المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية15%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 210617 / تحميل: 9269
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

حدد لهم الوقت بثلاثة ايام، واعطى السلطة التنفيذية لغيرهم، ليقهرهم على تنفيذ خطته.

لماذا كل هذه القيود التي وضعها، مع تهديدهم بالقتل إن تأخروا عن الموعد ولم يبرموا العهد؟ لا شك انها كانت لقصد الابتعاد عن الخلاف والنزاع الطبيعي لمثل هذا الامر. اذا القى حبله على غاربه.

وهنا وجدنا كيف أحكم عمر بن الخطاب وضع هذه الخطة، اتقاء للخلاف والنزاع على الامارة الذي لا ينفك عادة عن اراقة الدماء، في وقت اراد ألا يتحمل تبعة تعيين شخص الخليفة بعده، او انه في الأصح لم يجد نفسه تميل كل الميل إلا لتعيين احد الثلاثة الذين قد ماتوا يومئذ، وهم ابو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى ابي حذيفة، ومعاذ بن جبل.

***

ولا اعجب ان يكون ابو بكر وعمر تفطنا الى مافي تشريع إلقاء الامر على عاتق اختيار الامة من فساد، وما ينجم منه من جدال وجلاد. ولكن عجبي ممن يتسرع فينسب ذلك التشريع الى النبي الحكيم الذي لا يفعل إلا عن وحي ولا يحكم الا بوحي. ومع ذلك يدعي الاسلام وعرفان الرسول العظيم.

ولو كان للخليفة عثمان كلمة تسمع ورأي يطاع يوم

٤١

حوصر وأيس من الحياة؛ لما تأخر عن تعيين من يخلفه قطعا. ولكن الموقف كان ابعد من ان يتحكم عليه بمثل ذلك، وهو محاط به ليخلع.

ومما يزيدنا اعتقادا بعقم هذا الحل لمشكلتنا الاجتماعية الخطيرة، انا لم نعرف خليفة تعين بهذه الطريقة إلا ابا بكر وعلي بن ابي طالب، وابو بكر كانت بيعته فتنة او فلتة وقى الله شرها على حد تعبير عمر عنها وهو نفسه الذي شيد اركانها، ومع ذلك قال عنها: (فمن دعا الى مثلها فهو الذي لا بيعة له ولا لمن بايعه)(١) .

اما علي عليه السلام، فبعد تمام البيعة له (الشرعية بنظر اصحاب هذا الرأي) قد وجدنا كيف انتفض عليه نفس اهل الحل والعقد، والأسلام بعدُ لم يرث والعهد قريب، وهؤلاء المنتقضون هم جلة الصحابة. فكانت حرب الجمل فحرب صفين اللتان اريقت بهما الاف الدماء المحرمة هدراً، وانتهكت فيهما حرمات الشريعة، وشلت بهما حركة الدين الاسلامي.

ولم نعرف بعد ذلك خليفة تعين إلا بتعيين من قبله أو بحد السيف، ولقد لعب السيف دورا قاسيا جعل العالم الأسلامي يمخر في بحر من الدماء. ولم يجرئ الطامعين بالخلافة على

______________________________

(١) كنز العمال ج٣ رقم ٢٣٢٦ وغيره.

٤٢

خوض غمار الحروب إلا سن هذا القانون. قانون الاختيار، فمهد السبيل لطلحة الزبير ان يشعلا نار حرب الجمل، ومهد لمعاوية ما اجترم، ولابن الزبير تطاوله للخلافة وهو القصير، وللعباسيين ثورتهم على الامويين ولغيرهم ما شئت ان تحدث والحديث ذو شجون.

الى هنا اجد من نفسي القناعة والأطمئنان الى القول بفساد تشريع تعيين الامام باختيار اهل الحل والعقد. وهيهات ان يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع.

وكيف يخفى عليه ضرر هذا التشريع، ولا يخفى على عائشة ام المؤمنين يوم تقول لعمر على لسان ابنه عبد الله:

(لاتدع امة محمد بلا راع. استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا فاني اخشى عليهم الفتنة).

وما ادري لماذا لم يشر احد على محمد عليه افضل التحيات ان يستخلف او يبين على الاقل طريقة الأستخلاف حتى لا يفتتنوا، كما اشارت عائشة على عمر؟ ولماذا لم يسأله احد عن هذا الأمر، وهم يسألونه عن الكبيرة والصغيرة لماذا...؟

والمرجح انه سئل فأجاب، ولكن التأريخ هو المتهم في اهمال مثل هذه القضايا. على ان تأريخ الشيعة لم يهمل مثل هذا السؤال والجواب الصريح عليه.

٤٣

٤ - لا نص في قاعدة الاختيار

لنتنازل الان عن جميع ما قلناه في البحث السابق من فساد تشريع قاعدة الاختيار، ولكن ألا يجب علينا ان نسأل مدعي صدور هذا التشريع من النبي عن الدليل عليه في كتاب أو سنة.

وبودي ان يدلني احد على قول الرسول في هذا الشأن، فما سمعنا عنه انه قال يوما: ان الاختيار في تعيين الأمام لأهل الحل والعقد، او انه امر الأمة باختيار الأمام بعده، لا تصريحا ولا تلويحا. على ان الدواعي جد متوفرة لنقل مثل هذا القول، والقوة والحول في صدر الاسلام الى ما بعده في يد من يرتئي هذا الرأي ويدافع عنه، فليس لأحد ان يدعي ان هذا الاثر قد خفي علينا او امتنع الرواة عن نقله.

أجل! إلا ان الله تعالى قال في كتابه العزيز:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) .

إذن لم يثبت عن النبي قول وتصريح في هذا الأمر من الاتكال على اختيار الأمة، بل قال تعالى:( مَا كَانَ لَهُمُ

٤٤

الْخِيَرَةُ ) . فلنذهب الان من طريق ثانية الى إثبات صحة هذا التشريع، فنقول:

(أليس النبي كان غير غافل عن امر الخلافة! ولكنه سكت عن الحل لمشكلتها بطريق النص على احد من اصحابه، فلا بد انه أوكل ذلك الى اختيار أمته، فيكون سكوته إذن دليلا على هذا الايكال).

وهذا يقرب من التفكير الصحيح لأول وهلة، اذا استطعنا التصديق بسكوته عن النص فلذلك لا يصح إلا اذا ثبت لنا ان لا نص هناك، فوجب ان ننظر فيما تقوله اهل السنة والشيعة من النص على ابي بكر او علي بن ابي طالب. وسيأتي في البحث (٧)و(٨).

ولكن لو فكرنا قليلا، فلا نرضى لمصلح عاقل فضلا عن النبي الكريم ان يرمز لهذا الأمر العظيم الذي وقع فيه اعظم خلاف في الامة بمثل هذا الرمز الخفي. وما الذي يلجئه الى مثل هذا الدليل الصامت إن صح هذا التعبير مع علمه بما سيقع بعده من انشقاق وخلاف تتسع شقته هذا الاتساع، وتتخلله فتن وحروب أنهكت المسلمين وأفسدت روحية الاسلام؟!.

