المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية10%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 210700 / تحميل: 9277
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

لطيفة يشير إلى العلاقة القريبة بينهما ، وهكذا كان نوحعليه‌السلام يوضح لمخالفيه أمر التوحيد بالاستدلال عن طريق نظام الخلقة ويستدل كذلك بها على المعاد.

ثمّ يعود مرّة أخرى إلى آيات الآفاق وعلامات التوحيد في هذا العالم الكبير ، ويتحدث عن نعم وجود الأرض فيقول :( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ) (١) .

ليست هي بتلك الخشونة بحيث لا يمكنكم الانتقال والاستراحة عليها ، وليست بتلك النعومة بحيث تغطسون فيها ، وتفقدون القدرة على الحركة ، ليست حارقة وساخنة بحيث تلقون مشقّة من حرّها ، وليست باردة بحيث تتعسر حياتكم فيها ، مضافا إلى ذلك فهي كالبساط الواسع الجاهز المتوفر فيه جميع متطلباتكم المعيشية.

وليست الأراضي المسطحة كالبساط الواسع فحسب ، بل بما فيها من الجبال والوديان والشقوق المتداخلة بعضها فوق البعض والتي يمكن العبور من خلالها.

( لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً ) .

«فجاج» على وزن (مزاج) ، وهو جمع فج ، وبمعنى الوادي الفسيح بين الجبلين ، وقيل الطريق الواسعة(٢) .

وبهذا فإنّ نوحعليه‌السلام يشير في خطابه تارة إلى العلامات الإلهية في السماوات والكواكب والسماوية ، وتارة أخرى إلى النعم الإلهية الموجودة في البسيطة ، وثالثة الى وجود الإنسان الذي يعتبر بحدّ ذاته دليل على معرفة الله تعالى وإثبات المعاد ، ولكن لم تؤثر أي من هذه الإنذارات والبشائر والرغائب والاستدلالات المنطقية في قلوب هؤلاء القوم المعاندين الذين استمروا

__________________

(١) بساط من أصل بسط بمعنى وبسط الشيء ، ولهذا فإنّ كلمة «بساط» تطلق على كل شيء واسع وأحد مصاديقها «البساط».

(٢) مفردات الراغب ، مادة (فج).

٦١

مخالفتهم وكفرهم ، وأخذتهم الأنفة عن الانقياد لحميد العاقبة ، وسنرى عاقبة هذا العناد في الآيات القادمة.

* * *

٦٢

الآيات

( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) )

التّفسير

لطف الله معك :

عند ما رأى نوحعليه‌السلام عناد قومه وقد بذل في سبيل هدايتهم منتهى مساعيه التي طالت مئات السنين ، وما كانوا يزدادون فيها إلّا فسادا وضلالا ، يئس منهم وتوجّه إلى ربّه ليناجيه ويطلب منه أن يعاقب قومه ، كما نقرأ في هذه الآيات محل البحث ،( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ) .

٦٣

تشير هذه الآية إلى أنّ رؤساء هؤلاء القوم يمتازون بكثرة الأموال والأولاد ، ولكنّها لا تستخدم لخدمة الناس بل للفساد والعدوان ، ولا يخضعون لله تعالى ، وهذه الامتيازات الكثيرة سببت في طغيانهم وغيهم.

وإذا ما نظرنا إلى تاريخ الإنسان لوجدنا أنّ الكثير من رؤساء القبائل هم من هذا القبيل ، من الذين يجمعون المال الحرام ، ولهم ذرّية فاسدة ، ويفرضون في النهاية أفكارهم على المجتمعات المستضعفة ، ويكبّلونهم بقيود الظلم.

ثمّ يضيف في قوله تعالى :( وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً ) .

«كبّار» صيغة مبالغة من الكبر ، وذكر بصيغة النكرة ، ويشير إلى أنّهم كانوا يضعون خططا شيطانية واسعة لتضليل الناس ، ورفض دعوة نوحعليه‌السلام ، ومن المحتمل أن يكون عبادة الأصنام واحدة من هذه الخطط والأساليب ، وذلك طبقا للرّوايات التي تشير إلى عدم وجود عبادة الأصنام قبل عصر نوحعليه‌السلام وأن قوم نوح هم الذين أوجدوها ، وذكر أنّ في المدّة الزمنية بين آدم ونوحعليهما‌السلام كان هناك أناس صالحون أحبّهم الناس ، ولكن الشيطان «أو الأشخاص الشيطانيين» عمد إلى استغلال هذه العلاقة ، وترغّبهم في صنع تماثيل أولئك الصالحين بحجّة تقديسهم وإجلالهم ، وبعد مضي الزمن نسيت الأجيال هذه العلاقة التاريخية ، وتصورت أنّ هذه التماثل هي موجودات محترمة ونافعة يجب عبادتها ، وهكذا شغلوا بعبادة الأصنام ، وعمد الظالمون والمستكبرون إلى إغفال الناس وتكبيلهم بحبائل الغفلة ، وهكذا تحقق المكر الكبير.

وتدل الآية الأخرى على هذا الأمر ، إذ أنّها تضيف بعد الإشارة إلى خفاء هذا المكر في قوله تعالى :( وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) .

ولا تقبلوا دعوة نوح إلى الله الواحد ، وغير المحسوس ، وأكدوا بالخصوص على خمسة أصنام ، وقالوا :( وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ) .

٦٤

ويستفاد من القرائن أنّ لهذه الأصنام الخمسة مميزات وخصائص ، وأنّها لقيت عناية بالغة من القوم الظالمين ، ولهذا كان رؤسائهم المستغلون لهم يعتمدون على عبادتهم لها.

وهناك روايات متعددة تشير إلى وجود وابتداع هذه الأصنام ، وهي :

١ ـ قال البعض : إنّها أسماء خمسة من الصالحين كانوا قبل نوحعليه‌السلام وعند ما رحلوا من الدنيا اتّخذوا لهم تماثيل لتبقى ذكرى ، وذلك بتحريك وإيحاء من إبليس ، فوقّروها حتى عبدت تدريجيا بمرّ العصور.

٢ ـ قيل أنّها أسماء خمسة أولاد لآدمعليه‌السلام كان كلّما يموت أحدهم يضعون له تمثالا وذلك لتخليد ذكراه ، وبمرور الزمن نسي ذلك الغرض وأخذوا يروجون عبادتها بكثرة في زمن نوحعليه‌السلام .

٣ ـ البعض الآخر يعتقد أنّها أسماء لأصنام في زمن نوحعليه‌السلام ، وذلك لأنّ نوحاعليه‌السلام كان يمنع الناس من الطواف حول قبر آدمعليه‌السلام فاتخذوا مكانه تماثيل بإيعاز من إبليس وشغلوا بعبادتها(١) .

وهكذا انتقلت هذه الأصنام الخمسة إلى الجاهلية العربية ، وانتخبت كل قبيلة واحدة من هذه الأصنام لها ، ومن المستبعد أن تكون الأصنام قد انتقلت إليهم ، بل إنّ الظاهر هو انتقال الأسماء إليهم ثمّ صنعهم التماثيل لها ، ولكن بعض المفسّرين نقلوا عن اين عباس أنّ هذه الأصنام الخمسة قد دفنت في طوفان نوحعليه‌السلام ، ثمّ أخرجها الشيطان في عهد الجاهلية ودعا الناس إلى عبادتها(٢) .

وفي كيفية تقسيم هذه الأصنام على القبائل العربية في الجاهلية ، قال البعض : إنّ الصنم (ود) قد اتّخذته قبيلة بني كلب في أراضي دومة الجندل ، وهي مدينة قريبة من تبوك تدعي اليوم بالجوف ، واتّخذت قبيلة هديل (سواعا) وكانت

__________________

(١) مجمع البيان ، تفسير علي بن ابراهيم ، تفسير أبو الفتوح الرازي ، وتفاسير اخرى ذيل الآيات التي هي مورد البحث.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٧٨٧.

