اخفاقا

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (١)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (٢٥٠ - ٣٦٠هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام ٢٧٧هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى ٣٦٠هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(١) بحوث في الملل والنحل: ٧/٣٧١ - ٣٨٦.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

١ - الوعد والوعيد.

٢ - المنزلة بين المنزلتين.

٣ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

١ - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

٢ - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

٣ - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

١ - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

٢ - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

٣ - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

٤ - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

٥ - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

٦ - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

٧ - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

٨ - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

٩ - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

١٠ - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

١١ - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

١٢ - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

١٣ - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

١٤ - توبة الناكثين صحيحة.

١٥ - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (١)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(١) البحر الزخّار: ٥٢ - ٩٦.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

١٥

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (١١٠ - ١٤٥هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

١ - إسماعيل بن جعفر.

٢ - عبد الله بن جعفر.

٣ - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (١)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(١) إرشاد المفيد: ٢٨٤.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (١)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة ١٤٣هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (٢)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(١) غيبة النعماني: ٣٢٧، الحديث ٨، ولاحظ؛ بحار الأنوار: ٤٨/٢١.

(٢) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: ١٨٠.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام ١٦٩هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (١)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(١) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: ١٤.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة ٥٠٠ هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

١ - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (١١٠ - ١٤٥هـ).

٢ - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (١٣٢ - ١٩٣هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

٣ - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (١٧٩ - ٢١٢هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام ١٩٣هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام ١٩٤هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

٤ - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (١٩٨ - ٢٦٥هـ)، وتولّى الإمامة عام ٢١٢هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

٥ - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (٢١٢ - ٢٨٩هـ) تولّى الإمامة عام ٢٦٥هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

٦ - عبيد الله المهدي (٢٦٠ - ٣٢٢هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

٧ - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (٢٨٠ - ٣٣٤هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

٨ - إسماعيل المنصور بالله (٣٠٣ - ٣٤٦هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة ٣٣٤هـ.

٩ - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (٣١٩ - ٣٦٥هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

١٠ - نزار بن معد العزيز بالله (٣٤٤ - ٣٨٦هـ)، ولي العهد بمصر سنة ٣٦٥هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

١١ - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (٣٧٥ - ٤١١هـ)، بويع بالخلافة سنة ٣٨٦هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة ٤١١هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

١٢ - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (٣٩٥ - ٤٢٧هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

١٣ - معد بن عليّ المستنصر بالله (٤٢٠ - ٤٨٧هـ)، بويع بالخلافة عام ٤٢٧هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

١ - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (٤٦٧ - ٤٩٥هـ).

٢ - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (٤٩٠ - ٥٢٤هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

٣ - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (٤٦٧ - ٥٤٤هـ).

٤ - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (٥٢٧ - ٥٤٩ هـ).

٢٥٨

٥ - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (٥٤٤ - ٥٥٥هـ).

٦ - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (٥٤٦ - ٥٦٧هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد ٢٧٢ سنة، منها بالقاهرة ٢٠٨ سنين.(١)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان ٩٩٩هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(١) انظر الخطط المقريزيّة: ١/٣٥٨ - ٣٥٩.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (١)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(١) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: ١٦٢.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377