أما كان الجدير اذا لم يكن قد نص على احد ان يصرح لامته بايكال الأمر الى اختيارهم؟ ثم يحدده باختيار اهل الحل والعقد منهم، او يحدده بخصوص اهل المدينة او

٤٥

اهل عاصمة الخلافة، ثم يكتفي باختيار الواحد والاثنين منهم (على ما يذهب اليه جماعة من علماء اهل السنة)، ثم يذكر شروط الامام حتى يعرفوا من يجب ان يختاروه!

أكل هذه الامور والقيود نستقيها من هذا الدليل الصامت ويكون هذا السكوت حجة على من يشكك في واحد من هذه الشئون فيستحق عقاب الخالق الجبار، ثم مع ذلك يخرج عن ربقة الاسلام ويدخل في زمرة الكافرين؟!.

اللهم اشهد علي اني لا أستطيع ان أؤمن بصحة دليل صامت يدل هذه الدلالة الواسعة على اعظم الشئون العامة التي يعم بلاؤها جميع الخلق في كل زمان ومكان، في وقت الحاجة الى دليل ناطق وحجة واضحة.

اللهم اشهد اني لا استطيع ان أؤمن بذلك إلا اذا فقدت حرية التفكير ومسكة العقل.

٥ - اختلاف امتي رحمة

وأخشى الآن أن أكون قد أخذت بقلمي النعرة المذهبية في بحثي السابق، فبالغت في تشويه تلك الدعوى وخرجت عن خطتي التي رسمتها لنفسي.

وهل تراني اخفف وطأة من تلك السورة، فأطمئن الى

٤٦

تعليل مقبول لذلك الصمت، بأن أقول: إن الرسول إنما ترك بيان هذا الأمر ليوقع الخلاف بين امته رحمة بهم لما روى عنه: (اختلاف أمتي رحمة)؟.

ولكن هيهات! إن لم تؤول الكلمة بما يتفق ومبادئ الاسلام(١) فانها الكذب الصراح على داعية الوحدة ومقاتل نزعات الجاهلية الاولى بسيف من الاخوة الاسلامية انتشل العرب من هوة عميقة للتفرق والنزاع والنزال.

إن أكبر ظاهرة للاسلام بل من أعظم أعماله، تلك الدعوة الى الوحدة المطلقة بأوسع معانيها وتحطيم الفروق حتى بين الشعوب والامم المختلفة. ألا (إنما المؤمنون إخوة).

______________________________

(١) هذه الكلمة مروية من طرق الطرفين. والوارد في تفسيرها عن آل البيت غيرما يتخيل من ظاهرها ففي علل الشرايع: (انه قيل للامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: ان قوما يروون أن رسول الله قال: (اختلاف امتي رحمة)، فقال : صدقوا، فقيل: اذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال ليس حيث تذهب وذهبوا انما أراد قول الله عز وجل( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ ) واختلاف أهل البلدان الى نبيهم ثم من عنده الى بلادهم رحمة... ) الخبر. ومثله في معاني الأخبار للصدوق، وفيه: (انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله، انما الدين واحد).

٤٧

وليس هناك شئ في الاسلام غني عن البرهان بل عن البيان مثل دعوته الى الوحدة والعمل لها بكل الوسائل، ليكون المؤمنون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وقد تجلى ذلك ظاهرا في كثير من الأحكام العملية: في وجوب الحج وصلاة الجمعة والجماعة وحرمة الغيبة واللمز والغمز والقذف... وما الى ذلك مما لا يحصى، وبعد هذا أيمكننا ان نجرأ فندعي ان الرسول يدعو الى الخلاف! وأكثر من ذلك يسعى الى التفرقة، وأية تفرقة هي؟ إن هذا لبهتان عظيم وزور مبين! اللهم اني استجير بك من شطحات القلم والتفكير.

٦ - الاجماع على قاعدة الاختيار

وهنا لا بد أن ننصف في القول فلا نجري الكلام على عواهنه، فأني لم أعرف عن اخواننا أهل السنة أنهم فسروا هذا الصمت المدعى بذلك التفسير إلا من قل. وعلى الاقل انهم لم يجعلوه وحده دليلا على ايكال أمر الخلافة لاختيار أهل الحل والعقد، وإما يستدلون باجماع أهل الصدر الاول على كفاية اختيار أهل الحل والعقد، بدليل بيعة أبي بكر يوم السقيفة. وعندهم الاجماع حجة لما روي عنه عليه الصلاة والسلام، (لا تجتمع أمتي على الخطأ) و (لا تجتمع أمتي على ضلال).

٤٨

ولكن الشيعة لا يعتبرون مثل هذا الاجماع. وإنما يعتبرون الاجماع اذا كشف عن رضى امام معصوم حيث يكون داخلا في أحد المجمعين. وبيعة أبي بكر لم تقترن بموافقة الامام وهو علي بن أبي طالب فلم يتم عندهم الاجماع الذي يكون حجة.

ويذهبون الى أكثر من ذلك، فيقولون إن الاجماع بكل معانيه لم ينعقد على صحة بيعة أبي بكر، لمخالفة علي الذي يدور معه الحق حيثما دار ومخالفة قومه بني هاشم وسعد بن عبادة وابنه وجماعة من كبار الصحابة كسلمان وابي ذر والمقداد وعمار والزبير وخالد بن سعيد وحذيفة اليمان وبريدة وغيرهم. ولم يبايع من بايع منهم بعد ذلك إلا قهرا واضطرارا حفظا لبيضة الاسلام وتوحيدا لكلمة المسلمين. ولا يصح بحال ان يدعي ان هؤلاء ليسوا من اهل الحل والعقد، وهم من تعرف. ويقول الشيعة ايضا: لم يتكرر بعد ذلك تعيين الامام باختيار أهل الحل والعقد، حتى نؤمن بحصول الاجماع على صحة الاختيار في تعيينه، لان كل خليفة تعين إنما تعين بنص السابق عليه أو بحد السيف والقوة، ما عدا علي بن ابي طالب عليه السلام، وهو امام بالنص من النبي صلى الله عليه وآله ولا شأن لاختيار الامة في امامته.

* * *

هكذا اختلف الطرفان، وأجدني الآن حائرا إزاء أدلة

٤٩

الطرفين. واذا اردت ان اعالج في بحثي حادث السقيفة فانما اعالجه من عدة نواح هذه أهمها، فهل استطيع ان استنتج الحكم الفاصل لاحدى الطائفتين؟ هذا ما قد يكشفه مستقبل البحث، وكل آت قريب ولا أتنبأ بالنتيجة قبل وقتها.

وكنت راغبا في بحثي هنا أن احصل على نتيجة حاسمة قبل الدخول في تفسير حوادث السقيفة، بل قبل الدخول في البحث عن النص على الامام بعد النبي في هذا الفصل، ولكني هنا وجدت هذه المسائل متداخلة بعضها آخذ برقاب بعض.

ومع ذلك أجد بامكاني أن أضع تقريرا يقرب من التفكير الصحيح مع الاعراض عما يقوله الطرفان في هذا الشأن، مستعينا بما تقدم في الابحاث السابقة، فهل تعيرني تفكيرك لحظة.