٦٥

في بقاع رهاط ، واتّخذت قبيلة بني قطيف أو قبيلة بني مذحج (يغوث) ، وأمّا همدان فاتّخذت (يعوق) ، واتّخذت قبيلة ذي الكلاع (نسرا) ، وهي قبائل حمير(١) .

وعلى كل حال ، فإنّ ثلاثة منها أي (يغوث ويعوق ونسر) وكانت في اليمن ولكنّها اندثرت عند ما سيطر ذو نؤاس على اليمن ، واعتنق أهلها اليهودية(٢) .

يقول المؤرخ الشهير الواقدي : كان الصنم (ود) على صورة رجل ، و (سواع) على صورة امرأة و (يغوث) على صورة أسد و (يعوق) على صورة فرس و (نسر) على صورة نسر (الطائر المعروف).(٣)

وبالطبع أنّ هناك أصنام أخرى كانت لعرب الجاهلية ، منها «هبل» الذي كان من أكبر أصنامها التي وضعوها داخل الكعبة ، وكان طوله ١٨ ذراعا ، والصنم (أساف) المقابل للحجر الأسود ، والصنم (نائلة) الذي كان مقابل الركن اليماني (الزاوية الجنوبية للكعبة) وكذلك كانت (اللات) و (العزى).(٤)

ثمّ يضيف عن لسان نوحعليه‌السلام :( وَقَدْ أَضَلُّوا ) (٥) ( كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً ) المراد من زيادة الضلال للظالمين هو الدعاء بسلب التوفيق الإلهي منهم : ليكون سببا في تعاستهم ، أو أنّه دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم وظلمهم ويسلبهم نور الإيمان ، ولتحلّ محله ظلمة الكفر.

أو أنّ هذه هي خصوصية أعمالهم التي تنسب إلى الله تعالى ، وذلك لأنّ كل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٤ ، وأعلام القرآن ، ص ١٣١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٤.

(٤) المصدر السابق.

(٥) الضمير في «أضلوا» يعود إلى أكابر قوم نوحعليه‌السلام بقرينة الآية السابقة :( وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) واحتمل بعض المفسّرين أنّ الضمير يعود إلى (الآلهة) لأنّها سببت في ضلالهم وجاء ما يشابه ذلك في الآية (٣٦) من سورة ابراهيمعليه‌السلام وبصورة ضمير جمع المؤنث لا ضمير جمع المذكر ، وهذا الاحتمال بعيد.

٦٦

موجود يؤثر أي تأثير فهو بأمر من الله تعالى ، وليس هناك ما ينافي الحكمة الإلهية في مسألة الإيمان والكفر والهداية والضلالة ولا يسبب سلب الإختيار.

وبالتالي فإنّ الآية الأخيرة في البحث ، يقول الله تعالى فيها :

( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً ) .(١)

تشير الآية إلى ورودهم النّار بعد الطوفان ، وممّا يثير العجب هو دخولهم النّار بعد الدخول في الماء! وهذه النّار هي نار البرزخ ، لأنّ بعض الناس يعاقبون بعد الموت ، وذلك في عالم البرزخ كما هو ظاهر في سياق بعض الآيات القرآنية ، وكذا ذكرت الرّوايات أنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران.

وقيل من المحتمل أن يكون المراد بالنّار هو يوم القيامة ، ولكن بما أنّ وقوع يوم القيامة أمر حتمي وهو غير بعيد ، فإنّها ذكرت بصورة الفعل الماضي.(٢) واحتمل البعض أنّ المراد هي النّار في الدنيا ، حيث يقولون أنّ نارا قد ظهرت بين تلك الأمواج بأمر من الله تعالى وابتلعتهم.(٣)

* * *

__________________

(١) «من» في( خَطِيئاتِهِمْ ) بمعني باء السببية أو (لام التعليل) و (ما) زائدة للتأكيد.

(٢) الفخر الرازي ينقل ذلك في تفسيره بعنوان قول من الأقوال في ج ٣٠ ، ص ١٤٥.

(٣) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٣٨٠.

٦٧

الآيات

( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨) )

التّفسير

على الفاسدين والمفسدين أن يرحلوا :

هذه الآيات تشير إلى استمرار نوحعليه‌السلام في حديثه ودعائه عليهم فيقول تبارك وتعالى :( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) .

دعا نوحعليه‌السلام بهذا الدعاء عند ما يئس من هدايتهم بعد المشقّة والعناء في دعوته إيّاهم ، فلم يؤمن إلّا قليل منهم.

والتّعبير بـ «على الأرض» يشير إلى أنّ دعوة نوحعليه‌السلام كانت تشمل العالم ، وكذا مجيء الطوفان والعذاب بعده.

«ديار» : على وزن سيار ، من أصل دار ، وتعني من سكن الدّار ، وهذه اللفظة تأتي عادة في موارد النفي المطلق كقول : ما في الدار ديّار ، أي ليس في الدار أحد.(١)

__________________

(١) قال البعض أنّ الأصل كان (ديوار) على وزن حيوان ثمّ بدلت الواو بـ (ياء) وأدغمت في الباء الاولى وصارت ديار (البيان

٦٨

ثمّ يستدل نوحعليه‌السلام للعنه القوم فيقول :( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) ، وهذا يشير إلى أنّ دعاء الأنبياء ومن بينهم نوحعليه‌السلام لم يكن ناتجا عن الغضب والانتقام والحقد ، بل إنّه على أساس منطقي ، وأنّ نوحاعليه‌السلام ليس ممن يتضجر ويضيق صدره لأوهن الأمور فيفتح فمه بالدعاء عليهم. بل إنّ دعا عليهم بعد تسعمائة وخمسين عاما من الصبر والتألم والدعوة والعمل المضني.

ولكن كيف عرف نوحعليه‌السلام أنّهم لن يؤمنوا أبدا وأنّهم كانوا يضللون من كان على البسيطة ويلدون أولادا فجرة وكفّارا.

قال البعض : إنّ ذلك ممّا أعطاه الله تعالى من الغيب ، واحتمل أنّه أخذ ذلك عن طريق الوحي الإلهي حيث يقول الله تعالى :( وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ) .(١) (٢)

ويمكن أن يكون نوح قد توصل إلى هذه الحقيقة بالطريق الطبيعي والحسابات المتعارفة ، لأنّ القوم الذين بلّغ فيهم نوحعليه‌السلام تسعمائة وخمسين عاما بأفصح الخطب والمواعظ لا أمل في هدايتهم ، ثمّ إنّ الغالبية منهم كانوا من الكفار والأثرياء وهذا ممّا كان يساعدهم على إغواء وتضليل الناس ، مثل أولئك لا يلدون إلّا فاجرا كفّارا ويمكن الجمع بين هذه الاحتمالات الثّلاثة.

«الفاجر» : يراد به من يرتكب ذنبا قبيحا وشنيعا.

«كفّار» : المبالغ في الكفر.

__________________

في غرائب القران ، ج ٢ ، ص ٤٦٥ ، تفسير الفخر الرازي ، ذيل هذه الآيات).

(١) هود ، ٣٦.

(٢) ورد هذا المعنى أيضا في الرّوايات كما في تفسير الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٢٨.

٦٩

والاختلاف بين هذين اللفظين هو أن أحدهما يتعلق بالجوانب العملية ، والآخر بالجوانب العقائدية.

ويستفاد من هذه الآيات أنّ العذاب الإلهي إنّما ينزل بمقتضى الحكمة ، فمن يكن فاسدا ومضللا ولأولاده ونسله لا يستحق الحياة بمقتضى الحكمة الإلهية ، فينزل عليهم البلاء كالطوفان أو الصّاعقة والزلازل ليمحو ذكرهم كما غسل طوفان نوحعليه‌السلام تلك الأرض التي تلوثت بأفعال ومعتقدات تلك الأمة الشريرة ، وبما أنّ هذا القانون الإلهي لا يختصّ بزمان ومكان معينين ، فإنّ العذاب الإلهي لا بدّ أن ينزل إذا ما كان في هذا العصر مفسدون ولهم أولاد فجرة كفّار ، لأنّها سنّة إلهية وليس فيها من تبعيض.

