المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية15%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 210619 / تحميل: 9269
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

كلّ عالم الوجود ، حيث يقول :( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

وأخيرا يشير إلى مسألة مرجعيّته فيقول تعالى :( وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) .

نعم ، عند ما يكون الخالق والمالك والمدبّر معنا في كلّ مكان ، فمن البديهي أن يكون رجوعنا ورجوع أعمالنا إليه كذلك.

نحن سلكنا طريق عشقه ومحبّته ، وبدأنا المسير حاملين معنا الأمل من نقطة العدم باتّجاهه ، وقد سلكنا شوطا طويلا إلى أن وصلنا إلى مرتبة الوجود نحن من الله سبحانه ، وإليه نرجع ، لما ذا؟ لأنّه هو المبدئ وإليه المنتهى.

والجدير بالذكر أنّ الآيات الثلاث الآنفة الذكر قد جاء فيها مثل هذا الوصف أيضا :( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

ويمكن أن يكون التكرار هنا بلحاظ أنّ الحديث كان ـ فقط ـ عن مسألة حياة وموت الموجودات الحيّة ، وهنا نلاحظ توسّع البحث وشموليّته في رجوع كلّ شيء لله سبحانه.

وفي تلك الآيات مقدّمة عن بيان قدرة اللهعزوجل على كلّ شيء ، وهنا مقدّمة لرجوع كلّ شيء إليه ، وهاتان القضيّتان تستلزمان مالكيّة اللهعزوجل للأرض والسماء.

التعبير بـ «الأمور» جاء ـ هنا ـ بصيغة الجمع ، أي : أنّ جميع الموجودات ـ وليس الإنسان فحسب ـ تتحرّك باتّجاهه حركة دائمة وغير قابلة للتوقّف.

وبناء على هذا فإنّ معنى الآية لا ينحصر ـ فقط ـ برجوع البشر إليه في الآخرة ، بالرغم من أنّ موضوع المعاد من المصاديق البارزة لذلك الرجوع العامّ.

وفي آخر مورد للبحث يشير إلى صفتين أخريين بقوله تعالى :( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ) (١) .

__________________

(١) «يولج» من مادّة (إيلاج) وهي الاخرى مأخوذة من مادّة (ولوج) والولوج بمعنى الدخول والنفوذ ، والإيلاج بمعنى الإدخال والإنفاذ.

٢١

نعم ، بالتدريج ينقص أحد الوقتين (الليل والنهار) ليضيف للآخر ، وتبعا لذلك يتغيّر طول النهار والليل في السنة ، وهذا التغيّر يكون مصحوبا بالفصول الأربعة في السنة مع كلّ البركات التي تكون مختّصة في هذه الفصول لبني الإنسان.

وهناك تفسير آخر لهذه الآية وهو : إنّ شروق وغروب الشمس لن يحدثا فجأة ودون مقدّمات حتّى لا تجلب هذه الحالة المشاكل للإنسان والموجودات الحيّة الاخرى ، بل يتمّ هذا التغيير بصورة تدريجيّة ، وتنتقل الموجودات رويدا رويدا من عالم الضوء في النهار إلى ظلمة الليل ، ومن ظلمة الليل إلى ضوء النهار ، ويعلن كلّ منهما وصولهما قبل مدّة حتّى يتهيّأ الجميع لذلك.

والجمع بين التّفسيرين لمفهوم الآية ممكن أيضا.

ويضيف سبحانه في النهاية :( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

فكما أنّ أشعّة الشمس الباعثة للحياة تنفذ في أعماق ظلمات الليل ، وتضيء كلّ مكان ، فإنّ اللهعزوجل ينفذ كذلك في كلّ زوايا قلب وروح الإنسان ، ويطّلع على كلّ أسراره.

والنقطة الجديرة بالملاحظة في الآيات السابقة أنّ الحديث كان عن علم الله سبحانه بأعمالنا (والله بصير عليم) وهنا الكلام عن علم اللهعزوجل بأفكارنا وعقائدنا وما تكنّه صدورنا ،( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

كلمة (ذات) في الاصطلاح الفلسفي تعني (عين الشيء وحقيقته) إلّا أنّها في اللغة بمعنى (صاحب الشيء) وبناء على هذا فإنّ (ذات الصدور) إشارة إلى النيّات والإعتقادات التي استولت على قلوب البشر.

وكم هو رائع أن يؤمن الإنسان بكلّ هذه الصفات الإلهيّة من أعماق نفسه ، ويحسّ حضوره سبحانه في كلّ أعماله ونيّاته وعقائده ، إحساسا لا يخرجه عن جادّة الطاعة وطريق العبودية ، إحساسا يبعده عن طريق العصيان والسوء والانحراف

* * *

٢٢

تعقيب

آيات الاسم الأعظم :

قسّم الفلاسفة والمتكلّمون الصفات الإلهيّة إلى قسمين :

أحدهما : «صفات الذات» والتي تبيّن أوصاف جلاله وجماله. والاخرى : «صفات الفعل» التي تبيّن الأفعال الصادرة من ذاته المباركة ، كما جاء في الآيات الستّ في بداية هذه السورة المباركة ، والتي يجدر أن تسمّى : بـ (آيات المتعمّقين) تماشيا مع حديث في هذا الصدد.

وقد وردت عشرون صفة من أوصاف الذات الإلهيّة والأفعال بدءا من علمه وقدرته وحكمته وأزليّته وأبديّته سبحانه ، إلى خلقه وتدبيره ومالكيّته وإحاطتهعزوجل بكلّ الموجودات وحضوره في كلّ مكان ، هذه الأوصاف والتعابير تعطينا عمقا أكثر في التوجّه إلى الإيمان والسعي لإضاءة مشعل وجودنا وأفكارنا المحدودة ليكون عونا أفضل في إمدادنا بما يجعلنا في المسير التكاملي نحو الله سبحانه.

وجاء في حديث «براءة بن عازب» أنّه قال : قلت لعليعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ، أسألك بالله ورسوله ألا خصّصتني بأعظم ما خصّك به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم واختصّه به جبرائيل ، وأرسله به الرحمن ، فقالعليه‌السلام : «إذا أردت أن تدعو باسمه الأعظم ، فاقرأ من أوّل سورة الحديد إلى آخر ستّ آيات منها عليم بذات الصدور ، وآخر سورة الحشر يعني أربع آيات ثمّ ارفع يديك فقل : يا من هو هكذا أسألك بحقّ هذه الأسماء أن تصلّي على محمّد وأن تفعل بي كذا وكذا ـ ممّا تريد ـ فو الله الذي لا إله غيره لتنقلبنّ بحاجتك إن شاء الله»(١) .

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٧١.

٢٣

وفي عظمة هذه الآيات وأهميّة محتواها نكتفي بهذا الحديث ، ويجب ألّا ننسى أنّ اسم الله العظيم ليس بالألفاظ فقط ، إذ يجب التخلّق بمعانيه أيضا.

* * *

٢٤

الآيات

( آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) )

٢٥

التّفسير

الإيمان والإنفاق أساسان للنجاة

بعد البيان الذي تقدّم حول دلائل عظمة الله في عالم الوجود وأوصاف جماله وجلاله ، تلك الصفات المحفّزة للحركة باتّجاه الله تعالى ، ننتقل الآن إلى جوّ هذه الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل

يقول سبحانه في البداية( آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) إنّ هذه الدعوة دعوة عامّة لجميع البشر ، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ ، وتدعو ـ أيضا ـ غير المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم ، وهذه الدعوة إلى الإيمان جاءت توأما مع أدلّة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.