لاحظ انك لا تشك وانا معك ان النبي ما فاه ولا ببنت شفة عن قاعدة انعقاد الامامة باختيار أهل الحل والعقد، مع ان الواجب يدعو للبيان الصريح، كما قلنا آنفا، فلماذا سكت عن ذلك؟.

أكان إهمالا وتوريطا للمسلمين في الخلاف والنزاع، او أنه لم يشرع مثل هذا التشريع؟ والثاني هو الاقرب للصحة. وعليه فما قيمة الاجماع إن تم مع علمنا بان هذا الامر ليس من الدين ولم يشرعه الله على لسان نبيه، على أنا وجدنا في

٥٠

ابحاثنا السالفة ان البرهان الصحيح يقودنا الى الاعتراف بفساد هذا التشريع، فنعلم بنتيجة ان النبي لم يشرعه لأمته، فلا بد ان نتهم الاجماع المدعى باحدى التهم المتقدمة.

هذا من جهة ومن جهة اخرى، انا لا أدري أن هؤلاء الذين اقدموا على الاجتماع في السقيفة لعقد البيعة بدون مشورة من جميع الموجودين في المدينة وغيرهم على أي سناد استندوا وبأية حجة اجتمعوا.

والمفروض ان لاحجة إلا الاجماع، وهو على فرضه بعد لم ينعقد على صحة عملهم؟ فهذا العمل من أساسه كان بغير حجة قائمة ولا بينة واضحة، ولذا قال عمر لسعد بن عبادة: (اقتلوه قتله الله إنه صاحب فتنة).

فلأي شيء استحق القتل ولم يكن يدعو إلا الى نفسه كما دعا غيره؟ ولماذا كان صاحب فتنة؟ ليس إلا لأن دعوته من غير حجة قائمة. وإذا كان قد ثبت من النبي صحة انعقاد الخلافة بأختيار أهل الحل والعقد، ويكتفي بمثل القوم الذين اجتمعوا في السقيفة يومئذ فلم يكن قد دعا سعد إلا الى ما هو مشروع لا يستحق عليه قتلا ولا غضباً.

أما النص المروي: (الأئمة من قريش) فلم يكن معروفاً عند المهاجرين يومئذ او أنهم لم يريدوا ان يعرفوه، ولذا لم يستدلوا له ذلك اليوم، بناء على ما هو الصحيح وإنما

٥١

استدل الخليفة أبو بكر بالقرابة من الرسول وان العرب لا تعرف هذا الأمر إلا بهذا الحي من قريش.

٧ - النص على أبي بكر

لم نتوقف فيما مضى للاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو كل نصب الامام الى اختيار الامة، أو أهل الحل والعقد منهم خاصة... وهنا نبحث عما إذا كان قد عين شخص الامام بعده، فمن هو هذا الامام؟

أصحيح انه هو (أبو بكر)؟ يقطع الباحث ان الأحاديث المروية في النص عليه موضوعة إذا كان يفهم منها النص المدعي وليس أدل على ذلك مما ثبت من تصريحاته نفسه، ولا سيما عندما تمنى قبيل موته ان يسأل عن أشياء ثلاثة ترك السؤال عنها، أحدها أمر الخلافة انه فيمن حتى لا ننازع أهله. ثم من تصريحات خليفته عمر بن الخطاب لا سيما عندما دنت منه الوفاة فصرح ان النبي لم يستخلف. ثم من تصريحات عائشة (وهي المدافعة والمنفحة عن أبيها وقد قامت بقسط وافر من تأييده وتثبيت خلافته) فنفت الاستخلاف لما سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف.(١)

______________________________

(١) ومن الغريب اعتذار ابن حزم: (ان هذا الأثر خفي على عمر كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله كالاستيذان وغيره، أو أنه أراد استخلافا بعهد مكتوب، ونحن نقر ان استخلافه لم يكن بعهد مكتوب. وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك ايضاً... ). ولئن خفي هذا الأمر على عمر وعائشة فعلى غيرهما اخفى واخفى، على ان جمله ارادتها للعهد المكتوب فابعد وابعد.

٥٢

ويكفينا لعدم الوثوق بهذا النص المدعى أن نطلع على مجرى حادث السقيفة، ونعرف استدلال من استدل على صحة بيعته بالاجماع. أولا تراه نفسه يوم السقيفة كيف قدم للبيعة عمر وأبا عبيدة، فقال : (قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين). أتراه كان لا يعلم بالنص عليه، أو كان عالماً به ولكنه أعرض عنه؟ لا شيء منهما يصح أن يقال.

ولا شيء أوضح من خطبته يومئذ إذ يقول فيها: (ان العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب داراً ونسباً).

بل لو كان نص عليه لما كانت العرب تعرف هذا الأمر إلا لشخصه بنص صاحب الرسالة. وليس المقام مقام حياء من الدعوة الى نفسه.

وعندي لا شيء أوضح من وضع الأحاديث في النص

٥٣

عليه وأجد ان الذي ألجأ الى وضعها ان من وضعوها بعد ان ضاقوا ذرعاً بالاستدلال على خلافته بالاجماع، مما وجدوه من مخالفة من خالف ممن لا يمكن اهمال شأنهم. وهذا هو التعصب الذي يحمل صاحبه على الكذب والاختراع، فيقف حجر عثرة دون وصول طالب الحقيقة الى هدفه، ويجعل النفس لا تثق بكل ما يرويه هذا المتعصب فيما يخص معتقده، بل في كل شيء.

* * *

أما قضية تقديمه للصلاة فان صحت (وهي صحيحة بمعنى انه صلى بالمسلمين)، فليس فيها اية اشارة الى تعيينه للخلافة، فضلا عن النص، لأن الامامة في الصلاة ليست بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلا لمن له الامامة، ولا سيما على مذهب اهل السنة، وكان ائمام المسلمين بعضهم ببعض مما اعتادوا عليه، وشاع يومئذ بينهم بترغيب النبي فيه، فقد ورد(١) ان ابا بكر صلى بالناس من دون إذن النبي صلى الله عليه وآله لما ذهب الى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.

ولا اعتقد بصحة ما يروى ان النبي هو الذي قدمه للصلاة وانه صلى أياما، لأن ابا بكر كان من جيش اسامة من غير شك وسيأتي وقد نهى النبي عن التخلف عنه،

______________________________

(١) راجع صحيح البخاري ١ : ٨.

٥٤

وشدد في الاسراع بانفاذه، فكيف يجتمع هذا مع تقديم النبي له للصلاة مدة مرضه؟

نعم الثابت انه صلى صلاة واحدة وهي صلاة الغدير يوم الأثنين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وقبل ان يتمها خرج صاحب الرسالة يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان الأرض من الوجع فصلى بالناس صلاتهم وتأخر ابو بكر. فان عائشة هي التي روت امر النبي بتقديمه لا غيرها، وانها راجعته في ذلك حتى قال لها غاضبا: (انكن لأنتن صواحب يوسف) وهي نفسها تروي خروجه في نفس تلك الصلاة(١) . وكان خروجه بهذه الحال الى الصلاة يوم وفاته وهو يوم الأثنين.