ويمكن أن يكون المراد بـ( يُضِلُّوا عِبادَكَ ) الجماعة القليلة المؤمنة التي كانت مع نوحعليه‌السلام ، ولعل المراد منها عموم الناس المستضعفين الذين يتأثرون بالطواغيت.

ثمّ يدعو نوحعليه‌السلام ، لنفسه ولمن آمن به فيقول :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً ) .(١)

طلب المغفرة هذا من نوحعليه‌السلام كأنّه يريد أن يقول إنني وإن دعوة قومي مئات السنين ولقيت ما لقيت من العذاب والإهانة ، ولكن يمكن أن يكون قد صدر منّي الترك الأولى ، فلذا أطلب العفو والمغفرة لا أبرئ نفسي أمام الله تعالى.

هذا هو حال أولياء الله ، فإنّهم يجدون أنفسهم مقصرين مع كلّ ما يلاقونه من محن ومصاعب ، ولهذا تجدهم غير مبتلين بآفات الغرور والتكبر ، وليس كالذين يتداخلهم الغرور عند إتمامهم لعمل صغير ما يمنون به على الله تعالى ، ويطلب نوحعليه‌السلام المغفرة لعدّة أشخاص وهم :

__________________

(١) «تبار» : تعني الهلاك ، وقيل الضرر والخسارة.

٧٠

الأوّل : لنفسه ، لئلا يكون قد مرّ على بعض الأمور المهمّة مرورا سريعا ، ولم يعتن بها.

الثّاني : لوالديه ، وذلك تقديرا لما تحمّلاه من متاعب ومشقّة.

الثّالث : لمن آمن به ، وإن كانوا قلائل ، الذين اصطحبوه في سفينته التي كانت بمثابة الدار لهعليه‌السلام .

الرّابع : للمؤمنين والمؤمنات على مرّ العصور ، ومن هنا يوثق نوحعليه‌السلام العلاقة بينه وبين عموم المؤمنين في العالم ، ويؤكّد في النهاية على هلاك الظالمين ، وأنّهم يستحقون هذا العذاب لما ارتكبوه من ظلم.

* * *

بحث

نوحعليه‌السلام أوّل أنبياء أولي العزم

ذكر نوحعليه‌السلام في كثير من الآيات القرآنية ، ومجموع السور التي ذكر فيهاعليه‌السلام (٢٩) سورة ، وأمّا اسمهعليه‌السلام فقد فقد ورد ٤٣ مرّة.

وقد شرح القرآن المجيد أقساما مختلفة من حياتهعليه‌السلام شرحا مفصلا ، وتتعلق أكثرها بالجوانب التعليمية والتربوية والمواعظ ، وذكر المؤرخون أنّ اسمه كان «عبد الغفار» أو «عبد الملك» أو «عبد الأعلى» ، ولقب بـ «نوح» لأنّه كان كثير النياحة على نفسه أو على قومه ، وكان اسم أبيه «لمك» أو «لامك» ، وفي مدّة عمرهعليه‌السلام اختلاف ، فقال البعض : ١٤٩٠ عاما ، وجاء في بعض الرّوايات أنّ عمره ٢٥٠٠ عام ، وأمّا عن أعمار قومه الطويلة فقد قالوا ٣٠٠ عام ، والمشهور هو أن عمره كان طويلا ، وصرح القرآن بمدّة مكثه في قومه وهي ٩٥٠ عاما ، وهي مدّة التبليغ في قومه ، كان لنوحعليه‌السلام ثلاثة أولاد ، وهم (حام) (سام) (يافث) ويعتقد المؤرخون بأنّ انتساب البشر يرجع إلى هؤلاء الثلاثة ، فمن

٧١

ينتسب إلى حام يقطن في القارة الإفريقية ، والمنتسبون لسام يقطنون الأوسط والأقصى ، وأمّا المنتسبون إلى يافث فهم يقطنون الصين ، وقيل أنّ المدّة التي عاشها بعد الطوفان ٥٠ عاما ، وقيل ٦٠ عاما.

وورد بحث مفصل عن حياة نوحعليه‌السلام في التوراة المتواجد حاليا ، إلّا أنّ هناك اختلافا كبيرا بينه وبين القرآن المجيد ، وهذا الاختلاف يدل على تحريف التوراة ، وقد ذكرت هذه البحوث في الفصول ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٠ من سفر التكوين للتوراة.

وكان لنوحعليه‌السلام ابن آخر يدعى (كنعان) وكان مخالفا لأبيه ، إذ رفض الالتحاق به في السفينة ففقد بقعوده هذا الشرف الانتساب إلى بيت النبوّة ، وكانت عاقبته الغرق في الطوفان كبقية الكفّار ، وأمّا عن عدد المؤمنين الذين آمنوا به وركبوا السفينة معه فقد قيل ٧٠ نفرا ، وقيل ٧ أنفار ، ولقد انعكست آثار كثيرة من قصّة نوحعليه‌السلام في لأدب العربي وأكثرها قد حكت عن الطوفان وسفينة النجاة.(١)

كان نوحعليه‌السلام اسطورة للصبر والمقاومة ، وقيل هو أوّل من استعان بالعقل والاستدلال المنطقي في هداية البشر ، بالإضافة الى منطق الوحي (كما هو واضح من آيات هذه السورة) وبهذا الدليل يستحق التعظيم من قبل جميع الناس.

وننهي ما وضحناه عن نوحعليه‌السلام بحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام إذ قال : «كان نوحعليه‌السلام يدعو حين يمسي ويصح بهذا الدعاء : «أمسيت أشهد أنّه ما أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فإنّها من الله لا شريك له ، له الحمد بها عليّ والشكر كثيرا ، فأنزل الله :( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) فهذا كان شكره».(٢)

في قوله تعالى :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ) قيل في معني البيت هنا هو بيته الخاص ، وقيل المسجد ، وقيل سفينة نوح ، وقيل هو دينه وشريعته.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١١.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٢٩١ ، ح ٣.

٧٢

وورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «من دخل في الولاية دخل في بيت الأنبياء».(١)

اللهمّ ارحمنا بقبول ولاية أهل البيتعليه‌السلام حتى ندخل بيت الأنبياء.

ربّنا ، منّ علينا بالاستقامة كما مننت على الأنبياء كنوحعليه‌السلام لنبقى دعاة إلى دينك بلا تقاعس.

اللهم ، نجّنا بسفينة نجاة لطفك ورحمتك عند نزول الطوفان غضبك وسخطك.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة نوحعليه‌السلام

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٢٩.

٧٣
٧٤

سورة

الجنّ

مكيّة

وعدد آياتها ثمان وعشرون آية

٧٥
٧٦

«سورة الجن»

محتوى السورة :

تتحدث هذه السورة حول نوع من الخلائق المستورين عن حواسنا ، وهم الجن ، كما سمّيت السورة باسمهم ، وأنّهم يؤمنون بنبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن خضوعهم للقرآن وإيمانهم بالمعاد ، وأنّ فيهم المؤمن والكافر وغير ذلك ، وفي هذا القسم من السورة (١٩) آية من (٢٨) آية تصحح ما حرّف من معتقدات حول الجن ، وهناك قسم آخر من السورة يشير إلى التوحيد والمعاد ، والقسم الأخير يتحدث عن علم الذي لا يعلمه إلّا ما شاء الله.