ثمّ يدعو إلى أحد الالتزامات المهمّة للإيمان وهي : (الإنفاق في سبيل الله) حيث يقول تعالى :( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) .

إنّها دعوة إلى الإيثار والتضحية ، وذلك بالإنفاق والعطاء ممّا منّ الله به على الإنسان ، ولكن هذه الدعوة مصحوبة بملاحظة ، وهي أنّ المالك الحقيقي هو اللهعزوجل ، وهذه الأموال والممتلكات قد وضعها الله عند الإنسان بعنوان أمانة لفترة محدودة ، كما وضعت كذلك باختيار الأقوام السابقة.

والحقيقة أنّها كذلك ، إذ مرّ بنا في الآيات السابقة أنّ المالك الحقيقي لكلّ العالم هو الله سبحانه ، وأنّ الإيمان بهذه الحقيقة والعمل بها تبيّن أنّنا أمناء على ما استخلفنا به من قبل الله تعالى ، ولا بدّ للمؤمن من أن يأخذ بنظر الإعتبار أمر صاحب الأمانة.

الإيمان بهذه الحقيقة يمنح الإنسان روح السخاء والإيثار ويفتح قلبه ويديه على الإنفاق.

عبارة (مستخلفين) قد تكون إشارة إلى أنّ الإنسان خليفة الله تعالى على الأرض ، أو أنّه مستخلف عن الأقوام السابقة أو كلا المعنيين.

٢٦

وتعبير (ممّا) تعبير عام ولا يشمل الأموال فحسب بل كلّ الممتلكات والهبات الإلهيّة. وهنا يعني أنّ للإنفاق مفهوما واسعا ولا ينحصر بالمال فقط ، بل يشمل ـ أيضا ـ العلم والهداية والسمعة الاجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.

ثمّ يقول تعالى في الحثّ على الإنفاق :( فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) .

إنّ وصف الأجر بأنّه «كبير» إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات الإلهية ، وأبديّتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب ، بل في عالم الدنيا أيضا حيث أنّ قسما من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.

وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بيانا لكلّ منهما ، وهو بمثابة الاستدلال والبرهان ، وذلك بصورة استفهام توبيخي ابتداء ، حيث يستفسر عن علّة عدم قبول دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول الإيمان بالله فيقول سبحانه :( وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقا لقبول الحقّ ، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل ، وكذلك عن طريق النقل.

وهذا رسول الله قد أتى لكم بدلائل واضحة وآيات ومعجزات باهرة ، وهذه آثار الله سبحانه في عالم الخلق وفي أنفسكم وقد أخذ نوعا من العهد التكويني منكم ، فآمنوا به ، إلّا أنّكم ـ مع الأسف ـ لا تقيمون وزنا لعقلكم وفطرتكم ، وكذلك لا تعيرون اهتماما لتوجيهات الوحي ، ويبدو أنّكم غير مستعدّين ومهيّئين للإيمان أصلا ، وقد غلب الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى على أفكاركم ونفوسكم.

ويتوضّح ممّا قلناه أنّ المقصود من جملة( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) هو أنّكم إذا كنتم مستعدّين للإيمان بشيء وتقبلون أدلّته فهذا هو محلّه ، لأنّ دلائله واضحة من كلّ جهة.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي معرفة السبب الذي يمنع هؤلاء الذين

٢٧

شاهدوا الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم وسمعوا دعوته مباشرة وبلا واسطة ، وشاهدوا معجزاته بأعينهم ، من الإيمان بدعوته.

في هذا الصدد نقرأ الحديث التالي : أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم قال لأصحابه يوما : (أيّ المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟» قالوا : الملائكة. قال : «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟» قالوا : الأنبياء. قال : «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟» قالوا : نحن. قال : «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بها»(١) .

وهذه حقيقة لا غبار عليها ، وهي أنّ الأشخاص الذين يطلّون على عالم الوجود بعد سنوات طويلة من رحلة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم ويشاهدون آثاره في الكتب ـ فقط ـ ويؤمنون بأحقيّة دعوته ، فإنّ لهم ميزة كبيرة على الآخرين.

إنّ التعبير بـ «الميثاق» يمكن أن يكون إشارة إلى الفطرة التوحيدية أو الدلائل العقلية التي بمعرفتها يتبيّن للإنسان (نظام الخلقة) ، وعبارة (بربّكم) إشارة إلى التدبير الإلهي في عالم الخلقة ، وهو شاهد على هذا المعنى أيضا.

واعتبر البعض كلمة (ميثاق) إشارة إلى (عالم الذرّ) إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد إلّا أن يراد به التّفسير الذي ذكرناه سابقا لعالم الذرّ(٢) .

وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول :( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

فسّر البعض( آياتٍ بَيِّناتٍ ) هنا بكلّ المعجزات ، وقال قسم آخر : إنّه (القرآن الكريم) إلّا أنّ مفهوم الآية واسع يستوعب كلّ ذلك ، بالرغم من أنّ التعبير( يُنَزِّلُ ) يناسب (القرآن) أكثر ، هذا الكتاب العظيم الذي يمزّق حجب ظلام الكفر والجهل

__________________

(١) صحيح البخاري طبقا لنقل تفسير المراغي تفسير ظلال نهاية القرآن في نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) راجع هذا التّفسير ، نهاية الآية (١٧٢) من سورة الأعراف.

٢٨

والضلال ويشرق شمس الوعي والإيمان في النفوس ، والذي هو رحمة ونعمة إلهيّة عظيمة.

أمّا التعبير بـ( لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) فهو إشارة لطيفة إلى حقيقة أنّ هذه الدعوة الإلهية العظيمة إلى الإيمان والإنفاق تمثّل مظهرا من مظاهر الرحمة الإلهيّة التي جاءت إليكم جميعا ، كما أنّ جميع بركاتها في هذا العالم والعالم الآخر ترجع إليكم.

وسؤال يثار هنا وهو : هل يوجد اختلاف بين (الرؤوف) وبين (الرحيم)؟ وما هي خصوصيات كلّ منهما؟

ذكر المفسّرون في ذلك آراء ، والمناسب من بين كلّ الآراء التي ذكرت هو : أنّ كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبّته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين ، في حين أنّ كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.

قال البعض : إنّ «الرأفة» تقال للرحمة قبل ظهورها ، و «الرحمة» تعبير يطلق على الحالة بعد ظهورها.

ثمّ يأتي استدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى :( وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كلّ ما منحكم الله فيها ، وتذهبون إلى عالم آخر ، فلما ذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها الله تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق؟.

(ميراث) في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هي الأموال التي تنتقل للإنسان بدون اتّفاق مسبق ، وما ينتقل من الميّت إلى ورثته هو أحد مصاديق ذلك ، ولكن لكثرة استعمالها بهذا المعنى يتداعى لسامعها هذا المعنى عند إطلاقها.

وجملة( لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) بمعنى ليست جميع الأموال والثروات الموجودة فوق الأرض ، بل كلّ ما هو في السماء والأرض وعالم الوجود يرجع إليه ، حيث تموت جميع الخلائق والله سبحانه هو الوارث لها جميعا.

٢٩

ولأنّ للإنفاق قيما مختلفة وأحوالا متفاوتة الشرائط والظروف ، يضيف سبحانه :( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ) (١) .

هناك اختلاف بين المفسّرين حول المقصود من كلمة «الفتح» التي وردت في الآية ، فقد اعتبرها البعض إشارة لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة ، واعتبرها آخرون إشارة إلى فتح الحديبية في السنة السادسة للهجرة.