ولو ان النبي كان قدمه للصلاة اشارة الى خلافته، فلماذا خرج بهذه الحال المؤلمة، وصلى بالناس صلاة المضطرين جالسا؟

ولا معنى ما يقال: (انه صلى ابو بكر بصلاة النبي وصلى الناس بصلاة ابي بكر) فمن هو الامام اذن ؟ ان كان أبا بكر فلم يكن قد صلى بصلاة النبي، وان كان النبي فلم تكن الناس قد صلت بصلاة أبي بكر، وتأويله ان صح ان النبي جالسا فلا يرون شخصه وكان مريضا فلا يسمعون

______________________________

(١) صحيح البخاري (١ : ٧٨و٨٤ في حديثين). وصحيح مسلم في باب استخلاف الامام اذا عرض له من كتاب الصلاة.

٥٥

صوته، فكانت الناس تعرف ركوعه وسجوده بصلاة أبي بكر الذي كان بازائه لما تأخر عن مقامه.

والأحاديث مضطربة في هذا الباب ، مع أن أكثرها عن عائشة ام المؤمنين واختلافها الجوهري في ستة امور:

١ - (في علاقة عمر بالصلاة) فيذكر بعضها ان النبي قال: (مروا عمر) بعد مراجعة عائشة عن أبيها فأبي عمر وتقدم أبو بكر وبعضها ذكر انه أبتداء أمر عمر، فقال عمر لبلال قل له ان أبا بكر على الباب. وحينئذ أمر أبا بكر. وبعضهم ذكر انه اول من صلى عمر بغير اذن النبي فلما سمع صوته قال : (يأبى الله ذلك والمؤمنون) وفي بعضها انه أمر أبا بكر ان يصلي نفس الصلاة التي صلاها عمر بالناس، وفي بعضها صلى عمر وكان ابو بكر غائبا. وفي بعضها ان النبي أمر أبا بكر وأبو بكر قال لعمر صل بالناس فامتنع.

٢ - (في من أمره النبي ليأمر ابا بكر)، فبعضها تذكر عائشة ، وبعضها بلالا، وبعضها عبد الله بن زمعة.

٣ - (فيمن راجعه في أمر أبي بكر)، فبعضها تذكر عائشة وحدها راجعته ثلاث مرات أو أكثر، وبعضها تذكر عائشة راجعته ثم خالت لحفصة فراجعته مرة أو مرتين ، فلما زجرها النبي قالت لعائشة: ( ما كنت لأصيب منك خيراً).

٥٦

٤ - ( في الصلاة المأمور بها)، فبعضها يخصها بصلاة العصر وبعضها بصلاة العشاء، والثالث بصلاة الصبح.

٥ - (في خروج النبي)، فبعضها تذكر انه خرج وصلى ، واخرى تقول أخرج رأسه من الستار والناس خلف ابي بكر ثم القى الستار ولم يصل معهم.

٦ - (وفي كيفية صلاة النبي بعد الخروج)، فيذكر بعضها انه ائتم بأبي بكر بعد أن دفع في ظهره ومنعه من التأخر. وبعضها ان أبا بكر تأخر وائتم بالنبي. وبعضها ان ابا بكر صلى بصلاة النبي والناس بصلاة ابي بكر. وبعضها ان النبي ابتدأ بالقراءة من حيث انتهى ابو بكر.

٧ - (في جلوس النبي الى جنب ابي بكر) فبعضها تذكر جلوسه الى يساره، وبعضها الى يمينه.

٨ - (في مدة صلاة ابي بكر)، فبعضها تجعلها طيلة مرض النبي، واخرى تخصها بسبع عشر صلاة، وثالثة بثلاثة أيام، ورابعة بستة، ويظهر من بعضها انه صلى صلاة واحدة.

٩ - (في وقت خروج النبي الى الصلاة)، فبعضها صريحة في انه خرج لنفس الصلاة التي امر بها ابا بكر، وبعضها صريحة في انه خرج لصلاة الظهر بعد صلاة ابي بكر اماما، وبعضها صريحة في خروجه لصلاة الصبح.

٥٧

وهذه الاختلافات كما رأيت في جوهر الحادثة. ولم يظهر من الأخبار تعدد امر النبي له بالصلاة ولا تعدد خروجه. وهذا كله يذهب بالاطمئنان بتصديقها في خصوصيات الحادثة لا سيما فيما يتعلق بأمر النبي له، نعمُ يعلم منها شيء واحد على الاجمال هو صلاة ابي بكر بالناس قبل خروج النبي.

ولعل أبا بكر كان مخدوعا في تبليغه أمر النبي، كما جاء في الحديث ان عبد الله بن زمعة خدع عمر بن الخطاب فبلغه أمر النبي له بالصلاة.

واحسب ان اصل الواقعة ان النبي صلى الله عليه وآله أمر الناس بالصلاة لما تعذر عليه الخروج من دون ان يخص احداً بالتقديم، فتصرف متصرف ، وتأول متأول. ولما بلغ ذلك اسماع النبي التجأ ان يخرج يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان الأرض من الوجع، فصلى بالناس جالسا صلاة المضطرين، ليكشف للناس هذا التصرف الذي استبد به عليه.

واستغرب توبيخه لعائشة لما راجعته عن أبيها إذ قال لها: (انكن لأنتن صواحب يوسف). لماذا هذا التوبيخ القارص؟ وأي شيء صنعته تستحق به هذا اللوم؟ ألا أنها ضنت على أبيها بهذه الكرامة، فلئن لم تستحق المدح فعلى الأقل لا تستحق مثل هذا التوبيخ.

ومن هنا يتطرق الشك ايضا في صحة تقديم النبي لأبي

٥٨

بكر، ويبدو أنه كان من أمرها وتدبيرها، فلذا وجهت اليها هذه الكلمة اللاذعة، لا لمراجعة هناك. ولا شك انها ترغب لأبيها كل فضيلة وتلزه لزاً. ولذا التجأت ان تعتذر عن مراجعتها المستغربة منها التي ادعتها بانها انما كانت تحب ان يصرف عن أبيها لأنها رأت ان الناس لا يحبون رجلا قام مقام النبي ابداً وانهم سيتشأمون به في كل حدث كان.

ألا تراها كيف بعثت الى ابيها تدعوه لما بعث النبي الى علي يدعوه ليوصيه، وكذلك صنعت حفصة لأبيها، ولكن النبي لما رآهم قد اجتمعوا أمرهم بالانصراف وقال: (فإن تك لي حاجة ابعث اليكم)(١) وهذا قول من عنده ضجر وغضب باطن.

والنتيجة: انه ليس هناك ما يستحق ان يسمى نصا ، ولا اشارة الى خلافة ابي بكر.

٨ - النص على علي بن أبي طالب

اذن، أفصحيح ما تقوله الشيعة من النص على علي عليه السلام؟ ايها القارئ! بودي ان يكون حياديا، فلا تنظر الى ما تقوله الشيعة عن هذا الرجل إلا بتقزز، حتى لا اكلفك

______________________________

(١) الطبري (٣ : ١٩٥).