فضيلة سورة الجن :

ورد في حديث عن الرّسول الأكرم : «من قرأ سورة الجن اعطي بعدد كلّ جني وشيطان صدق بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذّب به عتق رقبة».(١)

وفي حديث آخر عن الإمام الصّادقعليه‌السلام : «من أكثر قراءة( قُلْ أُوحِيَ ) لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجن ولا نفثهم ولا سحرهم ، ولا كيدهم ، وكان مع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول : يا ربّ ، لا أريد منه بدلا ، ولا أبغي عنه حولا».

وطبعا التلاوة مقدّمة وتمهيد لمعرفة محتوى السورة والتدبّر بها ، ثمّ العمل بما فيها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٥.

٧٧

الآيات

( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) )

سبب النّزول

ما جاء في سبب نزول سورة الأحقاف في تفسير الآيات (٢٩ ـ ٣٢) مطابق لسبب نزول هذه السورة ، ويدل على أنّ السورتين يتعلقان بحادثة واحدة ، وتوضح سبب النّزول باختصار كما يلي :

١ ـ انطلق الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سوق عكاظ في الطائف بعد قدومه من مكّة ليدعو الناس إلى الإسلام ، فرجع بعد رفض الناس لدعوته إلى واد يدعى وادي الجن ، وبقي فيه ليلا وهو يقرأ القرآن ، فاستمع إليه نفر من الجن فآمنوا به ثمّ راحوا

٧٨

يدعون قومهم إليه.(١)

٢ ـ عن ابن عباس قال : كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منشغلا بصلاة الصبح ، وكان يقرأ فيها القرآن ، فاستمع إليه الجن وهم يبحثون عن علّة انقطاع الأخبار من السماء ، فقالوا : هذه الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم ليبلغوا ما سمعوا.(٢)

٣ ـ بعد وفاة أبي طالبعليه‌السلام اشتدّ الأمر برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعزم على الذهاب إلى الطائف ليبحث عن أنصار له ، وكان أعيان الطائف يكذبونه ويؤذونه ، ويرمونه بالحجارة حتى أدميت قدماهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالتجأ متعبا إلى ضيعة من الضياع ، فرآه غلام صاحب الضيعة وكان اسمه «عداس» ، فآمن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رجع إلى مكّة ليلا وصلّى صلاة الصبح وهو بنخله ، فاستمع إليه نفر من الجن من أهل نصيبين أو اليمن ، وكانوا قد مرّوا بذلك الطريق فآمنوا به(٣) .

وقد نقل بعض المفسّرين ما يشابه هذا المعنى في أوّل السورة ، ولكن جاء في سبب نزول هذه السورة ما يخالف هذا المعنى ، وهو أنّ علقمة بن قيس قال : قلت لعبد الله بن المسعود : من كان منكم مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الجن؟ فقال : ما كان منّا معه أحد ، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكّة فقلنا : اغتيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو استطير ، فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء ، فقلنا : يا رسول الله ، اين كنت؟ لقد أشفقنا عليك ، وقلنا له : بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك ، فقال : «إنّه أتاني الجن فذهبت أقرئهم القرآن»(٤) .

* * *

__________________

(١) تفسير علي بن ابراهيم على ما نقله تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩ (مع الاختصار).

(٢) صحيح البخاري ، مسلم ، ومسند طبقا لما نقله صاحب (في ظلال القرآن) ج ٧ ، ص ٤٢٩ (باختصار).

(٣) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٩٢ ، وسيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٦٢ ـ ٦٣ (باختصار).

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٨.

٧٩

التّفسير

القرآن العجيب!!

نرجع إلى تفسير الآيات بعد ذكر ما قيل في سبب النّزول

يقول الله تعالى :( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ) (١) .

التعبير بـ( أُوحِيَ إِلَيَ ) يشير إلى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشاهد الجنّ بنفسه بل علم باستماعهم للقرآن عن طريق الوحي ، وكذلك يعلم من مفهوم الآية أنّ للجن عقلا وشعورا وفهما وإدراكا ، وأنّهم مكلّفون ومسئولون ، ولهم المعرفة باللغات ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي ، وبين المعجز وغير والمعجز ، ويجدون أنفسهم مكلّفين بإيصال الدعوة إلى قومهم ، وأنّهم هم المخاطبون في القرآن المجيد ، هذه بعض الخصوصيات لهذا الموجود المستور الحي الذي يمكن الاستفادة منها في هذه الآية ، ولهم خصوصيات اخرى سوف نبيّنها في نهاية هذا البحث ، وإنّ شاء الله تعالى.

إنّ لهم الحقّ في أن يحسبوا هذا القرآن عجبا ، للحنه العجيب ، ولجاذبية محتواه ، ولتأثيره العجيب ، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئا وقد ظهر من بين الأميين ، وكلام عجيب في ظاهره وباطنه ويختلف عن أيّ حديث آخر ولهذا اعترفوا بإعجاز القرآن.

لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبيّنه السورة في (١٢) آية ، وكل منها تبدأ بـ (أن) وهي دلالة على التأكيد(٢) .

__________________

(١) نفر : على قول أصحاب اللغة والتّفسير : الجماعة من ٣ الى ٩.

(٢) المشهور بين علماء النحو أنّ (إن) في مقول القول يجب أن تقرأ بالكسر كما هي في الآيات الاولى ، وأمّا في الآيات الأخرى المعطوفة عليها فإنّها بالفتح ، ولهذا اضطر الكثير من المفسّرين أن يجعلوا لهذه الآيات تقديرات أو مبررات أخرى ، ولكن ما الذي يمنعنا من القول أنّ لهذا القاعدة أيضا شواذ ، وهي جواز القراءة بالفتحة في موارد يكون العطف فيه على مقول القول ، وما يدل على ذلك آيات هذه السورة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بقيت هنا أُصول ثانويّة أُخرى، نظير:

١ - حرمة الحلف على الله بحقّ الأولياء.

٢ - حرمة الحلف بغير الله.

٣ - حرمة إضافة العبد إلى غير الله.

٤ - حرمة البكاء على الميّت.

ونظائرها، وكلّها محجوجة بنص الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين، وقد أوضحنا الكلام فيها في الجزء الرابع من موسوعتنا (بحوث في الملل والنحل)، فمن أراد التفصيل فليرجع إليها، وغيرها من الكتب الّتي ألّفناها حول هذه الفِرقة.

وأرجو من الله سبحانه أن يلمّ شعث المسلمين ويوحّد صفوفهم، لِمَا فيه خير الإسلام والمسلمين.

٣٤١

١٧

الدّروز

الدّروز هو جمع الدّرزي، والعامّة تتكلّم بضم الدال، والصحيح هو فتحها، والظاهر أنّ الكلمة تركيّة؛ بمعنى الخيّاط، وهي من الكلمات الدخيلة على العربيّة، حتّى يقال: درز يدرز درزاً، الثوب، خاطه، والدرزي: الخيّاط.

والدروز فِرقة من الباطنيّة لهم عقائد سريّة، متفرّقون بين جبال لبنان وحوران والجبل الأعلى من أعمال حلب.

ولم يُكتب عن الدروز شيء يصحّ الاعتماد عليه، ولا هم من الطوائف الّتي تنشر عقائدها حتّى يجد الباحث ما يعتمد عليه من الوثائق.