وبالنظر إلى أنّ كلمة «الفتح» فسّرت (بفتح الحديبية) في سورة :( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) فالمناسب هنا أن يكون المقصود بها فتح الحديبية أيضا. إلّا أنّ كلمة (قاتل) تناسب فتح مكّة ، لأنّه لم يحصل قتال في صلح الحديبية ، بعكس فتح مكّة الذي حصل فيه قتال سريع وقصير ، إذ لم يواجه بمقاومة شديدة.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد من «الفتح» في هذه الآية هو جنس الفتح ، والذي يمثّل انتصار كلّ المسلمين في الحروب الإسلامية. والمقصود إجمالا أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة ، لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى :( أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا ) .

والعجيب هنا أنّ بعض المفسّرين الذين اعتبروا مقصود الآية هو فتح مكّة ، أو فتح الحديبية ، اعتبروا مصداق المنفق في هذه الآية هو «أبو بكر». في حين أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ عدّة حروب وغزوات حصلت بين هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول آية الفتح والذي استغرق من (٦ ـ ٨) سنوات ، وفي هذه الفترة قاتل وأنفق الآلاف من الأشخاص في طريق الإسلام ، إذ شارك في فتح مكّة فقط عشرة آلاف شخص ، طبقا لما ورد في كتب التاريخ. ومن الواضح أنّ أعدادا كبيرة في هذه المجموعة قدّمت الكثير من الأموال في سبيل الله وأعانت الإسلام في المجهود الحربي ،

__________________

(١) للآية محذوف يستفاد من المذكور ، وتقديره (لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل والذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا).

٣٠

وواضح أنّ كلمة (قبل) تعني الإنفاق في مشارف هذا الفتح وليس في بداية الإسلام وقبل إحدى وعشرين سنة.

يجدر الانتباه إلى أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ الإنفاق أفضل من الجهاد ، وذلك انسجاما مع رأيهم السابق ، ويدلّلون على صحّته من خلال ما ورد في الآية أعلاه من تقديم الإنفاق المالي على الجهاد باعتبار أنّ الوسائل والمقدّمات والآلات الحربية ، تتهيّأ بواسطته. إلّا أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ بذل النفس والتهيّؤ للشهادة أعلى وأفضل من الإنفاق المالي.

وعلى كلّ حال ، بما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحقّ تعالى مع اختلاف الدرجة ، فيضيف في النهاية( وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ) .

وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.

وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع ، حيث تشمل كلّ ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.

ولكون قيمة العمل بإخلاصه لله سبحانه فيضيف في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

نعم ، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم. وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم.

ولغرض الحثّ على ضرورة الإنفاق في سبيل الله ، ومن خلال تعبير رائع يؤكّد سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله :( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) فينفق ممّا آتاه الله في سبيل الله( فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) .

إنّه تعبير عجيب حقّا ، حيث إنّ الله الواهب لكلّ النعم وجميع ذرّات وجودنا ـ هي من بحر فيضه اللامتناهي. وبالإضافة إلى أنّنا عبيد له يعبّر عنّا بأنّنا أصحاب الأموال ، ويدعونا لإقراضه ضمن شروط مغرية ، حيث أنّ السائد أنّ الديون العادية تسترجع بنفس مقاديرها ، إلّا أنّه سبحانه ـ بفضل منه ـ يضاعفها لنا بالمئات أحيانا وبالآلاف أحيانا اخرى.

٣١

وإضافة إلى ذلك فإنّه قد وعدنا بأجر كريم أيضا ، وهو جزاء عظيم لا يعلمه إلّا هو.

* * *

بحوث

١ ـ بواعث الإنفاق

الشيء الجدير بالانتباه أنّنا نلاحظ في الآيات السابقة تعبيرات مختلفة للحثّ على الإنفاق ، أعمّ من المساعدة والمساهمة في موضوع الجهاد أو أنواع الإنفاق الأخرى للمحتاجين ، والتي يعتبر كلّ منها عاملا أساسيّا ومحرّكا باتّجاه تحقيق الهدف.

وتشير الآية السابعة لمسألة استخلاف الناس بعضهم لبعض أو عن الله تعالى في هذه الثروة ، وبما أنّ المالكية الحقيقة لله تعالى ، والجميع نوابا له في هذه الأموال. فهذا الفهم يستطيع أن يفتح في الحقيقة يد الإنسان وقلبه للإنفاق ويكون عاملا للحركة في هذا المجال.

أمّا في الآية العاشرة فقد ورد مفهوم آخر يتحدّث فيه عن حالة عدم استقرار الأموال والممتلكات وبقائها بعد فناء الناس جميعا ، لذا يعبّر عنها بـ( مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وأنّها لله تعالى.

وفي الآية الحادية عشرة ورد تعبير مرهف بالحساسية ، حيث يعتبر الله سبحانه الإنسان هو المقرض وأنّه تعالى هو المستقرض ، وليس في هذا القرض ربا ، بل فيه أرباح مضاعفة ، وأحيانا مضاعفة بالآلاف عوض هذا القرض ، بالإضافة إلى الجزاء العظيم الذي لا نستطيع تصوّره.

إنّ هذا كلّه لإزالة النظرات الخاطئة والمنحرفة ودوافع الحرص والحسد وحبّ الذات وطول الأمل التي تمنع من الإنفاق ، لتكوين مجتمع على أسس ودّية وتعاون عميق وروح اجتماعية بنّاءة.

٣٢

٢ ـ شروط الإنفاق في سبيل الله!

إنّ التعبير بـ( قَرْضاً حَسَناً ) في الآية أعلاه يشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ إعطاء القرض بحدّ ذاته (أقسام وأنواع) فبعضها يعتبر قرضا حسنا ، والآخر قرضا قليل الفائدة ، أو حتّى عديم الفائدة أيضا.

والقرآن الكريم يبيّن شروط القرض الحسن لله سبحانه كما وضّح ذلك في الآيات المختلفة ، وبعض المفسّرين استنتجوا عشرة شروط في مجموع الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الإنفاق ، وهي كما يلي :

الشرط الأوّل : انتخاب أجود الأموال للإنفاق وليس من أرخصها شأنا وقيمة ، قال سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ، وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (١) .

ثانيا : يجدر أن يكون الإنفاق والإقراض من الأموال التي هي موضع حاجة الشخص المنفق ، حيث يقول سبحانه :( وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) (٢) .

ثالثا : يجب أن يكون الإنفاق للأشخاص الذين هم موضع حاجة شديدة إليه ، وتؤخذ بنظر الإعتبار الأولويات في إنفاقه ، قال تعالى :( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) (٣) .

رابعا : الأفضل والأولى في الإنفاق أن يكون محاطا بالسّرية والكتمان قال تعالى :( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (٤) .

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٦٧.

(٢) الحشر ، الآية ٩.

(٣) البقرة ، الآية ٢٧٣.

(٤) البقرة ، الآية ٢٧١.

٣٣

خامسا : أن لا يقترن الإنفاق منّ ولا أذى أبدا ، قال تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

سادسا : أن يكون توأما مع خلوص النيّة قال تعالى :( يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) (٢) .

سابعا : الشعور بضئالة العطاء وأنّه صغير لا قيمة له حتّى وإن كان كثيرا ومهمّا ، وذلك تلبية لأمر الله وانتظارا للجزاء الذي أعدّه للمنفقين. قال تعالى :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) (٣) (٤) .

ثامنا : أن يكون الإنفاق ممّا تعلّق قلبه به من الأموال ، وخاصّة تلك التي تكون موضع تعلّق وشغف ، قال تعالى :( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (٥) .