٥٩

بالرجوع الى كتبهم واخبارهم. وانا معك الان سأطرحها جانبا. وما يدرينا لعل حبهم وتعصبهم لصاحبهم يسوقانهم الى القول عنه بما لم يكن، كما ساق أهل السنة الى رواية النص على أبي بكر. فلنأخذ حذرنا من الان.

وبعد هذا اترانا نحذر من مؤلفات اهل السنة وصحاحهم في حق علي، وهم ان تعصبوا فعليه، لا له؟ كلا؟ فان الكثير من محدثيهم يحذرون كل الحذر من رواة مدحه وفضائله، فيقدح المؤلف منهم في الراوي الذي تشم منه رائحة الميل اليه، ويرسلون الطعن في الحديث ارسالا فيقولون: (وفي متنه غرابة شديدة)، وليس إلا لأنه لا يتفق وعقيدته ويكفي في الثقة بالمحدث ان يكون ممن يميل عنه كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمران بن حطان وامثالهم.

وقبل ذلك نجد سيوف بني أمية مسلولة على رؤس الرواة لئلا ينسبوا فضيلة لهذا الذي ناصبوه العداء وسنّوا سبّه على المنابر والمعابر. ونجدهم كيف كانوا يغدقون بالاعطيات على الطاعنين فيه والمنحرفين عنه.

ولذا تراني اطمئن كل الاطمئنان وانت معي لا شك الى كل حديث خلص من هذه العقبات، واستطاع ان يطلع رأسه من بين الأحاديث ظافرا بالصحة والتأييد، فسجلته كتب اهل السنة وصحاحهم في فضل علي والنص على خلافته، ومع هذا فستجدني لا اعتمد إلا على بعض

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

عقائد الوهابية

٤

حرمة التوسّل بالأنبياء والصالحين

يعتبر التوسّل بأولياء الله وأحبّائه من المسائل المعروفة بين المسلمين في أنحاء العالم كافّة، وقد وردت أحاديث كثيرة في جوازه واستحبابه، فهو ليس ظاهرة غريبة؛ بل هو أمر ديني تعارف عليه المسلمون منذ فجر الإسلام حتّى هذا اليوم، ولا تجد مسلماً ينكره.

وطوال أربعة عشر قرناً لم ينكره أحد سوى ابن تيميّة وتلاميذه في القرن الثامن الهجري، وبعد قرنين جاء محمّد بن عبد الوهّاب فاعتبر التوسّل بأولياء الله بدعة تارة وعبادة للأولياء أُخرى.

فنقول: إنّ القرآن الكريم حثّ المسلمين على الإتيان إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وطلب الاستغفار منه، وهو نوع توسّل بدعاء النبيّ في حياته، قال سبحانه: ( وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ) (١) .

____________________

(١) النساء: ٦٤.

٣٢١

وقال سبحانه: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رُسُولُ اللّهِ لَوّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

وقال سبحانه ناقلاً عن أبناء يعقوب: ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ ) (٢) .

ولأجل هذا قبل الوهّابيّون التوسّل بدعاء النبيّ في حال حياته، وإنّما يمنعون موردين آخرين:

١ - التوسّل بدعاء النبيّ بعد رحيله.

٢ - التوسّل بذات النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وجاهه وحرمته مطلقاً، سواء أكان النبيّ حيّاً أم ميّتاً.

وليس لهم دليل صالح على المنع، مع أنّ الأدلّة تؤيّد كلا التوسّلين، فإليك دراسة التوسّل بمقام النبيّ وذاته وجاهه وحرمته، ثُمَّ دراسة التوسّل بدعاء النبيّ بعد رحيله.

التوسّل بذات النبيّ ومنزلته:

إنّ الدعاء الّذي علّمه النبيّ للضرير جاء فيه التوسّل بذات النبيّ وقدسيّته، والحديث من الأحاديث الصحاح الّتي اعترف بها حتّى ابن تيميّة.

روى عثمان بن حنيف أنّه قال:

____________________

(١) المنافقون: ٥.

(٢) يوسف: ٩٧.

٣٢٢

إنّ رجلاً ضريراً أتى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: ادع الله أن يعافيني.

فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرتَ وهو خير».

قال: فادعه!، فأمره (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يتوضّأ فيحسن وضوءه، ويصلّي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء:

«اللَّهُم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللّهم شفّعه فيّ».

قال ابن حنيف: والله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث، حتّى دخل علينا كأنّه لم يكن به ضر. (١)

إنّ دلالة الحديث على أنّ النبيّ أمر الضرير أن يتوسّل بنفس النبيّ، وفي الحقيقة أنّ حرمته ومكانته عند الله واضحة، وإليك بيانها:

١ - (اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك):

إنّ كلمة (بنبيّك) متعلّقة بفعلين: (أسألك) و(أتوجّه إليك)، والمراد من النبيّ نفسه المقدّسة وشخصه الكريم، لا دعاؤه.

إنّ من يقدّر كلمة (دعاء) قبل لفظ (نبيّك) ويصوّر أنّ المراد: أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك، فهو يتحكّم بلا دليل، ويؤوّل بلا جهة، ولو أنّ محدّثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهميّة والقدريّة.

____________________

(١) سنن ابن ماجة: ١/٤٤٤، برقم ١٣٨٥، مسند أحمد: ٤/١٣٨.

٣٢٣

٢ - (محمّد نبيّ الرحمة):

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من الله بواسطة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وشخصه جاء بعد كلمة (نبيّك) جملة (محمّد نبيّ الرحمة)، لكي يتّضح الهدف بأكثر ما يمكن.

٣ - (يا محمّد إنّي أتوجّه إلى ربّي):

إنّ هذه الجملة تدلّ على أنّ الرجل اتّخذ النبيّ نفسه وسيلة لدعائه، أي انّه توسّل بذات النبي لا بدعائه.

٤ - (وشفّعه فيّ):

قوله هذا معناه: يا ربّ اجعل النبيّ شفيعي وتقبّل شفاعته في حقّي، وليس معناه تقبل دعاءه في حقّي.

التوسّل بدعاء النبيّ والصالحين بعد رحيلهم:

من أقسام التوسّل الرائجة بين المسلمين هو التوسّل بدعاء النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو الصالحين بعد رحيلهم.

ولكن ثمّة سؤالاً يطرح نفسه، وهو:

إنّ التوسل بدعاء الغير إنّما يصحّ إذا كان الغير حيّاً يسمع دعاءك ويستجيب لك ويدعو الله سبحانه لقضاء وطرك ونجاح سؤالك، أمّا إذا كان

٣٢٤

المستعان به ميّتاً، فكيف يصحّ التوسّل بمن انتقل إلى رحمة الله وهو لا يسمع؟

والجواب: إنّ الموت - حسب ما يوحي به القرآن والسنّة النبويّة - ليس بمعنى فناء الإنسان وانعدامه؛ بل معناه الانتقال من دار إلى دار، وبقاء الحياة بنحو آخر والّذي يعبّر عنه بالحياة البرزخيّة.

وقد استوفينا الكلام في هذا الموضوع من كتابنا (بحوث قرآنيّة في التوحيد والشرك). (١)

____________________

(١) بحوث قرآنيّة في التوحيد والشرك: ١١٦.