وقد سبق منّا الكلام في أنّ الإسماعيليّة كانت فِرقة واحدة وطرأ عليهم الانشقاق في عهد الإمام الحادي عشر الحاكم بالله، حيث ذهبت فِرقة الدروز إلى القول بغيبة الحاكم بالله وعدم موته، ذلك أنّ الحاكم استدعى الحمزة بن عليّ الفارسيّ الملقّب بالدرزي وأمره أن يذهب إلى بلاد الشام ليتسلّم رئاسة الدعوة الإسماعيليّة فيها ويجعل مقرّه (وادي التّيم)، ولقّبه الإمام بالسيّد الهادي، وتمكّن الدرزي في وقت قليل من نشر الدعوة الإسماعيليّة في تلك البلاد إلى أن وصلت إليه وفاة الإمام

الحاكم وتصدّي ابنه الظاهر لمقام الولاية، ولكنّ الدرزي

٣٤٢

لم يعترف بوفاة الإمام الحاكم، بل ادّعى أنّه غاب، وبقي متمسّكاً بإمامته ومنتظراً لعودته، وبذلك انفصلت الدرزية عن الإسماعيليّة، وكان ذلك الانشقاق عام ٤١١هـ. (١)

عقائد الدروز:

وقد تناولت موسوعات دائرة المعارف الإسلاميّة، جوانب من عقائد الدروز، غير أنّ الوقوف على واقع عقيدتهم أمر متعذّر بجريان عادتهم على الستر والتكتّم، ولخلو المكتبات من كتبهم.

ولأجل ذلك تضاربت أقوال المؤرّخين حول عقائدهم، وهذا هو البستاني فقد صوّر لهم صورة بيضاء ناصعة يطهّرهم عن كلّ ما ينسب إليهم من المنكرات (٢) ، ونرى خلاف ذلك عند فريد وجدي في دائرة معارف القرن الرابع عشر (٣) فقد نسب إليهم أُموراً منكرة ومشينة.

مثلاً: ينقل البستاني، ويقول:( إيمان الدروز أنّ الله واحد لا بداءة له ولا نهاية، وأنّ النفوس مخلَّدة تتقمّص بالأجساد البشريّة [التناسخ]، ولابدّ لها من ثواب وعقاب يوم المعاد بحسب أفعالها، وأنّ الدنيا تكوّنت بقوله تعالى: كوني فكانت، والأعمار مقدّرة بقوله: ( وَلَن يُؤَخّرَ اللّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ) (٤) ، وأنّ الله عارف بكلّ شيء، وهم يكرّمون الأنبياء المذكورين في الكتب المنزلة، ويؤمنون

____________________

(١) انظر، تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: ٢٣٨.

(٢) البستاني، دائرة المعارف: ٧/٦٧٥ - ٦٧٧.

(٣) فريد وجدي، دائرة معارف القرن الرابع عشر: ٤/٢٦ - ٢٨.

(٤) المنافقون: ١١.

٣٤٣

بالسيّد المسيح، ولكنّهم ينفون عنه الإلوهيّة والصلب، وأسماء بعض الأنبياء عندهم كأسمائهم في تلك الكتب، ولبعضهم أسماء أُخرى كالقديس جرجس، فإنّه عندهم الخضر، وأسماء أنبيائهم شعيب وسليمان وسلمان الفارسي ولقمان ويحيى، وعندهم أنّه لابدّ من العرض والحساب يوم الحشر والنشر، وتنقسم هذه الطائفة إلى: عقّال وجهّال.

فالعقّال هم عمدة الطائفة، ولهم رئيسان دينيّان يسمّيان بشيخي العقّال، والأحكام الدينيّة مفوضّة إليهم.

وقد أمر عقّالهم بتجنّب الشكّ، والشرك، والكذب، والقتل، والفسق، والزنا، والسرقة، والكبرياء، والرياء، والغش، والغضب، والحقد، والنميمة، والفساد، والخبث، والحسد، وشرب الخمر، والطمع، والغيبة، وجميع الشهوات والمحرّمات والشبهات، ورفْض كلّ منكر من المآكل والمشارب، ومجانبة التدخين والهزل والمساخر والهزء والمضحّكات، وجميع الصّفحة المغايرة لإرادته تعالى، وترك الحلف بالله صدقاً أو كذباً، والسب والقذف والدعاء بما فيه ضرر الناس). (١)

هذا وكما ترى أنّ البستاني ينقل عنهم صورة بيضاء، وليس فيما عزا إليهم شيء يخالف الشريعة الإسلاميّة إلاّ القول بالتناسخ ونبوّة سلمان الفارسي.

وفي مقابل ذلك نقل فريد وجدي عنهم صورة مشوّهة، وإليك جانباً من كلامه في هذا الصدد:

(من معتقداتهم أنّ الحاكم بأمر الله هو الله نفسه، وقد ظهر على الأرض

____________________

(١) البستاني، دائرة المعارف: ٧/٦٧٥ - ٦٧٧.

٣٤٤

عشر مرّات، أُولاها في العلى، ثُمَّ في البارز، إلى أن ظهر عاشر مرّة في الحاكم بأمر الله، وإنّ الحاكم لم يمت؛ بل اختفى، حتّى إذا خرج يأجوج ومأجوج - ويسمّونهم القوم الكرام - تجلّى الحاكم على الركن اليماني من البيت بمكّة ودفع إلى حمزة سيفه المُذهّب فقتل به إبليس والشيطان، ثُمَّ يهدمون الكعبة ويفتكون بالنصارى والمسلمين ويملكون الأرض كلّها إلى الأبد.

ويعتقدون أنّ إبليس ظهر في جسم آدم، ثُمَّ نوح، ثُمَّ إبراهيم، ثُمَّ موسى، ثُمَّ عيسى، ثُمَّ محمّد، وأنّ الشيطان ظهر في جسم ابن آدم، ثُمَّ في جسم سام، ثُمَّ في إسماعيل، ثُمّ في يوشع، ثُمَّ في شمعون الصفا، ثُمَّ في عليّ بن أبي طالب، ثُمَّ في قداح صاحب الدعوة القرمطيّة.

ويعتقدون بأنّ عدد الأرواح محدود، فالروح الّتي تخرج من جسد الميّت تعود إلى الدنيا في جسد طفل جديد.

وهم يسبّون جميع الأنبياء، يقولون: إنّ الفحشاء والمنكر هما: أبو بكر وعمر، ويقولون: إنّ قوله تعالى: ( إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ ) (١) يراد به الأئمّة الأربعة وأنّهم من عمل محمّد.

ويعتقدون بالإنجيل والقرآن، فيختارون منها ما يستطيعون تأويله ويتركون ما عداه، ويقولون: إنّ القرآن أُوحي إلى سلمان الفارسي فأخذه محمّد ونسبه لنفسه، ويسمّونه في كتبهم المسطور المبين.

ويعتقدون أنّ الحاكم بأمر الله تجلّى لهم في أوّل سنة (٤٠٨هـ) فأسقط

____________________

(١) المائدة: ٩٠.

٣٤٥

عنهم التكاليف من صلاة وصيام وزكاة وحجّ وجهاد وولاية وشهادة.

لدى الدّروز طبقة تعرف بالمُنَزَّهين، وهم عباد أهل ورع وزهد، ومنهم من لا يتزوّج، ومن يصوم الدهر، ومن لا يذوق اللّحم، ولا يشرب الخمر). (١)

وبما أنّ معتقدات الدروز ظلّت طيّ الخفاء والكتمان، فلنقتصر على هذا المقدار إلى أن تنتشر كتبهم في هذا الصدد ونقف على حقيقة الحال. ونحن من المتوقّفين في ذلك؛ لا نحكم على تلك الطائفة بشيء حتّى تتبين احوالهم.

____________________

(١) محمد فريد وجدي، دائرة المعارف: ٤/٢٦ - ٢٨.

٣٤٦

١٨

النَّصيريَّة

الكتابة عن النصيريّة، وكسائر الفِرق الشيعيّة، أمر صعب، لا سيّما وأنّهم اضطرّوا إلى التخفّي والانطواء على أنفسهم، وعاشوا في ظلِّ التقيّة، ومن يتصفّح التاريخ يجد أنّه لا مندوحة لهم من التكتّم والتحفّظ في عقائدهم، فمعاجم الفِرق مليئة بذمّهم وتفسيقهم وتكفيرهم، وقد أخذ بعضهم عن بعض، ولا يمكن الاعتماد على ما نقلوه عنهم، إلاّ بالرجوع إلى كتب تلك الفِرقة أو العيش معهم في أوطانهم حتّى يتجلّى الحقّ، ليقف الإنسان على مكامن عقائدهم وخفايا أُصولهم.