تاسعا : أن لا يرى المنفق أنّه هو المالك للأموال ، حيث أنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه ، ويعتبر المنفق نفسه واسطة بين الخالق والمخلوق ، قال تعالى :( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) (٦) .

عاشرا : أن يكون الإنفاق من المال الحلال ، لأنّه هو الذي يقبل فقط من قبل الله سبحانه ، قال تعالى :( إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (٧) .

وجاء في حديث أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يقبل الله صدقة من غلول»(٨) . والذي ذكرناه أعلاه هو قسم مهمّ من الضوابط والشروط اللازمة للإنفاق ، ولا

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٦٤.

(٢) البقرة ، الآية ٢٦٥.

(٣) لهذه الآية تفاسير متعدّدة ، أحدها ما ذكر أعلاه وستطالعون بعون الله شرحا أكثر في تفسير سورة المدثر إن شاء الله.

(٤) المدثر ، الآية ٦.

(٥) آل عمران ، الآية ٩٢.

(٦) الحديد ، الآية ٧.

(٧) المائدة ، الآية ٢٧.

(٨) ذكر الطبرسيقدس‌سره هذه الشروط العشرة في مجمع البيان والفخر الرازي في التّفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني وقد أدرجناها باختصار.

٣٤

تنحصر به ، ونستطيع من خلال التدقيق والتأمّل في الآيات الكريمة والروايات الإسلامية أن نتعرّف على شروط أخرى أيضا.

ثمّ إنّ ما قيل من الشروط بعضها واجب كـ (عدم الأذى والمنّ والإعلان في العطاء) والبعض الآخر مستحبّ ومن شروط الكمال كـ (الإيثار على النفس) حيث إنّ عدمه لا يقلّل من قيمة الإنفاق ، بالرغم من أنّ الإنفاق في هذه الحالة لا يرتقي إلى مستوى الإنفاق العالي من حيث الدرجة.

ومع أنّ ما قيل هنا خاصّ في الإنفاق في سبيل الله (الإقراض لله) إلّا أنّه أيضا يصدق في كثير من القروض العادية ، لأنّ هذه الشروط من الأمور اللازمة أو من شروط الكمال للقرض الحسن.

وحول أهميّة الإنفاق في سبيل الله فقد ذكرنا شرحا مفصّلا تفسير الآيات من (٢٦١ ـ ٢٦٧) من سورة البقرة.

٣ ـ السابقون في الإيمان والجهاد والإنفاق

الأشخاص الذين يتقدّمون على غيرهم بالإيمان والعمل الصالح فهم ذوو وعي وشجاعة وإيثار وتضحية أكثر من الآخرين بلا شكّ ، ولذا فإنّ درجات المؤمنين غير متساوية عند الله ، والآية الكريمة اعتمدت هذا المفهوم وميّزت بين الأشخاص الذين أنفقوا قبل الفتح : (سواء كان فتح مكّة أو الحديبية أو مطلق الفتوحات الإسلامية) وجاهدوا أيضا ، وبين الذين أنفقوا وقاتلوا من بعد.

نقل في حديث عن (أبي سعيد الخدري) أنّه قال : «خرجنا مع رسول الله في عام الحديبية (السنة السادسة للهجرة) حتّى إذا كان بعسفان ـ مكان قريب من مكّة ـ قال رسول الله : «يوشك أن يأتي قوم تحقّرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا : من يا رسول الله؟ أقريش؟ قال : «لا ، ولكنّهم أهل اليمن ، هم أرقّ أفئدة وألين قلوبا» قلنا : أهم خير منّا يا رسول الله؟ قال : «لو كان لأحدهم جبل ذهب فأنفقه ما أدرك

٣٥

مدّ(١) أحدكم ولا نصفيه ، ألا إنّ هذا فصل ما بيننا وبين النساء لا يتسوّى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل»(٢) .

والنقطة التالية جديرة بالملاحظة أيضا وهي : أنّ الإقراض لله تعالى هو كلّ إنفاق في سبيله ، وأحد مصاديقه المهمّة الدعم الذي يقدّم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة المسلمين من بعده ، كي يستعمل في الموارد اللازمة لإدارة الحكومة الإسلامية.

لذا نقل في الكافي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله لم يسأل خلقه ممّا في أيديهم قرضا من حاجة به إلى ذلك ، وما كان لله من حقّ فإنّما هو لوليّه»(٣) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظمعليه‌السلام حول نهاية الآية مورد البحث :( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) أنّه قال : «نزلت في صلة الإمام»(٤) .

* * *

__________________

(١) الظاهر أنّ المقصود من (المدّ الواحد من الطعام) هو أقلّ من الكيلو.

(٢) الدّرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٧٢.

(٣) تفسير الصافي ، ص ٥٢٢.

(٤) تفسير الصافي ، ص ٥٢٢.

٣٦

الآيات

( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) )

التفسير

انظرونا نقتبس من نوركم :

لقد بشّر الله المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم ،

٣٧

واستمرارا للبحث فالآيات أعلاه تتحدّث عن هذا الأجر ، وتبيّن مدى قيمته وعظمته في اليوم الآخر ، يقول سبحانه :( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ) .

وبالرغم من أنّ المخاطب هنا هو الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ من الواضح أنّ الآخرين يرقبون هذا المشهد أيضا ، ولكن بما أنّ تشخيص المؤمنين من الأمور اللازمة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتفقدهم فكانت هذه العلامة : (نورهم الذي يسعى بين أيديهم ...) دالّة عليهم ، وبذلك تكون معرفتهم أيسر.

وبالرغم من أنّ المفسّرين ذكروا احتمالات متعدّدة لهذا «النور إلّا أنّ المقصود منه ـ في الواقع ـ تجسيم نور الإيمان ، لأنّه سبحانه عبّر بـ (نورهم) ولا عجب ، لأنّ في ذلك اليوم تتجسّد أعمال البشر ، فيتجسّد الإيمان الذي هو نور هدايتهم بصورة نور ظاهري ، ويتجسّد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة ظلمة ظاهرية. كما نقرأ في الآية الكريمة :( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) (١) .

وجاء في الآيات القرآنية الاخرى أنّ الله تعالى يهدي المؤمنين من الظلام إلى النور :( يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

التعبير بـ «يسعى» من مادّة (سعى) ـ بمعنى الحركة السريعة ـ دليل على أنّ المؤمنين أنفسهم يسيرون بسرعة في طريق المحشر باتّجاه الجنّة حيث مركز السعادة السرمدية ، ذلك لأنّ الحركة السريعة لنورهم ليست منفصلة عن حركتهم السريعة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ الحديث جاء عن (نورين) (النور الذي يتحرّك أمامهم ، والنور الذي يكون عن يمينهم) وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى

__________________

(١) التحريم ، الآية ٨.

٣٨

قسمين مختلفين من المؤمنين :

قسم المقرّبين وأصحاب الوجوه النورانية ، وهؤلاء نورهم يتحرّك أمامهم.

والقسم الثاني وهم أصحاب اليمين ويكون نورهم عن أيمانهم ، وذلك كناية عن صحيفة أعمالهم التي تعطى بأيديهم اليمنى ويخرج النور منها.

كما يوجد احتمال آخر أيضا وهو أنّ النورين إشارة إلى مجموعة واحدة ، وما يقصد بنور اليمين هو كناية عن النور الذي يصدر عن أعمالهم الصالحة ويضيء جميع أطرافهم.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا النور هو دليلهم إلى الجنّة ، وعلى ضوئه يسيرون بسرعة إليها.