٣٢٥

عقائد الوهابية

٥

حرمة طلب الشفاعة من النبيّ

اتّفقت الأُمّة الإسلاميّة على أنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق به الكتاب والسنّة النبويّة وأحاديث العترة الطاهرة، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين وإن اختلفوا في بعض خصوصيّاتها.

وأجمع العلماء على أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أحد الشفعاء يوم القيامة، إلاّ أنّ الكلام في المقام هو في طلب الشفاعة من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهل يجوز أن نقول: يا رسول الله اشفع لنا عند الله، كما يجوز أن نقول اللّهم شفّع نبينا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فينا يوم القيامة، أو لا يجوز؟

فلنذكر نصّ محمّد بن عبد الوهّاب في هذا الصدد:

إنّ طلب الشفاعة يجب أن يكون من الله لا من الشفعاء بأن يقول:

اللّهم شفّع نبيّناً محمّداً فينا يوم القيامة، أو اللّهم شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك أو نحو ذلك ممّا يُطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو يا وليّ الله أسألك الشفاعة أو غيرها ممّا لا يقدر عليه إلاّ الله، فإذا طلبت ذلك في أيّام البرزخ كان ذلك من أقسام الشرك. (١)

____________________

(١) الهديّة السنية: الرسالة الثانية: ٤٢.

٣٢٦

يلاحظ عليه: أنّ شفاعة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وسائر الشفعاء هي الدعاء إلى الله وطلب المغفرة منه سبحانه للمذنبين، والله سبحانه أذن لهم في الدعاء في ظروف خاصة، فيستجاب فيما أذن، وهم لا يدعون في غير ما أذن الله لهم.

وعلى هذا فالشفاعة هي دعاء الشفيع للمذنب، وطلب الشفاعة منه هو طلب الدعاء منه، وقد سمّي في الأحاديث: دعاء المسلم لأخيه المسلم شفاعة له.

هذا هو انس بن مالك يقول: سألتُ رسول الله يشفع لي يوم القيامة قال: «أنا فاعل...» (١) . ولو كان طلب الشفاعة شركاً، لزجره عنه.

روى مسلم في صحيحه، عن ابن عبّاس، عن النبيّ، أنّه قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله إلاّ شفّعهم الله فيه». (٢)

دليل الوهّابيّين على حرمة طلب الشفاعة:

قد مرّ آنفاً أنّ طلب الشفاعة ليس إلاّ طلب الدعاء من الشفيع الّذي تُستجاب دعوته إذا أذن الله سبحانه، غير أنّ للوهّابيّين شبهة ربَّما يغترّ بها البسطاء؛ وهي أنّ المشركين كانوا يطلبونها من أصنامهم، فسمّى الله طلب الشفاعة منهم عبادة لهم، فيكون طلب شفاعة المسلم من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عبادة له، يقول سبحانه: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ إِتُنَبّؤُنَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعلَمُ فِي السّماوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (٣) .

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر: ٩/٣٦٠، لاحظ ذيل الحديث.

(٢) صحيح مسلم: ٣/٥٤.

(٣) يونس: ١٨.

٣٢٧

والشاهد في قوله: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ) ، مع ملاحظة ما في ذيل الآية: ( وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) ، وكان وجه عبادتهم لهم هو قولهم: ( هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا ) . (١)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ظاهر الآية أنّهم كانوا يقومون بأمرين:

أ - كانوا يعبدونهم؛ ويدلّ عليه قوله: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ) .

ب - يعتقدون بشفاعتهم، وبالتالي يطلبون منهم الشفاعة؛ ويدلّ عليه قوله ( وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا ) .

والعطف يدلّ على المغايرة؛ بمعنى أنّ هنا عبادة، وأنّ هناك أمراً آخر وهو طلب الشفاعة، فما هذا الخلط؟!

والحاصل: إنّ عبادتهم للأوثان شيء وطلب الشفاعة شيء آخر، وإلاّ لما عَطف الثانية على الأُولى.

وثانياً: نفترض أنّ عبادتهم للأوثان كانت متحقّقة بطلب الشفاعة منهم، ولكن هناك فرق بين طلب شفاعة المشرك من الأوثان وطلب شفاعة المسلم من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فالمشرك كان يطلب الشفاعة من الوثن معتقداً بأنّه إله فُوِّض إليه أمر الشفاعة، وأمّا المسلم فكان يطلب الشفاعة معتقداً بأنّ النبيّ عبد مقرّب تستجاب شفاعته إذا أذن الله.

أفهل يمكن جعل القسمين على حدٍّ سواء؟!

____________________

(١) مجموعة الرسائل والمسائل: ١/١٥.

٣٢٨

عقائد الوهابية

٦

حرمة النذر للأنبياء والأولياء

ذهبت الوهّابيّة تبعاً لابن تيميّة إلى حرمة النذر للأنبياء والأولياء؛ يقول ابن تيميّة: وإذا كان الطلب من الموتى - ولو كانوا أنبياء - ممنوعاً خشية الشرك، فالنذر للقبور أو لسكان القبور نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان. (١)

أقول: يجب تفسير النذر شرعاً كي يتّضح الفرق بين نذر المشركين للأوثان والأصنام ونذر المسلمين للأنبياء والأولياء، فالمشابهة بينهما مشابهة لفظيّة وبينهما بون شاسع، فالنذر معناه أن يلزم الإنسان نفسه بأداء شيء معيّن إذا تحقّق هدفه وقُضيت حاجته، فيقول: لله عليَّ أن... ويذكر نذره إذا كان... ويذكر حاجته.

مثلاً يقول: لله عليَّ أن أختم القرآن إذا نجحت في الامتحانات الدراسيّة.

هذا هو النذر الشرعي، ويجب أن يكون لله فقط، فإذا قال الناذر: نذرت لفلان، ففي قوله مجاز، والمعنى: نذرت لله على أن يكون ثوابه لفلان، وثواب النذر يقع على ثلاثة أقسام:

____________________

(١) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ١٠٣.

٣٢٩

١ - أن يكون الثواب لنفس الإنسان الناذر.

٢ - أن يكون لشخص حيّ.

٣ - أن يكون لشخص ميّت.

فقد يخصّص الإنسان الناذر ثواب نذره لنفسه، أو لشخص حيّ - واحد كان أو أكثر ـ، أو لشخص ميّت واحد كان أو أكثر.

وهذه الأقسام الثلاثة كلّها جائزة، ويجب على الناذر الوفاء بنذره إذا قُضيت حاجته.

وقد تعارف بين المسلمين النذر لله وإهداء ثوابه لأحد أولياء الله وعباده الصالحين.