وهي فِرقة أحدثها محمّد بن نصير النميري؛ وكان من أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)، فلمّا توفّي الإمام العسكري ادّعى الوكالة للحجّة، ولم يكتف بذلك؛ بل ادّعى أنّه رسول ونبيّ من قبل الله تعالى، وربّما ادّعى الربوبيّة وإباحة المحارم.

وقال الشيخ الأشعري في أصناف الغالية: إنّ فِرقة من الرافضة يقال لهم النميريّة أصحاب النميري، يقولون إنّ الباري كان حالاً في النميري. (١)

____________________

(١) مقالات الإسلاميين: ١/١٥.

٣٤٧

وقد أوضح حاله الشيخ الطوسي حيث عقد فصلاً لمدّعي البابيّة عدّ منها: الشُّريعي، ومحمّد بن نصير النميري.

قال: كان محمّد بن نصير النميري من أصحاب أبي محمّد الحسن بن عليّ (عليه السّلام)، فلمّا تُوفّي أبو محمّد، ادّعى مقام أبي جعفر محمّد بن عثمان أنّه صاحب إمام الزمان، وادّعى له البابيّة، وفضحه الله تعالى بما ظهر منه من الإلحاد والجهل، ولعْنَ أبي جعفر محمّد بن عثمان له وتبرّأه منه، واحتجابه عنه، وادّعى ذلك الأمر بعد الشُّريعي. (١)

والنصيريّة بهذا المعنى قد بادت ولا تجد أحداً يتبنّى أفكارها بين المسلمين، إلاّ إذا كان مغفّلاً أو مغرضاً، وربّما تكون بعض هذه النِّسب ممّا لا أصل له في الواقع، وإنّما اتُّهمت بها بعض فِرق الشيعة من قبل أعدائهم.

والحق يقال إنّ محمد بن نصير النميري شخصيّة قلقة يكتنفها كثير من الغموض.

فتارة يعدّونه من أفاضل أهل البصرة علماً وأنّه ضعيف. (٢)

وأُخرى من أصحاب الإمام الجواد (عليه السّلام). (٣)

وأُخرى أنّه من أصحاب الإمام العسكري (عليه السّلام) وأنّه غال. (٤)

وطوراً عدّوه فهريّاً بصريّاً مع أنّ هذين لا يجتمعان. (٥)

____________________

(١) غيبة الطوسي: ٣٩٨ - ٣٩٩.

(٢) تنقيح المقال: ٣/١٩٥.

(٣) رجال الطوسي: أصحاب الإمام الجواد، رقم ١٠ و٢٦.

(٤) رجال الطوسي: أصحاب الإمام العسكري، رقم ٢٠.

(٥) رجال الكشّي، رقم ٣٨٣.

٣٤٨

وأخيراً تحيّروا في أمر هذا الرجل ووضعوا اسمه في قائمة المشتركات. (١)

العلويّون وأصل التسميّة بالنصيريّة:

إنّ هناك أقلاماً مغرضة حاولت أن تَنسب العلويّين المنتشرين في الشام والعراق وتركيا وإيران إلى فِرقة النصيريّة البائدة اعتماداً على أُمور ينكرها العلويّون اليوم قاطبة.

وأظنّ أنّ السبب في ذلك هو جور السلطات الظالمة الّتي أخذت تشوّه صحيفة العلويّين وتسّودها، فأقامت فيهم السيف والقتل والفتك والتشريد، ولم تكتف بذلك، بل أخذت بالافتراء عليهم لتنفّر الناس من الاختلاط بهم، وأنّهم زمرة وحشيّة همجيّة، ممّا زاد في انكماش هذه الطائفة على نفسها، لذا نجد من المناسب الكتابة عنهم حسب ما كتبوه عن أنفسهم.

أمّا سبب تسمية العلويّين بالنصيريّة؛ فلأنّه لمّا فتحت جهات بعلبك وحمص استمد أبو عبيدة الجراح نجدة، فأتاه من العراق خالد بن الوليد، ومن مصر عمرو بن العاص، وأتاه من المدينة جماعة من أتباع عليّ (عليه السّلام)؛ وهم من الأنصار ممّن حضروا بيعة غدير خم، وعددهم يزيد عن أربعمائة وخمسين، فسمّيت هذه القوّة الصغيرة نصيريّة، إذ كان من قواعد الجهاد تمليك الأرض الّتي يفتحها الجيش لذلك الجيش نفسه، فقد سمّيت الأراضي الّتي امتلكها جماعة النصيريّة جبل النصيريّة، وهو عبارة عن جهات جبل الحلو وبعض قضاء

____________________

(١) تنقيح المقال: ٣/١٩٦.

٣٤٩

العمرانيّة المعروف الآن، ثُمَّ أصبح هذا الاسم علماً خاصّاً لكلّ جبال العلويّين من جبل لبنان إلى أنطاكية. (١)

وهذا الرأي أقرب إلى الصواب؛ ذلك أنّ المؤرّخين الصليبيّين أطلقوا على هذا الجبل اسم (النصيرة)، ويبدو أنّ هذا الاسم قد حرّف إلى نصيريّة، والّذي يُعزّز القناعة بصحّة هذا الرأي هو أنّ إطلاق اسم نصيريّة على هذا الجبل لم يظهر إلاّ أثناء الحملات الصليبيّة؛ أي بعد عام ٤٩٨هـ.

أهم عقائدهم:

حسب المصادر المطّلعة على حالهم، فإنّ عقائد العلويّين لا تختلف عن عقائد الشيعة الاثنا عشريّة الإماميّة، وهي معروفة مسجّلة، وتتلخّص في التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد.

____________________

(١) محمد أمين غالب الطويل، تاريخ العلويّين: ٨٧ - ٨٨.

٣٥٠

١٩

الشيخيّة

الشيخيّة هم طائفة من الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة، ولقّبوا بهذا الاسم نسبة إلى شيخهم ومعلّمهم الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي، وهم لا يختلفون في أُصول الدين وأُمّهات المسائل الشرعيّة عن سائر الشيعة الإماميّة، وليسوا أخباريّين كما ربّما يُتوهّم، نعم، لهم بعض الآراء والمعتقدات الخاصّة كما نشير إليها.

وهم اليوم موجودون في إيران والعراق والكويت والأحساء، وينقسمون إلى فِرقتين: (الركنيّة) و(الكشفيّة)، ولكلّ فِرقة آراؤها الخاصّة.

ومبدأ نشوء هذه الطائفة كان بعد بروز الشيخ أحمد الأحسائي في مطلع القرن الثالث عشر الهجري كعالم أوحد، متميّز، له بعض النظريّات والأفكار الجديدة في علم الفلسفة والعقائد الإسلاميّة. وحيث كان الشيخ ذا عبقريّة فذّة، وعُرف عنه الزهد والإغراق في العبادة - هذا بالإضافة إلى مقامه العلمي الشامخ ـ، لذا كان ذا جاذبيّة قويّة ومؤثّرة أدّت إلى وجود تيار جارف من الموالين والأنصار له، ومعظم أنصاره كان من إيران، وبعضهم من العراق ودول الخليج، وهؤلاء هم كانوا النواة والقاعدة الّتي تحوّلت فيما بعد إلى طائفة مستقلّة تسمّى بـ (الشيخيّة).

لذا، وقبل كلّ شيء، لابدّ أن نعرّج على سيرة وحياة الشيخ أحمد الأحسائي.

٣٥١

سيرة الشيخ أحمد الأحسائي: (١)

أحمد بن زين الدين بن إبراهيم بن صقر بن إبراهيم الأحسائي المطيرفي.

كان فقيهاً، إماميّاً، حكيماً، مشاركاً في فنون شتى، له شهرة وأتباع أسّسوا ما يُعرف بفِرقة الكشفيّة، ويقال لها أيضاً: الشيخيّة.