ومن جهة ثالثة بما أنّ مصدر هذا النور الإلهي هو الإيمان والعمل الصالح فلا شكّ أنّه يختلف باختلاف درجات الإيمان ومستوى الأعمال الصالحة للبشر ، فالأشخاص ذوو الإيمان الأقوى فإنّ نورهم يضيء مسافة أطول ، والذين لهم مرتبة أقل يتمتّعون بنور يناسب مرتبتهم ، حتّى أنّ نور بعضهم لا يضيء موضع أقدامهم ، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في نهاية الآية مورد البحث : «يقسّم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم»(١) .

وهنا يصدر هذا النداء الملائكي باحترام للمؤمنين :( بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

أمّا المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية ، فإنّ صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئا من النور ، لكنّهم يواجهون بالرد والنفي. كما في قوله تعالى :( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) (٢) .

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤١ ، حديث ٦٠.

(٢) انظرونا من مادّة (نظر) في الأصل بمعنى الفكر أو النظر لمشاهدة إدراك شيء ، وتأتي أحيانا بمعنى التأمّل والبحث.

٣٩

«اقتباس» في الأصل من مادّة (قبس) بمعنى أخذ شعلة من النار ، ثمّ استعملت على أخذ نماذج اخرى أيضا.

المقصود من جملة (انظرونا) هو أن انظروا لنا كي نستفيد من نور وجوهكم لنجد طريقنا ، أو انظروا لنا نظر لطف ومحبّة وأعطونا سهما من نوركم ، كما يحتمل أنّ المقصود هو أنّ (انظرونا) مشتقة من (الانتظار) بمعنى أعطونا مهلة قليلة حتّى نصل إليكم وفي ظلّ نوركم نجد الطريق.

وعلى كلّ حال يأتي الجواب على طلبهم بقوله تعالى :( قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ) .

كان من الممكن أن تحصلوا على النور من الدنيا التي تركتموها ووراءكم ، وذلك بإيمانكم وأعمالكم الصالحة ، إلّا أنّ الوقت انتهى ، وفاتت الفرصة عليكم ولا أمل هنا في حصولكم على النور.

( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ ) وهذا الباب أو هذا الجدار من نوع خاص وأمره فريد ، حيث إنّ كلا من طرفيه مختلف عن الآخر تماما ، حيث :( باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ) .

«السور» في اللغة هو الحائط الذي يحيط بالمدن ـ كما كان في السابق ـ للمحافظة عليها ، وفيه نقاط مراقبة عديدة يستقرّ بها الحرّاس للمحافظة ورصد الأعداء تسمّى بالبرج والأبراج.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا حيث يقول تعالى :( باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ) حيث أنّ المؤمنين كسكّان المدينة داخل البستان ، والمنافقين كالغرباء القسم الصحراوي ، فهم في جوّين مختلفين وعالمين متفاوتين ، ويحكي ذلك عن كون هؤلاء كانوا في مجتمع واحد جنبا إلى جنب ولكن يفصل بينهم

__________________

وكلّما تعدّت بـ (إلى) فإنّها تأتي بمعنى النظر إلى شيء ، وكلّما تعدّت بـ (في) فإنّها تأتي بمعنى التأمّل والتدبّر ، وعند ما لا تتعدّى بدون حرف جرّ كأن نقول : (نظرية وأنظرته وانتظرته) فإنّها تأتي بمعنى التأخير أو الانتظار (من المفردات للراغب).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

عقائد الوهابية

٤

حرمة التوسّل بالأنبياء والصالحين

يعتبر التوسّل بأولياء الله وأحبّائه من المسائل المعروفة بين المسلمين في أنحاء العالم كافّة، وقد وردت أحاديث كثيرة في جوازه واستحبابه، فهو ليس ظاهرة غريبة؛ بل هو أمر ديني تعارف عليه المسلمون منذ فجر الإسلام حتّى هذا اليوم، ولا تجد مسلماً ينكره.

وطوال أربعة عشر قرناً لم ينكره أحد سوى ابن تيميّة وتلاميذه في القرن الثامن الهجري، وبعد قرنين جاء محمّد بن عبد الوهّاب فاعتبر التوسّل بأولياء الله بدعة تارة وعبادة للأولياء أُخرى.

فنقول: إنّ القرآن الكريم حثّ المسلمين على الإتيان إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وطلب الاستغفار منه، وهو نوع توسّل بدعاء النبيّ في حياته، قال سبحانه: ( وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ) (١) .

____________________

(١) النساء: ٦٤.

٣٢١

وقال سبحانه: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رُسُولُ اللّهِ لَوّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

وقال سبحانه ناقلاً عن أبناء يعقوب: ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ ) (٢) .

ولأجل هذا قبل الوهّابيّون التوسّل بدعاء النبيّ في حال حياته، وإنّما يمنعون موردين آخرين:

١ - التوسّل بدعاء النبيّ بعد رحيله.

٢ - التوسّل بذات النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وجاهه وحرمته مطلقاً، سواء أكان النبيّ حيّاً أم ميّتاً.

وليس لهم دليل صالح على المنع، مع أنّ الأدلّة تؤيّد كلا التوسّلين، فإليك دراسة التوسّل بمقام النبيّ وذاته وجاهه وحرمته، ثُمَّ دراسة التوسّل بدعاء النبيّ بعد رحيله.

التوسّل بذات النبيّ ومنزلته:

إنّ الدعاء الّذي علّمه النبيّ للضرير جاء فيه التوسّل بذات النبيّ وقدسيّته، والحديث من الأحاديث الصحاح الّتي اعترف بها حتّى ابن تيميّة.

روى عثمان بن حنيف أنّه قال:

____________________

(١) المنافقون: ٥.

(٢) يوسف: ٩٧.

٣٢٢

إنّ رجلاً ضريراً أتى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: ادع الله أن يعافيني.

فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرتَ وهو خير».

قال: فادعه!، فأمره (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يتوضّأ فيحسن وضوءه، ويصلّي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء:

«اللَّهُم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللّهم شفّعه فيّ».

قال ابن حنيف: والله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث، حتّى دخل علينا كأنّه لم يكن به ضر. (١)

إنّ دلالة الحديث على أنّ النبيّ أمر الضرير أن يتوسّل بنفس النبيّ، وفي الحقيقة أنّ حرمته ومكانته عند الله واضحة، وإليك بيانها:

١ - (اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك):

إنّ كلمة (بنبيّك) متعلّقة بفعلين: (أسألك) و(أتوجّه إليك)، والمراد من النبيّ نفسه المقدّسة وشخصه الكريم، لا دعاؤه.

إنّ من يقدّر كلمة (دعاء) قبل لفظ (نبيّك) ويصوّر أنّ المراد: أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك، فهو يتحكّم بلا دليل، ويؤوّل بلا جهة، ولو أنّ محدّثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهميّة والقدريّة.

____________________

(١) سنن ابن ماجة: ١/٤٤٤، برقم ١٣٨٥، مسند أحمد: ٤/١٣٨.

٣٢٣

٢ - (محمّد نبيّ الرحمة):

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من الله بواسطة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وشخصه جاء بعد كلمة (نبيّك) جملة (محمّد نبيّ الرحمة)، لكي يتّضح الهدف بأكثر ما يمكن.

٣ - (يا محمّد إنّي أتوجّه إلى ربّي):

إنّ هذه الجملة تدلّ على أنّ الرجل اتّخذ النبيّ نفسه وسيلة لدعائه، أي انّه توسّل بذات النبي لا بدعائه.

٤ - (وشفّعه فيّ):

قوله هذا معناه: يا ربّ اجعل النبيّ شفيعي وتقبّل شفاعته في حقّي، وليس معناه تقبل دعاءه في حقّي.