وهذه السيرة موجودة عبر القرون إلى يومنا هذا، ولم يقدح فيها إلاّ ابن تيميّة ومن تبعه؛ محتجّاً بأنّ عمل المسلمين كعمل المشركين، يقول ابن تيميّة:

من نذر شيئاً للنبيّ أو غيره من النبيّين والأولياء من أهل القبور، أو ذبح ذبيحة، كان كالمشركين الّذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها، فهو عابد لغير الله، فيكون بذلك كافراً. (١)

يُلاحظ عليه: وجود الفرق بين النذرين، فإنّ المشركين ينذرون للأصنام والأوثان فيكون المنذور له هو آلهتهم المزعومة، وأمّا المسلمون فإنّما ينذرون لله سبحانه؛ فيقول الناذر: لله عليَّ إن نجحت في امتحاني أن أذبح شاة للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، واللاّم في قوله (لله) يقصد بها وجه الله سبحانه، وأمّا اللاّم في قوله للنبيّ يقصد بها انتفاع النبيّ بإهداء ثوابه إليه، وابن تيميّة زعم أنّ اللاّم في قوله للنبيّ نفسها اللاّم

____________________

(١) فرقان القرآن، العزامي: ١٣٢.

٣٣٠

في قوله لله، ولم يفرّق بين المضمونين، وأنّ اللام في الأوّل للغاية وفي الثاني للانتفاع، وقد ورد في الحديث أنّ سعداً سأل النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): أيُّ الصدقة أنفع يا رسول الله؟، فقال:«الماء».

فحفر بئراً، وقال: هذه لأُمّ سعد. (١)

واللاّم في قوله: (هذه لأُمّ سعد) هي اللاّم الداخلة على الجهة الّتي وجّهت إليه الصدقة، لا على المعبود المتقرَّب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين فهم سعديّون لا وثنيّون.

يقول الخالدي ردّاً على ابن تيميّة: إنّ المسألة تدور مدار نيّات الناذرين، وإنّما الأعمال بالنيّات، فإن كان قصد الناذر الميّت نفسه، والتقرّب إليه بذلك، لم يجز - قولاً واحداً، وإن كان قصده وجه الله تعالى وانتفاع الأحياء - بوجه من الوجوه - به، وإهداء ثوابه لذلك المنذور له - وسواء عيّن وجهاً من وجوه الانتفاع أو أطلق القول فيه، وكان هناك ما يطرد الصرّف فيه في عرف الناس، أو أقرباء الميت، أو نحو ذلك - ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور. (٢)

ومن وقف على أحوال الناذرين يجد أنّهم ينذرون لله تعالى ولرضاه ويذبحون الذبائح باسمه عزّ وجلّ، لكن بهدف انتفاع صاحب القبر بثوابها وانتفاع الفقراء بلحومها، فلو قالوا: هذا نذر للنبيّ؛ أيّ هذا النذر لله سبحانه لغاية انتفاع النبيّ به بإهداء ثوابه إليه، فاللاّم في قوله للنبيّ كاللاّم في قوله: ( إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ) (٣) .

____________________

(١) سنن أبي داود: ٢/١٣٠ برقم ١٦٨١، باب في فضل سقي الماء.

(٢) صلح الإخوان، الخالدي: ١٠٢.

(٣) التوبة: ٧٠.

٣٣١

عقائد الوهابية

٧

حرمة التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين

تعتقد الوهّابيّة بأنّ التبرّك بآثار أولياء الله شرك بالله، وتعتبر الّذي يُقّبل محراب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومنبره مشركاً وإن لم يأت بذلك بنيّة العبادة؛ بل كانت المحبّة والمودّة تجاه النبيّ الكريم هي الدافع له إلى التبرّك والاستشفاء بآثاره (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

إنّ المنع من التبرّك بآثار الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتقبيل ضريحه المقدّس ومنبره الشريف هو من أشدّ الإجراءات الّتي يتّخذها الوهّابيّون ضدَّ المسلمين، وقد استخدموا مجموعة من الشرطة الإرهابيّين باسم (الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر) ووزّعوهم في مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للحيلولة دون تقبيل ضريحه المقدّس ومنبره الشريف ومحراب مسجده المبارك، وهؤلاء الوهّابيّون يواجهون المسلمين الحجّاج بكلّ خشونة وصلافة ويمنعونهم عن التبرّك والتقبيل، وطالما أمسكوا بأيديهم العصا أو الأسلاك الغليظة، وطالما أراقوا في هذا السبيل دماء الأبرياء وهتكوا الأعراض والنواميس في حرم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) زعماً منهم أنّ التبرّك والتقبيل عبادة لصاحب القبر!!

٣٣٢

القرآن والتبرّك:

إنّ النبيّ يوسف (عليه السّلام) أرسل قميصه إلى أبيه، وقال لإخوته: اذهبوا بقميصي هذا وأُلقوه على وجهه يرتدّ بصيراً. يقول سبحانه حاكياً عن النبيّ يوسف: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) (١) .

ثُمَّ يقول: ( فَلَمّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى‏ وَجهِهِ فَارْتَدّ بَصِيراً ) (٢) .

فالآية صريحة بجواز التبرّك بآثار الأنبياء والأولياء حتّى لنبيّ آخر، فهذا النبيّ يعقوب يتبرّك بقميص النبيّ يوسف (عليه السّلام)، ومن الواضح أنّ الشفاء من الله سبحانه، فهو المؤثّر في الأشياء، إلاّ أنّ التبرّك بالقميص صار وسيلة للشفاء كما يكون الدواء كذلك بإذن الله تعالى.

التبرّك وسيرة المسلمين:

إنّ إلقاء نظرة سريعة على سيرة المسلمين بدءاً من الصحابة وانتهاءً إلى عصرنا الحاضر يكشف لنا عن السنّة الجارية بينهم، وهي التبرك بآثار النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الشريفة.

قال ابن حجر: كلّ مولود ولد في حياة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يُحكم بأنّه رآه. وذلك لتوفّر دواعي إحضار الأنصار أولادهم عند النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للتحنيك والتبرّك، حتّى قيل: لمّا افتُتحت مكّة جعل أهل مكّة يأتون إلى النبيّ بصبيانهم ليمسح على رؤوسهم ويدعو لهم بالبركة. (٣)

____________________

(١) يوسف: ٩٣.

(٢) يوسف: ٩٦.

(٣) الإصابة: ٣/٦٣١.

٣٣٣

إنّ النهي عن التبرّك بالضريح النبويّ الطاهر وآثار رسول الله كان من دأب الأمويّين، لا سيّما مروان بن الحكم اللّعين ابن اللّعين على لسان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

أخرج الحاكم في (المستدرك) عن داود بن صالح، قال:

أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته ثُمَّ قال: هل تدري ما تصنع؟، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: نعم، إنّي لم آت الحجر؛ إنّما جئت رسول الله ولم آت الحجر، سمعت رسول الله يقول: «لا تبكوا على الدِّين إذا وليه أهله، ولكن أبكوا على الدِّين إذا وليه غير أهله». (١)

هذا وقد نقل عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألته عن الرجل يمسّ منبر النبيّ ويتبرّك بمسّه ويقبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا، يريد بذلك التقرّب إلى الله عزّ و جلّ، فقال: لا بأس بذلك. (٢)

وقد روى ابن تيميّة في (الجواب الباهر) تقبيل منبر النبيّ عن ابن عمر. (٣)

روى أبو بكر بن أبي شيبة في (المصنّف)، عن زيد بن الحباب، قال: حدّثني أبو مودود، قال: حدّثني يزيد بن عبد المطلب بن قسيط، قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك. (٤)

____________________

(١) المستدرك: ٤/٥١٥.