ولد في المُطيرف (من قرى الأحساء) سنة ست وستين ومائة وألف.

وتلقّى مبادئ العلوم عن محمّد بن محسن الأحسائي، وغيره.

ارتحل إلى العراق في سنة (١١٨٦هـ)، فحضر في كربلاء عند: محمّد باقر بن محمّد أكمل البهبهاني، والسيّد محمّد مهدي بن أبو القاسم الشهرستاني، والسيّد عليّ بن محمّد عليّ الطباطبائي، وفي النجف عند: الشيخ جعفر كاشف الغطاء.

وأجاز له أساتذته: الشهرستاني والطباطبائي وكاشف الغطاء، وآخرون مثل: السيّد محمد مهدي بحر العلوم، وأحمد بن حسن الدمستاني، وحسين بن محمد العصفوري البحراني.

وقد أقام في البحرين مدّة أربع سنين، ثُمَّ سكن البصرة بعد أن زار العتبات المقدّسة سنة (١٢١٢هـ).

____________________

(١) روضات الجنّات: ١/٨٨ برقم ٢٢، مستدرك الوسائل (الخاتمة): ٢/١٢١، قصص العلماء: ٤٧، هديّة العارفين: ١/١٨٥، إيضاح المكنون: ١/٢٠٥، أنوار البدرين: ٤٠٦/ رقم ٨، أعيان الشيعة: ٢/٥٨٩، ريحانة الأدب: ١/٧٨، الذريعة: ٧/١٢٤/ رقم ٦٦٧، الكرام البررة: ١/٨٨/ رقم ١٨٠، الأعلام: ١/١٢٩، معجم رجال الفكر والأدب في النجف: ١/٨٩، معجم المفسرّين: ١/٣٨، معجم المؤلِّفين: ١/٢٢٨، فرهنگ بزرگان: ٣٦.

٣٥٢

وسافر إلى إيران، فلبث في يزد مدّة، ثُمّّ انتقل إلى كرمانشاه بطلب من محمّد عليّ ميرزا بن السلطان فتح عليّ شاه القاجاري، وزار عدّة مدن في إيران.

ثُمَّ ارتحل إلى العراق، فاستقرّ في كربلاء.

وكان مواظباً على المطالعة والبحث والتدريس، وعلى بثّ أفكاره ونشر طريقته بالخطابة والكتابة والتأليف والرحلات.

تتلمذ عليه وروى عنه جمع، منهم: ابناه محمّد تقي، وعليّ نقي، والسيّد كاظم بن قاسم الرشتي؛ وهو أشهر تلامذته وعميد طريقته، ومحمّد باقر بن حسن النجفي صاحب الجواهر، وأسد الله بن إسماعيل التستري صاحب المقابس، ومحمّد إبراهيم بن محمّد حسن الكلباسي، والميرزا عليّ محمّد الشيرازي الملقّب بالباب، وحسين بن مؤمن اليزدي الكرماني، وغيرهم.

وصنّف كتباً ورسائل جمّة، منها: الرسالة الحيدريّة في الفروع الفقهيّة، الرسالة الصوميّة، شرح (تبصرة المتعلّمين في أحكام الدين) للعلاّمة الحلّي لم يتم، أحكام الكفّار بأقسامهم قبل الإسلام وبعده وأحكام فِرق الإسلام، شرح مبحث حكم ذي الرأسين من (كشف الغطاء)، ذكر فيه أحكامه من أوّل الطهارة إلى الديّات، المسائل القطيفيّة، تحقيق القول بالاجتهاد والتقليد وبعض مسائل الفقه، جواز تقليد غير الأعلم وبعض مسائل الفقه، مباحث الألفاظ في الأُصول، أسرار الصلاة، تفسير سورة التوحيد وآية النور، شرح الزيارة الجامعة (مطبوع)، جوامع الكَلِم (مطبوع)، شرح (الحكمة العرشيّة) لصدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بملاّ صدرا، كيفيّة السير والسلوك الموصلَين إلى درجات القرب والزلفى، معرفة النفس، معنى الكفر والإيمان، بيان أحوال أهل

٣٥٣

العرفان والصوفيّة وطرائقهم وطرق الرياضات، رسالة في التجويد، رسالة في علم النجوم، شرح علم الصناعة، والفلسفة وأحوالها، وديوان شعر، وغير ذلك كثير.

توفّي حاجّاً بقرب المدينة في شهر ذي القعدة سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف، وحمل إليها، فدفن في البقيع.

اختلاف العلماء فيه:

وقد اختلف علماؤنا في صاحب الترجمة اختلافاً عظيماً، فمنهم من بالغ في مدحه والثناء عليه وتبيان علمه، ومنهم من أفرط في قدحه والتشنيع عليه، وطَعَن في علمه ودينه وعقيدته، ونكتفي هنا بنقل نماذج من كلمات المادحين له والقادحين فيه:

قال المحدث النيسابوري: أحمد بن زين الدين الأحسائي القاري، فقيه، محدّث، عارف، وحيد في معرفة الأُصول الدينيّة، له رسائل وثيقة، اجتمعنا معه في مشهد الحسين (عليه السّلام)، لا شكّ في ثقته وجلالته.

أوّل من قدح في علمه وردَّ عليه معاصره الشيخ محمّد إسماعيل بن السميع الأصفهاني المعروف بواحد العين، حيث قال في مقدّمة (شرح العرشيّة): وقد تصدى لشرحها المولى الجليل... الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي... فشرحها شرحاً كان كلّه جرحاً؛ لعدم فهمه ما هو المراد من الألفاظ والعبارات؛ لعدم اطّلاعه على الاصطلاحات، وإلاّ فهو عظيم الشأن.

وقال السيّد أبو تراب الخوانساري: إنّ الشيخ أحمد الأحسائي كان فقيهاً

٣٥٤

فدخل في علم الحكمة وأخذ يطالع كتبها حتّى مهر فيها وألّف فيها كتباً، وحيث لم يحضر فيها على أُستاذ ماهر زلّت أقدامه، فضلّ وأضل.

ولعلّ أهم ما نسب إلى الشيخ من مؤاخذات هو الأُمور التالية:

١ - إنكاره المعاد الجسماني، ودعوى أنّ هذا الجسم المادي لا يمكن أن يعود بكلّ ما فيه من كثافة وكدورة.

٢ - إنكاره المعراج الجسماني؛ أي أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يعرج إلى السماء بجسمه المادّي بكلّ ما فيه.

٣ - إنكاره شق القمر المرئي الحقيقي؛ معجزة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المتّفق عليها بين المسلمين، ودعوى أنّ الّذي انشق إنّما هو صورة القمر المنتزعة منه.

٤ - الغلو في شأن أهل البيت (عليهم السّلام) وإعطاؤهم بعض المقامات الّتي لا تصحّ إلاّ لله تعالى، مثل القول بأنّ الله تعالى فوض كلّ ما في الكون إليهم من الخلق والرزق والحياة والممات وما إلى ذلك، والقول بأنّ علمهم حضوري وليس حصولي؛ يعني أنّهم يعلمون بكلّ ما كان وجميع ما يأتي، على نحو يكون ذلك كلّه حاضراً في ذهنهم وذاكرتهم في كلّ حين كما يرون العين.

حقيقة الشيخيّة:

ولم يكن في بادئ الأمر شيء باسم الشيخيّة، ولا كان في نيّة الشيخ تأسيس فِرقة جديدة أو الدعوة إلى مذهب جديد، ولكن المواجهة الحادّة، والجدال الّذي بلغ أوجه بين الشيخ ومعارضيه، واستمرَّ بعد وفاته بين أنصاره

٣٥٥

ومخالفيهم، أدّى إلى تحيّز جمْع من العلماء وطائفة من الناس إلى جانب الشيخ، وتحمسّهم في الدفاع عنه والدعوة إليه، ثُمَّ تحوّل هؤلاء بشكل تدريجي إلى جماعة مستقلة منسوبة إلى الشيخ، تتبنّى أفكاره وتنشر كتبه وتدعو إلى خطّه، وعُرفوا حينها باسم الشيخيّة.