التوسّل بدعاء النبيّ والصالحين بعد رحيلهم:

من أقسام التوسّل الرائجة بين المسلمين هو التوسّل بدعاء النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو الصالحين بعد رحيلهم.

ولكن ثمّة سؤالاً يطرح نفسه، وهو:

إنّ التوسل بدعاء الغير إنّما يصحّ إذا كان الغير حيّاً يسمع دعاءك ويستجيب لك ويدعو الله سبحانه لقضاء وطرك ونجاح سؤالك، أمّا إذا كان

٣٢٤

المستعان به ميّتاً، فكيف يصحّ التوسّل بمن انتقل إلى رحمة الله وهو لا يسمع؟

والجواب: إنّ الموت - حسب ما يوحي به القرآن والسنّة النبويّة - ليس بمعنى فناء الإنسان وانعدامه؛ بل معناه الانتقال من دار إلى دار، وبقاء الحياة بنحو آخر والّذي يعبّر عنه بالحياة البرزخيّة.

وقد استوفينا الكلام في هذا الموضوع من كتابنا (بحوث قرآنيّة في التوحيد والشرك). (١)

____________________

(١) بحوث قرآنيّة في التوحيد والشرك: ١١٦.

٣٢٥

عقائد الوهابية

٥

حرمة طلب الشفاعة من النبيّ

اتّفقت الأُمّة الإسلاميّة على أنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق به الكتاب والسنّة النبويّة وأحاديث العترة الطاهرة، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين وإن اختلفوا في بعض خصوصيّاتها.

وأجمع العلماء على أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أحد الشفعاء يوم القيامة، إلاّ أنّ الكلام في المقام هو في طلب الشفاعة من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهل يجوز أن نقول: يا رسول الله اشفع لنا عند الله، كما يجوز أن نقول اللّهم شفّع نبينا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فينا يوم القيامة، أو لا يجوز؟

فلنذكر نصّ محمّد بن عبد الوهّاب في هذا الصدد:

إنّ طلب الشفاعة يجب أن يكون من الله لا من الشفعاء بأن يقول:

اللّهم شفّع نبيّناً محمّداً فينا يوم القيامة، أو اللّهم شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك أو نحو ذلك ممّا يُطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو يا وليّ الله أسألك الشفاعة أو غيرها ممّا لا يقدر عليه إلاّ الله، فإذا طلبت ذلك في أيّام البرزخ كان ذلك من أقسام الشرك. (١)

____________________

(١) الهديّة السنية: الرسالة الثانية: ٤٢.

٣٢٦

يلاحظ عليه: أنّ شفاعة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وسائر الشفعاء هي الدعاء إلى الله وطلب المغفرة منه سبحانه للمذنبين، والله سبحانه أذن لهم في الدعاء في ظروف خاصة، فيستجاب فيما أذن، وهم لا يدعون في غير ما أذن الله لهم.

وعلى هذا فالشفاعة هي دعاء الشفيع للمذنب، وطلب الشفاعة منه هو طلب الدعاء منه، وقد سمّي في الأحاديث: دعاء المسلم لأخيه المسلم شفاعة له.

هذا هو انس بن مالك يقول: سألتُ رسول الله يشفع لي يوم القيامة قال: «أنا فاعل...» (١) . ولو كان طلب الشفاعة شركاً، لزجره عنه.

روى مسلم في صحيحه، عن ابن عبّاس، عن النبيّ، أنّه قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله إلاّ شفّعهم الله فيه». (٢)

دليل الوهّابيّين على حرمة طلب الشفاعة:

قد مرّ آنفاً أنّ طلب الشفاعة ليس إلاّ طلب الدعاء من الشفيع الّذي تُستجاب دعوته إذا أذن الله سبحانه، غير أنّ للوهّابيّين شبهة ربَّما يغترّ بها البسطاء؛ وهي أنّ المشركين كانوا يطلبونها من أصنامهم، فسمّى الله طلب الشفاعة منهم عبادة لهم، فيكون طلب شفاعة المسلم من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عبادة له، يقول سبحانه: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ إِتُنَبّؤُنَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعلَمُ فِي السّماوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (٣) .

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر: ٩/٣٦٠، لاحظ ذيل الحديث.

(٢) صحيح مسلم: ٣/٥٤.

(٣) يونس: ١٨.

٣٢٧

والشاهد في قوله: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ) ، مع ملاحظة ما في ذيل الآية: ( وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) ، وكان وجه عبادتهم لهم هو قولهم: ( هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا ) . (١)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ظاهر الآية أنّهم كانوا يقومون بأمرين:

أ - كانوا يعبدونهم؛ ويدلّ عليه قوله: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ) .

ب - يعتقدون بشفاعتهم، وبالتالي يطلبون منهم الشفاعة؛ ويدلّ عليه قوله ( وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا ) .

والعطف يدلّ على المغايرة؛ بمعنى أنّ هنا عبادة، وأنّ هناك أمراً آخر وهو طلب الشفاعة، فما هذا الخلط؟!

والحاصل: إنّ عبادتهم للأوثان شيء وطلب الشفاعة شيء آخر، وإلاّ لما عَطف الثانية على الأُولى.

وثانياً: نفترض أنّ عبادتهم للأوثان كانت متحقّقة بطلب الشفاعة منهم، ولكن هناك فرق بين طلب شفاعة المشرك من الأوثان وطلب شفاعة المسلم من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فالمشرك كان يطلب الشفاعة من الوثن معتقداً بأنّه إله فُوِّض إليه أمر الشفاعة، وأمّا المسلم فكان يطلب الشفاعة معتقداً بأنّ النبيّ عبد مقرّب تستجاب شفاعته إذا أذن الله.

أفهل يمكن جعل القسمين على حدٍّ سواء؟!

____________________

(١) مجموعة الرسائل والمسائل: ١/١٥.

٣٢٨

عقائد الوهابية

٦

حرمة النذر للأنبياء والأولياء

ذهبت الوهّابيّة تبعاً لابن تيميّة إلى حرمة النذر للأنبياء والأولياء؛ يقول ابن تيميّة: وإذا كان الطلب من الموتى - ولو كانوا أنبياء - ممنوعاً خشية الشرك، فالنذر للقبور أو لسكان القبور نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان. (١)

أقول: يجب تفسير النذر شرعاً كي يتّضح الفرق بين نذر المشركين للأوثان والأصنام ونذر المسلمين للأنبياء والأولياء، فالمشابهة بينهما مشابهة لفظيّة وبينهما بون شاسع، فالنذر معناه أن يلزم الإنسان نفسه بأداء شيء معيّن إذا تحقّق هدفه وقُضيت حاجته، فيقول: لله عليَّ أن... ويذكر نذره إذا كان... ويذكر حاجته.

مثلاً يقول: لله عليَّ أن أختم القرآن إذا نجحت في الامتحانات الدراسيّة.

هذا هو النذر الشرعي، ويجب أن يكون لله فقط، فإذا قال الناذر: نذرت لفلان، ففي قوله مجاز، والمعنى: نذرت لله على أن يكون ثوابه لفلان، وثواب النذر يقع على ثلاثة أقسام:

____________________

(١) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ١٠٣.

٣٢٩

١ - أن يكون الثواب لنفس الإنسان الناذر.

٢ - أن يكون لشخص حيّ.

٣ - أن يكون لشخص ميّت.

فقد يخصّص الإنسان الناذر ثواب نذره لنفسه، أو لشخص حيّ - واحد كان أو أكثر ـ، أو لشخص ميّت واحد كان أو أكثر.