(٢) العلل ومعرفة الرجال: ٢/٤٩٢، برقم ٣٢٤٣.

(٣) الجواب الباهر: ٣١.

(٤) المصنف: ٤/٣٥٧، برقم ٥٣٧، باب في مسّ منبر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

٣٣٤

إلفات نظر:

إنّ محقّق كتاب (العلل ومعرفة الرجال) لمّا كان من المتحمّسين لآراء ابن تيميّة ورأى أنّ ما نقله عن ابن شيبة يمسّ كرامة إمام مسلكه حاول أن يفسّر الرواية على نحو لا يمسّ كرامة المذهب؛ فقال:

وهذا [قوله: تقبيل رمّانة المنبر] كان لمّا كان منبره الّذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لا يقال بمشروعيّة مسحه تبرّكاً به.

وأمّا جواز مسح قبر النبيّ والتبرّك به، فهذا القول غريب جداً، لم أجد أحداً نقله عن الإمام.

وقال ابن تيميّة في الجواب الباهر لزوّار المقابر: اتّفق الأئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ ولا يقبّل، وهذا كلّه محافظة على التوحيد.

يلاحظ عليه: أوّلاً: إنّ التفريق بين المنبرين: المنبر الّذي لامس جسمه الشريف والمنبر الّذي لم يلامسه يُضادّ أُصول الوهّابيّة، فإنّهم لا يرون لما سوى الله سبحانه تأثيراً وعلّية وما شابه ذلك، فلو قلنا بأنّ لجسمه الشريف الملامس للمنبر تأثيراً في المنبر فهو على طرف النقيض من توحيد الربوبيّة.

و ثانياً: لو كان التبرّك منوطاً بملامسة جسم النبيّ فلماذا وصّى الشيخان بدفنهما في حجرة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، مع أنّ القبر الّذي دُفنا فيه لم يمسّ بترابه جسم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

و ثالثاً: كيف ينكر مسّ قبر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويقول: اتّفق الأئمّة على أنّه لا

٣٣٥

يُمسّ قبر النبيّ ولا يُقبّل، مع أنّ الصحابي العظيم مضيف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان

يمسّ قبر النبيّ على رؤوس الأشهاد، وقد منع عنه مروان بن الحكم مناوئ النبيّ وأهل بيته.

٣٣٦

عقائد الوهابية

٨

حرمة تكريم مواليد أولياء الله ووفيّاتهم

إنّ من المنكرات والبدع عند ابن تيميّة وابن عبد الوهّاب هو تكريم مولد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالاحتفال وقراءة القرآن وإنشاد القصائد والأشعار، والإحسان إلى المؤمنين بالإطعام، إلى غير ذلك ممّا يُعدّ مجالي لحبّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتكريمه ورفعه، كما رفعه الله سبحانه، وقال: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (١) .

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:

وقد أحدث هؤلاء المشركون أعياداً عند القبور الّتي تُعبد من دون الله، ويسمّونها عيداً كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم لِمَا يوجد فيها من الشرك والمعاصي العظيمة. (٢)

وقال محمد حامد الفقّي: والمواليد والذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء، هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم. (٣)

إنّ السبب الرئيسيّ من وراء كلّ هذه الانحرافات هي أنّ الوهّابيّين لم

____________________

(١) الانشراح: ٤.

(٢) قرّة العيون: ١٥٤.

(٣) تعليق فتح المجيد: ١٥٤.

٣٣٧

يحدّدوا معنى التوحيد والشرك والعبادة حتّى الآن، وبالتالي يعتبرون كلّ تكريم لأولياء الله عبادة لهم وشركاً بالله، وحتّى أنّ المؤلف الوهّابي (الفقّي) خبط خبطة عشواء فقرن بين كلمتي العبادة والتعظيم، وقد ذكرها كأنّهما مترادفان، ظنّاً منه أنّ المعنى فيهما واحد.

فالعبادة عبارة عن التعظيم أمام من يُعتقد بألوهيّته وربوبيّته، سواء أكان خالقاً للعالم أو كان مخلوقاً لكن فُوِّض إليه تدبيره، وبكلمة موجزة، إمّا أن يكون إلهاً حقيقيّاً أو إلهاً مزعوماً فُوِّض إليه أفعال الإله الحقيقي، وأمّا احترام الإنسان بما أنّه من عباد الله الصالحين، فهو تكريم له لا عبادة؛ وإلاّ لَمَا أمكن تسجيل اسم أحد في ديوان التوحيد لو فسرنا العبادة بالتكريم والتعظيم.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين لتعظيم النبيّ؛ ويقول: ( فَالّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النّورَ الّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) . إنّ الكلمات الواردة في هذه الآية هي:

١ - ( آمَنُوا بِهِ ) .

٢ - ( عَزّرُوهُ ) .

٣ - ( نَصَرُوهُ ) .

٤ - ( اتّبَعُوا النّورَ ) .

والمراد من قوله عزّروه هو التكريم والتعظيم، فالله سبحانه يريد أن يكون

____________________

(١) الأعراف: ١٥٧.

٣٣٨

حبيبه المصطفى معظّماً ومكرّماً حتّى الأبد، وهذه الاحتفالات تجسيد لقوله سبحانه ( وَعَزّرُوهُ ) .

إنّ من أُصول الإسلام هو حبّ النبيّ، دلّت عليه الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، يقول سبحانه: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُوا حَتّى‏ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (١) .

١. وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبَّ إليه من والده وولْده والناس أجمعين». (٢)

٢. قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «والّذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبَّ إليه من والده وولْده». (٣)

٣. قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبَّ في الله ويبغض في الله، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحبّ إليه من أن يشرك بالله شيئاً». (٤)

وعلى ضوء ذلك فإقامة الاحتفالات والمهرجانات في مواليدهم، وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم، وذكر منزلتهم في الكتاب والسنّة، تجسيد للحبِّ الّذي أمر الله ورسوله به، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالحرام، ومن دعا

____________________

(١) التوبة: ٢٤.

(٢ و٣ و٤) جامع الأُصول: ١/٢٣٧ - ٢٣٨ برقم ٢٠ و٢١ و٢٢.

٣٣٩

إلى الاحتفال بمولد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في أيّ قرن من القرون فقد انطلق من هذا المبدأ؛ أي حبّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الّذي أمر به القرآن والسنّة.

هذا هو الديار بكري مؤلّف (تاريخ الخميس) يقول في هذا الصدد: لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويُظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم. (١)

وقال القسطلاني: ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم... فرحم الله امرئ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدَّ علّة على من في قلبه مرض وأعياه داء. (٢)

***

هذه هي أُمّهات عقائد الوهّابيّة وأُصولهم الّتي يتدارسوها في جامعاتهم وينشرونها بين المسلمين بجدٍّ وحماس، وقد عرفت أنّها أُصول لا أساس لها, وكلّها رؤى شخصيّة انتُزعت من الكتاب والسنّة، وليس لها لمسة من الصدق أو مسحة من الحقّ.

____________________

(١) تاريخ الخميس: ١/٣٢٣.

(٢) المواهب اللّدنيّة: ١/٢٧.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377