وقد اتّسعت رقعة الشيخيّة بعد وفاة الشيخ، وازداد أتباعها ومؤيّدوها، وكان الزعيم الأكبر لهم بعد الشيخ، خليفته السيّد كاظم بن السيد قاسم الحسيني الرشتي، الّذي كان يتّخذ من كربلاء مقرّاً لزعامته حتّى توفّي فيها سنة ١٢٥٩هـ.

وكانت الشيخيّة في حياة السيّد متّفقة على زعامته ومرجعيّته، ولكن بعد وفاته، انقسمت غلى فرقتين: فِرقة تبعت الحاج محمّد كريم خان الكرماني، المتوفّى سنة ١٢٨٨هـ، وعرفوا فيما بعد بالركنيّة، وفِرقة تبعت الميرزا حسن گوهر الحائري، ثُمَّ آل الاسكوئي من بعده، فعرفوا بالكشفيّة.

الطائفة الركنيّة:

أمّا الركنيّة فتتلخّص عقيدتهم في التالي:

يعتقدون أنّ الدّين قائم على أربعة أركان:

١ - معرفة الله.

٢ - معرفة الرسول.

٣ - معرفة الإمام.

٤ - معرفة الفقيه الجامع للشرائط، الّذي يقوم مقام الإمام في زمن الغيبة.

وتجسّد الركن الرابع في الشيخ أحمد الأحسائي، ثُمَّ في السيّد كاظم الرشتي، ثُمَّ في الحاج كريم خان نفسه؛ ولهذا سمّيت هذه الطائفة بالركنيّة.

قال صاحب الذريعة: ولمّا شدّد عليهم الأصحاب النكير بعدم ما يسمّى

٣٥٦

الركن الرابع في الإسلام، ألّف محمّد كريم خان الكرماني رسالة عام ١٢٧٩هـ، أثبت فيها أنّ الركن الرابع هم رواة الأئمّة والعلماء جميعاً، ولا تختصّ الركنيّة بشخص معين.

ومن الناحية العمليّة أصبح الركن الرابع منصب تتوارثه سلالة الكرماني حتّى اليوم، باعتبارهم المصداق الحقيقي لهذا الركن.

وكان مقرّ زعامتهم مدينة كرمان بإيران، حيث يتواجد أحفاد الكرماني والأكثريّة من أتباعه، ولمّا قُتل مُرشدهم عام ١٤٠٠هـ، انتقل مقرّ الزعامة إلى مدينة البصرة بالعراق؛ أهمّ معقل لهم بعد كرمان، ولا زال زعيمهم الحالي في مدينة البصرة حتّى اليوم، والركنيّة أكثر أتباعاً من منافسيهم الكشفيّة، ويتمركز وجودهم في مدينة كرمان بإيران، ثُمَّ مدينة البصرة، ويوجد قليل منهم في الكويت وبعض مناطق إيران الأُخرى.

ويمكن التعرّف على أفكارهم من خلال كتبهم، مثل: (رجوم الشياطين)، و(كشف المراد في علم المعاد)، و(هداية الأطفال)، و(هداية الصبيان)، و(إرشاد العوام)، و(الفطرة السليمة)، و(الفلسفيّة) للشيخ أبو القاسم الكرماني.

الطائفة الكشفيّة:

أمّا الطائفة الكشفيّة فيعتقدون أنّ الشيعة ينقسمون إلى قسمين: كاملي العقيدة، وناقصي العقيدة. والمعني بكاملي العقيدة هم الكشفيّة أنفسهم ومن يعتقد بعقيدتهم في أهل البيت (عليهم السّلام)؛ وأمّا ناقصي العقيدة فهم معظم الشيعة الإماميّة.

٣٥٧

وتتلخّص عقيدتهم في أهل البيت (عليهم السلام) بأمرين:

الأوّل: الاعتقاد بأنّ علم الإمام حضوري وليس حصولي، يعني أنّ يعلم بما كان وما سيكون إلى يوم القيامة بإرادة الله تعالى؛ بحيث تكون جميع هذه المعلومات حاضرة في ذهنه دائماً؛ كمن يشاهد بالعيان.

الثاني: الاعتقاد بأنّ دم الإمام، وجميع فضلاته، طاهرة.

وعلى أساس هذا التقسيم للشيعة أصدر علماء الكشفيّة أحكاماً فقهيّة خاصّة، منها:

إنّه لا يجوز لمن كان كامل العقيدة أنّ يقلّد مرجعاً ناقص العقيدة، أو يصلّي خلف إمام ناقص العقيدة؛ أي من كان يعتقد بطهارة دم الإمام، وأنّ علمه حضوري، لا يجوز له أن يقلّد أو يصلّي خلف من لا يرى ذلك، فكمال العقيدة بهذا المعنى، شرط في مرجع التقليد وإمام الجماعة.

ويُعتقد أنّ تسميتهم بالكشفيّة؛ لادّعاء علمائهم أنّ خفايا بعض الأُمور تُكشف إليهم ببركات الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام).

ويتواجد الكشفيّة اليوم بشكل رئيسي في الكويت، وهناك مقر زعامتهم، كما يتواجد بعضهم في مدينة الهُفوف وبعض القرى بالأحساء، ولهم أيضاً بعض الأتباع في تبريز بإيران وبعض المدن الجنوبيّة بالعراق.

بقي أن نشير إلى أنّ كلاًّ من الركنيّة والكشفيّة يعتقد بانحراف الطائفة الأُخرى وضلالتها. ونكتفي بهذا التعريف الموجز للطائفة الشيخيّة. (١)

____________________

(١) نقل من كتاب (أعلام هجر)، بتلخيص وتصرّف، تأليف: هاشم محمّد الشخص.

٣٥٨

وقد أُلِّف حول الشيخيّة، والطائفتين المنشقّتين منها، رسائل ومقالات، غير أنّ ما كتبه الأُستاذ هاشم محمّد الشخص من أوجز وأوثق ما كتب في الموضوع، وقد اقتبسنا في بيان ما يرجع إلى هذه الطائفة وفروعها من كتابه: (أعلام هجر من الماضين والمعاصرين).

٣٥٩

٢٠

القاديانيّة

ظهرت القاديانيّة على يد الميرزا غلام أحمد القادياني (١٢٥٢ - ١٣١٦هـ) في إقليم البنجاب، وعاصمتها لاهور، وفي مديريّة غوردا سفور من هذا الإقليم، وفي قرية صغيرة فيها تسمّى قاديان، وُلد فيها مؤسِّس المسلك ميرزا غلام أحمد القادياني، وإليها كانت نسبته، وفيها نبتت نحلته.

سيرته الذاتيّة:

وُلد الميرزا غلام أحمد القادياني عام ١٨٣٩م/ الموافق ١٢٥٢هـ، في قرية قاديان، وكان والده يحترف الطبّ القديم في عهده، ويجيده، ولمّا بلغ الميرزا سنَّ التعليم، شرع في تلقّي مبادئ العلوم وقراءة القرآن وتعلّم اللغة العربيّة والفارسيّة إلى جانب معرفته بالأُرديّة، وتلقّى دروساً في المنطق والحكمة والعلوم الدينيّة والأدبيّة في مسقط رأسه (قاديان)، والطبّ القديم على والده، وعُرف بالعكوف على المطالعة والانقطاع إليها، وكان مهتماً بدراسة كتب التفسير والحديث والتدبّر في القرآن، وأُولع بمطالعة الأسفار القديمة من كتب الشيعة وأهل السنّة، وكتب الأديان الأُخرى.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377