وهذه الأقسام الثلاثة كلّها جائزة، ويجب على الناذر الوفاء بنذره إذا قُضيت حاجته.

وقد تعارف بين المسلمين النذر لله وإهداء ثوابه لأحد أولياء الله وعباده الصالحين.

وهذه السيرة موجودة عبر القرون إلى يومنا هذا، ولم يقدح فيها إلاّ ابن تيميّة ومن تبعه؛ محتجّاً بأنّ عمل المسلمين كعمل المشركين، يقول ابن تيميّة:

من نذر شيئاً للنبيّ أو غيره من النبيّين والأولياء من أهل القبور، أو ذبح ذبيحة، كان كالمشركين الّذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها، فهو عابد لغير الله، فيكون بذلك كافراً. (١)

يُلاحظ عليه: وجود الفرق بين النذرين، فإنّ المشركين ينذرون للأصنام والأوثان فيكون المنذور له هو آلهتهم المزعومة، وأمّا المسلمون فإنّما ينذرون لله سبحانه؛ فيقول الناذر: لله عليَّ إن نجحت في امتحاني أن أذبح شاة للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، واللاّم في قوله (لله) يقصد بها وجه الله سبحانه، وأمّا اللاّم في قوله للنبيّ يقصد بها انتفاع النبيّ بإهداء ثوابه إليه، وابن تيميّة زعم أنّ اللاّم في قوله للنبيّ نفسها اللاّم

____________________

(١) فرقان القرآن، العزامي: ١٣٢.

٣٣٠

في قوله لله، ولم يفرّق بين المضمونين، وأنّ اللام في الأوّل للغاية وفي الثاني للانتفاع، وقد ورد في الحديث أنّ سعداً سأل النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): أيُّ الصدقة أنفع يا رسول الله؟، فقال:«الماء».

فحفر بئراً، وقال: هذه لأُمّ سعد. (١)

واللاّم في قوله: (هذه لأُمّ سعد) هي اللاّم الداخلة على الجهة الّتي وجّهت إليه الصدقة، لا على المعبود المتقرَّب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين فهم سعديّون لا وثنيّون.

يقول الخالدي ردّاً على ابن تيميّة: إنّ المسألة تدور مدار نيّات الناذرين، وإنّما الأعمال بالنيّات، فإن كان قصد الناذر الميّت نفسه، والتقرّب إليه بذلك، لم يجز - قولاً واحداً، وإن كان قصده وجه الله تعالى وانتفاع الأحياء - بوجه من الوجوه - به، وإهداء ثوابه لذلك المنذور له - وسواء عيّن وجهاً من وجوه الانتفاع أو أطلق القول فيه، وكان هناك ما يطرد الصرّف فيه في عرف الناس، أو أقرباء الميت، أو نحو ذلك - ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور. (٢)

ومن وقف على أحوال الناذرين يجد أنّهم ينذرون لله تعالى ولرضاه ويذبحون الذبائح باسمه عزّ وجلّ، لكن بهدف انتفاع صاحب القبر بثوابها وانتفاع الفقراء بلحومها، فلو قالوا: هذا نذر للنبيّ؛ أيّ هذا النذر لله سبحانه لغاية انتفاع النبيّ به بإهداء ثوابه إليه، فاللاّم في قوله للنبيّ كاللاّم في قوله: ( إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ) (٣) .

____________________

(١) سنن أبي داود: ٢/١٣٠ برقم ١٦٨١، باب في فضل سقي الماء.

(٢) صلح الإخوان، الخالدي: ١٠٢.

(٣) التوبة: ٧٠.

٣٣١

عقائد الوهابية

٧

حرمة التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين

تعتقد الوهّابيّة بأنّ التبرّك بآثار أولياء الله شرك بالله، وتعتبر الّذي يُقّبل محراب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومنبره مشركاً وإن لم يأت بذلك بنيّة العبادة؛ بل كانت المحبّة والمودّة تجاه النبيّ الكريم هي الدافع له إلى التبرّك والاستشفاء بآثاره (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

إنّ المنع من التبرّك بآثار الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتقبيل ضريحه المقدّس ومنبره الشريف هو من أشدّ الإجراءات الّتي يتّخذها الوهّابيّون ضدَّ المسلمين، وقد استخدموا مجموعة من الشرطة الإرهابيّين باسم (الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر) ووزّعوهم في مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للحيلولة دون تقبيل ضريحه المقدّس ومنبره الشريف ومحراب مسجده المبارك، وهؤلاء الوهّابيّون يواجهون المسلمين الحجّاج بكلّ خشونة وصلافة ويمنعونهم عن التبرّك والتقبيل، وطالما أمسكوا بأيديهم العصا أو الأسلاك الغليظة، وطالما أراقوا في هذا السبيل دماء الأبرياء وهتكوا الأعراض والنواميس في حرم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) زعماً منهم أنّ التبرّك والتقبيل عبادة لصاحب القبر!!

٣٣٢

القرآن والتبرّك:

إنّ النبيّ يوسف (عليه السّلام) أرسل قميصه إلى أبيه، وقال لإخوته: اذهبوا بقميصي هذا وأُلقوه على وجهه يرتدّ بصيراً. يقول سبحانه حاكياً عن النبيّ يوسف: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) (١) .

ثُمَّ يقول: ( فَلَمّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى‏ وَجهِهِ فَارْتَدّ بَصِيراً ) (٢) .

فالآية صريحة بجواز التبرّك بآثار الأنبياء والأولياء حتّى لنبيّ آخر، فهذا النبيّ يعقوب يتبرّك بقميص النبيّ يوسف (عليه السّلام)، ومن الواضح أنّ الشفاء من الله سبحانه، فهو المؤثّر في الأشياء، إلاّ أنّ التبرّك بالقميص صار وسيلة للشفاء كما يكون الدواء كذلك بإذن الله تعالى.

التبرّك وسيرة المسلمين:

إنّ إلقاء نظرة سريعة على سيرة المسلمين بدءاً من الصحابة وانتهاءً إلى عصرنا الحاضر يكشف لنا عن السنّة الجارية بينهم، وهي التبرك بآثار النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الشريفة.

قال ابن حجر: كلّ مولود ولد في حياة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يُحكم بأنّه رآه. وذلك لتوفّر دواعي إحضار الأنصار أولادهم عند النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للتحنيك والتبرّك، حتّى قيل: لمّا افتُتحت مكّة جعل أهل مكّة يأتون إلى النبيّ بصبيانهم ليمسح على رؤوسهم ويدعو لهم بالبركة. (٣)

____________________

(١) يوسف: ٩٣.

(٢) يوسف: ٩٦.

(٣) الإصابة: ٣/٦٣١.

٣٣٣

إنّ النهي عن التبرّك بالضريح النبويّ الطاهر وآثار رسول الله كان من دأب الأمويّين، لا سيّما مروان بن الحكم اللّعين ابن اللّعين على لسان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

أخرج الحاكم في (المستدرك) عن داود بن صالح، قال:

أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته ثُمَّ قال: هل تدري ما تصنع؟، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: نعم، إنّي لم آت الحجر؛ إنّما جئت رسول الله ولم آت الحجر، سمعت رسول الله يقول: «لا تبكوا على الدِّين إذا وليه أهله، ولكن أبكوا على الدِّين إذا وليه غير أهله». (١)

هذا وقد نقل عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألته عن الرجل يمسّ منبر النبيّ ويتبرّك بمسّه ويقبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا، يريد بذلك التقرّب إلى الله عزّ و جلّ، فقال: لا بأس بذلك. (٢)

وقد روى ابن تيميّة في (الجواب الباهر) تقبيل منبر النبيّ عن ابن عمر. (٣)

روى أبو بكر بن أبي شيبة في (المصنّف)، عن زيد بن الحباب، قال: حدّثني أبو مودود، قال: حدّثني يزيد بن عبد المطلب بن قسيط، قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك. (٤)

____________________

(١) المستدرك: ٤/٥١٥.

(٢) العلل ومعرفة الرجال: ٢/٤٩٢، برقم ٣٢٤٣.

(٣) الجواب الباهر: ٣١.

(٤) المصنف: ٤/٣٥٧، برقم ٥٣٧، باب في مسّ منبر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

٣٣٤

إلفات نظر:

إنّ محقّق كتاب (العلل ومعرفة الرجال) لمّا كان من المتحمّسين لآراء ابن تيميّة ورأى أنّ ما نقله عن ابن شيبة يمسّ كرامة إمام مسلكه حاول أن يفسّر الرواية على نحو لا يمسّ كرامة المذهب؛ فقال:

وهذا [قوله: تقبيل رمّانة المنبر] كان لمّا كان منبره الّذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لا يقال بمشروعيّة مسحه تبرّكاً به.

وأمّا جواز مسح قبر النبيّ والتبرّك به، فهذا القول غريب جداً، لم أجد أحداً نقله عن الإمام.

وقال ابن تيميّة في الجواب الباهر لزوّار المقابر: اتّفق الأئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ ولا يقبّل، وهذا كلّه محافظة على التوحيد.

يلاحظ عليه: أوّلاً: إنّ التفريق بين المنبرين: المنبر الّذي لامس جسمه الشريف والمنبر الّذي لم يلامسه يُضادّ أُصول الوهّابيّة، فإنّهم لا يرون لما سوى الله سبحانه تأثيراً وعلّية وما شابه ذلك، فلو قلنا بأنّ لجسمه الشريف الملامس للمنبر تأثيراً في المنبر فهو على طرف النقيض من توحيد الربوبيّة.

و ثانياً: لو كان التبرّك منوطاً بملامسة جسم النبيّ فلماذا وصّى الشيخان بدفنهما في حجرة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، مع أنّ القبر الّذي دُفنا فيه لم يمسّ بترابه جسم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

و ثالثاً: كيف ينكر مسّ قبر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويقول: اتّفق الأئمّة على أنّه لا

٣٣٥

يُمسّ قبر النبيّ ولا يُقبّل، مع أنّ الصحابي العظيم مضيف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان

يمسّ قبر النبيّ على رؤوس الأشهاد، وقد منع عنه مروان بن الحكم مناوئ النبيّ وأهل بيته.

٣٣٦

عقائد الوهابية

٨

حرمة تكريم مواليد أولياء الله ووفيّاتهم

إنّ من المنكرات والبدع عند ابن تيميّة وابن عبد الوهّاب هو تكريم مولد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالاحتفال وقراءة القرآن وإنشاد القصائد والأشعار، والإحسان إلى المؤمنين بالإطعام، إلى غير ذلك ممّا يُعدّ مجالي لحبّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتكريمه ورفعه، كما رفعه الله سبحانه، وقال: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (١) .

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:

وقد أحدث هؤلاء المشركون أعياداً عند القبور الّتي تُعبد من دون الله، ويسمّونها عيداً كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم لِمَا يوجد فيها من الشرك والمعاصي العظيمة. (٢)

وقال محمد حامد الفقّي: والمواليد والذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء، هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم. (٣)

إنّ السبب الرئيسيّ من وراء كلّ هذه الانحرافات هي أنّ الوهّابيّين لم

____________________

(١) الانشراح: ٤.

(٢) قرّة العيون: ١٥٤.

(٣) تعليق فتح المجيد: ١٥٤.

٣٣٧

يحدّدوا معنى التوحيد والشرك والعبادة حتّى الآن، وبالتالي يعتبرون كلّ تكريم لأولياء الله عبادة لهم وشركاً بالله، وحتّى أنّ المؤلف الوهّابي (الفقّي) خبط خبطة عشواء فقرن بين كلمتي العبادة والتعظيم، وقد ذكرها كأنّهما مترادفان، ظنّاً منه أنّ المعنى فيهما واحد.

فالعبادة عبارة عن التعظيم أمام من يُعتقد بألوهيّته وربوبيّته، سواء أكان خالقاً للعالم أو كان مخلوقاً لكن فُوِّض إليه تدبيره، وبكلمة موجزة، إمّا أن يكون إلهاً حقيقيّاً أو إلهاً مزعوماً فُوِّض إليه أفعال الإله الحقيقي، وأمّا احترام الإنسان بما أنّه من عباد الله الصالحين، فهو تكريم له لا عبادة؛ وإلاّ لَمَا أمكن تسجيل اسم أحد في ديوان التوحيد لو فسرنا العبادة بالتكريم والتعظيم.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين لتعظيم النبيّ؛ ويقول: ( فَالّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النّورَ الّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) . إنّ الكلمات الواردة في هذه الآية هي:

١ - ( آمَنُوا بِهِ ) .

٢ - ( عَزّرُوهُ ) .

٣ - ( نَصَرُوهُ ) .

٤ - ( اتّبَعُوا النّورَ ) .

والمراد من قوله عزّروه هو التكريم والتعظيم، فالله سبحانه يريد أن يكون

____________________

(١) الأعراف: ١٥٧.

٣٣٨

حبيبه المصطفى معظّماً ومكرّماً حتّى الأبد، وهذه الاحتفالات تجسيد لقوله سبحانه ( وَعَزّرُوهُ ) .

إنّ من أُصول الإسلام هو حبّ النبيّ، دلّت عليه الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، يقول سبحانه: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُوا حَتّى‏ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (١) .

١. وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبَّ إليه من والده وولْده والناس أجمعين». (٢)

٢. قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «والّذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبَّ إليه من والده وولْده». (٣)

٣. قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبَّ في الله ويبغض في الله، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحبّ إليه من أن يشرك بالله شيئاً». (٤)

وعلى ضوء ذلك فإقامة الاحتفالات والمهرجانات في مواليدهم، وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم، وذكر منزلتهم في الكتاب والسنّة، تجسيد للحبِّ الّذي أمر الله ورسوله به، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالحرام، ومن دعا

____________________

(١) التوبة: ٢٤.

(٢ و٣ و٤) جامع الأُصول: ١/٢٣٧ - ٢٣٨ برقم ٢٠ و٢١ و٢٢.

٣٣٩

إلى الاحتفال بمولد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في أيّ قرن من القرون فقد انطلق من هذا المبدأ؛ أي حبّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الّذي أمر به القرآن والسنّة.

هذا هو الديار بكري مؤلّف (تاريخ الخميس) يقول في هذا الصدد: لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويُظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم. (١)

وقال القسطلاني: ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم... فرحم الله امرئ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدَّ علّة على من في قلبه مرض وأعياه داء. (٢)

***

هذه هي أُمّهات عقائد الوهّابيّة وأُصولهم الّتي يتدارسوها في جامعاتهم وينشرونها بين المسلمين بجدٍّ وحماس، وقد عرفت أنّها أُصول لا أساس لها, وكلّها رؤى شخصيّة انتُزعت من الكتاب والسنّة، وليس لها لمسة من الصدق أو مسحة من الحقّ.

____________________

(١) تاريخ الخميس: ١/٣٢٣.

(٢) المواهب اللّدنيّة: ١/٢٧.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377